كان رايتنا في علم اللسان، وآيتنا في صناعة البيان، وغايتنا في حب الإنسان، وكان، والله، فتى ولا كالفتيان، كان زهرة الأدب في الشام، وريحانة العرب في مصر، عاش حر الضمير فكرا وقولا وفعلا، ومات حر الضمير فكرا وقولا وفعلا، فليبكه ضمير الأحرار ولتندبه الحرية. نشأ وطنيا خالصا صحيحا، وعاش جنديا لأشرف الأصول وأسمى الغايات، وأنفق في خدمتها من روحه ما كان ينفخ في القلم من الروح، وجاهد جهادا حسنا فمات شهيدا حميدا.
عصره:
كان أديب في عصر التناحر على المسألة الشرقية، ونشأ في أرض كانت الناس ترزح فيها تحت نير الإقطاعين: الديني والمدني، فكيف تنفست تملأ خياشيمك روائح استبداد تضيق لها الصدور، وتنكمش النفوس. رسالات دينية أجنبية تتناحر على شطنا اللازوردي، يخدمون قيصر معتقدين أنهم يخدمون الله، يقفون أمام مخازنهم كالتجار في أسواق الكساد، كل ينادي على سلعته يجذب هذا ويتمسك بأذيال ذاك، داعيا إياه إلى دكانه زاعما أن عنده البضاعة الصحيحة، وأن بضائع سواه مزجاة، ودرهمه زيف ... وقامت بين هؤلاء وهؤلاء عشيرة الماسونية تشجب الشيعتين وتدعو الناس إلى الإخاء والحرية.
أما المواطنون، فأفادوا من تناحر الفريقين - الكالثوليك والبروتستانت - علما وثقافة، فاستنارت الأفكار واستضاءت الأذهان، وهكذا جنينا من عوسج التعصب تينا، ومن قطربه عنبا ... جنينا ثمار علم يانعة وجهتنا توجيها لم يكن في حسبان من دعونا إلى مآدبهم الجدلية، وكثيرا ما يؤدي بك الجدل إلى حيث لا تريد.
نشأ أديب في زمن بلغ فيه سيل الركاكة الزنار، كان يحاربها «صقر لبنان» في جوائبه، داعيا إلى البلاغة والنسج على نول السلف، فما كاد يسمع - بعد صراعه الطويل في تعليم الجيل - صوت أديب حتى أعجب به وراق له نهجه، فاثنى عليه وترجى خيرا بعد عناء وجهاد طويلين. وكانت تلك الحقبة حقبة إنشاء المعاهد العلمية؛ فمن كلية أميركية إلى كلية يسوعية، إلى مدارس بلدية، كالحكمة والبطركية والمدرسة الوطنية للبستاني، ثم قام إلى جانب هذه جمعيات أدبية تعالج المواضيع العامة، وتهمس ما استطاعت لتحرك الهمم محاربة الاستبداد، ساعية وراء تحرير العقول. كانت هذه الحقبة غنية بالعلماء كالشدياق مالئ الشرق والغرب، والبستانيين واليازجيين، والأسير، والأحدب، والدبس، والشميل، وصروف، وزيدان، كل هذه العناصر كانت تتفاعل في بيروت حين برز أديب للميدان فكان من أمره ما كان. تعرض الشدياق للكثلكة لنكبة أنزلوها بأخيه، أما أديب فتعرض لكل سلطة مستبدة سيان عنده الدينية منها والمدنية، وانتمى إلى الماسونية فازدادت نار ثورته اتقادا ووقودا.
وقد اجتمع الشدياق وإسحاق على حب مصر والشرق، فعاشا ينافحان ويناضلان وظلا كذلك حتى مد الدهر يده وانتزع من بين أصابعهم العلم، فمات الشدياق بعد ما شبع من السنين، وقصف غصن حياة أديب، ولكن نضاله القصير العمر كان سمينا خطبه، وجليلا شأنه، كما قال أبو تمام في قلم ابن الزيات.
وإليك إحدى كلمات أديب في مقال - دولة العرب - التي تحسب أنها كتبت أمس، فبعد أن عدد أمجاد العرب العلمية والسياسية والأدبية قال:
يندهش من يلقاهم مقتصرين من العلم على ما لا يجلب خيرا، ولا يدفع ضيرا يعقدون مذاهبهم فيه بالأوهام، أو بأضغاث أحلام، أو ينيطون أسبابها بالسماء فيخطئون من حيث يريدون الإصابة، ويصيبون من حيث لا يعلمون. وينذهل إذ يجدهم راضين عن الكسلة المتراهبين، والجهلة المتجاذبين، يقبلون منهم أكفا لا تعرف الطهارة، ويستحلبون منهم أبدانا أنفت منها الستارة، حتى صار الكسل عندهم من المعايش، والخمول من المفاخر، والجهل من الملاجئ، والذهول من الكرامات، كأن لم يبق فيهم من عالم عامل يبدد الأوهام، ويبدي الحقيقة للأفهام.
إلى أن قال: «كلا والله ثم كلا: إنهم لا يعدمون عالما ناصحا، ولا نزيها صادقا، ولا نبيها هماما، وإنما أولئك نفر يمنعهم الخوف من الإقدام، ويردعهم اليأس من الاهتمام.»
ثم يصف الدواء فيقول: «ما ضرر زعماء هذه الأمة لو سارت بينهم الرسائل، بتعيين الوسائل، ثم حشدوا إلى مكان يتذاكرون فيه ويتحاورون، ثم ينادون بأصوات متفقة المقاصد كأنها من فم واحد: قد جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، وهبت الحاصبة تليها العاصفة، فذرت حقوقنا فصارت هباء منثورا، وألمت بنا القارعة ووقعت الواقعة، فصرنا كأن لم نغن بالأمس ولم نكن شيئا مذكورا. فهلم ننشد الضالة ونطلب المنهوب، لا تقوم بأمر ذلك فئة دون فئة، ولا نتعصب لمذهب دون مذهب، فنحن في الوطن إخوان، تجمعنا جامعة اللسان، فكلنا وإن تعدد الأفراد إنسان.» «أيحسبون أن ذلك الصوت لا يكون له من صدى، أم يخافون أن يذهب ذلك الاجتهاد سدى، أم لا يعلمون أن مثل هذا الاجتماع منزها عن المقاصد الدينية، منحصرا في العصبية الجنسية والوطنية، مؤلفا من أكثر النحل العربية، يزلزل الدنيا اضطرابا، ويستميل الدول جذبا وإرهابا، فتعود للعرب الضالة التي ينشدون، والحقوق التي يطلبون، ولا خوف على زعمائهم ولا هم يحزنون.»
ناپیژندل شوی مخ