ثم قال: لا يعرفن الحمام ولا يردنه، ولا يحتجن إليه ولا يدخلنه، ولا يبرزن منه ببطون ضخمة وأوراك رخوة، قد حل الحمام أجسامهن، وصقل عراقيبهن، على ما يفعله نساء الحضر، ولكنهن مجدلات الأجسام، معتدلات القوام، قد أغناهن الحسن عن الصنعة، وسقطت به عنهن مؤن الكلفة.
ثم قال: ومن هوى كل من لا تموه حسنها، ولا تحتاج إلى أن تصنع نفسها، رفضت الخضاب محتملا على اجتناب المغالطة، وكرهته لما فيه من المكاذبة، فتركت الشيب ولم أخضبه، وأنست به ولم أغيره.
وَمِنْ هَوَى الصَّدْقِ في قَوْلِي وعادَته ... رَغِبْتُ عَنْ شَعَرٍ في الوَجْهِ مَكْذُوبُ
لَيْتَ الحوادثَ باعَتْني الذي أَخَذَتْ ... مِنَّي بِحِلْمي الذي أَعْطَتْ وَتَجْريبي
فما الحَدَاثَةُ مَنْ حِلْمٍ لِمانِعَةٍ ... قَدْ يُوجَدُ الحِلْمُ في الشُّبَّانِ والشَّيْبِ
يقول: ومن هوى الصدق وإيثاري له، وحرصي عليه وإعجابي به، رغبت عن الخضاب الذي يغر مبصره، ويخدع متأمله، فرفضت ذلك مؤثرا للصدق، وأبقت منه متحملا على الحق.
ثم قال: ليت حوادث الأيام السالفة، وتصاريف المدد الخالية، باعتني ما أعدمتنيه من القوة، وسلبتنيه من الإقبال والشبيبة، بما استفدته بها من المعرفة، وأشرفت عليه بكثرة التجربة.
ثم قال: فما تمنع الحداثة من الحلم، ولا تبعد عن التقدم في العلم، فقد توجد الحلوم الراجحة، والعلوم البالغة، في الكهول والفتيان، والشيوخ والشبان.
تَرَعْرَعَ المَلِكُ الأُسْتَاذُ مُكْتَهِلًا ... قَبْلَ اكْتِهَالٍ، أَدِيْبًا قَبْلَ تَأْدِيبِ
مُجَرَّبًا فَهِمًَا مِنْ تَجْرِبَةٍ ... مُهَذَّبًا كَرَمًا، مِنْ غَيْرِ تَهْذِيبِ
حَتَّى أَصَابَ مِنَ الدُّنْيَا نِهَايَتَها ... وَهَمُّهُ في ابتداءاتٍ وتَشْبِيبِ
ترعرع الصبي: إذا تحرك للمشي، والاكتهال: بلوغ سن المشيب، والأديب: