" هذا كتاب السرائر " بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي الحمد لله الذي خلق الإنسان فعدله، وعلمه البيان ففضله، وألبسه الإيمان فجمله وعرفه الدين فكمله، أحمده على ستر أسبله، ونيل نوله، حمد معترف وله مطلق بالحمد مقوله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بكتاب نزله، وآي فصله ودين كمله، وشرع سبله، فاضطلع بما حمله، حتى حل بعضله من البهتان مشكله، وأرشد إلى الرحمن من جهله، وصلى الله عليه وآله ومن قبله ما كبر الله مكبر وهلله.
أما بعد فإن الفقه أجمل ما التحفته الهمة، وعرفته هذه الأمة، وما زالت صدور الصدور له محلا، ولباتهم به يتحلا، ومجتمعاتهم ميدان محله، ومكان رويته وارتحاله، يرشف فيه ثغورهم، ويخطف لديه نورهم، ثم تقلص ذلك البرد الضافي وتكدر ذاك الورد الصافي، وزهد في اقتناء المعارف، وعريت الهمم من تلك المطارف، وأصبح العلم قد دجت مطالعه، وخوي طالعه.
قال محمد بن إدريس رحمه الله: إني لما رأيت زهد أهل هذا العصر في علم الشريعة المحمدية والأحكام الإسلامية وتثاقلهم طلبها، وعداوتهم لما يجهلون، وتضييعهم لما يعلمون، ورأيت ذا السن من أهل دهرنا هذا لغلبة الغباوة عليه، وملكه الجهل لقياده، مضيعا لما استودعته الأيام، مقصرا في البحث عما يجب عليه علمه، حتى كأنه ابن يومه ونتيج ساعته، ورأيت الناشئ المستقبل ذا الكفاية والجدة مؤثرا للشهوات، صادفا عن سبل الخيرات، ورأيت العلم عنانه في يد الامتهان، وميدانه قد عطل من الرهان، تداركت منه الذماء الباقي،
مخ ۴۱
وتلافيت نفسا بلغت التراقي، وحبوت أهله مع معرفتي بفضل إذاعته إليهم، وفرط بصيرتي بما في إظهاره لديهم، من الثواب الجزيل، والذكر الجميل، والأحدوثة الباقية على مر الدهور، فلم يصان العلم بمثل بذله، ولن تستبقي النعمة فيه بمثل نشره.
قال بعض العلماء مادحا للعلم، وتخليده في الكتب " والكتاب قد يفضل صاحبه ويقدم مؤلفه، ويرجح قلمه على لسانه، وعقله على بيانه بأمور:
منها: إن الكتاب يقرأ بكل مكان، ويظهر ما فيه على كل لسان، ثم يوجد مع كل زمان على تفاوت ما بين الأعصار وتباعد ما بين الأمصار، وذلك أمر يستحيل في واضع الكتاب، والمنازع بالمسألة والجواب، ومناقلة اللسان وهدايته لا يجوزان مجلس صاحبه، ومبلغ صوته، وقد يذهب الحكيم وتبقى كتبه، ويفنى العاقل ويبقى أثره، ولهذا أثر الجلة من المحققين، وأهل العبر والفكرة من الديانين، وضع الكتب والاشتغال بها، واجتهاد النفس في تخليدها وتوريثها، على صوم النهار وقيام الليل، ولولا ما رسمت لنا الأوائل في كتبها، وخلدت من عجائب حكمتها، ودونت من أنواع سيرها حتى شاهدنا بها ما غاب عنا، وفتحنا بها كل مستغلق كان علينا، فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم، وأدركنا ما لم نكن ندركه إلا بهم، لقد خس حظنا من الحكمة، وصعبت سبلنا إلى المعرفة، ولو ألجئنا إلى قدر قوتنا، ومبلغ خواطرنا، ومنتهى تجاربنا لما أدركته حواسنا، وشاهدته نفوسنا، لقد قلت المعرفة، وقصرت الهمة، وانتقصت المنة، وعاد الرأي عقيما، والخاطر سقيما، ولكل الحد وتبلد العقل، فإن الكتاب نعم الذخر والعقد، ونعم الجليس والعقدة، ونعم النشرة والنزهة، ونعم المشتغل والحرفة، ونعم الأنيس في ساعة الوحدة، ونعم المعرفة ببلاد الغربة، ونعم القرين والرحيل، ونعم الوزير والنزيل.
والكتاب وعاء ملئ علما، وظرف حشي طرفا، وإناء شحن مزاحا وجدا، إن شئت كان أبين من سحبان وآيل، وإن شئت كان أعني من ناقل، وإن شئت ضحكت من نوادره، وإن شئت أشجتك مواعظه، ومن لك بواعظ
مخ ۴۲
ملهي، وبزاجر مغري، وبناسك فاتك، وبناطق أخرس، وبمؤنس لا ينام إلا بنومك، ولا ينطق إلا بما تهوى، آمن من في الأرض، وأكتم للسر من صاحب السر، وأضبط لحفظ الوديعة من أرباب الوديعة.
وقال ذو الرمة لعيسى بن عمر اكتب شعري: فالكتاب أعجب إلي من الحفظ، إن الأعرابي ينسى الكلمة وقد سهرت في طلبها ليلة، فيضع في موضعها كلمة في وزنها، ثم ينشده الناس، والكتاب لا ينسى ولا يبدل كلاما بكلام.
