فما قلناه كاف لمعرفة النقص في المعلومات البالنتولوجية، وفقد الصلة بين الأحياء في غالب الأحيان. ولدارون في سبب ذلك نظر آخر أيضا جوهري، حيث يقول: «إنه نظرا لكيفية توالي الحوادث الجيولوجية لا بد من فقد الرابط وحصول الفراغ؛ لأن الطبقات الجيولوجية المختلفة تفصلها أدوار طويلة جدا، فإن كل قسم من سطح الأرض يحصل فيه على الدوام تغيرات كثيرة وبطيئة، تحدث تغيرا في ارتفاعه فترفعه تارة فوق البحر، وتخسفه طورا تحته، ويشمل ذلك مساحة من الأرض عظيمة.»
4
فهذا التعاقب نتيجته حصول فترات في الأدلة الجيولوجية على تكون الأحياء؛ لأنه في حين الارتفاع الأصلح لتكون الصور الحية الجديدة لا ترسب تلك الرواسب اللازمة لحفظ البقايا العضوية وترسب في حين الانخفاض. وعلى ذلك، فالأرض التي ترتفع فوق الماء تكون أنواعها حديثة، مع أنها هي نفسها متكونة في أماكن أخرى، لكنها لا تحتوي شيئا مدفونا فيها من البقايا الحية التي تسمح بربطها بالأنواع التي كانت عليها قبل الانغمار في الماء، فلا تعلم النسبة بين أحيائها قبل الانغمار وبعده، ولكي يمكن ذلك ينبغي الحصول على عدد وافر من الأصول من أماكن مختلفة، ولا يكاد يتيسر. ذلك على أنه في كل سنة تحصل اكتشافات تؤيد هذا المذهب؛ إذ يزداد عدد الأصول المعروفة التي بين بين، فيقوى المذهب على دحض أغلاط الماضي، ولكم بقوا لا يعتقدون وجود ذوات ثدي كبيرة قبل الدور الثلاثي؛ أي إنه لا توجد قرود أحفورية فيما قبله، وأما اليوم فيعرفون كثيرا من القرود الأحفورية. وقد وجدوا ذوات ثدي كبيرة في الأراضي الثنائية حتى فيما هو أقدم منها أيضا. وهكذا أيضا كان يظن في الطيور، فإنه لغاية سنة 1858 لم يكونوا يعرفون آثار طيور قبل الدور الثلاثي، وأما من ذاك الوقت فقد اكتشفوا في أعلى العرق الرملي الأخضر - حجر المسن - للطبقة الطباشيرية (طبقة ثنائية عليا) آثار طير مائي من طائفة زمج الماء المعروف بالنورس أيضا. وقد اكتشفوا الأركوبتريكوس مكروروس في أقدم من ذلك أيضا؛ أي في الطبقة الأوليثية للدور الثنائي. وعلى قول دارون: إنهم عرفوا في العرق الرملي الأحمر أثر أرجل ثلاثين طيرا كبيرا لم يعثروا على بقايا لها، وعلى ذلك فكلما كثرت الاكتشافات الجديدة اتضح لنا عدم ظهور الأنواع فجأة خلافا لما كان يعتقد سابقا.
5
والجواب الثالث الذي يدحض دارون به الحجة المقامة على مذهبه من فقد الصور المتوسطة يتعلق بأحوال حياة هذه الصور، فإنه لا توجد الصور الانتقالية إلا نادرا على رأيه؛ لأنها أقل شدة وأقصر مدة من الأصول التي جاءت بعدها. ولسهولة اضمحلالها وسرعته سببان:
أحدهما: أن مدة التغير في أحوال الحياة الخارجية الموافقة خاصة لتولد الصور الجديدة بالانتخاب الطبيعي، هي أقصر جدا من المدة التي تتكيف وتثبت فيها الصور المذكورة، ولبيان صحة هذا القول أعود إلى ذكر المثال الذي ذكره شارل فوجت في رسائله في الإنسان، حيث ذكر أن الدب الأسمر الحاضر لا شبهة في أن أصله دب الكهوف القديم، الذي كان في الدور الطوفاني؛ فإنا نعرف الدرجات الثلاث الانتقالية بينهما غير أن وجود بقاياها نادر بخلافهما، فإن وجودهما كثير، ولا سيما دب الكهوف الذي لا يكاد يخلو منه كهف من الكهوف الكثيرة جدا التي استقصيت للدور الطوفاني. ولا يفهم سبب ذلك إلا لسرعة تغير أحوال الحياة الخارجية، واضمحلال هذه الصور الانتقالية في تنازعها مع هذه الأحوال الجديدة.
واعلم أن تغير الأحوال الخارجية قد بلغ الغاية في التأثير والثبات، حيث حصل انتقال من الحياة في الماء إلى الحياة على اليابسة وفي الهواء، فكل صورة حية ثبتت في هذا الانتقال كان تكوينها بالغا من الارتقاء شيئا غير قليل. ويظن دارون أن مثل هذه الأصول لا يزال موجودا، كالمنك الذي يطارد السمك في الماء في الصيف والحيوانات الأرضية في الشتاء.
والسبب الثاني الذي تضمحل لأجله الصور المتوسطة - أي الانتقالية - بسهولة وسرعة: هو أن المنازعة والمزاحمة تبلغان الغاية في الشدة بين الصور الأقرب بعضها إلى بعض، فما كان منها ضعيفا تلاشى لمنازعة ما كان منها قويا له، وتقل المنازعة بين الأحياء المتباعدة بطول المنازعة بينها، فيسهل قيامها بعضها بجانب بعض. وعلى ذلك فتكون أسباب تلاشي الصور الانتقالية عظيمة جدا، كما كانت أسباب توليدها كثيرة كذلك. وكلما أسرع الارتقاء وتميز - كما في أعلى ذوات الفقر خاصة - خفي تحوله.
ومن المقرر أن الصور التي بين بين تضمحل أيضا في مبحث آخر غير هذا له به علاقة شديدة، وإن ظهر لنا أنه بعيد عنه جدا؛ أعني به المبحث اللغوي، فإن اللغات المختلفة كالأنواع تنمو وتنشأ بعضها من بعض، وتنازع أيضا، والفرق بينها أن اللغات تتغير بسرعة أكثر من الأنواع جدا؛ ولذلك كانت في تغيرها أظهر لنا منها. فالأنواع قد تدوم مائة ألف سنة، ولا يعلم أن لغة دامت أكثر من عشرة قرون، وهذه المشابهة المهمة جدا ذكرها دارون في صفحة 426 من كتابه إلا أنه لم يبسطها البسط الكافي، بخلاف الجيولوجي ليل فإنه استنادا إلى أبحاث الفيلولوجي
6
ناپیژندل شوی مخ