رسائل الجاحظ

الجاحظ d. 255 AH
129

رسائل الجاحظ

رسائل الجاحظ: وهي رسائل منتقاة من كتب للجاحظ لم تنشر قبل الآن

ژانرونه

ولو كان زيد من آل أبي العاص أو من عرض بني أمية لوجد ابن مسعود متعلقا، ولو كان بدل زيد عبد الرحمن بن عوف لوجد إلى القول سبيلا، ولو كان (غير) ابن مسعود رجلا من بني هاشم لوجد للطعن موضعا، ولو كان عثمان رضي الله تعالى عنه استبد بذلك الرأي على علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وسعد وطلحة والزبير رحمهم الله وجميع المهاجرين والأنصار لوجد للتهمة مساغا. فأما والأمر كما وصفنا وبينا، فما الطاعن على عثمان إلا رجل أخطأ خطة الحق وعجل على صاحبه، ولكل بني آدم من الخطأ نصيب والله عز ذكره يغفر له ويرحمه. والذي يخطئ عثمان في ذلك فقد خطأ عليا وعبد الرحمن وسعدا والزبير وطلحة وما عليه الصحابة. ولو لم يكن ذلك رأي علي لغيره، ولو لم يمكنه التغيير لقال فيه، ولو لم يمكنه في زمن عثمان لأمكنه في زمن نفسه، وكان لا أقل من إظهار الحجة إن لم يملك تحويل الأمة، وكان لا أقل من التجربة إن لم يكن من النجح على ثقة، بل لم يكن لعثمان في ذلك ما لم يكن لجميع الصحابة وأهل القدم والقدوة. ومع أن الوجه فيما صنعوا واضح بل لا نجد لما صنعوا وجها غير الإصابة والاحتياط والإشفاق والنظر للعواقب وحسم طعن الطاعن. ولو لم يكن ما صنعوا لله تعالى فيه رضا لما اجتمع عليه أول هذه الأمة وآخرها. وإن أمرا اجتمعت عليه المعتزلة والشيعة والخوارج والمرجئة لظاهر الصواب واضح البرهان على اختلاف أهوائهم وبغيتهم لكل ما ورد عليهم. فإن قال قائل: هذه الروافض بأسرها تأبى ذلك وتنكره وتطعن فيه وترى تغييره! قلنا: إن الروافض ليست منا بسبيل؛ لأن من كان أذانه غير أذاننا وصلاته غير صلاتنا وطلاقه غير طلاقنا وعتقه غير عتقنا وحجته غير حجتنا وفقهاؤه غير فقهائنا وإمامه غير إمامنا وقراءته غير قراءتنا وحلاله غير حلالنا وحرامه غير حرامنا، فلا نحن منه ولا هو منا. ولأي شيء جانب عن قراءة ابن مسعود؟ فوالله ما كان أحد أفرط في العمرية منه ولا أشد على الشيعة منه! ولقد بلغ من حبه لعمر رضي الله تعالى عنه أن قال: لقد خشيت الله تعالى في حبي لعمر! فلم يحامون عنه وهو كان شجاهم لو أدركهم.

فصل منه : فأمن الله رجلا فارقهم ولزم الجماعة، فإن فيها الأنس والحجة، وترك الفرقة فإن فيها الوحشة والشبهة. والحمد لله الذي جعلنا لا نفرق بين أئمتنا كما جعلنا لا نفرق بين أنبيائنا.