قال والكتاب هو الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يغريك، والرفيق الذي لا يملك والمستميح الذي لا يستزيدك، والجار الذي لا يستبطئك، والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالملق، ولا بالمكر، ولا يخدعك بالنفاق، ولا يحتال لك بالكذب، والكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال إمتاعك، وشحذ طباعك، وبسط لسانك، وجود بيانك، ومنحك تعظيم العوام، وصداقة الملوك، وعرفت به في شهر ما لا تعرفه من أفواه الرجال في دهر، والكتاب هو الذي يطيعك بالليل طاعته بالنهار، ويطيعك في السفر طاعته في الحضر، لا يقبل بنوم، ولا يعتريه كلال السهر.
قال: قال أبو عبيدة: قال المهلب لبنيه في وصيته: يا بني لا تقوموا في الأسواق إلا على زراد (1) أو وراق.
قال: وحدثني صديق لي قال: قرأت على شيخ شامي كتابا فيه مآثر غطفان فقال لي: ذهبت المكارم إلا من الكتب.
قال: وسمعت الحسن اللؤلؤي يقول: غبرت أربعين سنة ما قلت ولا بت إلا والكتاب موضوع على صدري، قال: والإنسان لا يعلم حتى يكثر سماعه،
مخ ۴۳
ولا يعلم ولا يجمع ولا يختلف حتى يكون الإنفاق عليه من ماله ألذ عنده من الإنفاق من مال عدوه، ومن لم يكن نفقته التي تخرج من الكتب، ألذ عنده من إنفاق عشاق القيان (1)، والمستهترين بالبنان لم يبلغ في العلم مبلغا رضيا، وليس ينتفع بإنفاقه حتى يؤثر اتخاذ الكتب إيثار الأعرابي فرسه باللبن على عياله، وحتى يؤمل في العلم ما يؤمل الأعرابي في فرسه ولأن سخاء النفس بالإنفاق على الكتب دليل على تعظيم العلم، وتعظيم العلم دليل على شرف النفس، وعلى السلامة من سكر الآفات.
قال محمد بن إدريس رحمه الله: وقد روي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: قيدوا العلم بالكتابة (2) فحداني ما حكيته، وبعثني ما أوردته على أن أجيل قدحي في ربابتهم، وأقتفي أثر جماعتهم.
واعلم أبقاك الله وأيدك بالتوفيق، أنه ليس لمن أتى في زماننا هذا بمعنى غريب وأوضح عن قول معيب، ورد شاردة خاطر غير مصيب، عند هؤلاء الأغمار الأغفال، وذوي النزالة والسفال، إلا أنه متأخر محدث، وهل هذا لو عقلوا إلا فضيلة له، ومنبهة عليه، لأنه جاء في زمان يعقم الخواطر، ويصدي الأذهان، ولله در المتنبي حيث يقول:
أتى الزمان بنوه في شبيبته * فسرهم وآتيناه على الهرم ولقد أحسن الحيص في قوله في هذا المعنى:
تفضلون قديم الشعر عن سفه الفضل في الفضل لا في العصر والدار وقال المبرد: ليس بقدم العهد يفضل القائل، ولا لحدثان العهد يهتضم المصيب، ولكن يعطى كل واحد منهما ما يستحق، فالعاقل اللبيب الذي يتوخى الإنصاف فلا يسلم إلى المتقدم إذا جاء بالردى لتقدمه، ولا يبخس
مخ ۴۴
المتأخر حق الفضيلة إذا أتى بالحسن لتأخره، وكأين نظر للمتأخر ما لم يسبقه المتقدم إليه ولا أتى بمثله: إما استحقاقا أو اتفاقا، فمن العدل أن يذكر الحسن ولو جاء ممن جاء، ويثبته للآتي به كائنا من كان، ولا ينظر إلى سبق المتقدم وتبع المتأخر، فإن الحكمة ضالة المؤمن على ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (1) والخبر المشهور عن أمير المؤمنين عليه السلام من قوله: انظر إلى ما قال ولا تنظر إلى من قال (2). ولا تغتر أيها اللبيب وتركن إلى قول ابن الرقاع، فإنه ختار ذو خداع وقد ذكر عثمان بن جني النحوي في كتاب الخصائص قال: قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: ما على الناس شر أضر من قولهم: ما ترك الأول للآخر شيئا، وقال الطائي الكبير يقول: من يطرق أسماعه كم ترك الأول للآخر، بل تمسك بقول أمير المؤمنين عليه السلام: أعرف الحق تعرف أهله (3)، وأحسن الحديث والاستشهاد كتاب الله، فإنه مدح قوما بقوله: " الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه " (4) وأني لأستحسن قول لبيد في هذا المعنى:
قوم لهم عرفت معد فضلها * والفضل يعرفه ذووا الألباب وقال ابن الرومي:
ومستخف بقدر الشعر قلت له * لا ينفق العطر إلا عند معطار وقال خلاد الأرقط: لقيني ابن مناذر بمكة، فأنشدني قصيدته: " كل حي لاقى الحمام فمودي " ثم قال: إقرأ أبا عبيدة السلام، وقل له: يقول لك ابن مناذر: اتق الله واحكم بين شعري وشعر عدي ابن زيد، ولا تقل ذاك جاهلي وهذا إسلامي، فتحكم بين العصرين، ولكن أحكم بين الشعرين ودع العصبية.
