ووقفت السيارة أمام مشرب شاي .. فجلسنا معا نقلب الحديث ظهرا لبطن في لذة وسرور. وأخبرتني أن اختيارها قد وقع على بيت الخياطة ليكون مهدا لغرامنا. وعند الظهر غادرنا المكان، وقد أرادت أن تدفع الحساب ولكنني أبيت عليها ذلك، وافترقنا بعد أن تذاكرنا موعد المساء. وتكرر اللقاء .. ولما انتهت الإجازة بعد ذلك بيومين واصلنا لقاءنا في الأماسي، وأقنعتني التجربة الناجحة بأن الحب صحة وعافية. ولم يخف على أحد دأبي على السهر، ومع أن رباب كانت تفضل - على حد قولها - أن أمضي سهراتي معها في زياراتها التي لا تنقطع، إلا أنها تحاشت مضايقتي، فباشر كلانا حياته بالسبيل الذي يرضاه. ولم يخف ذلك عن أمي أيضا، وقد قالت لي: لاحظت يا بني أنك لم تكن على حالك الطبيعية في هذه الأيام الأخيرة، وقد خفت أن أعلن لك ملاحظتي أن تغضب، فإذا وجدت في السهر راحة فاسهر، هكذا الرجال جميعا!
57
وانقضى شهر أو أكثر على حياة سعيدة لا يشوب صفاءها كدر. حل السلام مكان الشك، وعادت علاقتي برباب إلى أصفى ما كانت عليه من الود الطاهر والحب البريء، أما من الناحية الأخرى فقد أسلمت نفسي لعنايات في حب مضطرب وسرور ظافر. إنها امرأة موفورة الثروة. وما من مرة نذهب إلى مهدنا المحبوب ببيت الخياطة إلا وتنفحها بريال وأحيانا نصف جنيه، وأبت علي كرامتي إلا أن أكون كريما كذلك، ولو في حدود طاقتي. وهيأت لي - وهي لا تدري - معاودة الشراب على حال لا تنقطع، فكانت الخياطة تحتفظ لنا بقوارير الويسكي والصودا دواما، بل أوشكت أن تعودني التدخين، وكان لها مزايا وأي مزايا؛ كانت كاملة الأنوثة والحيوية، فهي متعة للعشاق على كهولتها ودمامتها المحبوبة، بيد أنها كانت كذلك على استهتار وجسارة يقشعر لهما البدن. عندها الحب كل شيء، وفي سبيله تستبيح أي شيء. ولعلها لم تكن من النوع الهلوك، ولعلها لم تكن إلا امرأة هالعة، تشعر دواما بإدبار الحياة الزاهرة، وذبول الشباب اليانع، فلا تطيق أن يمضي يوم بلا حب. وكان أعجب ما في حبي لها أنني فتنت منها بما هو حري أن يعد من النقائص في نظر الغير، بكهولتها ودمامتها وجسارتها، وكانت تملؤني ثقة لا حد لها، فلم أكن أحمل لشيء هما. ولولا ما كان ينتابني من قلق منشؤه ذلك الانفصال المخيف بين روحي وجسدي، لتمليت الحياة صفاء خالصا، على أنها كانت حياة سعيدة.
وفي ذات يوم، وبعد فراغي من الغداء مباشرة، ذهبت إلى حجرة أمي لأشرب فنجانا من القهوة وأجاذبها الحديث كعادتي كل يوم، وسرعان ما لاحظت أنها تردد في وجهي عينيها الصافيتين في قلق وتفكر، فتفرست في وجهها الذابل الذي فقد مرحه وسعادته، فأدركت لتوي أنها تريد أن تقول شيئا، وداخلني القلق، ولكني قلت مبتسما: ماذا وراءك؟ هاتي ما عندك!
فلاح التردد في عينيها لحظات ثم قالت: بالأمس سمعت أمورا أدهشتني، فهلا خبرتني عما بين رباب والست والدتها؟
كل شيء توقعته إلا هذا، وغامت عيناي بسحب ذكريات سود، وتساءل قلبي الخافق: هل عادت المرأة إلى لجاجتها القديمة؟! ولم تكن رباب قد أخبرتني شيئا عن زيارة أمها لها بالأمس إلا أن أقرأتني سلامها.
وعدت إلى أمي أقول لها بصوت هادئ - أو جعلته هادئا: ليس بينهما إلا كل خير.
فهزت أمي رأسها في ارتياب وقالت: لعله غابت عنك أشياء، أما أنا فلم أستطع استقبال نازلي هانم لأنني كنت متعبة، ولما جاءت صباح لتخبرني بقدومها تصنعت النوم. وطالت الزيارة، فانسللت من الحجرة لقضاء حاجة، ودنوت من باب حجرة الاستقبال، فما راعني إلا أن أسمع الست وهي تقول في انفعال وغضب: «هذا شيء لا يحتمل!» فترد عليها رباب بعنف قائلة: «لا تتدخلي في شئوني!» فما ملكت أن تراجعت إلى حجرتي.
التهب جبيني حياء، ثم ركبني الغضب، فشعرت بمقت شديد نحو هذه المرأة الفضولية. واقتحمت أمي علي أفكاري متسائلة: ألم تعلم عنهما شيئا؟
فقلت بحزم: لا شأن لنا بهما.
ناپیژندل شوی مخ