وتقدم الشاب يطلب يدها، لم يكن ذا عمل ولا علم، بل ولا مال حتى ذلك الوقت، ولكنه كان أحد ابنين لرجل من كبار الموسرين. ولما علم جدي بموافقة الأب واستعداده لتكفل ابنه وأسرته، سر بالخطبة سرورا لا مزيد عليه، وفرح بجاه الأسرة العريق. وقيل له: إنه جاهل جهل العوام. فقال: وما حاجته إلى العلم؟! وقيل له: إنه بلا عمل. فقال: وما حاجته إلى العمل؟! بل قيل له صراحة: إنه شاب ذو أهواء جامحة، وإنه سكير عربيد! فقال إنه يعلم أنه شاب وليس براهب. ولم يكن جدي طماعا جشعا، ولكنه كان يروم السعادة لابنته، ويحسب أن المال كفيل بتحقيق تلك السعادة، هذا إلى تأثر باسم الأسرة التي تود مصاهرته، واطمئنان إلى سمعتها الكريمة، وفضلا عن ذلك كله فهو نفسه لم يكن حصل على الابتدائية، ولم يكن يخلو من ميل للشراب والمقامرة. وبذلك صارت كريمته حرما ل «رؤبة لاظ» أو «رؤبة بك لاظ» كما كان يدعى. وظن جدي أنه فرغ من الواجبات الملقاة على عاتقه بتزويجه أصغر كريمتيه. ولكن ما كاد ينقضي أسبوعان على ليلة الزفاف حتى عادت أمي إلى بيت جدي دامعة العينين كسيرة الفؤاد! وانزعج جدي انزعاجا شديدا، ولم يكد يصدق عينيه، ثم علم أن الشاب قد عاود سيرته الماضية في الحانات ولما يمض الأسبوع الأول من زواجه، وأنه كان يرجع إلى بيته عند مشرق الشمس، وأنه أوسعها ضربا في ذلك اليوم الذي غادرت فيه قصره! واستفظع جدي الأمر، وكان على تربيته العسكرية الصارمة رقيق القلب، ويحدب على ابنتيه حدبا عظيما؛ فغضب غضبا شديدا، ومضى لتوه إلى قصر لاظ، وصب جام غضبه على الشاب وأبيه معا، ولبثت أمي في بيت جدي حتى وضعت أختي الكبرى، وسعى نفر من أصدقاء الطرفين إلى إصلاح ذات البين، ووصل ما انقطع من حياة الزوجية، وكلل مسعاهم بالنجاح، فرجعت أمي وطفلتها إلى قصر لاظ مرة أخرى. وامتد مكثها به شهرين، ثم نفد صبرها فهجرته إلى بيت جدي مهيضة الجناح. والحق أنها لم تذق الراحة إلا أياما معدودات، ولكنها تصبرت وتجلدت عسى أن تصلح الأيام ما فسد من حاله، فلم يكن يزداد إلا فسادا، ولم تعد ترى فيه إلا سكيرا عربيدا لا يرعى لشيء حرمة، فأيست منه، ولاذت ببيت أبيها، وسعى الرجل إلى استردادها، مقرا بإدمانه الشراب، محاولا إقناع جدي بأنه من الممكن أن تستقيم الحياة الزوجية مع إدمان الشرب؛ ولكن جدي وقف منه موقفا صلبا فطلقها، ومرت أشهر فوضعت أمي أخي الأوسط، وعاشت في كنف أبيها متمتعة بعطفه وحنانه. ثم ترامت إليهم أنباء غريبة عن رؤبة لاظ تقول إن الفتى الطائش قد حاول في ساعة نزق وجزع أن يدس السم لأبيه متعجلا حظه من الميراث، ولكن الأب اكتشف الجريمة بوساطة الطباخ؛ فطرد ابنه من قصره، ووقف نصف ثروته لجهة خير، ووقف النصف الآخر على الابن الأكبر، ولعله لم يشأ أن يوقفها كلها للأخ الأكبر حتى لا يوغر صدر ابنه الشرير عليه فيعرضه بذلك لأذاه ... واستيقظ رؤبة لاظ بعد حلم طويل بالثروة الواسعة على فقر نسبي، فلم يعد يملك من حطام الدنيا إلا ربع وقف ورثه في ذلك الوقت عن أمه - وهي غير أم أخيه - يقارب الأربعين جنيها شهريا، وبيتا ذا طابقين في الحلمية انتقل إليه بعد طرده من قصر لاظ. وأثارت تلك الأنباء شجنا في بيت جدي صفقت له ضلوع الذين يشفقون على مستقبل الوليدين الصغيرين، فقد تضاءلت نفقتهما، وتجهم مستقبلهما. وتشاور جدي وجدتي وأمي في الأمر، وانتهى بهم تبادل الرأي إلى أن يقابل جدي «لاظ الكبير»، وأن يستعطف قلبه للوليدين البريئين حتى يغير وصيته لصالحهما. ومضى جدي إلى قصر لاظ، وحادث الرجل فيما جاء من أجله، ولكنه وجد منه قلبا قاسيا وأذنا صماء، ولعن بمحضره الابن وذريته، فعاد جدي محزونا ثائرا.
