مقدمة المترجم
الرسالة الأولى
الرسالة الثانية
الرسالة الثالثة
الرسالة الرابعة
الرسالة الخامسة
الرسالة السادسة
الرسالة السابعة
الرسالة الثامنة
الرسالة التاسعة
الرسالة العاشرة
الرسالة الحادية عشرة
الرسالة الثانية عشرة
الرسالة الثالثة عشرة
الرسالة الرابعة عشرة
الرسالة الخامسة عشرة
الرسالة السادسة عشرة
الرسالة السابعة عشرة
الرسالة الثامنة عشرة
الرسالة التاسعة عشرة
الرسالة العشرون
الرسالة الحادية والعشرون
الرسالة الثانية والعشرون
الرسالة الثالثة والعشرون
الرسالة الرابعة والعشرون
الرسالة الخامسة والعشرون
مقدمة المترجم
الرسالة الأولى
الرسالة الثانية
الرسالة الثالثة
الرسالة الرابعة
الرسالة الخامسة
الرسالة السادسة
الرسالة السابعة
الرسالة الثامنة
الرسالة التاسعة
الرسالة العاشرة
الرسالة الحادية عشرة
الرسالة الثانية عشرة
الرسالة الثالثة عشرة
الرسالة الرابعة عشرة
الرسالة الخامسة عشرة
الرسالة السادسة عشرة
الرسالة السابعة عشرة
الرسالة الثامنة عشرة
الرسالة التاسعة عشرة
الرسالة العشرون
الرسالة الحادية والعشرون
الرسالة الثانية والعشرون
الرسالة الثالثة والعشرون
الرسالة الرابعة والعشرون
الرسالة الخامسة والعشرون
الرسائل الفلسفية
الرسائل الفلسفية
تأليف
فولتير
ترجمة
عادل زعيتر
مقدمة المترجم
أقدم ترجمة «الرسائل الفلسفية» لفولتير ...
نشرت أهجوة عن الوصي على العرش الفرنسي وعزيت إلى أرويه افتراء، فاعتقل في الباستيل ابنا للثالثة والعشرين من سنيه، وقضى فيه أحد عشر شهرا، وفي الباستيل عزم أرويه على تغيير اسمه، فلما خرج منه عرف بفولتير بعد أن كان يعرف باسم أسرته ذلك.
وليست هذه هي المرة الوحيدة التي يزج فيها بفولتير في الباستيل، فبعد ثمانية أعوام من ذلك التاريخ أهانه الشريف الفارس دو روهان، ويدعو فولتير هذا الفارس إلى المبارزة، ويرضى هذا الفارس بذلك، ولكن فولتير يقابل بالاعتقال في الباستيل في صباح اليوم المعين للمبارزة بدلا منها، ويقضي في هذا المعتقل نصف عام، ويعد هذا الاعتقال قطعا مفاجئا لما كان قد اتفق لفولتير من إقبال في فرنسة وما لاح له فيها من توفيق.
ويخرج فولتير من الباستيل، ويهاجر إلى إنكلترة من فوره، ويقيم بإنكلترة ثلاث سنين (1726-1729)، ويحسن قبول فولتير في إنكلترة حيث يدرس الإنكليزية، ويتصل بعلية الإنكليز وفلاسفتهم وعلمائهم وكتابهم وشعرائهم، وحيث يعجب بالدستور الإنكليزي وبتسامح الإنكليز الديني وحريتهم السياسية أيما إعجاب، وكان لأخلاق هؤلاء القوم وعاداتهم بالغ الأثر فيه، ففي هذا الجو وضع فولتير كتاب «الرسائل الفلسفية» أو «الرسائل الإنكليزية»، حيث أثنى على نظام إنكلترة وقال: «إن أميره البالغ القدرة على صنع الخير مقيد اليدين في صنع الشر.»
ويعود فولتير إلى باريس حاملا في ذهنه كثيرا من المشاريع في الحرية السياسية والإصلاحات الدينية، ويتناول كتابه «الرسائل الفلسفية» بالتعديل والتهذيب وينشره لأول مرة في فرنسة سنة 1734.
وتقضي المحكمة العليا (البرلمان)، في 10 من يونيو 1734، بجمع نسخ هذا الكتاب وتمزيقه وتحريقه، وذلك «لمخالفته للدين وحسن الأخلاق»، ويعد هذا الحكم كتاب «الرسائل الفلسفية» أخطر ما يكون إلحادا في الدين ونظام المجتمع المدني، ولا يحول هذا دون طبع كتاب «الرسائل الفلسفية» مرارا وتوزيعه بين الناس سرا.
ويؤمر باعتقال فولتير عقابا له على تأليف ذلك الكتاب، ولم ينج فولتير من السجن في الباستيل للمرة الثالثة إلا بالفرار، ويقضي عاما في دوكية اللورين المستقلة، ثم يلغى أمر اعتقاله وتطلق له حرية العود إلى باريس (1735).
ويتفق لكتاب «الرسائل الإنكليزية» نجاح عظيم، ولم ينفك هذا النجاح يتجدد حتى يومنا هذا، وهو من أكثر ما يطالع الناس من الكتب، وهو من أكثر الأسفار تأثيرا في نفوس الناس على اختلاف أممهم ومللهم ونحلهم، ولعل ما انطوى عليه هذا الكتاب من دلالة على حيوية فولتير ونضجه وفؤاده الفياض من أهم العوامل في خلوده وما لاقى من إقبال عظيم حتى الآن.
وليس ما ينم عليه كتاب «الرسائل الفلسفية» من جرأة مؤلفه وإقدامه وصراحته هو أكثر ما يقف النظر فيه، بل اتزانه وكونه وليد ذهن رصين أثر إنصاف وتمييز بين المحاسن والأضداد. ومن ذلك أنه يظهر الكويكر فضلاء عقلاء ولكن مع شيء من إثارة السخرية حولهم، ومن ذلك أنه يظهر البرلمان الإنكليزي ناشرا للحرية السياسية والسياسة السلمية، ولكن مع كونه متصلبا بعيدا من السماحة أحيانا. ومن ذلك إظهاره المأساة الإنكليزية بعيدة من حسن الذوق، ولكن مع اشتمالها على الحركة والإبداع، ومن ذلك إظهاره نيوتن عبقريا عظيما، ولكن مع كونه ذا وساوس وسخافات، إلخ.
وتحمل «الرسائل الفلسفية» حملة صادقة على نظم فرنسة وطبائعها وآدابها السياسية في عصر فولتير، فكان هذا الكتاب من أقوى العوامل في إيقاد الثورة الفرنسية وتوجيهها من عدة نواح. وتهذيب الذوق، قبل كل شيء، هو أكثر ما هدف إليه فولتير في هذا الكتاب، فلعلي أكون قد سهلت به، وبكتاب «كنديد» الذي نقلته إلى العربية، وقوف القارئ العربي على ناحية مهمة من نواحي براعة فولتير وعبقريته.
نابلس
عادل زعيتر
الرسالة الأولى
حول الكويكر
لقد رأيت أن مذهب أمة فريدة كتلك وتاريخها يستحقان فضول رجل عاقل، وقد أردت أن أكون على بينة من ذلك، فذهبت للقاء رجل من أشهر الكويكر بإنكلترة زاول التجارة ثلاثين عاما فاستطاع بعد ذلك أن يضع حدودا لنصيبه ورغائبه، وانزوى في ريف قريب من لندن، وبحثت عنه في ملجئه فوجدت هذا الملجأ منزلا صغيرا، ولكن مع حسن بناء وكثرة نظافة وعطل من الزخرف، وكان الكويكري شيخا ناضرا لم يعرف المرض إليه سبيلا؛ وذلك لأنه لم يعرف ألما ولا نهما، ولم أبصر في حياتي قط من هو أعظم منه نبلا وأشد جذبا، وقد كان مرتديا كجميع أبناء نحلته رداء بلا مطاو في الأطراف، وبلا أزرار على الجيوب والأكمام، وقد كان لابسا قبعة كبيرة ذات حافات منخفضة كالتي يلبسها قساوستنا، ويستقبلني وقبعته على رأسه، ويتقدم نحوي من غير أن يقوم بأقل حنو لبدنه، ولكن ما تنم عليه طلاقة وجهه وبشاشة محياه من أدب أعظم مما جرت عليه العادة من تأخير ساق عن ساق ومن حمل اليد ما صنع لستر الرأس، قال لي الكويكري:
أراك غريبا يا صاحبي، وما عليك إلا أن تقول لي حتى أقوم بخدمة لك ما استطعت.
وأحني جسمي، وأقدم قدما نحوه وفق عادتنا، وأقول له: «تحدثني نفسي، يا سيدي، بأنك لا تضيق ذرعا بفضولي الصادق، فلا تضن علي بمنحي شرف الاطلاع على دينك.»
