262

قلت إن الأخلاق مزايا راسخة في النفس تظهر في مظاهر شتى لغاية أولية هي إرضاء النفس واطمئنانها، كالاستسلام إلى الأقدار مثلا عند الشرقيين، أو السعي في مناهضتها عند الغربيين، أو الهرب منها عند السوريين. لننظر الآن في أصول الأخلاق وعوامل التربية فيها، إذا أجلنا الطرف في عالم الحيوان رأينا فيه أمثلة من العمل والصناعة ورقي الحواس قلما نشاهد مثلها في الإنسان.

ولكننا لا نرى فيها عامل الرقي حيا ثابتا دائما، فالنمل مثلا لم يرتق في عمله منذ مدحه سليمان الحكيم - كأنه مثل الإنسان يضر به الإطراء - ولا النحل ارتقى في صناعة العسل ولا البلبل في فن الإنشاد، ومهما بالغ الإنسان في تربيتها تظل الغريزة فيها واحدة، وتبقى قواها محدودة، وفي الإنسان شيء أدبي روحي ثابت لا تؤثر فيه الحوادث والأشياء.

الإنسان مدني بالطبع وسيبقى مدنيا، وفيه فطرة خير لا يضعفها نكد الدنيا ولا يزيلها البؤس والاستعباد، وفيه عاطفة الحب حية أبدية، وفيه نزعة إلى المجد والعلى هي إكليل أهوائه العالية كلها، وفيه مزية سامية إلهية تحبب إليه ما هو ثابت دائم أزلي، فيعجب من مظاهرها في النمل والنحل والطيور، ويأخذه الخشوع والتهيب عند ما يشاهده منها في نظام الكواكب والأفلاك، وعندي أن هاته الخاصية البشرية الإلهية التي تتساوى أصلا في الناس، البدو منهم والحضر، وتتفاوت فرعا، إنما هي المصدر الخفي لما ينشأ فينا من الأخلاق فتتباين وتتفاضل عملا بسنة الألفة والانفراد.

فخلق النساك هو واحد، في الهند وفي جبل آثوس، لا يتغير، والوفاء في الكلاب لا يظهر إلا في مرافقتها الإنسان، وأخلاق البدو من العرب كانوا أو من زنوج أميركا هي واحدة. وما يصح في البدو يصح في القبيلة، وما يقال في الرجل المتمدن يقال في الأمم المتمدنة، أي: أنها لا تفضل بعضها بعضا أدبا وأخلاقا، ولكنها تختلف في ذلك اختلاف عاداتها وتقاليدها وشرائعها.

حرية الإفرنسي الجمهوري مثلا لا تفوق حرية الإنكليزي الملكي، وليست أخلاق الإنكليز بأفضل من أخلاق الفرنسيس، بل الأمتان تستويان في الفطرة البشرية السامية كما تستوي أفرادهما ولا تختلفان إلا ظاهرا وعرضا كما تختلف الطيور في ريشها ولونها وكما تختلف في شكلها أوراق الأشجار - لا يفوتنكم أن موضوعي الأخلاق لا الطباع - أما النزعة الشديدة إلى العلم، والطموح وإلى المآثر العالية، والصبو إلى استطلاع ما وراء الأشياء، إلى اكتشاف أسرار الطبيعة ليستخدم ما فيها من القوى الكامنة في سبيل الرقي والعمران - رقي الإنسان وعمران البلاد - فهذه كلها من المزايا الراسخة اليوم في روح المدنية الجديدة.

ولا فضل لأمة على أخرى إلا بما أحرزته من جسيم الأمور في مضمار الفكر والبحث والعمل، بما أكسبها نوابغها من مجد في سبيل الإنسانية ومفخرة. وهذه السجايا الشريفة في الأمم إنما هي نتيجة الأخلاق السامية في أفرادها العاملين، وهي السبب أيضا في ما قد يكون أسمى منها في أبنائها الآتين.

