ثم تفكرت مليا، وقالت لي وهي تحدجني بنظرة غريبة: قابله إذا قابلته بأدب؛ فهو أبوك على أي حال، ولكن لا تنس فيما بينك وبين نفسك أنه هو الذي عذبنا جميعا.
وجرت على شفتي ابتسامة خفيفة لهذا التحذير الملفوف الذي لم أكن في حاجة إليه. ليس في وسعي أن أحب شخصا كرهه أبوه. ثم فكرت في تلك الزيارة المرتقبة بين ابن وأبيه لأول مرة، وحاولت أن أتخيل صورة لأبي، أو أن أتذكر صورته القديمة التي مزقتها بيدي؛ فلم أفلح .. وشعرت بنفور شديد من الزيارة، وتمنيت لو يعدل جدي عن رأيه.
ولكنه قرر أن نقوم بزيارتنا في صباح اليوم التالي، وقال لي وهو يستحثني: ينبغي أن نبكر في الذهاب إليه قبل أن يغيبه السكر!
وخرجنا معا، قطعنا الطريق إلى محطة الترام مشيا على الأقدام. ثم أخذنا الترام إلى العتبة، ومنها إلى الحلمية، ثم سرنا إلى شارع مبارك. وجعل يوصيني في الطريق بما ينبغي أن أتحلى به في حضرة أبي من الأدب والتودد. قال لي: أنت خجول جدا، منطو على نفسك، وأخاف أن يظن ما بك نفورا منه؛ فيبادلك نفورا بنفور، خصوصا وأنه لم يهتم يوما بحب إنسان، فانفض عنك الجمود ولاقه بالتودد والرقة والألفة.
ووقفنا أمام بيت كبير مكون من دورين، لا يبدو من دوره الأول إلا أعلاه لارتفاع سور البيت، وطرقنا بابا ضخما، ففتح عن صرير غليظ، وبرز لنا بواب نوبي طاعن في السن، فسلم على جدي باحترام وترحيب، وتنحى جانبا وهو يقول: رؤبة بك في السلاملك.
وسك الاسم مسمعي، فشعرت على رغمي بما يربطني بهذا البيت، وتملكتني رغبة مباغتة في الرجوع والتقهقر، ولكنها كانت رغبة لا سبيل إلى تحقيقها، ونظرت فيما أمامي فرأيت حديقة كبيرة، وسرعان ما سطعت أنفي رائحة الليمون الزكية. هي حديقة كبيرة تأخذ الناظر بضخامة أشجارها ما بين نخيل وليمون وتوت، ويزدحم جوها بالفروع والأغصان، وتغطى أرضها بالأوراق الجافة، وبها وبالجو المحيط بها مسحة حزن وكآبة انسربت إلى نفسي في غير إبطاء. وفي نهايتها يقع البيت. وقد بدا السلاملك مقاما على سوره جدار خشبي يحجب ما بداخله عمن في الحديقة. سبقنا البواب إلى الداخل ليستأذن للقادم، ثم عاد بعد قليل وهو يدعونا باحترام، وسار بين يدينا في ممشى من الفسيفساء. تبعت جدي في قلق يزداد بتوغلنا في الحديقة، وعندما أخذت في ارتقاء السلم جف حلقي من الاضطراب، وبدا أبي واقفا ينتظر، فألقيت عليه نظرة سريعة من وراء جدي.
كان وقتذاك في الستين من عمره، ربعة، بدينا وإن بدا في جلبابه الأبيض الفضفاض أبدن من الواقع بكثير، أبيض البشرة، محمر الوجه والعنق، منتفخ الأوداج، محتقن الوجه بالدم. أما قسمات وجهه فكبيرة واضحة في غير تنافر، أصلع الرأس، أسود العينين، وقد جحظت مقلتاه وتشابكت بهما خطوط حمر دقيقة كالشعيرات، وقلقت بهما نظرة زائغة شاردة خاملة بددت ما كانت ضخامته خليقة بأن تبعثه في النفس من رهبة. خامرني شعور بالغرابة والإنكار والنفور، وحقدت على جدي المسئول عن الزيارة. اشتد بي الإنكار عندما وضح لي أنه لم يبد آي الترحيب بنا إلا تلك الوقفة الخاملة. تصافح الرجلان، وسمعت صوتا غليظا ذكرني بصوت أخي مدحت يقول: أهلا وسهلا .. كيف حالك يا عبد الله بك؟
فرد جدي قائلا: الحمد لله .. وكيف أنت؟!
وتنحى جدي قليلا ليكشف عني، وأومأ إلي قائلا وهو يبتسم: كامل ابنك.
وتقدمت منه في ارتباك ظاهر وعيناي متطلعتان إليه، فحدجني بنظرة متفحصة في اهتمام شديد وقد لاح في عينيه نور خافت، ثم مددت يدي، وعند ذاك قال جدي، ولعله أراد أن يتفادى من خطأ رآني حريا أن أقع فيه: اقهر هذا الخجل وقبل يد والدك!
ناپیژندل شوی مخ