3
قبل أن أرى كوبا لم يلتق بصري بجوزيه مارتي حق اللقاء، فلا لقاء له قبل لقاء وطنه ومآلف حياته، وإن رجلا لا بطانة له من نفسه أو من أنفسنا، لهو ذات ضائعة بغير ملامح وأوصاف، وسبيلي على الدوام أن أفتش عن بطانة وراء الأنفس، أو وراء الأشياء؛ فإن البطانة تكشف عن الكيان الصادق، وعن أطوار ذلك الكيان لشيء أو لإنسان، فإن لم أجد ما أفتش عنه فمن الخير أن أقنع بصورة لإنسان شفاف، أو لكائن شفاف.
ولقد رأيت مارتي الذي في كتبه، أو مارتي الذي في كتب المترجمين له، يوم رأيت مارتي في كوبا الخضراء الزرقاء الشمطاء بما يكتنفها من الشمس والماء وزوابع الهواء، وما يتناثر من الخيل منبسطا أو منزويا في واحة هنا وواحة هناك، وما يتفرق من أجم وأودية ونسمات وخلجان وجبال ملأى بما احتواه مارتي من طلاقة التقدم والنهوض.
من خلال هذا كله نفذت إلى مارتي في كتبه وكتب مترجميه.
إن ميجويل دي أنامونو وروبين داريو قد صنعا الكثير لتعريف إسبانيا بالمزيد من مارتي. مارتيهما الأثير لديهما، مذ كان مارتي خصم إسبانيا السيئة أخا لأولئك الإسبان، الذين يخاصمون إسبانيا عدو مارتي الغضبى عليه.
وداريو مدين له بالكثير.
وأنامونو مدين له بالجم المعدود.
وإسبانيا وأمريكا الإسبانية مدينة له بالمشاركة الشعرية من جانب الولايات المتحدة، وكان مارتي بهجراته إلى منفاه في نيويورك - وهي للإسبان الأمريكيين كباريس للإسبان الأوروبيين - أقدر من سعى لتقريب الولايات المتحدة من العالم الإسباني بين أصحاب الأقلام. وأحسب أن ويتمان - وهو أعرق أمريكية من مواطنه پو - إنما اقترب منا نحن الإسبان على يد مارتي الذي كتب مقاله عنه فأوحى إلى داريو تحيته إلى الشيخ الطيب، واجتذبني إلى شاعر بحيرات الخريف الرفيق العنيف.
وإن مارتي - بعد حياته لنفسه في نفسه لموطنه كوبا - ليحيا بشعره ونثره معا في نفس داريو الذي اعترف له بدينه منذ البداءة، وإن الذي تلقاه عنه ليدهشني اليوم بعد استيعابي لهذا وذاك. فيا له من عطاء! ويا له من قبول!
وأذكر منذ الطفولة، ولا أذكر أين، قرأت لمارتي هذه السطور:
ناپیژندل شوی مخ