إهداء الكتاب
كلمة للمعربة
مقدمة الطبعة الأولى
مقدمة الطبعة التاسعة
الحياة المرتبكة
روح الاعتدال
الفكر والاعتدال
القول والاعتدال
الواجب والاعتدال
الاعتدال والمطالب
الاعتدال والسرور
المال والاعتدال
الاعتدال وحب الظهور
الحياة العائلية والاعتدال
الكبر والاعتدال
التربية والاعتدال
خاتمة
إهداء الكتاب
كلمة للمعربة
مقدمة الطبعة الأولى
مقدمة الطبعة التاسعة
الحياة المرتبكة
روح الاعتدال
الفكر والاعتدال
القول والاعتدال
الواجب والاعتدال
الاعتدال والمطالب
الاعتدال والسرور
المال والاعتدال
الاعتدال وحب الظهور
الحياة العائلية والاعتدال
الكبر والاعتدال
التربية والاعتدال
خاتمة
روح الاعتدال
روح الاعتدال
تأليف
شارل فاجنر
ترجمة
وسيلة محمد
إهداء الكتاب
إلى ابنتي العزيزة
أنت اليوم طفلة في المهد تسرك ابتسامتي، ويكفيك حنوي، وطفلة اليوم أم الغد، فاسلمي وعيشي لتدركي من الحياة دور الأمل والعمل، وليكون لك يد في نشأة المجتمع الإنساني. إلا إنه ليعوزك دون ذلك العلم القليل، والتربية الصحيحة، والتجربة والاختبار.
والزمان قلب، والغد مجهول، فقد لا أكون إلى جانبك إذ ذاك فترجعين يا عزيزتي، إلى هذا الكتاب وهو ثمرة عقل ناضجة ونتيجة اختبار صادقة، فتؤثرين العمل بما فيه من الآراء السديدة على ما يحدو إليه نزق الشباب أو جنون الصبا، وطيش الرعونة.
أي عزيزتي، إنه ليفرح نفسي - أنى تكون - أن ترجعي إلى ما كتبه شارل وانير وأمثاله من كرام الكتاب الاجتماعيين إذا ما أعوزتك النصيحة، فإن في آرائهم ما قد ينوب عن نصيحة أم ثوت، أو والد قبر.
هذه هديتي إليك، فإن تعلمت علما صحيحا وكنت رقيقة العواطف عرفت منها كم كنت أحبك وأرغب في نفعك.
والدتك
وسيلة
14 ديسمبر سنة 1911، عيد ميلادك
كلمة للمعربة
بسم الله الرحمن الرحيم
طالعت هذا الكتاب - كما كنت أطالع غيره من الكتب الأخلاقية والاجتماعية في فترات الراحة والخلو من العمل - فلم أنته إلى آخره حتى لحظت تغييرا محسوسا في أفكاري وآمالي وتصوراتي وأعمالي، فشعرت إذ ذاك بقوة تأثير الكاتب بآرائه السديدة وروحه العالية ومراميه الشريفة في نفوس وعقول المطالعين والقراء.
هذا هو السر الذي حبب إلي إظهار هذا السفر الجليل بلغة البلاد؛ ليكون فائدة لمن يبغي من الحياة مراميها الشريفة، ويتطلع إلى جلالها الحقيقي. وقد شجعني على هذا العمل ما رأيته من إقدام بعض الآنسات الأمريكيات على نقل هذا الكتاب إلى الإنجليزية، وحفاوة أهل الولايات المتحدة ورئيسهم العظيم روزفلت بهذه المجموعة الجليلة.
ولو عنى العقلاء بأمثال هذه المنتخبات من الكتب، ونقلوها إلى لغة بلادهم لأفادوا المجتمع الذي يعيشون فيه، ولخدموا النوع الإنساني بأجمعه خدمات تذكر. أما وكل يقصر أبحاثه ومطالعاته والفائدة التي يجتنيها منها على شخصه فقط، فمن البعيد أن تصل الهيئة الاجتماعية في الزمن القريب إلى دور الاكتمال والتحسن الحقيقي الذي يتطلع إليه المصلحون.
سدد الله خطوات العاملين والعاملات إلى خير الجماعة وصلاحها، ووفق غيرهم لما فيه النفع الشامل.
مقدمة الطبعة الأولى
إذا كان المريض المحموم يتطلع دائما إلى ما يلطف عنه عناء المرض وحرارة الحمى، فكذلك النفوس المضناة من هموم هذه الحياة المرتبكة تتطلع إلى التحرر من قيودها، وتنزع إلى البساطة والاعتدال.
والاعتدال بنوع خاص لا يتقيد بالظروف والحالات التي يتطور فيها المجتمع، ولا بالنظريات الفلسفية العقيمة التي ينسبها واضعوها لحاجة الاقتصاد والتمدين والرقي الاجتماعي؛ لأن الاعتدال روح عالية تشرف على العقل والنفس وتوجههما في السبيل السوي، بدون أن تبعدهما عن العمل لما فيه رقي الفرد والجماعة، فكل من يتطلع إلى الاعتدال، ويعمل بمقتضياته فإنما يعمل حقيقة لخدمة النوع الإنساني من طريق الحق والعقل والعدل، ويبني الرقي والتمدين على آساس ثابتة ودعائم قوية لا تعبث بها عوادي الحماقة والتطرف.
وليس المراد بالاعتدال التمسك بمظاهره، وإنما العناية الحقيقية بما يرمي إليه معنى الاعتدال وروحه. وإذا لم يكن في وسع الإنسان اليوم أن يعيش على ما كان عليه الإنسان الأول من السذاجة والبساطة والاعتدال في المظاهر، فإنه يستطيع دائما أن يكون كذلك بعقله وروحه وعمله وفكره وقوله، فإن إنسان اليوم ينحدر حقيقة على مزالق تباين السبل القويمة التي سار عليها الأولون. ولكن هذا لا يمحو الإنسانية ولا يجردها من أغراضها ومقتضياتها الشريفة؛ فالحياة اليوم هي الحياة بالأمس، والغرض منها بالأمس هو الغرض الوجيه الذي يريد الإنسان تحقيقه اليوم، وإن اختلفت الوسائل التي تستعمل لذلك والسبل التي تختار لنيل هذه الأمنية.
فعدم النجاح ليس ناشئا عن اختلاف المعدات والوسائل، وإنما هو نتيجة الابتعاد عن الغرض الحقيقي والتورط في مجاهل الحياة المرتبكة. وإن ما يحول الآن بين الإنسان والحياة الحقيقية الراقية هو مما لا فائدة منه على الإطلاق، والحياة بدونه ممكنة كل الإمكان. وليس من نتائجه غير الحيلولة بين الناس وبين الحقيقة والعدل والطيبة؛ أركان الحياة ودعائم السعادة، وغير إلقاء الحجب الكثيفة بين العقل والبصيرة، وبين الهداية والحقيقة. فمن شاء أن ينظر إلى جلال الحياة وجمالها مجردين من كل ما يحجب بهاءهما، ومن رام أن يهنأ بالسعادة فعليه أن يزيح عن عينيه هذه الغشاوة، وأن يرتد عن ذلك الطريق المجهول إلى طريق الاعتدال والحق، فإنه هو وحده الذي يؤدي إلى الغرض من الحياة.
شارل وانير
باريس - مايو 1895
مقدمة الطبعة التاسعة
كتب إلي أرمان كولن صاحب المطابع الشهيرة باسمه - عقب حفلة زواج حضرها - كتابا رقيقا مؤثرا يطلب إلي فيه أن أكتب شيئا في «المعيشة البسيطة»، فألفت هذا الكتاب. وظهر فكان له شأن يذكر بين القراء، وانتشر في كل أنحاء القارة الأوربية انتشارا سريعا. ثم نقل إلى عدة لغات حية، فنقلته الآنسة «ماري لويز هندي» إلى اللغة الإنكليزية لحساب شركة المطبوعات الأمريكية «كلور» بنيويورك، وكتبت عنه الآنسة الكاتبة «جراس كنج» فصولا ضافية، كان لها أحسن وقع في تلك البلاد. واطلع عليه الرئيس روزفلت فلم يتمالك عن الكتابة إلي يقول: «إنني أنصح لقومي دائما بمطالعة سفرك الجليل.» وفي الحقيقة، إنه لم يترك فرصة تمر بغير أن ينوه فيها بذكر هذا الكتاب الاجتماعي، حتى لقد خطب خصيصا في هذا الشأن مرة «ببانجور»، وأخرى بفلادلفيا، وزاد على ذلك أن دعاني لزيارة الولايات المتحدة. وخطب في يوم 22 نوفمبر سنة 1904 بواشنجتون، وكنت حاضرا فقدمني إلى الجمهور. ولا أزال أشكر له قوله: «هذه هي المرة الأولى والأخيرة في زمن رئاستي أنتهزها فرصة لأعرف الجمهور الأمريكي بهذا الكاتب الاجتماعي القدير، وأعرض عليهم مؤلفه «الجليل»، فإنه إلى الآن لم يظهر بين كل المؤلفات الراقية ما أراه كفيلا بإفادة مواطني الفائدة التي أنتظرها من هذا الكتاب.»
وقد لحظت بنفسي تأثير أقوال الرئيس المحترم في نفوس وعقول مواطنيه؛ لما رأيته من تهافتهم بعد ذلك على مطالعة كتابي هذا وانتشاره بينهم انتشارا لم يكن لغيره من المؤلفات، حتى إن الصحافة أخذت تكتب عنه المرار المتعددة، وبعضها تنقله وتنشره تباعا.
كل هذا يدل على أن الكتاب ظهر حقيقة في إبان الحاجة إليه، فقد أخذ الناس يسأمون الحياة المرتبكة، ويشعرون بحاجتهم إلى الاعتدال، وتلطيف حالات هذا الارتباك المخل بنظام العالم المقوض لأركان السعادة.
وإنني لأرجو أن يأتي هذا الكتاب بالغرض الشريف الذي كتب خصيصا من أجله، وأن يلفت الناس إلى معنى الحياة الحقيقية ومقتضياتها، والعمل لتحقيقها والابتعاد عن كل ما عداها، فإن السعادة والقوة وجمال الحياة لا تكون إلا بالبساطة والاعتدال.
شارل وانير
باريس - فبراير سنة 1905
الحياة المرتبكة
من مقتضيات المدنية الحديثة تخبط المتحضر في كل لحظة من حياته، وارتطامه في شواغل تنغص عليه عيشه، سواء في قضاء لباناته الضرورية أو في لذائذه الكمالية، فهي في ظله حتى يبدل نور الشمس بظلام الرمس.
وقد زالت البساطة من كل شي، من الفكر والعمل واللهو، وقل: من الموت أيضا. ولم يكتف الإنسان بملاشاة الحسن من مميزات الحياة، بل أضاف إليها بمحض اختياره عدة متاعب لا قبل له بها ولا طاقة عليها؛ حتى تأفف الكثيرون من شكل الحياة الحاضرة وزخرفها الخداع، وأسفوا على الماضي وبساطته لخلوه من شوائب هذا الطلاء الكاذب وأدرانه. والأدلة القوية التي تؤيد هذا القول عديدة، فمما يعاب في حضارة هذا العصر تعدد الحاجات المادية واطراد زيادتها. وقد يدفع بعضهم هذا بأن زيادة الحاجات تبع للكسب والإثراء، وهو دفع مقبول، إلا أنه غير وجيه. وهو يستند على أن الابتكار والاختراع من دلائل الرقي، وهذا صحيح؛ فليس من يعترض على الاغتسال وتنظيف الثياب وسكنى الأماكن الصحية والعناية بالغذاء وترقية المدارك. ولو اقتصرت الحضارة على هذه الأمور لكانت من الحسنات، أما وقد خلقت في عالم الاجتماع غير هذه الظواهر المستملحة، سيئات باتت عبئا على المجتمع وضررا متفشيا لا يتقى، وأصبحت من العادات ولوازم المدنية بغير حاجة تدعو إليها ولا ضرورة تحتمها، وصار لها من المكانة والأثر في النفس ما للسلطة المطلقة من السلطان على الرقيق المستعبد؛ فالنقد مقصور على أمثال هذه العادات.
ولو قيل للسالفين: إن المدنية ستصل يوما بالإنسان إلى حيث يسخر البخار والكهرباء، ويستجلي باطن البحر وأقصى السماء ويحلق في الفضاء، ويستقي من صميم الصخر، ويذلل الصعاب وينفرج أمامه ما أغلق من الأعمال الشاقة بلا كدح ولا نصب، أجل، لو أنبئ السلف بمصير الخلف لخالوا إنسان هذا العصر كأنما دخل الجنة بلا بعث ولا حساب، ولغبطوه على النعيم والسعادة؛ أمل الإنسان من يوم خلق وسؤله إلى حين يبعث. ولو أن صورة هذا العصر بما فيه من الرقي الفني مرت على أذهانهم لتوهموا أن هذا الرقي هذب أطوار الخلائق، وقلل من تزاحمهم على متاع الدنيا وزهو الحياة؛ لظنوا أن الآداب والأخلاق ربت ورقت على قدر الرقي المادي. ولكن الواقف على أسرار المجتمع الإنساني واثق من أن هذا لم يتحقق، فليس في الوجود هناء ولا سلام ولا انصراف حقيقي إلى الخير.
قد يظن المرء لأول لمحة أن حالتنا المعاشية أدعى للرضاء من حالة أسلافنا الغابرين، وأن المرء اليوم أكثر اطمئنانا إلى غده منه بالأمس. وليس الغرض هنا البحث عن وجود الأسباب الممهدة لهذه النتائج، بل عن حقيقة الواقع، والإجابة على هذا السؤال: «هل الإنسان سعيد اليوم؟ وهل هو أكثر ارتياحا لغده من إنسان الأمس؟» إلا أن كل من يعرف حياة المجتمع ووسائل العيش لا يتردد في الجزم باستياء الإنسان من حظه وعيشه، فليس في العالم من لم تشغله أمور الحياة ويخبله التفكر في أمر المستقبل. بل لم يمر على الإنسان - حين أزعجته فيه هذه الوساوس - كهذا العصر الذي ارتقت فيه الإنسانية، وطابت مواد الغذاء، وحسنت المساكن وصلحت الملابس.
فمغرور من يتوهم أن المعدم المعوز هو وحده من يتساءل عن العيش وسبيل الارتزاق؛ لأن الخوف من الفاقة وطارئ الغد يشعر به المكثر والمقل، ويخشاه الفقير والغني على السواء. ومن الحقائق المجهولة أن أسف المتنعم على ما لم ينل يربو على لذته بما تطيب به الحياة لسواه. ولا يضارع مخاوف الغني وجزعه من المستقبل غير ذعر الجبان وفرقه من المعارك ومواقف القتال. واهتمام المعدم بأمر غده لا يذكر بجانب غيره؛ فإن من لا تملك سوى ثوب واحد لا تتساءل عما تلبس في اليوم التالي، ومن يقتنع بكسرة الخبز لا يقتل نفسه جزعا ولا ييأس من الحصول عليها، ومن يفترش الأرض ولا يملك موطئ قدميه لا يخشى سقوط الأسعار ولا حلول الأزمات.
فمن يمعن النظر فيما ذكر، ويقارنه بما يقال من أن الحاجات المادية تزيد زيادة مطردة مع الثروة والكسب يقرر أن الجشع على قدر الغنى، وأن الاهتمام للغد يكون على قدر السعة.
وليس من الناقدين من يقدر على تحديد مخاوف الغني ومتاعبه، أو يعرف كمية هذه المتاعب ونوعها ومقدار تأثيرها، فلهذا السبب ولوجوده بين كل طبقات الهيئة الاجتماعية - على اختلافها وتفاوتها - نشأ بينها اضطراب عام وارتباك شامل لا يماثله غير ما يحدثه الطفل المدلل من عدم الاقتناع بما يغبط عليه، وعدم ارتياحه حتى إلى السعادة والنعيم. •••
وكما أن النوع البشري لم يحصل على السعادة والهناء، فكذلك هو لم يوطد دعائم السلام، ولم يعرف الهدوء والطمأنينة، وصارت كثرة حاجات الإنسان وتنوع ميوله وأهواء نفسه تحوطه بظروف تخلق الشجار، وتوجد الخصومة بينه وبين أمثاله. وفي حكم المؤكد أن الكراهية والبغضاء التي تنجم عن هذه الأسباب تكون على نسبة منعكسة مع أسبابها التافهة والخطيرة. ولو قصر التزاحم والعراك على طلب القوت الكفاف لكان الأمر نتيجة طبيعية لتنازع البقاء، وإن عد غلظة فإن للجائع المعدم شبه عذر في غلظته. ولكن النزاع ناشئ عن الطمع والأنانية والميل مع هوى النفس وشهواتها الفاسدة ومطامعها المادية. وليس من يذكر أن الجوع ساق الإنسان إلى أنواع السفالات التي يغري بها الجشع والبخل، والانصراف إلى إرضاء الشهوة، مع العلم بأن حب الذات يزداد خطورة على قدر تمكنه من النفس. فهل من ينكر بعد ذلك ازدياد الخصومات بين بني الإنسان وتشبع القلوب والأفكار بالأنانية، وهي مدعاة المشاكل والنزاع؟ وهل يجوز بعد الوقوف على هذه الحركات العدائية بين أبناء الجنس الواحد أن يتساءل امرؤ عما إذا كان الحاضر خيرا من الماضي؟ أليس في وسع الإنسان حب الخير والانصراف إليه مجردا من الغاية؟ أوليس يستطيع نيل حاجاته الضرورية بغير تعمد الشر والأذى؟ ما الذي تمتاز به المدنية الحاضرة وقد شيبت الحياة بمتاعب الماديات، ومطالب التحضر المتعددة التي لا افتقار ولا حاجة بنا إليها؟
إن الأميال المتنوعة مدعاة للأحقاد والخصومات، وكل من يقف نفسه ومواهبه على شهوات النفس يضاعفها حتى يضعف أمامها وتقوى عليه فتستعبده، وإذا ما استرقته فقد الإرادة والإحساس، ولم يعد يميز بين المليح والقبيح، فخضع لسلطان الشهوات الجائر وفسد خلقه وساء مصيره.
إن سمو الآداب والأخلاق هو في المقدرة على قمع الشهوات وانحطاطها، وفسادها في الخنوع لمطامع النفس الأمارة بالسوء؛ فإنه يلاشي الخلق والتأدب.
وكل أماني الإنسان عبد الشهوة تنحصر في نيل ما تنصرف النفس إليه، والتزاحم على امتلاك ما في يد الغير يفتح باب الخصومة والشحناء، ويحمل على إنكار الحقوق، إن كان ما تتطلبه النفس ملكا لغير صاحبها. وما الاستئثار بملك الغير وعمل المرء على هضم حقوق سواه، والرغبة في اغتياله إلا حجة دامغة على صغر النفوس وحب الذات.
ولما كانت قيمة الأشياء تزيد وتقل على قدر زيادة وقلة فائدتها كان كل ما لا يأتي بفائدة عديم القيمة؛ وعليه فقيمة المرء بين بني جنسه ما يملك، والفقر - مع شرف النفس - عار، والغنى - وإن توفر من غير الطرق المشروعة - جاه، وهذا خطأ. والحقيقة أن قيمة الإنسان ليست فيما يملك وإنما قيمته ذاته وصفاته. ولكن أهل هذا العصر ماديون لا قيمة في أعينهم لغير الماديات؛ ولذلك هم على ضلال في معرفة أقدار الناس والاحتفاظ بكرامتهم.
ورب معترض يظن الحكم بفساد ما يدعي حضارة ورقيا تحاملا، أو رغبة في الحرص على القديم والانصراف عن كل رقي عمراني حديث. ولكن الحكمة في عدم الاعتداد بالظنون وبكل تحضر وهمي، وفي عدم الانخداع بالظواهر الكاذبة. فليس الغرض الرجوع لبداوة الماضي وخشونة الأجيال البائدة، وإنما البحث عن أدواء المجتمع الإنساني، وإظهار عيوب الحياة الاجتماعية الحالية رغبة في وجود الوسائل الملطفة لآلام الإنسان وتقويم سبل العيش؛ حتى تخف أرزاء الحياة وهمومها الجمة ويزول شيء من الاعتقاد الفاسد في تخيل السعادة والهناء بين تراكم الحاجات المادية ووفرتها؛ لأن هذا هو الباطل بكل معانيه.
وهناك آلاف من الشواهد والأدلة تؤيد القائلين بأن الرقي الصحيح حقيق بقمع النفس عن طلب السعادة من غير طريقها، وبأن التنعم ليس بالإكثار من الماديات؛ فالحضارة الحقيقية والتمدين القويم هما عيش الإنسان في بيئة تناسبه وعلى قدر ما تسمح به موارد كسبه، وابتعاده عن الظهور بما لا يسير مع حالته الحقيقية. فإذا ما ضل السبيل القويم وتنكب عن جادة الحكمة والتبصرة فكل تعب ضائع، وكل سعي يزيد الضرر ويضاعف الخطر ويضيف إلى مهام الحياة متاعب جمة، ويزيد المسائل الاجتماعية إشكالا وتعقيدا.
وليست البساطة في المعيشة مقصورة على ما مر، ولا هي من مقتضيات العيش فقط، ولكنها ضرورية لكل شيء حتى للتعليم والحرية، فكم نقل عن كبار الحكماء أن تلاشي الفاقة والجهل والظلم يكفي لتطهير المجتمع من الشرور ولصيرورة الأرض نعيما أليق بالملائكة منه بالإنسان. وقد شوهد أن زوال الفاقة لم يبدل الحال ولم يكن سببا رئيسيا للسعادة. كما أن التعليم لم يغير شكل الاجتماع، ولم يلطف الشرور المتفشية فيه، ولم تزل الأرض أرضا والسماء سماء والإنسان كما كان، ينفع ويعمل الخير ويرتكب الشرور ويقترف الآثام.
وليس المراد بذكر ما مر الحض على إهمال التعليم وتحصيل المعارف، ولا إيصاد أبواب دور العلم؛ بل الوثوق من أن التعليم وجميع وسائل التحضر ليست إلا ممهدات للمدنية تختلف فيها الفائدة والضرر باختلاف خلق المتحضر وسلوكه. وكذلك الحال في الحرية، فهي إما ضارة أو صالحة تبعا للظروف وطبائع القائمين بطلبها أو المتمتعين بها، وليس معناها إطلاق يد العاتي والمشاغب والطموع والفوضوي للعبث بمصالح الناس، وإقلاق سكينتهم والتشويش عليهم . •••
الحرية روح حياة راقية يتشربها المرء رويدا مع تدرج النفس في طريق الكمال. ومن مقتضياتها النظام؛ لأنه ضروري للحياة والكائنات، سواء في ذلك كل الخلائق من الإنسان والحيوان إلى ما دونهما. ولما كان النوع الإنساني أرقى هذه الأنواع فهو أشدها حاجة لدقة النظام وإحكامه. والنظام في الحقيقة قواعد عامة موضوعة يراد بها وقوف الأفراد عند حدودهم والتمتع بحقوقهم، ولكنه مع ترقي البشرية يكون من طبائع النفس الراقية ومستلزمات الضمير التي يخضع لها. فإذا بلغ المرء هذا الحد من الرقي وعرف كيف يطيع وحي ضميره، ونال منه حب نظام الهيئة الاجتماعية حتى أوجد في فؤاده وعقله سلطة قوية تحكمه وتردعه وهو صاغر منصاع لها؛ فهو الإنسان الجدير بالحرية، وما دام هذا الوازع النفساني غير موجود فليس الإنسان صالحا لهذا النوع من الحياة؛ لأنه يثمله ويهيجه ثم يدفعه إلى أسوأ مصير.
وكل من رقت حواسه ومشاعره، فخضع لحكم العقل وحب النظام يصعب عليه الخضوع للحكم المطلق، بل يستحيل عليه ذلك، كما يستحيل بقاء الجنين في أحشاء أمه متى اكتملت أيامه. ومن لم يكن أهلا لهذا الحكم فلا يدوم عليه، كما تستحيل حياة الجنين إذا وضع قبل اكتمال شهور الحمل. هذه النتائج مقررة مسلمة والبراهين عليها لا تحصر، ولكن من عيوب الإنسان تجاهله هذه القضايا البديهية مع ما لها من الأهمية والخطورة، فيجب أن يعرفها الجميع؛ إذ إنه يعسر على أي شعب أن يحصل على الديمقراطية قبل معرفتها والتشبع بروحها وإقرار كل فرد بصحة مبادئها عن اقتناع وتمييز.
ومن أهم أركان الحرية الطاعة والإذعان للنظام العام. وليس هذا من زخارف الحياة، أو من مقتضيات أميال بعض ذوي النفوذ والسلطان، ولا من صلف الحاكمين. وإنما هو قوانين عامة ذات رأس تنحني أمامه أرفع الرءوس، ويستوي أمام بطشه رائد السماء ومفترش الوضيع. وليس الغرض من هذا القول الترغيب عن الديمقراطية، بل الاهتمام بجعل الإنسان لائقا لهذا النوع من الحكم وجديرا بالحرية قبل طلبها، وإلا فإن النزوع إليها طفرة يؤدي بالشعب إلى مزالق السفه والفوضى، وإلى ما لا يمكن تلافيه من الفتنة والثورات. وإذا ما اجتلى العقل الأسباب الحقيقية التي تنشأ عنها اضطرابات ومشاكل الحياة الاجتماعية - مع تنوع عناوينها - رآها منحصرة في أمر واحد هو خلط العرض بالجوهر. •••
إن السعادة والتعليم والحرية والرقي والتمدين ليست إلا عرضا، أما جوهر الأمر فهو الاهتمام بالضمير والخلق والإرادة؛ فهي الذات وكل ما عداها أعراض كمالية لا جواهر ضرورية. ومع وفرة هذه الكماليات التي يمكن التخلي عنها فكم ترى الإنسان شديد الافتقار إلى الشيء الضروري، حتى إنه إذا ما تنبه ضميره أو استيقظ قلبه فرام تحقيق أمانيه تألم آلام الحي المقبور، ورزح تحت أعباء الأمور التافهة التي لا يسعه معها تنسم نسيم الحياة واستجلاء النور الساطع والضياء اللامع.
فمن الواجب تجريد الحياة من الأعباء الباطلة، وتحريرها من هذا الرق وتمييز مواضع الأمور وأهميتها، والاعتقاد بأن الوسيلة الوحيدة لرقي النوع البشري هي العناية بتهذيب الروح والخلق.
وكما أن فائدة المصباح لا تقوم بحسن زخرفه ودقة صناعته، ولا بنفاسة معدنه، بل بمقدار ضوئه وسطعانه، فكذلك لا يجوز تعيين مرتبة الإنسان وقدر قدره بما ملكت يداه، ولا بسعة عيشه، ولا ببسطة جاهه لا، ولا بطول باعه في العلميات أو الفنيات فإنما المرء بخلقه وأدبه.
ومع أن صور الحياة تختلف باختلاف الأزمان وتفاوت العقول، فأي عاقل ينكر خطر الانتقال الفجائي من طور إلى طور، أم من يقول: إن الاعتدال سيء المغبة، أو إن خطته هي غير خطة الإصلاح المؤدية إلى الغاية الشريفة؟
روح الاعتدال
يتوهم الناس أن للاعتدال دلائل ظاهرة تدل عليه، كعدم التأنق في الملبس واختيار المسكن البسيط وما أشبه ذلك. ولكن هذا الظن فاسد وباطل، وإننا لنربأ بالناقد البصير أن يمر به غني متبجل في مركبته ومتوسط حال ماش على قدميه ومعدم يتعثر بأسماله البالية؛ فيبادر إلى تقرير حكمه في كل من الثلاثة مستندا على هذه الظواهر؛ قد يجوز أن يكون ذلك الغني المترفه - رغما عن بسطة الرزق وسمو المركز الاجتماعي ومظاهر الجاه والثروة - معتدلا في أمره ليس عبدا للمال ولا أسيرا لحب الظهور. وقد يجوز أن يكون الرجل المتوسط قانعا بما في يده، لا يغبط الغني ولا يحسده على عزه وجاهه، ولا يحتقر الفقير لحاجته ولا يزدريه لعوزه. كما أنه يتأتى أن يكون ذلك الفقير المعدم طموحا لما لا يتفق مع فاقته، غير ميال للعمل عدوا للقناعة يمني نفسه بالسعة، وهو عائش في ظل الخمول والبطالة.
فمن أبعد الناس عن الاعتدال السائل الذي يعتاش من التسول وهو قادر على العمل والارتزاق، وذلك المجامل الذي يقول ما لا يعتقد إرضاء لمحدثه واستدرارا لماله، وذلك الطفيلي المتملق الذي يعيش على موائد مقربيه المخدوعين في أمره؛ فأولئك وجودهم عالة على الغير، وحياتهم عبء على المجتمع. ولو فحصت نياتهم وأفكارهم لعرفت أن أمانيهم تنحصر في الظفر بما يستطاع مما يتنعم به الغني الممتع. وفي عداد هؤلاء الممقوتين الطموع ومن لا مبدأ له والمذبذب والبخيل والمتكبر والمتقلب.
وليس الاعتدال صفة تختص بها طبقة من الناس دون سواها، كما أن المظاهر ليست من مميزاته والدلائل عليه. فهو موجود في كل طبقات المجتمع الإنساني على السواء، ويظهر على صور مختلفة وأشكال متباينة. وليس المراد بهذا القول عدم وجود أدلة ظاهرة تدل عليه، أو مميزات خاصة يعرف بها؛ إذ جل القصد من هذا التوكيد النجاة من الخلط بين الأعراض الباطلة والجواهر الحقيقية؛ فالاعتدال روح لا مادة، والإنسان المعتدل هو الذي ينحصر اهتمامه في أن يكون إنسانا «بكل معنى الكلمة» فيتكمل بكل صفات الرجولة ليكون رجلا لا أكثر ولا أقل. وليس هذا يسيرا ينال ولا صعبا يستحيل كما يتبادر إلى الذهن لأول وهلة، على أنه لا يتأتى تحقيقه إلا إذا ارتبطت الإرادة والعمل بنواميس الاجتماع، وطابقت مشيئة الخالق وحكمته في خلق الإنسان ووجوده. ومعنى هذا أن تقف الخلائق عند الحد المعين لكل منها، وأن تكون لما خلقت له فقط، فيبقى الطير طيرا والحجر حجرا والإنسان إنسانا، فلا يصير ثعلبا محتالا ولا يمسخ وحشا ضاريا.
الحياة عبارة عن اتحاد المادة بالقوة وعملهما معا، غير أن بعض الماديين قد ذهلوا عن ماهية الحياة. ولما كانت رغبة الإنسان واهتمامه منصرفين إلى زيادة قيمة الحياة والسمو بها إلى الأوج الأعلى، فلا يمكن تشبيه الوجود بالمادة الأولى الأساسية لكل شيء. وليس الغرض ماهية الوجود، بل نتيجته ومؤداه. كما أن العبرة ليست بمادة الأثر الثمين، ولكن بما فيه من إحكام وإبداع. والمواد تختلف اختلافا نوعيا؛ فمنها الذهب والرخام والخشب والتراب، ومع أن للذهب قيمة ثمينة فقد يسيء صانع في صنعة ما يصوغه منه فيحط من قيمته، ويوفق آخر إلى عمل أثر خالد من التراب، لا يقدر له ثمن ولا تجد له قيمة. فالحكمة إذن في صوغ حياة الإنسان وتنسيقها؛ لتكون في أجمل وأجل مظاهرها الصادقة التي ترفع قيمتها وتشرف قدرها.
ومن الصفات المحسنة ذات الاعتبار في جميع الأزمنة وسائر الأمكنة العدل والحب والحقيقة والحرية والإحساس والشعور، وهذه الصفات تلائم كل أفراد الهيئة الاجتماعية على اختلاف الطبقات في كل العصور، وليس من المحال اعتيادها والتطبع بها مهما اختلفت درجات الناس في التربية والتهذيب. ومن هذا نعرف أن قيمة الرجل ليست بماله ولا بمميزاته الشخصية، بل بصفاته وبالكمالات التي عني لها، فالعبرة بالصفة الحقيقية لا بالرونق الظاهر.
ومن البديهي أنه لا يمكن الوصول إلى هذه الغاية بدون جهد وتعب؛ لأن روح الاعتدال ليست مما يتوارث، ولكنها جعالة جهاد طويل وثمرة سعي متواصل.
