162

شرح فتح المجيد للغنيمان

شرح فتح المجيد للغنيمان

ژانرونه

أوصاف إبراهيم ﵇ في تحقيق التوحيد
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل:١٢٠] وصف إبراهيم ﵇ بهذه الصفات التي هي الغاية في تحقيق التوحيد: الأولى: أنه كان أمة.
أي: قدوة وإمامًا معلمًا للخير، وما ذاك إلا لتكميله مقام الصبر واليقين الذين تنال بهما الإمامة في الدين].
هذا أحد المواضع التي وردت في القرآن في (الأمة) يقصد بها القدوة الذي يقتدى به؛ لأن القرآن ورد فيه لفظ (الأمة) في معان عدة هذا أحدها، والمعنى الثاني: الجماعة من الناس.
كقوله تعالى: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ﴾ [القصص:٢٣] يعني: جماعة، وهذا كثير، والمعنى الثالث: أنه يقصد بالأمة طائفة من الزمن.
كما قال الله جل وعلا في قصة يوسف: ﴿وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ [يوسف:٤٥] يعني: بعد وقت وبعد مدة تذكر ما حدث معه ومع يوسف، وما حدث من تأويل الرؤيا.
وكذلك قوله: ﴿وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ﴾ [هود:٨] يعني: إلى طائفة من الزمن.
الرابع: أنه يقصد بالأمة الدين والملة، كقوله تعالى عن الكفار: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الزخرف:٢٢]، فهذه المعاني التي وردت بلفظ الأمة، أحدها: القدوة.
والثاني: الجماعة من الناس.
والثالث: الطائفة من الزمن والوقت.
والرابع: الملة والدين.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [الصفة الثانية كونه قانتًا.
قال شيخ الإسلام ﵀: القنوت: دوام الطاعة.
والمصلي إذا أطال قيامه أو ركوعه أو سجوده فهو قانت، قال تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ [الزمر:٩] انتهى ملخصًا.
الثالثة: أنه كان حنيفًا.
قلت: قال العلامة ابن القيم: الحنيف المقبل على الله المعرض عن كل ما سواه.
انتهى] لا بد لكل مقبل على الله أن يكون إقباله قصدًا وإرادة واختيارًا، وأن يكون معرضًا عن كل ما سواه، ويتضمن هذا الحب والارتباط بذلك، وكراهة ما عداه كراهة شديدة، ويكون بذلك فاعلًا للخير تاركًا للشر رغبة فيما عند الله وحبًا له وبغضًا للابتعاد عن الله جل وعلا ومخالفته، فلا بد أن يكون بهذه الصفة.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [الصفة الرابعة: أنه ما كان من المشركين، أي: لصحة إخلاصه وكمال صدقه وبعده عن الشرك.
قلت: ويوضح هذا قوله تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ [الممتحنة:٤] أي: على دينه من إخوانه المرسلين.
قاله ابن جرير رحمه الله تعالى، ﴿إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [الممتحنة:٤].
الاستثناء في الآية: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ [الممتحنة:٤] إلى قوله تعالى: ﴿إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ﴾ [الممتحنة:٤] يعني: لا تتأسوا بقول إبراهيم حين قال لأبيه: «لأستغفرن لك»، فهذه لا يجوز لكم أن تتأسوا بها؛ لأنها ما كانت إلا عن موعدة وعدها إياه، يعني أن إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له، ولكن لما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه وأصبح معاديًا له ومبغضًا له وكارهًا له.
فهذا معنى الاستثناء، ولهذا أخبر الله جل وعلا بذلك لما حصل ما حصل من النبي ﷺ واستغفاره لعمه لما حضرته الوفاة وجاء إليه وقال له: (ياعم! قل: (لا إله إلا الله) كلمة أحاج لك بها عند الله جل وعلا).
فقال له جلساء السوء: أترغب عن ملة عبد المطلب فأبى أن يقولها ومات على ملة عبد المطلب، وملة عبد المطلب الشرك، عند ذلك قال النبي ﷺ: (والله لأستغفرن لك ما ألم أنه)، فصار يستغفر له؛ لأنه كان يحوطه ويحميه، فلما سمع المسلمون الذين مع النبي ﷺ ذلك صاروا يستغفرون لآبائهم الذين ماتوا على الشرك يقتدون بالرسول ﷺ، فأنزل الله جل وعلا: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ﴾ [التوبة:١١٣] إلى آخرها، ثم قال لهم: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ [التوبة:١١٤]، وفي هذه الآية استثنى الله جل وعلا استغفاره لأبيه من أن نتأسى به في ذلك، فنتأسى به فيما عدا استغفاره لأبيه.
[وذكر تعالى عن خليله ﵇ أنه قال لأبيه آزر: ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا﴾ [مريم:٤٨ - ٤٩]، فهذا هو تحقيق التوحيد، وهو البراءة من الشرك وأهله واعتزالهم والكفر بهم وعداوتهم وبغضهم، فالله المستعان].
الواقع أنه لا يحصل التوحيد إلا بالكفر بالطاغوت، والطاغوت: اسم لكل ما يصد عن عبادة الله جل وعلا، سواءٌ أكان معنويًا أم كان حسيًا.
فكل ما صد عن عبادة الله من المعاني والحسيات فهو طاغوت، ولا يمكن أن يتحلى الإنسان بعبادة الله وتوحيده إلا إذا تبرأ مما يضاد ذلك، لهذا بدأ الله جل وعلا بالكفر بالطاغوت أولًا، فقال: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ [البقرة:٢٥٦]، فهذان أمران متضادان لا يجتمعان أبدًا، أي: حب الكفار والمشركين وموالاتهم مع توحيد الله جل وعلا وإخلاص العبادة له.
فلا يجتمع هذا مع هذا أبدًا، كما قال الله جل وعلا: ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ [المجادلة:٢٢] يعني: ولو كانوا أقرب الناس إليهم لا بد أن يبغضوهم ويعادوهم ويتبرأوا منهم ويزايلوهم ويفارقوهم، ولا يلتقون بهم إلا عند الجهاد أو الدعوة، أي: حين يدعونهم إلى الله جل وعلا.
ولهذا جاء في الحديث أن النبي ﷺ قال: (أنا بريء من رجل بات بين ظهراني المشركين)، ثم قال: (لا تتراءى ناراهما إلا في سبيل الله) يعني: لا تكون نار مسلم بجوار نار مشرك، فلا بد أن يزايله ويفارقه.
والمزايلة والمفارقة أمر حتمي لا بد منه، إلا إذا اضطر الإنسان اضطرارًا لا يستطيع معه المفارقة فحينئذ كما قال تعالى: ﴿فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ﴾ [النساء:٩٩]، وإذا كان الإنسان في بلاد الكفار يستطيع أن يظهر دينه، ويستطيع أن يدعو إلى ربه، ويستطيع أن يفعل العبادات بكل حرية ولا يخاف أن يصد عن دين الإسلام ويرد، فإن كان كذلك فلا بأس، أي: لا يمنع من كونه يكون في بلاد الكفار إذا كان بهذه الصفة، ولكن يمنع إذا كان يخاف عليه أن يرتد عن دينه، أو أنه يمنع من إقامة شعائر الدين مثل الصلاة والصوم وسائر العبادات، فإذا كان يمنع فتجب الهجرة، ويجب أن يفارق هذا البلد إلى بلد الإسلام، وإلا كان ممن تعرض للوعيد، حيث يقول الله جل وعلا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء:٩٧]، فيجب أن يتركوا ويهجروا البلد الذي يمنعهم الكفار فيه من إقامة دينهم.

16 / 5