94

إذا ثبت هذا فاعلم أن هذه مسألة خلاف بين الناس.

** الخلاف بين البصريين والبغدادين حول الإدراك

فعند شيوخنا البصريين أن الله تعالى سميع بصير مدرك للمدركات ، وأن كونه مدركا صفة زائدة على كونه حيا ، وأما عند مشايخنا البغداديين ، هو أنه تعالى مدرك للمدركات على معنى أنه عالم بها ، وليس له بكونه مدركا صفة زائدة على كونه حيا. فعند هذا لا بد من بيان أن المدرك له بكونه مدركا صفة ، وأن هذه الصفة إنما يستحقها الواحد منا لكونه حيا بشرط صحة الحاسة وارتفاع الموانع.

أما الذي يدل على أن الله تعالى سميع بصير مدرك للمدركات ، هو أنه حي لا آفة به ، والموانع المعقولة مرتفعة ، فيجب أن يدرك المدركات.

وأما الذي يدل على أن المدرك له بكونه مدركا صفة ، هو أن أحدنا يفصل بين حاله إذا كان مدركا وبين حاله إذا لم يكن مدركا ، وأجلى الأمور ما يجده الإنسان من نفسه. ولا يمكن أن يرجع بهذه التفرقة إلى كونه عالما حيا.

فإن قيل : ولم قلتم ذلك؟ قيل له : لأن أحدنا لو غمض عينيه فإنه لا يدرك ما بين يديه مع كونه حيا ، فلو لا أن كونه مدركا أمر زائد عليه وإلا لم يجز ذلك. وبعد ، فإن كونه حيا مما لا يتعلق بالغير ، وكونه مدركا متعلق بالغير ، فكيف يجوز أن يكون أحدهما هو الآخر؟ هذا هو الكلام في أن كونه مدركا لا يرجع إلى كونه حيا.

وأما الكلام في أنه صفة زائدة على كونه عالما ، فهو أن الذي به يعرف تغاير الصفتين أن تثبت إحداهما مع فقد الأخرى ، وهذا ثابت في مسألتنا ، لأنه قد ثبت العلم مع فقد الإدراك ، وثبت الإدراك مع فقد العلم.

أما ثبوت العلم مع فقد الإدراك ، فهو أن أحدنا يعلم القديم تعالى ولا يدركه ، وكذلك فإنه يعلم الجوهر الواحد وكثيرا من الأعراض ولا يدركها ، وكذلك يعلم المعدومات ولا يدركها.

وأما ثبوت الإدراك مع فقد العلم ، فهو أن النائم قد يدرك قرص البق والبراغيث حتى يتأذى به ، وقد يكون شيئا لا يثبته ولا يعلمه ، وكذلك فإنه يدرك الحديث الذي بحضرته ولا يعلمه ، وكذلك فإنه يرى الشيء من بعيد فيظنه أسود فإذا هو أخضر.

يبين هذه الجملة ، أن أحدنا لو أخبره نبي صادق أن الله تعالى أحدث جسما فإنه

مخ ۱۰۹