فصل منه : والذي دعانا إلى تأليف حجج الرسول ونظمها وجمع وجوهها وتدوينها أنها متى كانت مجموعة منظومة نشط لحفظها وتفهمها من كان عسى ألا ينشط لجمعها ولا يقدر على نظمها وجمع متفرقها، وعلى اللفظ المؤثر عنها، ومن كان عسى ألا يعرف وجه مطلبها والوقوع عليها، ولعل بعض الناس يعرف بعضها ويجهل بعضها، ولعل بعضهم وإن كان قد عرفها بحقها وصدقها فلم يعرفها من أسهل طرقها وأقرب وجوهها، ولعل بعضهم أن يكون قد كان عرف فنسي أو تهاون بها فعمي، بل لا نشك أنها إذا كانت مجموعة محبرة مستقصاة مفصلة فإنها ستزيد في بصيرة العالم، ويجمع الكل لمن كان لا يعرف إلا البعض ويذكر الناس ويكون عدة على الطاعن، ولعل بعض من ألحد في دينه وعمي عن رشده وأخطأ موضع حظه أن يدعوه العجب بنفسه والثقة بما عنده إلى أن يلتمس قراءتها ليتقدم في نقضها وإفسادها فإذا قرأها فهمها وإذا فهمها انتبه من رقدته وأفاق من سكرته لعز الحق وذل الباطل ولإشراف الحجة على الشبهة، ولأن من تفرد بكتاب فقرأه ليس كمن نازع صاحبه وجافاه؛ لأن الإنسان لا يباهي بنفسه والحق بعد قاهر له، ومع التلاقي يحدث التباهي وفي المحافل يقل الخضوع ويشتد النزوع.

ثم رجع الكلام إلى حاجة الناس إلى استماع الأخبار والتفقه في تصحيح الآثار، فأقول: إن الناس قد استغنوا عن التكرير وكفوا مؤنة البحث والتنقير لقلة اعتبارهم، ومن قل اعتباره قل علمه، ومن قل علمه قل فضله، ومن قل فضله كثر نقصه، ومن قل علمه وفضله وكثر نقصه لم يحمد على خير أتاه ولم يذم على شر جناه ولم يجد طعم العز ولا سرور الظفر ولا روح الرجاء ولا برد اليقين ولا راحة الأمن. وكيف يشكر من لا يقصد، وكيف يلام من لا يتعمد، وكيف يقصد من لا يعلم، وما عسى أن يبلغ قدر سرور من لا يحس من السرور إلا بما سرت به حواسه ومسه جلده! وكيف يأتي أربح الأفعال وأبعد الشرين من ركب شراسة السباع وغباوة البهائم ثم لم يعط الآلة التي بها يستطيع التفرقة بين ما عليه وله والعلم بمصالحه ومفاسده فيقوى بها على عصيان طبائعه ومخالفة شهواته، وبها يعرف عواقب الأمور وما تأتي به الدهور، وفضل لذة القلب على لذة البدن، وأن سرور الجاهل لا يحسن في جنب سرور العالم، وأن لذة البهائم لا تعادل لذة الحكيم العالم. وأي سرور كسرور العز والرياسة واتساع المعرفة وكثرة صواب الرأي والنجح الذي لا سبب له إلا حسن النظر والتقدم في التدبير ثم العلم بالله وحده وأنك بعرض ولايته والجاه عنده وأنه الذي يرعاك ويكفيك، وأنك إذا عملت اليسير أعطاك الكثير، ومتى تركت له الفاني أعطاك الباقي، ومتى أدبرت عنه دعاك، ومتى رجعت إليه اجتباك، ويحمدك على حقك ويعطيك على نظرك لنفسك، ولا يغنيك إلا ليقيك، ولا يميتك إلا ليحييك، ولا يمنعك إلا ليعطيك، وأنه المبتدئ بالنعمة قبل السؤال والناظر لك في كل حال. وهذا كله لا ينال إلا بغريزة العقل، على أن الغريزة لا تنال ذلك بنفسها (بل) بما باشرته حواسها دون النظر والتفكر والبحث والتصفح، ولن ينظر ناظر ولا يفكر مفكر دون الحاجة التي تبعث على الفكرة وعلى طلب الحيلة؛ ولذلك وضع الله تعالى في الإنسان طبيعة الغضب وطبيعة الرضا والبخل والسخاء والجزع والصبر والرياء والإخلاص والكبر والتواضع والسخط والقناعة، فجعلها عروقا، ولن تفي قوة غريزة العقل لجميع قوى طبائعه وشهواته حتى يقيم ما اعوج منها ويسكن ما تحرك دون النظر الطويل الذي يشدها والبحث الشديد الذي يشحذها والتجارب التي تحنكها والفوائد التي تزيد فيها، ولن يكثر النظر حتى تكثر الخواطر، ولن تكثر الخواطر حتى تكثر الحوائج، ولن تبعد الروية إلا لبعد الغاية وشدة الحاجة.