يحاول الناس استخراج القواعد من مجموع الأحوال المتغايرة، ولكن كم يلزم من الزمن والتجاريب والتعب والعناء لتقرير حقيقة صغيرة في كلمات مسطورة؟
هذا هو حالهم في أمر التربية الأخلاقية، فكم يخلطون ويتطوحون ويبحثون ويجربون فيضلون شأوهم ويتيهون عنه. ولعل الإنسان مع توالي العمل والتحقق من كل شيء بالغ من معرفة أسرار الحياة وحل رموز المشاكل، حيث يستطيع استنتاج القاعدة العامة والقانون الأساسي للنظام؛ وهو «عمل الواجب». وكل ساع إلى غير هذا الغرض العام عابث بالقصد من الحياة، وقاض على نفسه بالخروج من عالم الأحياء العاملين، وما هو في الوجود إلا الحي الميت، لا شأن له ولا قيمة. وممن يهملون هذا الغرض الشريف الأناني والطماع والبهيمي عبد الشهوة؛ أولئك الذين يعبثون بحياتهم عبث الزارع بزرعه إذا حصده قبل أن يثمر وينضج. أما من يضحي حياته في سبيل الكمال فإنه يحييها ويرقيها ويربحها ربحا.
والقواعد الأخلاقية التي تظهر شاذة لصغار العقول وقصار المدارك، وتلوح لهم من الوسائل المضعفة من النشاط المقوضة لأركان الحياة، لم يشاهدوها إلا معكوسة، ولم ينظروا إليها إلا بمنظار أسود؛ لأن كل المبادئ السامية ترمي إلى رقي الحياة وإلى إعداد النفس للكمالات. ولهذا ترى النزر الأعمى المضلل يحوم حول نقطة واحدة؛ وهي الحرص على الراحة والحياة المادية. وهذا يخالف كل التعاليم الصحيحة العالية؛ لأنها تدفع الإنسان لبذل الحياة، واحتمال النصب في سبيل استثمار المجهودات النفسية، وترقية الروح للتكمل بجليل الصفات.
وعلى قدر الجهد الذي يبذله الإنسان لنفعه وخيره الخاص يكون مقدار تمسكه بالمبادئ التي تعب في اكتسابها، واقتنع بسموها وتحقق صلاحها. وعلى قدر تمسكه بها تكون قيمته الأخلاقية ومركزه الأدبي. ثم يسير في طريق الحياة وله وجهة معروفة وخطة مرسومة، واثقا من نفسه بعد طول التردد والشك، عالما بمجاري الأمور والأحوال بعد الجهل والتخبط، فيستطيع إذ ذاك الحكم في الأمور وتمييزها بصورة لا تقبل النقد والتثريب. حتى إذا تشبعت روحه من حب جلال الحياة الحقيقية وشرف المبادئ السامية، وانصرفت إلى الحقيقة وحب العدل بقي لذلك أثر خالد في قلبه لا يزول ولا يمحى، وتكملت نفسه بسائر الصفات الممدوحة وصار للوجود مطلق السلطة والنفوذ؛ فيصغر العرض أمامه ويتلاشى فيشمل النظام أحوال الإنسان وأعماله، ويكون معتدلا بالمعنى المقصود بالاعتدال.
انظر إلى الجيش تجده قويا كلما حسن نظامه وأحكمت قيادته. والنظام قائم باحترام المرءوس للرئيس وبالقصد إلى غرض معين من طريق معروفة، فإذا ساد الخلل نزل الضعف منزلة النظام وأغار الوهن على القوة فتركها بددا.
وليس من النظام أن يخضع القائد للجندي. وهكذا يكون الحال في شئون الإنسان والهيئة الاجتماعية فينبغي أن يخضع المرءوس للرئيس بوجه عام، فحيث ترى خللا سائدا أو ثلمة في نظام الاجتماع فكن على ثقة من أن منشأها تجاوز الفرد حده وشروده عن محجة الصواب. وفي كل بقعة من الأرض نبت فيها الاعتدال ووقفت نفوس أبنائها عند حدودها وقنعت بحظوظها؛ ترى النظام تاما كاملا حقيقيا بأجلى مظاهره ومعانيه، فإذا ما عرفنا قدر الاعتدال قلنا: إن كل تعريف له قاصر عن بيان معناه تماما، وإن كل عبارة واقعة دون المرام، وكل قوى العالم وجماله وجلاله، وكل المسرات الحقيقية التي تعزي الإنسان وتقوي الأمل، وكل الحقائق التي تضيء طريق الحياة ومهاويها المخيفة؛ هي من نتائج الاعتدال، ومن أعمال المعتدلين الذين لم تستعبدهم النفس بأميالها المتعددة، فغلبوها ورموا إلى الغايات الشريفة والأغراض الوجيهة السامية، ولم يتركوا لحب الذات والزهو سبيلا إلى قلوبهم؛ لأنهم عرفوا أن الرفعة الحقيقية وقيمة الحياة في العمل الجليل والذكر الخالد.
الفكر والاعتدال
لا يكفي للإنسان أن يسعى لترتيب أموره الدنيوية وأحوال معيشته وحياته، بل يجب أن يهتم أيضا بفكره فيطهره من كل الأدران التي تشوبه وتضلله؛ لأن الفكر السخيف منشأ الاختلال والفوضى، ولما كانت طريق الحياة وعرة كثيرة العقبات والمزالق وجب أن يكون الفكر سليما صحيحا؛ ليتيسر له تمييز الغي من الرشد، واطراح كل رأي سقيم ومعتقد باطل لا يظهر الإنسان بمظهر الرجولة الصحيحة، ولا ينشط به إلى طريق الكمال والرقي.
الفكر أداة من الأدوات النافعة للمجموع، وليس من الكماليات التي يمكن الاستغناء عنها؛ فيجب الاهتمام به اهتماما كليا وتربيته تربية كفيلة بالتثقيف والتقوية؛ ليؤدي الوظيفة التي خلق لها، وإلا فلا فارقة تميزه من خواطر الحيوانات والهامات.
أطلق قردا في مكان أحد المصورين تجده يبتهج لمرأى الرسوم والصور وأدوات الرسم، فيتنقل بينها مسرورا، ثم يعود فيعبث بها، فيحطم اللوحات البديعة؛ لينظر ما وراءها، ويمزق الأقمشة بأنيابه الحادة؛ ليرى ما في باطن صورها، ويذوق مواد الألوان، ثم يمتعض لطعمها فينثرها في أرض الغرفة، ولا يترك شيئا في مكانه. ولا شك في أن القرد يسر بما يعمل ويلهو بهذا الإتلاف، ولكن أماكن المصورين لم تخصص للقرود، ولم تنسق ليتلفها هذا الحيوان الخبيث. فكذلك الفكر ليس مكانا للتجارب البهلوانية، ولم يخلق للهو به وإجهاده فيما لا يفيد، ومن أشد الأخطار على الإنسان أن يجعل فكره لعبة يسلو بها ويلهو، فلا يكون يوما ما فكرا راقيا يميز ويدرك.
ومن المضار المتفشية جنون الإنسان بمعرفة قدر نفسه ومنزلته بالنسبة للآخرين. وليس الضرر في فحص الضمير والقلب للتحقق من وجود الميول الصالحة والمبادئ الشريفة؛ لأن هذا الفحص مما يساعد على التقويم والتكمل. وإنما الضرر في الاغترار بالنفس، وحب الظهور بمظهر المتفوق على الغير الممتاز عنهم، وكل عامل يقضي حياته في فحص آلة عمله على تحققه صلاحها يفسدها ولا يتمم عملا. ومن أراد أن يمشي فليس في حاجة لطبيب يفحصه ويقرر قدرته على المشي، فحسبه أن يتحقق وجود قدميه، ويقوم عليهما، ويسير في طريقه محترسا من السقوط مستعملا قوته بتؤدة وحكمة؛ لكي لا تنفد قبل الوصول إلى غايته. وحسب الإنسان أن يكون على شيء من التعقل؛ ليعلم أنه خلق للعمل، لا لقتل الوقت في تأمل ذاته في المرآة. ولكن التعقل أصبح نادرا بين الأفراد كسائر الصفات الحميدة، بل أصبح من العوائد المنبوذة والصفات الخلقة، التي يستعيض عنها عشاق المدنية بسواها فيضلون سواء السبيل. ومن المحقق أن الاتصاف بالشطط والإفراط والتطرف بدلا من الارعواء والاستقامة؛ تكون نتيجته إصابة الهيئة الاجتماعية بكل أنواع المسخ والبتر والتشويه، وإبعادها عن الحكمة وأصالة الرأي.
المستحدثات طارئة تتجدد، ولكن الفكر والتعقل والتبصرة من الدعائم الأساسية التي لا تتبدل بتبدل الأزمان والأحوال، فمن تجرد منها ساء مصيره، ومن حازها واحتفظ بها اعتدل وأمن شر العاقبة. وليس التعقل من الصفات الغريزية التي توجد عفوا في جميع الناس، ولكنه من الصفات التي تكتسب بعد عناء طويل وكد متواصل. وهو كنز من أثمن الكنوز وأنفسها قدرا، ولا يعرف قيمته إلا من يكون حكيما لا يرضيه الشطط والتطوح مع الأهواء. والعاقل من يستهين المتاعب، ويستقصر الزمن الذي يلزم للتكمل بهذه الصفة الحميدة، فيكون بصيرا بالأمور والعواقب حكيما سديد الرأي. إن صاحب السيف يخاف عليه من التثني والتعوج ولا يتركه طعاما للصدأ، بل يتعهده بالنظافة والعناية، فإذا كان هذا حظ قطعة الفولاذ التي لا تنفع في كل آن مع تيسر وجود عوضها، فما بالك بالعقل - وهو الجوهر الذي يستحيل إصلاحه - إذا فسد، أو الاستعاضة عنه بغيره إذا اختل؟
وليس من العقل التشبث بمذهب الرافضين؛ أي عدم التصديق والإيمان إلا بما يتحقق بالاختبار، ذلك المذهب الجامد الذي ينكر كل ما لا تشاهده العين أو تلمسه اليد؛ لأن التقيد بهذا القيد الضيق يحصر العقل في دائرة ضيقة، ويترك الفصل في الأمور للحواس المادية، فيلاشي مواهب الإدراك والتمييز وصحة الحكم. وهذه المسألة من أهم المسائل الاجتماعية وأشدها تعقيدا؛ لأن نشاط العقل لمعرفة الغوامض شديد الخطر؛ فهو أبدا يبحث عن تلك الأمور المتوارية في ظلام الغيب، والتائهة في دياجير المجهول، ومن المؤكد أن البحث العقلي من أشق الأعمال وأكثرها حاجة للتروي والصبر، فإن استقصاء الحقائق والعثور عليها ليس بالأمر الهين، ولكن الحاجة الماسة تدفع الإنسان إلى البحث، وتسهل له سبيل الاستدلال فيصل إلى الحقيقة. •••
إن مجرد الوجود لا يستدعي التعقل؛ لأنه سابق له وغير مرتبط بالعلم والجهل؛ إذ هو وجود حيواني لا مزية له إلا بعد التهذيب والتثقيف. وقد خلق الإنسان قبل أن يفكر وفكر بعد أن خلق ووجد، فكان وحشا قبل رقي مداركه وصار إنسانا بالمعنى الصحيح بعد أن تحلى بحلية العقل المهذب والتمييز عن معرفة، فمهد السلف سبيل الحياة للخلف، وأوجدوا أضواء الحقائق التي تنير ظلام الحياة وتكشف سبلها المتشعبة، فلم يبق على الإنسان إلا أن يتعرف ما أمامه، فيعيش آمنا ميسورا بدلا من أن يقضي كل حياته عبثا دون الانتهاء إلى نتيجة من البحث والتنقيب.
ولولا الحقائق والخطط القويمة التي اهتدى إليها السلف ودونوها لوقفت حركة التقدم، ولما خطا العالم خطوة واحدة في سبيل الرقي والكمال؛ لأنه إذا كان كل فرد يبدأ بالعمل لنفسه، فإنه لا ينتهي من البحث والاهتداء إلى الحقائق إلا وهو في آخر مرحلة من العمر، وقدمه على حافة القبر، فتنطفئ حياته قبل أن يستفيد بما قضى العمر للحصول عليه، ويترك المجال لمخلوق جديد يعيد الكرة لينتهي إلى مثل هذه النهاية، فلا يكون هناك مجال للتمتع بلذائذ الحياة، ونعيم العيش، وتكون الدنيا دار شقاء ونصب لا دار نعيم وسعادة، وهذا ضلال مبين.
الحياة أمد قصير وزمن لا يطول ومعترك ومضمار جهاد، فمن غفل سقط قبل أن يلتفت إليه غيره؛ لاشتغال كل فرد بأمر نفسه وانصرافه لمقاومة تيار التنازع والوصول إلى شاطئ السلام، والفائز من عني للنجاة جهده. فليس على الإنسان إلا الامتثال لما هو حتم على كل نفس، ومقابلة متاعب الحياة ومقتضياتها بصبر ورضاء؛ فإن التذمر لا يجدي نفعا ولا يدفع مقدورا. ولا يتوهمن أحد أن الحالة تسوء من يوم ليوم، أو أن العصور الغابرة كانت خيرا من الحاضرة؛ لأنه ليس في الاستطاعة الحكم على أحوال الزمن القاصي حكما صحيحا، كما لا يمكن للعين التثبت من حقيقة الأشياء البعيدة تثبتا تاما. ومما لا ريب فيه أن حياة الإنسان - منذ بدء الخليقة إلى الآن كانت ولم تزل - مشوبة بما يتقزز منه ويتأفف، وإن اختلفت الأسباب والأعراض. ولم يصل الفكر ولا البصيرة في أي عصر للدرجة التي تكشف للمخلوق حجاب الغيب، فيطل منها على المستقبل ويهتدي إلى الحقائق.
فلا فارق إذن بين إنسان اليوم ورجل العصر البعيد، كما أنه لا فارق أيضا في ذلك بين المرءوس والرئيس والمتعلم والعالم والصانع، فكلهم عاجز عن إدراك أبعد غايات العقل والاستئثار بالفهم والحكم، فهم يقدرون الأمور - كل على قدر عقله - ويتوسعون في البحث والحكم - كل على قدر بصيرته وسعة مداركه - فتتجلى لهم الحقائق على مقدار ما لهم من وفرة الاختبار وقوة التمييز.
وإن ما وصل إليه العالم من العلم والتنوير واكتشاف بعض الحقائق قد أفاد المجموع فائدة مذكورة، ولكنه لم يكشف طريق المجهول، ولم يصل لحل كل مسائل الاجتماع، ولم يرفع من سبيل الحياة كل الحواجز والعقبات الحائلة دون الحقائق، ولا يزال العقل يصادف طلاسم يتخبط فيها دون أن يهتدي، ولا تزال الحكمة والفلسفة تشتط في مجاهل لا حد لها ولا غاية، ولكن من يعرف أن الظمآن يرتوي بقليل من ماء البئر يجد الحياة ممكنة باليسير الذي توفق إليه الإنسان، كما كانت ممكنة من قبل لمن جهل كل الحقائق، وكتمت عنه أسرار الوجود ونظام العالم، فالحياة ممكنة والاعتدال في الحياة غير المحال، ولا يستدعي ما لا طاقة به للإنسان، ومن اعتدل فكره اعتدل قوله وانتظم عمله.
والاعتدال في الفكر يستدعي التوكل والأمل والطيبة.
التوكل ركون واعتماد بعد ثقة، وإيمان عن اعتقاد بعد تصديق، لا عن وراثة واعتياد.
والإيمان يقوي الفكر ويقيه شر الاندفاع إلى ما وراء المعلوم، ويوقفه عند الحد الجائز، ويجعله كثير الثقة بالخالق، وبخلود العالم إلى ما شاء الله، وبحسن عناية الله بنظام الوجود وسائر الكائنات، فيرتاح خاطر الإنسان ويطمئن ويعيش هادئا آمنا، كما تعيش الأزهار والأشجار والحيوانات وسائر المخلوقات التي لا تفكر ولا تبحث في كيفية الوجود وسر الحياة.
والعقيدة الثابتة تجعل الإنسان واثقا من إشراق الصباح، وانسدال الليل، ونزول الأمطار في أوانها، وجري الأنهار والجداول إلى مصابها، ومن وجود الهواء الكافي للخلائق، وسائر الحاجات الضرورية للحياة، ودوام وجود هذه الضروريات؛ لأن كل ما كان لحاجته وحكمته يكون ويبقى ولا يتلاشى، فالتوكل من أسباب الراحة والطمأنينة، ولما كان هذا المبدأ مدعاة النشاط وحب الحياة فهو يحسن الحياة ويجملها.
الإيمان هو السر الوحيد الذي ينعش النشاط في الإنسان ويجدده ويدفعه وراء الرزق، فيسعى في مناكب الأرض ويضرب في مناحيها طلبا للعيش وضروريات الوجود، فكل ما يزعزعه يكون شرا على الحياة من السم الزعاف، كما أن من شر المصائب التي عم ضررها على الاجتماع، واشتدت الشكوى منها انتشار الفلسفة العقيمة، التي تؤدي إلى تنفير الناس من الحياة، وتحويل أنظارهم عن جلالها وحسنها، وتصويرها في أشنع الصور وأفظع الأشكال.
ولو سألت أحد أولئك الدعاة عما اكتشفوه من العلاج، وهل في الاستطاعة ملاشاة الحياة في ذاتها - ولا أقصد بذلك إزهاق النفس، بل زوال سر الحياة وحقيقة الوجود - لكان الجواب سلبا. أوليس الأجدر إذن بالناس أن يحترموا سر الوجود، ويتركوا غيرهم يتمتع بالحياة بدلا من أن ينغصوا على أنفسهم وعلى الناس العيش ويقللوا الراحة؟
وإذا كان المرء لا يأكل شيئا وثق من ضرره وعدم صلاحيته للأكل، أفليس الأخلق به أن يطرد عنه كل الأفكار السخيفة التي تؤذيه في الحياة أثمن هبات الله ومنحه للإنسان؟
لا يوجد من أولئك الفلاسفة المتشدقين بأقوالهم من أقام دليلا منطقيا يحط من قدر الحياة، وينفي سرها الإلهي العجيب؛ لأنه يجب على من يريد الدليل أن يفحص الحياة أولا، ويعرف ينبوعها وأسرارها حتى يستطيع الحكم والتعليل، وذلك ليس في استطاعة الإنسان ولا في قدرته. ومع وضوح هذه الحقيقة فكم نرى أولئك المشاغبين يتحمسون في صيحاتهم ونشر آرائهم! كأنما هم الذين خلقوا العالم وأحاطوا علما بما فيه من أسرار غامضة وعجائب مدهشة، وهذا نهاية في الحمق وغاية في الجنون، فخير للإنسان أن يغذي فكره بالآراء الصالحة، ونفسه بالحقائق الثابتة بدلا من أن يقتله بالسفسطات والأباطيل. •••
الأمل هو الثقة بالمستقبل، والحياة - في ذاتها - عبارة عن رغبة وعمل ونتيجة، وكما لها بداءة فلها نقطة اتجاه ونهاية. وكل إنسان يؤمل قبل أن ينال، وينال بعد أن أمل، وعلى قدر قوة الأمل ومقداره يكون المستقبل، فالأمل ضروري؛ لأنه لا حياة بدونه.
والقدرة التي خلقت النفس وأوجدتها بعثت فيها الأمل، وحثتها على التطلع والطموح، وإلا فلا معنى للخضوع للشرائع السماوية، ولانتظار الأجر والثواب في الدار الأخيرة والنعيم المؤمل. وكل حوادث الحاضر تدل دلالة واضحة على أنه لا يتم شيء في الوجود بغير الأمل؛ فالعابد يعبد الله أملا في خير الجزاء، والصانع يجهد نفسه ويعمل أملا في الأجر، والتاجر يخاطر بأمواله ويكد ويكدح أملا في الربح. فلولا الأمل لما كانت عبادة ولا صناعة ولا تجارة ولا حرفة ولا مهنة. ولولا الأمل لما كان الوجود. والتاريخ أكبر شاهد على أن الأمل وحده هو الذي نشط بالخلائق إلى مراقي الفلاح وذروات المجد والسؤدد، ولولاه لما فاز العالم بهذا النصيب الوافر من الإثراء والرقي الأدبي والعلمي. الأمل يخفف الأحمال الثقيلة ويلطف الآلام، ويساعد العاثر على النهوض والمعدم على تحمل أرزاء الفقر والعوز، ويحول بينه وبين اليأس الوبيل. الأمل أكبر عزاء للمنكوب، وأقوى أساس لنظام العالم.
ولو قيد الإنسان فكره بالحقائق الواضحة، ولم يقتنع بغير الأدلة العقلية، والحجج المنطقية لاستنتج أن الموت هو النهاية الوحيدة لكل الكائنات الحية، وأنه السيف المسلول الذي يهدد الحياة في كل لحظة؛ فيشتغل به الفكر رهبة منه، وينظر إلى الحياة من وجهها الأسود فيتلاشى الأمل ويقل نشاط العاملين، وتقف حركة العالم ويتطرق الخلل والجمود إلى هذا المجتمع العامل النشيط. ولكن الأمل - والحمد لله - باق وله النفوذ الأقوى في نفوس الخلائق وأفكارها، وهو المنشط الوحيد الذي يجعلها تتعلق بالحياة ومتاع الدنيا فتعمل وتجد.
فحتم على العاقل ألا يحقر طموح النفس وتطلعها إلى المستقبل، بل يجب عليه احترام هذا الأمل أينما كان، وعلى أي صورة وجد، سواء تمثل له في رأس الطائر الذي يجمع القش لبناء عش لفراخه، أو في نفس الحيوان الطاحن المجروح، الذي يقع ويقوم في كل خطوة من خطواته ساعيا وراء رزقه، أو باحثا عن ظل ظليل يرقد فيه ليستريح، وسواء في قلب الفلاح الذي يقضي نهاره في الحقل عاريا يحرث ويفلح الأرض ويبذر أو يروي أو يحصد.
لنحترم الأمل ونحيه، ولو كان في الخرافات والقصص أو في الأغاني والأناشيد العامية؛ لأنه عماد القوة والمنشط الوحيد للعالم، وعليه مدار النظام والترقي. ولكن مما يؤسف له أن إنسان اليوم أكثر الخلائق خوفا من المستقبل، وأقلها أملا؛ فهو يخشى سقوط الرجوم واصطدام الأرض بأحد الكواكب أو المذنبات،
1
ويرقب - في كل لحظة - نهاية العالم ودنو الساعة الأخيرة، ويزيد هذا الخوف تكهن بعض علماء الفلك بأمثال هذه الأمور والهذيان بالنبوات المخيفة؛ لتتناقل الصحف أسماءهم، ولكي يطيرها البرق إلى أنحاء المعمورة، فيصدع بها الآذان ويملأ القلوب خوفا والأفواه شقشقة وأفكا.
فالحكيم من يثق بقدرة الخالق على تدبير ما خلق، وبأن من أوجد النظام الإلهي العجيب ليس بعاجز عن ضبطه وإحكامه، وبأن من خلق هذا العالم البديع لا يتركه للفناء والزوال بغير إرادته ومشيئته، فلا تكون النهاية على ذلك الشكل الخرافي الذي تختلقه وتتوهمه العقول السخيفة. والعقول البشرية مهما ارتقت قاصرة عن إدراك كنه الكون وأسراره العجيبة، وما وقف عليه الإنسان من المعلومات تافه في جانب الحقائق المجهولة والمبهمات الغامضة الخفية. فيجب على المخلوق أن يعترف بالقصور، وأن يكل نظام الكون لخالقه، ويشتغل بأموره الدنيوية، وأحواله الاجتماعية، ويقوي الأمل ما استطاع، ويسد المنافذ في وجه اليأس؛ لأنه من العوامل القاضية على الشجاعة وحب العمل.
ولماذا يتطرق اليأس ما دامت الشمس لم تنقطع عن الإشراق والأرض عن الإنبات؟ لماذا نيأس والحياة لم تزل كما هي؟ فالعصفور يغرد وهو مهتم بصنع وكره وجلب الطعام لأفراخه، والأم لم تزل تبسم لطفلها، والوالد يسعى في طلب الرزق ليعول امرأته وأولاده. لم نيأس ما دامت النجوم ترصع السماء، والقمر يطل بوجهه الفضي على جيوش الظلام فتتبدد وتمحى؟ لماذا نيأس من رحمة الله ونضعف نشاطنا بأمثال هذه الأوهام والأباطيل؟ الأمل الأمل؛ فهو سبيل الفوز والنجاح، وحذار من اليأس؛ فهو مدعاة الفشل والحبوط. •••
الطيبة من لوازم الرجولة، ولست من القائلين: إن الكمال غريزي في الإنسان؛ المعتقدين أن منشأ الفساد العشرة أو البيئة الفاسدتان. ولكنني ممن تسوءهم العادات السيئة، وجلها موروث. ولو قابل الإنسان أصحاب هذه السيئات بما يستحقه المسيء المؤذي لما بقي في العالم نزر من خلق الله. ولا أظن في الوجود من ينكر البغضاء والفساد والتعدي على الغير والاسترقاق، وأشباه هذه الرذائل التي تأباها النفوس ولا تتحملها إلا مكرهة مغلوبة على أمرها. وليس من يشك في أنها من أكبر الوسائل التي توتر القلوب وتملؤها بالأحقاد والضغائن، وتسوق الإنسان سوقا في طريق الانتقام من الظالم بأية وسيلة ومن أي طريق. فلولا الطيبة واستسلام الإنسان لقدرة الخالق وعدله الإلهي لفسدت الأرض وشربت الدماء.
الطيبة ينبوع ماء حي يروي النفوس ويطفئ فيها نار الخصومة، وهي من منح الله التي تحفظ النظام، وتلطف شرور العالم وفجور الإنسان. وهي أبدية لا تزول، وجدت من ابتداء الخليقة وستبقى إلى ما شاء الله، على وفرة ما يناقضها، ويشوه جلالها، ويعمل على محوها من القلب، فإن لها فيه خصوما عدة؛ منها: القسوة، والخبث، وحب السلطة، والأنانية، والكفران بالنعمة . وأقل هذه الرذائل ينزل بالإنسان إلى أحط منازل الحياة وأسفل دركات الشقاء، ويطوح به إلى بؤرة الرذيلة ويسوقه إلى التعدي على مال الغير وحياته، ولكن المألوف انتصار الطيبة على كل هذه النقائص وفوزها عليها جمعاء. وما أكثر الحوادث التي تغلبت فيها الطيبة على كل ضروب القسوة والتوحش، وأخضعتها فدانت لها وصغرت.
الطيبة تصلح ذات البين وتعزي المنكوب وتلطف آلام الشقي وتكمل صاحبها وتجمله، ومن خاصياتها التواضع والصبر على الضيم. الطيبة بلسم الجراح تمسح الدموع، وتقوي الفقير على احتمال الفاقة، وتضمد القلوب المكلومة، وتساعد على السماح والغفران. وهي الصفة الرئيسية التي يحتاجها النوع البشري ويفتقر إليها في كل أدوار الحياة. •••
فمن رام أن يكون على شيء من الاعتدال - بالمعنى الصحيح - فعليه بالتوكل والأمل والطيبة. وإنني لا أريد تخوير عزائم المتطرفين ولا تخدير نشاطهم، كما أنني لا أبغي ردع المولعين بكشف سر المجهول، ولا زجر الباحثين عما وراء الغيب، والمتعمقين في المباحث الفلسفية أو العلمية. وإنما أروم الركون إلى الحقائق بدلا من التشبث بما لا يفيد، والكد وراء ما لا يدرك ولا ينال. فإن من أسرار الحياة والمسائل الاجتماعية ما يتساوى في معرفته والوقوف على غوامضه العالم المفكر والجاهل الغبي؛ لأنها فوق قدرة الاثنين، وليست في متناول العقل والإدراك، فمن أراد الله به خيرا وعى هذه الحقيقة بلا جدل، وكف عن الضلال، وارعوى عن الغي، واعتدل في حياته وفكره.
ورب معترض يزعم أن التوكل من النظريات الدينية التي تثبط الهمم، وتهمد العزائم، وتمنع المخلوق من السعي والدأب على العمل، فيحسن الرد عليه بأن الدين نفسه فرض على الإنسان العمل والسعي في طلب الرزق، فقد جاء في الإنجيل: «بعرق جبينك تأكل خبزك.» وجاء في القرآن:
فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه .
وليس بين كل الأديان دين يدعو إلى الخمول والكسل انتظارا لفيض نعم الله وبركاته، وإنما كلها تدعو إلى العمل والاجتهاد، مع التوكل والاعتماد عليه تعالى.
ولو سأل سائل عن أحسن الأديان لما استطاع حكيم الإجابة على هذا بغير تفكر طويل ومخاطرة؛ لأن الأديان جميعا تدعو إلى الفضائل، وتحرض على اجتناب الرذائل. والعقل يتحاشى الجزم برأي معين عند ولوج مثل هذا المبحث؛ لأنه لا يستطيع تفضيل شريعة على الأخرى بغير تحامل وتحيز، وبغير إثارة سخط البعض على حكمه، مع أن الحقيقة لا بد وأن ترضي الجميع، ولا يقوم دليل على غير صحتها.
فخير ما يفعل العاقل أن يضع السؤال على صورة أخرى، ويسأل عن ماهية الدين القويم الصالح للدنيا وللآخرة، فيكون الجواب أن الدين القويم هو الذي ينير البصائر، ويرفع قدر الحياة، ويحض على العمل مع التوكل والأمل والطيبة. الدين القويم هو الذي ينتصر للخير والفضيلة، ويخذل الشر والرذيلة، وينشط الإنسان، ويدفعه إلى التكمل بالفضائل والصفات الحميدة، وإلى اكتساب كل خلال الرجولة الحقة. الدين القويم هو الذي يعين على احتمال الآلام بصبر وقبول، ويدعو إلى احترام الغير ومراعاة حقوقهم، ويساعد على التسامح، ويقلل من الكبرياء والعتو، ويحث على عمل الواجب.
فالدين الذي تكون هذه تعاليمه هو الدين الصحيح، وشريعته هي الشريعة السمحاء التي تقرب الإنسان إلى الله، وتجعله من عباده المتقين.
وكل دين تزين تعاليمه الخيلاء والكبر والأفضلية على سائر المخلوقات البشرية، وتدعو إلى النزاع والشقاق، وتدفع إلى التغلب على الغير والاستئثار بإرادتهم وحريتهم، أو ترمي إلى انقياد الإنسان نفسه للصغار، فما تعاليم مثل ذلك الدين إلا باطلة وفاسدة، لا ترضي الخالق ولا المخلوق، بعيدة عن محجة العقل والصراط المستقيم.
فهل لا ترى في التعاليم الأولى جلالا واعتدالا، وفي الثانية صغارا وشططا؟ وهل يكون للفكر السخيف قوة على تمييز الحسن من القبيح، أم يسقط بصاحبه فيكون من الضالين الذين ساءوا منقلبا، وكانوا من المفسدين؟
ألا إن مدار الحياة ورقي الاجتماع على الفكر السليم المعتدل؛ لأنه ينبوع الحكمة وعماد النظام وأساس الرقي والكمال.
القول والاعتدال
للإعراب عن الفكر عدة وسائل، أهمها: القول؛ وهو مقياس العقل وميزانه. فالعاقل من يربأ بلسانه أن يهفو، وقلمه أن يشط ويجعل قوله حكيما كفكره، والحكيم من يفكر بروية ويتكلم بصراحة.
والثقة المتبادلة حلقة توثق بها الروابط الاجتماعية، ومدار الثقة على الأفراد أنفسهم ومبلغهم من الصدق والشرف، فإذا ضعفت هذه الخصال قلت الثقة واختل النظام وقضى على الراحة والأمن جميعا.
وما هذه النظرية إلا حقيقة مشاهدة في المعاملات المادية والأدبية، فكما يصعب التعامل مع من لا يوثق بهم، فكذلك يصعب الاهتداء إلى الحقيقة من أقوالهم. ومن البديهي أنه إذا شردت الأقوال عن محجة الصواب، وبعدت النيات عن جادة الصدق واتخذت سبيل التضليل والإغراء؛ كان ذلك سببا لتعدد مشاكل الحياة وتعقيدها واختلال نظام الأحوال. وهذا هو الواقع اليوم والمشاهد الملموس الذي لا ينكر، فالعالم مملوء بدهاة الرجال والمحتالين الذين لا هم لهم إلا اختداع الغير وتضليلهم، فوالحالة هذه لا غرو أن يشق على الناس تبين الحقائق والاهتداء إليها في بيئة مملوءة بالمفاسد والأباطيل. •••
لقد كانت وسائل التفاهم وتبادل المنافع في الماضي بسيطة ومختصرة وقليلة، وكان المرجح أن تحسنها يرقي المدنية الصحيحة، ويكون واسطة لتقريب الشعوب بعضها من بعض، وربطها بروابط المنافع المادية والأدبية، فيكون ذلك سببا من أسباب السلام وتبادل الحب والاحترام.