مخ ۴۵
وبعد هذا الإسهاب، أطال الله بقاء من يقف على كتابي هذا، فيوسعني إنصافا أو يتركني، والميل على مع هواه كفافا، فإنه كتاب لم أزل على فارط الحال، وتقادم الوقت، ملاحظا له، عاكفا الفكر عليه، منجذب الرأي والروية إليه، وادا أن أجد مهلا (أضله) به، أو خللا أرتقه بعمله، والوقت يزداد بنواديه ضيقا، ولا ينهج لي إلى الابتداء طريقا.
هذا مع إعظامي له واعتصامي بالأسباب المشاطة إليه، فاعتقادي فيه أنه من أجود ما صنف في فنه، وأسبقه لأبناء سنه، وأذهبه في طريق البحث والدليل والنظر، لا الرواية الضعيفة والخبر، فأني تحريت فيه التحقيق، وتنكبت ذلك كل طريق، فإن الحق لا يعدو أربع طرق: إما كتاب الله سبحانه، أو سنة رسوله صلى الله عليه وآله المتواترة المتفق عليها، أو الإجماع، أو دليل العقل، فإذا فقدت الثلاثة، فالمعتمد في المسائل الشرعية عند المحققين الباحثين عن مأخذ الشريعة التمسك بدليل العقل فيها، فإنها مبقاة عليه وموكولة إليه، فمن هذا الطريق يوصل إلى العلم بجميع الأحكام الشرعية في جميع مسائل أهل الفقه، فيجب الاعتماد عليها، والتمسك بها، فمن تنكب عنها عسف، وخبط خبط عشواء، وفارق قوله من المذهب، والله تعالى يمدكم وإيانا بالتوفيق والتسديد، ويحسن معونتنا على طلب الحق وإثارته، ورفض الباطل وإبادته، فقد قال السيد المرتضى رضي الله عنه وذكر في جواب المسائل الموصليات الثانية الفقهية، وقدم مقدمة وأشار وأومأ إليها أن تكون هي الأدلة على جميع جوابات مسائلهم، اكتفي بها عن الدلالة في تضاعيف الجوابات، فقال: اعلم أنه لا بد في الأحكام الشرعية من طريق يوصل إلى العلم بها لأنا متى لم نعلم الحكم ونقطع بالعلم على أنه مصلحة، جوزنا كونه مفسدة، فيقبح الإقدام منا عليه، لأن الإقدام على ما لا نأمن كونه فسادا وقبيحا كالإقدام على ما نقطع على كونه فسادا، ولهذه الجملة أبطلنا أن يكون القياس في الشريعة الذي يذهب مخالفونا
مخ ۴۶
إليه طريقا إلى الأحكام الشرعية، من حيث كان القياس يوجب الظن، ولا يفضي إلى العلم. ألا ترى إنا نظن بحمل الفرع في التحريم على أصل محرم بشبه يجمع بينهما أنه محرم مثل أصله، ولا يعلم من حيث ظننا أنه يشبه المحرم إنه محرم، ولذلك أبطلنا العمل في الشريعة بأخبار الآحاد، لأنها لا توجب علما ولا عملا، وأوجبنا أن يكون العمل تابعا للعلم، لأن خبر الواحد إذا كان عدلا فغاية ما يقتضيه الظن لصدقه، ومن ظننت صدقه يجوز أن يكون كاذبا، وإن ظننت به الصدق، فإن الظن لا يمنع من التجويز، فعاد الأمر في العمل بأخبار الآحاد إلى أنه إقدام على ما لا نأمن كونه فسادا وغير صلاح. قال: وقد تجاوز قوم من شيوخنا رحمهم الله في إبطال القياس في الشريعة، والعمل فيها بأخبار الآحاد إلى أن قالوا: إنه مستحيل من طريق العقول العبادة بالقياس في الأحكام، وأحالوا أيضا من طريق العقول العبادة بالعمل بأخبار الآحاد، وعولوا على أن العمل يجب أن يكون تابعا للعلم، وإذا كان غير متيقن في القياس وأخبار الآحاد لم تجز العبادة بهما، قال: والمذهب الصحيح هو غير هذا، لأن العقل لا يمنع من العبادة بالقياس والعمل بخبر الواحد، ولو تعبد الله تعالى بذلك لشاع ولدخل في باب الصحة، لأن عبادته تعالى بذلك توجب العلم الذي لا بد أن يكون العمل تابعا له، فإنه لا فرق بين أن يقول عليه السلام: قد حرمت عليكم كذا وكذا فاجتنبوه، وبين أن يقول: إذا أخبركم عني مخبر، له صفة العدالة، بتحريمه فحرموه، في صحة الطريق إلى العلم بتحريمه، وكذلك إذا قال: لو غلب في ظنكم شبه بعض الفروع ببعض الأصول في صفة، يقتضي التحريم فحرموه، فقد حرمته عليكم لكان هذا أيضا طريقا إلى العلم بتحريمه، وارتفاع الشك والتجويز، وليس متناول العلم هنا هو متناول الظن على ما يعتقده قوم لا يتأملون، لأن متناول الظن هاهنا هو صدق الراوي إذا كان واحدا، ومتناول العلم هو تحريم الفعل المخصوص الذي تضمنه الخبر، وما علمناه
مخ ۴۷
غير ما ظنناه وكذلك في القياس متناول الظن شبه الفرع بالأصل في علة التحريم، ومتناول العلم كون الفرع محرما، وإنما منعنا من القياس بالشريعة وأخبار الآحاد مع تجويز العبادة بهما من طريق العقول، لأن الله تعالى ما تعبد بهما ولا نصب دليلا عليهما، فمن هذا الوجه أطرحنا العمل بهما، ونفينا كونهما طريقين إلى التحريم والتحليل.
