الأصل : ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء ، وشق الأرجاء ، وسكائك الهواء ، فأجرى فيها ماء متلاطما تياره ، متراكما زخاره ، حمله على متن الريح العاصفة ، والزعزع القاصفة ، فأمرها برده ، وسلطها على شده ، وقرنها إلى حده ؛ الهواء من تحتها فتيق ، والماء من فوقها دفيق . ثم أنشأ سبحانه ريحا اعتقم مهبها ، وأدام مربها ، وأعصف مجراها ، وأبعد منشاها ؛ فأمرها بتصفيق الماء الزخار ؛ وإثارة موج البحار ، فمخضته مخض السقاء ، وعصفت به عصفها بالفضاء ، ترد أوله على آخره ، وساجيه على مائره ، حتى عب عبابه ، ورمى بالزبد ركامه ، فرفعه في هواء منفتق ، وجو منفهق ، فسوى منه سبع سموات جعل سفلاهن موجا مكفوفا ؛ وعلياهن سقفا محفوظا ، وسمكا مرفوعا ؛ بغير عمد يدعمها ، ولا دسار ينتظمها . ثم زينها بزينة الكواكب ، وضياء الثواقب ، وأجرى فيها سراجا مستطيرا ، وقمرا منيرا ، في فلك دائر ، وسقف سائر ، ورقيم مائر .
الشرح : لسائل أن يسأل فيقول : ظاهر هذا الكلام أنه سبحانه خلق الفضاء والسموات بعد خلق كل شيء ؛ لأنه قد قال قبل : فطر الخلائق ، ونشر الرياح ، ووتد الأرض بالجبال ، ثم عاد فقال : أنشأ الخلق إنشاء ، وابتدأه ابتداء ، وهو الآن يقول : ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء ، ولفظة ثم للتراخي ! فالجواب أن قوله : ثم هو تعقيب وتراخ ، لا في مخلوقات البارئ سبحانه ، بل في كلامه عليه السلام ؛ كأنه يقول : ثم أقول الآن بعد قولي المتقدم : إنه تعالى أنشأ فتق الأجواء . ويمكن أن يقال : إن لفظة ثم ، ههنا تعطي معنى الجمع المطلق كالواو ، ومثل ذلك قوله تعالى : ' وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ' .
واعلم أن كلام أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الفصل يشتمل على مباحث : منها : أن ظاهر لفظه أن الفضاء الذي هو الفراغ الذي يحصل فيه الأجسام خلقه الله تعالى ولم يكن من قبل ؛ وهذا يقتضي كون الفضاء شيئا ، لأن المخلوق لا يكون عدما محضا . وليس ذلك ببعيد ، فقد ذهب إليه قوم من أهل النظر ، وجعلوه جسما لطيفا خارجا عن مشابهة هذه الأجسام . ومنهم من جعله مجردا .
فإن قيل : هذا الكلام يشعر بأن خلق الأجسام في العدم المحض قبل خلق الفضاء ليس بممكن ، وهذا ينافي العقل ! قيل : بل هذا هو محض مذهب الحكماء ، فإنهم يقولون : إنه لا يمكن وجود جسم ولا حركة جسم خارج الفلك الأقصى ؛ وليس ذلك إلا لاستحالة وجود الأجسام وحركتها ، إلا في الفضاء .
مخ ۵۷