ويجيب عن ذلك بقوله: «أجل، إن أبناء بلدك يبدون كثيرا من المجاملة والإكرام، ولكني لم أر بعد من أظهر منهم مثل فضولك، فادخل، ولنتغد معا قبل كل شيء.»
وآتى بمجاملة سيئة أيضا، فالإنسان لا يترك عاداته دفعة واحدة، وذلك أنني، بعد أن تناولنا طعاما بسيطا طيبا بدئ بالصلاة لله وختم بالدعاء له، أخذت في سؤال صاحبي، سائرا على غرار الكاثوليك الصالحين في طرحهم السؤال الآتي على الهوغنو غير مرة، فقلت له: «هل عمدت يا سيدي العزيز؟»
الكويكري مجيبا: «كلا، وكذلك زملائي لم يعمدوا قط.»
وأعود فأسأل: «خيرا، أنتم لستم نصارى إذن؟»
ويجيب الكويكري بصوت لين: «أي بني، لا تقل هذا مطلقا، فنحن نصارى، ولنسع أن نكون نصارى صالحين، ولكننا لا نرى أن النصرانية تقوم على إلقاء ماء بارد مع قليل ملح على الرأس.»
وأرد مغاضبا من هذا الإلحاد: «إذن، أنتم نسيتم أن يوحنا عمد يسوع؟» ويقول الكويكري الحليم: «أجل، تلقى يسوع العماد من يوحنا، ولكنه لم يعمد أحدا قط، ولسنا تلاميذ يوحنا، بل تلاميذ يسوع.»
وأقول: «واها! كنت تحرق في بلد محاكم التفتيش يا مسكين! ... وي! دعني أعمدك لوجه الله وأجعل منك نصرانيا.»
ويجيب باتزان: «لو لم يجب غير هذا لإرضاء ضعفك لصنعناه طوعا، فنحن لا ندين إنسانا لقيامه بشعار العماد، وإنما نعتقد أن من الواجب على من يجهرون بدين روحي مقدس أن يمتنعوا، ما استطاعوا، عن القيام بشعائر يهودية!»
وأقول صارخا: «هذا أمر سيئ، شعائر يهودية؟!»
ويقول مواصلا: «أجل يا بني، وهذه الشعائر هي من اليهودية، فلا يزال يوجد من اليهود من يتعاطون معه مثل عماد يوحنا أحيانا، وارجع البصر إلى الأزمنة القديمة تخبرك بأن يوحنا لم يفعل غير تجديد هذا الشعار الذي كان العبريون يعملون به قبل ظهور يوحنا بزمن طويل، كما كان أمر الحج إلى مكة بين الإسماعيليين، وقد تفضل يسوع فقبل عماد يوحنا كما خضع للختان، ولكن وجب إبطال الختان والغسل بالماء بعماد يسوع، بعماد الروح هذا، بغسل النفس الذي ينجي الناس؛ ولذا كان يوحنا المعمدان يقول: «أنا أعمدكم بالماء للتوبة، وأما الذي يأتي بعدي فهو أقوى مني، وأنا لا أستحق أن أحمل حذاءه، وهو يعمدكم بالروح القدس والنار.» وكذلك كتب رسول الوثنيين الكبير بولس إلى أهل كورنتس يقول لهم: «لم يرسلني المسيح لأعمد، بل لأبشر.» وكذلك لم يعمد بولس بالماء غير شخصين، وكان هذا على الرغم منه، وقد ختن تلميذه تيموتاوس، وكان الرسل الآخرون يختنون، كذلك جميع من يريدون، فهل أنت مختون؟»
وأجيبه بأنني لم أنل هذا الشرف، ويقول: «حسنا يا صاحبي، أنت نصراني من غير أن تكون مختونا وأنا نصراني من غير أن أكون معمدا؟»
وذاك هو الوجه الذي كان صاحبي العزيز يفرط به، مع التمويه، في أمر ثلاثة نصوص أو أربعة نصوص من الكتاب المقدس تؤيد سره كما هو ظاهر، ولكن مع نسيانه وجود مائة نص دامغ له في خير دين، وقد احترزت من مجادلته في شيء لعدم وجود مطمع في متعصب، فليس من الرأي تحديث رجل عن عيوب خليلته، وتحديث مدع عن ضعف قضيته ومخاطبة مجذوب بالبراهين، وهكذا قد انتقلت إلى أسئلة أخرى، وقلت له: وأما تناول سر القربان فكيف تقومون به؟ - لا نقوم بذلك مطلقا. - ماذا؟! لا تناول سر قربان مطلقا؟! - كلا، لا شيء آخر غير تناول سر قربان القلوب.
وهنالك استشهد الكويكري بالكتاب المقدس أيضا، وهنالك بذل جهده لوعظي بنقضه تناول سر القربان، وقد خاطبني بلهجة ملهم ليثبت لي أن كل تناول لسر القربان من اختراع الإنسان، وأن الإنجيل خال من كلمة تناول سر القربان، وقد قال لي: «اغفر لي جهلي، فلم آتك بجزء من مائة من براهين ديني، ولكنك تستطيع أن تطلع عليها في بيان عن إيماننا لروبرت باركلي، فهذا من أروع الكتب التي دبجها يراع الإنسان، ويجمع أعداؤنا على أن هذا الكتاب بالغ الخطر، وهذا يثبت مبلغ صوابه.» وأعد الكويكري بمطالعته، ويعتقد الكويكري أنني تحولت إلى دينه!
وبعد ذلك ترضاني الكويكري بكلمات قليلة لا تخلو من غرابة بسط فيها أمر تلك الطائفة غير مراع للأخرى، فقد قال:
اعترف بأنه كان يشق عليك أن تمنع نفسك من الضحك عندما أجبت عن جميع مجاملاتك لابسا قبعتي على رأسي مخاطبا إياك بصيغة المفرد، ومع ذلك أراك من الثقافة ما لا تجهل معه عدم وجود أمة منذ زمن يسوع كانت من الحماقة ما تستبدل معه الجمع بالمفرد، فكان يقال للقيصر أغسطس: «أحبك، أرجوك، أشكرك»، حتى إنه كان لا يألم إذا ما نودي بالسيد
1
ولم يعن للناس إلا بعد زمن طويل من عهده أن يتنادوا ب «أنتم» بدلا من «أنت»، كما لو كانوا ضعف أنفسهم، وأن يغتصبوا ألقاب العظمة والسماحة والقداسة عن وقاحة، وأن تفسح الخراطين
2
في المجال لخراطين أخرى مؤكدة لها، مع الإكرام البالغ والرئاء الفاضح، كونها خدما لها وضعاء خضعا، ونحن كيما نكون أكثر احترازا حيال هذه المعاشرة الشائنة القائمة على الكذب والخداع، نخاطب الملوك والسكافين بصيغة المفرد على السواء، ولا نحيي أحدا غير حاملين للناس سوى المحبة وغير مبدين احتراما لسوى القوانين.
ونلبس كذلك ثيابا تختلف عما يلبس الآخرون بعض الاختلاف؛ وذلك لكي يكون لنا هذا تنبيها إلى عدم مشابهتهم، ويحمل الآخرون سمات دالة على مقامهم ونحن نحمل سمات التواضع النصراني، ونحن نتجنب مجالس اللهو والمشاهد واللعب؛ وذلك لأن مما يؤلمنا أن نملأ بالترهات قلوبا يجب أن تكون عامرة بالله، ونحن لا نحلف مطلقا، حتى أمام القضاء؛ وذلك لأننا نرى ألا يخفض اسم الرب الأعلى في منازعات الناس الساقطة، وإذا ما وجب أن نمثل بين أيدي القضاة من أجل قضايا الآخرين (لأنه لا دعاوى لنا مطلقا) وكدنا الحقيقة ب «نعم» أو ب «لا»، وصدق القضاة قولنا؛ وذلك على حين يحلف كثير من النصارى على الإنجيل زورا، ونحن لا نذهب إلى الحرب أبدا، وليس هذا عن خوف من الردى، فعلى العكس تبصرنا نبارك للساعة التي نلحق فيها بواجب الوجود، وإنما ينشأ ذلك عن كوننا لسنا ذئابا ولا نمارا ولا كلابا، وإنما يأتينا ذلك عن كوننا بشرا، عن كوننا نصارى، ولا يريد الرب الذي أمرنا بأن نحب أعداءنا وبأن نصبر على الأذى من غير تذمر، أن نعبر البحر لذبح إخواننا لا ريب؛ وذلك عن جمع أناس من القتلة، لابسين ثيابا حمرا وقلانس طولها قدمان، مواطنين للجندية بصوت يصدر عن ضرب عصوين صغيرتين على جلد حمار مشدود جيدا، فإذا ما تم النصر في المعارك أضاءت لندن بالأنوار، واشتعلت السماء بالأسهم النارية ودوى الهواء بصلوات الشكر وأصوات الأجراس والأراغن والمدافع، وهنالك يعترينا حزن عميق على ما وقع من تقتيل أوجب ابتهاج الجمهور.
