وأدركت مراده فقبضت على اليد الممدودة إلي ولثمت ظاهرها، ورفعت إليه عيني فوجدته مبتسما، وسمعته يقول: مرحبا بالابن الذي لم يعرف أباه! .. ما شاء الله! (والتفت نحوي جدي مستدركا): صار رجلا وفرع أباه طويلا.
فضحك جدي ضحكته العظيمة وقال: أجل إنه رجل .. ولكن لا تثريب عليه إذا كان لم يعرف أباه!
وتفرس أبي في طولا وعرضا، ثم دعانا إلى الجلوس، فجلسنا على مقعدين متقاربين، وجلس على كنبة في الصدر وراء خوان من الخشب الأسود المطعم بالصدف وضعت عليه قارورة حمراء وكأس ووعاء صيني مليء ثلجا.
كانت القارورة مملوءة إلا قليلا، وكانت الكأس فارغة إلا قليلا. لم أكن رأيت الخمر أبدا ولكني أدركت توا أني حيال الشراب الملعون الذي فعل بأسرتنا الأعاجيب؛ وسرعان ما ملأني التقزز والنفور.
واستدرك جدي قائلا: أي نعم، ما ذنبه المسكين؟ .. إنه لم يعرف لنفسه أبا، ولا حيلة له في هذا، ولا داعي لإثارة ذكريات ولت. بيد أنني وجدته رجلا كما تقول، وقد حصل هذا العام على الابتدائية، وعما قليل يلتحق بالمدارس الثانوية، فاستنكرت أن يظل على جهله أباه، واقترحت عليه أن أقدمه لك، فرحب باقتراحي مسرورا، وها أنا قد فعلت والحمد لله.
وكانت عينا أبي لا تتحولان عني، فلم أتخفف من ارتباكي وحيائي. ولما ختم جدي كلامه لاحت في عينيه الشاردتين نظرة ارتياب وسألني: أحقا سرك أن تقدم إلي؟
فأجبته بصوت لا يكاد يسمع: نعم.
فسألني وهو ينظر إلي بمكر: أتحب أن تمكث معي؟!
وانقبض قلبي، ولاحت في عيني نظرة حائرة .. ما عسى أن أقول؟! إن وصايا جدي لا تزال تطن في أذني؛ ولكن هبني أجبت بالإيجاب فدعاني إلى البقاء معه، فكيف يكون المصير؟! كلا، لا يسعني هذا، وغضضت طرفي مطبقا شفتي ولم أنبس بكلمة. وقهقه أبي بصوت ارتعد له جدي وهو يحدجني بنظرة استياء: ترفق به يا رؤبة بك، إنه لم يفترق عن أمه قط، وليس أشق على النفس من تغيير عادة، ولكني أؤكد لك أنه سر جدا بتعرفه بك .. لا تأخذ عليه صمته وارتباكه، فإنه كالعذراء حياء.
فهز أبي رأسه الأصلع المستدير وفوه لا يزال منفرجا عقب القهقهة، وسألني فيما يشبه التحدي: هلا مكثت معي فترة من عطلتك؟! شهرا أو أسبوعين؟!
ناپیژندل شوی مخ