كانت أمي وحياتي شيئا واحدا، وقد ختمت حياة أمي في هذه الدنيا، ولكنها لا تزال كامنة في أعماق حياتي، مستمرة باستمرارها. لا أكاد أذكر وجها من وجوه حياتي حتى يتراءى لي وجهها الجميل الحنون، فهي دائما أبدا وراء آمالي وآلامي، وراء حبي وكراهيتي، أسعدتني فوق ما أطمع، وأشقتني فوق ما أتصور، وكأني لم أحب أكثر منها، وكأني لم أكره أكثر منها، فهي حياتي جميعا، وهل وراء الحب والكراهية من شيء في حياة الإنسان؟! فلأعترف بأني أكتب لأذكرها هي، ولأستعيد حياتها هي، بذلك تعود الحياة كلها، وبذلك أصل ما انقطع من حبل حياتي، لعل الأمل أن يتجدد في النجاة. يبدو لي كل شيء الساعة غامضا متواريا، كأن الشيطان يذر في عيني رمادا. ولكن مهلا، إني أتلمس سبيلي في صبر وأناة، ورائدي أمل الغريق في النجاة، ومن ورائي نية صادقة في تجديد حياتي وبعثها خلقا جديدا، ولئن شق علي الطريق أو تولاني القنوط، أو خذلني حيائي، فلن يبقى أمامي إلا الموت.
2
ما جزاء الميت - عندنا معشر الأحياء - إذا واراه التراب؟ أن نفر من ذكراه كما نفر من الموت نفسه! ولعل في هذا حكمة غالية، ولكن أنانيتنا تأبى إلا أن تضفي على هذه الحكمة أسفا حانقا مضحكا. ولقد فررت من بيتنا موليا كل شيء ظهري كالخائف المذعور، ثم مضيت أثوب إلى رشدي في هدوء نسبي، وأدرك هول الخطب الذي نزل بي، ففاض بي حنين موجع، وفزعت يداي إلى خزانة الذكريات فاستخرجت كل ما بقي منها؛ ألا وهي صورة!
هي صورة كبيرة يظهر فيها جدي جالسا على مقعد كبير، بجسمه الضخم وكرشه الكبير، وشاربه الأبيض كأنه هلال فوق فيه، في بذلته العسكرية المحلاة بالنياشين، وأقف أنا عند ركبتيه لا أكاد أجاوزهما إلا قليلا، أتطلع إلى عدسة المصور بعينين باسمتين، وقد التصقت شفتاي في توتر من يغالب ضحكة تغالبه. ووقفت أمي إلى يمين جدي، معتمدة بساعدها الأيسر مسند الكرسي الكبير، في فستان طويل يشتمل عليها من العنق إلى القدمين، ولا ينحسر من ساعديها إلا عن اليدين، بقامة طويلة، وجسم نحيل، ووجه مستطيل، وعينين واسعتين خضراوين، وأنف دقيق مستقيم، ونظرة حالمة تقطر حنانا ولا تخلو من بريق ينم عن الحيوية وحدة المزاج. يا له من وجه شاء الرحمن أن يكرره في وجهي؛ حتى لقد قيل إنه لا يفرق بيننا إلا الثياب! هذه صورة تطل علي من عالم الذكريات. ولقد ثبت عيني الملتهبتين على الوجه المحبوب طويلا؛ حتى لم أعد أرى شيئا سواه. كبرت قسماته في عيني حتى خلتني روحا صغيرا يعيش في أحضانها، واشتد ما يحيط بي من صمت فتهيأ لي أن هذا الفم المطبق سيفتر باسما ويسمعني من عذب الحديث ما العهد به غير بعيد. إن الصورة شيء عجيب، فكيف غابت عني هذه الحقيقة؟ هذه أمي بجسمها وروحها، هذه أمي بعينيها وأنفها وفمها، وهذا الصدر الحنون الذي التصقت به عمري. رباه .. كيف أقتنع بأنها رحلت عن الدنيا حقا؟! أجل إن الصورة شيء عجيب، ويبدو لي الآن أن كل شيء عجيب في هذه الدنيا، وقاتل الله العادة فهي التي تقتل روح العجب والإعجاب فينا. كانت هذه الصورة معلقة بحيث تراها العين في كل حين؛ بيد أني أراها الآن شيئا جديدا، أطالع في صفحتها حياة عميقة كأن نفحة من الروح الطليق قد استكنت بها، وأرى في هاتين العينين نظرة شاردة تبعث الألم. إن هذه الصورة حية بلا ريب، ولن أسترد بصري منها ولو جننت. عكفت عليها طويلا، ثم تملكتني رغبة قوية في تخيل حياة صاحبتها في جميع أطوارها من المهد إلى اللحد. تخيلتها طفلة تحبو، وصبية تلهو بعرائسها. ألا ليتها خلفت لي صورا أستعيد بها أحلام طفولتها السعيدة! ثم تخيلت عهد الشباب الرطيب، وهي غادة حسناء ترنو بطرفها الساجي إلى الأمل والسرور، وتلهو بلذة الفتوة المشبوبة. لقد عاصرت عهده الحلو، وكنت ثمرة لخصبه ونضارته، ومع ذلك فقد ضاعت معالمه وولت آثاره؛ غشيه الظلام كأنني لم أرتع