وفي نظري، أن القصة كلما شخصت الواقع، تكون قد قربت من الكمال الفني. فالروائيون مصورون بغير الألوان، وكم أوحى الملهمون منهم إلى نوابغ المصورين رسوما رائعة، ولوحات خالدة في دنيا التصوير، والمصورون كالروائيين أيضا، خيرهم من أحسن تقليد الأشباح والظلال، فحسن التقليد هو قمة الفنون الجميلة، فهنيئا لمن أوتي من الروائيين سلامة الذوق ليختار من ألفاظ اللغة ألوانه، ويبدع من تزاوج ألفاظها قوس قزح.
الروائي خالق مبدع، ومصور مثالي، وشاعر كلي الخيال. يخلق عالما يتحرك، وينطق، ويحيا، ويخلد، وبخلوده يخلد الفنان معه، فالحياة والخلود متبادلان بين الروائي وشخوصه، فما يخلقه الفنان ويهب له جزءا من حياته يحيا إلى الأبد، يتحرك كلما حركته يد مفكرة أو تداوله لسان، فبين دفتي كل كتاب من كتب القصص الخالدة عالم يتحرك كالبحيرة الساهية متى داعبها النسيم. الروائي الفنان يجعل من القصة ساحة لعالمه الذي يخلقه قلمه، فيتمثل لنا كل بطل من شخوصه بشرا سويا. وتنتصب حولك تلك الأبطال فتنسيك العالم الخارجي حتى تصبح في عالم آخر لا يختلف عن العالم إلا أنه وهمي، ينقلك الروائي إلى الساحة التي خلقها فترى البيوت والأسواق، وترى الجبال والأودية، وتسمع خرير الأنهار، وتبصر كل شيء حتى نجوم السماء صلاة الظهر، والشمس في منتصف الليل.
فحين تزج نفسك في عالم الروائي الأصيل لا تعود تعلم أين أنت. فقد يحملك الرخ بمخلبه، وقد تركب بساط الريح، وتلبس «القبع الأخفى»، فإذا بك تطير وتحط، وتقوم وتقعد، وأنت ما زلت في فراشك، أو مستلقيا على كرسيك.
يخلق الروائي الموهوب أشخاصا لا ينقصها غير الروح، بل قل لا تنقصها الروح لأنها تتقمص نفس قارئها فتحيا بها حينا، كما عاشت زمنا مع من أنشأها وأبدعها .
وبكلمة وجيزة نقول: إن أول آداب الأمم والشعوب هو القصص، والمشترع، ولو وثنيا، يفكر بقصة الخلق قبل عرض رسالته على البشر. فالحياة إذن كلها قصة، ووجودي ووجودك، يا سيدي القارئ، قصة طويلة عريضة، جعل الله خاتمتها خيرا.
هل في الأدب العربي القديم قصة؟ هذا سؤال يرد على ألسنة الناس كثيرا. أما الذين قرءوا منا أعاظم كتاب الغرب، وأغرموا بروائعهم، فلا يرون للعرب قصة، ولا يرون لهم خيالا يحترم، ولا يرون شعرهم شعرا يستحق أن يحيا.
هذا ضلال منا؛ إذ نحكم على أسلافنا هذا الحكم الطائش الجائر.
قال جيمس بريستد المتمشرق العظيم: إن انخذال المسلمين في إسبانيا كان بمثابة انخذال المدنية أمام الهمجية.
وقال السر تشارل باتريس في خاتمة تاريخه لإسبانيا: إن عصر الآداب الإسلامية فيها كان من أزهى عصور امتزاج العناصر في تاريخ الحضارة.
ويقرر المستر جب المتمشرق الإنكليزي الذي لا يزال حيا يرزق، وهو عضو في المجمع العربي الملكي المصري: إن النثر العربي أخرج نثر أوروبا في القرون الوسطى من جموده وصرامته التقليديين، بما منحه إياه من خياله الذي يشبع الحواس. أما نحن فنقرر - ويا للأسف - غير ذلك، مماشين المتمشرق أوليري القائل: العربي جامد العواطف ضعيف الخيال.
ناپیژندل شوی مخ