والطفل بدون هذه السذاجة كالطير بلا ريشه، فليتق الناس ربهم في النابتة، وليحتفظوا ببقاء هذه الروح فيها؛ لكي يتأتى للعالم أن يتطهر من أدران الكذب والنفاق والرياء، فإنها أكثف حجب لإخفاء الحقيقة وستر نور الهدى من العيون والبصائر، وإنها من أقوى المعاول العاملة لهدم الرقي الاجتماعي والتمدن الصحيح والرجولة الحقيقية.
خاتمة
في كل ما تقدم من المباحث القدر الكافي لإدراك معنى الاعتدال في الحياة ومظاهرها، وفيه ما يثبت ابتعاد العالم عن الطريق السوي والوجهة الواجب الاتجاه إليها، وفيه ما يدل على الغرور العام والانصراف عما في الكون من سائر القوى الحيوية والسعادة وجمال الحياة.
وكل من يستطيع التخلص مما ورطه فيه التقليد، والاندفاع مع تيار العصر، ومقتضيات المدنية الكاذبة يتأتى له أن يشاهد بهاء الكون وجمال الطبيعة، وأن يتمتع بالسعادة الحقيقية الخالية من كل الشوائب والمنغصات مستهديا بنور الحقيقة.
وكل مقاومة للميول الفاسدة، ونفور من الشهرة الكاذبة وحب الظهور، وكل رجوع إلى التواضع والقناعة والحياة الهادئة يكون من أسباب قوة الهيئة الاجتماعية ورقيها، ومدعاة إلى بث روح جديدة في البيوتات وبين الأفراد، وإلى خلق عادات حديثة، وتكوين بيئة راقية وتربية صحيحة عالية، فتتجه أفكار الشبان والفتيات مع الاعتياد والتدرج إلى غايات شريفة وآمال صحيحة يمكن تحقيقها بسهولة، ولا يلبث هذا الإصلاح التدريجي والانقلاب البطيء أن يظهر سلطانهما على كل الهيئة الاجتماعية. وكما تكون متانة البناء على قدر صلابة الأحجار وقوة مواد التلاحم، فكذلك تكون الحياة على قدر القيمة الذاتية في الأفراد وقوة الرابطة بينهم.
ولما كان الغرض الأساسي هو تكوين الاجتماع على آساس ثابتة ودعائم قوية وجب أولا العناية بتقوية الأجزاء التي يتكون منها ذلك الاجتماع وهي الأفراد؛ لأن كل ضعف فيهم ضعف في المجموع وشلل في جسم الهيئة الاجتماعية، وإذا كان العامل على أية آلة محكمة يهمل أو لا يحسن العمل عليها فلا يكون للآلة ولا لما تصنع قيمة، وفي هذا المثل شبه قريب بين العامل على الآلة والعامل لرقي الاجتماع وكماله.
إن الحياة جميلة في ذاتها محكم أمرها، ولكن جلالها لا يظهر إلا لمن يعرف كيف يدير حركة نفسه ويحكم أعماله وسلوكه، وكما أن غفلة العامل أو عجزه يفسد الآلة ويتلف المصنوعات، فكذلك تهاون الإنسان وأغلاطه تشوه جمال الحياة وتفسد هناءها وتنغص عليه العيش، ولذلك وجب الاهتمام بتحذير الإنسان وإلفاته إلى تعرف أساليب العيش والعمل في الحياة؛ لكيلا يضر بنفسه وبالمجتمع، ويكون حظه حظ العامل المهمل أو الجاهل الذي يسيء إلى نفسه ويضر بسمعة المصنع الذي يعمل فيه.
فليعتن الفرد بنفسه فيعمل ليتشبع بمبادئ الحرية والنظام والإخاء؛ حتى يكون من أقوى عوامل التضامن والارتقاء؛ لأن هذا هو غرض الجميع والمقصد العام. والاعتدال وحده وانتشار روحه بين الجميع يقويان روابط الاجتماع والتضامن العام، وكل انحلال أو وهن فيها يرجع إلى سبب واحد هو ضعف الفرد في ذاته وضعف رابطته بالآخرين. وليس في الناس من يستطيع أن يقدر الأضرار التي تلحق بالهيئة الاجتماعية من تنافر الأفراد والأحزاب والطوائف، ومن حبهم الاستئثار بالسلطة والنفوذ؛ للتغلب على الغير وإخضاعه، أو لهضم حقوقه وصوالحه، فإن في ذلك تقويض أركان السلام، وهدم أساس التكون والاجتماع، وتنغيص العيش وتكدير صفو الحياة وهنائها وقضاء على السعادة.
وكل هيئة لم يسد بينها حب الإخاء وتفرد كل لصالحه الشخصي تكون هي الفوضى بكل معانيها. وشأن أعضاء مثل هذا المجتمع شأن أبناء العائلة الواحدة الذين يكونون عالة عليها، يمدون أيديهم للأخذ مما لها، ولا يبسطونها للأخذ بناصرها.
من لوازم الحياة التعامل وفيه تبادل المنافع، والناس دائن ومدين، فإن لم يعترف المدين بما عليه ويؤده زالت الثقة به، وكف الناس عن معاملته. والناس مدينون للهيئة الاجتماعية بكثير من الواجبات والحقوق في مقابل النفع والفائدة التي تعود عليهم من عمل الغير، فإن لم يؤدوا ما عليهم عن رضاء زعزعوا الثقة المتبادلة، وأضعفوا نشاط العاملين، فأفسدوا نظام العالم وشوهوا جمال الحياة.
ناپیژندل شوی مخ