الرسالة الثانية
حول الكويكر
ذلك هو الحديث الذي دار بيني وبين ذاك الرجل الشاذ، ولكن اعتراني دهش أكثر مما تقدم عندما أتى بي إلى كنيسة الكويكر يوم الأحد التالي. وللكويكر بيع
1
كثيرة في لندن، والبيعة التي جيء بي إليها قريبة من العمود المشهور الذي يسمى النصب التذكاري، وكان الناس مجتمعين حين دخولي مع رائدي، وكان عددهم نحو أربعمائة رجل وثلاثمائة امرأة، وكان النساء يحجبن وجوههن بمراوحهن، وكان الرجال لابسين قبعاتهم الواسعة، وكان الجميع جلوسا صامتين صمتا عميقا، وأمر بينهم من غير أن يرفع أي واحد منهم بصره إلي، ويدوم هذا الصمت نحو ربع ساعة، ثم ينهض أحدهم وينزع قبعته ويزوي ما بين عينيه ويتنهد ويخن بكلام مبهم مقتبس من الإنجيل كما يرى من غير أن يعي هو أو غيره شيئا من ذلك، فلما فرغ هذا المقطب من مناجاته لنفسه، وتفرق الجمع متأثرا متبلدا سألت صاحبي الكويكري عن السبب في احتمال أعقل هؤلاء لمثل تلك الحماقات، فقال لي:
نحن ملزمون بالإغضاء عنها؛ وذلك لأننا لا نستطيع أن نعرف هل يكون الرجل الذي ينهض ملهما عن عقل أو خبل، فنحن، عند الشك، نستمع إلى الجميع صابرين، فنبيح حتى للنساء أن يتكلمن، وفي الغالب يكون اثنتان أو ثلاث من تقياتنا ملهمات معا، فهنالك يرتفع ضجيج في بيت الرب. - إذن، ليس عندكم قسوس؟ - كلا يا صاحبي، ونطيب نفسا بهذا، ومعاذ الله أن نقدم يوم الأحد على الإيعاز إلى أي كان بأن يفوز بالروح القدس دون غيره من المؤمنين، ونحمد الله على أننا وحدنا في الدنيا خالون من قسيسين، أو تريد أن تنزع منا هذا الامتياز البالغ اليمن؟ لا يلبث هؤلاء المرتزقة أن يسيطروا على البيت وأن يجوروا على الأم والولد، وقد قال الرب: «مجانا أخذتم فمجانا أعطوا»، وهل نساوم بعد هذا الكلام، حول الإنجيل؟ وهل نبيع الروح القدس؟ وهل نجعل من مجتمع النصارى حانوت تجار؟ فنحن لا نهب مالا لمن يلبسون ثيابا سودا كيما يساعدون فقراءنا ويدفنون موتانا ويعظون المؤمنين، وهذه الأعمال المقدسة هي من النفاسة ما لا نتخلى عنها لآخرين. - ولكن كيف تستطيعون أن تدركوا أن الروح القدس هو الذي يحرككم في خطبكم؟ - ليوقن من يدعو الله أن ينير بصيرته، ومن يبشر بالحقائق الإنجيلية أن الله يلهمه.
وهنالك يمطرني وابلا من نصوص الإنجيل التي يرى أنها تثبت عدم وجود ديانة نصرانية بلا وحي مباشر، ويضيف إلى هذا قوله:
إذا ما حركت عضوا من أعضائك فهل تحركه بقوتك؟ كلا لا ريب؛ وذلك لأن لهذا العضو، في الغالب، حركات غير إرادية؛ ولذا فإن الذي خلق جسمك هو الذي يحرك هذا الجسم الفاني، وهل أنت الذي يكون ما تتلقى نفسك من أفكار؟ كلا، وذلك لأنها تأتيك على الرغم منك؛ ولذا فإن خالق نفسك هو الذي يعطيك أفكارك، ولكن بما أنه ترك الحرية لفؤادك فإنه أعطى نفسك من الأفكار ما يستحق فؤادك، فأنت تحيا في الله، وفي الله تتحرك وتفكر، فما عليك، إذن، إلا أن تفتح عينيك لهذا النور الذي ينير جميع الناس حتى ترى الحقيقة فتريها.
وهنالك أصرخ قائلا: «آه! ذلك هو الأب ملبرنش الذي هو بالغ الطهارة!»
فيقول: «أعرف ملبرنشك، فقد كان على شيء من الكويكرية، ولكن ليس بما فيه الكفاية.»
فتلك هي أهم الأمور التي عرفتها عن مذهب الكويكر، وفي الرسالة التالية ترون تاريخهم الذي تجدونه أكثر غرابة من مذهبهم.
الرسالة الثالثة
حول الكويكر
رأيتم أن تاريخ الكويكر يرجع إلى زمن يسوع المسيح الذي يعدونه أول كويكري، وهم يقولون إن الدين فسد بعد وفاته تقريبا، وإنه استمر على هذا الفساد نحو ستة عشر قرنا، ولكن مع وجود نفر من الكويكر محتجبين في العالم دائما، وذلك مع العناية بحفظ النار المقدسة الهامدة في كل مكان آخر، وذلك إلى أن انتشر هذا النور في إنكلترة سنة 1642.
وبينا كانت ثلاث طوائف، أو أربع طوائف، تمزق بريطانية العظمى بالحروب الأهلية، وذلك باسم الرب، عن لابن عامل في معمل حرير، من كونتية ليستر، اسمه جورج فوكس، أن يقوم بالوعظ كرسول حقيقي، فيدعو إلى ما يزعم، وذلك من غير أن يعرف قراءة ولا كتابة، وقد كان شابا في الخامسة والعشرين من سنيه ذا أخلاق خالية من كل عيب وذا هوس عن قدس، وقد كان يلبس رداء من جلد ساتر لما بين قدميه ورأسه، وقد كان ينتقل بين قرية وقرية صارخا ضد الحرب وضد الإكليروس، ولو اقتصر وعظه على رجال الحرب لم يكن في الأمر ما يخشى، ولكنه كان يهاجم رجال الدين؛ ولذا لم يلبث أن ألقي في السجن، ويؤتى به أمام قاضي الصلح في دربي، ويمثل فوكس بين يدي هذا الحاكم لابسا قلنسوته الجلدية، ويصفعه عريف بشدة وهو يقول له: «ألا تعرف، أيها الوغد، أن من الواجب على المرء أن يمثل بين يدي القاضي حاسر الرأس؟» ويدير فوكس خده الآخر ويرجو من العريف أن يلطمه مرة أخرى حبا لله، ويريد قاضي دربي أن يحلفه قبل أن يسأله، فيقول للقاضي: «اعلم، يا صاحبي أنني لا أعبث باسم الله.» ويبصر القاضي أن الرجل يخاطبه بصيغة المفرد فيرسله إلى دار المجانين حتى يجلد، ويذهب جورج فوكس، وهو يحمد الله، إلى هذا المارستان حيث لا يقصر في تنفيذ حكم القاضي تماما، ويدهش القائمون بجلده حين رأوه يرجو منهم أن يمنوا عليه ببضع جلدات أخرى نفعا لنفسه، ولم يبطئ هؤلاء السادة في قبول طلبه، وينال فوكس ضعف المفروض، فيشكر لهم ذلك من صميم فؤاده، ويأخذ في وعظهم، ويسخر منه في البداءة، ثم يستمع إليه، وبما أن الحمية مرض يكتسب فقد قنع كثير منهم، فكان جلادوه تلاميذه الأولين.
ويطلق، فيجوب الحقول مع نفر من المهتدين حديثا، ويعظ ضد الإكليروس دائما فيجلد حينا بعد حين، ويربط على عمود التشهير ذات يوم، فيخطب في الجمهور بما أوتي من قوة، فيسفر هذا عن هداية خمسين من المستمعين ، وهو يبلغ من اجتذاب الباقين، ما ينقذ معه من الحفرة التي كان فيها، ويبحث عن الكاهن الأنغليكاني الذي أدى باعتباره إلى الحكم على فوكس بذلك العقاب ويشد إلى عمود التشهير بدلا منه.