وكان المنتظر أن يعيش أفراد الأمة الواحدة كالأخوة فيما بينهم؛ لكثرة الأواصر التي تربطهم ووثوق العرى التي تجمعهم معا، وكان المؤمل أن يعملوا معا لتقويتها وصون المنافع المشتركة. ولذلك هللت الخلائق فرحا عند اختراع آلة الطباعة وتفاءلوا خيرا، وتضاعف السرور والاغتباط بانتشار المطبوعات، وانصراف القوم إلى التعليم والتثقيف، وانعكافهم على مطالعة الجرائد والمطبوعات الدورية؛ ظنا منهم أن الأضواء الكثيرة خير من الضوء الواحد، وأن الفوائد الجمة خير من الفائدة المفردة، واعتقادا بأن انتشار الصحف والمجلات والكتب واسطة لترقية الأفكار، وتهذيب العقول، وانتشار العلم، ورفع حجب الجهل عن الأبصار والبصائر، وتسهيل جمع وتقرير الحوادث لمن شاء من المؤرخين والكتاب. وهذه هي النتائج الصحيحة الطبيعية التي تتبادر إلى الذهن في بادئ الأمر. ولكن الأمور جرت - ويا للأسف - في غير هذا السبيل، فجاءت النتائج بعكس ما كان ينتظر.
وكأني بالناس انصرفت أنظارهم إلى الآلة وقوتها، وإلى الفائدة الوقتية المتوخاة منها. وذهلوا عن أمر العامل الذي يديرها، وعن روحه التي هي مبعث تلك القوة وعلة تلك الفائدة؛ فاغتنم السفسطائيون والأفاكون وذوو الأقلام المرة والألسنة الذربة فرصة الذهول هذه، وبادروا إلى تسميم العقول، وتضليل الألباب بما باتوا ينشرونه من المبادئ الفاسدة والأباطيل والأضاليل، بحيث أصبح الوقوف على الحقائق والمبادئ الأولية ضربا من المحال.
ولئن وجد بين المطبوعات كتاب أو صحيفة تنشر الحقائق مجردة من الغايات السافلة، وتعمل بنزاهة لربط أواصر الصداقة بين الشعوب والأمم، فهناك آلاف سواها - ومن نوعها - تفتري الكذب وتؤيد الزور؛ لتعبث بهذه الثقة المتبادلة وتحل العرى الموثوقة، وتبذر بذور الشقاق والبغضاء بما تنشره من التهم الباطلة، وتقرره من الأكاذيب الملفقة، وتحدثه من اللجب والضوضاء بلا داع ولا سبب. وسواء في ذلك ما يختص بالأحوال الداخلية أو الخارجية وما يتعلق بسائر الشئون العمومية من تجارية وصناعية وزراعية إلى غيرها. فمن العسير، بل من المحال الوقوف على الحقائق مجردة من الفذلكات والتلفيقات، وخالية من الطلاء الكاذب. وقد بات يصح القول: إنه كلما كثر الاطلاع على المطبوعات والجرائد زاد الناس ضلالا على ضلالهم. وكثيرا ما تململ المطالع من كثرة خداع الكتاب، فمزق ما بيده من الصحف وتيقن أن العالم صار خلوا من ذوي الذمم الطاهرة، اللهم إلا نزرا قليلا مجهولا لا يمكن الاستدلال عليه لضياعه بين هذا المجموع الفاسد. ثم يعود فيسيء الظن حتى بهذا النزر اليسير أيضا؛ لما يراه من تحرش المحررين بعضهم ببعض وافترائهم السوء والقبيح للحط من كرامة أنفسهم، فيحوقل آسفا على ما وصل إليه المجتمع من الفساد والسقوط الأدبي.
وليست هذه الحيرة بمحصورة في أفراد الشعب المعبر عنهم بالعامة أو الجمهور، بل يشاركهم فيها الخاصة أيضا، والمتعلم والفيلسوف والمتأدب وأرباب السياسة وأساطين العلم وعشاق الفنون ورجال الدين؛ لأن الفساد شمل كل الطبقات حتى هال الناس كثرة انتشار الكذب والرياء والخداع، ولم تعد العين تميز الغث من السمين، ولا بقي في استطاعة العقول الوقوف على الحقائق بين الترهات والأباطيل المنتشرة، فبات الجميع في غرور وضلال، واستوى الخادع والمخدوع والمحتال والأبله الغافل؛ لأن نفس المرائي المخاتل لا بد له من الاعتماد على الغير، والاتكال عليه فيكرع من الكأس التي يقدمها لغيره فيتسرب إليه السم الذي يدسه هو لسواه؛ ولذا فالنتيجة العمومية هي فساد الذمم وعدم تبادل الثقة. •••
إن المرائي والمخادع، وسائر أنواع هذه الفصيلة المفسدة من أكثر الناس اعتدادا بسوء الظن وضعف الثقة بالآخرين؛ لما يعرفونه من أنفسهم من خبث النيات وفساد الضمائر، ولما يأتونه من ضروب الحيل وأنواع الخداع والتغرير. ولذلك هم أكثر الخلق عذابا وشقاء؛ لأن إيمانهم ضعيف، ومبدأهم سافل، وغايتهم الوحيدة المنفعة الشخصية. فهم يصوغون القول الصيغة الملائمة لما يعود عليهم بالنفع، وسيان لديهم طابقت الحقيقة أم خالفتها تمام المخالفة.
هذا دأبهم في المعاملة وهم يتوقعون مثله من غيرهم؛ فلذلك هم في شك دائم يضني الأفكار ويأكل القلوب، وهو السبب الأقوى لعدم تبادل الثقة ولسوء الظن بالآخرين، وهو الداء الذي يتأفف منه أولو الألباب والكتاب والخطباء والمعلمون ويحتقره ويمقته كل الناس عامة.
وليس أشد على نفس الحر الشريف من الوقوف على خداع كاتب يزخرف العبارات، وينمق السطور؛ ليخفي بينها الأباطيل الخداعة ووسائل الإغراء. فليس من الشرف أن يخدع الكاتب جمهورا ساذجا مملوءا بالثقة وحسن الظن، ولا من الشهامة أن يقتل المحرر بسموم قلمه هذه الثقة، ولولاها ما عاش ولا اكتسب رزقه وقوت عائلته. ولا من المروءة تضليل المعتمدين على الذمم الطاهرة والإخلاص والصدق.
إن الكاذب المنافق ليؤذي نفسه على تمادي الأيام؛ لأن اليوم الذي يظهر فيه دليل الخداع والكذب سيجيء حتما فتتجلى إذ ذاك حقيقة أمره للعيون، وتزول الثقة فيه فتنفض من حوله القلوب، وتنفر منه الناس. ذلك هو يوم سقوطه من حالق، وتدهوره إلى الحضيض، وضياع كل أمل له في الحياة؛ لأنه لا شيء أشد من سخط الجمهور على المنافق الذي يخدعه ويغرر به، ولا أصعب على الإنسان من توقي هياج الشعب الساخط عند هياجه. إن الأوراق اليابسة لا تقاوم الريح الصرصر، وكذلك المنافق لا يقوى على مناهضة الأمة في اندفاعها عليه لتثأر منه. وإن اليوم الذي يتضح فيه الخداع والنفاق لهو اليوم الذي توصد فيه الأبواب في وجوه المنافقين، وتسد الآذان عن سماع المكر والرياء، بل وعن سماع النصح الصادق والإرشاد الحق، وهذه هي الطامة الكبرى والجناية التي لا تغتفر للذين يخدعون الناس، ويضيعون الثقة بالكتاب والمرشدين.
وإذا كانت القوانين تعتبر مزيفي النقود جناة مجرمين؛ لأنهم يغشون المتعاملين في منافعهم المادية، فما قولك بمن يفسد العقول والضمائر ويزيف النفوس، ويسممها بالكتابات المنتشرة والأقوال المتداولة؟
إن الضرب على أيدي هذا النوع من الكتاب والخطباء واجب تقضي به الإنسانية ونظام الاجتماع؛ لأنهم يعدمون الثقة، ويميتون العقول، ويزعزعون أقوى أركان السلام، ويفسدون نظام العالم، ويشوهون جمال الحقائق وجلالها.
فمن المهم الجدير بالاعتبار العناية باللسان والقلم وتقييدهما إلا عن نشر الحقائق والأفكار السديدة المعقولة. والاعتدال في القول خير من التهور المرذول. ولا شيء في الكتابة أقبح من استعمال العبارات المبتذلة، والكلمات ذات المعاني المتعددة التي تحتمل الحسن والقبيح. ولا هنالك أشرف من ذكر الحقيقة مجردة من الغاية والمصلحة الشخصية، وكل ما خالف هذا فهو خداع ممقوت مضر بالجمهور، وحطة في قدر الكاتب، ووصمة على الخطيب، والرجل الكامل من كان له فكر ثابت وقول حق صريح، فإن الصدق - وإن ثقلت خطواته - أسرع من الباطل وأضمن للفوز وتحقيق الآمال.
وليس الغرض الحط من شأن الكتابة في ذاتها، أو منع الكتاب من استعمال الغلو والإغراق وسائر المحسنات اللفظية، أو حض الناس على إهمالها، فإن النفس لتتوق إلى هذه المحسنات، وتعترف بما لها من التأثير في إبداع القول. والعقل يؤكد أنها الوسيلة الفعالة ذات التأثير الشديد في ترقية الكتابة وتخريج المجيدين من الكتاب والشعراء، ولكن من المعروف أيضا أن أحسن المواضيع وأجودها هو ما لا يحتاج إلى عناء في صوغ عباراته وتنسيق كلمه؛ لأن الموضوع الجليل مجموعة أفكار عالية تؤثر بطبيعتها فيشعر بجلالها العقل والنفس. وقد تكفي أبسط الكلمات وأسهل اللغات لصوغها في قالب سهل مفهوم، بدلا من قتل الوقت وإجهاد الفكر في انتخاب الكلمات ورصف العبارات التي كثيرا ما ترغم الكاتب على إفساد المعنى وتشويه الفكر إذا انصرف عن جلالهما إلى تزويق الألفاظ. والأفكار العالية لا تحتاج إلى الطلاء الغريب لتظهر في سماء رفعتها وأفق جمالها؛ لأن قوتها في ذاتها وسموها في رجحانها وأصالتها.
وليس كل من يحسن التوشية ورصف الكلمات بالكاتب المجيد، أو الخطيب المفوه، ولكن هذا اللقب من حق كل مفكر يجمع شتات المعاني الراقية، والأفكار السديدة في القالب اللغوي الفصيح. ولا شيء أبلغ من السهولة عند التعبير والإقناع بالأدلة المعقولة الخالية من التعقيد المضني والركاكة المملة.
إن نظرة واحدة في بعض الأحايين، أو إشارة لطيفة في بعض الأحوال لتعرب عن انفعال نفساني، أو ألم شديد، أو إخلاص، أو سرور، أو حزن إعرابا لا تؤديه أبلغ العبارات في كل لغات العالم. ولا يتأتى للإنسان التعبير عن حقيقة عواطفه وشعوره إلا بأبسط العبارات وأسهلها؛ حتى لا تضيع الفائدة المقصودة والتأثير المراد من شرح أسرار القلوب وخفايا الصدور. ولا تتأتى المحاجة إلا بالحقائق واللغة السلسة والاعتدال في القول - عند الشرح - أكثر إقناعا من العبارات المعقدة، والتهوس في الجدل المطول الممل؛ لأن الاعتدال في القول أكثر فائدة للقائل من الشطط والحدة، وصالح لكل الأزمان، ومحمود في كل المواقف.
ولا شيء أنجح من الصدق في الرواية والإيجاز في الإعراب عن اعتقاد راسخ، أو عند شرح العواطف والإحساسات النفسية، سواء كان ذلك في المواقف العمومية أو في المفاوضات الخصوصية. وليس أوقع في نفس المطالع أو السامع من الكلمات القليلة التي تصدر حقيقة من القلب لتصل إلى القلب، أما الكلمات المنتقاة للتوشية والتحسين اللفظي فإنها كالزخارف المادية، التي تساوم بالمال الكثير، ولا تؤدي فائدة جزيلة لمن يبتاعها. ولما كان الغرض من القول أو الكتابة الإعراب عما في الفكر؛ كان من الواجب تأدية ذلك بما لا يزيد عن المعنى خوفا من ملل السامع أو المطالع.
كم من الخطباء غرضهم الوحيد من الخطابة الوقوف بين الجماهير؛ لسماع تصفيقهم الحاد بعد ملء الآذان بكثير من العبارات المنتخبة؟ وكم من السامعين يكتفون بالسماع فقط وبالتلذذ ببلاغة المقول، فإذا ما اجتازوا باب المكان نسوا ما سمعوه وأعجبوا به والتهوا بالمشاهد الجديدة عن حديث ذلك المهذار الصداح؟ ولو كان هذا مبلغ تأثير ما يقال ويكتب في النفوس والعقول، لكانت نتائج التفكير والتحبير مجموعة من الخطابات المنمقة والكتابات المزخرفة، وخليطا من القطع التمثيلية وضعت كلها للهو والتلذذ بها حينا من الوقت، ووقفت فائدتها عند هذا الحد كأن مهمة العقل مقصورة على ذلك، بغير محاولة اكتساب الفوائد الجمة التي تمحصها العقول وتبحث عنها في شتات الحوادث وبين صنوف الأباطيل.
إن ارتفاع صوت العاطلين الذين لا هم لهم إلا الصياح والضوضاء؛ بغية الشهرة والظهور يغري الجمهور ويضلله وينسيه أن العامل المفيد أكثر الناس هدوءا وأقلهم جلبة، وينسيه أن كثرة الإعلان تدل على عكس المعلن عنه. فلولا فراغ جوف الطبل لما أزعج صوته الفضاء. فالصمت خير من القول الهراء، والسكون أفضل من الجلبة، والقوة التي لا تستنفد في التهوس تدخر للعمل المفيد وتكون ربحا من غير عناء ولا خسارة. ألا ترى أن الباخرة التي تستنفد بخارها في الصفير وإزعاج الكون بصراخها لا تجد في مستودعها قوة لمواصلة السير والوصول إلى غايتها؟
إن من درس أحوال الأمم وطبائع الأفراد يلاحظ أن الكسول يستعمل في حديثه العبارات المقتضبة، بخلاف الثرثار والأحمق، ويجد أن العاقل المعتدل يقتصر على الموجز الكافي، فيكون لفظ عبارته على قدر المعنى الذي وضعت له. فإذا كانت اللغات تختلف باختلاف الخصال والأمزجة، فإنها تختلف أيضا باختلاف الأزمان والعصور، حتى إن من يقارن بين لغة العصر الحاضر والزمن المنصرم لا يلبث أن يرى فرقا واضحا، وتمييزا جليا، فيتحقق أن كتاب العصر الغابر كانوا يكتبون بلغة أوجز وأبلغ، خالية من التعاقيد والحواشي التي تحرج المطالع، وتضني فكره دون تمييز الغرض منها، بعيدة عن المبالغات التي تحول بين العقل والحقيقة الكاملة. ويجد أيضا أن كتاب هذا الآن أقل إدراكا من سالفيهم وإلماما بشئون الكتابة، ويجد أن الأقلام في هذا العصر أقل ثباتا في الأيدي وأكثر شططا وتخبطا. •••
من الناس من يصفق للكاتب الذي يكتب بحماس وتطرف، ويطري ويفتخر بمن يرسل من جوف قلمه سيالا من النار، ولكنه لا يلبث أن يحترق بهذا اللسان المندلع. هذا النوع من الكتابة منتشر، وهو الخطر الذي يجب اتقاؤه، والضرر الذي يتحتم على الحكيم تحاشيه والتنكب عنه؛ لأن الشطط والغلو في الكتابة لا ينتجان غير إغراء العقول، وتضليل الأفكار، وإبعاد المطالع عن مركز الحقيقة، فتكون النهاية سوء الظن وضعف الثقة وتوتر العلائق بين الأفراد والجماعات والتشديد في المعاملة وفساد الأحكام؛ لجهل الحقائق وفقد الأمن وإخلال النظام وفساد الأخلاق. وكفى بهذه النتائج السيئة سببا للسقوط التام والموت الأدبي.
فالمصلح الحقيقي من يطلب لقومه ولإخوانه اعتدالا في الكتابة والخطابة، ونشر ما يكون علاجا للنفوس ودواء للعقول ووسيلة لرقي المجتمع الإنساني أدبيا وماديا. وليس الغرض منع الكتاب والشعراء وأرباب الفنون عن الإبداع والإجادة، وإنما العناية بما يفيد ولا يضر؛ لأن الفكرة الصالحة توافق كل المشارب، وتصلح لكل زمان ومكان، كما أن المصلحة العامة لا تكون لفرد دون الآخر ولا تختص بفريق واحد أو تنحصر في جماعة أو طائفة بذاتها.
إن ينابيع الإرشاد والموعظة والهداية عامة تستقي منها كل العقول والأفكار، فيردها البعض ويكون صالحا فيبذل للناس نصحا وهدى، ويتسمم بها البعض؛ لتسمم نفسه بالشر والخبث فلا تنطق أفواههم إلا بسخافة ولغو. والنوع الأول: روح تبعث في النفوس القوة وتدعو إلى العظمة والرقي والحياة. والنوع الثاني: طامة على العقول والنفوس وسبب للهوان والصغار والسقوط، إذا انتشرت تعاليمه وتغذت بها العقول وتشبعت بها القلوب.
فخير المحبين لبلادهم ووطنهم من يدعو ذوي الحكمة لإرشاد الناس وإبعادهم عن الشطط، وردعهم عن التطرف الوبيل، وعن التطوح في مهاب العواصف ومختلف الرياح؛ فيرتقي المجموع بارتقاء مدارك الجماعات، ويعتدل الشعب باعتدال الفرد، وتعيش الأمة هادئة مطمئنة ينشط بها العقل إلى مدارج الرقي بعيدة عن مزالق السقوط والهوان. فإن من يسير في الطريق السوي يأمن العثار، ومن يجمح في المزالق يتدهور ويتحطم. وإن زلات اللسان والقلم ليست مما يستهان به؛ فقد تودي بالفرد، بل وبالأمم برمتها، ورب كلمة كانت سببا في حرب عوان ووبال عميم!
الواجب والاعتدال
عندما تكلم الطفل في شأن لا يروقه تراه يجتهد أن يشرد بك عن الموضوع، فيلفتك إلى حمامة تطعم أفراخها، أو يشير إلى سائق يضرب جياده، أو يكثر عليك الأسئلة المملة مكرا منه فتضيق ذرعا وينفد صبرك.
يكاد يكون هذا الشأن شأن الإنسان إزاء الواجب، فيختلق من الأعذار ما يخاله مقبولا يشفع له عند التقصير، أو الإحجام عن واجب الإنسان الحي المميز. وأول سبب يتعلق به المعتذر المقصر هو التساؤل عن حقيقة الواجب. وإن الغرور الذي ملك من المقصرين نفوسهم وعقولهم، وحبس إرادتهم عن الانصراف إلى أداء الواجب يستند على أن من دعائم الواجب الحرية. وهي مسألة معقدة لم يهتد العالم إلى حلها حلا يرضي الناس جميعا، والبحث فيها يفضي بالباحث إلى التعمق في سائر الأمور، فلا يمكن الاعتداد بها ولا الاعتراف بكونها من أقوى أركان الواجب.
ومن ينظر هذا القول نظرا سطحيا يتوهمه حقيقة لا اعتراض على صحتها. ولو أن أمور الحياة نظريات عقلية فقط لما وسع الباحث أن يعنى بأمر الواجب قبل البت في مشكلة الحرية، وحل عقدتها وتعريفها تعريفا تاما. ولكن الحياة ليست نظرية لكونها حركة عملية سبقت النظريات وواضعيها. وأنى لنا أن نوقف الحياة وحركاتها الدائمة ريثما يصل الباحثون إلى حل النظريات المجهولة المختلف فيها بعين المفكرين؟ فلا يتوقف أداء الواجب على معرفة حقيقة الحرية وحدودها واعتراف الناس بها؛ لأن شأن الحرية شأن كل المسائل المعقدة التي لم تزل بين أيدي الباحثين، وتحت أنظارهم بدون أن تقف حركة العالم، فها هي الخلائق لا تزال تتعامل، والتضامن موجود فعلا بين الناس، ومسئولية البعض أمام البعض الآخر محدودة على قدر الإمكان بشكل يكفل بعض الراحة والنظام العام.
ولكن المشتغل بالعلوم النظرية لا يعتد بغير نظرياته العقلية، ولا يحفل بالحركات العملية، ولا يتعرض بتاتا لإثباتها أو لدحضها، ولا يعمل شيئا لرد خصومه في الفكر والرأي عن المنهج الذي يراه خطأ وغير قويم. فلا مبرر من تقاعده عن معرفة الواجب الإنساني وأدائه قبل معرفة كنهه وحقيقته وحدوده. فالطفل لا يعرف الأزمنة والمواقيت، ومع ذلك فهي تمر عليه، والصبي يجهل تقدير المسافات وتحديدها، ولكنه يمشيها ويقطعها، فلا مندوحة إذن عن أداء الواجب قبل معرفة كل قيوده وروابطه وسبر الأبحاث والآراء التي وضعت بشأنه؛ لأن الواجبات الأدبية عامة، وللإنسان أن يخضع لها فيكون إنسانا بالمعنى الصحيح، أو يخالفها فيسقط ويبتذل لدى العارفين بواجب الإنسان، فلا تفيده الأعذار مهما اختلق منها، وتنطلق عليه ألسنة الناقدين كل انطلاق، ولا أقل من أن يقال له: «أنت إنسان كسائر الناس لك حقوق وعليك واجبات، فكما أنك لا تتجاوز عما لك، فكذلك يتحتم أن تؤدي ما عليك، سواء لبلادك أو لأبنائك أو لذويك أو للناس عامة، والجهل وعدم استيفاء البحث والتقرير لا يشفع ولا يمنع.»
وليس الغرض حمل الناس على ترك الأبحاث الفلسفية والاستقراءات الدقيقة لمعرفة الحقائق الأدبية، واستجلاء غوامض المسائل الأخلاقية التي استعصى حلها حتى الآن. فكل سعي في هذه السبيل ممدوح ومحمود، ولكن المراد عدم توقف الباحث عن أداء الواجب الإنساني قبل أن ينتهي من أبحاثه. والعاقل من يتذكر دائما كونه خلق قبل أن توضع هذه النظريات، وقبل أن تخلق هذه المشكلات. وقد خلق الواجب مع الإنسان فهو سابق لها، فالرجل الحقيق بهذا اللقب من يؤدي واجبات الرجولة.
والخبير بضمائر الناس وخفايا القلوب لا يشك في كثرة الاعتراضات التي يعترض بها على ما مر، ولكن من تسول له نفسه الفرار من واجب الإنسان، لا يخجل طبعا من انتحال الأسباب المبررة للسقوط الأدبي. •••
من الصعب أن يتخبط الرجل في طريق الواجب المجهول، وأن يتلمس في الظلام طريق الهدى والسبيل القويم، وعسير عليه أن يهتدي بين المتناقضات والاختلافات العديدة التي تدور حول الواجب وفروض الإنسانية. وقد يكون الواجب في بعض الأحايين فوق الطاقة وفي غير وسع المرء، ولكن من المؤكد ندرة هذه الأحوال الحرجة التي تستدعيها بعض الاضطرابات الاستثنائية. وخير ما يعمل الإنسان في تلك المواقف أن يلزم الأناة والحذر؛ لأن الذي يقبل عذر من يكبو في الطريق المظلم المجهول، ويشفق على المحارب أن يقهر بين نارين، لا يتردد في الرفق بمن يقصر عن ضعف، أو يسقط رغما عنه سقوطا أدبيا ما دامت القوى التي تغالبه فوق طاقته.
وليس السقوط الإجباري عابا على الساقط، ولا يجوز توجيه الانتقاد والعذل إلى المقصر المرغم على التقصير، ولا يصح أن يقصر الكلام على ذلك الواجب المتعذر أو المستحيل أداؤه، بل يجب أن يتناول السهل الذي يتسنى لكل إنسان القيام به بدون إجهاد النفس، ولا استنفاد القوة ولا تبذير المتاع، إن المهم إنما هو أداء الواجب الممكن؛ فتعدد القائمين به بين الأفراد يخفف ويلات المجتمع الإنساني ويلطف الحال.
وليس العار على من يقصر في القيام بأعباء الواجبات الثقيلة، بل العار كل العار على من يحجم عن تأدية الممكن السهل منها إهمالا وتقصيرا.
ولو أن واحدا من ذوي اليسار والمراكز السامية يتخلى عن عرش نعيمه ويطوف خلال صفوف الناس؛ ليخفف ويلاتهم ويمد للمنكودين منهم يد المساعدة والمعونة، فلا يلبث أن يرى في هذه البيئة ما لا يحصى من أنواع الشقاء الذي لم يترك دارا إلا دخلها، ولا عائلة إلا حط بين أفرادها، فيقف على كثير من أنواع الآلام النفسية والجسدية التي يعانيها القوم، ويئنون منها في كل لحظة. وكلما اختلط بأولئك الأفراد ودقق النظر في حالتهم المعيشية اكتشف من أنواع البؤس ونكد العيش ما يهوله ويقصر همته؛ حتى ليتصور أن تخفيف هذه الكوارث وتلطيف حال أولئك المتعسين البائسين ليس في طاقة أحد من الناس، مهما أوتي من حب الخير والسعة التي تخوله الأخذ بأيدي المعوزين والبؤساء؛ لوفرة عدد المنكودين، واتساع الدائرة التي يخيم على من فيها الشقاء ويحكم فيها البؤس. ومع ميل الكرام إلى بذل ما في الوسع من المساعدة ترى الحيرة تأخذهم أمام هذا المشهد المخيف، فيتساءلون عن فائدة ما يقدم من المساعدة ويعمل من الطيبات، وهو لا يشفي الغلة ولا يدفع الغائلة. ومنهم من يروعه اليأس فيكف عن المبرات، مع أن قلبه يتقطع إشفاقا وحنوا على ذلك الفريق المنكود. وهذا هو عين الخطأ ومنتهى الخطل؛ لأن مساعدة المنكوب واجبة على أخيه الإنسان القادر على قدر ما يستطيع، فليس حتما عليه أن ينقذ العالم من مخالب الشقاء، ويدفع عن كل المنكوبين عاديات الدهر وصروف الزمان، ويترك هذه الأرض سماء، فما كلف الله نفسا فوق طاقتها.
فالعاقل من يرشد هذا الفريق اليائس إلى محجة الصواب، ويهديهم إلى عمل الخير المستطاع؛ لأن الكف عن المساعدة - وإن قلت - يعد ضررا واسع الأذى. والواجب في مثل حالتنا الاجتماعية أن يساعد الإنسان أخاه بما في استطاعته، وأن يتخذ من البؤساء والمتعسين إخوانا يواسيهم ويلطف آلامهم، وإن كانت هذه المساعدة غير محسة في جانب المصائب التي تحوط جزءا عظيما من النوع الإنساني، فإن فائدتها محققة، وأقل من ينالها فرد من أبناء هذا النوع. وربما اقتدى بالكريم غيره، فيكثر عدد العاملين على نصرة الضعفاء والمنكودين، وتحسن الحال بعض الشيء، وتخف على تلك البيئة وطأة الفاقة، فتجف جذور الحقد في قلوب البائسين الذين يسخطون على الكون ومن فيه، وتقوى الرابطة الإنسانية بين سائر الطوائف، فيقل الشر، ويجد الخير سبيلا ممهدة وأرضا خصبة. وكلما زاد العاملون قل الشقاء وتقطعت أوصال البؤس.
وإذا انفرد الجواد بصنع الخير فإن القلوب تعطف على عمله والألسنة تحمد صنيعه، ولا ينكر المكابرون ما بذل من الحسنات لأداء الواجب الإنساني. وماذا يريد المرء بعد أن يرضى ضميره عن عمله المبرور، ويعترف الناس باستقامته وقيامه بما تستدعيه المروءة والإنسانية؟ ليعرف الناس أن الطمع ذلك الداء الذي يوسع دائرة الأحلام والأوهام ويغرر بالناس، لم يصل بصاحبه يوما إلى ما يؤمل، مع ما يعانيه من المشاق، وما يبذله من المجهودات للحصول على أماني النفس الجشعة. وإلى العاقل كل حوادث الماضي والحاضر، فمن المحال أن يجد فيها إلا ما يؤيد هذا القول. •••
سر النجاح المؤكد في حسن التفكير ودقة العمل وطول الأناة والتعقل والاهتمام بكل شيء، حتى بالأمور الطفيفة الحقيرة؛ لكونها دعامة الفوز، وواسطة للحصول على النتائج المنشودة. ولكن الناس يهملون هذا الأمر ويتناسون هذه الحقيقة، فليتذكر الغافل أن الغريق لينجو من لجة البحر الهائج على قطعة من لوح أو مجذاف مكسور. وما أشبه الحياة بلجة البحر والمنكوب بالغريق! فليتمسكن جهده بما يستهين به؛ فربما كان ذلك الشيء الحقير سفينة الخلاص وفلك النجاة والسلامة. ألا إن احتقار الصغائر لسيئ العاقبة؛ فإن معظم النار من مستصغر الشرر، وإن الثروة الطائلة تجمع درهما فدرهما.
إن عبر الدهر كثيرة وصروف الزمن جمة عديدة، وقد يحدث أن يخسر المرء ماله وتنزل به الفاقة، أو يفقد عزيزا عليه، أو تضيع أمام عينيه ثمرة جهد شديد وعمل شاق وصبر طويل، فيعجزه استرداد الثروة وإحياء الميت واستعادة الضائع والتعوض من المفقود؛ فتتلاشى قوة المنكوب وهمته، ويقف مكتوف اليدين، خائر العزيمة أمام هذه الكوارث النازلة. ثم يتراخى في شئون حياته الخاصة، ولا يعود يهتم لحاجات بيته وتنقطع عنايته بأطفاله.
هذه هي النتائج المعروفة التي نشاهدها إثر المصائب العديدة، التي تنتاب الناس وتنزل عليهم بهموم النفس وآلام القلب. وهذا خطأ مغفور، ولكنه خطر شديد وخيم العاقبة، ينتقل بالمنكوب من حال سيئة إلى أخرى أسوأ منها. فجدير بمن خسر أن يجمع القليل الباقي، ويفرغ جهده في الحرص عليه والسعي في إنمائه واستثماره؛ لعله يدرك بعد قليل ما يعزيه وينسيه ألم الضائع المفقود. فالسعي والعمل يخففان من لوعة المصاب، والاستسلام والاستكانة يزيدان الألم ويدميان القلب المقروح، والتعلق بالقليل الباقي أسلم عاقبة من اليأس الذي يلاشي حتى البقية الباقية، والتشدد في مقاومة الكوارث، والتصبر في احتمال الآلام خير من الاندحار والسقوط تحت أعباء الهموم النفسية. والوقوف في وجه النازلة ومقابلة الخطر خير من الهرب والفرار؛ لأن المقدور صائر لا محالة.
وليتذكر الغافل أن نفرا قليلا من الناس عمروا الأرض بعد الطوفان، بعد دمارها، ومن نسلهم ظهرت هذه الملايين العديدة التي تضيق بهم المسكونة. وأن اليسر لا بد وأن يعقب العسر وأن الفرج لا يأتي إلا حين تشتد الأزمات. وكم حياة ضاعت لأوهن الأسباب! وكم منكوب عز بعد ذل وكرم بعد هوان وامتهان!
