فأبى روكامبول أن يؤجل المبارزة إلى اليوم التالي، مدعيا أنه سيسافر إلى إيطاليا في الصباح وقال له: نتبارز الآن!
ووافقه فرناند وانطلق إلى القاعة العمومية يبحث فيها عن شاهد له، وكانت هذه أول مرة يزور فيها قصر المركيز فان هوب، ولم يلق بين المدعوين أحدا من أصدقائه المخلصين، وفيما هو يبحث إذ لقي الماجور، وهو أحد أعضاء الجمعية السرية كما تقدم، فاستأنس بلباسه العسكري، والتمس منه أن يكون شاهدا له في مبارزته بعد أن قص عليه حكاية الخصام، فقبل الماجور راضيا، وجعل الاثنان ينتظران عودة روكامبول الذي كان يبحث أيضا عن شاهد له بين جمهور المدعوين.
أما روكامبول فإنه كان يبحث عن أندريا المتنكر في تلك الحفلة باسم السير أرثير، وقد لقيه في إحدى الغرف المعتزلة وهو جالس يحادث بيرابو والد هرمين وعاشق سريز باهتمام، ونظر إليه روكامبول نظرة معنوية أجابه أندريا بمثلها، فوقف معتزلا عنهما يتوقع تتمة الحديث.
وقد عرف القراء من القسم الأول من هذه الرواية حكاية بيرابو والد هرمين، وكيف أنه يهوى سريز، وقد كاد يفتك بها بمساعي أندريا لو لم ينقذها أرمان ورولاند، غير أن حب الشيوخ لا يزول من نفوسهم مهما تعاقبت عليه الأيام وحالت في سبيله العقبات.
وحكاية هذا الرجل أنه بعد أن فشل في اغتصاب سريز خرج مع أندريا ثم انقطعت أخباره، ولم يعلم منها شيء. وبعد أن مضى على اختفائه سنة كاملة ورد إلى صهره فرناند روشي كتاب من أحد مستشفيات المجاذيب، أخبر فيه أن حماه يقيم في هذا المستشفى خارج باريس منذ عهد طويل لإصابته بالجنون، وأن الداء قد خفت وطأته في هذه الأيام فتمكنوا من معرفة اسمه، وأرسل فرناند في الحال من أتى به إلى باريس وأقام في منزله مع ابنته، فزالت عنه أعراض الجنون، ولم تكن تعود إليه إلا حين تذكر أمامه كلمة سريز، ولكن جنونه كان لطيفا هادئا يميل به إلى الهزل المقبول والنكات المضحكة، بحيث لم يكن يمنعه عن زيارة الأسرات.
وقد لقيه أندريا في تلك الليلة فعرفه بنفسه؛ لأنه لم يستطع أن يعرفه لتخفيه، وعاد معه إلى حديث سريز ومشروع انتقاله الجديد، وزخرف له القول حتى أقنعه أن سريز باتت في قبضته، فطار فؤاد بيرابو من الفرح، وقبض على أندريا بيد من حديد، وبات طوعا له في كل ما يريد، وكان آخر ما ختم به الحديث معه أنه سيعرفه بالكونت مايلي، وطلب إليه أن يعرفه بابنته هرمين، فرضي بذلك هذا الشيخ شاكرا وهو مستعد لتضحية كل عزيز في سبيل تحقيق أمنيته بسريز، وعند ذلك أخذه أندريا وسار به إلى الكونت مايلي حفيد الدوق، وعرف كل منهما بالآخر وأخبر الكونت سرا أن بيرابو قدمه إلى ابنته هرمين، ثم غادرهما وعاد إلى روكامبول وأخبره بجميع ما صنع، وأنه ترك فرناند يبحث عن شاهد قال: أنا شاهدك، فامض بنا واحذر أن تنسى ما علمتك إياه، ولا تصبه إلا في المكان الذي أخبرتك عنه دون أن تقتله، فإني أريد أن أبلغ منه الآن ما هو أشد من القتل. - سيكون ما تريد. وذهب الاثنان لمقابلة فرناند ولقياه في انتظارهما! وقد كان فرناند بعد أن لقي شاهده أخبر امرأته أنه ذاهب لمشروع خيري لا سبيل إلى تأجيله، وطلب إليها أن تعود مع أبيها عند انتهاء الحفلة، ولما عاد روكامبول بشاهده خرج الجميع من القصر دون أن ينتبه لهم أحد.
أما الكونت مايلي فإنه تعرف على هرمين ورقص معها تلك الليلة، وفيما هو ينتقل من مكان آخر في تلك الغرفة الواسعة، لقي الأرملة مالاسيس وهي تتأهب للخروج مع الدوق، فابتسمت له مكرهة وقالت: لقد رأيتك مع الشيخ بيرابو، فهل راقت لك عشرته؟ وهل هو مجنون كما يقولون؟ - كلا، بل إنه قد يكون أوفر منك عقلا. - أصحيح ما تقول؟ - نعم، وفوق ذلك فإنه يقص حكايات غريبة. - قل لي شيئا منها. - إنها حكايات طويلة ما شاقني منها غير حكاية واحدة، وهي قصة شيخ شريف يحاول أن يتزوج بامرأة خادعة وأن يحرم أسرته من إرثه، ثم انحنى أمامها وابتسم لها ابتسام الهازئ وانصرف.
فاصفر وجه الأرملة من الغضب والحقد، ثم التفتت فرأت الدوق قادما إليها، فنظرت إلى حفيده الكونت وضحكت ضحك الواثقة من الفوز وهي تقول: الأيام بيننا يا كونت، وسنرى لمن يكون الإرث.
11
ثم خرجت شامخة الأنف وقد تأبطت ذراع عاشقها الدوق حتى بلغت إلى موقف مركبتها، فصعدت إليها وقالت للدوق بلهجة حنان شغفت لبه: ألا تصعد معي!
ناپیژندل شوی مخ