ساعتونه د کتابونو ترمنځ
ساعات بين الكتب
ژانرونه
ولقد كانت قدرة أبانيز في القصص الصغيرة كقدرته في الروايات الكبيرة على خلاف القاصين الذين يجيدون أحسن الإجادة في إحداهما دون الأخرى، فهو يتناول الحالة النفسية فيفرغها في أقصوصة بارعة، يعنى فيها بالوصف والتمثيل أكثر من عنايته بالواقعة والمواقف، ولست أنسى ما حييت وصفه للعجوز التي فقدت ولدها في الحرب، ثم رأت صورته في عرض عسكري مرسوم على لوحة السينما، ولا وصفه لجلال الأمومة في قصة «المشوه» ولا وصفه لموقف الرجل الملقب بالحمامة في قصة «طلقة الظلام» ولا وصفه للعالم الذي شق الصحراء ليفي بنذره للأيم المقدسة، ولا وصفه لليلة الصربية، أو لخادم القطار، أو للعذراء المجنونة، أو لشخص من الشخوص الكثيرة التي وصفها أبسط وصف وأجمله وأصدقه في أقاصيصه الصغيرة، فتلك صور تنطبع على صفحة الذاكرة فلا تمحوها قراءة الكتب، ولا تجارب الأيام.
ولم يكن يخطر لي وأنا أعد اسم أبانيز بين الأسماء التي يقارن بها هاردي، أنني سأرثي هذا الأديب العظيم عقيب رثائي لذلك الشاعر العظيم، فقد شاء القدر أن يذهب كلاهما في شهر واحد وهما أكبر من نكبر من أدباء هذا الزمان، وكانت خسارة الأدب العالمي بموتها خسارة لا تعوضها الشهور والسنون.
كان مولد أبانيز في سنة 1867 بمدينة بلنسية، وكانت صناعته التي تعلم لها المحاماة، وصناعته التي بدأ فيها عمله الصحافة، وليس أبانيز اسمه ولا اسم أبيه، ولكنه اسم أمه عرف به مع اسم أبيه «بلاسكو» على سنة متبعة في بلاد الإسبان، أما اسمه فهو «فيشنت»، ولكنه لم يشتهر به كما اشتهر باسمي أبيه وأمه، وقد نشأ على حب الحرية والجمهورية، فكان من أنصار الكوبيين على دولته حين نهض هؤلاء للمطالبة بالاستقلال، ولاذ بإيطاليا متخفيا على ظهر باخرة؛ فرارا بحياته من الموت في إبان الشغب الذي أثاره لنصرة الكوبيين، وقد سجن مرارا وذاق العذاب أمر العذاب في سجنه، فلم يتحول عن رأيه ولم يعدل عن معاداة الحكومة الملكية؛ لأنه رأى كما قال بلسان الخطيب النائب في رواية الفيضان «إن المال الذي ينفق على البيت المالك أكثر من المال الذي ينفق على التعليم، وأن تزويد أسرة واحدة بما يملي لها في عيشة الكسل والبطالة يكلف الإسبان ما لا يكلفهم إياه إيقاظ جيل كامل لحياة العصر الحديث، وأن المدارس في فلب العاصمة الإسبانية باقية في كهوفها القذرة، بينما ترتفع الكنائس والأديرة في أكبر الطرق والميادين كأنها قصور السحر التي يتحدثون بها في الأساطير؛ وأن خمسين بيعة جديدة قد أقيمت في خلال عشرين سنة؛ لتحيط بنطاق العاصمة ولم يبن فيها غير مدرسة واحدة تقارن أية مقارنة بالمدارس التي غصت بها كل مدينة في إنجلترا وسويسرة» فهذه الحقائق وأمثالها مما ألقاه على لسان خطيب الأحرار في مجلس النواب، هي التي بغضته في نظام الملكية والكنيسة، ودفعت به إلى محاربة هاتين القوتين حربا لا مهادنة فيها ولا سلام، وهو نفسه كان نائبا يلقي مثل هذا الكلام في مجلس النواب، حيث انتخب سبع مرات للنيابة عن مكان مولده بلنسية، وربما كانت كراهته للألمان ومناصرته للحلفاء بكتاباته ورواياته في أثناء الحرب العالمية أثرا من آثار سخطه على الملوك الجرمان، الذين وطدوا في بلاده نظام الاستبداد والكنيسة، وملكوا الرهبان نصف الأرض يستغلونها، ولا ينفقون منها في غير المظاهر والشهوات. وقد نعى على هؤلاء الملوك أشد النعي في رواية «ظل الكنيسة» وألقى عليها تبعة الضعف والفاقة التي أصيب بها شبه الجزيرة، بعد أن أزهر وأثرى في عهد المغاربة المسلمين.
