ونوضح هذا بأمثلة من السنة النبوية: فأخرج الشيخان من حديث ابن عباس ﵁ في إسلام أبي ذر الغفاري ﵁،وفيه أنّ أبا ذر ﵁ دخل على النبيّ ﷺ فسمع من قوله، وأسلم مكانه، فقال له النبيّ ﷺ:"ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري". قال:-يعني أبو ذر- والذي نفسي بيده لأصرخنَّ بها بين ظهرانيهم فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته: أشهد أنْ لا إله إلاّ الله وأنَّ محمدًا رسول الله. ثم قام القوم فضربوه حتى أضجعوه وأتى العباس فأكب عليه قال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار وأن طريق تجاركم إلى الشأم فأنقذه منهم ثم عاد من الغد لمثلها فضربوه وثاروا إليه فأكب العباس عليه " (١).
فالنبيّ ﷺ في أوّل دعوته وفي أوّل مرحلة من مراحلها (السرية)،وهدفه واضح لديه والجدول مرسوم عنده، فيخبر أبا ذر ﵁ أنه سيعلن دعوته لاحقًا وامره باللحوق به حينئذ، يالله من نبي عظيم ﷺ، فلتأتي الجامعات ومعاهد التنمية البشرية للتتعلم من هذا النبيّ الكريم أسس القيادة ورسم الأهداف! وكأني بالنبيّ ﷺ يعلم أبا ذر ﵁ أنّ الخط البياني للدعوة الآن في الدرجة الثانية أو الثالثة .. وحينما يبلغ الدرجة الثلاثين فالتحق بي، يعني أن الجدول البياني للهدف واضح لديه ﷺ وهو ينظر إليه على أنه واقع. لذا فأنت تجد النبيّ ﷺ يبشر النّاس في أحنك الظروف ببشارات عظيمة، فبشر سراقة بن مالك ﵁ بسواري كسرى يلبسهما، وطلب منه سراقة بن مالك عهدًا مكتوبًا! فأعطاه النبيّ ﷺ الأمان وأمر عامر بن فهيرة، فكتب له رقعة من أدم، ثم جاء سراقة بالكتاب بعدئذٍ، ووفاه النبيّ ﷺ ما وعده (٢).
فانظر إلى هذا التخطيط العظيم قريش تطلبه ﷺ، وهو متخفي مطارد من كفار قريش، ثم هو يعد سراقة بسواري كسرى، ويعطيه الأمان لقابل الأيام! خطة واضحة تمامًا.
ومثله تمامًا يوم الخندق لما حوصرت المدينة، والنبيّ ﷺ يحفر في الخندق فيضرب صخرة كبيرة فتبرق ثلاثة مرات في كل مرة يكبر النبيّ ﷺ وينادي: فتحت الشام، .. فتحت اليمن، فأخرجه أحمد من حديث البراء بن عازب قال: أمرنا رسول الله ﷺ بحفر الخندق قال: وعرض لنا صخرة في مكان من الخندق لا تأخذ فيها المعاول قال فشكوها إلى رسول الله ﷺ فجاء رسول الله ﷺ، قال عوف- وأحسبه قال -:وضع ثوبه ثم هبط إلى الصخرة، فأخذ المعول فقال: بسم الله، فضرب ضربة فكسر ثلث الحجر، وقال: "الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا". ثم قال:" بسم الله وضرب أخرى فكسر ثلث الحجر، فقال:" الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن، وأبصر قصرها الأبيض من مكاني
(١) أخرجه البخاري (٣٦٤٨)،ومسلم ٤/ ١٩٢٤ (٢٤٧٤). (٢) لتمام القصة ينظر: دلائل النبوة للبيهقي ٢/ ٤٨٤،والشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض ١/ ٦٧٤.
1 / 29