رسائل الجاحظ
رسائل الجاحظ: وهي رسائل منتقاة من كتب للجاحظ لم تنشر قبل الآن
ژانرونه
ولولا اختلاف الأسباب لتنازعوا بلدة واحدة واسما واحدا وكنية واحدة؛ فقد صاروا - كما ترى - مع اختيار الأشياء المختلفة إلى الأسماء القبيحة والألقاب السمجة، والأسماء مبذولة والصناعات مباحة والمتاجر مطلقة ووجوه الطرق مخلاة، ولكنها مطلقة في الظاهر مقسمة في الباطن، وإن كانوا لا يشعرون بالذي دبره الحكيم من ذلك ولا بالمصلحة فيه. فسبحان من حبب إلى واحد أن يسمي ابنه محمدا وحبب إلى آخر أن يسميه شيطانا وحبب إلى آخر أن يسميه عبد الله وحبب إلى آخر أن يسميه حمارا؛ لأن الناس لو لم يخالف بين عللهم في اختيار الأسماء وجاز أن يجتمعوا على شيء واحد كان في ذلك بطلان العلامات وفساد المعاملات. وأنت إذا رأيت ألوانهم وشمائلهم واختلاف صورهم وسمعت لغاتهم ونغمهم علمت أن طبائعهم وعللهم المحجوبة الباطنة على حسب أمورهم الظاهرة. وبعض الناس وإن كانوا مسخرين للحياكة، فليس بمسخر للفسق والخيانة والأحكام والصدق والأمانة. وقد يسخر الملك لقوم بأسباب قديمة وأسباب حديثة فلا يزال ذلك الملك مقصورا عليهم ما دامت تلك الأسباب قائمة، فليس إذا كانوا للملك مسخرين وكان الناس لهم مسخرين بالجبرية والنخوة والفظاظة والقسوة ولطول الاحتجاب والاستتار وسوء اللقاء والتضييع. وقد يكون الإنسان مسخرا لأمر ومخيرا في آخر، ولولا الأمر والنهي لجاز التسخير في دقيق الأمور وجليلها وخفيها وظاهرها؛ لأن بني الإنسان إنما سخروا له إرادة العائدة عليهم ولم يسخروا للمعصية كما لم يسخروا للمفسدة. وقد تستوي الأسباب في مواضع وتتفاوت في مواضع. كل ذلك ليجمع الله تعالى لهم مصالح الدنيا ومراشد الدين. ألا ترى أن أمة قد اجتمعت على أن عيسى عليه السلام هو الله، وأمة قد اجتمعت على أنه ابن الله، وأمة اجتمعت على أن الآلهة ثلاثة عيسى أحدهم، ومنهم من يتذبذب، ومنهم من يتدهر، ومنهم من يتحول نسطوريا بعد أن كان يعقوبيا، ومنهم من أسلم بعد أن كان نصرانيا! ولست واجدا هذه الأمة مع اختلاف مذاهبها وكثرة تنقلها انتقلت مرة واختلفت مرة متعمدة أو ناسية في يوم واحد فجعلته وهو الجمعة يوم السبت، ولم تخطب في يوم جمعة بخطبة يوم خميس، ولا غلطت في كانون الأول فجعلته كانون الآخر، ولا بين الصوم والإفطار؛ لأن الباب الأول في باب الإمكان وتعديل الأسباب والامتحان، والباب الثاني داخل في باب الامتناع وتسخير النفوس وطرح الامتحان. وقد زعم ناس من الجهال ونفر من الشكاك - ممن يزعم أن الشك واجب في كل شيء إلا في العيان - أن أهل المنصورة وافوا مصلاهم يوم خميس على أنه يوم الجمعة في زمن منصوري، وأن أهل البحرين جلسوا عن مصلاهم يوم الجمعة على أنه يوم خميس في زمن أبي جعفر، فبعث إليهم وقومهم. وهذا لا يجوز ولا يمكن في أهل الأمصار ولا في العدد الكثير من أهل القرى؛ لأن الناس من بين صانع لا يأخذ أجرته ولا راحة له دون الجمعة، وبين تجار قد اعتادوا الدعة في الجمع والجلوس عن الأسواق، ومن بين معلم كتاب لا يصرف غلمانه إلا في الجمع، ومن بين معني بالجمع يتلاقى هناك مع المعارف والإخوان والجلساء، وبين معني بالجمع حرصا على الصلاة ورغبة في الثواب، ومن رجل عليه موعد ينتظره، ومن صيرفي يصرف ذلك اليوم سفاتجه وكتب أصحابه، ومن جندي فهو يعرف بذلك نوبته، وبعض كالسؤال والمساكين والقصاص الذين يمدون أعناقهم للجمعة انتظارا للصدقة والفائدة، في أمور كثيرة وأسباب مشهورة. ولو جاز ذلك في أهل البحرين والمنصورة لجاز ذلك على أهل البصرة والكوفة، ولو جاز ذلك في الأيام لكان في الشهور أجوز، ولو جاز ذلك في الشهور لكان في السنين أجوز ، وفي ذلك فساد