وعرف أبناء قومه إخلاصه وصدق بلائه، فأحبوه حب العبادة واستدعوه إلى أمريكا الجنوبية ليحاضرهم في الأدب والاجتماع، فاستقبله على الشاطئ ثمانون ألفا من سكان «بونس إيرس» يحفونه بإجلال كإجلال الأرباب وحب كحب الآباء، وطاف تلك الأرجاء جنوبا وشمالا فحث أبناءها على تعمير ما لم يزل من أرضها صالحا للتعمير، فاستجابوا له وأسرعوا إلى تلبية نصحه، وكان له بذلك فتح في عالم الزراعة والصناعة كفتحه في عالم الأدب والسياسة، إلا أن الرجل ما لبث أن كابد السياسة وبلا من دسائسها وألاعيبها ما يبلوه منها المصلح الحر النزيه حتى عافها وتزعزعت ثقته بجدواها في الإصلاح والتجديد، فدان بالعلم والفن وحدهما وصرف لهما كل سعيه وجاهه واقتداره، وآمن بشيء واحد هو الإشفاق على أهل وطنه الجهلاء الفقراء، والنقمة على طغاته الظلمة الجبناء، وقد عاش مغضوبا عليه من هؤلاء منفيا على تخوم بلاده حيث أقام على رابية جميلة يكتب الرسائل والروايات، ويستأجر الطيارات لإلقاء النشرات على الجماهير في المدن والقرى التي حرمت فيها كتبه ورسائله ورواياته، ومات ولما يزل في منفاه.
ولا نظنه احتفظ بعقيدة ثابتة تطمئن إليها نفسه، كما يطمئن المؤمن إلى عقيدة دينه. إلا أنه كان يعتقد كما قال في رواية «بحرنا»: «إن جميع الأديان تفقد بعض جمالها حين تعرض للنقد والامتحان، ولكنها على الرغم من هذا ما فتئت تنجب القديسين والشهداء وجبابرة الأخلاق، وقد عرفنا من شتى التجارب أن كل ثورة محصها العلم تنكشف عن عوار لا يقره الباحثون، ولكن هذه الثورات ما برحت تخرج للعالم خيرة أفراده، وأعجب أعمال جماعاته، وغير كاف أن نولد ونلد لأن الحيوانات جميعها تعمل في هذا ما يعمله الإنسان، وإنما على الإنسان أن يضيف إلى ذلك شيئا لا يملكه سواه وهو ملكة النظر إلى المستقبل، ملكة الأحلام، فلا غنى لنا عن مثل أعلى نضيفه إلى تراث الآباء، أو عن قدرة تتكفل لنا ابتداع ذلك المثل المأمول.»
فعقيدة أبانيز هي العقيدة في تلك القدرة، وإصلاح وطنه هو القطب الذي دارت عليه تلك العقيدة، ولما نشبت الحرب العظمى كان رجاؤه أن ينجلي نصر الحلفاء من تمكين الحرية، وإسقاط الملكيات البالية، فأكب بجملته على تأييد قضية الحلفاء، وزار الميدان مرات وألف رواية «فرسان الرؤيا» التي أطارت شهرته في الخافقين، وقيل فيها إنها أروج كتاب بعد التوراة، ولم يكرثه أن يكسب منها فقد باعها بستين جنيها لصحفي أمريكي، وهي تلك الرواية التي أدرت على ناشرها ألوف الجنيهات، ولكنه نظر إلى قضية العدل والحرية، حيث آمن بها فما وني ولا أحجم عن نصرتها بما استطاع وما ملك من هبة ومال.
لقد كان الرجل فخر وطنه في هذا العصر، ومات منفيا عن وطنه! إن في ذلك لعبرة بالغة، وإن الغد ليرينا من بقية هذه العبرة، ما يؤكد يقين القائلين بأن العاقبة للمصلحين.
الشعر والنثر1
... يرى الأستاذ أن النثر الآن بلغ مبلغا لم يبلغه في أي عصر من عصور اللغة، ويظهر أثر ذلك في وفرة عدد الكتاب، وتنوع موضوعات الكتابة، ثم في سعة المفردات، فأنا وإحكام الأسلوب، وفي نفسي من الأمرين الأخيرين شيء، أما سعة المفردات فأنا أعتقد أن اللغة كائن حي يقوم بعض ألفاظها على أنقاض بعض، وأن بجانب هذه الألفاظ التي استحدثت في اللغة العربية - وقليل ما هي - ألفاظا أخرى أوفر منها عددا كانت تستعمل في بعض العصور، وقد أميتت عندنا الآن تماما، فكما أن الحاجة تحفزنا الآن إلى استحداث ألفاظ لمعان حديثة كذلك كانت حاجة الجاهلية مثلا تمس إلى استعمال ألفاظ كثيرة، قضي علينا بتركها تغير وجه الحياة.
وكذلك القول في إحكام الأسلوب، فإنني في حاجة إلى من يثبت أن أساليب كتابنا اليوم في المواضيع التي يطرقونها أحكم من أساليب الجاحظ، وابن المقفع، والصولي، وابن مسعدة، ومن إليهم في المواضيع التي طرقها هؤلاء. على أن وفرة عدد الكتاب في العصور الحالية وقلته في العصور الخالية يرجع إلى عدم وجود المطبعة، أو عدم انتشارها في تلك العصور.
ناپیژندل شوی مخ