كل حوادث التاريخ تؤيد هذا القول وتؤكد للباحث أن المصائب العظيمة والرفعة والسمو قد تأتي عن أحقر الأسباب شأنا؛ فليس من الحكمة إهمال الصغائر. وعلى الإنسان الثبات والصبر ومعاودة الكرة عقب الفشل فإنها سبيل الفوز وسر النجاح. •••
من الغريب أن شيئا من الوهن أو الإهمال يغشى أبصار الخلائق وبصائرهم، فيمنعهم من معرفة الواجب وتقديره وأدائه، فينظرون إليه ممسوخا أو من جانب واحد، مع أنهم ينشطون ويتشددون لاكتشاف الغوامض البعيدة على نظر الإنسان، ويتشوقون إلى معرفة ما لا يضر ولا ينفع، فيقضون على جزء عظيم من الإرادة والقوة بالتعلق بأمثال هذه الأوهام. وأي فائدة تعود على الإنسانية من ترديد عبارات الإشفاق والحنو والاهتمام للخير العام والعطف على المجهولين، الذين أخنى عليهم الدهر بخطوبه، وهم في أنحاء الأرض القاصية بعيدين عن الآذان والأبصار؟ ماذا تفيد هذه الظواهر؟ وماذا ينفع التشدق بدعوة الناس إلى عمل الخير في مجاهل هذه السبل، مع كون الآذان تكاد تصم من أصوات البائسين القريبين منا، والقلوب في الصدور منفطرة مكسورة من جراء ما تسمع من أنين المنكوبين الذين تراهم أعيننا وتلمسهم أيدينا، ونعثر بهم في كل خطوة من خطواتنا؟
أوليس من الخطأ الفاحش أن يتجشم الرجل أهوال الأسفار؛ ليعرف ضروب النوع البشري، ويرحل الرحلات العديدة لهذا الغرض، بينما هو يجهل كل الجهل أبناء بلده، كأنما هم من غير الآدميين الذين يفتش عن أنواعهم، ويبحث عن ماهيتهم. فلا يحفل بمعرفتهم ولا يحدث نفسه بحاجتهم إلى التعليم والتربية، كأنه يظن أنه لا يعنيه شيء من شئون معيشتهم وراحتهم أو شقائهم، ولا ينظر في أمر حكومتهم ومعاملتها لهم. بل لقد تراه لا يسعى حتى في معرفة الذين يظلهم وإياه سقف واحد، ولو كانوا مجهدين أنفسهم في خدمته واكتساب رضائه. وقد يجهل أيضا أو يتجاهل حال العمال الذين يعدون له معدات النعيم والرفاه، ولا يعبأ بشأن سائر الخلائق الذين تربطه بهم عدة روابط اجتماعية لا غنى لامرئ عنها.
ولست لأدري هل ذلك جهل بالأمور وسوء تصرف غير مقصود، أم هو إهمال عن احتقار واستهانة بهذا الخليط الآدمي؟ وهنالك ما هو أفظع من ذلك؛ فإن بعض النساء لا يعرفن عن أزواجهن شيئا كأنهم غرباء عنهن، وكذلك الأزواج تراهم على جهل بنسائهم كأنهن في غير عصمة الرجال. وكم يجهل الكثيرون شأن أولادهم والوسائل المتبعة في تربيتهم وتهذيبهم، ولا يعرفون أفكارهم ونياتهم، ولا يهتمون لشيء من الأخطار التي تتهددهم أو الآمال التي تملأ قلوبهم، كأن هذه الأمور تافهة حقيرة أو كأنها لا تعنيهم قط. وكما ترى الآباء لا يعرفون كثيرا عن أبنائهم، فكذلك ترى الأبناء لا يعرفون شيئا عن والديهم، فهم يجهلون ما يصيبهم من شقاء أو ينالون من نعيم وسعادة.
ولست أعني بمن ذكرت القبائل الهمجية التي لا تكاد توجد علاقة بين بطونها وأفخاذها، حتى ولا بين أفراد العائلة الواحدة منها. ولكنني أعني الهيئات الراقية من كل أمة، والتي هي عنوان كمال الشعوب ورقي البلاد، أولئك السراة الذين ألهاهم ما هم فيه حتى عن أعز الناس لديهم وأقربهم منهم، فصرفوا أنظارهم إلى ما وراء الأفق، فلم يعودوا يبصرون ما أمامهم ولا ما تحت أرجلهم؛ حتى داسوا أقدس ما يجب على الرجل نحو ذويه وعائلته ومواطنيه. وأعماهم التطلع إلى الشهرة من وراء التظاهر بعمل الواجبات العظيمة الخطيرة؛ عن أداء الواجب المعتدل السهل المفروض أداؤه نحو من يعولون من الأبناء، أو من يتصل بهم من الأقرباء. فإن قام بها ومد يده لنصرة الغير كان فضلا منه، وإن أهملها وتطلع إلى ما يبغي به الشهرة والظهور عيب عليه النقص، وكان ما يبنيه على غير أساس يدكه الكلم ويمحوه القدح القليل والذم من الناس.
فليكن الرجل حكيما قبل كل شيء يقوم بما عليه لنفسه، فأفراد عائلته، فأبناء بلدته، فمواطنيه، فإذا كان في وسعه فوق ذلك وعمل خيرا شكر وأثيب.
إن من لا يرتب عمله يلهو بما لا يفيد ولا ينفع عما يفيد وينفع، وكل من يشتغل بما لا يعنيه مقصر فيما فرض عليه، وآت بدليل على حمقه وجهله وغباوته. وهذه هي أقوى الأسباب التي تربك الهيئة الاجتماعية وتجعل الخلل يتطرق إليها ويشوش مجرى الأمور.
ومن الناس من يقول: إن المرء مسئول عن إصلاح ما أفسد، وهذا حق لا غبار عليه، ولكنه من باب الصالح قولا لا فعلا، ونتيجة الاعتداد بهذه الدعوى هي ترك الفاسد فاسدا حتى يوجد المفسد فيكلف إصلاح ما أتلف. ولست أدري كيف يصلح الفاسد إذا لم يوجد المتلف، أو إذا هو وجد وأبى الإصلاح أو لم يقدر عليه؟
إذا كان المطر يتطرق إليك من سقفك الخرب، فهل تتركه يتلف أثاث البيت ورياشه ريثما تجد العامل الذي كان سبب هذا الإتلاف؟ وإن كانت الريح تنفذ إلى غرفتك من الزجاج المكسور، فهل تتركه على حاله من التلف حتى تجد من كسره وحطمه؟ إن الصبيان وحدهم هم الذين يتشبثون بهذه الآراء السخيفة. وكثيرا ما نرى الطفل يقول: إنني لم ألق هذا الشيء؛ ولذلك لا أرفعه. وإن الكثيرين لينتحون هذا النحو، ولكن العاقل منهم من يبادر إلى إصلاح المختل؛ لأن الاعتماد على تلك النظرية - الصحيحة عقلا - يوقف حركة الأعمال، ولا يأتي بنتيجة غير العطلة والتأخير. فيجب أن يتلاشى هذا الاعتقاد الراسخ في أذهاننا، ويجب أن نتذكر جميعا أن ما يتلفه الواحد يصلحه الآخر؛ لأن هذا هو الواقع فعلا، والمشاهد في كل أدوار الحياة وحوادثها الجمة، فالبعض يتلف والبعض يرم، والبعض يخلق المشاكل والمعارك والبعض يصلح ذات البين ويحول بين المتعاركين، والبعض يثير الأشجان ويستنزف دموع الأعين والبعض يعزي ويواسي ويلطف الأحزان، والبعض يسطو على الأعراض والأموال والأنفس، والبعض يضحي نفسه للدفاع عن الإنسانية ويقوم في وجه الشر والأشرار. هذا هو حال العالم ونظام الخلائق لا تبديل فيه ولا تحوير. هكذا نشأ الناس وهكذا يبقون إلى الأبد، تلك قضية عقلية، ولكنها مما تنحني له الرءوس ولا يكابر في صحتها المكابرون. والنتيجة من كل ما ذكر هي وجوب المبادرة إلى إصلاح ما فسد، سواء توفق المرء إلى معرفة المفسدين أم لم يتوفق. والتجارب الكثيرة علمت الناس ألا يعتمدوا على المفسدين لإصلاح ما أتوه من الضرر والإفساد.
الإنسان في حاجة إلى قوة تساعده على القيام بالواجب، وإن سهل واعتدل، فما هو نوع هذه القوة وأين توجد؟ إن الواجب لحمل على المرء يثقل عليه وينفر منه، إن لم يكن يعرف قدر نفسه، ويرغب في أداء ما عليه رغبة خالصة بلا تمليق ولا رهبة. وكثيرا ما يفر الإنسان من الواجب، وكلما اشتد طلبه وضرورته اختلق سبلا للتخلص والإفلات منه، وشأنه في ذلك شأن اللص الماهر الذي يعرف كيف يفر من وجه العدالة، ويضلل أنظار الشرطي، فإن قبض عليه فإنما يسوقه إلى السجن، لا إلى الطريق القويم والسبيل السوي.
وليس الإنسان الكامل من يؤدي ما عليه طوعا للأمر والنهي، ولا تلك الوسيلة بالدواء الناجع الذي يشفي الإنسانية من داء التقصير ومرض الإهمال. بل لا بد من الانصراف إلى ذلك حبا في القيام بالواجب حبا حقيقيا، غير مشوب بالغايات والمقاصد الشخصية، فإن من يقوم بعمل لا يريده مكرها عليه لا يحسن القيام به، وإن انحطت عليه كل قوى العالم وساقته إلى الأحكام سوقا عنيفا. ولكن من يتعلق بمهنته وعمله يجيده ويلذ له الإتقان والإبداع فيما يعمل، ويستحيل صرفه عن خطته، أو تقليل عزمه وتحويل إرادته. وهذه هي الحال في قضيتنا التي تشغل الأفكار وتضني العقول.
وخير علاج لتلك الحال حب الحياة على ما فيها من راحة وتعب ونعيم وشقاء ويأس وأمل، وحب الناس على ما فيهم من ضعة وسؤدد ونبل وسفالة وفقر وسعة، وحب الإنسانية التي تقوي الرابطة بين الخلائق، وتلطف آلام المنكوبين، وتخفف نوعا من الشرور المنتشرة والآلام الكثيرة التي يئن منها النوع الإنساني. فإذ ذاك يشعر المرء بقوة خفية تتمكن من قلبه وإرادته وتدفعه إلى طريق الخير، كما تدفع الريح السفينة إن تمكنت من شراعها. وسرعان ما يعرف معنى الشفقة والعدل ودفع الحيف والغبن، فيقدم ما استطاع من الطيبات والإحسان وهو مسوق بإرادته المحضة. وتتغلب عواطفه على ميول النفس الخبيثة إن حاولت رده عن هذا السبيل المحمود، وضميره يقول: لا خير في الإنسان إن لم يعمل خيرا، ولا فائدة من وجوده إن لم يكن نصيرا للضعيف وأخا للبائس ورفيقا للمنكود وطبيبا للمريض ومعزيا للحزين.
وهذه القوة التي تتمكن من القلب وتحكم فيه أقوى من أن تقهر، وأكبر من أن تعرف، ولكنها تستطيع البقاء في مكامن القلوب والعواطف. وكل ما في الإنسان من عاطفة حية وإحساس رقيق وميل إلى الخير؛ ناشئ من هذه القوة الغريبة التي تحتل الأفئدة والصدور. وكذلك كل ما يمتاز به الرجل النابغ من الفكر والعمل الجليل يكون نتيجة هذه القوة المتسلطة على الإرادة والعقل؛ لأن الشجرة التي تورق وتثمر تستمد جذورها الحياة والقوة من خصب الأرض، ويأخذ ما ظهر منها كفايته من النور والهواء وحرارة الشمس. والرجل الذي يحتفظ بنفسه، فلا يطوح بها إلى المفاسد في هذا الوسط الإنساني المملوء بصنوف المضار والشرور، ويتبع السبيل القويم، إنما يستمد القوة والهدى من ينبوع طاهر وضمير حي شريف.
وقد تظهر نتائج هذه القوة الكامنة في أشكال جمة، منها: قوة الإرادة، والحنو، والعطف على أبناء الإنسانية. ومنها: الفكر المستنير الذي يعمل لتلطيف شرور المجتمع الإنساني ويفتق عن كل وسيلة ناجعة؛ لشفاء أمراض الهيئة الاجتماعية. ومنها: الإشفاق على اللقطاء الذين تركهم أمهاتهم تحت رحمة الله والإنسان. ومنها: الرفق بالحيوان الأعجم الذي لا يشكو ولا يعرف كيف يدفع غائلة الأذى وشرور صاحبه. ومنها: طول الأناة في تكوين الجمعيات الخيرية لنصرة الضعيف وإغاثة الملهوف. ومنها كثير غير ما ذكر من أنواع المساعي الخيرية التي يبررها العاقل، ولا ينكر فضلها الخبيث الساقط.
وكل عمل من هذه الأعمال يدل على وجود هذه القوة في مكامنها الطاهرة الشريفة، فتنشط وتنزع النفوس إلى طريق الخير وصالح الأعمال، وكل من وهبه الله هذه النعمة يغبط نفسه عليها، ولا يلتذ له إلا أن يقف وجوده على تخفيف أرزاء الإنسانية والتلذذ بخدمة النوع البشري، وهو هنيء سعيد بذلك، لا يميل بأذنه إلى شكر صنيعه ولا تأبه نفسه للفخر بعمله؛ لأنه يستصغر كل مجد ظاهر، ويعرف أن قيمة الحياة ومجد الإنسان في قيمة العمل وفي الخير الذي يسديه إلى البائس والمنكود.
الاعتدال والمطالب
عندما يشتري الإنسان طائرا من بائع الطيور يوقفه البائع على كل ما يتعلق بغذاء ذلك الطائر، وطرق معيشته بكلمات قليلة موجزة. والإنسان نفسه لا يحتاج إلى أكثر من هذه الكلمات لمعرفة حاجاته الضرورية؛ لكونها على غاية من البساطة لا تسئم ولا تضني، ولا تتطلب جهدا يتعب ويكرب. فمن تعداها كثرت متاعبه، وزادت حيرته في الحياة، واعتلت صحته، واحتواه الملل والضجر، وعرف الهموم ومتاعبها الجمة؛ إذ لا شيء يحفظ صحة الإنسان وقواه كالمعيشة البسيطة الخالية من كل شذوذ، ولا شيء يضنيه ويتعبه غير تناسي هذه الحقيقة، والابتعاد عن السذاجة الفطرية والبساطة. ولو تساءلنا عما تتطلبه الحياة من الماديات ليعيش الإنسان عيشة راضية، لما كان الجواب إلا الطعام المغذي واللباس البسيط والمسكن الصحي والهواء والحركة. تلك هي الحاجات البسيطة التي تكفل للكائن الحي العافية والقوة. بيد أن النفس تتوق إلى غير الاعتدال في الحاجات، وتشتط في المطالب الكمالية التي تنوء بها الكواهل، وتطرد من العائلات السعادة والهناء. وليس على المرء إلا أن يرسل نظرة دقيقة إلى الهيئة الاجتماعية؛ ليتحقق من ابتعاد الجميع عن روح الاعتدال الحميد.
ولو خطر لأحدهم أن يسأل أفرادا من الناس عن لوازم المعيشة، والحاجات الضرورية للحياة لجمع خليطا من الأجوبة المتباينة، فتتضح له رغبات الناس وأماني النفوس الطامعة متفاوتة بتفاوت المطامع ودرجات التربية والتهذيب.
وكل هذه الرغبات تنحصر في مختلف الأطعمة، وزخرف اللباس، واختيار القصور المشيدة والحدائق الغناء، فلا ترى ذلك ممكنا إلا للسراة وكبار الأغنياء، حتى إذا وصلت إلى من دونهم ثروة وكسبا استحالت مرضاة النفس، فتعيش مرغمة على الكفاف ناقمة على سوء الحظ وقصر اليد عن إرضائها بما جنحت وتاقت إليه.
وكم من الناس من انتحروا لأول إصابتهم بشيء من العسر بعد السعة، ففضلوا الموت والفناء على الإقلال بعد اليسار. مع أن الحال التي لم ترضهم ربما كانت نعمة يحسدهم عليها غيرهم ويحلم بمثلها الكثيرون!
والمشاهد أن العالم صنوف مختلفة: منهم الأغنياء وملوك المال، وأولئك يعيشون عيشة البذخ والظهور، تحوطهم الأتباع والخدم ويتقلبون في مساكن عدة حسب تقلب أيام السنة وفصولها. ومنهم أنواع المزارعين وذوو الأملاك، وأولئك في حال من العيش لم يبلغ بذخ الأغنياء، ولم يهبط إلى دائرة الفقراء. ويعقبها طبقة الشعب وهي المزيج من ذوي الكفاف والصناع والعمال والفلاحين وسائر أفراد الأمة، بيئة لا يعرف العيش فيها إلا من نشأ معتادا ما فيها من ضيق وعسر، ويصعب على أفراد الطبقات الأخرى اعتياد شظف عيشها ونكد حياتها، ومن قضى عليه الشقاء بالتدهور إليها لاقى من صنوف العذاب والألم ما لم يعرفه، ولا يكون له جلد على احتماله، وربما طلب الموت فرارا ويأسا.
إن الناس على اختلاف الطبقات متساوون في الخلقة والتكوين؛ لأنهم من نوع واحد وطينة واحدة، لا يتفاوتون إلا في الحاجات والتبذير في الكماليات وحب الظهور، وليس من المفيد أو الضروري لسعادة الإنسان والهيئة الاجتماعية أن تتعدد المطالب، وتكثر الحاجات إلى درجة تستدعي أن ينهك المرء نفسه، ويستنفد قوته وجهده للحصول على بعضها، إذا لم يتمكن من الحصول عليها جميعا. ولو قارن كل فرد نفسه بمن هو دونه في الغنى والجاه، ونظر إليه كيف يرضى ويسر بالضروريات - إن حصل عليها - لاستطاع أن يردع النفس عن غيها، وقوي على كبح جماحها وأرضاها بما يرضي القنوع الراضي.
والحقيقة أن الاستياء عام يشمل كل الطوائف وكل الأفراد، اللهم إلا المعوزين الذين لا يملكون قوت اليوم، أولئك الذين يتضورون جوعا ويصلون لفحات الشمس؛ لأنهم لا يجدون مكانا يتفيئون ظله، ويقرسهم البرد؛ لأنهم عراة لا يملكون لباسا ولا غطاء ويقتلهم العوز؛ لأن يدهم خالية لا تشمل ميراثا ولا تستثمر موردا. وإننا لنظلم أولئك البائسين إن عددناهم من الساخطين المستائين.
وقد يتعب الباحث إذا عني بمعرفة سبب سخط الناس على عيشهم وما هم فيه، سواء في ذلك طبقة الشعب والطبقة المتوسطة، أولئك الذين لديهم ما يفضل عن حاجتهم الضرورية ولا ينتفعون بما نالوا من الرزق ولا يعترفون بنعم الله وما منحهم من جزيل العطاء. فإن صادفت غنيا قانعا بما في يده فلا تتوهم كون سروره بماله وثروته، فإنما هو رجل يعرف كيف يقنع فيسر وكيف يسعد فيلذ له العيش.
الدابة إن شبعت تنام ملء عينيها، ولكن الإنسان لا يهدأ طويلا إذا هو أثرى، بل يشتد طمعه ويزيد جشعه، وكلما كثر ماله زادت شراهته وتعددت رغباته وأمانيه. ومن هذه الحقيقة ترى أن أكثر الناس شكوى من الحال وسخطا على العيش هم أكثرهم سعة، وأوفرهم في أسباب الاغتباط والشكر. وهذه حجة قاطعة على أن السعادة ليست في الغنى وكثرة الحاجات، وإذا لم يعرف الإنسان هذه الحقيقة البديهية، فلا يعرف حدا لمطامع النفس، ولا يوقف رغباتها المتعددة، فلا يعرف معنى لهدوء القلب وطمأنينة النفس. •••
إن الرجل الذي يعيش ليأكل ويشرب وينام ويلبس ويتنزه ويلهو بكل ما في وسعه من أسباب الملاهي والملاذ؛ هو المعتل أسير الشهوة وعبد النفس، سواء كان هو المقعد الذي يلذ له النوم تحت حرارة الشمس، أو العامل السكير، أو القروي البطن، أو المرأة المولعة بالزينة والتبرج، أو السري الشهواني، فكلهم على مزلق السقوط الأدبي، وهو مزلق - لو عرف الناس - خطير.
ومن ساء حظه وزلت قدمه كان شأنه شأن الحجر الساقط من عل. وقد يعلل النفس بالوقوف عن هذا التطوح بعد نيل أمنية مطموع فيها، ولكنها تعلة فاسدة لا تلبث أن تزول إذا نيل المطموع فيه فلا يقف ولا يقنع، يسوقه الطمع قسرا ولا إرادة تمنعه من التورط؛ لأن الخضوع لأهواء النفس ومراميها يقضي على الإرادة ويقتلها، هذا هو سر الارتباك المتفشي والاستياء العام، وهو أقل جزاء لمن تخضع إرادته لميوله ويستعبده الطمع والجشع، فإن الرغبة تفعل في قلبه فعل النار بيابس الحطب، وتنخر عظامه نخر السوس الخشب، وتمتص دمه فلا يذوق طعم الراحة والهناء ما دام في قيد الحياة.
وليس هذا مجرد تخمين أو ظن أو رجم بالغيب، وإنما هو حكم وثيق بعد مشاهدات عديدة، واحتكاك بأحوال الناس وتصرفاتهم، حكم تؤيده المشاهدة والواقع، وهو من الحقائق التي لا ينقضها العقل ولا المكابر.
انظر إلى السكير المدمن فإنه لا يكف عن الشراب مهما كرع، حتى لتتمزق أحشاؤه ويلتهب دماغه قبل أن يروى ويكف. وانظر إلى الوقاحة، فإنها لا تلطف حدة المعتدى عليه، بل تزيده حنقا وغيظا. إن من يرخي لنفسه العنان، ويتبع مطالبها، ويجنح إلى ميولها يقوي رغباتها، ويعدد مطامحها حتى لا تقنع، ويكون شأنها شأن الميكروبات التي توضع في بعض السوائل؛ لتقتل وتعدم وتكون صالحة لها فتزداد وتنمو بكثرة هائلة.
وكل ظن يكون منشؤه توهم السعادة في الغنى، ونيل حاجات النفس وشهواتها باطل غير حق؛ لأن من يملك الملايين يطمع في سواها ولا يقنع بما ملكت يمينه، ومن تصل يده إلى الآلاف تتطلع نفسه إلى الملايين، ويموت بحسرة الحصول عليها. والبطن الذي يحصل على الدجاجة تتوق نفسه إلى الأوز، ثم إلى الخراف فإلى الغزلان، وهكذا تتنوع ميوله وتتجدد أماني نفسه وهو ضجر مكد تعب.
وهنالك كثيرون من الفقراء تتوق نفوسهم إلى عيش ذوي الثروة والسعة، فيخرج العامل عن حده وقدرته ليظهر في مظهر ذوي الجاه. وتقلد الفتاة الفقيرة بنات البيوتات الكبيرة في الزي واللباس. ويقامر الموظف في أندية الأغنياء ورجال المال فيضيق ذرعه بمقتضيات ذلك الوسط المبذر، ويزيد إنفاقه على كسبه فتسوء العاقبة. وكثيرا ما يغفل ذلك النفر المشتط المقلد عن أن ما يضيع في سبيل الظهور يفيده في شئون أكثر نفعا له ولذويه، لو أحسن التصرف واعتدل في عيشه وإنفاقه.
والرجل عبد الملاهي والملذات، وأسير النفس الطموحة الجشعة أكثر شبها بالدب توضع في أنفه حلقة حديدية فيقتاده بها الإنسان؛ ليرقص ويلعب، وهو مرغم لا يملك من أمر نفسه شيئا. وليس هذا التشبيه لمجرد التشنيع والتحقير وإنما هو الحقيقة المرة التي لا بد من الاعتراف بها. إن هذا الفريق من الناس مسوقون إلى أسوأ حال، ومنهم من يضحي بأعز ما يحتفظ به الإنسان في الحياة الدنيا، العرض والشرف؛ لنيل ما يرضي النفس ويقضي مطالبها، وعذرهم في ذلك كثرة الحاجات والافتقار إليها، وهي دعوى فاسدة؛ لأن الكفاف سهل الإدراك، ولا يكلف المرء عناء طويلا، ولا يسوقه إلى الحضيض الدنس الملوث.
ولا يستطيع أن ينبئك بنتيجة هذا السقوط غير أولئك النسوة اللائي بعن الطهر والعفاف، وارتمين في أحضان الرذيلة، فساقتهن إلى أتعس المواقف وأحط منازل الحياة، ليسألهن سائل عما وصلن إليه، وعن أسباب هذا السقوط، وعما إذا كن في حال مرضية وعيش رغد وراحة وطمأنينة مع ما هن عليه من الزينة والتبرج، فيعرف مقدار الشقاء والبؤس الذي يحيط بهن ويجعلهن آسفات على الحياة السالفة والأيام الماضية.
وفي الناس رب عائلة يعولها بما استطاع تحصيله من عمل شريف يضيق صدره وذرعه بمطالب زوجته، وتقصر يده عن إرضاء رغباتها، فيدفعه الحنو والحب إلى المهاجرة إلى حيث الربح الوفير والمال الكثير؛ ليستطيع إرضاء تلك الخبيثة الطموعة. وهي تبسط يدها بالإنفاق وتبعثر ما جمعه الزوج التعس بعرقه الغزير وتعبه المضني، غير شاكرة له يدا ولا معترفة له بجميل؛ فتتولاه السآمة والملل ويتناوبه الضجر، فينزع من قلبه الحنان والشفقة، ثم يقبض يده المبسوطة، ويترك تلك الشيطانة تسخط عليه، وتلعن الزمان والطبيعة والنوع البشري وتملأ الجو أنينا وعويلا. ولو أنها اعتدلت في مطالبها وراعت ظروف الحال ودخل زوجها، لبقيت في رغد دائم، وعملت على سعادة العائلة، ولما خسرت عطف رجلها وحبه الأول.
ولا شك في أن مثل ذلك العائل المنغص عيشه يجتهد أن ينسى أحزانه بضروب اللهو، فيشرب الخمر ويقامر ويتغزل حتى يتورط شيئا فشيئا، فلا يلبث أن يبلغ سبيل الرذيلة، ويركب متن الحرمات فينتهكها جهارا، وتفسد أخلاقه، ويتأصل فيه الداء فيعز شفاؤه، وتكون النتيجة سقوط العائلة وخراب الدار. وكم من العائلات التي يكون في وسعها العيش بهناء ينزل بينها الشقاء والبؤس؛ لضياع العواطف الحية من قلب رجلها العائل ولنسيانه الواجب، فلا تجد في أفرادها غير والدة أنحلها الحزن وأضناها الهم والتفكير، وأطفال عراة حفاة يعوزهم الخبز والماء والهواء؛ لكون ذلك الأب القاسي يبذر كسبه في غير ما يحتاجون إليه من مطالب الحياة، ويفقد ماله في سبيل شهوة النفس وأهوائها الكثيرة.
ولو اعتدل الناس في أمورهم وأنفقوا ما يكسبون في قضاء حوائجهم الضرورية لما عرفوا الحياة من وجهها الأسود، ولكانوا في غنى عن الاستياء والتذمر، ولأمكنهم أن يواسوا المحتاج بما يتجاوز حاجتهم معاونة تبهج النفوس، وتشرح الصدور، وترضي الضمائر. ولكن الإسراف يستنزف الكثير والقليل ويترك الناس في عوز دائم، فلا يشعرون بقدر النعمة، ويأخذون باليمين من خزائنهم ما يبذرونه باليسار في شهواتهم بلا لذة ولا تنعم. وأنى لهم أن يعرفوا طريق السعادة والهناء وهم على هذا الشطط القبيح؟
إن الخضوع لشهوة النفس ومطالبها الجمة يودي بالسعادة والاستقلال الذاتي وحسن الخلق، وينتج اعتلال الصحة وضياع الثروة، ويلهي بالحاضر عن فضائل الماضي، ويشغل عن التطلع إلى المستقبل، ويكون سببا لبيع الزرع ودر الضرع والاقتراض بفاحش الربا؛ للتمتع برهة من الدهر وحينا من الزمن ترى بعده الحياة عبئا يضني وحملا يتعب، بعد أن يجف مورد الثروة ويقفل باب الكسب. ثم يستنفد الدين القليل المرهون فيمر العيش، وتتنغص الحياة، ويكثر الهم والتفكير، وتخلق الأمراض، ويجيء الفقر فالعوز، فيشتد التطلع إلى ما في يد الناس؛ فيكون هذا منشأ الخصومات والمشاكل فتسوء الحال وتتعدد الجرائم المخلة بالأمن ونظام الاجتماع.
وعلى عكس ذلك إذا اعتدل كل في حاجاته وضروريات العيش يتأتى اجتناب هذه المكدرات، ويسهل اتحاد الهناء والسعادة بكل مميزاتهما الحسنة المنشودة. ولا يغربن عن الأفكار كون القناعة من أحسن الوسائل التي تكفل الراحة والاطمئنان إلى المستقبل، وكون الحمية رأس الدواء. ومن عرف ذلك وجعله محورا لتصرفه دفع عن نفسه الأضرار التي تشقي وتحزن، وحفظ صحته وعقله من الفساد؛ لأن الاعتدال والبساطة في المأكل والملبس والمسكن من خير ما يمتاز به العاقل الحكيم، وعلى قدرهما في أحوال المرء تكون الثقة بمستقبله؛ إذ يكون في أمن من الطوارئ السيئة وعواقبها الوخيمة، ويكون له مما يدخر عون على المرض والعطلة، وكلاهما عارض محتمل الوقوع.
ومن ألف البساطة في معيشته لا يدفعه اليأس إلى الانتحار، إن خسر ماله، أو فقد مركزه؛ لأنه قليل الاهتمام بظواهر الغنى والجاه، فلا يكون شأنه إذا نزل به الفقر شأن الطفل المدلل، إن حبسوا عنه سائر اللعب التي كان يفاخر رفاقه ويدل بها عليهم؛ إذ ينكمش بعيدا عنهم ذليل النفس ضعيف الحول لا يقدر على رفع رأسه بين من كان يفخر عليهم ويشاكسهم.
ولو لم يكن في الاعتدال والبساطة في العيش غير كف الأنظار عن الحسد، ومنع الكراهية والبغضاء التي تنشأ منه، وغير اجتناب نتائج الغيرة التي تتولد في قلوب الحاسدين، والمشاكل التي يستدعيها الإسراف لكفى.
وليتذكر العاقل أن للظهور ثمنا باهظا يدفع من المال، وراحة الضمير والفكر ومن الحقيقة، وهو ثمن لا يستهان به، ولا يقوى على دفعه امرؤ بدون أن يعكر صفو هنائه.
الاعتدال والسرور
كلما ينظر الباحث إلى المجتمع الإنساني وأطواره الذاتية وإلى الأحوال الشخصية يزداد وثوقا بإقفار القلوب من عاطفة السرور الحقيقي، وليس ذلك لرغبة الناس عن هذه العاطفة أو لتقصيرهم في البحث عن أسبابها ووسائلها، فإن العالم بأجمعه إنما يسعى بكل قواه ليسر ويفرح.
إن في الناس من ينسب الاستياء العام والفتور المخدر إلى أسباب مالية أو سياسية، ومنهم من يرجع الأسباب إلى المشاكل الاجتماعية، والخصومة الدائمة بين الخلائق. والحقيقة أن الباحث ليحار في إسناد ذلك إلى سبب واحد لتعدد الأسباب ووفرتها. وإن المرء ليرى كل من يصادفهم في شغل دائم وتعب يرزحون تحت أعباء من الهم والنكد، إما لشقاق في السياسة، وإما للمشاكل القضائية القائمة بين الناس، وإما للغيرة التي تحرق الصدور وتأكل القلوب، وإما للحسد المتبادل بين ذوي المهنة أو الصناعة الواحدة، وإما للتنافس بين ذوي اليسار والمراكز السامية، وإما للمزاحمة في التجارة.
ولا يفوت الباحث أن التعليم ولوائحه الكثيرة الصارمة من أكبر الأسباب التي تشغل أفكار الشبيبة، وتنغص عليها العيش، كما أن الصناع والعمال في هم متزايد بسبب الخلاف الدائم بينهم وبين أصحاب المصانع والأعمال.
فالحياة لا تلذ للحاكم لضياع النفوذ وقيام الأمة بكسر قيود الإرهاق وطلب التخلص من السلطة المطلقة، والمعلم ساخط لقلة اكتراث الناس بالعلم ومعرفة أقدار المربين والمهذبين. وهكذا بقية الناس لا ترى فيهم إلا المغضب المستاء، مع أن التاريخ يرينا عصورا كثيرة تنقصها مزايا العصر الحاضر من معدات الرفاهية والتنعم، وأسباب السرور والراحة، ويرينا ما كان عليه الإنسان في تلك الأزمان من سعادة العيش، وصفاء البال والاغتباط بهما، رغما من الحوادث الخطيرة الجمة التي تذهب بلذة الحياة.
ويظهر أن سوء الحظ والشقاء وعدم الاعتداد بالمستقبل وتتابع الأزمات، هي من الأسباب الموحدة للقوى الدافعة إلى التضافر؛ لمقاومة الكوارث الطارئة والمصائب العامة التي تصيب الناس بالضر والأذى.
وقد مر على الإنسان حين من الدهر لم تخل لحظاته من هم جديد وشقاء دائم، غير أن ما اعتور راحته وعيشه من الطوارئ المتعبة، والنوازل العائقة لم يسلبه الهناء والسعادة، بل كانت تلك الفترات خير الأزمان التي عرف فيها الفرح والاغتباط، وهذا عجيب بعيد عن التصديق، ولكنه الواقع، ويرجع السبب في ذلك إلى سلامة الضمير من أدران الخبث، وتنزه النفس عن كثير من الطباع المرذولة كالحسد والغيرة والطمع، إلى غير ذلك.
