فودعنا صاحب الأسلحة، وخرجت أتلو الآية:
ويزيد الله الذين اهتدوا هدى . •••
ونكبنا عن السبل الفجاج، والغوغاء فيها والعجاج، فأدلجنا في أحياء دامسة، كسراديب الأطلال الدارسة، ليلها لا يدور وظلامها لا يغور، جاداتها أسنان منشار، وحوانيتها حفائر وأوجار، ولكنها بالنمارق مفروشة، وبالبضائع مصفوفة، وفيها التجار متربعون، يسبحون وينعسون، العطار قبالة العطار، مثل الدمى في خزف الأغيار، والبزاز تجاه البزاز، كأنهما وردتان من شيراز، إذا رغبوا في المصافحة، أو المكافحة، فما هي إلا أياد تمدد، وكلمات تردد، وأصحاب جلوس، لا كسب يقيمهم ولا فلوس، ولا حب ولا وقار، ولا ولي ولا نعار، ولا سيف ولا نار، كأنهم صبيان الجنان، تجارتهم سلام وأمان، فشكرت على ذا الاكتشاف العناية، وتلوت الآية:
ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين * لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجن .
فسمعني الأستاذ الرفيق ووقف شائلا بأنفه مبتسما ابتسام الإنكار والتحقير هامسا في أذني: ذئاب في جلود الحملان، ما خلتك تخدع بالسبح والتناعس.
ثم استأنفنا السير ساكتين، فاجتزنا سوق العطارين، فسوق البزازين، فمنعرج في سوق الخضر، فجادة البدو والحضر «وأنا الضارع، أتلو القوارع» فميدان ككفة الميزان، في وسطه بركة كالكشتبان، فجادة أخرى، وأخاديد تحت البيوت تترى، لست أدري الآن من أيها خرجت، وأيها دخلت، حتى وصلنا - والحمد لله كثيرا - إلى زاوية الأستاذ المباركة. فوقفنا في باب مكتبة هناك، لا كفر يدنسها ولا إشراك، يباع فيها المصحف والغزالي، والبردة والبيضاوي، صاحبها شيخ عبوس دميم، في جبة بيضاء كالريم، لحيته تندى بالخضاب، وأنفه صيوان بلا أطناب، عيناه نقطتان هزازتان، كأنهما زئبق في كشتبان، وأذنه صغيرة زباء، تبدو كالدواة من تحت عمامته البيضاء.
فألقى إليه الأستاذ السلام، ثم قال وهو يشير إلي: أتعرف من الرجل.
فأجاب الشيخ على الفور: إفرنجي كافر - ولا شك. - بل هو من المستشرقين.
فترجرج الزئبق في ناظريه إذ زلقني بهما، وخاطب الأستاذ قائلا: وماذا يريد؟ - يبحث عن الكتب الإسلامية. - لا أبيع، لا أبيع.
وعاد الشيخ إلى مجلسه غير حافل بالزائر الغريب.
ناپیژندل شوی مخ