الحج والصوم والصلاة والزكاة والأعياد. ولو كان ذلك جائزا لجاز أن يتفق الشعراء على قصيدة واحدة، والخطباء على خطبة واحدة، والكتاب على رسالة واحدة، بل جميع الناس على لفظة واحدة. وإنما نزلت لك حالات الناس وخبرتك عن طبائعهم وفسرت لك عللهم لتعلم أن العدد الكثير لا يتفقون على تخرص الخبر الواحد في المعنى الواحد في الزمن الواحد على غير التشاعر فيكون باطلا، وسأبين لك موضع اختلافهم واتفاقهم وأنه لم يخالف بينهم في بعض الوجوه إلا إرهاصا لمصلحتهم ولتصح أخبارهم. ألا ترى أن أحدا لم يبع قط سلعة بدرهم إلا وهو يرى أن ذلك الدرهم خير له من سلعته، ولم يشتر قط سلعة بدرهم إلا وهو يرى أن تلك السلعة خير له من درهمه، ولو كان صاحب السلعة يرى في سلعته ما يرى فيها صاحب الدرهم وكان صاحب الدرهم يرى في الدرهم ما يرى فيه صاحب السلعة ما اتفق بينهما شراء أبدا ولا بيع أبدا، وفي هذا جميع المفسدة وغاية الهلكة. فسبحان الذي حبب إلينا ما في أيدي غيرنا وحبب إلى غيرنا ما في أيدينا ليقع التبايع، وإذا وقع التبايع وقع الترابح، وإذا وقع الترابح وقع التعايش. ويدلك أيضا على اختلاف طبائعهم وأسبابهم أنك تجد الجماعة وبين أيديهم الفاكهة والرطب فلا تجد يدين تلتقيان على رطبة بعينها وكل واحد من الجميع يرى ما حواه الطبق غير أن شهوته وقعت على واحدة غير التي آثرها صاحبه، ولربما سبق الرجل إلى الواحدة وقد كان صاحبه يريدها في نفسه غير أن ذلك لا يكون إلا في الفرط، ولو كانت شهواتهم ودواعيهم تتفق على واحدة بعينها لكان في ذلك التمانع والتجاذب والمبادرة وسوء المخالطة والمؤاكلة. وكذلك هو في شهوة النساء والإماء والمراكب والكسا. وهذا كثير والعلم به قليل، وبأقل مما قلنا يعرف العاقل صواب مذهبنا، والله تعالى نسأل التوفيق. وهو الذي خالف بين طبائعهم وأسبابهم حتى لا يتفق على تخرص خبر واحد؛ لأن في اتفاق طبائعهم وأسبابهم في جهة الأخبار فساد أمورهم وقلة فوائدهم واعتبارهم، وفي فساد أخبارهم فساد متاجرهم والعلم بما غاب عن أبصارهم وبطلان المعرفة بأنبيائهم ورسلهم عليهم السلام ووعدهم ووعيدهم وأمرهم ونهيهم وزجرهم ورغبتهم وحدودهم وقصاصهم الذي هو حياتهم، والذي يعدل طبائعهم ويسوي أخلاقهم ويقوي أسبابهم والذي به يتمانعون من تواثب السباع وقلة احتراس البهائم وإضاعة الأعمار، وبه تكثر خواطرهم وتفكيرهم وتحسن معرفتهم.
ولم نقل إن العدد الكثير لا يجتمعون على الخبر الباطل كالتكذيب والتصديق، ونحن قد نجد اليهود والنصارى والمجوس والزنادقة والدهرية وعباد البددة يكذبون النبي
صلى الله عليه وسلم
وينكرون آياته وأعلامه، ويقولون لم يأت بشيء ولا بان بشيء. وإنما قلنا إن العدد الكثير لا يتفقون على نفي مثل إخبارهم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب التهامي الأبطحي عليه السلام خرج بمكة ودعا إلى كذا وأمر بكذا ونهى عن كذا وأباح كذا وجاء بهذا الكتاب الذي نقرؤه فوجب العمل بما فيه وأنه تحدى البلغاء والخطباء والشعراء بنظمه وتأليفه في المواضع الكثيرة والمحافل العظيمة فلم يرم ذلك أحد ولا تكلفه ولا أتى ببعضه ولا شبيه منه ولا ادعى أنه قد فعل، فيكون ذلك الخبر باطلا. وليس قول جمعهم إنه كان كاذبا معارضة لهذا الخبر إلا أن يسموا الإنكار معارضة، وإنما المعارضة مثل الموازنة والمكايلة، فمتى قابلونا بأخبار في وزن أخبارنا ومخرجها ومجيئها فقد عارضونا ووازنونا وكايلونا وقد تكافينا وتدافعنا. فأما الإنكار فليس بحجة كما أن الإقرار ليس بحجة، ولا تصديقنا النبي
صلى الله عليه وسلم
حجة على غيرنا ولا تكذيب غيرنا له حجة علينا، وإنما الحجة في المجيء الذي لا يمكن في الباطل مثله.