وليس السرور من الماديات، بل هو شعور ينبعث من النفس ويشعر به القلب، وقد تبدو ظواهره على الوجه في شكل ابتهاج، أو ترتسم أماراته على الثغر في زي ابتسامة؛ ولهذا يرجح كون بواعث الانقباض والاستياء التي يشعر بها الإنسان في هذا العصر نفسية أيضا، ولو أن منشأها المؤثرات الخارجية.
ومن مقتضيات السرور الحقيقي الأمن والاطمئنان إلى الحياة والثقة بالنفس، وهي ما ينقص الناس. إن الرجال، بل والشبان يضنيهم التفكر في أمر الحياة وإن لم يكونوا من الفلاسفة. وكيف يطرق السرور هذه القلوب، ما دامت الأفكار مشتتة تعبة تود لو أن العالم لم يخلق والوجود لم يكن؟
إن الإفراط قد أودى بقوى الإنسان الحيوية فأصابها الانحطاط والوهن، وفسدت الحواس وضعفت المشاعر حتى قضي على جميع أسباب السرور؛ لكون الطبيعة لا تحتمل كل المفاسد التي يرتكبها المرء ويقتل بها النفس والعواطف. ولكن رغبة الإنسان في الحياة ومتاعها لم تزل حاكمة متحكمة في نفسه، تصرفها إلى التفتيش عن بواعث السرور أنى وجد، ولو كان باطلا ووهميا.
وكما أن الطبيب يلتجئ عند الضرورة إلى الوسائل الصناعية في التنفس والتغذية وغيرهما، متى كان المريض في حاجة إلى مثل ذلك، فكذلك ترى الناس يعنون بإيقاظ السرور من مرقده، وبعثه من قبره، فيضطرهم ذلك إلى استنباط الوسائل الآتية به والمؤدية إليه، بغير أن تردعهم النفقات الطائلة والعوائق الجمة. ولكنهم - مع ما كلفوا أنفسهم من المصاعب، وصنعوه من الممكن والمحال، وما أعدوه من المعدات - لم يذوقوا قطرة واحدة من السرور الحقيقي.
وهنالك فرق واضح بين السرور ومعداته، فكما أنه لا يكفي الحصول على القلم ليكون الإنسان كاتبا، ولا تأبط المزمار ليكون موسيقيا بارعا، فكذلك لا يكفيه أن يهيئ كل معدات السرور ليكون مسرورا. والمشاهد أن الكاتب المقتدر يكتفي بقصبة - لا قيمة لها - ليكتب ما يخلد الذكر ويعطر الاسم، وأن المصور الماهر يرسم بقطعة من الفحم ما يعد من المعجزات ويبقى من آيات الفن وبدع الدهر. فالعبرة إذن بالخبرة والموهبة وعليهما المعول. ومن عرف كيف يسر ويهنأ لا تكلفه السعادة نفقة ولا جهدا. ولكن هذه الموهبة لا تتفق مع السفسطة والغرور والإفراط، ومن لوازمها الثقة بالنفس والاعتدال في الفكر والعمل؛ فحيث تجد الاعتدال ترى السرور الحقيقي وتشعر بالسعادة الصالحة، كما أنك حيث تجد الزهر العطر تشتم عبيره المنعش. وكثيرا ما ترى الزهرة تنبت بين حجرين، أو تخرج في شق جدار متهدم، أو في جانب صخرة ملساء فتعجب وتدهش وتتساءل: كيف نبتت وكيف أزهرت وكيف صارت يانعة عاطرة؟ مع أنها لا توجد بهذا المنظر البهيج في حديقة غناء تسقى وتخدم، بل كثيرا ما ذبلت بين يدي المعجب بها، وذوت أمام ناظريه، وهو عاجز عن دفع ما حاق بها.
سائلوا الممثلين ورجال المراسح عن أكثر الناس سرورا وابتهاجا بالتمثيل الهزلي، يدلوكم على الجمهور الساذج، وهم محقون في ذلك؛ لأن هذا الصنف من الناس لم يختلف كثيرا إلى المراسح، بل لا يقصدها إلا نادرا فيرى الأشياء في بهجة الجديد وروائه، ويسمع الكلام كأنه غريب عن آذانه التي لم تعتد الهزل ولم تعرفه، فيجد لذة بعد جهد النهار وتعب الأسبوع. وهذه اللذة حقيقة بذلك النفر؛ لأنهم لم يذوقوها إلا بعد طويل الحرمان، وهم أعرف الناس بقيمتها، كما يعرف العامل الكادح قيمة الدرهم الحقير بعد طويل الكد والتعب. وزد على ذلك أن العامل الساذج يتأثر مما يشاهد تأثرا حقيقيا، كأنه حوادث واقعة غير شاك ولا مرتاب، فيلهو بما يرى ويسر سرورا حقيقيا لا يعرفه من يقضي حياته على المراسح ويعرف حقيقة التمثيل.
فمما يدعو للأسف أن البساطة سر السعادة وروحها أخذت تزول حتى من الوسط الساذج، وبعد أن كنا نندب حظ سكان المدن الذين اطرحوا وراء ظهورهم العادات والتقاليد الممدوحة، أخذنا ننظر بحزن واستياء إلى حال القرويين الذين اقتفوا خطوات المتحضرين في تلك المزالق الخطرة، فانكبوا على الكحول واعتادوا المقامرة وألفوا قراءة ما يفسد الأخلاق ويحرك العوامل الكامنة، فيطوح بالمرء إلى بؤرة الفساد والرذيلة.
زالت البساطة من ذلك الوسط بعد أن كانت هي دعامة الهناء والسعادة حينا من الدهر، فأخذت الحياة الملفقة مكانها وأفسدت كل صالح وقضت على كل حسن، وإن من يقارن بين الأعياد والأفراح التي كانت تقام في القرى وبين أمثالها اليوم؛ لتذوب نفسه حسرة وحزنا على ما فات.
أين ذلك الزمن الذي كان الناس فيه إخوانا يشمل عرس أحدهم كل أبناء الضيعة، فيجمعهم سامر واحد وتربطهم عاطفة واحدة، يستجلونها في غنائهم وصياحهم ورقصهم وتصفيقهم بعد أن يملئوا بطونهم طعاما مغذيا وماء قراحا؟
إن السرور والسعادة من المسائل الرئيسية في الحياة الدنيا، ولكن بعض العقلاء ذوي الرزانة يهملونها كأنها لا تستحق الاهتمام والذكر، وينفر منها المتمولون ذوو المطامع المادية الذين حصروا حياتهم في الكسب والادخار؛ لتوهمهم أنها مما يستدعي كثرة الإنفاق والتبذير. أما من نعرفهم في المجتمع بالشهوانيين فإنهم يبحثون عنها في غير مكانها، كما يبحث الخنزير عن الأقذار في الحديقة الفيحاء.
وعجيب ألا يحفل الناس بأمر السرور الحقيقي، مع شدة احتياج النفس إليه؛ السرور شعور يزكي العواطف فيحييها وينشطها ويجعل للحياة في نظرها صورة حسناء تفتن، ومن يعرف كيف يسر ويهنأ في هذا الزمن المملوء بالأفكار العقيمة والمتاعب النفسية، يكون ممن لهم ميزة وتفوق غريب. ولو عني هذا البعض ببث أفكارهم بين الناس؛ لإرشادهم إلى طريق السعادة لرفعوا عن القلوب ما يثقلها، وعن الوجوه المقطبة مسحة الكآبة والكدر الدائم، ولأنعشوا الأفئدة بعد أن طال عليها الخمول والجمود، ولجعلوا للحياة وجها غير هذا الوجه الأسود. ولكن كيف يتسنى ذلك بعد أن أقفرت القلوب من الرأفة والحنو، وقصرت الأفكار عن معرفة الأسباب الوجيهة للعزاء والسلوى، حتى إن من يريد أن يخفف عن يائس وقر الشقاء ونكد العيش مجاملة ينكر عليه آلامه ويناقشه في ذلك؛ ليوهمه أنه على خطأ في معرفة مركزه الحقيقي وتقدير سوء حظه في الحياة!
ليس من يقتنع ويعرف آلام الغير وتأثيرها في النفس إلا من يعاني مثلها، ويئن من وقرها، ولهذا ترى المنكودين يتفاهمون ويرثون بعضهم لبعض، حتى إذا ما صلحت حال أحدهم وابتدأ نجمه ينتقل من برجه المنحوس نسي ما كان يقاسيه، وأنكر على غيره ما هو فيه من نكد وشقاء، مع أن المعزي اللطيف هو من يشعر بآلام المنكود شعورا حقيقيا ويرثي له رثاء صادرا عن القلب. ورب ضغطة على اليد تزيح عن قلب المتعس حملا من همومه، وتخفف عنه شيئا من بلواه متى أحس أنها عن ود وإخلاص، ورب نظرة واحدة تفضل آلافا من العبارات المنمقة المزخرفة.
من الناس من يستصحب البائس، ثم يجهد نفسه ليدهشه بمقدرته في الكلام والنكات، ويفتح له مصراعي بابه، ويدعوه - على الرحب - إلى مائدته، ويعد له من الطعام أشهاه وأفخره مختالا بما رزقه الله وحرم منه الكثيرون، وربما تصدق عليه، وهو يظن أن في ذلك عزاء وتلطيفا لحال اليائس الشقي، ولكنه عين الخطأ والغرور. فأي عزاء لمن يفاخره الإنسان بمقدرته ويكاثره بفضته وذهبه، ويجسم له حقيقة أمره أمام خدمه وحشمه، ويوقظ الحسد في نفسه بما يمنح من مال وجاه، ثم يحقره بما يعطيه صدقة من فضلات نعمه؟ وهل أصعب على النفس من أن ترى يسر الغير وعسرها وجاههم ومسكنتها وقوتهم وضعفها؟
إن من يريد أن يأخذ بيد البائس ويزيح عنه شيئا من همومه يجب أن ينكر نفسه أولا؛ لأن الأنانية تنفر منه القلوب مهما كرم أصله، ورق قلبه، وابتغى صالحا، وعملا طيبا. على أن هذه التضحية ليست إلا مظهرا؛ فإن المرء لا يتجرد من خاصة ميل النفس إلى ذاتها. والمراد بهذا التقييد كسب ثقة المنكود وفتح أذنيه لسماع كلمات العزاء والتشجيع، فيشعر بتأثر قلوب الغير لمصابه فيتقبل الإعراب عن عواطفها، ويقع منه موقعا ينسي الهموم ويبعث إلى الطمأنينة.
وإذا كان الإنسان يتناسى في أوقات السرور كل متاعبه الشخصية وهمومه التي تشقيه وتشغله، فأولى به أن ينسى في ساعة العزاء والمواساة مركزه الاجتماعي وجاهه وحوله، ويتجرد من كل القيود التي تكم الأفواه وتحول بين الإنسان وفطرة الصبي الساذج؛ ليضحك ضحك الأطفال، وهم أقل الناس إدراكا للهموم، وأكثرهم سرورا وسعادة. ألا إن هذا التناسي ليفيد كثيرا، ويصلح حال الاجتماع، ويزيل ما بين النفوس والقلوب من الموانع والحواجز، ويكون واسطة قوية لتبادل الحب والنفع. •••
من الظن الشائع أن الممرض لا ينفع لغير التمريض، والمدرس لغير التعليم، والقس لغير الوعظ وبقية مقتضيات عمله الديني، فتكون النتيجة أن كل المتفرغين للأعمال الجدية مكرسون لهذه الأعمال، لا يتزحزحون عنه قيد أصبع، كأن شأنهم في العمل شأن الدابة فيما خصص لها من العمل. وعلى هذا الزعم يكون العجزة والمفلسون وكل المنكوبين - على سائر أنواعهم واختلاف مصائبهم - من المحكوم عليهم بالتجرد من عاطفة السرور، كأنهم خلقوا للضراء والهموم، فلا يقابلون بغير الوجوه المقطبة، ولا يسمعون غير الأخبار المحزنة المكدرة. وكما أن ذلك الظن يستدعي - بطبيعة الحال - أن يمسخ الزائر وجهه إن عاد مريضا أو منكوبا، وأن يختلق من الأحاديث ما يضيق الصدور ويسئم الأسماع والنفوس، وألا يدنو من تعس إلا ليردد على سمعه أخبار البؤس والشقاء، ولا من مريض إلا ليزف إليه شتاتا من أحاديث الأمراض والعاهات والآلام والموت. ألا إن هذا هو منتهى البربرية والتوحش، وأخلق بالعقول أن تتجرد من مثل هذه الظنون السخيفة.
فإذا ما لقي الإنسان رجالا أو نسوة كرسوا أنفسهم للأعمال الشاقة، أو انقطعوا للتمريض والتعليل، فليتذكر أنهم من الآدميين يعوزهم ما يعوز سائر الأحياء من الراحة ونسيان الهموم والفرح، وأن السرور لا يرد أولئك التعساء عن مهنتهم المحزنة، وإنما يجدد قواهم وينشطها لممارسة العمل بهمة وصبر.
وإذا ما صادفت عائلة حط عليها الشقاء بهمومه وأحزانه فلا تفر منها فرار الجبان من الموت، ولا تحذر من مقاربتها حذر من يتخطى النطاق الصحي المضروب على الموبوئين، فإن الإنسانية تحتم على الإنسان مقابلتهم بثغر باسم وصدر منشرح، مع احترام عاطفة الحزن التي بسطت أجنحتها على ذلك المكان وأفراده؛ حتى يشعر التعساء بحنان القلوب وعطفها عليهم، فيتجدد فيهم الأمل ويتعلقون بأهداب الحياة، فينشطوا لتحسين حالهم فيتحسن شطر من الهيئة الاجتماعية.
إن العالم مملوء بالتعساء الذين قضى عليهم نكد الطالع بالشقاء، وأولئك يكفيهم وميض من السرور في سماء حياتهم المتلبدة بغيوم الهم وسحب الأحزان، وتقنعهم عطفة قلب حساس وابتسامة ثغر باسم، فمن السهل مواساة هذا النفر، لو أتيح للناس أن يتعرفوهم أو يتفكروا فيهم.
لقد آن أن تماط عن العيون العوينات التي تمنعها رؤية متاعب هذا الفريق المنكود، فتسهل مساعدة من هم في حاجة إلى العزاء والمواساة، ويتأتى تعهدهم بشيء من العناية التي تخفف عنهم وقر الهموم وأعباء العمل الشاق، وتعيد لهم شيئا من الابتهاج. إن من يسير بجانب ذي الحمل الثقيل لتأخذه عليه الشفقة، فيحمله عنه - ولو لحظة قصيرة - مجاملة وإشفاقا، فتعيد تلك اللحظة من الراحة إلى المتعوب قوته وتشرح صدره. فهل بين الناس من ينكر هذا العمل الإنساني؟
ما أسعد حال المجتمع الإنساني إذا تبودلت فيه المعاونة وعواطف الإخاء والمحبة، فإن ذلك العزاء والسرور، بل والسعادة الحقيقية التي ننشدها من غير سبيلها القويم. •••
ولما كانت العناية بالناشئة واجبة، فعلى القائمين بالتربية أن يلاحظوا أن التروض والسرور من أكبر الوسائل التي تساعد على التكمل والتأدب.
ورب معترض يقول: إن الشبان لا يعرفون الاعتدال أو الاكتفاء بوسائل السرور التي يسمح بها لمن في سن الشباب، وإنهم ليطفرون إلى ما لا يستحب ولا يمدح. فيدفع الاعتراض بأن ذلك يكون بحسب قدرة المربي، فإن عرف كيف يسوس من هم في حرزه وصيانته، بما يختلقه من أسباب السرور وبواعثه - بغير أن يقيدهم بحد محدود - أمكنه أن يشفي النفس من تطلعها إلى غير الجائز، وإن لم يفعل عن تقصير أو إهمال أو عن عجز، فعليه وحده التبعة واللوم.
إن من يتصور أن الناشئة تميل إلى الملاهي الموضوعة، وبواعث السرور المختلق لهو على خطأ؛ لأن النفوس لم تفسد بعد، ولا زالت تميل إلى المروحات الطبيعية البسيطة، وتشعر بتأثيرها على النفس الساذجة فتتنشط وتنتعش، بينما هي تسأم تلك المشوقات المملة المتعبة. إلا أن الإفراط قد أفسد كل شيء على وجه الأرض، حتى إن اليد لتكاد لا تمس شيئا صالحا، والعين لا تقع إلا على الموبوء الدرن، فعلى قدر هذا الفساد تجب العناية والحذر عند انتقاء أساليب التروح وأماكن التلهي والسرور.
ومن المحقق أن حرمان الناشئين عن عاطفة السرور يؤلم قلوبهم ويقبض صدورهم، ولكن ترك الحبل على الغارب يؤذي أيضا، ويقضي على الأخلاق والأدب. فالموقف حرج والضرورة ماسة للتفكر في الحال والمآل، ولو وقفنا بهم عند هذا الموقف من الارتباك لحملناهم من الصغر أتعاب الحياة وهمومها، وجعلناهم في شك ووسواس، وأريناهم العالم من وجهه المغبر.
فليعتن الحكماء بوسائل السرور؛ ليفتحوا للسعادة بابا تأتي منه، فتنزع الهموم واليأس وتبدل الحال من حسن لخير منه. وليعمل العقلاء لإزالة الفارق الموجود بين المعلمين والمتعلمين وللقضاء على الغطرسة التي تنفر الناشئة من المربين؛ ليكونوا أخوة في أوقات الفراغ ترشف نفوسهم كأسا واحدة، هي كأس السرور الشامل؛ فإن ذلك مما يطرد النفرة وسوء الظن ويقوي الرابطة ويساعد على الدرس والتعليم. وإن للمعلم المحبوب منزلة في قلوب تلاميذه تفتح لمعلوماته صدورهم وأفهامهم، وليس ألذ للمتعلم من فهم نصائح وتعاليم مربيه المحبوب والعمل بها. •••
ليس للسرور ثمن ولا هو مما يباع ويشترى وإنما هو ثمرة يجتنيها من يعرف مكانها. فمن شاء ألا يعرف الهم والأحزان، وأن يروح عن نفسه ويملأ قلبه سرورا وابتهاجا، فعليه بالعمل والاعتدال في العيش والمعاملة، ونبذ ما ينفر منه الغير. وليكن حسن اللقيا واللفظ أنيسا معتدلا، حسن الظن بالناس لا حسودا ولا حقودا، محبا لرفاقه غير مهذار ولا نمام.
المال والاعتدال
المال من وسائل التعامل، ولكن الضرورة إليه لا تجيز أن يحله الإنسان في غير موضعه من مراتب الاعتبار، أو ينظر إليه بأرقى من العين التي تمثله واسطة لتبادل المنافع.
والمشاكل والمشاغب التي تنجم عنه خطيرة ، وسبب لأكثر الاضطرابات في العلائق الاجتماعية، إلا أنه مع هذا لا يمكن الاستغناء عنه، وعناية الخلائق بأمره من أقوى العوامل التي بعثت النفوس والأفكار على حب الاقتصاد، والبحث عن سبله المؤدية إلى الغاية، فرفعت من قيمته الوهمية وخلقت له في الحياة قدرا وسلطانا.
ولولا الافتقار إلى تبادل المنافع لما نشأت الحاجة إلى المال، وليس المراد به الفضة والذهب فقط، بل كل متداول ذا قيمة متفق عليها معترف بها. وقد جعلت المطامع والرغبة في الربح والاكتناز في مستوى المنافع أشياء ليست منها، ولا يجوز أن يكون لها هذا الاعتبار، فأوجدت لها قيمة مالية ليست لها ولا يصح أن تقدر بها، وفسد بذلك المعنى الصحيح لتبادل المنافع، وأصبح الحصول على المال - بهذه الواسطة - غشا وسرقة واغتصابا.
من المعلوم أن الغلال والمأكولات والملبوسات - وما شاكل هذه المنافع - مما يسوغ الاتجار به، واستبدال أحد أنواعها بالآخر منها. وكذلك يصح أن يقدر العمل، أو المجهودات الشخصية تقديرا لا غبن فيه على المتعاملين، فيستوفي العامل منفعة توازي ما عاد على الآخر من فائدة عمله، إلا أنه يجوز أن يكون في هذا النوع من التبادل شيء من عدم التماثل، فإن المجهودات الشخصية ليست ذات قيمة ذاتية، وإن كانت تقدر تقديرا يلوح أنه لا غبن فيه على المتعاقدين.
ويجب أن يلاحظ أن في الحياة ما لا يمكن بيعه كمعرفة المستقبل وما شاكل ذلك، فكل من يعدها سلعا تباع وتشرى يكون مجنونا أو محتالا. ولكن البعض - ويا للأسف - يحصل على المال بهذه الواسطة غير المشروعة، والمخدوعون يدفعون مقابل ما لا يباع، ولا يملكه البائع، ولا قيمة له ثمنا من الذهب. والبعض يتاجر بالعواطف والملاذ والشهوات والأعراض والوطنية والدين، وهذا النوع من الاتجار لا يجعل لصاحبه حظا من القيمة الأدبية والشرف، اللذين يكونان لمن ينتفع ويربح من بيع وشراء ما يجوز الاتجار به.
ومع أنه لا يوجد بين الناس من لا يستنكر هذا العمل الشائن، ويستقبح الربح من هذا السبيل، نرى أن هذا المستقبح عقلا وأدبا له حكم الجائز المحمود في عرف ذوي المطامع عباد المال، بل ونراهم يعدون كل اعتراض على هذه الرذيلة بلاهة وحمقا وتطفلا.
وقد انتشر هذا المبدأ الفاسد حتى صار عادة لا تستأصل، ولم يعد الكثيرون ينظرون إليه بعين الازدراء والمقت الجديرين به، فعبثت يد الإنسان بكل مقدس وشريف بلا تردد ولا أسف. وليس المال هو سبب هذه السفالات التي تربك الحياة الاجتماعية وتشوه وجهها الحسن، وإنما هي المطامع وحب الذات.
للطموع مبدآن: الأول يحصر في اعتبار المال روح الحياة، والثاني في أن الربح وحده هو الغرض من كل عمل؛ ولذلك تراه يتساءل عند كل حركة: ماذا أربح وماذا عساني أستفيد؟ وهذان المبدآن هما من أشد المزالق انحدارا إلى حضيض السفالة والعار، بما ليس في استطاعة الكاتب أن يمثله ولا العقل أن يتخيله. «ماذا أربح وماذا عساني أستفيد؟» هذا السؤال الذي يكون مبررا ووجيها ومغتفرا عندما يراد به مجرد التبصر والاحتياط المفروضين على كل طالب رزق، يكون شؤما ومصابا على الاجتماع عندما يتجاوز ذينك الغرضين، ليكون محورا تدور حوله الأغراض والأعمال ووجهة ترمي إليها الأماني والآمال، حتى إنه ليحط من قدر العامل وقيمة العمل الشريف ولو أنه لكسب الرزق ودفع العوز.
العمل المأجور مباح لكل الناس، إلا أنه إذا كانت الغاية منه مجرد كسب الأجر فإنه سفالة لا تبرر. وكل عامل هذا شأنه لا يحسن العمل، ولو استطاع أن يوفر من مجهوداته بغير أن يقلل من أجره الذي يتناوله لفعل غير متردد ولو أضر ذلك بالآخرين. وكل من لا يعمل وفقا لمقتضيات الصناعة أو المهنة، فإنه لبئس عامل يعمل أو أجير يؤاجر.
والطبيب الذي لا يحفل بغير ما يتقاضاه من المرضى لا يجمل بالناس الاعتماد عليه، فإنه لا يعنى إلا بالمال لإشباع مطامعه، وكذلك المعلم الذي يرغب فيما يحصله من المتعلمين تراه يستدر المال ولا يوفيهم حقهم من العلم والتربية. وأخطر من هذين على الاجتماع وأضر بمصالحه الصحافي الذي يؤجر قلمه رغبة في الدرهم الحقير، فإن ما يكتبه وينشره ليكون أحقر من الدرهم، بل وأكثر سفالة من نفس الكاتب.
ومما يؤسف له؛ أنه كلما كان العمل يرمي إلى تحقيق غايات أسمى وأغراض أكثر نبلا ووجاهة اشتدت عوامل الطمع، وتقوت الفكرة التجارية؛ للتغلب على هذه المرامي الوجيهة وإفساد نفوس العمال. نعم، إنه من الصواب والعدل أن يكون لكل عمل أجر ولكل تعب جزاء، إلا أنه من الخطأ الضار بالمجتمع أن يكون الربح هو الباعث الوحيد على العمل والغاية المقصودة منه. وحقيق بالعامل أن يرضي نفسه بالإجادة في عمله قبل أن يشبع مطامعه بما شاءت من الأجر؛ فإن ما يبذله من الجهد لهذه الغاية - سواء كان مجهودا جسديا أو عقليا - مما لا يقدر بثمن أو يدخل في اعتبار محصور.
إن الإنسان ليستأجر عاملين في قوة متماثلة ومعرفة متشابهة، فيعملان ويجيد أحدهما ولا يحسن الآخر، وهذا لا يدل على تفاوت في القوة والإلمام بالعمل، وإنما يكون على الأرجح دليلا على أن الأول يعمل راغبا في الإجادة، والثاني في الأجر فقط. وليس هنالك غير هذا السر في كل ما نراه من نجاح البعض وحبوط البعض الآخر، إذا ما تماثلت الظواهر وتوازنت القوى والمدارك العاملة. •••
ليس من ينكر أن مشاكل الحياة ومطالبها عديدة، وأن حاجة الإنسان إلى الاقتصاد ماسة، وأنه مرغم على ابتكار أساليب النظام في العمل للكسب والتوفير؛ حتى يتسنى له حفظ مركزه الاجتماعي وكسب قوت عائلته وأطفاله. وإن من لا يراعي هذه الظروف المتجددة، ولا يحفل بالطوارئ فيعد لها العدة قبل أن تفاجئه، وإن من لا يحسب للدهر تقلباته ليس إلا قليل التبصرة. ويجوز أن تفاجئه ظروف تلجئه إلى التسول ممن كان يعيب عليهم الحرص والتدبر والشح.
ليس من ينكر كل ذلك، ولكن إلى أي حال يصل المرء، وعند أي حد يقف إذا هو حصر أفكاره في أمثال هذه المخوفات؟ وماذا يعمل أو يتمم من العمل إذا قصر همه على أن يقارن بين العمل والأجر الذي يريده لنفسه، أو إذا أصر على أن كل ما لا يأتي بفائدة مادية يكون تعبا ضائعا على غير طائل؟
ألا إن الوالدات لا يتقاضين أجرا على إرضاع وتربية ومحبة أولادهن، ويرى الأبناء من واجبات البنوة احترام ومحبة ومساعدة الوالدين. والرجل الشريف لا يزال يعلن الحقيقة ولو أنه لا يجني من ذلك غير كره الناس له ونفورهم منه واضطهادهم إياه. والناس تدافع عن الأوطان وما وراء ذلك غير التعب والجراح، وربما الموت أيضا. وفاعل الخير يسديه إلى الغير بدون أن ينظر إلى ما يكون من نكران الفضل، وحسد البعض له وحقدهم عليه. كل هذا يتم بدون أجر وبدون تطلع إلى ربح مادي، والإخلاص وحده هو سر هذه الأعمال الجليلة، ورقة الشعور هي التي تبعث على انفعال النفس وتأثر العواطف وتدفع الإنسان إلى ما يحمد عليه من الواجبات الإنسانية.
أمكتنز المال، حول بصرك عن شعاعه الوهاج فإنه يبهره فيزيغه عن الحقائق، وتأمل في كيف جمعت ما استغواك وأبعدك عن جادة الاعتدال، تجد أن معظم ما وصل إلى يدك لم يكن ليصل إليها لولا سذاجة الآخرين، أو إخلاصهم لك. ولو كان كل من صادفت في حياتك من الماكرين ذوي الخبث والأنانية لما كنت في مركزك الحاضر، ولا جمعت هذا القد مما كان للغير وتسرب من يدهم إليك. إن جلال العالم ليس بأمثالك، بل بأولئك الذين لا تحفل بهم ولا تلوح قيمتهم الحقيقية واضحة للعيان. وإن الخدمات التي يؤدونها للاجتماع ليعجز عنها من تجردت نفوسهم من مشاعر الإنسانية، حتى إنهم ليجودون أحيانا بأموالهم وراحتهم وحياتهم لنفع الهيئة الاجتماعية، بينما أنت تحاسبهم على ما تربح وتحصي عليهم ما يعملون وما يأخذون. إنهم ليعملون كثيرا لمعاونة مثلك مدفوعين بعوامل الرأفة والإشفاق والطيبة والإنسانية، وكثيرا ما يكون جزاؤهم على ذلك نكران الفضل والمسبة والتحقير، فلا يقابلون هذا الجحود بما يستحقه، بل بلوم أنفسهم على خير أسدوه إلى غير أهله ومعروف زرعوه في غير مكانه. وإنهم لعلى حق في ذلك؛ فإن اللآلئ لا تطرح في القاذورات. ولولا أن مصلحة الهيئة الاجتماعية قائمة بوجود هذا النوع من الناس، وتعدد هذا الخطأ المفيد رحمة بالخلائق لأقحلت القلوب من الرأفة والإنسانية مما يعزي البائس ويلطف آلام المنكوب. •••
المال روح الحياة! هذا هو المبدأ الفاسد الذي تشبعت به النفوس والأفكار، وكان سببا لما نسمعه متناقلا على مثال الحكم من قولهم: القوة للمال، هو البرهان القاطع واللسان الناطق ... هو مفتاح الآمال وحلال المعضلات، هو سلطان العالم، وأمثال ذلك مما نظم وقيل مدحا في المال ورفعا لشأنه.
المال يلوح أنه روح الحياة لمن يصيبه الإفلاس التام يوما أو أكثر، ويكون في بيئة لم يعرفها ومكان لم يطرقه بعيدا عن ذوي صداقته وقرباه. وإن ما يقاسيه من نكد العيش وآلام الحياة، وما يمر عليه من التجاريب في هذا الزمن القصير؛ ليمكنه من معرفة ودرس فلسفة الفقر والفقراء درسا لا يتسنى له على أحسن مدرس حكيم.
ومما يؤسف له أن هذا الدرس المفيد قد يتسنى للبعض مكرهين على تلقيه في مدرسة الشقاء، وقد يطول أمده عليهم وهم - مع ذلك - في أوطانهم، وبين ذويهم وأصدقائهم ورفقاء حياتهم، بل وبين من سبق أن أفاضوا عليهم مما كان لهم من نعم الله، وغمروهم بالأفضال والحسنات. ولكن هذا لا يمنع أن يكون الدرس أكثر إفادة، والتجربة أبلغ عظة وعبرة؛ فإن العوز يذهب بالصداقة ولحمة القرابة وعهود الصبا وذكرى المنة والمعروف، حتى لينكر الناس معرفة المفلس ويفرون منه فرارهم من الموبوء.
إن الذباب ليتهافت على الجيف المنتنة، وكذلك الناس يترامون على المال، فإذا ما ذهب انفض المترامون وتوارى المتحببون. ومن يصل به الشقاء والبؤس إلى هذا الحد من مواقف الحياة، لهو وحده من يستطيع أن يعرف قدر المال، ويسخط على المبدأ السالف، ويقدر كثرة أضراره بالهيئة الاجتماعية، ولو أنه كان في زمان سعوده من أنصاره ومن عباد العجل الذهبي.
هذا المبدأ فاسد بكل معنى الكلمة، وليس أيسر على العقل من إثبات فساده بأدلة، ليس منها ما جاء في القصص من ذكر الضال في الصحراء، ولا تمثيل الغني الكانز في ضعف الشيخوخة وانحلال الكبر، وإنما بأدلة تجعل الحقيقة واضحة ملموسة، وتظهر بطلان هذه الأكذوبة التي جرت مجرى الحكم والنظريات البديهة.
ليس أقرب إلى التذكر من حال الإنسان في دور البداوة، وقبل تطرق هذا الخبث إلى الأفكار والقلوب، فإنه كان أسعد حالا منه بعد كثرة المال وتوفر الحاجات المادية ووصول العمران والمدنية إلى هذا الحد المبهج، وقل أن صادف المعوز - في ذلك العصر الهمجي - ما يلاقيه اليوم من أخيه المتمدين من دلائل القسوة، وإقفار القلوب من الرحمة، وقبض الأيدي عن الجود، بدون أن يمنع الكرم في ذلك العهد تقدم الاجتماع أو يخل بنظام العالم، وبدون أن يكون الشح وحب المال في هذا العصر واسطة للإثراء والحصول على السعادة، أو من عوامل الرقي الحقيقي وأسباب السلام.