وكان من سخرية الأقدار أن مات لاظ بك في نفس العام الذي سعى ابنه فيه إلى القضاء عليه. وانقضى من الدهر سبعة أعوام، فبلغت أختي «راضية» الثامنة، وبلغ أخي مدحت السابعة أو نحو ذلك. وفي ذلك التاريخ حدث ما غير مجرى حياة أسرتنا الهادئ. وشاءت الأقدار أن يتم ذاك التغير بحادثة تافهة مما يعرض في الطريق؛ إذ كان جدي يغادر ناديا للقمار بشارع عماد الدين قبيل الفجر بقليل، فرأى نفرا من السوقة يلتفون بأفندي ويوسعونه ضربا وهو يتخبط بينهم هائجا مترنحا، فبادرهم هاتفا أن يكفوا عنه، ومضى صوبهم غاضبا، ثم لحق به شرطي على الأثر! وما كاد النفر يتفرقون حتى رأى جدي رؤبة لاظ في حالة سكر بين، وقد سال الدم من أنفه. ودهش جدي وتولاه الارتباك من وقع الدهشة، ولكنه تقدم من الرجل دون تردد وسنده بذراعه وهو يوشك أن يقع. كان ما مضى قد سحب النسيان عليه ذيوله أو كاد، وكان الرجل من الناحية الأخرى يوالي إرسال النفقة لوليديه على استهتاره وعربدته، فلم يكن بين الرجلين عداء. ودعاه جدي إلى «حنطوره» فأطاع، وأمر جدي السائق بالذهاب إلى الحلمية، وخيم عليهما في الطريق صمت عجيب، فلم ينبس أحدهما بكلمة، ولما بلغت العربة البيت أوسع له جدي لينزل، ولكنه أمسك بذراع الرجل ودعاه إلى بيته، واعتذر جدي بتأخر الوقت؛ ولكن الآخر لم يقبل اعتذاره وأبى إلا أن ينزل معه، وكان ما يزال ثملا مخمورا، فأذعن جدي على رغمه، فمضيا معا إلى حجرة الاستقبال، وخيوط الفجر الزرقاء تنشب في الظلماء. وارتمى رؤبة لاظ على مقعد، وجذب جدي فأجلسه على مقعد قريب، وسرعان ما ولى عنه سكوته فغلبه الانفعال والتأثر وراح يقول بلسان ثقيل حلت الخمر والانفعال عقدته: أرأيت الأوباش كيف انهالوا علي لكما وصفعا؟! .. أرأيت إلى الإهانة البالغة تنزل بكرامتي، وأنا رؤبة بن لاظ، ربيب القصر العتيق؟! هذه هي الدنيا يا عماه .. وما بالي أدعوك بعمي؟ لقد جاوزت الأربعين ولم تعد أنت الخمسين إلا بقليل، فما أحراني أن أدعوك بأخي، ولكني أدعوك عمي احتراما وإجلالا، فإنك بمنزلة أبي .. أستغفر الله، أنت أعظم من ذلك وأجل، لا تؤاخذني بما أنطق من لفظ، واللفظ شيء تافه، أما ركلي بأقدام الأوباش فشيء خطير، أليس كذلك؟! لقد مات أبي غاضبا علي، ويقولون إنه لا يظفر بالسعادة من حرم رضاء الوالدين، أحقا هذا يا عماه ؟! حتى ولو كان أحد الوالدين أبي؟! رباه، لقد سئمت هذه الحياة، إنها حمى وهذيان وجنون متواصل، لشد ما تتوق نفسي إلى الهدوء والطمأنينة، أليس هذا هو الندم؟! امدد إلي يدك يا عماه، ولنقسمن معا بهذا الفجر الطالع أن نبدأ حياة جديدة لا إثم فيها ولا فجور، رد إلي زوجي وطفلي وأسكني أسرتي .. هلم! واشتد احمرار عينيه حتى ظنه جدي باكيا، ولم يجد بدا من أن يطيب خاطره. وعندما انطلق به الحنطور صوب المنيل وقد تحرك سطح الأرض رويدا بالأفواج الأولى من الساعين إلى الرزق، أغمض عينيه في ارتياح، وتفكر في الأمر مليا، وكان يود أن يرى ابنته سيدة لبيت يخصها. وفي نفس الشهر ردت أمي إلى زوجها السابق واجتمع شمل الأسرة. ولكن لم تدم هذه الحياة الجديدة إلا أسبوعين! بل لعلها لم تدم إلا يوما واحدا، وتحملت أمي بقيتها صابرة متصبرة حتى أقضها الإشفاق على طفليها من شر السكير العربيد، فحملتهما وفرت إلى جدي المسكين. وثار الرجل ثورة عنيفة، ومضى لتوه إلى التائب الزائف وانهال عليه تعنيفا وتقريعا وازدراء، واستمع الآخر إليه صامتا، ثم قال له إن زوجه هي الملومة؛ لأنها لا تود العيش معه، وإنه لا ذنب له إلا أنه يسكر! وغادره جدي يائسا وبيده شهادة الطلاق. انقطعت حياة الزوجية إلى الأبد، وكنت أنا ثمرة تلك التوبة الكاذبة!
وقد سمعت جدي يمازحني يوما فيقول لي: «لقد جئت إلى هذه الدنيا نتيجة لحماقتي أنا دون سواي.» ولكن ما أكثر الذين جاءوا هذه الدنيا في أعقاب الحماقات! ونشأت في بيت جدي، فلم أعرف بيتا سواه، بل لم أعرف من الأهل غير جدي وأمي؛ لأني حين أخذت أعي ما حولي كان أبي قد استرد أخي وأختي، وكانت جدتي قد ماتت. ولم أعرف أن لي أبا إلا بلسان أمي، وحديثها المفعم مرارة وحزنا؛ فنمت كراهيتي له على الأيام. وقد أتم الرجل قسوته عليها فلم يكتف باسترداد ابنه وابنته، ولكنه حال بينهما وبين رؤية أمهما، فمرت الأعوام تلو الأعوام وهي لا ترى لهما أثرا . وترامت الأخبار إلينا تقول: إن الرجل يكاد يحبس نفسه دون العالم كله، فارا من الدنيا وما فيها بسكر متواصل، لا يفيق منه نهارا ولا ليلا.
