الشرح: إنما قدم هذا الفصل لأن غرضه إثبات قاعدة عامة يجب تقديمها في أول الكتاب، وهى أنه ينبغي للطبيب أن يحذو فعل الطبيعة، وخصص المثال عليها بالاستفراغ لأنه يتكلم في هذه المقالة في قوانين التغذية، وهى إنما تكون بعد نفض الفضول من الأمعاء وغيرها. وأيضا فلاغذاء هو خلف لبدل ما يتحلل، والتحلل استفراغ؛ فوجب تقديم الكلام في الاستفراغ لأنه مقدم على التغذية. وإنما ينبغي أن يستفرغ ما كان فاضلا، والفضل هو الامتلاء، والامتلاء على ثلاثة أنواع: امتلاء الأوعية فقط، وهو أن تكون الأخلاط -مع صلاح كيفياتها- زائدة في المقدار. وامتلاء بحسب القوة فقط، وهو أن تكون الأخلاط -مع اعتدال مقدارها- خارجة B عن الطبيعة في كيفياتها. وامتلاء بحسب الأوعية والقوة، وهو أن تكون الأخلاط -مع رداءة كيفياتها- زائدة في كميتها. وهذا الثالث أولى بوجوب الاستفراغ، ثم الثاني. ونعني بالنوع الذي ينبغي أن ينقى (7) منه البدن كل ما (8) هو غير طبيعي، إما في جوهره كالحصا والثفل والخلط العفن، أو في كيفيته كالدم الحار أو البارد، أو في كميته كالدم إذا كثر، أو في كيفيته وكميته كالدم الكثير إذا فسد. والدليل على ذلك قوله: "وإن لم يكن كذلك كان الأمر على الضد" معناه: وإن لم يكن المستفرغ طوعا في استطلاق البطن والقيء من النوع الذي ينبغي أن ينقى منه البدن، ضر ذلك وعسر احتماله. ولو كان الخلط الزائد في كميته -مع صلاح كيفيته- ليس من النوع الذي ينبغي أن ينقى منه البدن، لبطل ذلك؛ لأن استفراغه ينفع ويسهل احتماله. ويعني "بالطوع" ما لم تستكره الطبيعة على إخراجه بدواء مسهل ولا بغيره، سواء A كان إخراجه طبيعيا كالثفل، أو لا يكون كخروج الأخلاط الفاسدة. ويعني "بخلاء العروق" الاستفراغ الصناعي لأنه أكثر ما يكون بالفصد أو الأدوية المسهلة، وذلك يازمه خلاء العروق، فأطلق اسم اللازم على الملزوم. وأما أنه إذا كان المستفرغ طوعا من النوع الذي ينبغي أن ينقى منه البدن نفع وسهل احتماله، فلأن إخراج المؤذي نافع وسهل الاحتمال لأن الطبيعة لا تظن به، فيسهل عليها مفارقته، إلا أنه قد يتبع ذلك ضرر كثوران حرارة أو حمى يوم أو إعياء في الأوعية أو سحج في الأمعاء ولا يحس بنفعه في الحال إلى أن يزول العارض. وأما في الحال فيحس الضرر، ولكن ذلك الضرر لا لكونه استفراغ ما ينبغي أن ينقى البدن منه، بل لأمر آخر كضعف المعا وحدة الخلط وغير ذلك. وأما أنه إذا كان المستفرغ طوعا لا من النوع الذي ينبغي أن ينقى منه البدن، كان على الضد؛ فلأن ما ليس مما ينبغي أن ينقى البدن منه فهو طبيعي، والبدن يحتاج إليه وينتفع به، وإخراج النافع المحتاج إليه B لا شك أنه يكون ضار أو عسر المفارقة لأن الطبيعة تكون مشتملة عليه ضانة به؛ وكذلك فافهم الحال في الاستفراغ الصناعي. ولما ثبت أن الاستفراغ إذا كان من النوع الذي ينبغي أن ينقى منه البدن نفع وسهل احتماله، وإذا لم يكن كذلك ضر وعسر احتماله، وجب أن يكون النفع بالاستفراغ وسهولة الاحتمال لازما مساويا لكون المستفرغ من النوع الذي ينبغي أن ينقا البدن منه؛ لأنه لو كان أعم منه لجاز حصوله عند كون المستفرغ لا من ذلك النوع فلايصدق قوله، وإن لم يكن كذلك كان الأمر على الضد. وإذا ثبت أنه لازم مساو، فيستدل بكل واحد منهما على الآخر، فإن علمنا أن هذا المستفرغ من ذلك النوع علمنا أن الاستفراغ ينفع ويسهل احتماله. وإن علمنا أن هذا الاستفراغ نفع وسهل احتماله، علمنا أنه كان من ذلك النوع، لكن هذا الاستدلال إنما يكون بعد الاستفراغ فينبغي أن نذكر علامات تدل على ذلك النوع قبل الاستفراغ ليتأتى لنا الإقدام عليه، فقال: A "وينبغي أيضا أن تنظر في الوقت الحاضر من أوقات السنة. إلى آخره" ولم يذكر اللون. وإن كان يدل على الخلط الغالب لأنه قد يقع (9) من جهته غلط، وهو إذا كان الخلط غائرا. وهذه الأدلة المذكورة بعضها أقوى من بعض، فإن الشيخ لو مرض في الشتاء وفي بلد بارد مرضا صفراويا، استفرغناه الصفراء ولم نلتفت إلى ما يوجبه البلد والسن والوقت. بقى هاهنا أسئلة، أحدها أنه: لما خصص اللاستفراغ الطوعي بالقيء واستطلاق البطن والحكم عام؟ وثانيها: لما عبر عن الاستفراغ الصناعي بخلاء العروق؟ وثالثها: لما ذكر أولا حكم الاستفراغ الطوعي ثم ذكر حكم الاستفراغ الصناعي، مع أنه كان يمكن ذكرها في قضية واحدة لأن الحكم واحد؟ الجواب: أما الأول فلأن ما سوى القيء واستطلاق البطن، كالرعاف والإدرار والعرق، لا يقع من غير النوع الذي ينبغي أن ينقى منه البدن إلا نادرا، فلا يظهر به التمثيل على أن الاستفراغ الطوعي إذا لم يكن من ذلك النوع ضر وعسر B احتماله؛ ولأن غالب الاستفراغ الطوعي يكون بالقيء واستطلاق البطن. وأما الثاني؛ فلأن التغيير بهذا اللازم أكثر فائدة، لأنه يفيدنا معرفة أن الدواء المسهل يخرج ما في العروق، ويفيدنا أيضا أنه ما دام من النوع فينبغي أن يستفرغ إلى أن تخلو (10) العروق منه ولا يلتفت إلى كونه كثيرا أو غير ذلك. وأما الثالث؛ فإن ذلك لإثبات القاعدة التي هى المقصودة من الفصل، وهى أنه ينبغي أن يحذو (11) الطبيب فعل الطبيعة، وذلك لأن الاستفراغ الطوعي الذي من النوع الذي ينبغي أن ينقى منه البدن هو من فعل الطبيعة فقط، ثم إن الاستفراغ الصناعي إذا كان موافقا لفعل الطبيعة نفع ولم يضر (12)، وليس ذلك لكونه استفراغا بل لكونه موافقا لفعل الطبيعة، فيجب أن يكون قصدنا أن نفعل كفعل الطبيعة.
[aphorism]
مخ ۱۱