وما على المرء إلا أن يقارن بين حال القرى والضياع التي يؤمها السائحون؛ لشهرة لها تاريخية أو صحية يوم كانت ملجأ للضيفان، ودليلا على وجود العاطفة الإنسانية في الإنسان، وبينها اليوم وقد انقلب الحال وأفسد حب المال تلك النفوس الساذجة والأفكار البسيطة، فحولها إلى نفوس وأفكار لصوص يترقبون مرور السائح أو الزائر؛ ليسلبوه المال في مقابل ما لا يساوي شيئا، إنهم يبيعون اليوم ما كانوا يفخرون بالجود به وما لا يملكون أيضا. إنهم يبيعون الظل والشمس والماء والهواء، ويطلبون الأجر حتى على الإرشاد للسبيل.
يقال: إن المال هو واسطة النصر في الحروب. نعم، إن الحروب تقتضي النفقات الطائلة، ولكن هل يكفي أن يبذل المال للدفاع عن الوطن وحفظ كرامته؟ إن لنا من التاريخ لخير جواب على هذا السؤال، فإن ما كان بين جيوش الفرس ونفر اليونان وانتصار الذابين عن بلادهم المستقتلين في الذود عن حياضها يناقض هذا القول ويدل على بطلانه.
نعم، إن المال يكون واسطة للإكثار من المدافع والبنادق والسيوف والرماح والقذائف والعمارات البحرية والخيول، ولكنه لا يمكن أن يكون ثمنا للمعارف الفنية والفنون الحربية والسياسات الرشيدة والنظام الدقيق والطاعة والحماسة والوطنية، والنصر - في الحقيقة - راجع إلى هذه الأسباب وتوفرها في المقاتلين.
قد يتوهم البعض أن المال وحده يخفف متاعب الهيئة الاجتماعية، ويلطف ما فيها من أنواع الشقاء. والحقيقة أن المال من بواعث التطرف والإفراط، فإن لم يكن له سياج من العقل والتعفف والطيبة والاختبار، كان سببا للإضرار بمالكه وبالغير بدلا من النفع. فكثيرا ما كان الإحسان مثلا - وهو من ملطفات الشقاء - باعثا على إفساد النفوس وتعويدها الخمول والكسل والبقاء عالة على المجتمع؛ وهذا لأن المثري المحسن لم يتخير مكان العمل، ولم يعرف كيف يميز بين من يحتاجون الصدقة وبين من يحترفون التسول. •••
ليس المال كل شيء في العالم. نعم، إن له بعض القوة والنفوذ، ولكنه ليس السلطان المطلق، وليس أكثر خطرا على الاجتماع، ولا أضر بالهيئة الاجتماعية من انتشار الطمع والأنانية، والانصراف إلى الكسب بأي الوسائل شرفت أم سفلت، فإن هذا النقص الأدبي مما يجرد الإنسان من كل صفات الإنسانية الحقة، ومما يجرد الرجل من حقيقة الرجلة وشعائر الأحياء، فضلا عن أنه ينزع الثقة من القلوب ويملؤها خبثا ونفاقا وختلا.
ولا يراد بهذا القول الصواب منع كسب المال بالوسائل المعتدلة من الوجهات الشريفة المحللة، ولا تحقير الثروة لحمل الناس على التجاوز عن طلبها والتعلق بها، وإنما يراد حصر الأعمال في الوسائل المشروعة السائغة وتطبيقها على القانون العام، وهو تقدير الأشياء بقدر ما لها من القيمة الذاتية والاعتبار الأدبي، ووضع الأعمال في مواضعها الحقيقة بها.
لقد وجد المال لقضاء حاجات الإنسان، وواسطة للتعامل وتبادل المنافع، فإذا ما تعدى هذه الغاية، وتحرر من رق الحقيقة وتغلب على العقول وأفسد النفوس، وصار له السلطان المستبد على الأفكار والقلوب، وأزرى بالحياة الأدبية والكرامة والحرية، وتعمد الناس كسبه من كل سبيل كيفما سولت لهم أنفسهم وفتقت لهم الحيلة، وإذا ما ظن الأغنياء أنه واسطة للحصول على ما لا يجوز نيله من حقوق الناس، أو أعراضهم أو كرامتهم، حق للعقلاء أن يتمردوا على هذا السلطان المستبد والمعتقد الباطل، وأن يحاربوا هذا المبدأ الفاسد ليستأصلوه من العقول السخيفة والنفوس الموبوءة؛ لتحل مكانه الحقيقة الصالحة للاجتماع، فيتلطف الشر الفاشي ويقل شقاء العالم.
وإذا كانت قيمة الأشياء تقدر بما لها من الضرورة والحاجة الماسة، حق لنا أن نذكر الناس بأن نعم الله الأكثر ضرورة للمخلوق الحي منحت بلا مقابل، وهي مشاع للجميع، فلا يجوز أن يكون لما لا قيمة له بجانب هذه الضروريات ذلك الشأن الهام والسلطان على كل العالم.
الاعتدال وحب الظهور
من أشهر الأمور الصبيانية التي امتاز بها أهل هذا العصر حب الشهرة والظهور، فلا يكاد الباحث يجد بين هذا الملأ من لم يتأصل فيه هذا الداء، وإن الناس ليخالون الهدو والسكون عارا لا يمحى فتراهم يتواثبون إلى الظهور والإعلان عن أنفسهم بما في وسعهم، وعلى قدر ما تفتق لهم الحيلة؛ ظنا منهم أن الرفعة وكل الشرف في الظهور، والحطة والهوان في الخفاء. بل ترى شأن من تجاوزتهم الشهرة شأن الضالين الذين لا يعرف لهم حيز ولا مقر، أو شأن الغرقى تحطمت بهم السفينة فألقتهم على صخر في وسط المحيط، فوقفوا على قمته يلوحون بثيابهم ويبلغون السماء بصراخهم؛ ليسمعهم سامع أو يشعر بوجودهم كائن حي.
وقد لا يقف حب الظهور عند حد الضوضاء والجلبة للإعلان عن النفس، بل يتعدى تلك الوسائل العادية إلى سواها مما يعد نقيصة وجريمة، فكأن نفس الشيطان تقمصت سائر الجسوم البشرية، فآذت الهيئة الاجتماعية بما تبتكره من الشرور والمفاسد.
والحقيقة المرة أن أغلب من ظهروا على مرسح الوجود، وطبقوا بشهرتهم جميع الآفاق، لم يصلوا إلى ذلك الأوج إلا من طريق الشر والرذيلة والخبث والتوحش. ولكن هذه النقائص التي تسقط أكرم الناس وتلطخ اسمه بأخبث أدران الشهرة السيئة تزول مسحتها مع الشهرة، فلا تراها العيون أو أن الناس يطبقون جفونهم؛ كيلا يبصروا هذه العيوب المذمومة، أو هم لا ينظرون إلى الإنسان إلا بالصفة التي يريد الظهور بها بينهم. والحال على عكس ذلك تماما مع كل من يسوء حظه ولا يفلح في نيل الشهرة، فإن الناقدين يجردونه ظلما من كل صفاته الحميدة، وينسبون إليه ما ليس فيه وما لم يكن من صفاته الحقيقية.
وليس الجنون حبا في الظهور خصيصا بذوي العقول السخيفة، أو برجال المال والدجالين والممثلين، وإنما هو جنون يصيب طوائف الإنسان بلا فارق ولا تمييز، وأشد ما تكون وطأته على رجال السياسة والأدب والعلم والدين، فإن هؤلاء الرجال الممتازين مع ما أوتوا من علم ومقدرة أكثر الخلائق تطلعا إلى الشهرة.
ومن المصاب أن رجل الخير الذي يعمل الطيبات يملأ الدنيا طبلا وزمرا حينما ينهض لعمل خيري؛ ليلفت إلى شخصه أنظار العالم ويستدر المديح والإطراء. وكم برزت العقول في استنباط الوسائل الشيطانية؛ للإعلان عن النفس والتغرير بالناس؟
لقد أعمى الغرور البصائر ووصل إلى حيث كانت الرزانة والتعقل، فهوش عليها وزعزعها حتى ضعفت مواهب الإدراك والتمييز؛ لكثرة التفنن في التغرير والتمويه، فلم يعد الإنسان يستطيع تقدير الأشياء قدرها الحقيقي؛ لما يحوطها من الوسائل المختلفة لإخفاء معالمها وإظهارها في أرقى من حقيقتها. وإذا كان العقل لا يهتدي إلى الحقائق في وسط الضوضاء فمن البديهي ضلاله وتخبطه بين كل هذه الظواهر الخداعة، حتى زهقت النفوس وضاقت الصدور تألما من الغرور السائد والضلال العام.
من يسأم العيش وسط الجموع، ويضره العشير الثائر ويؤذي مسامعه تنافر الأصوات يترك ذلك المكان، ويفزع إلى ناحية من الأرض الفسيحة؛ ليجتلي منظر الطبيعة الجميل ويعجب بمجرى الماء المتدفق بين المزارع بلا جلبة ولا حس، اللهم إلا إن كان له خرير يشجي ولا يسأم. وليس يسع الإنسان إلا الابتهاج بمشاهد الغابات وهدوها الشامل، فيرتاح إلى الوحدة وتنقشع عن عينيه السحب الخداعة، فيرى بهاء الكون وجمال الحياة بين هذه النعم التي خلقها الله للمرء، فعافها كفرا بالنعمة وتطلعا إلى ما يشقي ولا يسعد فكان كفورا غشوما.
إن العزلة والبعد عن المجتمع الفاسد المضلل خير من الحياة المتعبة وسط الجموع التي ترى الراحة في الخداع والغش؛ ابتغاء المنفعة الشخصية والرقي، ولو فوق أكتاف الناس ورءوسهم. ما أشهى الحياة بين مناظر الطبيعة الجميلة وبين الحيوانات الهائمة على وجهها؛ فإنها أكثر إيناسا من الإنسان الخبيث، وأقل أذى وضرا من هذا الوحش المتحضر!
إن من يرتطم في المدن ويحشر بين الزمر والجموع يشقي نفسه وينسى الخالق؛ لأنه لا يذكره، ولا يتمكن من رؤية السماء التي تظله، ما دام لاهيا بما أمام عينيه من مشاهدة تلك الصحيفة الصافية، وعما فيها من الكواكب المتلألئة والنجوم الزاهرة المتألقة، فإذا خرج من تلك الدائرة إلى حيث تقل شرور الإنسان عاوده العقل والشعور، وشاهد جلال الخالق في جلال صنعه وشعر بسرور النفس وارتياحها إلى الوحدة والابتعاد عن ذلك الوسط الموبوء.
اخرج إلى الفضاء غير المحدود، حيث تخشع النفس هيبة وإجلالا، وانظر إلى الأفق المترامي الأطراف، وهو يشير إلى أبواب الأبدية تعرف حقارة الإنسان المختال، وانظر إلى الأزهار العطرة في المرج الزاهر، وألوانها الزاهية وأشكالها البديعة تعرف قصور المخلوق عن مجاراة الخالق المبدع، وتشعر بضعف ذلك المكابر المعتد بنفسه.
إن الصانع القدير يعمل بلا جلبة ولا يتكلف أقل عناء لإظهار مقدرته على الإجادة والإبداع، ويترك الناس تبحث عنه وتنقب عن إجادته وإبداعه، فلا تخدعن العاقل المظاهر والظواهر. وليعلم أن كثرة الإعلان دليل على حقارة المعلن عنه، فإن التجارب العديدة أثبتت صحة هذا القول، وما على الإنسان غير الاختيار والتجربة ليخرج الشك من صدره ويقف على الحقيقة الكاملة.
في الهيئة الاجتماعية كثيرون من رجال الخير يعملون من وراء ستار، ويضمرون - في أنفسهم - آراءهم ومشاريعهم الخيرية ويكتمونها؛ لأن القلب الطيب الذي يتصباه حب الإحسان والعمل الصالح يرى سروره في الكتمان، والاحتفاظ على الخلة الحميدة، كأنه يخشى أن تؤثر فيها الإذاعة تأثيرا سيئا، ويرى اغتباطه بالكتمان أكثر من شغفه بالعمل نفسه، فلا يقف على ما يجول بخاطره إلا الله. وكلما حرص على هذا المبدأ افتتن به، وتجددت قواه للدأب والمثابرة، فإذا أهمله وانخدع مأخوذا بالمجد الباطل، والظهور الكاذب زالت هذه الخاصية، ومات في قلبه السرور الذي ألفه واعتاده، وقلت قيمة عمله حتى في عينيه. إن الظهور يكلف الإنسان عناء وجهدا، ويأخذ ثمنه الباهظ من قدر العمل، وقدر الإنسان في نظر نفسه، وينتج من ذلك أن تكون قيمته الحقيقية أقل بكثير مما يلوح للناس ويذاع عنه. أما من لا يريد بعمله غير القيام بالواجب وإرضاء الله والضمير فإنه ينال أجره كاملا ثوابا من الخالق، وسرورا نفسيا لا يعرف لذته غير من ألفوه وشعروا به، فإذا ما أرادوا أن يعربوا عنه قلت قيمته وزال عبيره.
إن عشاق الطبيعة ينأون إلى حيث لا يكدر صفوهم طارق ولا طارئ، وينفردون ويعتزلون، حيث لا تزعجهم الناس والخلائق، فيقضون شطرا من الحياة في التمتع بمرأى جلالها وبهائها، حتى لينسيهم الحياة مرأى الطائر في خلوته يبني عشه أو يطعم فراخه، وهو في بيته الحقير على فرع الشجرة في عيش رغد لم يعرفه أسعد الناس حظا وأهنؤهم عيشا.
وهل يمكن للإنسان أن يقدر سروره بمشاهدة قطيع من النعام أو الظباء يمرح ويلعب في فضاء من الأرض مستسلما للسرور واللعب؛ غير حافل بالكون ومشاغله الجمة؟ وهل في وسعه أن يوقف الناس على مقدار هذا الشعور، أو يريهم هذا المنظر بدون أن يعكر على الحيوان صفو هنائه، ويجعله ينفر طريدا في الفلوات مجفلا من منظر الإنسان المتطفل؟ فكذلك حال الإنسان في عمل الخير، فإن سروره به يزول عند الإذاعة، ولا يعرف عنه إلا ما عرف النازحون لرؤية قطيع الظباء.
فالحكيم من يتوخى فعل الخير ويفعله هادئا؛ ليكون له من عمله لذة المعجب بالطبيعة في خلوته، وليكون عمله مجردا من الغاية وهو مقتنع بأنه إنما يعمل غير طامع في الجزاء والشكر.
رب واهم يظن ذلك محاولا أو يتصور العالم خلوا من أفراد لهم هذه الميزة الحسنة، والحقيقة أن الوجود عامر بكثير من أولئك الأفاضل الأجلاء، ولو شاء أحد أن ينقب عنهم ويدل الجمهور عليهم لأساء إليهم في أعز أمانيهم؛ وهي عمل الخير في الخفاء والابتعاد عن الشهرة.
والمحب للإنسانية العامل لإسعادها يتمنى أن يكثر عددهم وتشتد عزائمهم، وأن يحذو الناس حذوهم في الرغبة في المساعدة والإصلاح، بلا إعلان عن النفس، ولا اعتداد بالشهرة؛ لأنها - في أغلب الأحايين - تكون وهمية لا وجود لأسبابها، فلو كان كل براق ذهبا لما كان لهذا المعدن النفيس قيمة تذكر؛ لكثرة المعادن ذات الطلاء الذهبي.
إن من يعتد بالشهرة يخدع نفسه؛ لأنه يخدع الناس أولا، ثم يغتر بذاته فيضل عن معرفة حقيقة شخصه، ولا يعود يهتم إلا بما له من شهرة وذكر، فتنحصر حياته ومجهوداته في الظهور وخلق أسبابه، وفي هذا ما يكفي لصرفه عما يفيده أخلاقيا وأدبيا، ولحبس أنظاره في مجهر أسود.
يظهر الممثل على المرسح في لباس الملوك وجلالهم، فهل له حقيقة قدر الملوك؟ وهل يقدر على الظهور في الشوارع، وبين الجماهير - بتلك الملابس المطرزة الموشاة - بدون أن يناله من الهزء والسخرية ما يرده إلى التعقل والندم؟ إن عاشق الشهرة لأقرب الخلائق شبها بقياصرة المراسح، فإذا ما دخل خلوته وخرج من ثيابه كان شأنه شأن ذلك القيصر الكاذب إذا ما خرج من المرسح ودخل غرفة الزينة، حيث ينزع لحيته ويطرح رداءه الموشى؛ ليعود إلى حاله الحقيقية وشكله المعهود.
قارن إذن بين ذلك الرجل المخادع إذا ما خلا بنفسه، وتجرد من مظاهرها واستلقى على سرير راحته، وبين فاعل الخير إذا ما اضطجع ليرقد؛ فليس من الصعب إدراك ما يتردد على أفكار الرجلين، أو تصور ما يشعر به قلباهما، ولا من العسير معرفة أيهما أكثر سرورا من نفسه ورضاء من حاله واطمئنانا إلى الحياة.
ليس السرور الحقيقي في الابتسامات المطبوعة على الشفاه، وإنما هو شعور داخلي يرقص له القلب ويفرح به الفؤاد فينشط الروح ويشرح الصدر. وإذا شبهنا الناس بالصناديق نرى هذه سواء في الشكل الظاهر، ولكن قيمتها فيما تحتوي عليه من النفائس. وليس من يقول بتماثل المملوء هواء والمملوء درا، فتقدير الرجال إنما هو بالأعمال لا بالجسوم. فمن شاء ألا يكون شبيها بالمعدن البراق الكاذب، أو بقيصر المراسح، أو بالصندوق الفارغ، فعليه أن يدرج في سبيل الرجال العاملين لنفع المجتمع الإنساني مجردا من الغاية، غير حافل بالظهور والشهرة والإعلان عن نفسه وعمله، وليكن إجلاله لفاعل الخير المجهول عظيما، واعترافه بفضله عن صدق وإخلاص، وليذكر دائما أنه لولا الأحجار المخبأة تحت الجدران لما عمرت الأبنية طويلا ولا عاشت دهرا.
فالخير المجهول والمعاونة المستورة والإصلاح السري، هي من أقوى أسس تقدم الهيئة الاجتماعية، وتخفيف متاعبها وتلطيف همومها.
ولو كفت تلك الأيدي الكريمة عن العمل المستور، واقتصرت الحال على عمل من يتظاهرون بالمساعدة ونصرة الإنسانية لمجرد الشهرة بذلك لعرف الناس قدر أولئك المتنكرين، وللمسوا فضلهم ولم يعودوا يغترون بترهات الخداعين المضللين عباد الشهرة والظهور.
الحياة العائلية والاعتدال
ورث أحد الأعيان عن أبيه مالا طائلا، وعائلة سعيدة، وخصالا حميدة وذكرا جميلا، فقضى حياته فاضلا كاملا بغير أن يذاع عنه ما يثلم سمعته، أو يحط من منزلته في نظر العقلاء. غير أن أحد الأمراء الحاكمين جاء - لسوء حظ ذلك الوجيه - فابتاع ضياعا إلى جواره، وشاد قصرا على مقربة منه، فلاح للرجل أن يضيف الأمير؛ لينال حظوة في عينيه، ويفخر بذلك الشرف على أقرانه وأبناء بلاده. ولما كانت الدار التي ورثها عن أجداده على طراز المباني البسيطة، الخالية من الزخرف والطلاء رآها غير لائقة بمقدم ضيفه الكريم، فسلط عليها معاول الهادمين، وشيد على أنقاضها قصرا فخيم البناء رحب الفناء، ثم شمر عن ساعده وفتح خزائنه الضخمة، فحول ما فيها إلى تجار الرياش والذرابي النفيسة، فأعاضوه من ذهبه الوهاج ما لا يثمر إلا الاحتفاظ عليه بالعناية والبذل حتى يذهب الزمان بجدته. وما برح يجمع من الطرف حتى نفد ماله أو كاد. ثم لبث ينتظر حلول الأمير حتى حلت به الكوارث، ونزل عليه الفقر قبل أن ترى داره وجه الضيف المنتظر، فما أغناه قصره ولا سترت الرياش عوزه، ولا أخفت السجف عن أعين الناقدين الشامتين فاقته.
إن مثل هذا الجنون ليصيب كثيرا من الناس على صور مختلفة، فيضحون راحتهم العائلية في سبيل التمتع لحظة بما لا يفيد وجوده ولا يضر عدمه. وإن هذا الخطر الداهم ليصيب الكثيرين على مرأى الناس، ولكنهم لا يقلعون عن الشطط، ولا تعظهم مصائب الأيام حتى يصيبهم المحذور، فيعضون البنان أسفا حين لا ينفع الأسف. وما أشبه ذلك النفر بالأعمى الذي لا يستمع إرشاد الناصحين حتى يقع في الحفرة، فيستنجد من هزأ بنصحهم!
كم من الأموال الطائلة بذلت في سبيل الترف وإمتاع النفس بما هي في غنى عنه، وليس من مقتضيات العيش والهناء؟ وكم من الثروات ضاعت في إعداد معدات السرور والنعيم، قبل أن يحصل المبدد المسرف على ما أراد؟ إن من الجهل المطبق الشذوذ عن العادات الحسنة، والتطرف في طلب السعادة من غير طريقها، وبذل الراحة والمتاع؛ للحصول على ما عاش الإنسان دهورا قبل ابتداعه وبدون حاجة إليه.
إن السعادة العائلية لتقتضي الاعتدال والحكمة، فإن كل ما يهوش على الحياة العائلية يضر ويؤثر على الهيئة الاجتماعية، ولكي يحفظ كيان الأمة من التزعزع والوهن، يجب أن تخرج العائلات لرئاستها وتدبيرها أفرادا لهم من التربية والاعتدال ما يكفل توفير السعادة لعائلاتهم، والعمل لما فيه رقيها وراحتها، فمن المعقول أن رقي العائلات يساعد على رقي الجماعة، ويؤثر في الإصلاح العام تأثيرا فعليا، وإلا فإن ضعفت الرءوس ضعفت العائلات وارتج معها أساس الإصلاح، فتصبح الأمة كقطيع من الأنعام فقد الراعي وضل الحارس.
من المحال أن تتكون قوة الأمة، ويتم إصلاحها بغير إصلاح الأفراد والعائلات. ومن شاء أن يرى كيف تزول العادات القومية، وينضب نبع الحمية الوطنية، ويسود الجهل على الشعوب، فليدرب العائلات على التهاون في شئونها الخاصة، وعلى ترك العناية بتربية أفرادها التربية الصحيحة، فإنه لا يمضي ردح من الزمن حتى تتراجع الأمة إلى أحط منازل الحياة وأسفل دركات الوجود.
من الصالح العام أن تكون كل دار هيئة منتظمة، يرفع فيها عماد الاحترام، ويتبادل أفرادها الحب الخالص، كما يكون ذلك متبادلا بين العائلات، فيتكون المجموع من أجزاء منتظمة صالحة قوية، فيظهر صالحا قويا منتظم الحركة في التقدم والرقي، وتتكون الوحدة المنتظمة التي تنشدها الأمم ويتمناها كل وطني صميم.
إن بعضا من العائلات تتحصن بانزوائها بين الجدران، وتبعد عن الجماعات إلا فيما يتعلق بشئونها الخاصة، غير حافلة بما لا يكون خصيصا بها، فهذه العائلات حجر عثرة في سبيل الوحدة القومية المقصودة والرقي المنشود، وليس من المبالغة أن يقال: إنها دخيلة أيضا تختلس ما للأمة، وتهضم حقوق الاجتماع. ولا بد وأن تؤدي هذه الأنانية يوما ما إلى بذر بذور الشحناء، والبغضاء بينها وبين سواها، وتكون قرحة دامية في جسم الأمة والوطن، فحقيق بكل إنسان أن يستأصلها؛ ليطهر المجموع من مضارها التي هي ضرر النوع الإنساني وعدو المدنية والاجتماع. ولا يفوت العقل أن هنالك فرقا واضحا بين أمثال هذه العائلات وبين الأحزاب المتنافرة؛ لأن الحزب مجموع يرتئي رأيا يقتنع بوجاهته، فيعمل لتعزيزه ونشر مبادئه ابتغاء المصلحة العامة، ولو كان ذلك على غير رأي خصومه والخارجين عليه.
إن الأحزاب تعمل للصالح العام كل على قدر ما يرتأى، ولكن العائلات المعتزلة لا تهتم بغير مصالحها الشخصية، فتكون حملا على المجتمع وضررا عاما بين الناس.
العائلة هي الأساس الوحيد لتقدم الأمم ورقيها، فيجب أن تكون العناية بها شديدة؛ لأنها واسطة لنشر الفضائل والأخلاق القومية، وفيهما ينشأ الأفراد على المبادئ الشريفة أو السافلة، وعلى قدر حضارتها ورقيها يكون رقي الأمة بالنسبة للأمم الراقية والشعوب المتحضرة، واحتفاظها بمجدها السابق ووطنيتها المقدسة. ويظهر ذلك جليا في كل شيء؛ يظهر في الأفكار والأعمال، وفي الأقوال وفي مكنونات الصدور، وفي العواطف وفي كل المظاهر، حتى ليظهر ذلك في المصنوعات كالأثاث والرياش والملابس والأغاني والأناشيد.
إن هذا كله ليس بالشيء الخطير في نظر الغبي، ولكنه ذخيرة ثمينة وتميمة مقدسة في نظر الحكماء، ومن يعرف قيمة الحياة العائلية والوحدة القومية. •••
إن البدع من الأسف أخذت تقوض دعائم العائلات، وتلاشي أسباب السعادة والهناء بكل الوسائل الفعالة، كالخصال الغريبة، والعادات المستحدثة، والمطالب المختلفة، والترف والتبذير. وبهذه الأسلحة القتالة تمكنت البدع من إفساد نظام العائلة والعبث براحتها وهدوها المألوفين، فأضرت بها ضررا عظيما يشكوه كل فرد على حدته، ويتألم منه المجموع على الإطلاق.
عجيب أن يتخلق الناس بهذه الأخلاق الموضوعة على سبيل التقليد والمجاراة، بدون أن ينظروا إلى النتيجة، أو يفحصوا ما يكون للبدعة الجديدة من حسنات أو سيئات، فكأن حالهم معها حال الأمة المحتلة مع القاهر المستبد، تسخر الأبناء لطاعته، ويهمل العمل والصالح الشخصي، ويضحي كل عزيز ونفيس لمرضاته. وأنى له أن يرضى وقد جاء لهذا الغرض، ومصلحته في تخريب العامر وتدمير القائم، حتى لا ترتفع رأس عن مواطئ نعليه، ولا يفاخر سيد بخيله وعدده؟ فالعاقل من لا يكلف نفسه إلا وسعها، فيبقي على ما ملكت يداه، ويحتفظ به مهما اختلفت الظروف وتبدلت الأحوال والأزمان.
إن البدع لتتسرب إلى العائلات تحت زي المدنية ومقتضيات الضرورة، فتراها تصل إلى النفوس، فتتأصل فيها ويتبدل كل خلق كريم وذوق سليم، فتتبدل الأشخاص والأثاث والعادات، وما أكثر ما تروج في فرص الأعراس والمآتم! حيث تنشأ العائلة تتقزز من كل قديم ألفته، وتسخر مما كان للسلف عادة جارية، وهنا يبدأ الخطر وتظهر أوليات المصاب.
وإن المرء ليستهين أولا بالأمر فيبدل الأثاث، ثم لا يلبث أن يبدل تدريجا ما كان محتفظا به من التقاليد القديمة، والخلال التي شب عليها وتلقاها عن الأقدمين، ثم يتبعها بالفضائل وسائر الصفات الحميدة، فيخلق خلقا جديدا على ما شاءت أهواؤه، وسولت نفسه الخبيثة، ونفدت فيه إرادته الضعيفة. وما هي إلا فترة وتنزل العائلة نفسها بين وسط جديد، وتأخذ بأسباب عيش لم تعهده، فيحدث الانقلاب التام، وتتلاشى العادات القومية، وتنتشر المدنية الموهومة مراعاة للذوق الجاري ومقتضيات العصر الجديد. وقد تعرو الإنسان دهشة إذا صورت له حالته تصويرا دقيقا، ولا يكاد يصدق أن الإنسان الأول هو بعينه التمثال الجديد.
ولو وقف الحد عند تلك الحال لهان الخطب، ولكن الداء المتأصل تكثر ميكروباته مع الأيام، فيبتدئ الألم ويشتد الضجر حتى تزهق النفس، وقد يعود للعين بصرها وللرأس فكره، ولكن يوم لا ينفع البصر والفكر يوم يستعصي الشقاء، ويستحيل الخلاص من براثن المرض الفتاك.
إن البدع لأشد فتكا بالأمم والشعوب من الأوباء بالعباد، وإن الشكوى من الأدواء المنتشرة، ومن تأثير المدنية الحديثة في الفضائل والأخلاق لأعم من الشكوى من الفقر، وضيق ذات اليد، ونكد العيش وخيانة الأصدقاء، وكم من بدعة ظهرت مليحة حتى إذا انتشرت بان ضررها البليغ، فعلت الشكوى وارتفع الصراخ من هول النتائج؟
وإن الحكيم ليعوذ من البدعة والمبتدع، ومن كل مرادفات هذه الكلمة وما يشتق منها، وخير للمرء أن يتدبر قبل أن يتورط، ويتئد قبل أن يشتط، وأن يحذر ويحرص على مبادئه وعاداته القويمة، وأن تكون له إرادة قوية تشد عزمه ورأيه؛ للذود عن تلك الخصال الحميدة ، والطبائع الممدوحة التي توارثناها أبا عن جد، فإن الفضائل خلقت مع الإنسان، ولم يعبث بها غير مرور الزمن وتقلبات المطامع. نعم، إن لكل جديد طلاوة، إلا أنه في غير نفاسة القديم الجيد، فليتق الله المبتدعون، وليحرص على كرامتهم العائلون. •••
إن الكثيرين من الشبان لا يتبعون عند زواجهم العادات القويمة المألوفة، وينزعون إلى العادات المبتدعة جريا وراء التمدن الكاذب، فبدلا من أن يقتدوا بآبائهم في حياتهم ومعيشتهم الاقتصادية يندفعون مع تيار الغرور والتقليد، فيبذرون ذات اليمين وذات اليسار، ويتطرفون في الأفكار العقيمة والأقوال السخيفة والأعمال الصبيانية، فيفرغ المتزوج ما في وسعه ليبتاع فرش الدار وأثاثها على آخر طرز مبتدع، نافرا من كل مألوف شب عليه واعتاد مشاهدته ولمسه في داره، وعذره في ذلك أنه ابن العصر الجديد الذي هو خليق بزخرف المدنية الحاضرة. على أن ذلك يمحو من ذاكرته كل أثر للماضي ويذكره دائما بما يراه في الأندية والمجتمعات والمراقص العمومية، يذكره بالشطط والنزق فيطير إلى حيث يكرع كأس المدنية حتى ثمالتها، ولا يعود إلى داره إلا متعبا منهوكا، فيسلم جسمه إلى الرقاد ويقهره سلطان النعاس، فلا يفتح عينيه حتى يذكر موعدا يوشك أن يفوت ميقاته، وما هي إلا أن يهب إلى ملابسه هبوب الخاطف إلى لقطته، ويطير إلى حيث يودع الفضيلة والراحة والسعادة.
عجيب ألا يقدر الإنسان على البقاء لحظة في داره بين ما جمع من أثاث العصر الجديد ورياشه البديعة! إنها بلا روح ولا ذكرى فهي لا تؤثر على النفس والروح، إن ولع الناس بطول الغيبة عن منازلهم وعائلاتهم لشديد، كأنما هم يخافون قرب انقضاء العالم، فيبادرون إلى إشباع النفس بملاذ الحياة والتردد على جميع الأمكنة، وهم في ذلك أشبه شيء بتلك الخيالات السينماتوغرافية إذا ظهرت في ناحية لا تلبث أن تغادرها بسرعة، وإن هذه الجماعة لا يطيقون البقاء بين ذويهم، بل يفضلون الكدر خارج منازلهم على السرور والسعادة في دورهم وقصورهم. فهل هكذا كان شأن السالفين أم كانوا يقيمون على أرائكهم وبين أهليهم ما خلوا من أعمالهم، ولهم من السكينة مظهر جليل، ولمرآهم وقار وهيبة يشعر بها القريب والبعيد؟ كانوا إذا تزاوروا فللسمر وتبادل الود وتوثيق روابط الألفة والإخاء.