قال المرتضى قدس الله روحه: وإنما أردنا بهذه الإشارة أن أصحابنا كلهم، سلفهم وخلفهم، ومتقدمهم ومتأخرهم، يمنعون من العمل بأخبار الآحاد، ومن العمل بالقياس في الشريعة، ويعيبون أشد عيب على الذاهب إليهما، والمتعلق في الشريعة بهما، حتى صار هذا المذهب لظهوره وانتشاره معلوما، ضرورة منهم وغير مشكوك فيه من أقوالهم.
قال المرتضى رضي الله عنه: وقد استقصينا الكلام في القياس، وفرعناه وبسطناه، وانتهينا فيه إلى أبعد الغايات في جواب مسائل، وردت من أهل الموصل متقدمة، أظنها في سنة نيف وثمانين وثلاثمائة، فمن وقف عليها استفاد منها جميع ما يحتاج إليه في هذا الباب. قال: وإذا صح ما ذكرناه، فلا بد لنا فيما ثبتناه من الأحكام فيما نذهب إليه من ضروب العبادات، من طريق يوجب العلم ويقتضي اليقين. قال: فطريق العلم في الشرعيات هي الأقوال التي قد قطع الدليل على صحتها، وأمن العقل من وقوعها على شئ من جهات القبح كلها، كقول الله عز وجل، وكقول الرسول عليه السلام، والأئمة الذين يجرون في العصمة مجراه عليه السلام، ولا بد لنا من طريق إلى إضافة الخطاب إلى الله تعالى إذا كان خطابا له، وكذلك في إضافته إلى الرسول وإلى الأئمة عليهم السلام. قال: وقد سلك قوم في إضافة خطابه إليه تعالى طرقا غير مرضية، وأصحها وأبعدها من الشبه، أن يشهد الرسول صلى الله عليه وآله المؤيد بالمعجزات في بعض الكلام أنه كلام الله تعالى، فيعلم بشهادته أنه كلامه،
مخ ۴۸
كما فعل نبينا صلى الله عليه وآله في القرآن فعلمنا بإضافته له إلى ربه أنه كلامه، فصار جميع القرآن دالا على الأحكام، وطريقا إلى العلم.
فأما الطريق إلى معرفة كون الخطاب، مضافا إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام فهو المشافهة والمشاهدة لمن حاضرهم وعاصرهم، فأما من نأى عنهم، أو وجد بعدهم ، فمن الخبر المتواتر المفضي إلى العلم المزيل للشك والريب، وهاهنا طريق آخر يتوصل به إلى العلم بالحق، والصحيح في الأحكام الشرعية، عند فقد ظهور الإمام، وتمييز شخصه، وهو إجماع الفرقة المحقة، وهي الإمامية التي قد علمنا أن قول الإمام - وإن كان غير متميز الشخص - داخل في أقوالها، وغير خارج عنها، فإذا أطبقوا على مذهب من المذاهب علمنا أنه هو الحق الواضح، والحجة القاطعة، لأن قول الإمام هو الحجة في جملة أقوالها، فكأن الإمام قائله ومتفرد به.
ثم قال السيد المرتضى بعد شرح وإيراد طويل حذفناه: فإن قيل: فما تقولون في مسألة شرعية اختلف فيها قول الإمامية، ولم يكن عليها دليل من كتاب أو سنة مقطوع بها، كيف الطريق إلى الحق فيها؟ قال: قلنا هذا الذي فرضتموه قد أمنا وقوعه، لأنا قد علمنا أن الله تعالى لا يخلي المكلف من حجة وطريق للعلم بما كلفه، وهذه الحادثة التي ذكرتموها إذا كان لله تعالى فيها حكم شرعي، واختلفت الإمامية في وقتنا هذا، فلم يمكن الاعتماد على إجماعهم الذي يتفق بأن الحجة فيه لأجل وجود الإمام في جملتهم، فلا بد من أن يكون على هذه المسألة دليل قاطع، من كتاب أو سنة مقطوع بها، حتى يفوت المكلف طريق للعلم يصل به إلى تكليفه. اللهم إلا أن يفرض وجود حادثة ليس للإمامية فيها قول على سبيل اتفاق واختلاف، وقد يجوز عندنا في مثل ذلك إن اتفق أن يكون لله تعالى حكم شرعي، فإذا لم نجد في الأدلة الموجبة للعلم طريقا إلى علم حكم هذه الحادثة، كنا فيها على ما يوجب العقل وحكمه.
مخ ۴۹
قال السيد: فإن قيل أليس شيوخ هذه الطائفة قد عولوا في كتبهم في الأحكام الشرعية على الأخبار التي رووها عن ثقاتهم، وجعلوها العمدة والحجة في هذه الأحكام حتى رووا عن أئمتهم عليهم السلام فيما يجئ مختلفا من الأخبار عند عدم الترجيح كله، أن يؤخذ منه ما هو أبعد من قول العامة، وهذا ينقض ما قدمتموه.