وكان من الجرأة ما حول معه بعض جنود كرومويل إلى مذهبه، فتركوا حرفة السلاح ورفضوا معه تأدية اليمين، وما كان كرومويل ليريد وجود طائفة لا تقول بالقتال مطلقا، شأن سيكست كنت الذي كان يتطير بطائفة لم يناد فيها إلى الطعان، فيلجأ إلى سلطانه في اضطهاد هؤلاء الطارئين، ويملأ السجون بهم، غير أن الاضطهادات لم تصلح لغير صنع مهتدين جدد تقريبا؛ وذلك أنهم كانوا يخرجون من السجون ثابتين على العهد متبوعين من قبل من هدوا من السجانين، ولكن إليك أكثر ما ساعد على انتشار المذهب، وذلك أن فوكس كان يعتقد أنه ملهم، فرأى وجوب كلامه بأسلوب يخالف أساليب الآخرين، ويأخذ في الارتجاف والتشنج والتقطيب، وحبس النفس وإخراجه بشدة، ولم تكن كاهنة دلف لتفعل أحسن من هذا، وينال في زمن قليل عادة في الإلهام كبيرة، ولم يلبث أن صار عاجزا عن الكلام على وجه آخر، وكانت هذه أول هبة حبى بها أتباعه، وهم إذا ما زووا بين عيونهم على غرار معلمهم كان هذا عن حسن نية، وهم يهتزون بما أوتوا من قوة حين الإلهام، ومن هنا تسموا بالكويكر؛ أي بالمرتجفين، ويرتجفون ويخنون ويتشنجون، ويعتقد تداركهم بالروح القدس، وكان لا بد لهم من معجزات، فأتوها.
قال الأب فوكس لقاضي الصلح أمام جمع كبير: «أيها الصاحب، احذر، فالرب سيجعل لك العقاب من أجل اضطهادك أولياءه.» وكان هذا القاضي سكيرا شاربا للجعة الرديئة والعرق ليل نهار، ويموت بداء السكتة بعد يومين، كما لو كان الحادث مثل إمضائه أمرا بإرساله بعض الكويكر إلى السجن، ولم يعز هذا الموت الفجائي قط إلى إفراط القاضي، بل عده جميع الناس نتيجة لنبوءة ذاك القديس.
وقد نشأ عن هذه الوفاة من تحويل إلى الكويكرية أكثر مما يؤدي إليه ألف وعظ وألف تشنج، ويبصر كرومويل ازدياد عددهم يوما بعد يوم فيريد اجتذابهم إليه، فيعرض عليهم مالا فيجدهم أعفاء. ويقول كرومويل: إن هذه الديانة هي الوحيدة التي لم يستطع أن ينتصر عليها بالجنيهات.
أجل، إنهم اضطهدوا في عهد شارل الثاني أحيانا، ولم يقع هذا بسبب ديانتهم، بل نشأ عن عزمهم على عدم إيتاء الإكليروس زكاة، وعن مخاطبتهم القضاة بصيغة المفرد، وعن امتناعهم عن تأدية اليمين كما يأمر القانون.
وأخيرا يقدم الإسكتلندي، روبرت باركلي، إلى الملك رسالة «اعتذار الكويكر»، وكان هذا في سنة 1675، وكان الكتاب أحسن ما يمكن أن يكون، وتشتمل هذه الرسالة المهداة إلى شارل الثاني على حقائق جريئة ونصائح صائبة، لا على مداهنات دنيئة.
وقد قال في آخر هذه الرسالة: «لقد ذقت حلاوة ومرارة، كما ذقت يسرا، وأقصى ما يكون من بلاء، وقد طردت من البلاد التي تحكم فيها، وقد شعرت بثقل الضيم وبمقدار ما يكون الباغي ممقوتا عند الله والناس، فإذا ما قسا قلبك بعد الذي أصابك من محن كثيرة وبركات وافرة، وإذا ما نسيت أن الله ذكرك في نكباتك كان جرمك عظيما، ونلت عقابا شديدا؛ ولذا فاستمع إلى صوت الضمير الذي لا يخادعك مطلقا، بدلا من الإصغاء إلى متملقي بلاطك، وتراني صديقك التابع المخلص: باركلي.»
وأغرب ما في الأمر كون هذا الكتاب موجها إلى الملك من قبل رجل وضيع القدر فاتفق له من الأثر ما زال معه الاضطهاد.
الرسالة الرابعة
حول الكويكر
ويظهر - حوالي هذا الزمن - وليم بن الشهير الذي أقام سلطان الكويكر بأمريكة وجعلهم محترمين في أوروبة ما استطاع الناس أن يحترموا الفضيلة مضمرة تحت ظواهر مثيرة للسخرية، وكان وليم بن ابنا وحيدا للفارس بن؛ أي لنائب أمير البحر بإنكلترة والمقرب لدى دوك يورك الذي صار جيمس الثاني.
ومما حدث أن التقى وليم بن، وهو في الخامسة عشرة من سنيه بكويكري في أكسفورد حيث كان يدرس، فأقنعه هذا الكويكري، ولم يلبث الشاب النشيط، الفصيح بفطرته، والذي تدل سيماه وأوضاعه على الشرف، أن فاز ببعض زملائه، ويقيم - من حيث لا يدري - جمعية من فتيان الكويكر الذين كانوا يجتمعون في منزله، فيجد نفسه رئيسا لطائفة في السادس عشر من عمره.
ويعود إلى نائب أمير البحر أبيه بعد أن تخرج من الكلية، ويدنو من أبيه لابسا قبعته بدلا من الركوع أمامه وطلب البركة منه على حسب عادة الإنكليز، ويقول له: «سررت كثيرا يا صاحبي إذ رأيتك تتمتع بصحة جيدة.» ويعتقد نائب أمير البحر أن ابنه صار مجنونا، ولكنه لم يلبث أن أبصر أن ولده كان كويكريا، فاتخذ جميع ما تمليه حكمة الإنسان من الوسائل حملا له على الحياة كغيره، فلم يكن جواب الشاب حيال والده غير إغرائه على انتحال الكويكرية مثله.
وأخيرا؛ يجنح الأب إلى عدم مطالبة ابنه بشيء غير الذهاب لمقابلة الملك ودوك يورك واضعا قبعته تحت إبطه، وغير مخاطب إياه بصيغة المفرد، ويجيب وليم عن هذا بقوله: إن ضميره لا يجيز له هذا، فلما يئس الأب من الابن وكاد يتميز من الغيط طرد ولده هذا من منزله. ويحمد الشاب بن ربه على ما أصابه من ألم في سبيله، ويذهب للوعظ في المصر ويوفق لهداية كثير من الناس.
وتتضح السبل بمواعظ المبشرين كل يوم، وبما أن بن كان شابا وسيما حسن التكوين فإن نساء البلاط والمصر كن يهرعن إليه ليستمعن له عن ورع، ويأتي الأب جورج فوكس من أقاصي إنكلترة للاجتماع به في لندن نظرا إلى شهرته، ويعزم الاثنان على التبشير في البلدان الأجنبية، ويبحران إلى هولندة بعد أن تركا في لندن عددا كافيا من العمال لتعهد الكرمة، ويكتب لهما توفيق كبير في أمستردام، ولكن أكثر ما شرفا به فكان أعظم خطر حاق بتواضعهما هو استقبالهما من قبل بلاتينا إليزابت التي كانت عمة لملك إنكلترة جورج الأول، فاشتهرت بذكائها ودرايتها وأهدى إليها ديكارت روايته الفلسفية.
وكانت حينئذ معتزلة في لاهاي حيث التقت بهؤلاء الكويكر الذين كانوا يسمون أصحابا في هولندة في ذلك الوقت، وتجتمع بهم عدة مرات، ويقومون بالوعظ في منزلها غالبا، وهم وإن لم يجعلوا منها كويكرية خالصة، اعترفوا - على الأقل - بأنها لم تكن بعيدة من ملكوت السماوات.
وبذر الأصحاب في ألمانية أيضا، ولكنهم حصدوا قليلا، فما كانت عادة المخاطبة بصيغة المفرد لتستطاب في بلد يجب ألا تفارق الفم فيه كلمات صاحب السمو وصاحب السعادة، ويعود بن إلى إنكلترة من فوره نظرا إلى ما تلقى من خبر مرض أبيه، ويأتي لمساعدته حين وفاته، ويتصالح نائب أمير البحر وابنه ويقبله تقبيل حنان على ما بينهما من اختلاف في المذهب، ويعظه وليم بألا يتناول سر القربان وبأن يموت كويكريا، فيذهب وعظه أدراج الرياح، وينصح الشيخ البسيط وليم بأن يضع أزرارا على كميه ومبرومات على قبعته، فيذهب نصحه أدراج الرياح.
