تعرض أديب لوصف أسلوبه الإنشائي، فقال عندما أصدر جريدته في الإسكندرية:
رأيت أن أصرف العناية والاجتهاد إلى تهذيب العبارة، وتقريب الإشارة؛ لتقرير المعنى في الأفهام، من أقرب وأعذب وجوه الكلام، وانتقاء اللفظ الرشيق، للمعنى الرقيق، متجنبا من الكلام ما كان غريبا وحشيا، أو مبتذلا سوقيا.
ثم قال في تمهيد لمطلب مطول عنوانه «الشرق»: «قد التزمت لهذا المطلب أسلوب التقرير، وعدلت فيه عن منهج الخطابة الشعرية؛ لاعتقادي بأن الأسلوب الخطابي وإن كان أسرع تأثيرا في القلوب، وأحسن وقعا في الأذهان، إلا أنه قد يميل بالكاتب إلى جانب التخيل الوهمي في مكان التقرير العلمي، فيرتفع بيانه عن المدارك التي سبقت إليها الملكات الصناعية الحسية فلم يبق بها من محل لملكة الخيال المسماة شعرا، فيفوت الغرض المقصود من البيان والبلاغة، وهو تقرير المعاني في الأفهام، من أقرب وجوه الكلام؛ ولهذا سأرسل فيه الكلام إرسال مقرر مبين، ولا أتكلفه تكلف منمق مزين، فإن أحكام التقرير منافية لهذا التمويه الذي يسمونه بديعا.»
هذا ما حكاه أديب عما كان يتعمده في إنشائه، وإذا عدنا إلى مطالعة سيرة حياته رأينا أن كل من ترجموا له ذكروا عبارة قالها أستاذه لأبيه: إن ولدك سيكون «قوالا»، أي شاعرا؛ لأن السجع كان يرد في كلامه عفوا. أجل، إن السجع قوام فن أديب، فهو يعتمد على تنميق التعبير وترجيعه وتدبيجه، يحييه بكلمات ترقص بما فيها من جناس وتضاد، وينصب لغرضه شباك الاستعارات والكنايات والتشابيه. نثر كأنه الشعر، يرصعه بأبيات إما من الشعر القديم أو من نظمه هو، فيأتي مقاله عجاجا زاخرا حين يحتد ويشتد كقوله: «هو الظلم حتى تمطر السماء بلاء، فتنبت الأرض عناء، فلا تجد على سطحها إلا جسوما ضاوية، في ديار خاوية، وقلوبا تحترق، في بلاد تحت رق.»
وهو يراعي الموسيقى في نثره أكثر من شعره، فيتعمد ما كانت تتعمده مدرسة ابن العميد من أفعال مختلفة تتحرك لها الجملة فتحرك قارئها توا، وإن ذهب أثرها من عقله بعد حين.
والذي ألاحظه أن الحريري تلا تلو البديع، ونحا ناصيف اليازجي نحو الحريري، أما أديب فأحيا بيان كتاب القرن الرابع. ففي مقالاته حدة البديع، وتنسيق الصاحب، وبلاغة الخوارزمي، وهجوم الحجاج للاستيلاء على المبادرة، عاش أديب مبادرا أبدا؛ ولذلك لم يذق طعم الراحة إلا حين أقعده الداء ...
كل مقالات الأديب خطب تستثير الهمم، ومنبرها صحيفته التي تقيم وتقعد على حد ما قال، وقد كانت تقع في نفوس أولياء الأمر المصريين في ذلك الزمن العصيب؛ أحسن وقع فأجلوا قدر الأديب، وحفظوا له تلك اليد حتى سلمه الخديو بيده براءة الرتبة الثالثة كما مر.
كان الأديب خفيرا للمسألة المصرية، واقفا على سلاحه أبدا، حتى يهيب بالشرق أجمع: «إذا هبت عواصف الفتنة فذرت رماد المداجاة عن جمر ضغائن الدول، وصار الشرق، من أطراف الروم إلى البحر الأحمر، محشرا للعساكر يتنازلون فيه، ويتجاولون على أرض يملكونها، وغنيمة يصيدونها وسطوة يريدونها، وقوم يستعبدون ...
وإذا انقضت صقالبة الشمال على بقايا الأناضول، واندفعت ألمان الوسط على فضالات البلقان، ووقعت حيتان بريطانيا على سواحل مصر، وجزائر بحر الروم، وترامت نسور الفرنسيس على فينيقية وبلاد السوريين، وتداعى أبناء الرومان على تونس الغرب وما يليها، ورجعت عساكر الإسبانيين إلى الغرب الأقصى، فماذا يحل بالشرقيين وكيف يتقون البلاء؟! وهم على ما نرى من شغف القلوب، وقوة الخلاف، وتفرق الكلمة ... فهم في غفلة الساذج، وخدر السكران، وكسل المهموم، لا ينتفعون بما يعلمون، ولا يسألون عما يجهلون.
وإذا جادت الحكمة بماء السلم فأهمدت ذلك الجمر، وعاد الشرق من جهاته الأربع مجتمعا للتجار والصناع من جالية الغرب يتجرون فيه ... وإذا انتشرت جالية الألمان في شبه جزيرة البلقان، تحيي الموات، وتنتحل الصناعات، وانبث تجار الإنكليز والفرنسيين والإيطاليين وسائر الأمم الغربية يجمعون الثروة بما يتجرون، وما يستخرجون من كنوز الأرض ... فأي مكان يكون للشرقيين في عالم الوجود وهم على ما نشهد؟»
ناپیژندل شوی مخ