وكان «ابن حزم» يقول: «من حقق النظر وراض نفسه على السكون إلى الحقائق، وإن آلمتها لأول صدمة، كان اغتباطه بذم الناس إياه أشد وأكبر من مدحهم إياه.»
وقد وضع هذا الشعار تحت عنوان «الجريدة» منذ صدورها في شهر مارس سنة 1907 إلى احتجابها بعد ذلك بنحو ثماني سنوات؛ لأنه كان في طوال هذه المدة يعلم أن معارضيه بالرأي أضعاف مؤيديه، وكان أنصار الأحزاب من القائلين بالسيادة العثمانية والمشايعين للحاشية الخديوية والجانحين من الطرف الآخر إلى مشايعة السلطة الفعلية أو مشايعة الاحتلال، كل أولئك الأنصار كانوا أضعاف أنصاره في حزب الأمة، وقد فارقه شطر كبير من هؤلاء الأنصار في منتصف الطريق، وجنحوا إلى ناحية القصر احتجاجا على ما سموه «استبداد محرر الجريدة بسياستها»، وفيها ما فيها من مناصبة الأمير.
وهذا الديمقراطي الذي أباح للقلة أن تعلن رأيها في غير مداراة ولا مواربة، هو هو الديمقراطي، الذي يسلم للكثرة بحقها عند مفترق الطريق، وعند مفترق الطريق هذا سلم للكثرة من أعضاء اللجنة السياسية بما قررته في المفاوضات التي أجرتها وزارة «أحمد ماهر»، وهو على رأي في تلك المفاوضات غير ما تراه.
ولقد هنأني في الصباح الباكر على مقال كتبته بالأهرام مؤيدا فيه خطة الوزارة «الماهرية»، فلما وافق اللجنة أخيرا على قرارها، سألته في ذلك ونحن عائدان في سيارته من المجمع إلى مصر الجديدة، فقال: «إذا كانت كثرة اللجنة وكثرة أهل البلد على هذا القرار؛ فالكثرة لها حكمها الذي لا حيلة لنا فيه.»
وذكرته يومئذ - مازحا - بمخالفته للزعيم «سعد زغلول» بعد مفاوضات «لورد ملنر»، فقال: «بل هذا - أيها الأخ - من ذاك؛ فقد خالفت سعدا، ولكني لم أخالف كثرة الوفد في النهاية.»
على أن المبالاة بالعرف الغالب لم تكن شيئا هينا في تقديرات هذا السري الفيلسوف؛ فقد كان يولي ذلك العرف فوق حقه من المبالاة، إلى جانب تقديراته الفكرية أو تقديراته المنطقية، فلم تزل رعايته للفكر مع المراسم والتقاليد أرجح عنده من هذه الرعاية له إلى غير الجانب الموافق لتلك المراسم والتقاليد.
وليس من التناقض أن يكون «لطفي السيد» الفيلسوف كذلك، وهو الثائر على الجمود والرجعية بلا مراء، فإنه في ثورته يقف إلى جانب مجتمع كبير، ولا يقف إلى جانب الشذوذ والانفراد، وإنما كان إيمانه بمبادئ الحرية على قواعد الثورة الفرنسية إيمانا أيده مع الزمن أضعاف من خالفوه. •••
لقد كانت لهذا الثائر تقاليده التي يثور عليها ويعلن الحرب على أنصارها.
ولكنه لم يكن يحاربها إلا من أجل تقاليد أخرى يسالمها ويقرها ويعمل على إقرارها.
وإنما كان يفضل بعضها على بعض بشفاعة الواقع، أو بشفاعة «قانون» التقدم، كما آمن به الثائرون العلميون في إبان القرن الماضي، وثبتت عليه بقيتهم إلى هذه الأيام من القرن العشرين. •••
ناپیژندل شوی مخ