الشهير مكس مولر أفرد فصلا من كتابه «قدم الجنس البشري» لإطلاق مذهب دارون على اللغات، وقد بين فيه بما لا يقبل الاعتراض أن الأنواع في الطبيعة واللغات في التاريخ تتغير تبعا لنواميس متشابهة، وكما أنه يصعب تمييز الأنواع عن التباينات هكذا، يصعب تمييز اللغات عن الألسنة أيضا. والفيلولوجيون غير متفقين على عدد اللغات، كما أن الطبيعيين غير متفقين على عدد الأنواع، فهي عندهم من 4000 إلى 6000 لغة، وليس لهم حد مقبول يفصل اللغة عن اللسان، كما أنه لا يوجد حد يفصل النوع عن التباين. والعاملان الجوهريان في اللغات هما كما في الأنواع التغير والانتخاب الطبيعي. وكما يحصل في الأنواع كذلك يحصل في اللغات أيضا نتائج عظيمة لتجمع أسباب عديدة صغيرة لا قيمة لها في الظاهر بحد نفسها كإدخال عبارات أجنبية، وكثرة الخطباء والكتبة والاختراعات والاكتشافات، وتعلم علوم جديدة، وتنازع الألفاظ المختلفة ... إلى غير ذلك مما يغير اللغة، وتكون نتيجته ملاشاة الحدود أو الصور التي بين بين. فإن ترجمة لوثر للتوراة قد أيدت شأن اللسان السكسوني في سائر ألمانيا زمانا طويلا، وأما اليوم - أي من بعد ثلاثمائة سنة - فيكاد لا يفهمه أحد. ومن المقرر أن القاطنة المنقطعة علائقهم مع وطنهم الأصلي إذا مر عليهم نحو خمسمائة أو ستمائة سنة وهم على هذه الحال من الانقطاع، فإنهم لا يعودون يفهمون لغة وطنهم لما يكون قد حصل فيها من التغير؛ بسبب المخالطات والتقدم بخلاف لغتهم التي لا تكاد تتغير لقلة ذلك عندهم. فإن الأمير برنار من سكس ويمر التقى في سفره إلى أميركا الشمالية (سنة 1818-1826) بقاطنة ألمانية انقطعت علائقها مع أوروبا في حروب الثورة الفرنساوية (سنة 1792-1815) نحو ربع قرن، فوجدهم يتكلمون لسانا قديما كان شائعا في ألمانيا في القرن الماضي وقد قل استعماله فيها. وقد نزلت قاطنة نروجية في أيزلاندا في القرن التاسع حيث بقيت مستقلة نحو 400 سنة، وتتكلم لغتها الغوثية القديمة، وأما لغة نروج نفسها فقد تغيرت جدا عن الأصلية لعلاقاتها مع أوروبا؛ ولهذا السبب لا يفهم الألمان اليوم اللسان الألماني القديم، ولا الإنكليز الإنكليزي القديم، ولا الفرنسيس الفرنساوي القديم.
وكلما تمدنت الأمم زاد تقدم لغاتها؛ لتوزع الأعمال حينئذ واتضاح الأفكار واتساعها، ولزوم التعبير عن كل منها بدلالة خاصة، فغنى اللغة بالألفاظ دليل على حالتها من التقدم وحالة الإنسان من التمدن.
7
وقد ذكر ليل مثالا واضحا على فقد الصور المتوسطة في اللغات، وعلى ما يترتب على ذلك من النتائج، فقال: إن اللغة الهولاندية متوسطة بين الألمانية والإنكليزية، فلو ماتت اللغة المذكورة كما لو انضمت البلاد إلى بلاد غيرها استغرقتها، أو طرأ عليها طارئ طبيعي أوجب مثل ذلك فيها، لابتعدت المسافة بين الإنكليزية والألمانية جدا، ولما ظن الفيلولوجيون في المستقبل - على فرض جهلهم ذلك - أنه كانت توجد صلة بين اللغتين. فسبب التباعد العظيم بين اللغات كما بين الأنواع أيضا، هو فقد الصور المتوسطة ليس إلا، وكل لغة ماتت لا تحيا، كما أن كل نوع انقرض لا يعود.
ومن أراد التعمق في هذا البحث فعليه - ما عدا كتاب ليل - بكتاب شليخر «مذهب دارون وعلم اللغات» (سنة 1863)، قال مؤلفه: «إن مبادئ دارون تطلق جميعها على كيفية نمو اللغات، فإن جميع لغات أوروبا يكاد يكون لها أصل واحد هو اللغة الهندية الجرمانية، ومنها تفرعت عدة فروع أولا، ثم تفرع من هذه الفروع فروع أخرى ... وهكذا. ولا يظن أن ما قيل افتراض! كلا، بل هو مقرر علميا؛ فإنه يمكن مراقبة لغة من اللغات، وتتبع سيرها في سائر أحوال ارتقائها - وبهذا يتميز الفيلولوجي عن الطبيعي الذي يصعب عليه مراقبة الأنواع جدا - كاللغة اللاتينية مثلا فإنه يتحقق منها أن اللغات تتغير ما دامت يتكلم بها. ولنا في الآثار الكتابية الدليل الذي لا ينقض على صحة هذا القول، ولولا الآثار المذكورة لتعذرت معرفة ذلك على الفيلولوجي، ولكانت عليه أصعب من الأنواع على الطبيعي. ولما كانت تحولات لغة تحصل في زمن قصير جدا بالنسبة إلى الأنواع كان إدراكها أسهل أيضا، وزد على ذلك أن سائر اللغات حتى أعظمها يعلم من بنائها أن ارتقاءها حصل بالتدريج مبتدئا من أبسط الصور، فلم يكن فيها في أولها سوى الألفاظ البسيطة المعبرة عن الإحساسات والصور والأفكار وما شاكل بدون أدنى تغير صرفي أو نحوي. وقد تكونت هذه الأصول في أول الأمر كما تكونت الكريات العضوية، وكانت كثيرة نظيرها، وهذا يدلنا على أنه كان في البدء لغات أم كثيرة، خاضعة كلها لكيفية نمو واحدة كالصور العضوية الأصلية، ولم يسر نموها في سبل مختلفة إلا بعد حين نظيرها.»