4
كان بيت جدي بالمنيل مولدي وملعبي ودنياي. وكان يتكون من دورين كبيرين، نقيم في الأعلى منهما، وله فناء صغير. لست أريد التحدث عن البيت، ولكني أتلهف على استعادة الماضي، وما من ماض إلا وله بيت تحوم حوله ذكرياته. إن حياتي لا تنفصل عن ذاك البيت أبدا، ولن تنفصل عنه ما حييت، وما البيت ببناء وعمارة وهندسة، ولكنه برج ثابت في الزمان يأوي إليه حمام الذكريات الساجع بالحنين إلى ما انقضى من أعمارنا، فلأنقب في غيابات الماضي عن أقصى ما يستطيع أن يستقبله رأسي من موجات الذكريات، إني أغمض عيني متواريا عن عالم المحسوس؛ كي أهيئ لروحي سكينة تنطلق فيها إلى الماضي الخالد. ولأعترف أني شديد الحنين إلى الماضي، وقد بت في هذه الفترة الأخيرة أشد ما أكون حنانا إليه، ولعل ذلك مني ليس إلا توقا صريحا إلى الطفولة، وإني لأدرك ما في هذا الحنين والتوق من خطورة هي سر دائي الأسيف في الحياة، ومع أنني عشت حياتي متطلعا إلى ذلك الماضي - راضيا أو ساخطا - شديد الشعور بما يشدني إليه من رباط وثيق، إلا أنني أقف عاجزا حيال سجفه الكثيفة، ترتد ذاكرتي حسيرة عن أرق عهوده وأخطرها. ها أنا أغمض عيني في تشوف وتساؤل، فيعشو بصري إلى نور خافت، أرى يدي الصغيرة وهي تمتد إلى القمر من على كتف أمي. يا لها من ذكرى! ولكم تمتد أيدينا إلى أقمار ليست دون ذلك القمر منالا! وتعاودني ذكرى جهد مضن بذلته كي أزدرد حلمة الثدي فيصدني شيء مر مذاقه. وشارب جدي الهلالي وأناملي تشده في سرور لا مزيد عليه، وتحطيم أصص الزهور، وكيف هوت إحداها مرة من حافة الشرفة على ذراع البواب النوبي فكادت تكسرها. وكان من عادتي ألا أستلسم للنوم حتى أمتطي منكب أمي فتذهب بي وتجيء بطول البيت وعرضه، وكلما توانت حثثتها بقدمي. وكنت أرفل دائما في فساتين البنات، وشعري مسدل حتى المنكبين. وقد بدا لأمي يوما أن تهيئ لي بذلة عسكرية محلاة بالنجوم والنياشين، فارتديتها مسرورا، وقطعت البيت في عجب وخيلاء؛ ضابطا عظيما ذا ضفيرة تتهادى على ظهره! ولم يكن جدي يرتاح إلى ذلك التدليل المفرط، ولكنه لم يجد من وقته متسعا للإشراف على تربيتي؛ إذ كان يغادر الفراش عادة عند الظهر ولا يرجع إلى البيت من نادي القمار إلا قبيل الفجر. وكان من ناحية أخرى يشفق من تكدير أمي لسوء طالعها، ولأنه لم يبق له في شيخوخته سواها. عشنا ثلاثتنا وليس للأب إلا ابنته، وليس للأم إلا ابنها، وكانت أمي تهفو لذكريات أختي وأخي بعين دامعة وفؤاد كسير، وتتلهف على رؤيتهما ولو ساعة واحدة، ولم تجد في حزنها من عزاء سواي، فأودعتني حضنها، لا تحب أن أبرحه، وتود لو أجعل منه مرتعي ومراحي ودنياي جميعا. وهفت نسائم الحياة رخاء، فلم أدرك إلا بعد فوات الوقت أنه كان حنانا شاذا قد جاوز حده، ومن الحنان ما يهلك. كانت مصابة في صميم أمومتها فوجدت في أنا السلوى والعزاء والشفاء. كرست حياتها جميعا لي؛ أنام في حضنها، وأقضي نهاري على كتفها أو بين يديها، وحتى في الأويقات التي كانت تتعهد فيها شئون البيت لم أكن أفارقها، أو لم تكن تدعني أفارقها، وحتى في المطبخ كنت أمتطي منكبها مفترشا رأسها بخدي، متسليا بمشاهدة الطاهي وهو يشعل النار ويقطع اللحم ويخرط البصل، بل كنا نستحم معا فتحطني في طست عاريا، وتجلس أمامي متجردة، فأرشها بالماء وأقبض على رغوة الصابون النافشة على جسدها فأدلك به جسدي، ولم نكن نغادر البيت إلا قليلا؛ فصلتنا بآل أبي مقطوعة، وخالتي كانت تقيم في ذلك الوقت بالمنصورة مع زوجها، فإذا خرجت في النادر لزيارة إحدى الجارات اصطحبتني معها. على أننا كنا نواظب على زيارة السيدة زينب، ولعلها الزيارة الوحيدة التي كنا ننتظرها بفارغ صبر. ولم يكن يسيئها شيء مثل أن تثني علي امرأة من معارفها بما يثنى به على الأطفال عادة، فكانت تتطير من الثناء وترقيني من العين في إشفاق عميق. ومن عجب أني لا أذكر التعاويذ والرقى باستهانة أو ازدراء، وإني لمؤمن بها، بل إني لأومن بكل ما كانت تؤمن به أمي. وقد نلت من الثقافة حظا، وحصلت على البكالوريا، ولكن بقي لي إيماني القديم سالما غير منقوص، وهيهات أن يتزعزع إيماني بالله ورسله وأوليائه والدعوات والتعاويذ والأضرحة.
