أما العدو فهو الذي يعيش خارج أمة معينة، ولا يعترف بسلطتها بوصفه حليفا لها، أو واحدا من رعاياه، ولا تنشأ العداوة للدولة من الشعور بالكراهية بل من وضع قانون الدولة ضده، فللدولة، إزاء من لا يعترف بسلطتها التي أقامتها بأي نوع من العقد، الحق نفسه الذي لها إزاء من يلحق بها الضرر، فلها الحق إذن في أن ترغمه على إطاعتها أو التحالف معها بكل ما لديها من وسائل.
أما جريمة الطعن في السيادة فلا يقترفها إلا الرعايا أو المواطنون الذين فوضوا كل حقهم إلى الدولة بناء على عقد ضمني أو صريح، ويقال عن أحد أفراد الرعية إنه اقترف هذه الجريمة عندما يحاول لسبب ما سلب السلطة العليا حقها أو نقله إلى شخص آخر. أقول «عندما يحاول» لأنه لو وقعت الإدانة بعد ارتكاب الجريمة، لجاء تدخل الدولة في معظم الأحيان بعد فوات الأوان؛ إذ يكون حقها في السيادة قد اغتصب أو نقل إلى شخص آخر بالفعل. وأقول بصيغة مطلقة: «من يحاول لسبب ما سلب السلطة العليا حقها في السيادة.» إذ إنه سواء نتج عن ذلك إلحاق الضرر بالدولة أو على العكس ازدهارها ازدهارا عظيما، فإن الأمر لا يتغير على الإطلاق، فأيا كان سبب محاولة ارتكاب الجريمة، فهناك طعن في السيادة، ويقع المذنب تحت طائلة القانون. إن الجميع يسلمون بأن هذه الإدانة لها ما يبررها في زمن الحرب؛ فإذا ترك جندي موقعه وهاجم العدو دون أمر من قائده، فإنه مهما كانت خطته في الهجوم محكمة وحتى لو أجبر الأعداء على الفرار، فلا يشك أحد في أنه يتعرض للحكم عليه بالإعدام، لأنه أخل بقسم الطاعة وحق قائده. ولكن، في مقابل ذلك، لا يدرك الناس جميعا، هذا القدر نفسه من الوضوح، أن هذا الحق ملزم للمواطنين جميعا، على نحو مطلق، في كل الأحوال، على أن المبدأ مع ذلك واحد؛ ذلك لأنه، لما كان من الواجب أن تكون السلطة العليا وحدها هي الحافظة والحاكمة للدولة، ولما كان الرعايا أو المواطنون قد فوضوا للحاكم وحده هذا الحق بناء على عقد يلتزمون به التزاما مطلقا، فلو أخذ أحد الأفراد على عاتقه، من تلقاء نفسه، ودون علم من الجمعية العليا
17
تصريف أمر عام، فإنه، حتى لو نتج عن ذلك ازدهار فعلي للدولة، يكون قد انتهك حق السلطة العليا وطعن في السيادة وحقت إدانته.
ومنعا لأي تردد بقي لنا أن نرد على اعتراض قد يوجه ضد الرأي الذي قلناه من قبل، وهو الفرد المحروم من ملكة العقل يعيش على حالة الطبيعة، ويسير طبقا لقوانين الشهوة بناء على حق الطبيعة المطلق. ألا يعارض ذلك القانون الإلهي الموحى به معارضة صريحة؟ الحق أنه لما كان ينبغي علينا جميعا بلا استثناء (سواء أكانت لدينا القدرة على استخدام العقل أم لا) أن نحب جارنا كما نحب أنفسنا تنفيذا لأوامر الله فإننا لا نستطيع إلحاق الضرر بالآخرين، كما لا نستطيع العيش وفقا لقوانين الشهوة دون انتهاك للقانون، ولكن من السهل الرد على هذا الاعتراض إذا تأملنا قليلا حالة الطبيعة، لأنها سابقة على الدين بطبيعتها ومن حيث الزمان. إن الطبيعة لم تعلم أحدا
18 ⋆
مطلقا طاعة الله ولا يمكن معرفة ذلك بالاستدلال
19
بل بالوحي المدعوم بالآيات. ومن ثم فقبل الوحي لا يمكن أن يلتزم أحد بالقانون الإلهي، الذي هو جاهل به بالضرورة فيجب إذن ألا نخلط بين حالة الدين وحالة الطبيعة التي يجب أن نعدها حالة لا شأن لها بالدين والقانون. وبالتالي لا شأن لها بالخطيئة وانتهاك القانون، وهذا ما برهنا عليه من قبل مستشهدين ببولس. وفضلا عن ذلك فليس الجهل وحده هو السبب في اعتبار حالة الطبيعة سابقة على القانون الإلهي الموحى به ولا شأن لها بالقانون، بل إن هذا يرجع أيضا إلى الحرية الأصلية التي يولد بها جميع البشر، فلو كان البشر ملتزمين بطبيعتهم بالقانون الإلهي أو لو كان القانون الإلهي قانونا بالطبيعة لما كان هناك داع لأن يعقد الله معهم عهدا أو أن يلزمهم بميثاق وبقسم. فيجب إذن أن نسلم دون أي شك بأن القانون الإلهي يبدأ في اللحظة نفسها التي وعد فيها الناس، في عهد صريح بطاعة الله في كل شيء. وبهذا العهد يمكن القول بأنهم تخلوا عن حريتهم الطبيعية وفوضوا حقهم لله، كما يحدث في حالة المجتمع التي أوضحناها من قبل (وسأسهب في هذا الموضوع فيما بعد).
20
ناپیژندل شوی مخ