حول الكويكر
ويظهر - حوالي هذا الزمن - وليم بن الشهير الذي أقام سلطان الكويكر بأمريكة وجعلهم محترمين في أوروبة ما استطاع الناس أن يحترموا الفضيلة مضمرة تحت ظواهر مثيرة للسخرية، وكان وليم بن ابنا وحيدا للفارس بن؛ أي لنائب أمير البحر بإنكلترة والمقرب لدى دوك يورك الذي صار جيمس الثاني.
ومما حدث أن التقى وليم بن، وهو في الخامسة عشرة من سنيه بكويكري في أكسفورد حيث كان يدرس، فأقنعه هذا الكويكري، ولم يلبث الشاب النشيط، الفصيح بفطرته، والذي تدل سيماه وأوضاعه على الشرف، أن فاز ببعض زملائه، ويقيم - من حيث لا يدري - جمعية من فتيان الكويكر الذين كانوا يجتمعون في منزله، فيجد نفسه رئيسا لطائفة في السادس عشر من عمره.
ويعود إلى نائب أمير البحر أبيه بعد أن تخرج من الكلية، ويدنو من أبيه لابسا قبعته بدلا من الركوع أمامه وطلب البركة منه على حسب عادة الإنكليز، ويقول له: «سررت كثيرا يا صاحبي إذ رأيتك تتمتع بصحة جيدة.» ويعتقد نائب أمير البحر أن ابنه صار مجنونا، ولكنه لم يلبث أن أبصر أن ولده كان كويكريا، فاتخذ جميع ما تمليه حكمة الإنسان من الوسائل حملا له على الحياة كغيره، فلم يكن جواب الشاب حيال والده غير إغرائه على انتحال الكويكرية مثله.
وأخيرا؛ يجنح الأب إلى عدم مطالبة ابنه بشيء غير الذهاب لمقابلة الملك ودوك يورك واضعا قبعته تحت إبطه، وغير مخاطب إياه بصيغة المفرد، ويجيب وليم عن هذا بقوله: إن ضميره لا يجيز له هذا، فلما يئس الأب من الابن وكاد يتميز من الغيط طرد ولده هذا من منزله. ويحمد الشاب بن ربه على ما أصابه من ألم في سبيله، ويذهب للوعظ في المصر ويوفق لهداية كثير من الناس.
وتتضح السبل بمواعظ المبشرين كل يوم، وبما أن بن كان شابا وسيما حسن التكوين فإن نساء البلاط والمصر كن يهرعن إليه ليستمعن له عن ورع، ويأتي الأب جورج فوكس من أقاصي إنكلترة للاجتماع به في لندن نظرا إلى شهرته، ويعزم الاثنان على التبشير في البلدان الأجنبية، ويبحران إلى هولندة بعد أن تركا في لندن عددا كافيا من العمال لتعهد الكرمة، ويكتب لهما توفيق كبير في أمستردام، ولكن أكثر ما شرفا به فكان أعظم خطر حاق بتواضعهما هو استقبالهما من قبل بلاتينا إليزابت التي كانت عمة لملك إنكلترة جورج الأول، فاشتهرت بذكائها ودرايتها وأهدى إليها ديكارت روايته الفلسفية.
وكانت حينئذ معتزلة في لاهاي حيث التقت بهؤلاء الكويكر الذين كانوا يسمون أصحابا في هولندة في ذلك الوقت، وتجتمع بهم عدة مرات، ويقومون بالوعظ في منزلها غالبا، وهم وإن لم يجعلوا منها كويكرية خالصة، اعترفوا - على الأقل - بأنها لم تكن بعيدة من ملكوت السماوات.
وبذر الأصحاب في ألمانية أيضا، ولكنهم حصدوا قليلا، فما كانت عادة المخاطبة بصيغة المفرد لتستطاب في بلد يجب ألا تفارق الفم فيه كلمات صاحب السمو وصاحب السعادة، ويعود بن إلى إنكلترة من فوره نظرا إلى ما تلقى من خبر مرض أبيه، ويأتي لمساعدته حين وفاته، ويتصالح نائب أمير البحر وابنه ويقبله تقبيل حنان على ما بينهما من اختلاف في المذهب، ويعظه وليم بألا يتناول سر القربان وبأن يموت كويكريا، فيذهب وعظه أدراج الرياح، وينصح الشيخ البسيط وليم بأن يضع أزرارا على كميه ومبرومات على قبعته، فيذهب نصحه أدراج الرياح.
ويرث وليم أموالا عظيمة، وترى بينها ديون على التاج ناشئة عن سلفات قدمها أمير البحر في غزوات بحرية، ولم يكن في ذلك الحين ما هو أقل ضمانا من مال يكون الملك به مدينا، ويضطر بن إلى مقابلة شارل الثاني ووزرائه غير مرة ومخاطبتهم بصيغة المفرد وصولا إلى تأدية بدل الدين إليه، وتمنحه الحكومة في سنة 1680، ملك إقليم في أمريكة واقع جنوب مريلندة وسيادة هذا الإقليم، وذلك عوضا من المال، وهكذا يصبح كويكري أميرا، ويذهب إلى بلده الجديد في مركبين مشحونين بمن اتبعه من الكويكر، ويسمى هذا البلد بنسلفانية منذ ذلك الزمن، نسبة إلى بن، ويؤسس في هذا البلد مدينة فيلادلفية التي غدت كثيرة الازدهار في هذه الأيام، ويأخذ في عقد محالفات مع جيرانه من الأمريكيين، وهذه هي المعاهدة الوحيدة بين النصارى وهؤلاء الناس لم تشفع بيمين ولم تنقض مطلقا، ويبدو الأمير الجديد مشترعا لبنسلفانية، ويضع قوانين بالغة الحكمة لم يغير أي واحد منها حتى الآن، وينص أول قانون منها على عدم الإساءة إلى أحد بسبب دينه، وعلى عد جميع الذين يؤمنون بالله إخوة.
ولم يكد يقيم حكومته حتى جاء هذه المستعمرة تجار كثير ليعمروها، ويأنس أبناء البلاد الأصليون إلى هؤلاء الكويكريين المسالمين رويدا رويدا، وذلك بدلا من أن يفروا إلى الغاب، ويحب أبناء البلاد الأصليون هؤلاء القادمون الجدد بمقدار مقتهم للنصارى الآخرين الفاتحين لأمريكة والمخربين لها، ولم يمض غير زمن قليل حتى أتى عدد كبير من هؤلاء المتوحشين المزعومين، الذين فتنوا برفق هؤلاء الجيران، طالبا من وليم بن أن يقبله بين أتباعه، وكان من المناظر الجديدة أن يرى أمير يخاطبه جميع الناس بصيغة المفرد، وأن يحادث والقبعة على الرأس، وأن ترى حكومة بلا قسوس وأمة بلا سلاح ومواطنون متساوون أمام القضاء وجيران بلا حسد.
ناپیژندل شوی مخ