أي غاية أصول الفقه التي ينتهي إليها العارف به هي أن من عرفه وأتقن قواعده، عرف حكم الله تعالى الذي حكم به على العباد من وجوب وندب وحظر وكراهية وإباحة، ويعرف محل كل واحد من هذه الخمسة، فيؤدي الواجب كما أمر، به ويسارع إلى المندوب حسب إمكانه، ويجتنب المحرم والمكروه، ويأتي ما احتاج إليه من المباحات ويرشد إلى ذلك من أمكنه إرشاد، فينتهي بذلك إلى سعادة الأبد وهي السعادة الأخروية، والمراد بها الفوز بنعيم ا لجنة المرتب على مغفرة الله تعالى، وفوق ذلك رضوان من الله أكبر، وهذا المقام مقام ليس بعه غاية لطالب الهداية، وبما ذكرته هاهنا من فائدة أصول الفقه، يظهر لك أشرفيته على غيره وأفضليته على ما عداه، أما الكلام فإنه وإن كان أفضل العلوم بلا خلاف، لأنه إنما يبحث عن صفات الله تعالى، وشرف العلم إنما هو بشرف الموضوع، فأفضليته على سائر الفنون إنما هي فضيلة باعتبار ما ذكر، وهذا أفضليته باعتبارات كثيرة، وكثير من العلوم كعلم العربية والنحو والصرف إنما هي طرق إلى معرفة هذا الفن، فنسبته إليها بهذا الاعتبار إنما هي كنسبة الثمر إلى الشجرة، لأنها إنما تطلب لأجله كما أن الشجرة إنما تغرس لأجل ثمرتها ولربما لم يحصل منها المطلوب فتجذ من أصلها، وأما نسبته إلى غير تلك الفنون كالمنطق والهندسة والحساب فهو أنه مباين لها ويستمد من ثلاثة فنون وهي: علم الكلام وعلم العربية وعلم الأحكام، أم الكلام فلتوقف الأدلة الكلية الشرعية على معرفة الباري تعالى وصدق المبلغ وذلك يتوقف على دلالة المعجزة، وأما العربية فلأن الأدلة من الكتاب والسنة عربية، وأما الأحكام فالمراد تصورها ليمكن إثباتها ونفيها وإلا لزم الدور؟؟؟ (وحكم الله) تعالى فيه أن يندب تعلمه وتعليمه لدخوله تحت حديث (ما تصدق الناس من صدقة علم ينشر) وتحت حديث (وأجودكم بعدي رجل علم علما فنشر علمه يبعث يوم القيامة أمة وحده) وبتوقف معرفة أحكام الله تعالى عليه يزداد دينه وأفضليته، ولما ربما كان فرض كفاية فإنه يجب على كل أهل ناحية من الأرض أن يكون فيهم من يعلمهم أمر دينهم ويرجعون إليه في حل مشكلاتهم، ولا يكون بهذه الصفة إلا عالما بهذا الفن، ولا يشترط في كونه عالما به أن يكون عالما باصطلاحاته الجديدة وإنما يكفي في كونه عالما به أن يكون ذا ملكة يقتدر بها على استنباط الأحكام من أدلتها سواء عرف اسم ذلك الدليل أنه عام مثلا أم لم يعرفه، إذا كانت ملكته قوية على وضع الأدلة مواضعها وترجيح الراجح منها عند التعارض، (وقيل) أن أول من مهد قواعده على هذه الجهة المخصوصة الشافعي، كذا في حصول المأمول وغيره، وقد عرفت مما تقدم أن الصحابة ومن بعدهم من التابعين كانوا عالمين بكيفية الاستنباط، فيكون الواضع إنما مهد القواعد التي كانت معلومة عندهم فخيف عليها التشتت فضبطها الواضع بذلك التمهيد صونا لها من ذلك المحذور، (ومثال ذلك) أن العرب كانوا عالمين بوضع عربيتهم في مواضعها فلا يتطرق أحد من قبلها لحن إلا عابه عليه كثيرون، فلما ظهر الإسلام اختلط العرب بالعجم لما جعل الله من الألفة الإسلامية بينهم، فخيف على العربية أن تتلاشى بسبب ذلك، فوضع على بن أبي طالب بعض قواعدها ودفعه إلى الأسود الدؤلي وقال له انح هذا النحو، فوضع أبو الأسود علم النحو ضبطا للغة العرب، فكذلك فن الأصول والله أعلم.
{القسم الأول من الكتاب في الأدلة الشرعية وفيه خمسة أركان } لأن الأدلة الشرعية خمسة (أحدهما) الكتاب (ثانيها) السنة (ثالثها) الإجماع، (رابعها) القياس، (خامسها) الاستدلال وإن أنكر بعضهم كونه من الأدلة الشرعية فهو منها في غالب أنواعه، وإن كان بعضها ليس بدليل أصلا كما ستعرفه إن شاء الله تعالى، فوضع المصنف لكل واحد من هذه الأدلة ركنا يبحث فيه عن أحواله الخاصة به والمشتركة بينه وبين ما عداه، لما كان الكتاب هو الركن الأعظم في هذا الباب وأن مباحثه داخلة في غالب الفن وجب أن نقدمه على سائر الأركان فلذلك قلنا:
{ الركن الأول في مباحث الكتاب }
مخ ۲۶