إلا أنه لو بعث امرئ من قبره ورأى حياة اليوم وأبناء هذا العصر، لظن المجانين قد فروا من مستشفيات المجاذيب وجعلوا يعبثون بالراحة ويقلبون نظام العالم. إن الفساد عم كل الطبقات ولم تخل منه الضياع والقرى، وحذا الناس حذو بعضهم في هذه الطريق المحفوفة بالمكاره، حتى أصبح من المدنية ودلائل الرقي هجر الدور لتعمير الحانات والمواخير.
وليس الفقر ونكد العيش الذي يشكو منه العالم بكاف للدلالة على سوء الحالة التي وصل إليها أبناء العصر الحاضر. ولو تساءلت عن السبب الذي يدعو القروي إلى هجر داره، وقضاء أغلب أوقاته في حانة القرية، مع أن الدار هي بذاتها التي نشأ فيها وألف أركانها وقاعاتها ودرج منها أبوه وجده لم تتبدل ولم تتغير، ولو تساءلت عن السبب الذي جعله يتأفف من المجتمعات العادية في ضوء القمر في عرصات الدور، حيث كان يغني مع رفاقه ويضحك بملء فيه لكان الجواب على ذلك: إنه أخذ من الحضارة والمدنية بقسط عظيم.
اللهم إن كانت المدنية هي هذا الفساد الذي يخرب الدور ويفرط عقد العائلات، ويزج بالرجال في مواخير الفجور وحانات الخمور، ويفسد العقول والنفوس ويميت الضمائر، ويطرد السرور من القلوب ويقتلع السعادة من البيوت الآهلة؛ فإنها لبئس المدنية وخير منها البداوة والهمجية.
المدنية الصحيحة بعيدة عن مثل هذه النقائص بعد الخير عن الشر، وما هذه إلا إفراط لإرضاء شهوة النفس وتقليد نشأ عن ضعف الإرادة، والتورط في المضار بغير تفكير ولا تدبير، وعن إهمال الواجبات العائلية والابتذال في سبيل الملاذ المضرة بالصحة والسمعة، وترك الاعتدال في العيش والسرور.
ولا يقوم هذا الاعوجاج غير الرجوع إلى العادات القديمة الحسنة، واحتقار هذه المضار المتفشية احتقارا ينفر منها النفس ويردعها عن الغي؛ عساها ترعوي وتنشط للتطهر من أدران تلك الحياة المرتبكة. إن من عادات الأقدمين في اللهو والسرور ما يشرح الصدور، ويبعث في القلوب الفرح والابتهاج، فلو تعمد تلك الوسائل نفر من الشاردين، وقارن بين الأغاني القديمة المهذبة وبين ما يتغنى به اليوم دعاة الفجر والفساد، لتهييج العواطف وسحر العقول، لعرف الفرق بين الفضيلة والرذيلة والميزة بين العفاف والدعارة.
زينة المرء الخلق، فالأخلاق حلية الرجال ودليل التكمل، وكل فرد سفلت أخلاقه سقط في نظر الناس، والأمة مجموع الأفراد فمتى انسرح أفرادها من الأخلاق الفاضلة تجردت الأمة من دلائل الكمال، وخلا مكانها بين مصاف الشعوب الراقية. فالحكمة في الاحتفاظ بالأخلاق والعادات القومية احتفاظ العارفين بالآثار النفيسة، فإنها عنوان الكمال والدليل المحس على الرقي والتحضر.
وقد يلاحظ أن هذا محال على كثيرين؛ لوفرة جهلهم كل ما يختص بالحياة العائلية والأخلاق الفاضلة. والحقيقة أن المحال أو العسير إنما هو وجود روح الاعتدال التي تحبب الحياة العائلية إلى الإنسان، فإذا ما وجدت سهل غيرها من وسائل السعادة على المرء؛ لأنه يستطيع أن يقلد الحسن كما استطاع أن يقلد غيره من المفاسد والمضار.
إن الحياة العائلية لا تحتاج أفرادا عديدين، أو دارا مشيدة، أو سعة ليست في استطاعة العائل؛ فالرجل يستطيع أن يهنأ في كوخه، وينعم مع زوجته، ويجعل السعادة ترفرف على خصهما الحقير متى عرف كيف يعيش ويبعد عن مزالق الحياة الفاسدة ويقمع شهوة النفس الخبيثة.
إنك لتدخل دارا فلا تتجاوز سدتها حتى ينقبض صدرك، وتحس بالرطوبة تتمشى في كل مفاصلك، وتشعر بقشعريرة في كل جسمك. وتدخل دارا أخرى فلا تكاد تتجاوز بابها حتى ينشرح صدرك، وتشعر بالانشراح والسرور الداخلي بلا سبب ظاهر، ما هذا إلا لأن للقاطنين تأثيرا في الأماكن، فتظهر عليها مسحة مما على ذوي الدار وأربابها.
إن المرء لينتقل من دار إلى أخرى، فيحن إلى القديمة ويمر بجدرانها فتذكره بكثير من حوادث الماضي والأوقات الهنية. وإنه ليتعلق بريحانة يغرسها على حافة النافذة ويتعهدها بالسقيا، وإنه ليحتفظ بأثر من الآثار وقد لا يساوي شيئا، وهو يجد في تلك الأشياء سلوة وعزاء وتذكارات لذيذة، تعيد إلى القلب شيئا من السرور أو السعادة الماضية، فهل يشعر أبناء هذا العصر بشيء من هذا الشعور؟ إن التحول الدائم والتغيير المستمر في الأماكن وشكلها ورياشها، وفي الأخلاق والأذواق والعادات، يترك الناس على غير هدى ومبدأ ثابت. •••
ألا إن دار العائلة هي الموئل الذي يجد فيه المرء الراحة عند التعب، والحب الطاهر إن عرف كيف يغرسه ويواليه حتى ينمو ويترعرع، فيقطف من ثمره الناضج وزهره العطر. وهي المكان الذي يجد فيه العزاء إن أصيب بمكروه، والعناية إن مرض والراحة إن شاخ وهرم، وفيها وبها يخدم الوطن ويخرج له أبناء صالحين يعملون لصالح البلاد ونفعها.
الكبر والاعتدال
ربما تعب الباحث دون أن يجد موضوعا غير الكبر يثبت به أن العقبات التي توجد في طريق الرقي الاجتماعي يخلقها الإنسان لا الظروف.
ولو كانت المصالح المتباينة والمراكز المتفاوتة هي وحدها سبب الخصومات، ومنشأ الشجار والعراك، لكان السلام سائدا بين المتكافئين في الطبقات والمراكز، وذوي المصالح المتماثلة، والحظوظ المتشابهة، ولزال من بينهم كل اختلاف. والحال أن أشد العداوات ما كانت بين المتناظرين المتساويين في الجاه والمراكز والثروة والمهنة، وبين الأنداد والرفاق. ولو أنصف الناس لاعترفوا بأن سبب الخصام والعداء إنما هو في الحقيقة الغطرسة والكبر؛ فهما يجعلان الرجل كالقنفذ ما مس غيره إلا وآلمه وآذاه.
الناس لا يغيظهم من الغني الوجيه وجاهته وغناه، ولا كثرة خدمه وحشمه، ولا فضته وذهبه، ولا زينته وظهوره، بل يغيظهم الاحتقار الذي يتعمده والتعالي الذي يظهر به. وما يسؤهم إن كثر مال زيد أو قل، ولا يضرهم إن تبرج وتزين، ولا يقهرهم إن استكثر من الخدم والأعوان؛ لأن كل هذا خاص به وليس فيه أذى للناس، ولكن يؤلمهم أن يجرح الرجل عواطفهم بتعاليه واحتقاره شأنهم وشموخه عليهم، حتى ليفترض عدم وجودهم وتجردهم من مميزات الإنسان، لا لسبب غير إكثاره وإقلالهم وغناه وفقرهم، إنه بذلك ليؤلمهم بلا فائدة يجنيها. وإن النفس العالية لهي التي تثور في وجه ذلك الشامخ الوقح، وليست هذه الثورة عن حسد، ولكنها إحساس العاطفة المجروحة التي تنزع إلى الثأر وتأديب المعتدي، وإلا فلا كرامة للنفس ولا قيمة، وكل امرئ خالط الناس وعرف واجبات نفسه وما عليها يعترف بصحة هذا القول، ولا يكابر أو ينكر التأفف والاستياء العام من كل متكبر مختال.
إن هذا الداء كثير الشيوع والانتشار حتى ليكون قدر الكبر على قدر الثروة أو يزيد، والوداعة على قدر الفقر والعوز فالغني يحتقر من دونه وشأنه مع الأكثر مالا وجاها شأن المقل في نظره؛ ولهذا هام الناس بالتطلع إلى ما فوق آفاقهم والوقوف في غير مصافهم، فنشأ عن ذلك التزاحم والعراك، ووجدت الخصومات في القلوب أبوابا مفتحة وأرضا ممهدة، فغرست فيها بذور المنافسة والشقاق، وليس الفقر هو السبب الرئيسي وإنما الكبر والصلف.
من الأغنياء كثيرون لم يصبهم هذا الداء الوبيل، وجل هذا الفريق ممن ورثوا الجاه والثروة أبا عن جد، فعلى قدر أنسابهم علت نفوسهم وطابت قلوبهم. ولكن أولئك أيضا يجهلون أن ظهورهم بالبذخ والإسراف والفخفخة يخلق الحسد في قلوب ذوي الفاقة، ومن لم تحصل أيديهم على فتات الموائد وثمالات الكئوس ومطرح الثياب الخلقة.
أليس من الذوق السليم اجتناب القوي الممتع بالصحة والعافية، ذكر ما يتمتع به من راحة وهناء في نومه ويقظته، وفي أكله وشربه أمام المريض الذي يدنو من ساعته الأخيرة ويهيأ له القبر؟ كثيرون من الأغنياء ينقصهم الذوق السليم والشفقة والحكمة؛ لأنهم بأعمالهم يثيرون على أنفسهم نفوس سواهم ويحركون عوامل الحسد، فهل يجوز لهم بعد ذلك أن يتأففوا من العواقب، أو يستاءوا من نتيجة المقدمات التي وضعوها بأنفسهم؟ إن ضعف التمييز هو الذي يجعل الأغنياء فخورين بما ملكوا، وينفث فيهم روح الاختيال والكبر.
من الخطأ الاعتقاد بأن الثروة من الصفات الشخصية التي ترفع أو تخفض قدر الإنسان، فقيمة الشيء في ذاته لا في الغلاف الذي يحتويه، والعاقل من لا يخلط بين ما يملكه وبين شخصه؛ لأن الفصل بين الاثنين سهل وممكن في كل الأوقات، والجوهر النفيس لا تقل قيمته أو تكثر بتغير ما يحفظ فيه، فالمتكبر مغرور ومخدوع، وكثيرا ما ينسى أن التملك عارض يزول، وأن الإنسان من أفراد الهيئة الاجتماعية كبر أو صغر، فيجب أن يكون كل ما يعمله موجها للصالح العام قبل أي غرض آخر.
ومن ضعف العقل تصور الغنى والثروة وسيلة للتمتع بما تشاء النفس وتجنح إليها ميولها، ولهذا نرى القليل من الخلق يعرف كيف يتربع عرش الغنى والجاه. فكم من الملوك تواتروا على عروش الأمم، ولكن النذر القليل منهم عرف كيف يحكم ويتربع العرش، وكما كان التاج شوكا في رءوس الكثيرين من الملوك، فكذلك نرى الثروة بين يدي الكثيرين من ذوي الغنى، كالقيثارة بين حافري الدابة لا يعرفون التمتع بها، كما لا يعرف الحيوان التوقيع على الآلة ليطرب.
والغني الذي يعرف أن الثروة ليست إلا وسيلة لتأدية واجباته الإنسانية، وقضاء حاجاته المعتدلة، وحاجات المجتمع الذي هو فيه هو رجل يجدر به التبجيل والاحترام؛ لأنه الإنسان الكامل. وهو عاقل لم يغتر بوسائل التغرير التي تلعب برءوس الكثيرين من أمثاله. وهو حكيم؛ لأنه لا يخلط بين قيمة ما في جيبه وبين ما في رأسه، ولأنه يقدر الناس بالصفات والأعمال لا بالجاه وكثرة الأموال. وإن هذا الرجل ليتضع بدلا من أن يشمخ؛ لأنه يعلم مقدار المسئولية التي عليه والواجبات التي يستدعيها مركزه الاجتماعي، فبدلا من أن يكون غليظا صلفا تراه وديعا لطيفا، وعوضا من أن يحتجزه الغنى عن بقية العالمين يتخذه واسطة للقرب من إخوانه، والأخذ بناصرهم متى كانوا في حاجة إلى ذلك. إن مثل هذا الرجل ليخفض من حقد الناس على الأغنياء الأغبياء الذين يثيرون على أنفسهم سخط الجمهور بما طبعوا عليه من العتو والكبر. وإن من يجتمع بمثل هذا الرجل لا يلبث أن يستصغر نفسه بجانبه، ويشعر بتفوقه عليه، وكثيرا ما يسائل نفسه عما إذا كان في استطاعته أن يعمل عمله، ويكون في وداعته ولطفه إن أتيح له أن يكون يوما ما في مركزه وجاهه.
إن الدعة والطيبة لا تنزعان الحسد من القلوب المنافسة فقط، بل تكونان واسطة أيضا لاستمالة قلوب الناس ومحبتهم، وما الذي يضر الأغنياء من حمل الغير على حبهم بدلا من إثارة البغضاء والعداء في نفوسهم؟ •••
أضر من الكبر الذي يسببه الغنى العتو الذي ينشأ عن السلطة، والمراد بالسلطة كل نفوذ يخوله المنصب سواء كان مقيدا أو بلا قيد. نعم، إنه من المحال أن يبقى العالم بلا نظام عام يفضي بمقاليد إدارته وتدبيره، وتنفيذ مقتضياته إلى أناس تتفاوت درجاتهم بتفاوت العمل المطلوب منهم. وإنما الخوف كل الخوف والخطر الداهم هما في جهل الموظفين استعمال هذا النفوذ فيما وضع له، وعلى قدر ما يسمح به النظام العام، بدون تعد على الحرية الشخصية، وبدون مس كرامة الناس بلا حق. الخوف كل الخوف من سوء استعمال السلطة وتشويه سمعتها عند الجمهور، فيقع الضرر على رءوس الحاكمين المستبدين. إن السلطة والنفوذ وإطلاق اليد بالحكم تحدث في عقل الموظف تأثيرا سيئا يختلف زيادة ونقصا باختلاف سعة العقل وضيقه، والحكيم الثابت من لا تفسد السلطة نفسه ولا تحوله عن جادة الحق.
الاستبداد في ذاته نوع من الجنون النوعي يتسلط على عقول الحاكمين، وهو مرض عام لم يخل زمان من أعراضه وظواهره. والظلم كمين في النفوس تظهره القوة ويخفيه الضعف. والظالم في الحقيقة أكبر عدو للسلطة، ومن أقوى أسباب الانقلاب عليها، وكل من يأمر وينهى ويسخر الناس لمجرد التلذذ بإخضاعهم لشخصه يسيء إلى نفسه قبل أن يسيء إلى الناس؛ لأن العبرة بالعواقب لا بالأوقات القليلة التي تتمتع فيها النفس بميولها الفاسدة.
وليس من ينكر أن في كل نفس شعورا داخليا ينفرها من الحكم المطلق والإذعان لغير النظام العام. والعقل يحكم بصحة هذا الشعور واحترامه؛ لأن الناس في الحقيقة متساوون وقد خلقوا أحرارا. فليس هنالك ما يحمل زيدا على الخضوع لبكر لمجرد أنه زيد وهو بكر؛ لأن استسلام الأول يذله ويحقره في عيني نفسه وفي عيون الناس، والرضاء بالهوان دلالة على صغار النفس وانحطاطها.
وليس من يدرك الضرر الذي ينجم عن الاستبداد والصلف، مثل من عاشوا في المدارس والمعامل والجيش وإدارات الحكومة، ورأوا من قرب أكثر العلائق التي بين الرؤساء والمرؤسين. إن الاستبداد مما يزهق النفوس الحرة ويحولها إلى نفوس مستعبدة، ولكنه ينفث فيها روح الثورة والفوضى. ويظهر أن هذه النتيجة الوخيمة التي لا تلتئم مع صوالح الهيئة الاجتماعية تكون أكثر خطرا وأشد تأثيرا على النفوس، كلما خرج المستبدون المرهقون من صفوف الشعب، وتناسوا منشأهم وأثقلوا ظهر الأمة بما استطاعوا من أنواع العتو والإرهاق.
والمشاهد أن الجندي في الجيش أشد صلفا وقسوة من الضابط، وهذا أقسى وأشد على مرءوسيه من القائد على الجميع. وقد ترى في المنازل والقصور أن السيدة التي لم تنل حظا وافيا من التعليم والتربية، أو التي ينتشلها زوجها من درك منحط تكون أكثر عتوا وقسوة على الخدام من بنات البيوتات وذوات التربية العالية. •••
من خطأ الحاكمين تجاهلهم أن الواجب الأول على ذي السلطة الدعة والخشوع؛ لأن الغلظة والصلف ليستا من السلطة في شيء، بل هما تدلان على الضعف وتنشأان من الحماقة. السلطة مستمدة من النظام والقوانين، فهي للقانون والنظام وليست للأشخاص، والقانون فوق المصالح الشخصية، وفوق الناس، وفوق الرغبات والأغراض. فمن أهم واجبات الموظفين الذين يمثلون القانون أن يحترموه ويخضعوا له ويسيروا على مقتضاه؛ ليكونوا قدوة صالحة لغيرهم. فإن الحكم والطاعة في ذاتهما توءمان لا يفضل أحدهما الآخر، والطاعة إن لم تكن اختيارية لشعور المرء بضرورتها طبقا للنظام العام فهي ليست بالطاعة. ولو تأمل الناقد في أسباب الفوضى والثورات، لعلم أن منشأها جهل الحاكمين بأغراض النظام، واستعمالهم السلطة والنفوذ في غير موضعهما.
وليس من يعرف سر الحكم وروح الطاعة غير المعتدلين الذين لا يرهقون العباد، فتراهم ودعاء عند الشدة تلطف كلماتهم وقر القسوة، ويخفف لينهم وطأة النظام على النافرين الجامحين، فينالون ما يتطلبه القانون والنظام، وينفذون ما شاءوا من غير حاجة إلى الاعتساف ووسائل القوة. ومن شاء أن يطلب إلى الناس عملا أو تضحية فعليه أن يبدأ هو بها قبل أن يطلبها من غيره. إن العين لترى كثيرا من القواد المستبدين فتحسبهم غزاة أشداء، وما هم إذا جاء وقت الحاجة إلا ضعاف لا حول لهم على من تحت إمرتهم؛ لنفور النفوس منهم، ولأن الجبن من صفات المستبدين. وكم من هزيمة أو اندحار نجم عن إبغاض الجنود القائد المستبد؟! وكم من القواد تراهم ودعاء حتى لتحسبهم من الجنس اللطيف؟! فإذا ما تأججت نار الوغى وحمي وطيس الحرب كانوا روحا تنشط النفوس وتشدد العزائم، فترى الجنود تحت إمرتهم يفتدونهم بالأرواح، ويعترضون سبيل الخطر غير حافلين بالحياة ولا فزعين من هول الموت. فمن شاء أن يطاع ويحترم فعليه بالاعتدال في الحكم؛ ليملك القلوب قبل إخضاع الرءوس، فإن من السهل على النفوس الخضوع مع الحب، وصعب بل ومحال ذلك عليها مع البغض والكراهية. •••
إن الرجل الذي ينفخ أوداجه الكبر وتعميه الخيلاء، حتى يقول: أنا هو القانون، هو الأحمق المتعجرف الذي يهيج روح الثورة والتمرد في الأفئدة والقلوب، ومثله وأشد منه خطرا من لا يريد أن يخضع لروح النظام، ولا يريد أن يعترف بوجود سلطة قاهرة يدين لها مع الاحترام.
في الناس كثير من هذا النوع الفاسد يهيجهم ويسوءهم النظام على وجه العموم، ويحتقرون كل رأي لسواهم وإن كان صوابا وكل انتقاد وإن كان على حقيقة، ويرون كل سلطة - وإن كانت شرعية ومن دواعي العدالة - تعديا على الحرية الشخصية. أولئك فوضى لا يعترفون بسلطة ما، ولا يخضعون لغير أفكارهم السخيفة وعقولهم القاصرة، ولا يرون من المصلحة العامة إلا ما كان منطبقا على أغراضهم ومصالحهم الشخصية، ولا أظن الحشرات المؤذية والأمراض الوبائية أشد خطرا على البلاد والعباد من هذا الفريق السقيم.
ويدخل في عداد المتكبرين كل مرءوس يشمخ بأنفه، ولا ترضيه معاملة رئيسه وإن حسنت، ويظن كل إشارة منه تحقيرا له، أو حاطة من كرامته جارحة عواطفه. فهؤلاء فريق لا يستطيع أكرم الناس وأوسعهم حلما إرضاءهم، وهم يؤدون أعمالهم بتذمر كأنما هم أرقاء مسخرون، ولا شك في أن منشأ روح الكبرياء التي تنفخ أوداج أولئك الحمقى هي الأنانية وحب الذات، فعسير عليهم أن يؤدوا عملهم تاما جيدا، وكثيرا ما يكونون سببا في المشاكل والتهويش على أعمال وحياة من يعملون بينهم؛ لسوء نياتهم وخبث نفوسهم.
ومن يعن بدرس طبائع الناس درسا دقيقا ير الكبر متفشيا منتشرا، وله مواطن عدة بين من اشتهروا بالتواضع. وقد تشتد وطأته على البعض حتى ليكون حاجزا بينهم وبين أقرب الناس إليهم، ويكون من المطامع واحتقار الغير حصنا منيعا لهم يصدهم عن الناس. والكبر - سواء أظهر أم بقي كامنا في النفس - من أردأ الصفات التي تجرد صاحبها من الإنسانية، وتمثله عدوا للجنس البشري على الإطلاق. والمتكبر - فقيرا كان أم غنيا - يقضي حياته معتلا محزونا منعزلا عن الناس، ويكون دائما سيئ الحظ لدرجة غير محدودة، ويسبب من المشاكل ما يشقيه ويتعب من يربطهم به العمل وسائر الروابط الاجتماعية.
ومن المؤكد أن معظم الكراهية والبغضاء التي تتولد بين الناس في سائر الطبقات تنشأ غالبا من هذا الداء الوبيل. نعم لا ينكر أن اختلاف المصالح وتناقض المنافع والمزاحمة على المراكز الحيوية والاجتماعية تسبب العداء بين الناس، وتجعل بينهم حوائل وموانع، ولكن الكبر يجعل هذه الحوائل سدودا عالية سميكة يقف المتكبر خلفها وجلا، يندب حظه ويتساءل مدهوشا عما إذا كانت قد انقطعت كل علاقة بينه وبين الناس. •••
كل من يكون على شيء من العلوم والمعارف ويضن على الجمهور بمعلوماته، هو ممن أخذ الكبر بخناقهم ووسمهم بميسمه الشائن؛ لأن رقي الهيئة الاجتماعية لا يتم إلا بنشر التعليم الصحيح، وعناية المتعلمين بأمر غيرهم، ومن لم يفعل فهو مقصر ملوم.
ومن عداد المتكبرين المعجبين بأنفسهم كل عاقل يحتقر من قضى عليه نكد الطالع بالجنوح عن السبيل السوي فارتكب وزرا أو أتى أمرا إدا. فمن لوازم الإنسانية الشفقة، وعدم الافتخار بفضائل النفس، والتساهل مع المسيئين، وقبول معذرة المخطئ، وكل فضيلة دالة أو مختالة تقل قيمتها الذاتية إن لم تتلاش وتزل.
ومن الخطأ الحط من قدر المواهب والكفاءة الشخصية بافتراضهما واسطة للظهور والكبر؛ لأن الفضل كله راجع إلى كليهما معا أو إلى أحدهما. واستعمال الثروة والجاه والسلطة وعواطف القلب والعلم والفكر لمجرد الزهو والكبر يقلل من فائدتها العامة، ويحولها إلى أسباب للشقاق والأذى؛ لأنها لا تثمر ولا تفيد إلا إذا حسن استعمالها، وكانت مقرونة بالتواضع والحكمة. •••
كل دين واجب وفاؤه، والشريف من يدفع ما عليه رغبة في أداء الحقوق ، لا رهبة من الوسائل القهرية. وعدم الوفاء يكون إما عن عسر وإما عن تقصير، أو عن رغبة في هضم الحقوق، ولكن الشرف في الاعتراف بالحق ووفائه بغير مكابرة، وكل ما يملكه الإنسان من متاع أو يحصل عليه من ثمرات العقول دين عليه للناس يؤدي لهم ثمنه. وليس في استطاعة الرجل أداء كل الواجبات المطلوبة منه، فهو في حكم المعسر وواجب عليه الغض من كبريائه؛ لأن المدين المعسر لا يرفع رأسه عتوا وخيلاء أمام الدائن الملح.
وخير لذي المنصب والنفوذ، ولمن في يده شيء من أمور العباد وتدبير النظام والإدارة أن يكون متواضعا لا غليظا فظا؛ لأن الواجبات الجمة التي يتطلبها المركز أكبر من قوته مهما أوتي من المقدرة والكفاءة. والعاقل من يحكم على نفسه بالتقصير بدلا من الدعوى الكاذبة والفخر.
وليكن الاتضاع من صفات العالم الضليع؛ لأن العلم وكثرة الاطلاع تدل المرء على قدر نفسه وحقارة معلوماته الكثيرة بالنسبة للمجهول الغامض، فما العلم إلا خضم عجاج لم يغترف منه الناس غير قطرة واحدة، ليكن الاتضاع من صفات ذوي الحكمة والفضائل؛ لأنه ليس من يعرف عيوب نفسه حق المعرفة. فالعين لا ترى سيئات النفس ولا تعرف ما يخبئه القدر بين ثنايا المستقبل. وإن اعوجاج المستقيم أسهل من تقويم المعوج، وتحطيم الصحيح أيسر من إصلاح المحطم، فكذلك السقوط أكثر إمكانا وأسرع تحقيقا من القيام والارتقاء. ومن لا يعذر الناس ومن لا يشفق على الغير تقس عليه القلوب. ومن لا يلبي دعوة المستغيث تصم الآذان عن سماع صوته حتى يبح ويتلاشى. •••
ليس الغرض مما مر محو الفروق الضرورية بين طبقات الهيئة الاجتماعية، وإزالة كل مميز للمراكز عن بعضها؛ لأن ذلك ضروري للنظام العام، ومحتم وجوده لكمال الاجتماع، ولكنني أرى أن الفارق الذي يميز فردا عن آخر ليس هو في المركز ذاته، ولا في المنصب، ولا في الرتبة، ولا في الثروة، وإنما في ذات الإنسان وشخصه.
ولم تظهر صحة هذا القول في عصر من العصور مثل وضوحها في هذا الزمن الحاضر، ولهذا رسخ في كل الأذهان تقريبا فساد الاعتقاد بضرورة سمو المميزات العرضية، ولم يعد للتاج والعرش تأثير على العقول والقلوب، ولا عاد القروي يرتجف ويهلع أمام سيف الضابط ورداء الجندي، ولا عاد للرتب والأوسمة تأثيرها الأول في النفوس؛ لأن العالم أدرك أن لا قيمة لها في ذاتها، وأن قيمتها الحقيقية إنما تكون في شخص حاملها. وأصبح من الهين على الشعوب خلع من لا يحسن سياسة الملك، بعد أن طال العهد بالاستكانة لشهوات الحاكمين وجور المتعسفين. وصار من الأمور العادية معاقبة الضابط الذي يهين الناس بغير وجه حق اعتمادا على هيبة وكرامة ردائه العسكري. كل ذلك صار من الهينات؛ لأن الغشاوة التي كانت تحجب عن البصائر نور الحقيقة والتمييز أزالها مرور الزمن والتعليم وكثرة التجارب.
وقد كان للاستبداد والظلم أكبر تأثير في رفع حجاب الجهل عن العيون، ودفع الناس لاطراح رداء الرق وكسر قيود العبودية، فلم يعد للأوهام قيمة إلا في مخيلة المجانين والأطفال والأغبياء. وأصبحت الأقدار على قدر الكفاءات الشخصية والمميزات الذاتية، ومن رام إعنات الناس وإرغامهم على احترام ذوي المناصب لوجودهم فيها، أو الأغنياء لمجرد الغنى والثروة يرهق هذه النفوس، ويولد فيها الكراهية بدلا من الحب، والاحتقار بدلا من الاحترام.
مما يؤسف له انتشار روح خبيثة في كل أفكار الشعوب، نشأ منها الاحتقار العام ومقت ذوي المناصب وأفراد الطبقات العالية، وليس ذلك لعدم وجود المميزات الشخصية الجديرة بالإكبار والإعجاب. وإنما لغطرسة أولئك الكبراء وتعمدهم تناسي واجباتهم نحو الاجتماع وروابطهم بالإنسانية، ولعدم احترامهم الناس إلا من يكون معهم في مستوى واحد أو يسمو عنهم جاها وسؤددا.
إن الرفعة لا تخلي العظيم من المسئولية ولا تكبر به عن الاستسلام للقوانين والنظام العام؛ لأنها فوق كل عظمة وجاه، ومن الغرور والجهل نبذ التواضع والوداعة تظاهرا بالارتقاء والرفعة. واللوم راجع إلى الإنسان نفسه إن لم يعرف كيف يكتسب احترام الناس.
ومن الثابت عقلا وتجربة استحالة وفاء من لا تصدق في معاملته، وحب من تبغضه، واحترام من تحتقره وتنكر عليه كرامة النفس، فلا بد لحفظ نظام الاجتماع من وجود الاحترام بين الأفراد، وذلك لا يكون إلا بوجود المميزات بينهم، والمميز الحقيقي بين الفرد والناس إنما هو التفوق بالكفاءة، وحسن الخلق، وسلامة الضمير، وشرف النفس.
والمشاهد أن كل ذي رغبة في الرفعة والارتقاء يخفض من كبر النفس والغلواء، ويقوم من اعوجاجه بقدر ما يستطيع، ويظهر ودودا وديعا حتى مع من يتحتم عليهم احترامه وطاعته، وعلى قدر تساهله في إنكار ذاته والتخفيض من كبريائه تكون منزلته في القلوب والأنظار. فكأن الاحترام والكبر خلقا على نسبة عكسية في كل أدوار الحياة، وبين كل أفراد الهيئة الاجتماعية مهما اختلفت الأزمان والظروف والأسباب.
التربية والاعتدال
لما كان الاعتدال من نتائج العقول الحكيمة كان للتربية تأثير فعلي فيها ونفوذ لا ينكر. والمشاهد الآن أن الناس تعنى بالتربية على وجهين؛ الأول: تربية الأطفال على مقتضى رغبات الآباء، والثاني: تربيتهم على مقتضى أهوائهم الذاتية.
وفي الحالة الأولى يكون الطفل في اعتبار الملاذ الكمالية للوالدين، وينزل منزلة ما يملكون من المتاع والماديات، وقد تقل درجة اعتباره لديهم على قلة وكثرة عواطفهم. ومن المحقق أنه كلما زاد ولعهم بالمنافع المادية كلما قلت قيمة الأطفال في أنظارهم، وجفت ينابيع المحبة والحنو في قلوبهم. فإن شب عاش تحت قدمي والديه خاضعا لإرادتهم، لا لمجرد واجبات البنوة، بل لتجرده من كل إرادة. والفكر ينقاد مع الاعتياد إلى الاستسلام والإرادة النفسية إلى الضعف فالزوال، والقلب إلى الجمود، ثم يموت فيه الشعور وكل العواطف. ويصير الشاب عبدا مسلوبا كل مزايا الإنسان العاقل الحر، فلا ينشأ إلا على ما شاء والده واقتضته مصالحه الشخصية، ومعتقده الديني، ومبدؤه السياسي، وذوقه الخصيص به، ولا يفكر ولا يتكلم ولا يعمل ولا يتزوج إلا بإرادة ولي أمره. وربما كانت هذه السلطة المطلقة في يد من لا مبدأ لهم ولا إرادة، فيكونون سببا في إفساد تربية الابن وفي نشأته على غير صالح الهيئة الاجتماعية. وكثيرا ما يتفق أن يكون للطفل إرادة قوية ونزوع إلى الاستقلال، فيبذل ذووه غاية جهدهم في تذليله بالقوة والاعتساف، فإن تعذر عليهم ذلك فباللطف والتدليل حتى تستأنس نفسه وينطبع على ما شاءوا فيعيش بينهم وبهم ولهم.
