ومنها : أن ظاهر الكلام يقتضي أن خلق السموات بعد خلق الأرض ؛ ألا تراه كيف لم يتعرض فيه لكيفية خلق الأرض أصلا . وهذا قول قد ذهب إليه جماعة من أهل الملة ، واستدلوا عليه بقوله تعالى : ' قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين ' ، ثم قال : ' ثم استوى إلى السماء وهي دخان ' . ومنها : أن الهاء في قوله : فرفعه في هواء منفتق ، والهاء في قوله : فسوى منه سبع سموات ، إلى ماذا ترجع ؟ فإن آخر المذكورات قبلها الزبد . وهل يجوز أن تكون السموات مخلوقة من زبد الماء ؟ الحق أن الضمائر ترجع إلى الماء الذي عب عبابه ، لا إلى الزبد ؛ فإن أحدا لم يذهب إلى أن السماء مخلوقة من زبد الماء ، وإنما قالوا : إنها مخلوقة من بخاره .
ومنها : أن يقال إن البارئ سبحانه قادر على خلق الأشياء إبداعا واختراعا ؛ فما الذي اقتضى أنه خلق المخلوقات على هذا الترتيب ؟ وهلا أوجدها إيجاد الماء الذي ابتدعه أولا من غير شيء ! فيقال في جواب ذلك على طريق أصحابنا : لعل إخباره للمكلفين بذلك على هذا الترتيب يكون لطفا بهم ، ولا يجوز الإخبار منه تعالى إلا والمخبر عنه مطابق للإخبار ، فهذا حظ المباحث المعنوية من هذا الفصل .
ثم نشرع في تفسير ألفاظه .
أما الأجواء فجمع جو ، والجو هنا الفضاء العالي بين السماء والأرض . والأرجاء : الجوانب ، واحدها رجل مثل عصا . والسكائك : جمع سكاكة : وهي أعلى الفضاء ، كما قالوا : ذؤابة وذوائب . والتيار : الموج . والمتراكم : الذي بعضه فوق بعض . والزخار : الذي يزخر ، أي يمتد ويرتفع . والريح الزعزع : الشديدة الهبوب ، وكذلك القاصفة ، كأنها تهلك الناس بشدة هبوبها . ومعنى قوله : فأمرها برده ، أي بمنعه عن الهبوط ؛ لأن الماء ثقيل ، ومن شأن الثقيل الهوي . ومعنى قوله : وسلطها على شده ، أي على وثاقه ؛ كأنه سبحانه لما سلط الريح على منعه من الهبوط ؛ فكأنه قد شده بها وأوثقه ومنعه من الحركة . ومعنى قوله : وقرنها إلى حده ، أي جعلها مكانا له ؛ أي جعل حد الماء المذكور - وهو سطحه الأسفل - مما ساطح الريح التي تحمله وتقله . والفتيق : المفتوق المنبسط . والدفيق : المدفوق . واعتقم مهبها ، أي جعل هبوبها عقيما ، والريح العقيم : التي لا تلقح سحابا ولا شجرا ؛ وكذلك كانت تلك الريح المشار إليها ؛ لأنه سبحانه إنما خلقها لتمويج الماء فقط . وأدام مربها ، أي ملازمتها ، أرب بالمكان مثل ألب به ، أي لازمه .
مخ ۵۹