114

لقيته بمكتبه وهو مدير لدار الكتب لتجديد رخصة الاستعارة، وقدم زميله العالم الجغرافي «رأفت بك» مدير المتحف العربي التابع لدار الكتب في بناء واحد. فحيا تحية مقتضبة يلوح عليها شيء كثير من الامتعاض والابتئاس، والتفت إليه الأستاذ «لطفي» يسأله: كيف حال متحفك وآثارك يا «رأفت بك»؟ قال «رأفت بك» ولم يفارقه امتعاضه وابتئاسه: إنها أثر بعد عين، شباب هذا العصر لا يحفلون بماض لا وحاضر، لا يقرءون، لا يدرسون، افتقدهم في متحف آثار أو معرض فنون، فلا تجدهم ولا تسمع خبرا عنهم، ولكنهم موجودون ليلا ونهارا بين المراقص، والقهوات، والبارات، زفت وقطران، زفت وقطران. ألا يسمع هؤلاء الشبان بأحوال أندادهم في البلاد الأوروبية؟ ألا يسمعون بأندادهم من الأوروبيين في بلادنا؟ ألا يعرفون المفازة والغابات ومصاعد الجبال التي ينطلق إليها الشباب يستجلون فيها جمال الطبيعة وينشدون فيها صحة الجسد والذوق؟

فنظر إليه الأستاذ «لطفي» مليا، وقال له معاتبا في لهجة لا تخلو من التأنيب اللطيف: الله، ومالك منفعلا ثائرا هكذا يا سيدنا البك؟

فهدأ «رأفت بك» ثم قال بصوت كصوت الصدى يحاكيه في لهجته: عفوا يا سيدنا البك.

قال الأستاذ «لطفي»: يغضبني ذلك أكثر مما يغضبك، ولكن الحق على من في هذه التقاليد الرثة؟ أرأيت هناك شابا يخرج إلى المفازة والغابات وحده؟ ألا يخرج الفتى ومعه الفتاة أو تخرج الفتاة ومعها الفتى؟ ألا يعرفون الحب بينهم قبل أن يعرفوا حب الجمال في السهول والجبال؟

وشاركت الأستاذين في الحديث قائلا: وهل يبتعد الفتيان عندنا عن البنات حيث يذهبون إلى المراقص والبارات؟

قال الأستاذ «لطفي»: وماذا يصنعون؟ إنهم يسرقون الحرية في المرقص والبار، وإن نصيبهم من الحرية المشروعة لا يزيد عن نصيب الفتيات في الخدور.

وهنا نلتقي «بالجنتلمان» الديمقراطي في مجلسه وفي تفكيره، إنه لم يستطع أن يجيز لزميله ذلك «الانفعال» الممنوع في قانون «الإتكيت»، ولم ينتصر للثورة على التقاليد الرثة إلا لأنه ينتصر لتقاليد أخرى لا تزال في ثوبها القشيب. ولكنها، على أية حال، تقاليد لها شفاعة من «قانون» التقدم المتفق عليه. وقد ظل الفيلسوف السري على إيمان بهذا التقدم المتفق عليه حتى نهاية حياته، وحتى بعد تعديل ذلك القانون بقانون آخر ينسخ منه مادة مرفوضة كلما أقر منه مادة مقبولة ، وهو قانون التطور الذي لا يقول بالتقدم المطلق المطرد في كل سبيل، ولا يستلزم أن يكون كل حديث في عصرنا أصلح من كل قديم في ماضي العصور، وبخاصة في مسائل الأخلاق والآداب.

وكلما أباح فيلسوفنا لنفسه أن يمضي مع «ابن حزم» في شجاعة الرأي ومخالفة الإجماع، عاد إلى رأيه المخالف، فلم يتقبله إلا لأنه قانون الغد المتفق عليه سلفا، لو سارت الأمور حيثما ينبغي أن تسير. وقد قال في ذلك من نصائحه للشباب: «كل ما تفكر فيه أو تلفظه أو تفعله، انظر هل ترضى أن يكون قانونا للعالم أولا، فإن رضيت فافعله في غير خوف، وإن لم ترض فلا تفعله أبدا.» •••

وقد رأيت «أحمد لطفي السيد» مديرا للجريدة ومديرا لدار الكتب ومديرا للجامعة وعضوا بمجلس الشيوخ ووزيرا ورئيسا للمجمع اللغوي ورئيسا للجمعية الخيرية، فلم تحجب عني خصلة من خصلتيه في وظيفة من هذه الوظائف الملاحقة، وهما السمت الوجيه والديمقراطية الصادقة، وكانت «ديمقراطيته» أجمل ما تكون في مجال الرأي ومباحث التفكير، وقد شهدناه نحو عشرين سنة في هذا المجال، بعد أن عملنا منه عضوا بمجمع اللغة العربية، ثم رئيسا للمجمع بانتخاب أعضائه، فكان أقدر رئيس عرفناه في مجمع من مجامع البحث العلمي؛ دانت له ديمقراطيته بغير كلفة، ودان لها زملاؤه احتراما لحق الحرية الفكرية، واحتراما لرئاسته الأبوية، تلك الرئاسة التي كان لها سند من العطف المتبادل أقوى من أسناد المراسم والتقاليد.

وكان - رحمه الله - يشترك في المناقشة ويورد الشواهد في أثنائها من محفوظاته الكثيرة، وأولها القرآن الكريم، وفي جملتها قصائد الشعراء الأقدمين من الجاهليين والمخضرمين والأمويين والعباسيين، وربما حفظ للمحدثين كما يحفظ للأقدمين، ولكنه يقصر شواهده في مقام الاحتجاج بالسند المقبول، على الأولين دون الآخرين.

ناپیژندل شوی مخ