ويرث وليم أموالا عظيمة، وترى بينها ديون على التاج ناشئة عن سلفات قدمها أمير البحر في غزوات بحرية، ولم يكن في ذلك الحين ما هو أقل ضمانا من مال يكون الملك به مدينا، ويضطر بن إلى مقابلة شارل الثاني ووزرائه غير مرة ومخاطبتهم بصيغة المفرد وصولا إلى تأدية بدل الدين إليه، وتمنحه الحكومة في سنة 1680، ملك إقليم في أمريكة واقع جنوب مريلندة وسيادة هذا الإقليم، وذلك عوضا من المال، وهكذا يصبح كويكري أميرا، ويذهب إلى بلده الجديد في مركبين مشحونين بمن اتبعه من الكويكر، ويسمى هذا البلد بنسلفانية منذ ذلك الزمن، نسبة إلى بن، ويؤسس في هذا البلد مدينة فيلادلفية التي غدت كثيرة الازدهار في هذه الأيام، ويأخذ في عقد محالفات مع جيرانه من الأمريكيين، وهذه هي المعاهدة الوحيدة بين النصارى وهؤلاء الناس لم تشفع بيمين ولم تنقض مطلقا، ويبدو الأمير الجديد مشترعا لبنسلفانية، ويضع قوانين بالغة الحكمة لم يغير أي واحد منها حتى الآن، وينص أول قانون منها على عدم الإساءة إلى أحد بسبب دينه، وعلى عد جميع الذين يؤمنون بالله إخوة.
ولم يكد يقيم حكومته حتى جاء هذه المستعمرة تجار كثير ليعمروها، ويأنس أبناء البلاد الأصليون إلى هؤلاء الكويكريين المسالمين رويدا رويدا، وذلك بدلا من أن يفروا إلى الغاب، ويحب أبناء البلاد الأصليون هؤلاء القادمون الجدد بمقدار مقتهم للنصارى الآخرين الفاتحين لأمريكة والمخربين لها، ولم يمض غير زمن قليل حتى أتى عدد كبير من هؤلاء المتوحشين المزعومين، الذين فتنوا برفق هؤلاء الجيران، طالبا من وليم بن أن يقبله بين أتباعه، وكان من المناظر الجديدة أن يرى أمير يخاطبه جميع الناس بصيغة المفرد، وأن يحادث والقبعة على الرأس، وأن ترى حكومة بلا قسوس وأمة بلا سلاح ومواطنون متساوون أمام القضاء وجيران بلا حسد.
وكان يمكن وليم بن أن يباهي بكونه جلب إلى الأرض ذلك العصر الذهبي الذي يحدث عنه كثيرا، والذي لم يوجد في غير بنسلفانية على ما يحتمل، وقد عاد إلى إنكلترة بعد موت شارل الثاني من أجل أمور خاصة ببلده الجديد، وكان الملك جيمس يحب الابن مثل سابق حبه لأبيه، فعاد لا يعده تابعا لبدعة خامل الجاه، بل رجلا عظيم القدر، وتلائم سياسة الملك في هذا ذوقه، ويرغب في مداراة الكويكر بإلغائه القوانين التي وضعت ضد من هم غير أنغليكان قاصدا إمكان إدخال المذهب الكاثوليكي تحت ظل هذه الحرية، وتبصر طوائف إنكلترة كلها هذا الشرك، فلا تدع نفسها تقع فيه، وهي ما انفكت تتحد حيال الكثلكة التي تحسبها عدوتها المشتركة، ولكن بن لا يرى أن يعدل عن مبادئه إكراما للبروتستان الذين يمقتونه ومخالفة لملك يحبه، وبن هو الذي أقام حرية الضمير في أمريكة، فلم يكن ليرغب في القضاء عليها بأوروبة، ويبقى وفيا لجيمس الثاني، ويبدي من الوفاء له ما يتهم معه بأنه من اليسوعيين، وتؤذيه هذه الفرية كل الأذى، فيضطر إلى تسويغ موقفه بما ينشر من مقالات، ومع ذلك فإن التعس جيمس الثاني، الذي كان مزيجا من العظمة والضعف، كجميع آل ستوارت تقريبا، قد خسر مملكته من غير أن يستطاع بيان كيفية وقوع الأمر.
وتقبل جميع الطوائف الإنكليزية من وليم الثالث وبرلمانه تلك الحرية التي لم ترد تلقيها من جيمس، وكان من نتيجة ذلك أن صار الكويكر يتمتعون، بقوة القوانين، بجميع الامتيازات التي يحرزونها اليوم، ويعود بن إلى بنسلفانية بعد أن أبصر قيام نحلته في مسقط رأسه بلا معارضة، ويستقبله ذووه والأمريكيون وعيونهم تفيض من الدمع ابتهاجا كما لو كان والدا عائدا ليرى أولاده، وقد رعيت حرمة جميع قوانينه في أثناء غيابه رعاية دينية لم تتفق لمشترع قبله، وقد بقي بضع سنين في فيلادلفية، ثم غادرها على الرغم منه كيما يلتمس فوائد جديدة من لندن نفعا لتجارة البنسلفانيين، ويعيش بلندن حتى بلغ أقصى المشيب، ويعد زعيما لشعب ورئيسا لديانة، ويتوفى سنة 1718.
ويحفظ لذريته ملك بنسلفانية وحكومتها، ويبيعون الحكومة من الملك باثنتي عشرة ألف قطعة من النقود، ولم تكن أشغال الملك لتسمح له بدفع ما يزيد على ألف، وقد يظن القارئ الفرنسي أن الوزارة تؤدي إليه وعودا في مقابل بقية الحساب، ولكن شيئا من هذا لم يقع، وذلك أن التاج، إذ لم يقم بدفع جميع المبلغ في الوقت المعين، عد عقده باطلا، فعاد إلى آل بن سابق حقوقهم.
ولا أستطيع أن أتنبأ بمصير ديانة الكويكر بأمريكة، ولكن الذي أرى أنها تتوارى بلندن مقدارا فمقدارا، ومن الواقع في جميع البلدان أن الديانة المسيطرة تبتلع ما سواها إذا لم تسلك سبيل الاضطهاد، ومن الواقع أن الكويكر لا يستطيعون أن يكونوا أعضاء في البرلمان ولا أن يتقلدوا أي منصب كان لما يقتضي هذا وذاك من اليمين التي لا يريدون تأديتها مطلقا، فاضطروا لهذا السبب أن يلجئوا إلى التجارة كسبا للمال، ويريد أولادهم الذين اغتنوا بحرفة آبائهم أن يتمتعوا وأن ينالوا ألقابا وأزرارا وزخرفا على أطراف الأكمام، ويعتريهم خجل من أن يدعوا كويكر فيتحولون إلى بروتستان حتى يكونوا على الموضة.
1
الرسالة الخامسة
حول الديانة الأنغليكانية
هذا هو بلد الملل والنحل، ويذهب الإنكليزي، كرجل حر إلى السماء من الطريق الذي يروقه. ومع ذلك فإن كل واحد، وإن أمكنه أن يعبد الله كما يهوى، يرى أن ديانته الحقيقية؛ أي الديانة التي تؤدي إلى السعادة هي الديانة الأنغليكانية ذات الأساقفة، ولا يمكن أن تنال وظيفة في إنكلترة وأيرلندا ما لم يكن الطالب من الأنغليكان، وهذا السبب - الذي هو دليل واضح - أدى إلى تحويل كثير من غير الأنغليكان إلى الأنغليكانية، فبلغ الأمر من الاستفحال ما ترى معه اليوم أقل من نصف عشر الأمة خارج نطاق الكنيسة المسيطرة.
وقد أبقى الإكليروس الأنغليكاني كثيرا من الطقوس الكاثوليكية، ولا سيما أمر تناول الزكاة مع زيادة الانتباه، وتجد لدى هؤلاء الناس طموحا تقيا إلى السلطة أيضا.
وفضلا عن ذلك تجدهم يثيرون بين أتباعهم حمية دينية ضد من هم غير أنغليكان، وكانت هذه الحمية على شيء من الشدة أيام حكم المحافظين في السنين الأخيرة من عهد الملكة أنا، ولكن مدى هذه الحمية كان لا يمتد، أحيانا، إلى أبعد من تحطيم زجاج النوافذ في بيع الملاحدة؛ وذلك لأن زوبعة الفرق في إنكلترة انتهت بالحروب الأهلية، وعادت في عهد الملكة أنا لا تكون غير ضجيج أصم في بحر يظل هائجا بعد العاصفة، ولما مزق الأحرار والمحافظون بلدهم، كما صنع الغلف والجبلين بإيطالية فيما مضى، وجب تدخل الدين بين الفرق، وكان المحافظون قائلين للأنغليكانية ذات الأساقفة، وكان الأحرار يريدون إلغاءها، ولكنهم اكتفوا بالحط من قدرها عندما صاروا سادة.
