ومن المضار المتفشية جنون الإنسان بمعرفة قدر نفسه ومنزلته بالنسبة للآخرين. وليس الضرر في فحص الضمير والقلب للتحقق من وجود الميول الصالحة والمبادئ الشريفة؛ لأن هذا الفحص مما يساعد على التقويم والتكمل. وإنما الضرر في الاغترار بالنفس، وحب الظهور بمظهر المتفوق على الغير الممتاز عنهم، وكل عامل يقضي حياته في فحص آلة عمله على تحققه صلاحها يفسدها ولا يتمم عملا. ومن أراد أن يمشي فليس في حاجة لطبيب يفحصه ويقرر قدرته على المشي، فحسبه أن يتحقق وجود قدميه، ويقوم عليهما، ويسير في طريقه محترسا من السقوط مستعملا قوته بتؤدة وحكمة؛ لكي لا تنفد قبل الوصول إلى غايته. وحسب الإنسان أن يكون على شيء من التعقل؛ ليعلم أنه خلق للعمل، لا لقتل الوقت في تأمل ذاته في المرآة. ولكن التعقل أصبح نادرا بين الأفراد كسائر الصفات الحميدة، بل أصبح من العوائد المنبوذة والصفات الخلقة، التي يستعيض عنها عشاق المدنية بسواها فيضلون سواء السبيل. ومن المحقق أن الاتصاف بالشطط والإفراط والتطرف بدلا من الارعواء والاستقامة؛ تكون نتيجته إصابة الهيئة الاجتماعية بكل أنواع المسخ والبتر والتشويه، وإبعادها عن الحكمة وأصالة الرأي.
المستحدثات طارئة تتجدد، ولكن الفكر والتعقل والتبصرة من الدعائم الأساسية التي لا تتبدل بتبدل الأزمان والأحوال، فمن تجرد منها ساء مصيره، ومن حازها واحتفظ بها اعتدل وأمن شر العاقبة. وليس التعقل من الصفات الغريزية التي توجد عفوا في جميع الناس، ولكنه من الصفات التي تكتسب بعد عناء طويل وكد متواصل. وهو كنز من أثمن الكنوز وأنفسها قدرا، ولا يعرف قيمته إلا من يكون حكيما لا يرضيه الشطط والتطوح مع الأهواء. والعاقل من يستهين المتاعب، ويستقصر الزمن الذي يلزم للتكمل بهذه الصفة الحميدة، فيكون بصيرا بالأمور والعواقب حكيما سديد الرأي. إن صاحب السيف يخاف عليه من التثني والتعوج ولا يتركه طعاما للصدأ، بل يتعهده بالنظافة والعناية، فإذا كان هذا حظ قطعة الفولاذ التي لا تنفع في كل آن مع تيسر وجود عوضها، فما بالك بالعقل - وهو الجوهر الذي يستحيل إصلاحه - إذا فسد، أو الاستعاضة عنه بغيره إذا اختل؟
وليس من العقل التشبث بمذهب الرافضين؛ أي عدم التصديق والإيمان إلا بما يتحقق بالاختبار، ذلك المذهب الجامد الذي ينكر كل ما لا تشاهده العين أو تلمسه اليد؛ لأن التقيد بهذا القيد الضيق يحصر العقل في دائرة ضيقة، ويترك الفصل في الأمور للحواس المادية، فيلاشي مواهب الإدراك والتمييز وصحة الحكم. وهذه المسألة من أهم المسائل الاجتماعية وأشدها تعقيدا؛ لأن نشاط العقل لمعرفة الغوامض شديد الخطر؛ فهو أبدا يبحث عن تلك الأمور المتوارية في ظلام الغيب، والتائهة في دياجير المجهول، ومن المؤكد أن البحث العقلي من أشق الأعمال وأكثرها حاجة للتروي والصبر، فإن استقصاء الحقائق والعثور عليها ليس بالأمر الهين، ولكن الحاجة الماسة تدفع الإنسان إلى البحث، وتسهل له سبيل الاستدلال فيصل إلى الحقيقة. •••
إن مجرد الوجود لا يستدعي التعقل؛ لأنه سابق له وغير مرتبط بالعلم والجهل؛ إذ هو وجود حيواني لا مزية له إلا بعد التهذيب والتثقيف. وقد خلق الإنسان قبل أن يفكر وفكر بعد أن خلق ووجد، فكان وحشا قبل رقي مداركه وصار إنسانا بالمعنى الصحيح بعد أن تحلى بحلية العقل المهذب والتمييز عن معرفة، فمهد السلف سبيل الحياة للخلف، وأوجدوا أضواء الحقائق التي تنير ظلام الحياة وتكشف سبلها المتشعبة، فلم يبق على الإنسان إلا أن يتعرف ما أمامه، فيعيش آمنا ميسورا بدلا من أن يقضي كل حياته عبثا دون الانتهاء إلى نتيجة من البحث والتنقيب.
