86

* فصل والغرض به الكلام في أن الله تعالى عالم

وتحرير الدلالة على ذلك ، هو أنه قد صح منه الفعل المحكم ، وصحة الفعل المحكم دلالة كونه عالما. فإن قيل : وما المحكم من الأفعال؟ قلنا : كل فعل واقع من فاعل على وجه لا يتأتى من سائر القادرين ، وفي الأكثر إنما يظهر ذلك في التأليف ، بأن يقع بعض الأفعال إثر بعض.

وهذه الدلالة مبنية على أصلين :

أحدهما ، أنه تعالى قد صح منه الفعل المحكم.

والثاني ، أن صحة الفعل المحكم دلالة كونه عالما.

أما الذي يدل على أنه تعالى قد صح منه الفعل المحكم ، فهو خلقه للحيوانات مع ما فيها من العجائب ، وإدارته للأفلاك وتركيب بعضها على بعض ، وتسخيره الرياح ، وتقديره الشتاء والصيف ، وكل ذلك أظهر وأبلغ في الأحكام من الكتابة المحكمة الحسنة والبيان العظيم.

فإن قيل : ما أنكرتم أن إحكام هذه الأفعال صحيحة من جهة بعض القادرين بالقدرة ، إذ الأصل في ذلك التأليف مقدور لنا؟ قلنا : نفرض الكلام في أول حي خلقه الله تعالى فيسقط الاعتراض. على أنا نعلم الآن من جهة السمع ، أن هذه الأفعال المحكمة من جهة الله تعالى ومن قبله ، لا يشاركه فيها غيره.

وأما الذي يدل على أن صحة الفعل المحكم دلالة كونه عالما ، فهو أنا وجدنا في الشاهد قادرين : أحدهما ، قد صح منه الفعل المحكم كالكاتب ، والآخر تعذر عليه كالأمي. فمن صح منه ذلك فارق من تعذر عليه بأمر من الأمور ، وليس ذلك الأمر إلا صفة ترجع إلى الجملة وهي كونه عالما ، لأن الذي يشتبه الحال فيه ليس إلا كونه ظانا ومعتقدا ، وذلك مما لا تأثير له في إحكام الفعل. ألا ترى أن أحدنا في أول ما يمارس الكتابة ويتعلمها قد يظنها ويعتقدها ثم لا يتأتى منه إيقاعها على هذا الوجه المخصوص ، فصح بهذا أن صحة الفعل المحكم دلالة كونه عالما في الشاهد ، وإذا ثبت ذلك في الشاهد ثبت في الغائب ، لأن طرق الأدلة لا تختلف غائبا وشاهدا. ويمكن أن نسأل عن هذه المفارقة وأنها لم عللت أولا ، ثم لم وجب تعليلها بأمر يرجع إلى الجملة؟ والكلام عليه ما ذكرناه في كونه قادرا ، فلا وجه لإعادته.

مخ ۱۰۱