وكانت الكنيسة الأنغليكانية تعد الكونت هارلي الأكسفوردي واللورد بولنغبروك مدافعين عن امتيازاتها المقدسة منذ جعلا الناس يشربون نخب المحافظين، وكان يوجد لمجلس الإكليروس الأدنى، الذي هو مجلس نواب مؤلف من رجال الدين كما يمكن أن يحسب، بعض الاعتبار في ذلك الحين، فقد كان يتمتع على الأقل بحرية الاجتماع وإقامة البرهان، وإحراق بعض كتب الإلحاد حينا بعد حين؛ أي الكتب المخالفة له، ولا تسمح وزارة الأحرار، القابضة على زمام الأمور في الوقت الحاضر لهؤلاء السادة بعقد جلساتهم، فتراهم مقصورين في ظلماء خورنيتهم على القيام بالدعاء إلى الرب أن يؤيد الحكومة التي لا يغيظهم اضطراب أمرها، وأما الأساقفة البالغ عددهم ستة وعشرين، فلهم مقاعد في المجلس الأعلى على الرغم من الأحرار؛ وذلك لبقاء سوء الاستعمال القديم الذي يعدون به بارونات، ولكنهم عادة لا يكون لهم في المجلس مثل سلطان الدوكات والأمراء في برلمان باريس، وتوجد في اليمين التي تؤدى إلى الدولة فقرة يختبر بها صبر هؤلاء السادة النصراني.
ففيها يوعد بالانتساب إلى الكنيسة كما نص عليه القانون، ولا يوجد أسقف ولا عميد ولا رئيس قسوس لا يرى أمره من حق إلهي؛ ولذا يكون من الإهانة لهم أن يحملوا على الاعتراف بأنهم يستمدون كل أمر من قانون رذيل وضعه علمانيون مدنسون للقدسيات، ومما وقع منذ زمن قليل أن وضع قسيس (الأب كورايه) كتابا لإثبات صحة المراتب الأنغليكانية وترادفها، وقد قضي بإتلاف هذا الكتاب في فرنسة، ولكن هل ترون أنه راق الوزارة الإنكليزية؟ كلا، فمما لا يبالي به هؤلاء الأحرار الملعونون كون تتابع الأساقفة قد قطع عندهم أو لا، وكون الأسقف باركر قد سيم في حانة - كما يراد - أو في كنيسة، وإنما يؤثرون أن ينال الأساقفة سلطانهم من البرلمان على نيله من الرسل، ويقول اللورد ب ... إن مبدأ الحق الإلهي هذا لا ينفع لغير صنع طغاة لابسين حللا إكليروسية مع أن القانون يصنع مواطنين.
وأما من حيث الخصال فالإكليروس الأنغليكاني أكثر انتظاما من الإكليروس الفرنسي، وعلة ذلك أنهم ينشئون في جامعة أكسفورد أو في جامعة كنبردج بعيدين من فساد العاصمة، وأنهم لا يدعون إلى مناصب الكنيسة إلا بعد مرور زمن وفي سن لا يكون لدى الإنسان من الأهواء فيها غير الطمع، وذلك حين يعوز الزاد طموحهم، فالوظائف هنا تكون مكافأة على خدم طويلة في الكنيسة كما في الجيش، فلا يرى وقت الخروج من الكلية أساقفة شبان ولا زعماء في الجيش فتيان، وإلى هذا أضف كون القسوس متزوجين، وما يتعود في الجامعة من ألطاف سيئة وما يكون من قلة مصاحبة للنساء فيها يحمل الأسقف، عادة، على الاكتفاء بامرأته، ويذهب القسوس إلى الحانة أحيانا؛ وذلك لأن العرف يبيح لهم هذا، وهم إذا ما سكروا كان هذا برصانة ومن غير فضيحة.
ولا عهد لإنكلترة بذلك المخلوق المستغلق الذي ليس إكليروسيا ولا زمنيا، والذي يدعى أبا روحيا، فجميع رجال الدين في إنكلترة متحفظون، وكلهم متحذلقون، وهم إذا ما علموا وجود شباب في فرنسة عرفوا بالفجور وارتقوا إلى الحبرية بمكايد النساء فيقومون بأمور الغرام جهرا، وأنهم يبتهجون بتأليف أناشيد ناعمة، وأنهم يقيمون في كل يوم ولائم عشاء لذيذة طويلة، وأنهم يذهبون من هنالك لالتماس الأنوار من الروح القدس، وأنهم يكونون من الوقاحة ما يتسمون معه بورثة الرسل، حمدوا الله على بروتستانيتهم، بيد أنهم ملاحدة خبثاء يستحقون أن يحرقوا مع الشيطان كما قال المعلم فرنسوا رابله؛ ولذا فإنني لا أعنى بأمورهم.
الرسالة السادسة
حول البرسبيتاريين
لا تنتشر الديانة الأنغليكانية في غير إنكلترة وأيرلندا، والبرسبيتارية هي الديانة السائدة لاسكتلندة، وليست هذه البرسبيتارية شيئا غير الكلفينية الخالصة، وذلك كما كانت قد أقيمت في فرنسة وكما هي الآن في جنيف، وبما أن قساوسة هذه الفرقة لا ينالون من كنائسهم غير رواتب زهيدة جدا؛ ومن ثم لا يستطيعون العيش بمثل ترف الأساقفة؛ فإن من الطبيعي أن يرفعوا عقيرتهم حيال المراتب السنية التي لا يستطيعون الارتقاء إليها، وتمثلوا المختال ذيوجانس الذي كان يزدري خيلاء أفلاطون تجدوا أن برسبيتاريي اسكتلندة لا يخلون من مشابهة لهذا المبرهن المختال الخبيث، فقد عاملوا الملك شارل الثاني باحترام أقل مما عومل به الإسكندر من قبل ذيوجانس؛ وذلك لأنهم حينما حملوا السلاح في سبيل هذا الملك المسكين كيما يقاتلون كرومويل الذي كان قد خادعهم ألزموه باحتمال أربع مواعظ في كل يوم، ومنعوه من اللهو واللعب، وفرضوا عليه التقشف، ففر من بين أيديهم كما يفر الطالب من المدرسة.
ويعد اللاهوتي الأنغليكاني مثل كاتون أمام الشاب النشيط الفرنسي الذي يملأ مدارس اللاهوت صياحا في الصباح، فإذا ما حل المساء قضى وقته مع النساء شاديا، ولكن كاتون هذا يبدو مراودا أمام البرسبيتاري الاسكتلندي، فهذا الأخير يظهر اتزانا في حركته، ويتكلف ظاهرا من الغضب في هيئته، ويلبس قبعة واسعة ومعطفا طويلا فوق ثوب قصير، وهو إذا ما وعظ فمن أنفه، وهو يطلق اسم عاهرة بابل على جميع الكنائس التي يسعد الحظ بعض رجالها، فينالون في كل عام دخل خمسين ألف فرنك، والتي يكون الشعب فيها من الجود ما يصبر معه على هذا فيدعو الواحد منهم ب «مولانا» أو «عظمتكم» أو «سماحتكم».
وجعل هؤلاء السادة، الذين لهم بضع كنائس في إنكلترة أيضا ، عبوس الملامح واتزان الأوضاع من موضة هذا البلد، ويعد تقديس يوم الأحد مدينا لهؤلاء في الممالك الثلاثة حيث منع العمل واللهو في ذلك اليوم، وهذا يعني ضعف شدة الكنائس الكاثوليكية، فلا أبرا ولا كميدية ولا جوقات موسيقية يوم الأحد بلندن، وقد كان من حظر الورق في ذلك اليوم ما عاد لا يلعبه فيه غير ذوي المواهب والفضل كما يدعون، وأما بقية الأمة فتذهب إلى الوعظ وإلى الحانة وإلى بنات البهجة.
ومع أن الفرقتين، الأنغليكانية والبرسبيتارية، هما السائدتان لبريطانية العظمى فإنه يحسن قبول ما سواهما فتعيش هذه الفرق على شيء من حسن الوئام، وذلك على حين يتباغض رعاتها تباغضا قلبيا كالذي يحكم به الينسيني على اليسوعي بالهلاك الأبدي.
وادخلوا برصة لندن، ادخلوا هذا المكان الذي له من الحرمة ما ليس لكثير من البلاطات، تبصروا رسلا من جميع الأمم مجتمعين فيها نفعا للناس، تبصروا اليهودي والمسلم والنصراني يتعاملون كما لو كانوا أبناء دين واحد، فلا يطلقون اسم الكافرين على غير من يفلسون، وفي البرصة يثق البرسبيتاري بالتعميدي ويرضى الأنغليكاني بوعد الكويكري، ويذهب بعضهم إلى الكنيس ويذهب الآخرون إلى الشرب، ويذهب هذا ليمزج الخمر بالماء في دن باسم الآب من قبل الابن ذي الروح القدس، ويأمر ذاك بقطع قلفة ابنه، وبأن يدندن فوق ابنه بكلمات عبرية لا يدركها مطلقا، ويذهب هؤلاء الآخرون إلى كنيستهم كيما يرتقبون وحي الله لابسين قبعاتهم على رءوسهم مع رضاهم أجمعين.
