وبعد يومين، دخل علينا طاهينا الألماني وأخرج من حذائه نسخة من جريدة التيمس ودفع بها إلينا، فقرأنا فيها أن الشعب المصري هاج وماج على أثر القبض علينا وإبعادنا، وأن مصادمات شتى وقعت بين الطلبة والجنود البريطانية، وأن الطيارات الإنجليزية ألقت قنابلها على عربان الفيوم وقتلت أربعمائة منهم، وأن الجماهير تبدي مقاومة في كل مكان وأن وأن وأن ... إلى غير ذلك من أخبار الحركة التي كنا نجهل أمرها كل الجهل، فترحمنا عندئذ على الموتى وأدركنا أن الشعب المصري جاد في نهضته ماض في نضاله، فأقسمنا ساعتئذ على أن نفنى في خدمته وفي سبيل الدفاع عن قضيته، وأن ننبذ الحياة المادية ولا نهتم إلا بالشئون المعنوية، وبتنا على أحر من جمر نرقب ما تخبئه لنا الأيام من مفاجآت.
وكان القائمون على حراستنا يسمحون لنا بالتنزه في أنحاء الجزيرة والتجول في أرجائها مرتين في الأسبوع، ولكنهم كانوا يطلبون منا في كل مرة أن نوقع تعهدا نتعهد فيه بشرفنا بألا نفر ولا نحاول أن ندبر سبيلا للفرار، وألا نخاطب أحدا ولا نعطي نقودا لأحد، وألا نمس بأذى أحد جنود صاحب الجلالة البريطانية أو أحد جنود الحلفاء. ومع أننا كنا دائما نمضي على هذا التعهد، فإن أحد الضباط كان يصحبنا دائما في غدواتنا وروحاتنا «بصفة دليل» على ما كان يقال لنا.
وكان هذا الضابط يتفقدنا صباحا ومساء، ففي الصباح يقرع باب غرفة كل منا ويقول «جود مورننج»،
3
فإذا أجبناه «جود مورننج» تأكد من وجودنا وانصرف، وإذا لم يجدنا في الغرفة ظل يبحث عنا إلى أن يقول لنا «جود مورننج» ... وكان في المساء يعيد الرواية عينها، فيقرع باب كل غرفة من غرفنا ويقول «جود نايت»،
4
فنقول له «جود نايت»، وإذا لم يسمع جوابا من داخل الغرفة انطلق يبحث عن صاحبها حتى إذا وجده قال له «جود نايت»؛ أي إنه متمسك جدا «بجود مورننج» و«جود نايت»، وإنه لا يستطيع أن يعمل في الصباح بدون أن يصبح علينا، ولا يستطيع أن ينام في المساء بدون أن يمسي علينا ... كان رقيقا جدا.
وزارنا مرة أخرى اللورد منون، حاكم مالطة، العام بلباسه العسكري مع أركان حربه، فتفقد غرفنا وسأل عن التدابير التي اتخذت لإراحتنا وتسهيل سبل إقامتنا ومعيشتنا، ثم أقبل علينا يسألنا بكل احترام وإكرام هل نحن في حاجة إلى شيء نرغب فيه فيقضيه، فشكرنا له عنايته وسألناه عن موعد أوبتنا إلى مصر، فقال إنه لا يعلم شيئا في هذا الصدد.
وبينما كنا جالسين ذات يوم نتجاذب أطراف الحديث، دخل علينا ضابط كبير وقال لنا: «استعدوا للسفر غدا؛ فسيطلق سراحكم ويسمح لكم بالسفر إلى باريس.» وما لبث الخبر أن ذاع بين إخواننا المصريين المعتقلين في مالطة، فأقاموا لنا حفلة شاي كبيرة حضرها الألمان الذين كانوا معتقلين معهم أيضا. وبعدما خطب كثيرون من إخواننا المصريين، نهض سعد باشا ورد عليهم بخطاب بليغ يفيض حماسا ووطنية، فقوبل بالتصفيق الشديد والهتاف المتواصل لمصر للوطن المفدى.
وفي اليوم التالي قادنا الجند إلى المرفأ، وظلوا يحرسوننا ويمنعوننا عن الاختلاط بالأهلين والتكلم معهم إلى أن وصلت الباخرة التي كان مقررا أن تقلنا إلى فرنسا، ولما صعدنا إليها دنا منا كبير الضباط وقال لنا: «أنتم أحرار الآن يا سادة»، ثم أقبل على كل منا وصافحه مودعا برقة وبشاشة.
ناپیژندل شوی مخ