ولولا الحقائق والخطط القويمة التي اهتدى إليها السلف ودونوها لوقفت حركة التقدم، ولما خطا العالم خطوة واحدة في سبيل الرقي والكمال؛ لأنه إذا كان كل فرد يبدأ بالعمل لنفسه، فإنه لا ينتهي من البحث والاهتداء إلى الحقائق إلا وهو في آخر مرحلة من العمر، وقدمه على حافة القبر، فتنطفئ حياته قبل أن يستفيد بما قضى العمر للحصول عليه، ويترك المجال لمخلوق جديد يعيد الكرة لينتهي إلى مثل هذه النهاية، فلا يكون هناك مجال للتمتع بلذائذ الحياة، ونعيم العيش، وتكون الدنيا دار شقاء ونصب لا دار نعيم وسعادة، وهذا ضلال مبين.
الحياة أمد قصير وزمن لا يطول ومعترك ومضمار جهاد، فمن غفل سقط قبل أن يلتفت إليه غيره؛ لاشتغال كل فرد بأمر نفسه وانصرافه لمقاومة تيار التنازع والوصول إلى شاطئ السلام، والفائز من عني للنجاة جهده. فليس على الإنسان إلا الامتثال لما هو حتم على كل نفس، ومقابلة متاعب الحياة ومقتضياتها بصبر ورضاء؛ فإن التذمر لا يجدي نفعا ولا يدفع مقدورا. ولا يتوهمن أحد أن الحالة تسوء من يوم ليوم، أو أن العصور الغابرة كانت خيرا من الحاضرة؛ لأنه ليس في الاستطاعة الحكم على أحوال الزمن القاصي حكما صحيحا، كما لا يمكن للعين التثبت من حقيقة الأشياء البعيدة تثبتا تاما. ومما لا ريب فيه أن حياة الإنسان - منذ بدء الخليقة إلى الآن كانت ولم تزل - مشوبة بما يتقزز منه ويتأفف، وإن اختلفت الأسباب والأعراض. ولم يصل الفكر ولا البصيرة في أي عصر للدرجة التي تكشف للمخلوق حجاب الغيب، فيطل منها على المستقبل ويهتدي إلى الحقائق.
فلا فارق إذن بين إنسان اليوم ورجل العصر البعيد، كما أنه لا فارق أيضا في ذلك بين المرءوس والرئيس والمتعلم والعالم والصانع، فكلهم عاجز عن إدراك أبعد غايات العقل والاستئثار بالفهم والحكم، فهم يقدرون الأمور - كل على قدر عقله - ويتوسعون في البحث والحكم - كل على قدر بصيرته وسعة مداركه - فتتجلى لهم الحقائق على مقدار ما لهم من وفرة الاختبار وقوة التمييز.
وإن ما وصل إليه العالم من العلم والتنوير واكتشاف بعض الحقائق قد أفاد المجموع فائدة مذكورة، ولكنه لم يكشف طريق المجهول، ولم يصل لحل كل مسائل الاجتماع، ولم يرفع من سبيل الحياة كل الحواجز والعقبات الحائلة دون الحقائق، ولا يزال العقل يصادف طلاسم يتخبط فيها دون أن يهتدي، ولا تزال الحكمة والفلسفة تشتط في مجاهل لا حد لها ولا غاية، ولكن من يعرف أن الظمآن يرتوي بقليل من ماء البئر يجد الحياة ممكنة باليسير الذي توفق إليه الإنسان، كما كانت ممكنة من قبل لمن جهل كل الحقائق، وكتمت عنه أسرار الوجود ونظام العالم، فالحياة ممكنة والاعتدال في الحياة غير المحال، ولا يستدعي ما لا طاقة به للإنسان، ومن اعتدل فكره اعتدل قوله وانتظم عمله.
والاعتدال في الفكر يستدعي التوكل والأمل والطيبة.
التوكل ركون واعتماد بعد ثقة، وإيمان عن اعتقاد بعد تصديق، لا عن وراثة واعتياد.
ناپیژندل شوی مخ