وعلى رأي شليخر فاللغات بقيت قبل دخولها في العهد التاريخي زمانا أطول منه بعده، وذلك مطابق لما يعلم عن الإنسان وقدمه قبل العهد المذكور. ولا يخفى أنا لا نعلم شيئا عن اللغات قبل اختراع الكتابة، وأن هذا الاختراع يدل على درجة متقدمة جدا في تاريخ الارتقاء البشري.
وقد اضمحلت لغات كثيرة في بحر الدور السابق العهد المذكور وفيه أيضا، وقد تكونت عنها لغات جديدة كذلك. ولا شك أن اللغات التي اضمحلت قبل التاريخ والتي لا نعرف عنها شيئا أكثر جدا من اللغات التي عاشت بعده، ولم يبق في تنازعها اليوم سوى اللغات الهندوجرمانية المنتشرة جدا، والمتسعة كذلك، وفيها كثير من الأنواع والتباينات، فإنه لمهاجرات الشعوب ولأسباب أخرى كثيرة قد فقدت من بينها الصور الانتقالية، بحيث صارت اليوم كأنها منفصلة بعضها عن بعض انفصالا جوهريا، كائنة بعضها بجانب بعض نظير الأنواع في العالم العضوي.
فيرى مما تقدم كيف أن دارون قد نفى الصعوبات التي تعترض مذهبه - ولا سيما الاعتراض المبني على فقد الصور المتوسطة - وكيف أن أبعد مسائل العلم في الظاهر تجتمع حول مذهبه متقاربة متشابهة. فإنه - كما قلنا في المقالة السابقة - قد أراد بعضهم أن يضع من شأن هذا المذهب فجعله محض افتراض لا يمكن تبيين صحته، والحال أن مثل هذا الطعن لا يفيد شيئا؛ لأن أعظم الاكتشافات وتقدم العلوم - ولا سيما الطبيعة - سببها مثل هذه الافتراضات، وما ينبغي اعتباره في كل افتراض كون المواد المبني عليها كافية أم لا، والنتيجة المستخرجة قياسية كذلك، ولا يستطاع إنكار ذلك على مذهب دارون. ومما يؤيد صحته هو أنه يعلل به كثير من المسائل التي لا تفهم بدونه ببساطة كلية، وبأسباب طبيعية. وكل تعليل لا يكون طبيعيا لا يفيد شيئا بالحقيقة، بل هو إقرار بالجهل يقيم المعجزة مقام النواميس الطبيعية، والعلم لا يرضى ذلك. والطاعنون على مذهب دارون هم أصحاب الدين مع أن تعليمهم نفسه - المبني على ثبوت الأنواع وتكرار الخلق - أحق بلفظة الافتراض في أسوء معانيها؛ لأنه ما عدا أنه لا برهان لهم على تأييد دعواهم سوى الإيمان، فمذهبهم لا يتفق مع الحقائق البينة والعلم الصحيح الذي لا يعرف نسبة أخرى سوى نسبة الأسباب والمسببات، وإذا كانت أمور كثيرة لا تزال محجوبة عنا، فلا يلزمنا من ذلك أن نلبسها ثوب المعجزة، ونغلق باب البحث في وجهها، بل ينبغي لنا أن نبالغ في معالجتها عسى أن ينكشف سرها لنا يوما ما.
فلا خوف على مذهب دارون من هذا القبيل، والإيضاحات المذكورة لا تبقي عند من يطلع عليها شبهة في أن الأنواع تكونت ولا تزال تتكون بالطرق التي ذكرت فيه. ولكن ... هل هذه الطرق كافية وحدها للتعليل عن سائر أحوال نمو العالم العضوي؟ كلا؛ فإنا لو أطلقنا مذهب دارون على جميع الحوادث المفردة أو على ظواهر الحياة أجمع لوجدنا كثيرا منها لا ينطبق عليه، وربما كان معه على طرفي نقيض، ويستدل منه على أن الطبيعة سلكت سبلا أخرى أيضا لتحويل الأنواع، ولا شك في أن هذه السبل عديدة جدا؛ لأنه من المسلم أن الطبيعة في تفننها الذي لا نهاية له يندر أن تبلغ غايتها بسبيل واحد. وأنا من رأي شارل فوجت حيث قال في بحثه عن مذهب دارون في غازت دكولوين، وقد أقر على صحته:
إن طرقا كثيرة تؤدي إلى رومه.
ناپیژندل شوی مخ