هو أصدق الأسماء في تمييز مقاصده ووجهة النهضة فيه؛ إذ كان ميسم النهضة كلها الاتجاه نحو الإنسان والاعتراف له بحق التفكير وحق الحياة.
لقد بدأت الدعوة الإنسانية قبل عصر النهضة الذي يؤرخونه في بداءته بفتح القسطنطينية، وكان لانتشار الحضارة الإسلامية أثره في الإيحاء بنصيب الإنسان من دنياه وتحبيب محاسن الحياة إليه، وكان رائد الإنسانيين بترارك (1304-1374) يتغنى بالحب على أسلوب الشعراء الجوالين الذين اقتبسوا أناشيدهم من الشعراء الأندلسيين، ويلحق به رهط من الأدباء والقصاصين ينسجون على منوال ألف ليلة وليلة فيما تخيلوه مثالا لمتعة العيش، ويتعمدون أن يظهروا في أقاصيصهم ما يبطنه أدعياء النسك والإعراض عن الدنيا من النفاق والولع بالمحرمات والمحظورات، وكان هذا هو جانب الدعوة الذي يشيع بين عامة الناس ويسهل فهمه والشعور به في جميع البيئات، ويسري معه في بيئات المثقفين حب الاطلاع والانطلاق من القيود التي كانت تحرم النظر في بعض الكتب العلمية والفلسفية، وأولها كتب «ابن رشد» التي سميت بالفلسفة الرشدية أو ب «الرشدية» على إطلاقها، وتعرضت للقسط الأوفر من حملات التشهير والتحريم.
بدأت الدعوة الإنسانية - مقابلة لدعوة التقشف والإعراض عن الحياة - بعد قيام الدولة الإسلامية في الأندلس بقرن واحد، ثم جاءت الكشوف المتوالية فعززت هذه الدعوة؛ لأنها صححت مكان الإنسان من العالم وعرفته بما كان يجهله من أرضه التي يعيش عليها، وقد كان يجهل أنه يعيش على كرة تدور في الفضاء، ويحسب أن حدود الأرض تنتهي عند بحر الظلمات.
وقد امتد عصر الكشوف السماوية والأرضية حتى جاء نيوتن فكشف عن قانون الجاذبية وعن قوانين الحركة في الأفلاك وفي الأجسام المادية حيثما تكون، وكشف العلم عن حقائق جسم الإنسان كما كشف عن حقائق الأجسام الصماء، فعرف حقيقة الدورة الدموية واجترأ على تشريح البنية الحيوانية للعلم بوظائف الأعضاء.
كان معنى عصر النهضة، أو عصر الرشد، اعترافا بحق الإنسان في التفكير وحقه في الحياة، وتمثل هذا الحق في كل شعبة من شعب الفكر وكل غرض من أغراض الحياة: تمثل في الحياة الروحية كما تمثل في الحياة الجسدية، فانتشرت الثورة على التقليد والتسليم، وانتشرت معها المذاهب الدينية التي تبيح للعقل أن يراجع السلطان فيما يمليه عليه من قواعد الإيمان، ولا توجب عليه أن يدين بما يملى عليه بغير سؤال ولا برهان.
وانتشرت الثورة على التقليد في شؤون العلم والحكمة كما انتشرت الثورة على التقليد في شؤون العقيدة وشعائر الدين، وكان الناس قد نسوا أن المعلم الأول - أرسطو - هو القائل: إنني أجل أفلاطون، ولكن الحقيقة أعظم من أفلاطون، فوقفوا بالحقيقة كلها عند مقولات أرسطو التي تناقلوها جيلا بعد جيل، ثم جمدوا على ما فهموه خطأ من أقواله ولم يقصده ولا خطر بباله، فلما ثبت لهم حق الفكر قام منهم من يقول إن الحقيقة أكبر من أرسطو وإن ميدان المعرفة يحيط بأمور لم يحط بها المعلم الأول في زمانه. •••
ومما ساعد على انتشار دعوة الإنسانيين أن كثيرا من اللاهوتيين المتقشفين المخلصين في زهدهم وإعراضهم عن الدنيا، كانوا يقبلون على دراسة الفلسفة والحكمة ويختبرون دراسات العلوم الطبيعية، وربما كان منهم من ينكر دعوة الإنسانيين إلى متاع الحياة واجتناب معيشة النسك والشظف، ولكنهم كانوا في ثورتهم الفكرية على قيود الدراسة أشد وطأة على «السلطة الدينية» من دعاة الإنسانيين.
على أن هؤلاء النساك المشتغلين بالفلسفة كانوا يؤيدون دعوة الإنسانيين إلى متاع الحياة من طريق آخر؛ لأنهم كانوا يشنون الغارة على أصحاب الرئاسات من رجال الدين المنعمين الذين كانوا يذكرون الزهد بألسنتهم ولا يتكلفون في معيشتهم، فكانوا بمسلكهم هذا في الخفاء والعلانية حجة «فعلية» على قوة الدعوة إلى الحياة ومغالبتها لمن يصطنعون إنكارها والزراية عليها أمام أعين الناس.
وكانت البلاد الأوروبية تموج بالوعاظ من زمرة النساك الدارسين، فلا تخلو أمة في القارة ولا في الجزر البريطانية من واعظ جهير الصوت عنيف الحملة على البذخ والنفاق بين ذوي الرئاسات من رجال الدين، وكان أعنفهم حملة في أوائل القرن الرابع عشر أتباع الواعظ الفيلسوف وايكليف
Wycliffe
ناپیژندل شوی مخ