253

فمن لا يستطيع أن يصعد في الجبل إذا ليصل إلى ذروته عليه أن يدور حوله أن يبعد عنه، ثقوا يا أسيادي أن الصوت الذي يجب أن تسمعه الأمة عاجلا أو آجلا وتنقاد له إنما هو صوت من كانت حنجرته سليمة وصدره خاليا من جراثيم أمراض هذا الزمان، من حب الشهوة وحب السيادة وحب المال ومحبة الذات الخبيثة، أما المصدورون والمعتلة حناجرهم فكلما صيحوا دنا أجلهم، دعوهم إذا يصيحون وهم لتماثيلهم عاكفون، وفي الظلمة إلى حاجاتهم يحلجون، إن الله عالم بما يفعلون، دعوهم يصيحون ويحرجون ويحرفون ويحرمون، ولكنني أنصح لكم أن تخرجوا من مستنقعاتهم القتالة ومن ظل صداقتهم المهلكة، اخرجوا فإن الله مع الخارجين، صعدوا في جبال الحقيقة فإن الله مع المصعدين.

الكلمة المفيدة أحب إلينا أن تحفظوها دون أن تصفقوا لها استحسانا من أن تستحسنوها ضاجين وتنبذوها بعد ذلك غير مكترثين. الكلمة المفيدة وإن خرجت من فم الجمال ينبغي أن نزرعها في قلبنا لتثمر في أعمالنا، ولكننا لم نزل نطرب للقول ونحجم عن العمل.

كنا في الدور الماضي لا نسمع من الأمة سوى صدى التأوهات والأنين، فجاء الدستور ينشدنا شيئا من نشيد الوطن الذي لم ينظم كله بعد لينسينا آلامنا ويرينا بوارق آمالنا، ولكننا لم نزل في ما كنا عليه من الصخب والفوضى فلا نسمع من نشيد الوطنية إلا الوقفات المحزنة، والصيحات المزعجة، وبدل أن نقف قليلا ونسكت لنسمع ونستفيد، لنفكر في ما نحن فيه وفي ما نحن إليه سائرون، لم يزل كل منا يغني على ليلاه ويستر برقعة من ثوب الحرية عراه.

نعم ترانا نمزق ثوب الوطن لنرقع ثوب الأحزاب، نمزق ثوب الحقيقة لنرفع ثوب الدين، ومهما تعددت مساعينا الوطنية ومشاريع حكومتنا الإصلاحية فإن هي إلا من باب الترقيع والتجبير، لنرقع نظام لبنان، لنجبر رجل لبنان، لنصلح مدارس لبنان. وربي صرت أكره لفظة الإصلاح بقدر ما كنت أرددها في الماضي؛ ذلك لأنني أكره الترقيع في الأمور، وأصبحت أعتقد أن القديم البالي الذي لا يمكن نبذه - إن كان في الرجال أو في المبادئ - لا يمكن إصلاحه. نظام لبنان، اطبخوا لنا على ناره طبخة من العدس فنشكركم، رجل لبنان المكسورة، اقطعوها قبل أن ينخر السوس في كل العظام، رجل من خشب خير منها، مدارس لبنان أقفلوها فتصلحوها، خير للشعب أن يبقى أميا من أن يسقى من الجهل والذلة والتدين ما يكفي ليقتل أعظم أمة في العالم.

الذي لا يمكن نبذه في مثل حالنا لا يمكن إصلاحه، والعكس بالعكس، فكروا قليلا في هذه الحقيقة؛ فإنها تنطبق على أمور وشئون كثيرة في الحياة. إن كلفنا الزائد في الأشياء يجعلنا عبيدا لها، ومهما صار من أمر فسادها وإفسادها لا نستطيع نبذها ولا إصلاحها، وإن انقيادها الأعمى للرجال لا يمكننا من نبذهم عندما نشعر بضرهم، ولكن إذا هم عرفوا أننا قادرون على ذلك إن لم يعدلوا ويستقيموا، فلا تشغلنا بعدئذ مسألة إصلاحهم.