قلنا: ليس ينبغي أن يرجع عن الأمور المعلومة، والمذاهب المشهورة، المقطوع عليها، بما هو مشتبه ملتبس محتمل، وقد علم كل موافق ومخالف: أن الشيعة الإمامية تبطل القياس في الشريعة من حيث إنه لا يؤدي إلى علم، وكذلك تقول:
في أخبار الآحاد حتى أن منهم من يزيد على ذلك، فيقول: ما كان يجوز من طريق العقل أن يتعبد الله تعالى في الشريعة بقياس، ولا عمل بأخبار الآحاد، ومن كان هذا مذهبه، كيف يجوز أن يثبت الأحكام الشرعية بأخبار لا يقطع على صحتها، ويجوز كذب رواتها كما يجوز صدقهم؟ وهل هذا إلا من أقبح المناقضة وأفحشها، والعلماء الذين عليهم المعول، ويدرون ما يأتون ويذرون ما يجوزون لم يحتجوا بخبر واحد لا يوجب علما، ولا يقدر أحد أن يحكي عنهم في كتاب ولا غيره خلاف ما ذكرناه، فأما أصحاب الحديث من أصحابنا، فإنهم رووا ما سمعوا وبما حدثوا به، ونقلوا عن أسلافهم، وليس عليهم أن يكون حجة ودليلا في الأحكام الشرعية، أو لا يكون كذلك، فإن كان في أصحاب الحديث من يحتج في حكم شرعي بحديث غير مقطوع على صحته، فقد زل ووهل، وما يفعل ذلك من يعرف أصول أصحابنا في نفي القياس والعمل بأخبار الآحاد حق معرفتها، بل لا يقع مثل ذلك إلا من غافل، وربما كان غير مكلف.
ألا ترى أن هؤلاء بأعيانهم قد يحتجون في أصول الدين من التوحيد والعدل والنبوة والإمامة بأخبار الآحاد، ومعلوم عند كل عاقل: أنها ليست بحجة في
مخ ۵۰
ذلك، وربما ذهب بعضهم إلى الجبر وإلى التشبيه، اغترارا بأخبار الآحاد المروية، ومن أشرنا إليه بهذه الغفلة يحتج بالخبر الذي ما رواه، ولا حدث به، ولا سمعه من ناقله فعرفه بعد بعدالة أو غيرها، حتى لو قيل له في بعض الأحكام: من أين أتيته وذهبت إليه؟ جوابه: لأني وجدته في كتاب الفلاني، ومنسوبا إلى رواية فلان بن فلان، ومعلوم عند كل من نفي العلم بأخبار الآحاد أو من أثبتها وعمل بها، أن هذا ليس بشئ يعتمد، ولا طريق يقصد، وإنما هو غرور وزور.
قال: فأما الرواية بأن يعمل بالحديثين المتعارضين بأبعدهما من مذهب العامة، فهو لعمري قد روي، وإذا كنا لا نعمل بأخبار الآحاد في الفروع، كيف نعمل بها في الأصول التي لا خلاف في أن طريقها العلم والقطع؟
قال السيد المرتضى رحمه الله: وإذا قد قدمنا ما احتجنا إلى تقديمه، فهو الذي يعتمد عليه في جميع المسائل الشرعية. هذا آخر كلام المرتضى رضي الله عنه حرفا فحرفا.
قال محمد بن إدريس: فعلى الأدلة المتقدمة أعمل وبها آخذ وأفتي وأدين الله تعالى ولا ألتفت إلى سواد مسطور، وقول بعيد عن الحق مهجور، ولا أقلد إلا الدليل الواضح، والبرهان اللائح، ولا أعرج إلى أخبار الآحاد، فهل هدم الإسلام إلا هي، وهذه المقدمة هي أيضا من جملة بواعثي على وضع كتابي هذا، ليكون قائما بنفسه، ومقدما في جنسه، وليغني الناظر فيه، إذا كان له أدنى طبع عن أن يقرأه من فوقه، وإن كان لأفواه الرجال معنى لا يوصل إليه من أكثر الكتب في أكثر الأحوال، وعزمت على أنه: إن مر في أثناء الأبواب مسألة فيها خلاف بين أصحابنا المصنفين رحمهم الله أومأت إلى ذلك، وذكرت ما عندي فيه، وما أعتمد عليه، وقادني الدليل إليه، وإن كان في بعض كتب أصحابنا كلام متضاد العبارة، متفق المعنى، أو مسألة صعبة القياد جموح لا تنقاد، أو كلمة لغوية أعربت عنها بالتعجيم، وأزلت اللبس فيها والتصحيف، وإن كان
مخ ۵۱
لبعض الأصحاب فتوى في كتاب له، أو قول قد رجع عنه في كتاب له آخر، ذكرته فإن كان قد أورده على جهة الرواية لا بمجرد العمل ذكرته، فكثيرا ما يوجد لأصحابنا في كتبهم ذلك، حتى أن قليل التأمل، ومن لا بصيرة له بهذا الشأن يحتج به، ويجعله اعتقادا له ومذهبا يدين الله تعالى به، أو قد ذكر ذلك وأودعه كتابه على جهة الحجاج على خصمه، لأنه عند خصمه حجة وإن لم يكن عنده كذلك، فقد قال الشيخ السعيد الصدوق أبو جعفر الطوسي (رضي الله عنه، وتغمده الله تعالى برحمته) ذكر ذلك في عدته جوابا لسؤال يسأل نفسه، فقال: ليس كل الثقات نقل حديث الجبر والتشبيه، ولو صح أنه نقله، لم يدل على أنه كان معتقدا لما تضمنه الخبر، ولا يمتنع أن يكون إنما رواه ليعلم أنه لم يشذ عنه شئ من الروايات، لا لأنه يعتقد ذلك وقال رضي الله عنه في هذا الكتاب المشار إليه: وقد ذكرت ما ورد عنهم عليهم السلام من الأحاديث المختلفة التي يختص الفقه في كتابي المعروف بالاستبصار، وفي كتابي تهذيب الأحكام، ما يزيد على خمسة آلاف حديث، وذكرت في أكثرها اختلاف الطائفة في العمل بها، وذلك أشهر من أن يخفى، حتى أنك لو تأملت اختلافهم في هذه الأحكام، وجدته يزيد على اختلاف أبي حنيفة والشافعي ومالك. هذا آخر كلام الشيخ أبي جعفر رحمه الله.