يقال: إن الإنسان ابن الأحوال أسير الحوادث، خاضع لأحكام الزمان مقود بزمام القضاء، وقد يكون الحيوان وما في البشر من الحيوان كذلك، أما الإنسان - وفي كل جماعة وكل أمة تجده - فهو فوق الأحوال والجموع والحوادث، وهو في الأحايين يتغلب على القضاء، فيكتشف بلادا جديدة، ويغير خريطة العالم، ويذلل العناصر، ويسوق إلى غرضه سنن الأكوان ويهدم الهياكل ويؤسس الأديان، يزعزع الممالك ويبيدها وينفخ في الأمم المائتة روح الحياة. الإنسان حر في إرادته وعمله وفكره مهيمن على نفسه، مالك زمام الحوادث التي ترفع به إلى ما فوق اصطلاحات الجموع وأحكام الناس. ولو لم يكن كذلك لكان اعتقادنا بالله باطلا، ولو لم يكن كذلك لكانت أخلاق البشر كغرائز الحيوان، لا يعمل بها ناموس النشوء الحي، ولا تؤثر فيها عوامل الارتقاء الثابتة.

يقال: إن سر السعادة هو في تكييف أميالنا لتوافق الأحوال التي نحن فيها لا في تكييف الأحوال لتكون لنا سلما إلى تشوقاتنا البعيدة وآمالنا العالية. وقد يكون هذا سر النجاح في التجارة وفي السياسة لا سر السعادة، وقد يوافق الصيرفي والإسكاف والبقال، ولكن الإنسان المدرك ما فيه من قوى الأكوان الكامنة الناظر إلى اليد العلوية التي ترصع الأفلاك بالنجوم، وتخط فيها الأسرار، وتنصب منها للنفس البشرية محجة أنوارها لا تنطفئ، الإنسان الذي لا يعيش ليومه ولنفسه، يرى أن عليه أن يسعى أبدا سرمدا في ترويض عقله للفكر، وإرادته للعمل، وشعوره لما رق ودق في الحياة. علينا أن نجاهد في سبيل العلم الذي هو أساس ملك الإنسان في الدنيا وفي الآخرة.

هذه الأرض موطئ قدمي الله وموطئ قدمي الإنسان، ما فيها ينبغي أن يكون طوع إرادته، خاضعا لفكره، عاملا بمشيئته، البخار والكهرباء والأثير درجات في الفكر والاكتشاف تؤدي إلى درجات في سماء النفس فوقها. من كان ليحلم في الماضي أن قوة كامنة في الفضاء يتمكن الإنسان من تسخيرها لتحمل أنباءه من أربعة أقطار العالم بعضها إلى بعض، التلغراف اللاسلكي اليوم، والتلفون اللاسلكي غدا، وبعد غد إن شاء الله نخاطب بعضنا بعضا بواسطة النفس التي هي آلة الفكر الكهربائية، أتقول: إن هذه أضغاث أحلام؟ ولكن أحلام السلف وأوهامهم هي اليوم حقائق راهنة.

أجل سادتي، إن هذه الأرض وهي ذرة في فضاء الأكوان بما فيها من قوات ظاهرة وكامنة، وبما فوقها وحولها من العجائب والأسرار، إنما هي موضوع مساعي الإنسان الفكرية والسياسية والاجتماعية والدينية، «إن الوجود لسر مكشوف» كما قال الشاعر الألماني الشهير، ولا يرى منه ويدرك - على ما أظن - غير ما نستطيع استخدامه والانتفاع به، وما يرى ويدرك لا يذلله غير العقل، ولا يعمل العقل إلا حرا مشجعا، ولولا هذه الحرية وهذا الإقبال على العلم في البلاد العامرة الراقية لما اتصلنا إلى ربع ما نحن فيه ممتعون من ثمار العلوم والصناعات، وإن حب العلم وتشجيع العاملين به لمن ثمار الأخلاق الشريفة السامية.

ناپیژندل شوی مخ