ولو أن الناس تركوا وقدر قوى غرائزهم ولم يهاجوا بالحاجة على طلب مصلحتهم والتفكر في معاشهم وعواقب أمورهم وألجئوا إلى قدر خواطرهم التي تولدها مباشرة حواسهم دون أن يسمعهم الله خواطر الأولين وأدب السلف المتقدمين وكتب رب العالمين، لما أدركوا من العلم إلا اليسير ولما ميزوا من الأمور إلا القليل. ولولا أن الله تعالى أراد تشريف العالم وتربيته وتسويد العاقل ورفع قدره وأن يجعله حكيما وبالعواقب عليما لما سخر له كل شيء ولم يسخره لشيء ولما طبعه الطبع الذي يجيء منه أريب حكيم وعالم حليم، كما أنه - عز ذكره - لو أراد أن يكون الطفل عاقلا والمجنون عالما لطبعهم طبع العاقل ولسواهم تسوية العالم، كما أراد أن يكون السبع وثابا والحديد قاطعا والسم قاتلا والغذاء مقيما، فكذلك أراد أن يكون المطبوع على المعرفة عالما والمهيأ للحكمة حكيما وذو الدليل مستدلا وذو النعمة مستنفعا بها. فلما علم الله - تبارك وتعالى - أن الناس لا يدركون مصالحهم بأنفسهم ولا يشعرون بعواقب أمورهم بغرائزهم دون أن يرد عليهم آداب المرسلين وكتب الأولين والإخبار عن القرون والجبابرة الماضين، طبع كل قرن من الناس على إخبار من يليه ووضع القرن الثاني دليلا يعلم به صدق خبر الأول؛ لأن كثرة السماع للأخبار العجيبة والمعاني الغريبة مشحذة للأذهان ومادة للقلوب وسبب للتفكير وعلة للتنقير عن الأمور، وأكثر الناس سماعا أكثرهم خواطر، وأكثرهم خواطر أكثرهم تفكرا، وأكثرهم تفكرا أكثرهم علما، وأكثرهم علما أرجحهم عملا، كما أن أكثر البصراء رؤية للأعاجيب أكثرهم تجارب! ولذلك صار البصير أكثر خواطر من الأعمى، وصار البصير السميع أكثر خواطر من البصير الأصم. وعلى قدر شدة الحاجة تكون الحركة، وعلى قدر ضعف الحاجة يكون السكون. كما أن الراجي والخائف دائبان، والآيس والآمن وادعان. وإذا كان الله تعالى لم يخلق عباده في طبع عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا وآدم أبي البشر صلوات اللهم عليهم أجمعين، وخلقهم ناقصين وعن درك مصالحهم عاجزين، وأراد منهم العبادة وكلفهم الطاعة وترك العيان للأمل البعيد، وأرسل إليهم رسله وبعث فيهم أنبياءه وقال:

لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ، ولم يشهد أكثر عباده حجج رسله عليهم السلام ولا أحضرهم عجائب أنبيائه ولا أسمعهم احتجاجهم ولا أراهم تدبيرهم، لم يكن بد من أن يطلع المعاينين على أخبار الغائبين، وأن يسخر أسماع الغائبين لأخبار المعاندين، وأن يخالف بين طبائع المخبرين وعلل الناقلين، ليدل السامعين ومن يحبب من الناس. على أن العدد الكثير المختلفي العلل المتضادي الأسباب المتفاوتي الهمم لا يتفقون على تخرص الخبر في المعنى الواحد، وكما لا يتفقون على تخرص الخبر في المعنى الواحد على غير التلاقي والتراسل إلا وهو حق فكذلك لا يمكن مثلهم في مثل عللهم التلاقي عليه والتراسل فيه، ولو كان تلاقيهم ممكنا وتراسلهم جائزا لظهر ذلك وفشا واستفاض وبدا، ولو كان ذلك أيضا ممكنا وكان قولا متوهما لبطلت الحجة ولنقضت العادة ولفسدت العبرة ولعادت النفس بعلة الأخبار جاهلة، ولكان للناس على الله أعظم الحجة وقد قال الله عز وجل:

لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل

إذا كلفهم طاعة رسله وتصديق أنبيائه ورسله وكتبه والإيمان بجنته وناره ولم يضع لهم دليلا على صدق الأخبار وامتناع الغلط في الآثار، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

واعلم أن الله تعالى إنما خالف بين طبائع الناس ليوفق بينهم، ولم يحب أن يوفق بينهم فيما يخالف مصلحتهم؛ لأن الناس لو لم يكونوا مسخرين بالأسباب المختلفة وكانوا مجبرين في الأمور المتفقة والمختلفة لجاز أن يختاروا بأجمعهم الملك والسياسة، وفي هذا ذهاب العيش وبطلان المصلحة والبوار والتواء، ولو لم يكونوا مسخرين بالأسباب مرتهنين بالعلل لرغبوا عن الحجامة أجمعين وعن البيطرة والقصابة والدباغة. ولكن لكل صنف من الناس مزين عندهم ما هم فيه ومسهل ذلك عليهم. فالحائك إذا رأى تقصيرا من صاحبه أو سوء حذق أو خرقا قال له: يا حجام، والحجام إذا رأى تقصيرا من صاحبه قال له: يا حائك. ولذلك لم يجمعوا على إسلام أبنائهم في غير الحياكة والحجامة والبيطرة والقصابة. ولولا أن الله تعالى أراد أن يجعل الاختلاف سببا للاتفاق والائتلاف لما جعل واحدا قصيرا وآخر طويلا، وواحدا حسنا والآخر قبيحا، وواحدا غنيا وآخر فقيرا، وواحدا عاقلا وآخر مجنونا، وواحدا زكيا وآخر غبيا، ولكن خالف بينهم ليختبرهم، وبالاختبار يطيعون وبالطاعة يسعدون، ففرق بينهم ليجمعهم وأحب أن يجمعهم على الطاعة ليجمعهم على المثوبة. فسبحانه وتعالى ما أحسن ما أبلى وأولى وأحكم ما صنع وأتقن ما دبر؛ لأن الناس لو رغبوا كلهم عن عار الحياكة لبقينا عراة، ولو رغبوا بأجمعهم عن كد البناء لبقينا بالعراء، ولو رغبوا عن الفلاحة لذهبت الأقوات ولبطل أصل المعاش، فسخرهم على غير إكراه ورغبهم من غير دعاء. ولولا اختلاف طبائع الناس وعللهم لما اختاروا من الأشياء إلا أحسنها ومن البلاد إلا أعدلها ومن الأمصار إلا أوسطها، ولو كان كذلك لتناجزوا على طلب الواسط وتشاجروا على البلاد العليا ولما وسعهم بلد ولما تم بينهم صلح، فقد صار بهم التسخير إلى غاية القناعة. وكيف لا يكون كذلك وأنت لو حولت ساكني الآجام إلى الفيافي وساكني السهل إلى الجبال وساكني الجبال إلى البحار وساكني الوبر إلى المدر لأذاب قلوبهم الهم ولأتى عليهم فرط النزاع. وقد قيل: عمر الله البلدان بحب الأوطان. وقال عبد الله بن الزبير رحمه الله تعالى: ليس الناس بشيء من أقسامهم أقنع منهم بأوطانهم. وقال معاوية في قوم من اليمن رجعوا إلى بلادهم بعد أن أنزلهم من الشام منزلا خصيبا وفرض لهم في شئون العطاء: يصلون أوطانهم بقطيعة أنفسهم. وقال الله جل وعز:

ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ، فقرن الضن بالأوطان إلى الضن بمهج النفوس. وليس على ظهرها إنسان إلا وهو معجب بعقله لا يسره أن له - بجميع ماله - ما لغيره، ولولا ذلك لماتوا كمدا ولذابوا حسدا. ولكن كل إنسان وإن كان يرى أنه حاسد في شيء فهو يرى أنه محسود في شيء.

ناپیژندل شوی مخ