وذكر الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان رضي الله عنه في جواب سائل سأله فقال: كم قدر ما تقعد النفساء عن الصلاة؟ وكم مبلغ أيام ذلك؟ فقد رأيت في كتابك كتاب أحكام النساء أحد عشر يوما، وفي الرسالة المقنعة ثمانية عشر يوما، وفي كتاب الأعلام أحد وعشرين يوما، فعلى أيها العمل دون صاحبته؟ فأجابه بأن قال: الواجب على النفساء أن تقعد عشرة أيام، وإنما ذكرت في كتبي ما روي من قعودها ثمانية عشر يوما، وما روي في النوادر استظهارا بأحد وعشرين يوما، وعملي في ذلك على عشرة أيام، لقول الصادق
مخ ۵۲
عليه السلام: لا يكون دم نفاس زمانه أكثر من زمان الحيض. هذا آخر كلام الشيخ المفيد رحمه الله.
وقال الشيخ أبو جعفر رضي الله عنه في خطبة كتابه المبسوط: وكنت على قديم الوقت وحديثه متشوق النفس إلى عمل كتاب يشتمل على ذلك، تتوق نفسي إليه، فيقطعني عن ذلك القواطع، ويشغلني الشواغل، ويضعف نيتي أيضا فيه قلة رغبة هذه الطائفة فيه، وترك عنايتهم به، لأنهم ألفوا الأخبار، وما رووه من صريح الألفاظ حتى أن مسألة لو غير لفظها، وعبر عن معناها بغير اللفظ المعتاد لهم، تعجبوا منها وقصر فهمهم عنها، وكنت عملت على قديم الوقت كتاب النهاية، وذكرت جميع ما رواه أصحابنا في مصنفاتهم وأصولها من المسائل، وفرقوه في كتبهم، ورتبته ترتيب الفقه، وجمعت بين النظائر، ورتبت فيه الكتب على ما رتب للعلة التي بينتها هناك، ولم أتعرض للتفريع على المسائل، ولا لتعقيد الأبواب وترتيب المسائل وتعليقها، والجمع بين نظائرها، بل أوردت جميع ذلك أو أكثره بالألفاظ المنقولة، حتى لا يستوحشوا من ذلك، ثم قال مادحا لكتابه:
إذا سهل الله تعالى إتمامه، يكون كتابا لا نظير له في كتب أصحابنا، ولا في كتب المخالفين ثم قال: أما أصحابنا فليس لهم في هذا المعنى شئ يشار إليه، بل لهم مختصرات، وأوفى ما عمل في هذا المعنى كتابنا النهاية، وهو على ما قلت فيه.
فانظر أبقاك الله إلى كلام الشيخ رحمه الله وما قال في نهايته، واعتذاره عما أودعه فيها، وقوله: قصر فهمهم عنها يعني: أصحابه فكيف يحال على الرجل وينسب إلى أن جميع ما أورده حق وصواب لا يحل رده، ولا خلافه، ولا اعتبار بالعوام العثر الذين لا نظام لهم، ولا تحصيل عندهم، فإن فساد كل صناعة من فهم الأدعياء، وقلة الصرحاء، فطلاب الفقه كثير، ومحصلوه قليل، وخصوصا اليوم.
وقال الخليل بن أحمد رحمه الله: وقد كنا نعدهم قليلا وقد صاروا أقل من القليل وروي أن الدوري المحدث قال: أردت الخروج إلى البصرة، فصرت
مخ ۵۳
إلى أحمد بن حنبل، فسألته الكتاب إلى مشايخها، فكلما فرغ من كتاب قرأته، فإذا فيه وهذا فتى ممن يطلب الحديث، ولم يكتب من أصحاب الحديث، وأهل عصرنا رضوا بالاسم دون المسمى، وعزيمتي التلخيص والاختصار، والاقتصار فيما أورده على مجرد الفقه والفتوى، دون التطويل بذكر الأدعية والتسبيح، من الآداب الخارجة عن قانون الفقه وعموده، فالحاجة إلى ما ذكرنا أمس، ولأن في ما يوجد من ذلك في كتب العبادات كفاية وزيادة عليها، إلا أن يعرض مهم، يحتاج فيه إلى كشف وإيضاح، وتطويل وإفصاح وإيراد أدلة وأمثلة، فإني إذا شبهت شيئا بشئ، فعلى جهة المثال والتنبيه، لا على وجه حمل أحدهما على الآخر، فإن ذلك على أصولنا باطل، وقد رسمته بكتاب السرائر، الحاوي لتحرير الفتاوى، والله المستعان وعليه التكلان.
