لم يخطر لي لحظة واحدة أن أذهب إلى حجرتي، كان ذلك أبعد شيء عن تصوري، حتى النظر إليها تحاميته، ومضيت إلى حجرة الاستقبال وارتميت على الكنبة في إعياء وقنوط. ومضى الليل ثقيلا مضجرا، فلم يعد نصيبي من النوم إغفاءات متقطعات تتخللها أحلام مزعجة. ثم أخذ خصاص النوافذ ينضح بنور خافت إيذانا بمطلع الصبح، فتنفست الصعداء وتمطيت متعبا، ثم نهضت قائما وغادرت الحجرة مدفوعا برغبة في الهروب والاختفاء. واقتربت من الباب الخارجي في خطو خفيف حذر حتى وضعت يدي على مقبضه، ولكني جمدت مترددا دون أن أبدي حراكا، ثم تراجعت في سكون نحو حجرة أمي، ودفعت بابها الموارب في حذر بالغ وأدخلت رأسي. كان شخير الخادم يتصاعد في انتظام، وعلى الفراش رقدت أمي في سكون عميق لا يكاد يرى من وجهها إلا نصفه الأعلى. ألقيت عليها نظرة قصيرة، ثم تراجعت إلى الخارج، واتجهت نحو الباب الخارجي مرة أخرى ومرقت منه ثم أغلقته دون أن أحدث صوتا، وترامى إلى أذني، أو خيل إلي أن صوتا يهتف بي، فظننتها استيقظت على حذري وحرصي وأنها تناديني. وتوقفت ويدي على الدرابزين على حين تراخى قلبي ورق؛ ولكني كنت على حال من القنوط لم أحسن معها التدبير، فهززت منكبي استهانة ونزلت. واستقبلت الصباح الباكر في طريق مقفر أو يكاد، فهفا على وجهي نسيم رطيب بارد، وتلبثت متحيرا لا أدري أين أذهب، ثم قصدت محطة البترول حيث موقف التاكسي، واستقللت واحدا إلى ميدان الإسماعيلية. ومال بصري إلى العمارة الأخرى في الطريق، فرأيت نوافذ مغلقة وسكونا مطبقا، والمصباحين المعلقين وقد انطفأ نورهما. وانتهيت إلى الميدان فمضيت إلى لبان وجلست إلى مائدة في أقصى المحل، وتناولت فطورا بسيطا، وعلاني تعب مباغت فمددت ساقي، ثم زحف على جوارحي نعاس قهار لم أعد أملك معه رأسي فاستسلمت لسلطانه. وسرعان ما رحت في سبات عميق. وعاودتني اليقظة فوجدتني منكفئا على المائدة وقد توسدت ساعدي، فرفعت رأسي ناظرا فيما حولي في دهشة وارتباك، وسرعان ما استحوذ علي حياء شديد.
وغادرت المكان مغمضا عيني عن الجلوس، وما كان أشد دهشتي حين رأيت ساعة الميدان تجاوز الثانية عشرة! نمت دهرا طويلا غائبا عن دنياي المتجهمة، فما ألذ أن أنام إلى الأبد! واتجهت صوب حدائق قصر النيل وأنا أشعر شعورا أليما برثاثة هيئتي وذبول منظري! وساءلت نفسي وأنا أجد في السير عما عسى أن أصنع بحياتي؟ ولكن وسوست لي النفس أن أؤجل البت في هذه المسألة جريا مع طبيعتي التي تنكص عادة عن مواجهة المشكلات الخطيرة. ثم وجدتني أفكر في رباب! إن بنفسي غضبا عليها لا يزول كأنه عاهة مستديمة، ولشد ما أتمنى لو تبعث حية ولو دقيقة واحدة ريثما أبصق على وجهها! وهل أنسى أنني فرحت لموتها فرح حاقد شامت؟ .. هكذا أنا ولا داعي للخفاء! بيد أنني على حال من السكينة أستطيع معها أن أفكر وأن أتأمل. ومن عجب أنني على أنانيتي المفرطة لا أبخل على خصمي بالإنصاف والعدل .. لا حبا في الإنصاف والعدالة، ولكن لأنني ألفت أن أقيم الأعذار للخصم مداراة لعجزي عن الانتقام منه! لذلك تلمست الأعذار لرباب في مأساتها، وقلت لنفسي: إنني أخطأت في تصديق ما ادعت من أنها تكره الحب الجنسي، وإن عجزي حيالها هو الذي رمى بها إلى أحضان الغواية، وكيف يمكنني أن أشك في أنها أحبتني بإخلاص؟ وهبت على خيالي الذكريات كما تهفو نسائم عطرة على نار مؤججة؛ ذكريات النظرات المتبادلة، واللقاء الخالد في الترام، وصدودها عن خطيبها الأول وميلها إلي في سحر هو أبهج ما اقتنيت من تحف السعادة المولية. كان حبا صادقا، ولكن عرضت له ريح ثلجية فاقتلعت جذوره وأغاضت منها ماء الحياة. ألست شريكا في قتلها؟! ودعوت الله في تلك اللحظة أن يختصر الطريق فيقيم القيامة ويرحم العباد من محنة الحياة. كان حبي سرورا إلهيا ثم مضى مخلفا وراءه مقتا وغضبا. ولكن هل مضى حقا؟ هب ما حل بي قد تمخض بمعجزة عن حلم مزعج ولا شيء غير هذا، ألا يعود حبي أقوى مما كان؟ بلى، فهو موجود إذن تحت ركام البغض والمقت. إن العضو الذي ينفصل عن الجسد لا يعود إليه أبدا، فهو غير موجود حقا، أما الحب الذي يعود فلا يمكن أن يكون قد ذهب حقا. ولكن ما جدوى هذا التفكير الأليم؟! وقطبت كأنما لأخيف الذكريات التي تنثال علي. وصممت على الهرب منها ولو بمواجهة المشكلة الخطيرة التي تهربت منها منذ حين قصير؛ ألا وهي مشكلة حياتي، وماذا أصنع بها؟ لا ينبغي أن أترك أموري للمقادير، سأجد طريقة للتخلص من أثاث رباب، ثم أنتقل إلى حي جديد. أأسعى حقا إلى الانتقال لبلد بعيد؟ لشد ما تنازعني نفسي إلى الفرار، بيد أنني أعجز من أن أهجر القاهرة. هذا شعوري ويقيني. فهل أهجر أمي حقا؟ هل يسعني هجرها؟! طالما رفت على خاطري الرغبة في هجرها في صور أحلام غامضة، ولكن هل يسعني حقا أن أهجرها؟ يا لها من خطوة خطيرة ما أخلقني أن أقف منها موقف المتفكر المتردد! لماذا أقسو عليها؟ فيم أنتقم منها؟! وإني لأعلم أن خطرة منها تخطر على الفؤاد حقيقة بأن تردني إلى أحضانها نادما باكيا .. يا له من حب بغيض لا أجد إلى الخلاص منه سبيلا.
ورجعت إلى الميدان بعد الساعة الثانية بقليل، ووجدتني أذكر شارع الألفي بلهفة معهودة. وعلى كثب من محطة الترام لمحت زميلا لي من الوزارة فتجاهلته، ولكنه لمحني أيضا وأقبل نحوي في اهتمام ووجوم، وبسط لي يده قائلا: البقية في حياتك يا كامل أفندي.
فسرت في جسدي رعدة، وتساءلت في قلق: كيف علم بالخبر؟ وماذا علم عنه؟ وتمتمت في ارتباك: حياتك الباقية.
فقال الرجل وهو يضغط على يدي: عن إذنك ريثما أتناول لقمة، ثم أعود للاشتراك في تشييع الجنازة.
رباه، كنت أظن الجنازة شيعت أمس أو صباح اليوم وانتهى المأزق الحرج، ولكنها لا تزال تنتظر مقدمي وقد أذاعوا النعي في الصحف، أي مأزق يتربص بي! .. وسألته بصوت منخفض: هل قرأت النعي في الأهرام؟
فقال لي بدهشة: كلا، لا أظنه ظهر في الأهرام وإلا لكنا علمنا به في الوزارة؛ ولكني اطلعت عليه في البلاغ.
واستخرج الجريدة من تحت إبطه وفتحها، ثم أشار إلى عمود وهو يقول: «هاك النعي!» وتناولت الجريدة في ارتباك وخجل وجرى بصري على السطور القلائل الآتية: «انتقلت إلى رحمة مولاها كريمة المرحوم الأميرالاي عبد الله بك حسن، والدة مدحت بك رؤبة لاظ من أعيان الفيوم، وكامل أفندي رؤبة لاظ الموظف بالحربية، وحرم صابر أفندي أمين ...»
حملقت في وجه صاحبي كالمجنون، ثم أعدت تلاوة النعي، وجميع جسمي ينتفض، وصرخت بلا وعي: هذا محال .. هذا كذب!
ركضت لا ألوي على شيء نحو تاكسي غير بعيد، وارتميت داخله وأنا أحث السائق على السرعة .. إنه لكذب وافتراء، ولأعلمن جلية الخبر وعندها أعرف كيف أؤدب من رامني بهذا العبث السخيف. وانطلق التاكسي يطوي الأرض وعنقي مشرئب صوب الطريق، حتى تراءى لعيني سرادق مقام أمام بيتنا، وتنزى قلبي في صدري وارتعشت أطرافي جميعا، وتوقف التاكسي فغادرته زائغ البصر، لم أكن حزينا أو متألما؛ وإنما كنت مجنونا .. ها هو عمي جالسا عند مدخل السرادق، وهذا أخي مدحت قادما نحوي، وقد هرعت إليه فاقد الوعي وقبضت على رباط رقبته وصرخت في وجهه: كيف تخفون عني الخبر؟!
ناپیژندل شوی مخ