ن الأمر لا يدل استلزاما على أجزاء المأمور به، ولا بأس أن نبين أولا معنى الإجزاء؛ لتعم ماهيته، ثم نتعقبه بحجج القولين فيه، وتضعيف ما أشرنا إلى تضعيفه، فنقول (أما) حقيقة الإجزاء، فقال أبو الحسين: هو التخلص من عهدة الأمر، بمعناه ما قيل أنه سقوط الأمر، وبمعناه قال ابن الحاجب: أن الإجزاء هو الامتثال، وقال القاضي عبد الجبار: أن الإجزاء هو سقوط القضاء، قال البدر الشماخي -رحمه الله - وفيه نظر، وعلى تفسير الإجزاء بالمعنى المتقدم عن أبي الحسين: فلا خلاف في أن الأمر يدل عليه التزاما؛ لأن المأمور إذا فعل ما أمر به، علم أن ذلك مجز له، بمعنى أنه إذا خرج من عهدة الأمر الذي أمر به، فيقطع بأنه ممتثل للأمر، وإنما الخلاف في استلزام الأمر الإجزاء، إذا فسر الإجزاء بسقوط القضاء، ولذا فسرت الإجزاء فيما تقدم بهذا المعنى، تنبيها على أن الخلاف، إنما هو في هذا المعنى دون غيره، حجة من قال أن الأمر لا يستلزم الإجزاء، هي أن الحج الفاسد مأمور بإتمامه، والمضي على الإمساك في الصيام الفاسد مأموربه، ولا يسقط ذلك على من فعله، قضاء الحج ولا الصوم، (وأجيب) بأن القضاء في ذلك الحج وذلك الصيام، إنما هو استدراك الأمر الأول، الذي أعقبه الفساد لا للأمر الثاني، الذي هو الإتمام للحج والإمساك عن المفطر، فإن الأمر بإتمام الحج الفاسد، وبالإمساك عن المفطر في الصوم الفاسد، أمر آخر غير الذي ترتب عليه القضاء، (واحتجوا) أيضا بأنه لو استلزم الإمساك سقوط القضاء، لزم فيمن صلى مع ظن كمال الطهارة، أن تكون الصلاة إما غير مجزئة له، فيكون آثما إذا لم يمتثل، والمعلوم أنه غير آثم، أو مجزئة له، فيكون القضاء عنه ساقطا؛ لأنه قد امتثل، والمعلوم أنه غير ساقط مع تيقن الحدث، فلزم ذلك أن الامتثال لا يستلزم سقوط القضاء، (وأجيب) بأنه قد امتثل بالنظر إلى أنه أمر، بأن يصلي مع ظن كمال الطهارة، ولا قضاء عليه، أعني بالنظر إلى هذا الأمر، أعني أمره بأن يأتي بها مع ظن الكمال، وإنما القضاء واجب، بالنظر إلى أنه أمر بأن يأتي بمثلها على الوجه الصحيح، عند انكشاف خللها، فكان الأمر بها واردا، على وجهين:
أحدهما: أن يأتي بها حيث يظن كمال الطهارة، فيعد ممتثلا، ولا قضاء عليه بالنظر إلى هذا الأمر.
والوجه الثاني: أن يأتي بها على الوجه الصحيح ، حيث انكشف خلاف ما ظن، فإذا لم يأتي بها، فهو غير ممتثل للأمر الآخر انتهى.
حاصل الجواب: أنه لو لم ينكشف له أنه صلى على غير طهارة كاملة، واستمر على ذلك؛ فإنه غير آثم، ولا قضاء عليه، لامتثاله ما أمر به، وهو الصلاة على ظن كمال الطهارة، وإن انكشف له أنه صلى على غير كمال الطهارة، فهنالك توجه إليه أمر آخر، هو: وجوب الإعادة، أو القضاء، فالقضاء إنما وجب باعتبار الوجه الأخير، والله أعلم. ونحن نقول لو لم يستلزم الأمر سقوط القضاء، لما علم امتثال قط، بيان ذلك؛ أنه لو امتثل المأمور ما أمر به على الوجه الذي طلب منه، والحال أنه لم يعلم من الأمر، أن ذلك الفعل الذي جاء به، مسقط عنه القضاء، لما علم أنه ممتثل، حتى يقول الآمر أنك قد امتثلت، والمعلوم من اللغة والشرع، أنه يعد ممتثلا، ولو لم يقل الآمر ذلك، (وأيضا) فلا خلاف أن القضاء إنما يقع استدراكا لما فات من الأداء، فلو أن المأمور فعل ما أمر به، على الوجه الذي أمر به، ولم يستلزم ذلك سقوط القضاء، كان لزوم القضاء بعد تحصيلا للحاصل؛ لأنه إنما يفعل استدراكا للغائب، أما لكون الغائب لم يفعل، أو لكونه فعل على غير الوجه الذي أمر به، فصار كأنه لم يفعل أصلا، فإذا أوتي به على الوجه المشروع، ولم يحصل به سقوط القضاء، كان القضاء حينئذ تحصيلا للحاصل، وهو المأمور به الذي قد فعل، والقضاء استدراك له، فإذا استدرك ما قد أوتي به على الوجه التام، كان الاستدراك تحصيلا للحاصل من غير شك، ولما فرغ من بيان دلالة الأمر على الإجزاء الذي هو ثمرة الأمر، شرع في بيان دلالته على النهي عن ضد المأمور به، فقال:
مخ ۵۵