مخ ۵۴
كتاب الطهارة
مخ ۵۵
كتاب الطهارة باب في الباب الطهارة وجهة وجوبها وكيفية أقسامها وحقيقتها الطهارة في اللغة هي النظافة فأما في عرف الشرع فهي عبارة عن إيقاع أفعال في البدن مخصوصة على وجه مخصوص.
وبعضهم يحدها بأنها في الشريعة اسم لما يستباح به الدخول في الصلاة.
وهذا ينتقض بإزالة النجاسة عن ثوب المصلي وبدنه، لأنه لا يجوز له أن يستبيح الصلاة إلا بعد إزالة النجاسة التي لم يعف عنها الشرع، وإزالة النجاسة ليست بطهارة في عرف الشرع.
وأيضا قوله: اسم لما يستباح به الدخول في الصلاة يلوح بهذا القيد، أن كل طهارة لا يستباح بها الصلاة لا يسمى طهارة. وهذا ينتقض بوضوء الحايض لجلوسها في مصلاها، وهي طهارة شرعية وإن لم يجز لها أن تستبيح بها الصلاة.
وقد تحرز بعض أصحابنا في كتاب له مختصر وقال: الطهارة في الشريعة اسم لما يستباح به الدخول في الصلاة، ولم يكن ملبوسا أو ما يجري مجراه وهذا قريب من الصواب.
فإن قيل: فما معنى قولكم في حدكم إيقاع أفعال في البدن مخصوصة؟
قلنا: " في البدن " احتراز من الثياب وإزالة النجاسات العينية من البدن على ما مضى القول فيه.
وقولنا: " مخصوصة " أردنا الأفعال الواقعة في البدن، لا أبعاض البدن، ومواضع منه مخصوصة، لأن الغسل الأكبر يعم البدن، فلو أردنا بمخصوصة بعض مواضع البدن، أو مكانا منه مخصوصا، لا ينتقض ذلك، بل بمخصوصة راجعة إلى
مخ ۵۶
الأفعال الحالة الواقعة في البدن لا المحال وقولنا: " على وجه مخصوص " كونها على وجه القربة إلى الله سبحانه دون الرياء والسمعة، وما بنا حاجة إلى ما يستباح بها الصلاة، لما بيناه على ما ذهب إليه بعض المصنفين وهي على ضربين: كبرى وصغرى. وقال بعض أصحابنا في كتاب له:
وهي تنقسم إلى قسمين: وضوء وتيمم، وهذا غير واضح ولا تقسيم مستقيم، لأنه يؤدي إلى إسقاط الغسل الأكبر من البين. لأن الوضوء عندهم عبارة عن الطهارة الصغرى المائية دون الترابية التي هي التيمم، وقد رجع هذا القائل عن هذا التقسيم في كتاب آخر له.
والكبرى عبارة عن الأغسال، والصغرى عبارة عن الوضوء إذا فعلتا بالماء فالكبرى تعم جميع البدن غسلا، والصغرى تعم ستة أعضاء: ثلاثة مغسولة وثلاثة ممسوحة، وقول بعضهم: تعم أربعة أعضاء: عضوين مغسولين وعضوين ممسوحين، تساهل وتسامح وتجاوز، والحقيقة ما قلناه، فإذا فعلتا بالتراب إختصت الكبرى والصغرى بثلاثة أعضاء فقط، إلا أن للكبرى ضربتين وللصغرى ضربة.
والوضوء على ضربين: واجب وندب، فالواجب هو الذي يجب لأسباب الصلاة الواجبة، أو الطواف الواجب، لا وجه لوجوبه إلا بهذين الوجهين، والندب فإنه مستحب في مواضع كثيرة لا تحصى.
وأما الغسل فعلى ضربين أيضا، واجب وندب، فالواجب يجب للأمرين اللذين ذكرناهما، ولاستيطان المساجد، وللجواز في المسجدين، ومس كتابة المصحف، وغير ذلك مما الطهارة الكبرى شرط في فعله، هذه الجملة ذكرها بعض أصحابنا، فإنه قال: لدخول المساجد، وتحرزنا نحن بقولنا: ولاستيطان المساجد وللجواز في المسجدين، وهو لم يتحرز، لأن للجنب الدخول إلى المساجد
مخ ۵۷
مجتازا إلا المسجدين.
والذي عندي أن الغسل لا يجب ولا يكون نيته واجبة إلا للأمرين اللذين وجب الوضوء لهما فحسب، لأنه شرط في الصلاة وفعل من أفعالها، وكذلك الطواف فإذا لم يكن الصلاة ولا الطواف على المكلف واجبين، فلا يجب الغسل ولنا في هذا مسألة قد بلغنا فيها إلى أبعد الغايات وأقصى النهايات فمن أرادها وقف عليها من حيث أرشدناه، وربما أوردناها في باب الجنابة إن شاء الله تعالى.
فأما ما يوجب أو الغسل فسنبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى.
والطهارة بالماء هي الأصل وإنما يعدل عنها إلى الطهارة بالتراب عند الضرورة، وعدم الماء.