حضنه وأرضع ثديه. وكنت إذا تخيلته فيما مضى من أيامي تخيلته في حيرة وقلق، وساءلت نفسي في خجل واستياء: ألم تنبض بدمه الحار تلك الرغبات الجامحة التي تستأثر الشباب؟! ولعل عاطفتي الغامضة تلك هي التي دفعتني في صباي إلى تمزيق الأثر الباقي لهذا الشباب الأول. فقد دخلت حجرة نومنا ذات يوم فجأة فوجدت أمي منكبة على درج مفتوح في صوان الملابس تنظر في شيء بين يديها، فاقتربت منها في خفة تحدوني شطارة الغلمان المدللين، وأدخلت رأسي تحت ذراعها المبسوطة، فرأيتها ممسكة بصورة عرسها! وبادرت تحاول إرجاعها إلى مخبئها؛ ولكني أمسكت بها في عناد، وحملقت فيها بدهشة، فرأيت شابا جالسا وأمي واقفة مستندة إلى كرسيه كالوردة الناضرة. وتعلقت عيناي بصورة الرجل، فأدركت أنه أبي، وإن كنت أراه أول مرة، بل أراه بعد أن امتلأ الفؤاد له خوفا وكراهية؛ وارتعشت يداي، واتسعت عيناي انزعاجا، ثم لم أدر إلا ويداي تمزقانها إربا، ومدت لي يدا تحاول استنقاذها، ولكني تغلبت عليها في حنق وهياج، فلبثت صامتة وقد لاح في عينيها الصافيتين الحزن والأسف. وكأنني لم أقنع بما فعلت فتصديت لها غاضبا وسألتها بلهجة تنم عن الاحتجاج: علام تأسفين؟!
فبسطت أسارير وجهها بشيء من الجهد وقالت: يا لك من طفل مشاكس! .. ألا ترى أني آسف على صورة شبابي؟ .. لقد مزقت صورة أمك وأنت لا تدري.
وكانت ذكرى تلك الحادثة تعاودني في فترات متباعدة فتحز في نفسي، وتملؤني حيرة وقلقا، فأمضي متسائلا عما دعاها حقا إلى الاحتفاظ بتلك الصورة؟! ولماذا أحزنها تمزيقها؟! ثم أحاول أن أنفذ بخيالي إلى ما فاتني من حياتها، فأنقلب متفكرا مغتما.
هكذا فقدت صورة الشباب الأول، وإنني لآسف على فقدانها - الآن - أسفا خالصا، ولكن أليس ذلك أسفا مضحكا بعد أن امتدت يدي إلى صاحبة الصورة نفسها فقضت عليها؟!
3
ولم أكن الحظ العاثر الوحيد الذي ابتليت به حياتها. روت لي يوما قصة زواجها في حذر وحرص شديدين، خاصة وهي تسرد الذكريات الباسمة على ندرتها، فكانت تذكرها في عجلة واقتضاب وتحرج، وكأنها في أعماقها تخشاني، أو كأنها أشفقت مني أن تخفف لطافة الذكرى من حدة كراهيتي لأبي.
على جسر إسماعيل رآها أبي أول مرة! وكان «الحنطور» ينطلق بأمي وجدي في بعض الأصائل للتنزه والفرجة، ففي مرة مر بهما «حنطور» يتربع بصدره شاب مزهو بشبابه وثرائه، أو على الأصح بما ينتظره من ثراء، فوقع بصره على وجهها، وسرعان ما وجه عربته في أعقابها حتى بيتنا في المنيل. وكانا كلما غادرا البيت صادفاه في الطريق وكأنه ينتظر. ولم أدع هذا الفصل من القصة يمر بي دون ملاحظة، فسألتها عن الغزل في تلك الأيام وكيف كان، وتلقت سؤالي بريبة وحذر، ولكني ما زلت بها حتى استنامت إلي، فاستسلمت لرقة الذكريات وقالت إنه كان يبعث إليها بنظرات تومض بالابتسام، أو يلتفت نحوها باهتمام وهو يفتل شاربه الغزير الأسود، بيد أنه لم يعد حدود الأدب قط. وتفكرت مليا، وتهت في بيداء الخيال الحالم، فعانيت أحاسيس الدهشة والحيرة والضيق، ثم رفعت إليها عيني - ولم يكن لنا من سلوى في تلك الأيام إلا مواصلة الحديث - وسألتها مبتسما عن كيف كانت تلقى تلك المقدمات الغزلية؟ ولم يخف عنها ما في سؤالي من خبث فتضاحكت، وكانت إذا ضحكت اهتز جسمها من الرأس إلى القدم. وقالت إنها كانت تتجاهله بطبيعة الحال، وتنظر فيما أمامها دون أن تلوي على شيء، وتظل على حالها كأنها تمثال ذو برقع أبيض! وداخلني شك، وقلت إني أسألها عن الباطن لا الظاهر، عن القلب لا الوجه! ونازعتني النفس إلى مصارحتها بما يدور في خلدي، ولكن خانتني الشجاعة، وعقلني الحياء، ولو رجعت إلى قلبي لعرفت الجواب، فهذا القلب من ذاك، يجري بهما دم واحد، ويسجعان عن خفقان واحد، فهل أنسى أني وقفت كثيرا كمثل التمثال والقلب شعلة نار؟!
ناپیژندل شوی مخ