252

وأستكبر الأخبار قبل لقائها

فلما التقينا صغر الخبر الخبر

قد أحببت هذه المدينة وأحببت أهلها يوم لم أكن أعرف من وطني سوى اسمه، يوم كنت في الولايات المتحدة، وعندما عدت إلى سوريا كانت أول رغباتي أن أزورها فجئتها ماشيا من الفريكة ونسيت مشقة السفر ساعة أشرقت عليها من بين الكروم فتذكرت إذ ذاك ما كان يقوله أصحابي في نيويورك وقلت صدقوا والله، زحلة عروس مزينة! فإن منظر مدينتكم من أي من هذه المشارف حولها لمن أبهج المناظر التي شاهدتها في لبنان.

وقفت بين الكروم على تلك الربوة الجميلة وحييت المدينة التي هي مسقط رأس أعز أصدقائي في الغربة، وحييت فيها بواسق الحور الناطقة بلسان حال رجالها، وروافه الصفصاف الناطقة بلسان حال نسائها، ولجين البردوني الجاري في حياة أبنائها، وقفت متأملا هذه المدينة المختبئة بين الجبال كلؤلؤة بين الصخور، أو كزنبقة بين الأدغال ورددت قول الشاعر الإنكليزي:

كم زهرة وسط الآفاق عابقة

وحسنها غير منظور من البشر

ولكن شذا زحلة كشذا تحيات صديقي المعري في رسائله إذا مر في الصحراء عطر منها شواسع الأرجاء، شذا زحلة وفيه مزيج من البخور الذي كان يحرق بالأمس على مذبح الخرافى فصار يحرق اليوم على مذبح العلم كان يحرق بالأمس أمام أصحاب السيادة فصار يحرق اليوم أمام الشعب والوطن، كيف لا وفي مثل هذه الحفلات ينور عقل الأمة، ومنها ينبعث طيب التهذيب والعرفان. كيف لا وفي هذه الحفلة دليل واضح على أن كهنة الله الحقيقيين يخرجون من معسكر الجهل والاستبداد لينصروا أبناء النور على أسياد الظلمة.

تسرني بل تبهجني مظاهر الحياة الجديدة المتجسدة في نهضاتنا الوطنية ومساعينا الأدبية، ولكنني لا أستحسن تعدد المقاصد والمسالك فيها، فلو أن الجمعيات في البلاد عملت كلها شهرا واحدا فقط لغرض وطني واحد لكنا في أسابيع قليلة نصل على نتيجة لا توصلنا إليها السنون الطوال، لو فكرنا كلنا في وقت واحد في أمر واحد وعقدنا الأواصر عليه ووطنا النفس إلا نذره قبل أن نحل العقدة فيه أو نقطعها؛ لكنا نصل إلى شيء حسي جميل في مشاريعنا ومساعينا.

ولكن الذين يدينون بدين الله دون واسطة سماسرة الدين، ويجلون الحرية والوطن دون أن يقدسوا الأحزاب والجمعيات، لم يزل صوتهم متضعضعا وكلمتهم لم تزل متشتتة، ولا أقول إن عددهم قليل؛ لأن صوتهم لو كان واحدا وقلبهم واحدا، في ظل الأرز أو حول الشاغور، أو في وادي الفريكة، كما هو في زحلة لكانوا - على قلة عددهم - يأتون بما لا تستطيعه الأحزاب اللبنانية كلها من الأعمال الوطنية التي لا يشوبها التحيز الديني، ولا يفسدها التغرض السياسي أو الشخصي، نعم نحن في حاجة إلى جامعة لبنانية تهذيبية تؤسس في الجبل المدارس الوطنية الحرة، وتنير فيه المنابر الأدبية الحرة، نحن في حاجة إلى جامعة لبنانية من هذا الشكل تبعد عن المصلحين وإصلاحهم والمرقعين وترقيعهم، وتباشر تأسيس معاهد جديدة لحياتنا الاجتماعية الجديدة، المدارس الحرة والمنابر الحرة هي التي تشعل مصابيح العلم والتهذيب في الشبيبة وفي الشعب؛ لأن مثل هذه الحفلات هي - والحق يقال - مدارس الأمة العالية، مدارس الرجال والنساء.

لكني أرى أن الأمة لم تزل بعيدة عنها على ما في البلاد من الإقبال عليها، لم يزل بين المجموع العظيم الذي هو الشعب وبين صوتنا جدار هائل مظلم شيدته الأجيال وقدسته السيادة، ولم نزل إذا شرعنا نعمل عملا أدبيا كان أو سياسيا نباشره ونحن واقفون في ظل الجدار الشامخ فيتلاشى أمامه شيء كثير من قوانا. لذلك أرتئي أن نبعد قليلا قبل أن نرفع صوتنا؛ فيصل - إذ ذاك - صداه إلى ما وراء سد الجهل المنيع. ومعلوم أن في الحرب لا تطلق العساكر نارها على قلع العدو إلا من مسافة معلومة، لنخرج إذا من هذا الظل المهلك قبل أن نرفع صوتنا، والذين يقيمون هناك ويصيحون كمن يقف في سفح جبل صنين من جهة البحر وينادي من هناك الزحليين.

ناپیژندل شوی مخ