شرح فتح المجيد للغنيمان
شرح فتح المجيد للغنيمان
ژانرونه
الدعاء وفضله وآدابه
وقوله في هذا الحديث -وهو حديث قدسي-: (إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة) يدلنا على أن الدعاء عند الله جل وعلا أمره عظيم، فالدعاء من العبادة التي يحبها الله جل وعلا.
وقد جاء في الحديث أن الرسول ﷺ قال: (الدعاء هو العبادة)، وجاء في حديث آخر: (إن الله يغضب إذا لم يدع)، والله جل وعلا يقول: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر:٦٠]، فأمر بدعوته، وقال: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ [الأعراف:٥٥] في آيات كثيرة يأمر الله جل وعلا عباده أن يدعوه.
فالدعاء هو الافتقار إلى الله وإظهار الحاجة، أن يظهر الإنسان حاجته إلى ربه بفقره، ويتوسل إليه بفقره، ويطلب غناه وفضله، وأن يكون خاضعًا لربه مقبلًا عليه، وإذا فتح للإنسان باب الدعاء فينبغي أن ينتهز الفرصة؛ فإن الله كريم لا يرد عبده إذا دعاه، ولهذا كان السلف رضوان الله عليهم يقولون: إنا لا نهتم للإجابة وإنما نهتم للدعاء فكون الإنسان يفتح له باب الدعاء فيدعو فإن الإجابة قريبة؛ لأن الله وعد عباده بذلك فقال: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر:٦٠]، وهو لا يخلف وعده جل وعلا، وإن كان الدعاء له آداب وله شروط ينبغي للداعي أن يتعرف عليها وأن يعمل بها.
فقد جاء في الحديث -وهو حديث من جوامع كلم رسول الله ﷺ أنه ذكر الرجل يطيل السفر أشعث رأسه مغبرة قدماه يرفع يديه إلى السماء يقول: يا رب يا رب ومطعمه حرام، ومشربه حرام، فأنَّى يستجاب لذلك؟! فأخذ من هذا الحديث شيء من آداب الدعاء، وهو أن الإنسان يكون مظهرًا فقره إلى الله لقوله: (أشعث أغبر)، وأن يكون مظهرًا الحاجة والذل والافتقار والتبذل لله جل وعلا.
وقد روي عن بعض السلف أنه كان له ابن أخ في الجهاد، فأسره العدو، وكان الرجل من العلماء الكبار، فظهر بثياب رثة وفي مسكنة، فقيل له: لماذا تصنع هذا؟ فقال: استكين لربي حتى يعطيني مطلبي.
فأطلق قريبه وجاء.
فإذا كان السائل موقنًا مقبلًا لم يخالف أمر الله جل وعلا فإن الله يعطيه مسألته، بل إذا سأل الإنسان باضطرار فإنه يجيبه وإن كان بعيدًا عن الله جل وعلا، ولهذا يقول جل وعلا للكفار الذين يحتج عليهم بأن شركهم غير مقبول شرعًا ولا عقلًا ولا وضعًا، يقول جل وعلا: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾ [النمل:٦٢]، يعني أنكم أنتم المشركون تعرفون ذلك، أن الذي يجيب المضطر ويكشف السوء هو الله وحده.
وهذا يدلنا على أن كل عبد من عباده يقع في ضرورة وفي كرب فيتجه إليه فإنه يجيبه وإن كان بعيدًا عن الله جل وعلا.
والمقصود أن هذا من الآداب التي إذا فعلها الإنسان كان حريًا بالإجابة، وهو أن يكون خاشعًا لله خاضعًا له.
الثاني: رفع اليدين إليه جل وعلا، أن يرفع يديه في الطلب.
وقد جاء في الحديث: (إن الله حيي كريم يستحيي من عبده المؤمن أن يرفع يديه إليه فيردهما صفرًا) يعني: بلا عطية.
بل إذا رفع يديه أعطاه جل وعلا، ورفع اليدين يكون عند الدعاء العام، أما الأدعية التي جاءت مخصصة ومقيدة مثل الدعاء في صلاة الفرض أو بعد الفرض فهذه يجب أن يتبع فيها رسول الله ﷺ، فلم يجيء أنه رفع يديه في هذه الأماكن، وإنما في النوافل وفي الدعاء عمومًا في غير ذلك.
الأمر الثالث: قوله: (يا رب يا رب)، فكونه يسأل ربه بهذا الاسم الكريم ويكرره فإن هذا من أسباب الإجابة، وقد جاء في القرآن -لمن تأمل القرآن- أدعية الرسل الذين ذكر الله قصصهم وغالبها بهذا الاسم الكريم العظيم، وقد قيل: إنه هو اسم الله الأعظم (رب)، فكذلك الله يعلمنا، ويعلمنا ذلك أيضًا في قوله: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة:٢٨٦] إلى آخر الآية، ففيها التعليم بأن نسأله جل وعلا بهذا الاسم: ﴿رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ [البقرة:٢٨٦] إلى آخره.
