شرح فتح المجيد للغنيمان
شرح فتح المجيد للغنيمان
ژانرونه
بم يحقق التوحيد
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب أي: ولا عذاب.
قلت: تحقيقه تخليصه وتصفيته من شوائب الشرك والبدع والمعاصي.
قال المصنف رحمه الله تعالى: قال الله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل:١٢٠]].
استدل بهذه الآية على تحقيق التوحيد، وأن من فعل واتصف بما اتصف به خليل الرحمن فقد حقق التوحيد، والله جل وعلا وصفه بأربع صفات في هذه الآية: فوصفه بأنه كان حنيفًا، والحنيف: المائل قصدًا عن غير مراد الله إلى مراده.
فإبراهيم هذه صفته، كان متجهًا إلى ربه جل وعلا بكليته قاصدًا ذلك، أي أنه كان راغبًا فيه مقبلًا عليه بعزم ونشاط وجد وقوة، وهذا معنى كونه حنيفًا، وأما كونه أمة فالأمة جاء تفسيرها في هذه الآية عن السلف بمعنيين: المعنى الأول: القدوة في الخير.
أي أنه كان قدوة في الخير والدعوة إليه، فهو قدوة في عبادة الله وحبه والإقبال عليه والدعوة إلى ذلك، وهذه القدوة لا تنال إلا باليقين والصبر، فإذا أيقن العبد بأمر الله جل وعلا وبواجباته التي أوجبها عليه وصبر عليها عملًا ودعوة فإنه يكون قدوة.
التفسير الثاني: أنه كان واحدًا في الحق، ليس معه أحد غيره؛ لأنه كان هو الذي على طريق الحق، وهو الذي اتخذه الله خليلًا، وأما من عداه من قومه فكلهم كفار وكلهم مشركون، ولهذا جاء في الصحيح أنه قيل للطاغية أحد الجبابرة: إنه قدم عليك رجل معه امرأة فيها من الجمال ما لا يصلح إلا أن تكون زوجة لك.
وعلم أنه لو قال: إنها زوجتي لأخذها، فقال لما سأله: هي أختي.
لأنه علم أنه إذا قال: أختي لا يأخذها، فلما رجع إليها قال: لا تكذبيني، فإني قلت: إنك أختي وأنت أختي في الإسلام، ليس اليوم مسلم غيري وغيرك.
وهذا يشهد لقولهم بهذا القول أنه كان وحده على الحق، أمة وحده على الحق والتوحيد، وهذا في الواقع لا ينافي القول الأول، فهو كان في أول أمره واحدًا في الحق، وهو أيضًا القدوة، ولهذا أمرنا الله جل وعلا بالتأسي به، قال تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ [الممتحنة:٤]، فأمرنا بالتأسي به لأنه هو القدوة في ذلك، وهو إمام الحنفاء وإمام الموحدين الذين حققوا التوحيد.
الصفة الثالثة: أنه كان قانتًا.
والقنوت في اللغة: هو دوام الطاعة، فمن داوم على الطاعة مستقيمًا عليها فإنه يكون قانتًا، وكذلك إذا أطال الإنسان الصلاة وأطال الركوع والسجود فإنه يكون قانتًا، قال تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ [الزمر:٩]، وسماه قانتًا، فالقنوت هو المداومة على الطاعة ولزومها مع الخشوع والذل والخضوع لله جل وعلا.
الصفة الرابعة: أنه ما كان من المشركين، فما كان معهم في القصد والإرادة، ولا كان في المكان، وما كان في الدين والعمل معهم، بل كان مفارقًا لهم في جميع الأحوال، وهو كذلك لم يقع في الشرك، ولهذا أخبر الله جل وعلا عنه في مواضع متعددة أنه ما كان يهوديًا ولا نصرانيًا ولا كان مشركًا، وكل من الخلق يدعي أنه على طريقته، فاليهود يدعون أنهم أتباعه وعلى نهجه وعلى ملته، والنصارى كذلك، والمشركون كذلك، والله جل وعلا برأه من الجميع، وأخبر أن أولى الناس بإبراهيم اَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ، وهو نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فهؤلاء هم أولى الناس به وأقربهم إليه.
فهذه الأوصاف الأربعة إذا تحلى بها العبد فقد حقق التوحيد وكان أسوته خليل الرحمن، ويصير ممن لا يعذب يوم القيامة ولا يحاسب، بل يسبق إلى الجنة مع الذين يسبقون إليها.
16 / 4