بيد أني لا أستطيع أن أقول إنني استكنت إلى تلك الحياة بلا تململ. ولعلي ضقت بها في أحايين كثيرة، وتطلعت إلى الحرية والانطلاق. ولعل ضيقي ذاك مضى يزداد بتدرجي في مدارج النمو؛ وآي ذلك أنها أقبلت تخوفني أشياء لا حصر لها لتردني عما أتطلع إليه من حرية وانطلاق، ولتحتفظ بي في حضنها على الدوام. ملأت أذني بقصص العفاريت والأشباح والأرواح والجان والقتلة واللصوص، حتى خلتني أسكن عالما حافلا بالشياطين والإرهاب، كل ما به من كائنات خليق بالحذر والخوف. ذاك عهد بعيد، ولكنه لا يزال حيا في صدري ودمي، وهو الذي جعل من الخوف جوهرا أصيلا في نفسي تدور حوله حياتي جميعا؛ فنغص علي صفوي، ورماني بتعاسة لا تريم، وما أنا إلا مخلوق خائف لولا قيد الجسد لفرت روحه ذعرا، وأخاف الناس، وأخاف الحيوان والحشرات، وأفرق من الظلام وما يرصدني من أوهامه، وأتحامى جهدي أن أنفرد بقط، وهيهات أن أنام في حجرة بمفردي. على أن الخوف كان أعمق في حياتي من هذه الأشياء التي يتمثل لي فيها، لقد استطال ظله الكثيف حتى أظل الماضي والحاضر والمستقبل، واليقظة والنوم، وأسلوب الحياة وفلسفتها، والصحة والمرض، والحب والكراهية، فلم يترك شيئا خالصا. وقد عشت جل حياتي الماضية غرا جاهلا لا أدري لتعاستي سببا، ثم جلت لي المحن جوانب من حياتي، هاتكة بقسوتها ما استتر من الخفايا الأسيفة، بيد أن شعوري بالعجز لا يفارقني، وهو يستند في الحق إلى قصور ثقافتي وضعف ثقتي في قواي العقلية. كانت أمي مبعث هذه الآلام؛ ولكنها كانت الملاذ الوحيد منها، فأويت إليها في غير حيطة ...
ومن ذكريات ذلك العهد التي لا تنسى، موقفنا - أنا وأمي - على قبر جدتي في المواسم نكلله بالرياحين ونقرأ الفاتحة مترحمين. وكنا نتحدث كثيرا عن القبور وأهل القبور، وكيف يرقدون، وكيف يستقبلون، وماذا يلقون من شدة وحساب، وكيف تنزل عليهم الآيات نورا يذهب وحشتهم ويلطف جفوتهم. ولما كان القبر قبر أم أمي فقد أحببته حبا جما. وكنت إذا وجدت منها غرة هرعت إلى جانب منه، أنشب في ثراه أظافري، وأحفر في عجلة لعلي أطلع على ذاك المجهول المنطوي تحت الأرض. ولشد ما كان يحز في نفسي أن أسمعها تردد: «إنا لله وإنا إليه راجعون» أو «آخرتنا التراب» أو «الموت نهاية كل حي»، فسألتها مرة في دهشة: سنموت جميعا؟!
فساءها السؤال، وحاولت أن تلهيني عنه، ولكني وقفت عنده لا أتزحزح فقالت: بعد عمر طويل إن شاء الله.
فرمقتها بإشفاق وسألتها مرة أخرى: وأنت يا أماه؟
فقالت لي وهي تداري ابتسامة: طبعا، سأموت يوما ما.
ناپیژندل شوی مخ