وليس هذا النوع من التربية محصورا في بعض العائلات، بل منتشرا بين كثير من معاهد التربية، حيث تكون الخطة الموضوعة للسير عليها قاصرة على إخضاع كل الملتجئين إليها، وقهرهم على التكون على الصورة التي يريدونها. وهذا هو الاعتساف بكل معانيه، والتحكم في غير وجه الصواب والحق، والتسلط الغير الشرعي، وتغلب القوة على الضعف بغير مسوغ لاجتذاب الأفراد إلى غاية موضوعة.
وكثيرا ما يقتنع الإنسان بأن التربية على هذا الشكل هي التربية الصحيحة المفيدة للنوع الإنساني، وللاجتماع على الإجمال؛ لأنه يسهل على المربي القيام بمثل هذا النوع من التربية أو الاستعباد، ويسهل تضليل الناس وتفهيمهم أن هذا الأسلوب هو الوسيلة الوحيدة لتوحيد المبادئ والمعتقدات واللغات والمشارب والأذواق. والحقيقة أنه واسطة لتجريد الخلائق من كل إرادة ونزوع إلا ما يسمح به الأوصياء والمدبرون.
إنهم يريدون أن يكون الناس من نوع واحد وفصيلة واحدة، كسائر النباتات والحيوانات التي تعيش في مكان واحد، أو في أماكن متشابهة بطبيعة الأرض والطقوس. ولكن الإنسان غير النبات والحيوان، وهذا التقييد مضر به حابس حريته مؤخر رقيه. وإن الناس ليختلفون في الطبائع والميول والرغبات والقوى، حتى ليعوزهم كثير من وسائل التربية ليكون لكل فريق ما يوافق طبيعته واستعداده. والنقص والتقصير في استكمال هذه الوسائل هما سبب الفساد الذي يعتور التربية فلا تؤدي إلى الغرض المقصود منها.
والتربية التي يكون أساسها الضغط وتقييد الحرية كثيرا ما تسبب ثورة النفوس، وانفجار براكين الحقد والكراهية، واندلاع لهيب الانتقام؛ فتكون سببا للفساد والمشاكل بدلا من الخضوع والاستسلام. وإذا حسنت الظواهر ولم يحدث حادث ما لتغلب القوة على الضعف يبقى الداء كمينا والنار دفينة؛ الأول على خطر حالاته، والثانية على أشد ما تكون من التسعر، لا يخفيهما عن الظهور غير حجاب كاذب وستر لا يدوم طويلا، ولا يكون وراء السكون الظاهر غير التذمر والحقد الأبكم والثورة المتحفزة للوثوب، وسحق كل ثقل ضاغط.
والتحكم اعتسافا وقوة يحتم الطاعة، فتبدو مظاهرها فقط، ويخلق الرياء في البيئة المغلوبة على أمرها، ويكون واسطة لوجود النفاق والمخاتلة واللؤم، بعد أن يغرس في القلوب الخبث والشر والكيد وحب الانتقام، فإذا كانت هذه هي ثمار هذا النوع من التربية، فهو ضار وخطره أشد من الخطر الذي ينشأ من الإهمال أو من ترك الناس همجا بلا أخلاق ولا نظام. •••
أما النوع الثاني فهو على عكس الأول في العناية، وينحصر في ترك الطفل على هوى النفس، فلا يلبث بعد وضعه أن يكون له المقام الأول، وإليه تتجه عناية كل فرد من أفراد العائلة، يزعجهم صراخه وتحركهم جميعا لفتة منه أو إشارة بيده، وإذا ما بكى ليلا هب الراقد واستيقظ النائم، فإذا درج كان سرور أهله وأسعدهم حظا من نال حظوة في عينيه وابتسامة من ثغره، وإذا ما اشتد وترعرع كان موضوع اهتمام الجد والوالد والخادم والمعلم والوالدة والأخوة والأخوات وكل أفراد البيت. ولا يلاحظ أحد ما ينتج من ذلك من التدلل، وصلابة الرأي، والعناد، والأنانية، وعدم الاحترام والقسوة إلا بعد فوات الوقت، وضياع فرصة الإصلاح والتقويم؛ فيكون هذا مدعاة لفساد خلق الصبي، وعدم مبالاته بالذين كانوا سبب حياته وينبوع سعادته وهنائه.
وهذه التربية واضح عيبها جلي قبحها سيئة نتيجتها عقيمة إلا في الإفساد، وهي عامة عند كل من لم يعن بالماضي ويستطلع أمر المستقبل من عبر الأيام وحوادثها، وعند من لم يقف على شيء من النظام والتقاليد والآداب القومية والأخلاق الفاضلة، وعند كل من يكتفي بالظواهر عن الحقائق وبالقشور عن اللباب، وعند الذين يظنون الحياة في الزهو والخيلاء وإنكار حقوق الغير وهضمها، والميل إلى جانب القوة.
إن هذه التربية لتقوي في النفس الميول الشهوانية وحب الاستبداد والظلم، وهي سيئة العاقبة شديدة الضر كالنوع السابق. والأكثر ضررا وشؤما على الهيئة الاجتماعية اجتماع النوعين، وتوفر الرذيلتين في الفرد الواحد؛ فإن ذلك يولد التقلب في المبادئ، والتنوع في المظالم، والتراوح بين البهيمية والوحشية، وحب الاستسلام والصغار، والنزوع إلى الثورة والتمرد.
والواجب ألا تكون التربية وقفا على رغبات الوالدين ولا جريا مع ميول الطفل وأهوائه؛ لأنه لم يخلق متاعا لأبويه، ولا للتطوح مع أهواء النفس، وإنما خلق للحياة فيجب أن يربى وفقا لمقتضيات الحياة.
والغرض من التربية صيرورة الطفل عضوا عاملا في الهيئة الاجتماعية، متشبعا بالإنسانية وحب الإخاء والحرية ونفع الغير، وكل تربية لا ترمي ولا توصل إلى هذه النتائج تكون عقيمة فاسدة، لا تصلح لغير خلق المشاكل والاضطرابات وتقويض أركان الراحة والسلام. •••
إن الحظوظ كلها وكل ما يمر على الطفل من نشأته إلى شيخوخته يمكن إجمالها في كلمة: المستقبل. تلك كلمة مفردة، ولكنها الشغل الشاغل للأفراد والجماعات والشعوب وكل العالم، وينطوي تحتها كل ما مر من الآلام، وما سيجيء منها، وما يبذل من الجهد في الحاضر، وما تتعلق به النفس مع الآمال والأماني. والطفل في الصغر قاصر عن إدراك معاني هذه الكلمة وأهميتها وتأثيرها في حياته؛ لأنه قليل الإدراك، وحيث إنه ينشأ تحت رحمة وكفالة ذويه، فهم المكلفون بتوجيهه إلى المنهج الذي يحسن اتباعه، وبإرشاده إلى ما يزيح عن عينيه غشاوة الجهل؛ ليرى الغرض الحقيقي من الحياة.
وكل من فكر قليلا يرى أن تأثير التربية ليس قاصرا على الطفل والعائلة، وإنما هو واقع على مجموع الأمة وكل الهيئة الاجتماعية، وعلى كل المنافع والمصالح العمومية، فيجب دائما تمثل الطفل في دوره الجدي وحياته القابلة؛ لتكون العناية بتربيته موجهة دائما إلى المنفعتين؛ الشخصية والاجتماعية.
وقد يتبادر للذهن لأول وهلة تباين المصلحتين وتناقض الأمرين واستحالة الجمع بينهما؛ لأن من خصائص المنفعة الشخصية حب الذات، ومن خصائص المنفعة العامة نكرانها، مع أنه لا يمكن الفصل بين الاثنين؛ لالتحامهما وشدة تقاربهما. ومن المحال أن يحفظ الإنسان عهد الإخاء، ويضحي لذاته الخاصة بغير أن يكون حكيما، ولعقله السلطان المطلق والنفوذ التام على القلب والنفس. والأنانية وحب الذات تطرد مع هذا السلطان اطرادا عكسيا، إن ضعف قويت، وإن اشتد ضعفت أو زالت. ولا يتأتى تحكم العقل وتسلطه على النفس والعواطف إلا بالتجاوز عن المرائي الظاهرية، وسبر غور حقيقة الوجود والغرض منه، وتمثل الروابط الكثيرة التي تربط الإنسان بالإنسان، وترفقه به في كل غاية وسبيل.
ولا يكفل تحقيق هذه الغاية إلا العناية بالطفل، ودرء كل مؤثرات الفساد وعدم النظام؛ لأن الإنسان معرض لفساد الأخلاق من تأثير المؤثرات الخارجية والعدوى الأخلاقية، ومن استسلام النفس للميول وتغلب الأهواء على العقل. والضرر الخارجي الذي ينشأ من استبداد المربين، وسوء تصرفهم عظيم الخطر، وليس من ينكر فساد مبدأ تسلط القوة على الضعف لمجرد أنها قوة وهو ضعف، فالتربية الحقة ما كانت على غير هذا المبدأ، وقامت على إنكار الذات، وكل ميول النفس الخبيثة التي تسبب النفور والكراهية والعداء.
التربية الحقة ما قوت الروح وأخضعت الجسد وحاجاته، فكان العمل بإرادة العقل لا بحكم الجسد أو هوى النفس. وإن الحدة والنزق ليكونان على أشد حالاتهما في بدء الحياة والشباب، فإن لم يكن هنالك قوة من الإرادة تكفل كبح ذلك الجماح اختل توازن المرء، وظهر ضعف تربيته وسوء خلقه. فمهمة التربية قائمة تقريبا على تعهد الإرادة وتقويتها في نفس الطفل، وتطهيرها من كل ميل فاسد ونزوع أناني؛ ليدخر من القوة في نفسه ما لا ينفد، بل يزيد مع طول العمر بغير شذوذ، فيكون العمل إذ ذاك نتيجة الإرادة والعقل، لا طوعا لإرادة أخرى أو استسلاما لسلطة خارجية، وهذه هي الحرية التي يتطلبها الناس من غير الوجهة الصحيحة.
والسلطة المطلقة التي في يد الآباء والمعلمين والمربين، يكون تأثيرها في الطفل تأثير العوسج الذي يخيم على النبات فيذبله ويميته. وأما السلطة التي تستمد قوتها من الحكمة والحقائق، وتتجرد من الأنانية ويكون غرضها تقويم اعوجاج الطفل وتطهير نفسه من كل الميول والنزعات المرذولة، فإنها له كالحرارة والهواء الطلق للنبات، ولهذه السلطة من قوة الحق ما يغذي الروح غذاء يقويها ويصلحها، فالتربية بغيرها نوع من الشطط والحمق. ومن خصائصها مراقبة السلوك، وتكييف الطباع، ومقاومة الميول الفاسدة واستئصالها. وهذه هي واجبات المربي الحقيقي، فلا يكون في نظر الصبي كالحاجز الموضوع صورة حول الحدائق، لا يمنع الطارق ولا يقف في وجه العابث يجتازه بوثبة ويحطمه بدفعة، بل يكون كالسور الشاهق يحفظ المتاع ويدفع شر العوادي.
والنفس في بدء النشأة لم تتشبع بالشرور، كما أنها لم تتهذب ولم تصقل، فيسهل إصلاحها وإظهارها على الصورة التي يريدها المربي. فإن كان خبيرا بمهنته الدقيقة غرس فيها المبادئ العالية، وعلمها التمسك بما لها من الحقوق، واحترام وتأدية ما عليها من الواجبات، وأوقفها على حقيقة الحياة وما لها من القيود والمزايا، فتشب على احترام الحقائق وتقديسها واحتقار ما عداها، وعلى معرفة حقوق الذات والناس، وعلى أداء الواجبات مع التواضع.
ويمكن تلخيص التربية الصحيحة في أنها هي التي تخرج رجالا أحرارا، يعرفون معنى الحياة، ويطالبون بما لهم ويؤدون ما عليهم، ويحبون غيرهم مع احترام أنفسهم. •••
المستقبل وحده هو الذي يتقلب وتمر أدواره على الحدث الناشئ، إلا أنه يجب تذكيره بالماضي، وحمله على احترام السلف وتقديسهم؛ لأن الفضل راجع إليهم في كل التقاليد الحسنة، وتكوين المدنية والرقي الاجتماعي. فيجب على الآباء إحياء ذكرى الماضي في نفوس الأبناء؛ لأن فيه العبرة والموعظة والهداية في طريق المستقبل المظلم، ولا شيء أوقع في نفس الطفل ولا أنجع لخلق روح التواضع في قلبه إلا مشاهدته الوالد والوالدة يؤديان واجب الاحترام والإجلال لجده الشيخ الفاني مثلا، وإلا تحققه تبادل الاحترام بين أفراد البيت جميعا؛ لأن وجود هذه العاطفة بين الرجال يكون سببا لغرسها في نفس الناشئ، فيشب على حب الاحترام والشعور بكونه من مقتضيات التربية والواجبات.
ولا يفوت العاقل أن الخادم آدمي له جميع حقوق الإنسان، وأن افتقاره للارتزاق من خدمة الغير ليس من دواعي التحقير والامتهان. فكل تحقير له وازدراء به شذوذ عن الأدب الصحيح، ونقص في التربية والأخلاق، ومن أهمل ردع ولده عن الإغلاظ للخادم لا يلبث أن يرى النقص يتطرق إلى نفسه من حيث لا يشعر ولا يدري، ثم تظهر نتيجته بعد قليل في معاملته لذات الوالدين ولسائر الناس.
والاعتقاد بأن الطفل الصغير لا يعرف الاحترام ولا يدرك معناه خطأ؛ لأن الطفل يعجب ويستحسن وينفر ويستقبح، ومن يدرك ذلك يعرف كيف يحترم. والاحترام ضروري ومن الحاجات التي يجب أن تتشبع بها نفس الصبي وينطبع عليها خلقه، والإهمال يقتل هذه العاطفة وينزعها من القلب والعقل، ولعدم تحققها بين الكبار تأثير سيئ في نفوس الصغار، ولهم منها نموذج فاسد يثبت لهم فساد التعاليم والمبادئ الصحيحة التي تقتضيها التربية.
وإذا كانت بساطة القلب وسلامة النية من الخصائص المحترمة، فإن الاعتدال في الحياة هو خير الوسائل الإعدادية لهذه التعاليم. والحكيم من يجتنب كل الأسباب التي تؤدي إلى نفخ روح الخيلاء والكبر في نفوس الأطفال مهما عظم جاهه وكثر ماله. واختيار الملابس الأنيقة وكثرة الزينة مما تساعد على انتشار هذه الروح الخبيثة، وتغري الطفل على الاعتقاد بأن المراتب في المناصب والأقدار بالدرهم والدينار.
وهنالك كثير من أنواع الفخفخة والحمق في التعليم تكون نتيجتها إفساد الصغار، وتعويدهم احتقار الوالدين والعادات القومية والعمل المفيد، والوسط الذي نشئوا وعاشوا فيه. والتعليم على هذا الشكل المشوه مصيبة عظيمة وخطب جسيم؛ فإنه لا يخرج إلا أفرادا يتذمرون من كل شيء، وينفرون من أصلهم وأرومتهم ودينهم وبلادهم، فإذا ما انفصلوا عن الجذع الذي تفرعوا عنه وخرجوا من أصله يقلبهم الطمع والغرور في كل المهاب، كما تقلب الريح الشديدة أوراق الشجر اليابس.
كل شيء في نظام الكائنات يتم بالهدو والتؤدة لا بالطفرة والقفز، فليقتد الإنسان بالطبيعة في سيرها المعتدل، ولا يخلط النجاح والارتقاء بهذه المناورات العنيفة الحادة والقفزات الخطرة، وليبعد كل البعد عن تربية الأولاد لتعويدهم احتقار العمل والرقي والاعتدال والأهل والأقران والفقر؛ لأنه لا يكون أتعس من حال الأمة التي تكون نتيجة التربية فيها تأفف أبناء الفلاحين من المزارع، والبحارين من البحر وحرف الآباء والجدود، ولا يكون أشقى من حال المجتمع الذي يزدري به الأبناء آباءهم، ويخشون من الظهور معهم أمام الجمهور خشية انتسابهم إليهم. ولا يكون أحسن من حال الأمة، ولا أسعد من البلاد التي يفتخر بنوها بآبائهم، وأحفادها بجدودهم، والناس بحرفهم كل في مهنته عن رضاء ورغبة في العمل والإجادة، ويؤدي مقتضيات عمله بأمانة مع الاقتناع بالحاضر وحسن الظن بالمستقبل. •••
الغرض من التربية كما مر تخريج رجال أحرار، فمن شاء أن يربي أبناءه على مبادئ الحرية، فلينفث فيهم من روح الاعتدال والبساطة، ولا يخشى تأثير ذلك في السعادة، فإن الاعتدال من أسباب الحصول عليها، لا من الوسائل المؤدية إلى الشقاء والنكد.
من الواضح أنه كلما كثرت لعب الطفل ووسائل السرور واللهو، كلما كان أكثر ميلا إلى الكدر والبكاء، وفي هذا دليل على أن كثرة الوسائل الموضوعة والأسباب المختلقة للحصول على السعادة لا تنيلها ولا تأتي بالغرض منها، ودليل على أن قلة هذه الأسباب أو عدمها لا ينفي وجود السعادة وتمتع الفقير المقل بها. فليكن من اهتمام المربي عنايته بتعويد الطفل القناعة، والاكتفاء بالقليل، وعدم التورط في ابتداع الأسباب الوهمية للسرور، وليضاعف جهده لإقناعه بضرورة بقاء الملابس والمساكن والملاهي، وكل حاجات الإنسان على أبسط أشكالها التي تؤدي الغرض المقصود منها.
إن البعض ليجتهد في إرضاء رغبات أبنائه، فيفعل ما يعلمهم الشراهة والكسل، ويثير فيهم ثوائر نفسية وميولا لا تتفق مع أعمارهم، ولا توافق طبيعة الجسوم، فيجعلونهم أرقاء مستعبدين للشهوات والعادات لا أحرارا مستقلين.
ومع كون الترف يضني ويسئم الجسم، فهو إذا قل بعد اعتياده يكون سببا من أسباب الشقاء وعدم الرضاء بالمآل. وكثيرا ما دفع الإنسان إلى نسيان الكرامة الشخصية وبذل ماء الوجه، وإلى تجاهل الحقيقة والواجب جبنا وسفالة.
أما اعتياد البساطة في العيش، وتكبد المشاق لاعتيادها، والمرنة على الأعمال للتشدد وتقوية الجسم، فإنها من أعظم الوسائل المؤدية إلى نجاح المرء في المعترك الحيوي، وفوزه على المصائب إن صادفته في طريق الحياة، وإن نتيجة التدرب على شظف العيش واحتمال الأتعاب لخير من ألفة الملاهي وكرع كئوس النعيم والراحة. وقد يخرج من اعتاد هذا في صغره إلى مضمار التزاحم العالمي حرا مستقلا قويا شديدا يمكن الاعتداد به والاعتماد عليه، فلا يبيع ضميره ولا حريته بأي ثمن، ويكون أكثر استعدادا للحصول على السعادة والتمتع بها من كل مدلل مترف.
والمشاهد المعروف من التجارب الكثيرة أن وفرة أسباب العيش والرخاء مدعاة إلى الكسل وضعف الإرادة وإخماد الحواس، وإلى كثرة الأوهام وانقباض الصدر لغير سبب، وقد تظهر الشاب متعوبا منهوكا، وفي شكل من طحنته الأيام. وليس أشق على الهيئة الاجتماعية من وجود فريق كبير من هذا النوع الإنساني الساقط بينها، فإن عليهم وحدهم ظهرت في شكل الأوباء كل آثار الضعف والعادات المرذولة التي مارسوها في الحياة، وفي منظر ذلك الفريق التعس عبرة للناظر ودرس للمبتدئ، فإن العين تقرأ بين سطور التجاعيد المطبوعة على جباههم أحكم المواعظ التي تزجر وتردع العاقل.
إن هذه الحال من الشقاء تنطق بأفصح عبارة مشيرة إلى أن السعادة كل السعادة في أن يكون الإنسان عاملا حيا في الاجتماع، نشيطا مقداما غير خاضع لسلطان الشهوات الفاسدة، وتأثير الغواية الضالة، مالكا عواطفه وإرادته؛ لينعم بطيبات الحياة، ويكون لقلبه الخلو من المشاغل قوة على التعلق بالكمالات وحب كل جليل وجميل. •••
الحياة المرتبكة تولد سخف الأفكار وهراء القول، أما العادات الحسنة والانفعالات النفسية القويمة والبحث الدائم عن الحقائق، فإنها تنتج الحرية في القول والفكر.
والكذب خصلة مرذولة من خصائص المستعبد الرقيق، وهي ملجأ الجبان والبليد وقليل الهمة. أما من كان حرا صحيح الحرية ورزينا ثابتا فإنه لا يخضع إلا لسلطان الحق والعقل، ولا يخشى في نشر الحقيقة لومة لائم، ولا جبروت المعتسف. والتربية الصحيحة تقضي على المربي بتعويد الأطفال الصدق وقول الحق بلا تمشدق ولا تحوير، ولا تلعثم في كل الظروف والأحوال.
إن فريقا كبيرا من الجمهور يعد من الفظاعة وعدم اللياقة اعتماد الشخص على فكره عند التفكير، وترك القلب لتأثير الوجدان والعواطف عند التأثر. ويستاء الناس من استعمال الإنسان مواهبه الذاتية، ومن اعتماده على قوته ونفسه، مع أنه لا يوجد أفظع ولا أسفل من التربية التي تميت في الآدمي مواهب الإنسان ومزايا تلك المواهب.
يا للناس من سوء ما فعلوا! ويا لله مما جنوه على النفوس وعلى الهيئة الاجتماعية بالضغط الشديد على الفكر والقول، وبإزهاق روح الحرية والاستقلال الذاتي بكل وسائل الاعتساف والإرهاق! كأنما يحلو لهم أن يروا الأطفال صورا وألاعيب، والرجال تماثيل متحركة بإرادة الغير وآلات تعمل ولا تدرك!
هذا هو السبب الرئيسي في ضياع الإقدام ودلائل الحياة الحقيقية، وتسلط السماجة والضعف، وبقاء الإنسانية بلا ارتقاء صحيح، ولا تكمل صالح.
الحقيقة مرة وجارحة ولكنها الحقيقة، فليعلم الحكيم أبناءه احترام أنفسهم والتمسك بحقوقهم وحريتهم الشخصية، وليعودهم قول الحق صراحا بلا تشنيع فيه ولا تلطيف من مرارته، وليحبب إليهم الاستقامة والاحتفاظ بالكرامة حتى في حالات العسر وأخطر مزالق البؤس والشقاء، فإن بذل ماء الوجه أصعب على الشريف من هدر دمه وإزهاق روحه. •••
ليس في الصفات خير من السذاجة وسلامة الضمير وصفاء القلب، وهذه فطرة الأطفال قبل أن تفسد قلوبهم شرور المجتمع الإنساني، وقبل أن تنقل إليها عدوى الأخلاق عوامل الفساد. وليست السذاجة أختا للحقيقة فقط، وإنما هي قوة أخلاقية لا خبث معها ولا نفاق ولا إضمار. ومن الأسف الشديد أن كثيرا من الناس يعملون على بتر هذه الصفة الحميدة وملاشاتها من الوجود بما استطاعوا من قوة وحول، ويجهدون أنفسهم لاستئصالها من الحياة والفكر والتربية، ويتعقبونها حتى في عالم الخيالات والأوهام، ولتعجلهم في جعل أبنائهم رجالا قبل الاكتمال يسلبونهم كل صفات الأطفال ومميزات الطفولة. وشأنهم في ذلك شأن البستاني الجاهل الذي ينزع عن الأشجار أوراقها الخضراء فلا تزهر ولا تثمر.
والطفل بدون هذه السذاجة كالطير بلا ريشه، فليتق الناس ربهم في النابتة، وليحتفظوا ببقاء هذه الروح فيها؛ لكي يتأتى للعالم أن يتطهر من أدران الكذب والنفاق والرياء، فإنها أكثف حجب لإخفاء الحقيقة وستر نور الهدى من العيون والبصائر، وإنها من أقوى المعاول العاملة لهدم الرقي الاجتماعي والتمدن الصحيح والرجولة الحقيقية.
خاتمة
في كل ما تقدم من المباحث القدر الكافي لإدراك معنى الاعتدال في الحياة ومظاهرها، وفيه ما يثبت ابتعاد العالم عن الطريق السوي والوجهة الواجب الاتجاه إليها، وفيه ما يدل على الغرور العام والانصراف عما في الكون من سائر القوى الحيوية والسعادة وجمال الحياة.
وكل من يستطيع التخلص مما ورطه فيه التقليد، والاندفاع مع تيار العصر، ومقتضيات المدنية الكاذبة يتأتى له أن يشاهد بهاء الكون وجمال الطبيعة، وأن يتمتع بالسعادة الحقيقية الخالية من كل الشوائب والمنغصات مستهديا بنور الحقيقة.
وكل مقاومة للميول الفاسدة، ونفور من الشهرة الكاذبة وحب الظهور، وكل رجوع إلى التواضع والقناعة والحياة الهادئة يكون من أسباب قوة الهيئة الاجتماعية ورقيها، ومدعاة إلى بث روح جديدة في البيوتات وبين الأفراد، وإلى خلق عادات حديثة، وتكوين بيئة راقية وتربية صحيحة عالية، فتتجه أفكار الشبان والفتيات مع الاعتياد والتدرج إلى غايات شريفة وآمال صحيحة يمكن تحقيقها بسهولة، ولا يلبث هذا الإصلاح التدريجي والانقلاب البطيء أن يظهر سلطانهما على كل الهيئة الاجتماعية. وكما تكون متانة البناء على قدر صلابة الأحجار وقوة مواد التلاحم، فكذلك تكون الحياة على قدر القيمة الذاتية في الأفراد وقوة الرابطة بينهم.
ولما كان الغرض الأساسي هو تكوين الاجتماع على آساس ثابتة ودعائم قوية وجب أولا العناية بتقوية الأجزاء التي يتكون منها ذلك الاجتماع وهي الأفراد؛ لأن كل ضعف فيهم ضعف في المجموع وشلل في جسم الهيئة الاجتماعية، وإذا كان العامل على أية آلة محكمة يهمل أو لا يحسن العمل عليها فلا يكون للآلة ولا لما تصنع قيمة، وفي هذا المثل شبه قريب بين العامل على الآلة والعامل لرقي الاجتماع وكماله.
إن الحياة جميلة في ذاتها محكم أمرها، ولكن جلالها لا يظهر إلا لمن يعرف كيف يدير حركة نفسه ويحكم أعماله وسلوكه، وكما أن غفلة العامل أو عجزه يفسد الآلة ويتلف المصنوعات، فكذلك تهاون الإنسان وأغلاطه تشوه جمال الحياة وتفسد هناءها وتنغص عليه العيش، ولذلك وجب الاهتمام بتحذير الإنسان وإلفاته إلى تعرف أساليب العيش والعمل في الحياة؛ لكيلا يضر بنفسه وبالمجتمع، ويكون حظه حظ العامل المهمل أو الجاهل الذي يسيء إلى نفسه ويضر بسمعة المصنع الذي يعمل فيه.
فليعتن الفرد بنفسه فيعمل ليتشبع بمبادئ الحرية والنظام والإخاء؛ حتى يكون من أقوى عوامل التضامن والارتقاء؛ لأن هذا هو غرض الجميع والمقصد العام. والاعتدال وحده وانتشار روحه بين الجميع يقويان روابط الاجتماع والتضامن العام، وكل انحلال أو وهن فيها يرجع إلى سبب واحد هو ضعف الفرد في ذاته وضعف رابطته بالآخرين. وليس في الناس من يستطيع أن يقدر الأضرار التي تلحق بالهيئة الاجتماعية من تنافر الأفراد والأحزاب والطوائف، ومن حبهم الاستئثار بالسلطة والنفوذ؛ للتغلب على الغير وإخضاعه، أو لهضم حقوقه وصوالحه، فإن في ذلك تقويض أركان السلام، وهدم أساس التكون والاجتماع، وتنغيص العيش وتكدير صفو الحياة وهنائها وقضاء على السعادة.
وكل هيئة لم يسد بينها حب الإخاء وتفرد كل لصالحه الشخصي تكون هي الفوضى بكل معانيها. وشأن أعضاء مثل هذا المجتمع شأن أبناء العائلة الواحدة الذين يكونون عالة عليها، يمدون أيديهم للأخذ مما لها، ولا يبسطونها للأخذ بناصرها.
من لوازم الحياة التعامل وفيه تبادل المنافع، والناس دائن ومدين، فإن لم يعترف المدين بما عليه ويؤده زالت الثقة به، وكف الناس عن معاملته. والناس مدينون للهيئة الاجتماعية بكثير من الواجبات والحقوق في مقابل النفع والفائدة التي تعود عليهم من عمل الغير، فإن لم يؤدوا ما عليهم عن رضاء زعزعوا الثقة المتبادلة، وأضعفوا نشاط العاملين، فأفسدوا نظام العالم وشوهوا جمال الحياة.
ومما يؤسف له تظاهر الإنسان بمظهر المتفضل على الاجتماع والدائن المطالب بما له من الحقوق، فإن صحت دعوى الجميع فعلى من تكون هذه الحقوق وتلك الواجبات؟ ومن هو المقصر في الأداء والمطالب بما عليه؟
الأمة عائلة كثيرة الأفراد، ومن الأسباب القوية في تكوين الأمم الاشتراك والتضامن ونكران الذات للمنفعة العامة، فمن الحكمة التساهل في المعاملة، وإغفال ما يمكن التجاوز عنه، فإن الشدة في المعاملة منشأ الخصومات، وليس في العالم من لا ينفر من الفظاظة والغلظة وسوء الخلق، فكلها صفات وحشية تجرد المرء من مميزات الإنسان، ولا تساعد على دوام الاحترام والحب المتبادل وهما من لوازم الاجتماع.
إن الناس لتختلف في العمل والمهن، فينظر الفرد إلى ذاته من وجهة واحدة وهي المظهر الاكتسابي، وينسى أحيانا حقيقته الطبيعية، ومركزه في الاجتماع، وعضويته في جسم الهيئة الاجتماعية، فينتج من ذلك أن الذي يشغل الإنسان ويضع له خطة العمل والسير في الحياة، هو السبب العارض الذي يفصله عن بقية الناس بالمهنة والحرفة، ويفتنه بما لا يترك مكانا في قلبه لحب الاجتماع الذي هو روح الأمم وحياة الشعوب. وينتج من ذلك أيضا بقاء الذكرى السيئة حية في الأفكار؛ لأن حب الاستئثار مناف لصالح الغير، وكل قوم غذتهم هذه الروح الخبيثة تنتشر بينهم الخصومات، ولا يمر عليهم يوم واحد بدون حوادث سيئة وعواقب وخيمة، ولا يكاد أحدهم يلمح الآخر حتى تحيا في مخيلته ذكرى الشقاق والمزاحمة والخصومة؛ ونتيجة ذلك عدم الثقة وسوء الظن والحقد.
فمن الصالح العام التساهل والتسامح ونسيان الذكرى المؤلمة، وإذا كانت المنفعة جوهرا فكل ما يضر بها عرض فاسد، والمنفعة هي غاية المساعي ومرمى الغايات. والخصومة من المؤثرات السيئة على المنفعة فهي عرض فاسد، والعاقل من يتمسك بالجوهر ويغفل العرض.
ما أجمل وأسعد الحياة لو كان التسامح هو مبدأ الوضيع والرفيع؛ لأنه بلسم القلوب المكلومة وترياق النفوس المتسممة. والذكرى السيئة أكبر محرك للعداوة والانتقام، فلو سادت روح النسيان والتسامح زالت أسباب العداء والخصومات، ونعم بال المجتمع الإنساني، وكان التساهل أقوى ضمين لتوفر أسباب السكينة والسلام.
فعلى هذا يكون لروح الاعتدال نفوذ قوي وسلطان فعال في تقويم الأخلاق، وتلطيف الأمزجة الحادة والطباع الغليظة، وفي إيجاد السلام في بيئة الأحقاد والمشاكل وبين الخصومات القائمة. وهي أيضا من أقوى مطهرات القلوب وداعية إلى تقريب الناس بعضهم من بعض، وأجلى مظاهر هذه الروح وأسماها تتضح ملموسة عندما تكون واسطة لتسوية الاختلافات والمشاكل القائمة بين الخصوم والمتنافرين، بسبب تباين المصالح والمنافع، وبسبب الرعونة والحمق، وعندما تبدل الخلاف وفاقا والعداء حبا والامتهان احتراما وإجلالا.
هذه هي أحسن رابطة اجتماعية، وبها يمكن تكوين الأمم وخلق الهيئة الاجتماعية الصحيحة على أمتن الأساس وأقوى الدعائم، وإظهارها في الشكل البديع الذي نتوهمه أملا لا يتحقق وأمنية لا تنال.
ناپیژندل شوی مخ