فإن قلت: وأي مجيء أثبت (من) خبر النصارى عن عيسى بن مريم عليه السلام! وذلك أنك لو سألت النصارى مجتمعين ومتفرقين لخبروك عن أسلافهم أن عيسى قد قال: إني إله؟
قلنا: قد علمنا أن نصارى عصرنا لم يكذبوا على القرن الذي كان قبلهم والذين كانوا يلونهم، ولكن الدليل على أن أصل خبرهم ليس كفرعه أن عيسى عليه السلام لو قال: «إني إله » لما أعطاه الله تعالى إحياء الموتى والمشي على الماء! على أن في عيسى عليه السلام دلالة في نفسه أنه ليس بإله وأنه عبد مدبر ومقهور ميسر. وليس خبرهم هذا إلا كإخبار النصارى عن آبائهم والقرن الذي يليهم أن بولس قد كان جاء بالآيات والعلامات، وكإخبار المانوية عن القرن الذي كان يليهم منهم أن ماني قد كان جاءهم بالآيات والعلامات، وكإخبار المجوس عن آبائهم والذين كانوا يلونهم أن زرادشت قد جاءهم بالآيات والعلامات. وقد علمنا أن هؤلاء النصارى لم يكذبوا على القرن الذي كان يليهم ولا الزنادقة ولا المجوس، ولكن الدليل على أصل خبرهم ليس كفرعه؛ لأن الله تعالى جل وعز لا يعطي العلامات من لا يعرفه؛ لأن بولس إن كان عنده أن عيسى عليه السلام إله فهو لا يعرف الله تعالى، بل لا يعرف الربوبية من العبودية والبشرية من الإلهية.
فصل منه : وللنصارى خاصة رياء عجيب وظاهر زهد، والناس أبطأ شيء عن التصفح وأسرع شيء إلى تقليد صاحب السن والسمت، وظاهر العمل أدعى لهم من العلم.
فصل منه على ذكرهم : وكل قوم بنوا على حب الأشكال والشغف بالرجال يشتد وجدهم به وحبهم له حتى ينقلب الحب عشقا والوجد صبابة، للمشاكلة التي بين النفوس، وعلى قدر ذلك يكون البغض والحقد؛ لأن النصارى حين جعلوا ربهم إنسانا مثلهم بخعت نفوسهم بإلاهيتهم له لتوهمهم الربوبية، وسمحت بالمودة لتوهمهم البشرية؛ فلذلك قدروا من العبادة على ما لم يقدر عليه سواهم، وبمثل هذا السبب صارت المشبهة منا أعبد ممن ينفي التشبيه، حتى ربما رأيت المشبه يتنفس من الشوق إليه ويشهق عند ذكر الزيارة ويبكي عند ذكر الرؤية ويغشى عليه عند ذكر رفع الحجب! وما ظنك بشوق من طمع في مجالسة ربه جل جلاله ومحادثة خالقه عز ذكره؟! ولقد غالت القوم غول ودعاهم أمر فانظر ما هو. وإن سألتني عنه خبرتك أنما هو نتيجة أحد أمرين: إما تقليد الرجال، وإما طلب تعظيمهم؛ ولذلك السبب لم ترض اليهود من إنكار حق عيسى بتكذيبه حتى طلبت قتله وصلبه والمثلة به، ثم لم ترض بذلك حتى زعمت أنه لغير رشدة، فلو كانت دون هذه المنزلة منزلة لما انتهت اليهود دون بلوغها، ولو كانت فوق ما قالت النصارى منزلة لما انتهت دون غايتها. وبذلك السبب صارت الرافضة أشد صبابة وتحرقا وأفرط غضبا وأدوم حقدا وأحسن تواصلا من غيرهم أيضا. ورب خبر قد كان فاشيا فدخل عليه من العلل ما منعه من الشهرة، ورب خبر ضعيف الأصل واهن المخرج قد تهيأ له من الأسباب ما يوجب الشهرة.
ناپیژندل شوی مخ