أما المتطرفون من علماء النفس وعلماء المادة فعلى غير هذا الرأي، على أنه لا ينكر أن مزايا النفس في بعض أحوالها كالكهرباء لا تعرف إلا بمظاهرها؛ ففي الخلق العظيم المجيد شيء من طبع البربري وأشياء من سجية النبي الإلهية، وأما الخلق العظيم عند السالكين - أي: الإعراض عن العالم والإقبال على الله تعالى بالكلية - فتلك مسألة أخرى أجيء بعدئذ على ذكرها.
ولهذه المزايا النفسية علم هو علم الأخلاق أو علم السلوك ألف علماؤنا فيه مجلدات قلت فائدتها - على كثرتها - وقد تستغربون قولي إن في علم الأخلاق عندنا ما يفسد الأخلاق السليمة السامية، كان العرب في صدر الإسلام وفي الجاهلية يقومون المعوج في أميرهم بحد السيف، كانوا يقولون للظالم المستبد من أسيادهم: إما أن تعدل وإما أن تعتزل، ويعملون بما يقولون، فجاء بعدئذ من علموا علم الأخلاق بمقتضى الحكمة العلمية فقالوا: «ادفع إليهم ما طلبوا من الظلم ولا تنازعهم فيه وكف لسانك عن سبهم.» و«لا تجعل سلاحك على من ظلمك الدعاء عليه ولكن الثقة بالله.» وقال مالك بن دينار - والكلام منسوب إلى الله: «لا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك ولكن توبوا إلي أعطفهم عليكم.» وقيل أيضا - والكلام منسوب إلى نبي الإسلام: «سيروا على سير أضعفتكم.» وكثيرة في كتبنا العربية أمثال هذه الحكمة العملية التي قلما تراعى الحقيقة فيها، وضعت لتقييد المظلوم وأنزلت لتأييد الظالم، فأفسدت أخلاق الاثنين.
أما الحكمة الخلقية فبينها وبين الحكمة العلمية تفاوت عظيم وفي تراجم النوابغ من رجال التاريخ مثال حي لهذا التفاوت، خذ أيا منهم «يوليوس» القيصر أو نبي العرب أو «لوثيروس» أو «كرامويل» أو «نابوليون الأول»، نوابغ السيف والروح والقلم نوابغ الملك والدين، كل خطير النفس، رفيع الأهواء، بعيد الهمة، كانت شرعته الحكمة الفطرية في ما ناله من جسيم الأمور إلى أن صار سيدا في الناس ورب ملك في العالم. فوارس من فوارس السماء أوقدوا في الناس مشعال الحرية والحقيقة فملئوا البلاد نورا ظنوه نورهم، فرفعوا أنفسهم إلى مقام الآلهة، واتخذوا الحكمة العملية سيفا لتعزيز شئونهم وتنفيذ مآربهم، وفي الشرق حتى اليوم ملوك وأمراء، لا يستحقون أن يكونوا عبيدا لأولئك النوابغ الأبطال، يرفعون أنفسهم إلى مقام الآلهة ويكلفون الناس التبخير والسجود.
ومن شر البرية رب ملك
يريد رعية أن يسجدوا له
الأخلاق قوى كامنة في النفس تؤثر فيها الحوادث والأشياء فتظهر عفوا لغرض أولي هو ارتياح النفس واطمئنانها، ولا يطمح صاحبها - بادئ بدء - إلى معالي المجد أو الشهرة أو الغنى أو السيادة. خذ الغربي الراقي في أمة فسدت حكومتها، فهو يناهضها في الدرجة الأولى طوعا لحكم ضميره فتطمئن نفسه، ورغبة بإصلاحها ثانيا فتصان حقوقه، وإذا تتبع عمله أصابه في الدرجة الثالثة منه بعض النفع والفائدة، فيغره إذ ذاك الكسب وتستهويه السيادة فيصبح وا أسفاه! سياسيا شرعته الحكمة العملية.
أما الشرقي في مثل حاله فقد يتمثل بأقوال الحكماء التي ذكرت شيئا منها ويستعيذ من الظالم بالله. إذا وقف الغربي عند الدرجة الثانية من عمله كان عمله شريفا مجيدا، وإذا تعداها كان عمله مشوبا مشينا، وفي كلا الحالين يظل أحسن من أن «ندفع إليهم ما طلبوا من الظلم ولا ننازعهم فيه» إن عظم الهمة، والجرأة الأدبية، ومناهضة الظلم والظالمين، لأخلاق غربية، وإن التصون والتقية والاستسلام إلى الأقدار لأخلاق شرقية ...
نشكو الزمان وما أتى بجناية
ولو استطاع تكلما لشكانا
2
ناپیژندل شوی مخ