وكم كانت دهشتنا عظيمة حين ظهر لنا أن هذه الباخرة هي الباخرة «كاليدونيا» التي نقلتنا من بورسعيد إلى مالطة (بل كم كانت دهشتنا أعظم حين اجتمعنا فيها بسائر إخواننا من أعضاء الوفد المصري!) فذرفنا الدمع من شدة اغتباطنا وابتهاجنا، وشكرنا الله على هذا اللقاء الفجائي الذي أدخل السرور إلى قلوبنا وبعث روح الأمل في نفوسنا.
ثم استأنفنا السفر إلى فرنسا ونحن نعلق آمالا واسعة على نبي آخر الزمان الدكتور ولسن، صاحب المبادئ الأربعة عشر الخاصة بمصير الشعوب الصغيرة، المهضومة الحقوق، المسلوبة الحرية والاستقلال، ولكن في اليوم التالي لوصولنا إلى باريس فاجأنا ولسن بقراره الذي وافق فيه على حماية بريطانيا العظمى على مصر.
وإني لا أصف لكم مبلغ ما استحوذ علينا من الاندهاش والاستغراب لما اطلعنا على هذا القرار، ولكن حسبي أن أقول لكم أن عزيمة سعد كانت أقوى من أن يؤثر فيها ولسن أو غير ولسن، فجاهر بأن الوفد المصري سيمضي في جهاده حتى الرمق الأخير من حياة أعضائه.
أجل! لقد ثبت الوفد المصري ونحن اليوم كما كنا بالأمس ثابتون على مبادئ سعد، ثابتون على حب سعد.» (6) سعد بين عدن وسيشل
كان الأستاذ مكرم عبيد قد دون مذكرات ضافية عن حياة سعد وصحبه في منفاهم في ميناء «عدن» أولا، ثم في جزائر «سيشل» النائية، ولكن السلطات البريطانية عثرت على هذه المذكرات التاريخية عند تفتيشها لداره في بعض الظروف السياسية، فأخذتها ولم ترجعها، ففقدت الأمة بمصادرتها صفحة مجيدة من أسطع الصفحات وأغرها في سيرة سعد القومية، ولكن ذاكرة وزير الشباب متوقدة نيرة، ولئن كنا قد حرمنا المذكرات التي خطتها يده، فإنا لم نحرم بعض ما وعته حافظته، فانتهزنا فرصة اجتماعنا به عقب عودته من أوروبا واقتبسنا من حديث أفضى به إلينا المعلومات التاريخية الطريفة التي نسردها للقراء فيما يلي:
في صباح اليوم الذي أذيع فيه تصريح 28 فبراير في مصر، كان الفقيد العظيم وصحبه جالسين في القلعة التي اعتقلوا فيها في عدن يتناولون طعام الفطور، فدخل عليهم ضابط برتبة كولونل كان يقوم بأعمال وكيل الحاكم وقال لهم إنه تلقى أمرا بوجوب إبلاغ سعد باشا أنه سينقل من عدن إلى جهة أخرى غير معلومة، وأن لدى دولته ساعة ونصف ساعة لكي يعد أمتعته توطئة لانتقاله إلى السفينة الحربية التي ستقله إلى منفاه الجديد، فقابل سعد باشا النبأ الفجائي برباطة جأش عظيمة، وقابله صحبه بهياج شديد، فسألوا الكولونل عن الحكمة في فصل الزعيم عنهم، فأجابهم أنه لا يعلم عن ذلك شيئا، وأنه إنما ينفذ التعليمات التي صدرت إليه من رؤسائه، فسألوه هل يستطيعون مرافقة دولته ليسهروا على صحته وإراحته في خلال سفره، فكان جوابه أنه لا يملك سلطة نقض التعليمات التي يعمل بها أو سلطة تحويرها وتعديلها، فقرروا أن يرفعوا احتجاجا على هذه المعاملة إلى المقامات العليا، فحاول سعد باشا أن يثنيهم عن عزمهم لئلا يؤخر هذا الاحتجاج في عودتهم هم إلى مصر، فلم يسلموا بوجهة نظره وأصروا على وجوب مرافقته إلى النهاية ، وفعلا عهدوا إلى الأستاذ مكرم في كتابة الاحتجاج باللغة الإنجليزية، وقد طلبوا فيه أن يسمح لهم بمرافقة الزعيم، أو إذا كان ذلك متعذرا لصغر السفينة، فلا أقل من أن يسمح لأحدهم بأن يكون في صحبته، وأرسلوا الاحتجاج مع رسول إلى سراي الحاكم.
وبعد ساعة ونصف ساعة توجه سعد باشا إلى المرفأ ليركب السفينة التي أعدت لسفره وسمح لصحبه بمرافقته إليها، فساروا حوله وهم يبكون ويتحسرون، بينما كان دولته يبذل جهده ليسكن من روعهم وهو رابط الجأش ثابت الخطى، ولما صعد إلى السفينة وأزفت ساعة الفراق رفع منديله ملوحا وأنشد بصوت مؤثر قائلا:
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما
يظنان كل الظن ألا تلاقيا
ثم عاد صحب سعد إلى القلعة صامتين واجمين وقد ساورهم شعور أليم؛ وهو أن وداعهم للرئيس في ذلك اليوم قد يكون الوداع الأخير، ولكنهم ما كادوا يعودون إلى القلعة ويستقرون فيها حتى تلقوا نبأ من الحاكم بأن المراجع العليا أذنت في أن يرافق أحدهم سعدا إلى منفاه الجديد، فاغتبطوا بهذا النبأ بقدر ما كان الظرف يسمح به من اغتباط، وبعدما بحثوا في الأمر مليا ورجعوا إلى سعد باشا في قرارهم، اختير الأستاذ مكرم عبيد ليرافق دولته في سفره، فحزم أمتعته وانتقل إلى السفينة، وكانت ما تزال راسية في الميناء، وسمح لسائر صحب سعد بالصعود إليها لتوديعهما فيها، وبعد يومين أقلعت بهما وهما يجهلان وجهة سيرها، ولكنهما تذكرا أنهما سمعا وهما في عدن أن سعد باشا سينتقل إلى سيشل، فتوقعا أن يذهبا إليها، غير أنهما لم يتمكنا من تحقق ذلك؛ لأن رجال السفينة كانوا يمتنعون عن إجابتهما على كل سؤال في هذا الصدد، فإذا ما انقضى عليهما ثلاثة أيام في عرض البحر أقبل عليهما ربانها وأخبرهما أنهما ذاهبان إلى سيشل، وأمضى سعد باشا أيام السفر متعبا؛ لأن السفينة كانت صغيرة لا تزيد حمولتها على تسعمائة طن، وكان الأستاذ مكرم ينام على سرير صغير يقابل السرير الذي كان الرئيس ينام عليه في «القمرة» التي أفردت له.
ناپیژندل شوی مخ