قيل : قد اختلف شيوخنا رحمهم الله في هذه المسألة ، فمن ذهب منهم إلى أنهما غير مخلوقتين الآن يقول : قد ثبت بدليل السمع أن سائر الأجسام تعدم ولا يبقى في الوجود إلا ذات الله تعالى ؛ بدليل قوله : ' كل شيء هالك إلا وجهه ' ، وقوله : ' هو الأول والاخر ' . فلما كان أولا بمعنى انه لا جسم من الوجود معه في الأزل وجب أن يكون آخرا ، بمعنى أنه لا يبقى في الوجود جسم من الأجسام معه فيما لا يزال ، وبآيات كثيرة أخرى ، وإذا كان لا بد من عدم سائر الأجسام لم يكن في خلق الجنة والنار قبل أوقات الجزاء فائدة : لأنه لا بد أن يفنيهما مع الأجسام التي تفنى يوم القيامة ، فلا يبقى مع خلقهما من قبل معنى . ويحملون الآيات التي دلت على كون آدم عليه السلام كان في الجنة وأخرج منها ، على بستان من بساتين الدنيا . قالوا : والهبوط لا يدل على كونهما في السماء لجواز أن يكون في الأرض ؛ إلا أنهما في موضع مرتفع عن سائر الأرض .
وأما غير هؤلاء من شيوخنا فقالوا : إنهما مخلوقان الآن ، واعترفوا بأن آدم كان في جنة الجزاء والثواب ، وقالوا : لا يبعد أن يكون في إخبار المكلفين بوجود الجنة والنار لطف لهم في التكليف ، وإنما يحسن الإخبار بذلك إذا كان صدقا ، وإنما يكون صدقا إذا كان خبره على ما هو عليه .
آدم والملائكة أيهما أفضل
فإن قيل : فما الذي يقوله شيوخنا في آدم والملائكة : أيهما أفضل ؟ قيل : لا خلاف بين شيوخنا رحمهم الله أن الملائكة أفضل من آدم ومن جميع الأنبياء عليهم السلام ، ولو لم يدل على ذلك إلا قوله تعالى في هذه القصة : ' إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ' ، لكفى .
وقد احتج أصحابنا أيضا بقوله تعالى : ' لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ' ، وهذا كما تقول : لا يستنكف الوزير أن يعظمني ويرفع من منزلتي ولا الملك أيضا . فإن هذا يقتضي كون الملك أرفع منزلة من الوزير وكذلك قوله : ' ولا الملائكة المقربون ' ، يقتضي كونهم أرفع منزلة من عيسى .
ومما احتجوا به قولهم : إنه تعالى لما ذكر جبرائيل ومحمدا عليه السلام في معرض المدح ، مدح جبرائيل عليه السلام بأعظم مما مدح به محمدا عليه السلام ، فقال : ' إنه لقول رسول كريم ، ذي قوة عند العرش مكين ، مطاع ثم أمين ، وما صاحبكم بمجنون ، ولقد رآه بالأفق المبين ، وما هو على الغيب بضنين ' . فالمديح الأول لجبرائيل والثاني لمحمد عليه السلام ، ولا يخفى تفاوت ما بين المدحين .
مخ ۷۲