ولو وجدت في إنكلترة ديانة واحدة فقط لاعترى النفوس خوف من الاستبداد، ولو وجدت فيها ديانتان، فقط لتذابحتا، ولكن يوجد فيها ثلاثون ديانة وهي تعيش سعيدة متسالمة.
الرسالة السابعة
حول السوسنية والآريوسية واللاثالوثية
توجد هنا فرقة صغيرة مؤلفة من إكليروس وكهنة غير قانونيين وغير حاملين اسم الآريوسيين ولا السوسنيين، ولكن من غير أن يكونوا على رأي القديس أثناس في موضوع الثالوث، فهم يقولون لكم بجلاء إن الآب أكبر من الابن.
أو لا تذكرون أن أحد أساقفة الأرثوذكس أراد إقناع القيصر بوحدة الجوهر، فعن له تناول ابن القيصر تحت ذقنه ونزع أنفه، وكاد القيصر يغضب على الأسقف لولا أن هذا الرجل السليم الطوية خاطبه بالكلمة الرائعة المقنعة الآتية، وهي: «مولاي، إذا كنتم، يا صاحب الجلالة، تغضبون من عدم احترام ابنكم، فما رأيكم فيما يعامل به الرب الآب أولئك الذين يبخلون على يسوع المسيح ما يجب له من الألقاب؟» ويقول الرجال الذين حدثتكم عنهم إن القديس الأسقف كان لا يعرف من أين تؤكل الكتف، وإنه لم يوجد ما هو أقل قطعا من برهانه، وإنه كان يجب على القيصر أن يجيبه بقوله: «اعلم أنه يوجد وجهان للإساءة إلي، وهما: أن يقصر في إكرام ابني وأن يكرم ابني بمقدار إكرامي.»
ومهما يكن من أمر فإن حزب آريوس أخذ يبعث في إنكلترة كما في هولندة وبولونية، ومما يشرف هذا الرأي استحسان السيد الكبير نيوتن له، فعند هذا الفيلسوف أن اللاثالوثيين كانوا أكثر منا برهنة هندسية، بيد أن الدكتور كلارك الشهير أقوى نصير للمذهب الآريوسي، ويتصف هذا الرجل بشدة الفضل ودماثة الطبع، وبكونه أكثر كلفا بآرائه من ولعه بصنع مهتدين، وهو، إذا قصر همه على الحساب والإثبات، أمكن عده آلة حقيقية للبراهين.
وهو المؤلف لكتاب على شيء من الاتساع، ولكن مع التقدير حول وجود الله، وهو المؤلف لكتاب آخر أكثر وضوحا، ولكن مع الاستخفاف، حول حقيقة النصرانية.
وهو لم يخض قط غمار المناقشات الكلامية الفلسفية الرائعة التي يطلق عليها صديقنا اسم الأحلام المكرمة، وقد اقتصر على طبع كتاب شامل لجميع شواهد القرون الأولى الملائمة للاثالوثية، والمناقضة لها تاركا للقارئ أمر عد الأصوات والحكم، وقد جلب هذا الكتاب كثيرا من الأنصار إلى الدكتور، ولكنه حال دون نصبه رئيسا لأساقفة كنتربري، وأظن أن الدكتور غلت
1
في حسابه، فأفضل للإنسان أن يكون جثليق
2
إنكلترة من أن يكون خوريا آريوسيا.
وترون الثورات التي تقع في الآراء كما في الدول، وأخيرا يبعث حزب آريوس من مرقده بعد ثلاثة قرون نصر واثني عشر قرن نسيان، ولكنه أساء اختيار وقت بعثه في عصر شبع العالم فيه من المناقشات والفرق، ولا يزال هذا الحزب من الصغر ما لا ينال معه حرية المجالس العامة، أجل إنه سينالها، لا ريب، عندما يصير أكثر عددا، ولكن الناس أصبحوا من الفتور حول جميع هذا في الوقت الحاضر ما عاد لا يكتب معه حظ لدين جديد أو مجدد، أولا يثير الابتسام أن يؤسس لوثر وكلفين وزونيغمل وجميع من لا يمكن قراءتهم من الكتاب فرقا تقتسم أوروبة وأن يعطي محمد الأمي آسية وأفريقية دينا، وألا يكاد السادة نيوتن وكلارك ولوك وكلير وغيرهم؛ أي هؤلاء الذين هم أعظم فلاسفة زمنهم وأحسن حملة الأقلام في عصرهم، يستطيعون إقامة جماعة صغيرة نرى نقصان عددها يوما بعد يوم؟
ذلك ما يأتي العالم في حينه، ولو بعث كردينال ريتز في أيامنا ما أثار عشر نساء في باريس.
ولو بعث كرومويل الذي أمر بقطع رأس الملك، ونصب نفسه وليا للأمر لظهر تاجرا بسيطا بلندن.
الرسالة الثامنة
حول البرلمان
يحب أعضاء البرلمان الإنكليزي أن يشبهوا بقدماء الرومان ما استطاعوا. ولما يمض زمن طويل على بدء مستر شبنغ خطبته في مجلس النواب بكلمة: «ستؤذي جلالة الشعب الإنكليزي، إلخ.» وقد نشأت عن غرابة التعبير قهقهة كبيرة، ولكنه لم يرتبك، فكرر الكلام نفسه بلهجة حازمة، وعاد الأعضاء يضحكون، وأعترف بأنني لا أبصر ما هو مشترك بين جلالة الشعب الإنكليزي والشعب الروماني، وأقل من هذا ما بين حكومتيهما - أجل - يوجد سنات في لندن يتهم بعض أعضائه، على غير حق، لا ريب بأنهم يبيعون أصواتهم عند الفرصة كما كان يصنع في رومة، وهذا كل ما هنالك من مشابهة، فإذا عدوت هذا بدت الأمتان لي مختلفتين كل الاختلاف في الخير والشر، فلم يعرف الرومان حماقة الحروب الدينية الكريهة قط، وقد حفظت هذه القباحة لأتقياء مبشرين بالتواضع وموصين بالصبر، وكان ماريوس وسيلا، وبوني وقيصر، وأنطوان وأغسطس، لا يتقاتلون حتى يقرر وجوب لبس الكاهن قميصه فوق حلته أو لبس حلته فوق قميصه، ووجوب إطعام الفراريج المقدسة وسقيها أو إطعامها فقط نيلا للفئول، وكان الإنكليز قد شنقوا بعضهم بعضا تبادلا بأحكام من محاكمهم الجنائية ، وكانوا قد أبادوا بعضهم بعضا في معارك منظمة ناشئة عن منازعات من ذلك الطراز، وكانت فرقة الأنغليكان وفرقة البرسبيتارية قد لوتا هذه الرءوس الرصينة، فيخيل إلي أن مثل هذه الجهالات لن تصدر عنها بعد الآن، وتغدوان - كما تبدوان لي - سالكتين سبيل الحكمة على حسابهما، فلا أرى فيهما أي ميل إلى التذابح - بعد الآن - من أجل قياسات منطقية.
وإليك فرقا جوهريا أكثر من ذلك بين رومة وإنكلترة يحكم به لمنفعة إنكلترة، وذلك أن العبودية كانت ثمرة الحروب الأهلية في رومة، وأن الحرية ثمرة الاضطرابات في إنكلترة، والأمة الإنكليزية وحدها هي التي انتهت في العالم إلى تنظيم سلطة الملوك بمقاومتهم، وأقامت في آخر الأمر، وبعد جهود متواصلة، هذه الحكومة الحكيمة التي يكون فيها الأمير، القادر على كل شيء لصنع الخير، مقيد اليدين في صنع الشر، والتي يكون السنيورات عظماء بلا عتو ومن غير فسالات، والتي يكون للشعب نصيب في حكومتها بلا بلبلة.
ومجلس اللوردات ومجلس النواب هما حكما الأمة، والملك هو الحكم الثالث، وكان هذا التوازن يعوز الرومان، فالكبراء والدهماء في رومة كانوا منقسمين دائما، وذلك من غير وجود سلطة فاصلة توفق بين الفريقين، وكان سنات رومة الذي هو من الزهو الجائر وعدم الإنصاف ما لا يريد معه أن يقاسمه العوام شيئا، لا يعرف وسيلة، لإقصائهم عن الحكومة غير شغلهم بالحروب الخارجية، وكان يعد الشعب وحشا ضاريا يجب إطلاقه على الجيران خشية أن يفترس سادته، وهكذا فإن أكبر عيب في حكومة الرومان جعل من الشعب فاتحين، وذلك أنهم صاروا سادة العالم لأنهم كانوا تعساء، وذلك إلى أن غدوا عبيدا بفعل انقساماتهم.
