المذهب الرابع: أنه إذا أعيد الأمر الثاني بالعطف، فالأمر الثاني غير الأول، فيجب امتثالهما معا، لما بين المتعاطفين من التغاير، ولأن التأكيد مع العطف، أمر لم يعهد، فوجب حمله على التأسيس، قال المصنف: والأضعف من هذه المذاهب، الأول، وهو القول، بأن المأمور به لا يتكرر مع تكرار الأمر، وحمل الأمر الثاني على التأكيد للأمر الأول، واعتلوا؛ بأن الأصل، براءة الذمة، والتأكيد محتمل، والتأسيس محتمل أيضا، فأسقطنا الوجوب بالأمر الثاني؛ لاستصحاب براءة الذمة، فحملناه على التأكيد، وأشار إلى الرد عليهم بقوله: إذ أصله الوجوب إلخ، (وحاصل) الرد عليهم أن حكم الأمر هو الوجوب حقيقة، لما تقدم من الأدلة، وأن هذا الحكم لا يفارقه، كان مفردا أو مكررا إلا بدليل، ولا دليل لغير الوجوب في الحالين، أي في الأمر الأول والثاني، إذ ليس تكراره دليلا على انتقاله عن حكمه الأصلي، الثابت بالدليل القطعي، وكون التكرار محتملا للتأكيد، فهو احتمال لا يكفي أن نترك الحقائق لأجله، وأيضا فالتأكيد اللفظي قليل الدوران في كلام العرب، فقلما يؤكدون زيدا بلفظه، فإن أرادوا تأكيده أكدوه بالنفس أو العين، وبقلة دورانه في ألسنة العرب، يغلب في الظن أنه غير مراد، فإن وجد بين الأمرين عطف، نحو صل ركعتين، وصل ركعتين، ازداد الحمل على التأكيد ضعفا فوق ضعفه لأول؛ لأن ما بعد العاطف مغاير لما قبله، إذ لا يصح أن يعطف الشيء على نفسه، فلا تقول جاء زيد، وزيدا، إلا إذا كان زيد الثاني غير الأول، نعم إذا اختلف اللفظان جاز العطف، وإن اتحد المعنى، تنزيلا للثاني منزلة التفسير للأول، نحو: { وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان } وإذا لحظت ما بين المتعاطفين، هنا رأيت المغايرة موجودة فيهما قطعا، فإن المفسر غير المفسر، واللفظ الثاني غير الأول، وباعتبار هذه المغايرة جاز العطف، وما نحن بصدده هو شيء غير هذا، لا يقال أن الخاص بعض العام وشيء منه، وصح عطفه عليه، ولا مغايرة
بينهما، نحو قوله تعالى: { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } لا نقول أن الخاص الذي عطف على العام، هو غير العام المعطوف عليه، وذلك أن خصوصيته بالذكر وعطفه على ما قبله، دليل على أن المراد بالعام هو ما عدا هذا المعطوف، فصح التغاير بهذا الاعتبار، وبهذا كله تعرف ضعف القول بالوقف أيضا إذ لا محل للتوقف مع هذه الأدلة، وبه أيضا تعرف أن المختار عند المصنف، إنما هو القول الثاني، وهو أيضا الحكم يتكرر بتكرر الأمر، إلا مع قرينة تصرفه عن ذلك والله أعلم. ولما فرغ من بيان أحكام الأمر ختم مبحثه بخاتمة فيها بيان عدم صحة تعاقب الأمر والنهي على شيء واحد، فقال
خاتمة
والشيء لا يصح أن يعلقا ... أمر ونهي فيه حيث اتفقا.
لكن إذا ما اختلف المحل ... فإنه حينئذ يحل.
مخ ۶۲