وكذلك في آخر سورة آل عمران وغيرها كثير في القرآن، فأكثر الأدعية التي جاءت عن الرسل كانت هذا الاسم.
الأمر الرابع الذي يؤخذ من هذا الحديث من آداب الدعاء التي ينبغي للإنسان أن يحرص عليها: اجتنابك للحرام ولبس الحرام لهذا قال: (ومطعمه حرام وملبسه حرام، فأنى يستجاب له؟) يعني: هذا هو المانع من الإجابة، وهو أكل الحرام ولبس الحرام.
فإذا اجتنب الإنسان ذلك فإن دعاءه يستجاب بإذن الله، ثم إنه جاء في الحديث عن النبي ﷺ -وهو حديث صحيح- أن سعدًا قال للنبي ﷺ: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني مجاب الدعوة فقال له: (يا سعد! أطب مطعمك تجب دعوتك)، فما سأل له، وإنما أرشده إلى الطريق الذي به إجابة الدعوة، وكان سعد ﵁ مجاب الدعوة، فإذا دعا بدعوة أجيبت.
وكثير من السلف كانت تجاب دعوته حتى وإن كانت في الشيء الذي قد لا يقصده، كما روي عن سعيد بن جبير ﵁ أنه كان له ديك يوقظه لصلاة آخر الليل، فإذا صاح قام، وليس هناك ساعة ولا منبهات، وفي ليلة لم يصح هذا الديك حتى طلع الفجر، فلما نظر وإذا الفجر قد طلع قال: ماله قطع الله عنقه؟ فانقطع عنقه، عند ذلك قالت له والدته: يا بني لا تدع على مسلم.
فالمقصود أن إجابة الدعوة في هذه الأمور وغيرها كثير.
ثم ليعلم الإنسان الداعي أنه إذا دعا ولم تظهر الإجابة لا يجوز له أن يترك الدعاء وأن يقول: دعوت فلم يستجب لي.
أو يقول: إن الله جل وعلا صرف عني الإجابة أو ما أشبه ذلك؛ لأنه قد أخبر صلوات الله وسلامه عليه أنه لا يدعو المسلم بدعوة إلا حصل له واحدة من ثلاث خلال: إما أن تعجل دعوته وتستجاب، أو يصرف عنه من البلاء ما هو أعظم من ذلك، أو تدخر له يوم القيامة.
فالداعي على خير على كل حال، وقد يكون الأمر في إجابة الدعوة ليس من مصلحة الداعي -والله أعلم بحال عبده- فيصرف ذلك عنه لمصلحته، وهو العليم الخبير جل وعلا، ولهذا جاء النهي عن كون الإنسان إذا دعا يعجل فيقول: دعوت فلم يستجب لي.
فينبغي له أن يوقن بأن الله جل وعلا يعطيه ما فيه الخير، أو يصرف عنه ما هو أعظم، أو يدخر له ذلك.
ثم يتبع الدعاء الرجاء، والرجاء: هو الرغبة فيما عند الله جل وعلا.
وتزيد الرغبة والتعلق به والإقبال عليه وإيقان القلب بأن الله جل وعلا لا يخيب رجاءه، ولهذا جاء إرشاد الرسول ﷺ لنا بقوله: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه)، وجاء في الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي)، فإذا ظن خيرًا لقيه ووجده، وإذا ظن خلاف ذلك وجده، فينبغي أن نعظم الرغبة في الله جل وعلا، ولهذا حرم على الإنسان أن يعلق مسألته بالمشيئة -كما سيأتي- فيقول: يا رب! أعطني كذا إن شئت.
فهذا من المحرمات التي لا يجوز للإنسان أن يفعلها، والسبب قوله صلوات الله وسلامه عليه: (فإن الله لا مكره له)، فإذا أراد أن يفعل شيئًا فعله، فلا حاجة إلى التعليق، فهذا شيء.
الشيء الثاني: أن التعليق يشعر بالاستغناء عن هذا الدعاء، كأن القائل يقول: إن أعطيتني ذلك وإلا فلا يلزم وهذا الذي يستغني عن الله جل وعلا يكون غير عارف بوضعه وبحال نفسه، وغير عالم بالله جل وعلا وبكرمه وجوده، فيجب أن يُعظم الرغبة، وأن يعظم الرجاء في الله جل وعلا، ثم يتبع هذا كله كونه حاضر القلب صادقًا فيما يقول، يواطئ لسانه قلبه، فإن الله جل وعلا لا يستجيب دعاء من قلب لاه غافل يدعو بكلام يتكلم به وقلبه سارح في أماكن أخرى بعيد عما يقوله، فجدواه قليلة، وهذا قد يكون شبيهًا بالهذيان الذي يقوله النائم أو غيره، فالمقصود أن هذه الأمور ينبغي للإنسان أن يعملها، ويثق بأن الدعوة مستجابة، ويعظم الرغبة في الله جل وعلا.
14 / 5