241

ساعتونه د کتابونو ترمنځ

ساعات بين الكتب

ژانرونه

ويختلف الغرور والأمل كما قد يختلف الأخوان الناشئان من دم واحد في بيئة واحدة، فقد يكون أحدهما وديعا رصينا، والآخر جامح ذو خيلاء، وقد يكون أحدهما في يسرة وسعادة والآخر في عسرة وشقاء، فهما في النسب والمولد سواء، ولكنهما في الحظوظ والأخلاق غير سواء.

أما الاختلاف بين الغرور والأمل فهو الاختلاف بين الطيش والرصانة، والجهل والعلم، والتبرج والاحتشام، والكذب والصدق، والغش والإخلاص، فالغرور طائش جاهل متبرج كاذب غشاش أو أقرب إلى ذاك، والأمل رصين عالم محتشم صادق مخلص أو أقرب إلى ذاك، فإذا اختلفت المفاخر يوما ورجعا إلى المناسب فلكل منهما أن يقول لأخيه: من أبوك؟ ومن أمك؟ فإذا هما سواء، وإذا الأب آدم والأم حواء، وإذا هما نتاج زوجين من الأثرة والهباء، وما أكثر ما تلد الأثرة إذا تزوجت الهباء!

وليس للغرور ولا للأمل من أصل إلا أن الإنسان يحب أن يكون له كل ما يحب! فالآمل يحب لنفسه ما يحبه المغرور لنفسه . غير أن الأمل يتوقف كثيرا على الدنيا والغرور يتوقف كثيرا على الإنسان، فالآمل يرجو أن تعطيه الدنيا ما يريد والمغرور يظن أن الدنيا أعطته ما أراد وفرغت من العطاء، ولم يبق لها إلا أن تقر وتعترف بذاك.

صاحب الغرور يختصر الطريق، وأما صاحب الأمل فلا يغالط نفسه في مقياس طريقه. صاحب الغرور حاجته الكبرى إلى نفسه، وصاحب الأمل حاجته الكبرى إلى العالم، وقد يوجد الغرور بمعزل عن جميع أسبابه في رأي الناس، ولكن الأمل لا يوجد بغير أسباب مقنعة، وإن تعددت أساليبها في الإقناع.

مضى لي ثلاثة أشهر أرى عمارة تبنى وأسمع في العمارة فاعلا مغرورا بغنائه! ماذا لديه من أسباب هذا الغرور؟ لا شيء! بل لديه كل أسباب الصمت العميق لو كان يعقل ويرجع إلى الأسباب، ولكنه لا يعقل ولا يرعوي ولا يزال ولن يزال يغني؛ لأنه مغرور بصوته وزملاؤه مغرورون بزمالته. أو لعلهم غير مغرورين به ذلك الغرور الذي نتوهمه، ولكنهم هللوا لأن العرف يقضي على من يسمع بأن يهلل، ثم هللوا لأنهم في حاجة إلى التهليل ونسيان ما هم فيه من التعب، ثم هللوا لأنهم تعودوا التهليل يوما بعد يوم وأسبوعا بعد أسبوع، ثم هللوا لأنهم نسوا أسباب تهليلهم الأولى فحسبوا أن الصوت حقيق بذلك التهليل، وإذا كان الصوت صوت زميل والفخر فخر الزمالة كلها فلا ضير من المساهمة فيه بهذا النصيب القليل، بل بهذا النصيب الذي يربحون فيه ولا يخسرون.

وأنا أقف في النافذة أستمع وأتعجب، ويقف غيري في النوافذ يستمعون ويتعجبون. فماذا تريد من المغني الظريف أن يفهم من هذا الوقوف والإصغاء؟ إنه يفهم أنهما تعزيز لرأي الزملاء الذين لعلهم لا يجزون هذه النعمة حق الجزاء؟ وماذا تريد من أولئك الزملاء إلا أن يغتبطوا بصاحبهم أيما اغتباط، وأن يرثوا للحظ الذي رمى به في هذه الصناعة بين الطين والحجارة! ثم أن يحمدوا الله على أن جعل في صناعتهم أناسا مستحقين للثراء والجلوس في مجالس الطرب والغناء!