وبكلمة أخرى: خادم في بيتك إذا كنت لا تستطيع طرده عندما يستحق الطرد فلا تستطيع إصلاحه عندما يتهامل في واجباته، كنيستك التي هي بيت الله إذا كنت لا تقدر أن تستغني عنها عندما تصير بيت باعال فلا تستطيع إصلاحها. ابنك الضال إذا استأنس منك ضعفا في واجباتك الأبوية يستبد في أمره ويستمر في غيه. فكم بالحري كاهنك أو حاكمك أو شيخك أو أميرك أو معلم مدرستك، القوة الاحتياطية إذا إن كان في الأمور المالية أو الأمور الأدبية والاجتماعية؛ هي ألزم من القوة المستخدمة، فهي التي تحفظ استقلالنا وشرفنا، وتعزز حرية عقلنا ونفسنا، تجاه من هم فوقنا ومن هم دوننا.

أما الترقيع في الأمور فهو عين الكذب والخداع؛ إذ نكذب بالرقعة على أنفسنا ونخدع بها الناس، وعندي أن ثوبا باليا خير من ثوب مرقع، وشحاذا من شحاذي أرمينيا خير من الشحاذين الذين يوهمون الناس أنهم من المحسنين؛ لأن الأول صادق في ظاهره وباطنه والثاني كاذب في الاثنين، الأول تعرفه إذ تراه والثاني يخدعك وجهه وقفاه، ولكنك لا تستطيع أن تخدع الناس إلى الأبد أيها الشحاذ المحسن، غدا ينكشف أمرك، فينكرك المحسنون الحقيقيون، وينكرك كذلك الشحاذون، أجل سادتي إن كان ثوبي مرقعا، أو عقيدتي مرقعة، لا بد أن تأتي ساعة أنسى فيها نفسي، فيزول انتباهي، فتبدو ذلتي.

من أسر على سريرة ألبسه الله رداءها، فهل تظن يا صديقي أنك تستطيع أن تستر ترقيع حبك إلى الأبد، أتظن أيها المحترم «المتجزوت» أن رقاع دينك تخفى على الله؟ أتظن يا صاحب السعادة والتجلة والكرامة أنك تستطيع أن تستر رقاع سياستك طول حياتك؟ ألا تظنون يا أسيادي أن النفس تشعر بهذا العار الذي نلحقه بها حبا بدنيانا، حبا بكل زائل تافه في الحياة، حبا بالمال أو بالشهرة أو بالسيادة أو بالوجاهة الفارغة؟ نعم إن ساعة يكشف الله فيها عما في ثوب نفسنا من رقاع الجبن والذل والكذب من رقاع التمويه والرياء والنفاق؛ لأشد الساعات ويلا، فنود لو كنا عراة من أن نقف في نور الحقيقة بأطمار مرقعة.

إن بليتنا يا أصحابي ليست من الإكليروس فقط بل من أصحاب الوجاهة فينا أيضا، من ذوات لبنان أصحاب التجلة والكرامة؛ فهم لا يتقدمون ولا يفسحون لغيرهم فيتقدم، هم لا يعملون عملا واحدا مجردا من أجل الوطن، ولا يدعون غيرهم أن يعمل مقدار ذرة. هم واقفون في وجه الشعب ولم يزالوا يفسدون في كرمه الجديد، لم يزالوا يتداخلون في شئون الحكومة، ويحاولون الضغط على المأمورين.

مشايخ القرى وقسوس القرى وأغنياء البلاد، احبسوا خمسة أو ستة منهم بدل أن تحبسوا المجرمين الصغار فتستحقون إذ ذاك شكر الأمة، أغنياء الجبل امنعوهم من التدخل في شئون الحكومة فنشعر حالا بتحسين في حالنا. يزول إذا ذاك الكابوس عن صدرنا، نتنفس إذ ذاك الصعداء. قد حان لنا أن نقلع عن الترقيع ونقدم ولو على عمل واحد كبير. وإذا كنا لا نستطيع نبذ أطمارنا المرقعة لننزع منها الرقاع على الأقل، دعونا نقف يوما واحدا أمام الله في حقيقة حالنا لا في حال التمويه والادعاء والوهم والخداع.

ناپیژندل شوی مخ