وتسمية التيمم بالطهارة صحيح لا خلاف فيه، لأنه حكم شرعي، لأن الرسول عليه السلام قال: جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا (1) وأخبارنا مملؤة بتسمية ذلك طهارة.
وينبغي أولا أن نبدأ بما تكون به الطهارة من المياه وأحكامها ثم نذكر بعد ذلك كيفية فعلها وأقسامها ثم نعقب ذلك بذكر ما ينقضها ويبطلها والفرق بين ما يوجب الوضوء والغسل ثم نعود بعد ذلك إلى أقسام التيمم على ما بيناه.
باب المياه وأحكامها كل ما استحق إطلاق هذه السمة التي هي قولنا ماء على اختلاف محاله وأسماء أماكنه وعذوبة في طعمه وملوحة فهو طاهر لا يمتنع من التطهير به
مخ ۵۸
وشربه إلا أن يعلم فيه نجاسة فيحظر استعماله أو يتغير عن حاله، لما يقتضي إضافته وتقييد الاسم المطلق له، فلا يجوز حينئذ التطهر به وإن كان في نفسه طاهرا وهو على ضربين: طاهر، ونجس.
فالطاهر على ضربين: طهور وغير طهور.
ومعنى طهور: إنه مع طهارته يزيل الأحداث ويرفع حكمها بغير خلاف.
وهو على ثلاثة أضرب: مملوك ومباح ومغصوب.
فالقسمان الأولان: لا خلاف أنهما يزيلان النجاسة الحكمية والعينية، ومعنى الحكمية: ما يحتاج في رفعها إلى نية القربة. وقيل: ما لم يدركها الحس ومعنى العينية: ما لا يحتاج في رفعها وإزالتها إلى نية القربة. وقيل ما أدركها الحس.
وأما القسم الثالث: فلا خلاف بين أصحابنا أنه لا يرفع الحكمية. لأن الحكمية تحتاج في رفعها إلى نية القربة ولا يتقرب إلى الله سبحانه بالمعاصي والمغصوب. فأما رفع العينية به فيجوز ويزول وإن كان الإنسان في استعماله معاقبا لأن نية القربة لا تراعى في إزالة النجاسة العينية.
والطاهر الذي ليس بطهور: ما خالطه جسم طاهر فسلبه إطلاق اسم الماء واقتضى إضافته عليه أو اعتصر من جسم، أو استخرج منه أو كان مرقا سلبته المرقية إطلاق اسم المائية كماء الورد والآس والباقلا وما أشبه ذلك فهذا الماء طاهر في نفسه، غير مطهر لغيره، فإن خالطه شئ من النجاسات فقد نجس قليلا كان أو كثيرا بغير خلاف ولا اعتبار للكر هاهنا ولا يرفع به نجاسة حكمية بغير خلاف بين المحصلين.
وفي إزالة النجاسة العينية به خلاف بين الأصحاب والصحيح من المذهب أنها لا يزول حكمها به، وإن كان السيد المرتضى وجماعة من أصحابنا يذهبون إلى أنها يزول حكمها به.
مخ ۵۹
فأما الرد عليهم بقوله تعالى: " وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به " (1) فليس بشئ يعتمد، لأنه ليس في الآية أن غير الماء المنزل يطهرنا فهذا عند محققي أصول الفقه أخفض رتبة من دليل الخطاب، لأن الحكم تعلق بذكر عين لا حكم صفة والنص عندهم إذا تناول عينا بحكم لم يدل على أن ما عداها من الأعيان مخالف لها في ذلك هذا على مذهب القائلين بدليل الخطاب وعلى مذهب المبطلين له وإنما اخترناه لدليل غير هذا وهو أن النجاسة معلومة في الثوب والبدن بيقين فلا يزال إلا بيقين وإذا أزيلت بالماء المطلق يحصل اليقين وأيضا فالماء المضاف لاقى نجاسة، فنجس بملاقاتها فصار هذا الفعل تكثيرا للنجاسة وليس كذلك إزالتها بالماء المطلق، لأن لورود الماء على النجاسة حكما وليس كذلك ورود المضاف فإن أضيف إلى الماء المطلق المطهر جسم طاهر تغير به أحد أوصافه فهو باق على حكم التطهير به، ما لم يسلبه إطلاق اسم الماء عنه، لأن التغير غير السلب، لأن السلب هو غلبة الأجزاء المخالطة للماء حتى تسلبه إطلاق اسم الماء عنه وتخرجه عن معنى المياه.
والنجس هو الماء القليل الذي خالطه شئ من النجاسة، غيره أو لم يغيره أو الكثير، أو الجاري الذي تخالطه النجاسة، وتغير بعض صفاته من لون أو طعم أو ريح.
وحد الماء القليل ما نقص عن مقدار كر. وحد الكثير ما بلغ كرا فصاعدا.
وحد الكر ما وزنه ألف ومائتا رطل بالرطل العراقي وهو البغدادي على الصحيح من المذهب لأن بعض أصحابنا يذهب إلى أنه بالمدني من جملتهم المرتضى رضي الله عنه هذا إذا كان الاعتبار بالوزن. فأما إذا كان الاعتبار بمساحة المحل فبأن يكون محله ثلاثة أشبار ونصفا طولا في مثلها عرضا في مثل عمقا على الصحيح من المذهب.
وذهب بعض أصحابنا وهم القميون: إلى أنه يكون محله ثلاثة أشبار في
مخ ۶۰