وكم فتن مغني العمارة من عقائل وسبى من حسان أصائل! نعم فتن وسبى وجاء بهن إلى النوافذ كما جاء بنا فأقبلن يسمعن ويعجبن ويتضاحكن، وهو يمعن في الغناء والتطريب وهن يمعن في الضحك والطرب! وإلا فكيف يكون الحسان المفتونات والسبايا المأخوذات إن لم يكن مصغيات معجبات ضاحكات! فقل ما شئت أنت وافهم أن الناس لن يعجبوا بصوت متقطع ناشز، وإن رجفه صاحبه كل ترجيف وموته كل تمويت، وأنهم لن يعجبوا بكلام من جملة أدوار ولا غناء الفن ولا من غناء الفطرة، وإن كان فيه ذكر الليل، والعين، والبكاء، والهيام، وأنهم لن يعجبوا بنغمة كأنها رجل صاحبها بينما هي في طبقة الأرض إذا هي في الطبقة الثالثة، وبينما هي في الطبقة الثالثة إذا هي في معجنة الطين! قل أنت ما شئت وافهم أنت ما شئت فإن قولك وفهمك لا يضيران المغني شيئا ولا يسكتانه هنيهة، ولا يبرح هو يغني ويغتر هو بفنه، والعمارة تبنى ولا يوضع فيها حجر إلا على أساس ذلك الغرور، فلو نوديت حجارتها التي بنيت على هذا الأساس الوطيد من غرور الإنسان فأمرت أن تزول عن أماكنها لما بقي أمامك من العمارة إلا كومة تراب! •••

على أن غرور هذا الفاعل المغني من صنف جيد نفيس بين أصناف الغرور التي تروج في هذه السوق، فهو يغتر بالغناء وله زملاء يهللون ومتفرجون ومتفرجات يقفون في النوافذ ويستمعون! فله عذر واضح، وإن كان هذا العذر لا يقدم ولا يؤخر في خلق غروره ولا في إيمانه بذلك الغرور، أما الأصناف الأخرى فمنها ما يؤمن به صاحبه ولا عذر له من طراز هذه الأعذار، ومنها ما يخلق صاحبه الحوادث خلقا ويخترع الإعجاب اختراعا ثم يؤمن به إيمانه بالحوادث الواقعة والإعجاب المشهود، فإذا اغتر صاحبه بالغناء ولم يجد من يهلل له ولا من يقف له في النوافذ فهو يخلق في وهمه الجموع تزحم الجموع والأجواء تجلجل بالأصداء ثم يفرح بها فرحه بالجموع التي يراها بعينه والأصداء التي يسمعها بأذنه ويتيه بها شيئا فشيئا كما يتيه المرء بالحق الواقع الذي لا ريب فيه، والناس يحسبونه مجنونا معتوها؛ لأنه يصدق ما لا وجود له بل ما يعلم هو قبل غيره أنه محض اختراع وخلقة أوهام، ولكن الناس ينسون أن الحوادث المخترعة ليست هي سبب الغرور، وإنما الغرور هو سبب الحوادث المخترعة، فالرضا بالنفس حاصل قبل أن ينسجه الوهم حوادث وأشكالا، وقبل أن يصوره الذهن صورا تترجم عن ذلك الرضا القديم، فلا جنون ولاعته هنا، ولكنها ترجمة فنية وتمثيل شعري لما هو موجود في النفس قبل ذاك.

وكما يحب العشق فيود أن يصور عشقه رواية، ويتخذ لها مواقف وأبطالا، أو كما تمتلئ قريحة الفنان بالمعاني فيترجمها قصائد أو تماثيل يسر برؤيتها، ويستعرض فيها الخواطر محصورة في رموزها، كذلك يخلق المغرور الحوادث ويخترع المفاخر، فلا يصنع بذلك إلا أن يلبس غروره ثوبا ويبني له جسدا، ويترجم عنه تلك الترجمة الفنية التي تعجبنا جميعا في قصص الشعراء، ومتاحف الصور، وملاعب التمثيل.

وهل يصدق القارئ أن في الدنيا أناسا يرضيهم منه أن يسمح لهم بتمثيل غرورهم بين يديه وهو حر بعد ذلك في التصديق والتكذيب، وحر فيما يضمره لهم من الإعجاب أو الاستهزاء؟

ناپیژندل شوی مخ