ولم تخلق حكومة إنكلترة لمثل هذه الضجة العظيمة ولا لمثل هذه الغاية المشئومة، ولا يتجلى هدفها في حماقة القيام بفتوح مطلقا، بل في منع جيرانها من هذا، وليس هذا الشعب حريصا على حريته وحدها، بل على حرية الشعوب الأخرى، وقد استشرى الإنكليز ضد لويس الرابع عشر لما رأوا من طموحه، فحاربوه بصدر رحيب غير مبتغين لأنفسهم نفعا لا ريب.
أجل، كلف قيام الحرية في إنكلترة ثمنا غاليا، ولم يغرق طاغوتها الاستبدادي في غير بحار من الدماء، بيد أن الإنكليز لا يرون أن ما نالوا من قوانين صالحة كان بثمن غال، أجل، لم تعرف الأمم الأخرى اضطرابات أقل مما أراق الإنكليز، بيد أن هذه الدماء التي سفكتها في سبيل حريتها لم تؤد إلى غير توطيد عبوديتها.
وما يكون ثورة في إنكلترة يعد شغبا في البلدان الأخرى، فالمدينة في إسبانية أو المغرب أو تركية إذا ما حملت السلاح للدفاع عن امتيازاتها لم تلبث أن تقهر من قبل جنود من المرتزقة ولم تلبث أن تعاقب من قبل جلادين، وأما بقية الأمة فترسف في قيودها. ويرى الفرنسيون أن حكومة هذه الجزيرة
1
أكثر هياجا من البحر الذي يحيط بها، وهذا صحيح، ولكن هذا يكون عندما يبدأ الملك العاصفة، ولكن هذا يكون عندما يريد أن يصير سيدا للمركب الذي ليس له غير ربانه الأول. أجل، كانت الحروب الأهلية في فرنسة أطول أمدا وأشد قسوة وأكثر إجراما من حروب إنكلترة الأهلية، بيد أنك لا ترى أية واحدة من جميع تلك الحروب الأهلية كانت تهدف إلى حرية حكيمة.
وإذا ما نظر أيام شارل التاسع وهنري الثالث وجد أن الأمر كان يدور حول معرفة إمكان تحول الناس إلى عبيد لآل الغيز، وإذا ما نظر إلى حرب باريس الأخيرة وجد أنها لا تستحق غير صفير، ويلوح لي أني أبصر طلبة يتمردون على مدير المدرسة، فينتهي أمرهم بالجلد، وكان كردينال ريتز يأتمر مؤذيا للأذى نفسه فيلوح أنه يشهر حربا ليقر عينا، وذلك مع كثير كياسة وسوء استعمال بسالة، ومع تمرد بلا موضوع، ومع كونه عاصيا بلا هدف، ومع كونه رئيسا لحزب بلا جيش، وكان البرلمان لا يعرف ما يريد ولا ما لا يريد، وكان يجمع كتائب بقرار، وكان يحطمها، وكان يهدد، ويطلب العفو، وكان يضع مكافأة لمن يقتل مازاران، ثم يثني عليه في احتفال، وكانت حروبنا الأهلية في عهد شارل السادس قاسية، وكانت حروب الحلف كريهة، وكانت حرب المقلاع مثيرة للسخرية.
وأكثر ما يلام عليه الإنكليز في فرنسة هو تنكيلهم بشارل الأول الذي عامله قاهروه بمثل ما كانوا يعاملونه به لو قضى حياة سعيدة.
ومهما يكن من أمر فانظروا من ناحية إلى شارل الأول المغلوب في معركة بين جيشين نظاميين، والذي أسر وحوكم وحكم عليه في وستمنستر. وانظروا - من ناحية أخرى - إلى الإمبراطور هنري السابع الذي سم من قبل كاهنه وهو يتناول القربان، وإلى هنري الثالث الذي قتل من قبل راهب في سورة غضب، وإلى ثلاثين حادث اغتيال حيال هنري الرابع نفذ كثير منها، فحرمت بآخرها فرنسة هذا الملك العظيم، ثم فكروا في هذه الاعتداءات واحكموا فيها.
الرسالة التاسعة
حول الحكومة
لم يكن موجودا دائما هذا الامتزاج المبارك في حكومة إنكلترة؛ أي هذا الاتفاق بين العوام واللوردات والملك، فقد ظلت إنكلترة عبدة زمنا طويلا، وذلك أنها عبدت من قبل الرومان والسكسون والدنيمركيين والفرنسيين، وأن وليم الفاتح حكم فيها بمقامع من حديد، فكان يتصرف في أموال رعاياه الجدد وحياتهم كما يتصرف العاهل في الشرق، ومما صنع أن جعل عقوبة الموت جزاء الإنكليزي الذي يجرؤ على حيازة نار ونور في بيته بعد الساعة الثامنة مساء، وهذا سواء أعن زعمه أنه يحول بذلك دون اجتماعات الإنكليز الليلية، أم عن قصده أن يختبر، بمثل هذا الحظر الغريب، ما يبلغه سلطان الإنسان على الإنسان من المدى.
ولا مراء في أنه كان للإنكليز برلمانات قبل وليم الفاتح وبعده، فيباهون بهذه المجالس التي كانت تدعى برلمانات في ذلك الحين، والتي كانت مؤلفة من طغاة إكليروسيين وبارونات نهابين، وذلك كما لو كانت هذه المجالس حارسة للحرية وسعادة للناس.
ولما أغار البرابرة من شواطئ البحر البلطي على بقية أوروبة جلبوا معهم عادة هذه المجالس، أو البرلمانات التي دار حولها كثير ضوضاء والتي كان لا يعرف من أمرها غير القليل، ولم يكن الملوك في ذلك الحين مستبدين قط لا ريب، ولكن الشعوب كانت تئن كثيرا ضمن عبودية خبيثة، ويصير زعماء هؤلاء المتوحشين، الذين خربوا فرنسة وإيطالية وإسبانية وإنكلترة ملوكا، ويقتسم ضباطهم أراضي المغلوبين فيما بينهم؛ ومن ثم أتى هؤلاء المرغرافات والليردات والبارونات والطغاة الذين كانوا - في الغالب - ينازعون ملوكهم أسلاب الشعوب، وكان هؤلاء طيورا كاسرة تقاتل النسر مصا لدم الحمائم، فكان يوجد في كل أمة مائة طاغية بدلا من سيد، ولم يلبث القسوس أن اشتركوا في القسمة، ومن نصيب الغول والجرمان وجزريي إنكلترة أن يحكم فيه دائما من قبل كهنتهم، ومن قبل رؤساء قراهم الذين هم ضرب قديم من البارونات، ولكن مع كونهم أقل طغيانا من خلفائهم، وكان هؤلاء الكهنة يدعون أنهم وسطاء بين الله والناس، فيضعون قوانين ويحرمون ويحكمون بالموت، ويخلفهم الأساقفة بالتدريج في سلطانهم الزمني في حكومة القوط والوندال، ويوضع البابوات على رأسهم فيرعدون الملوك بما يصدرون من مناشير ومراسيم وأوامر، ويخلعونهم، ويرسلون من يغتالهم، ويحولون إلى أنفسهم كل ما يقدرون عليه من مال في أوروبة، وكان الغبي إيناس الذي هو أحد الطغاة في حكومة إنكلترة السباعية أول من خضع، في حج إلى رومة، لدفع دينار القديس بطرس عن كل منزل في منطقته، ولم تلبث الجزيرة كلها أن اقتدت به، وتصير إنكلترة من ولايات البابا مقدارا فمقدارا، ويرسل البابا إلى إنكلترة نائبين عنه في الحين بعد الحين جمعا لضرائب ثقيلة، وأخيرا يتنزل جيمس المحروم عن مملكته لقداسة البابا الذي كان قد حرمه، ولا يجد البارونات نفعا لهم في هذا فينصبون في مكانه لويس الثامن؛ أي والد ملك فرنسة: سان لويس، ولكنهم لم يلبثوا أن سئموا هذا القادم الجديد فحملوه على عبور البحر.
وبينما كان البارونات والأساقفة والبابوات يمزقون إنكلترة على هذا الوجه، فيريد كل واحد منهم أن يقود الشعب الذي هو فريق الأهلين الأكثر عددا وفضيلة، وأجدرهم بالاحترام والمؤلف ممن يدرسون القوانين والعلوم ومن التجار وأصحاب الحرف؛ أي من كل من ليس طاغية يعد هذا الشعب حيوانات دون الإنسان مرتبة؛ ولذا كان من البعيد جدا أن يشترك العوام في الحكم في ذلك الحين؛ أي أن يشترك في الحكم هؤلاء العوام الذين كانوا يحسبون أراذل، هؤلاء العوام الذي كان عملهم ودمهم ملك سادتهم الأشراف كما يدعون، وكان معظم الناس في أوروبة ممن لا يزالون في أماكن كثيرة من الشمال؛ أي فدادين لدى السنيور؛ أي من البهائم التي تباع وتشرى مع الأرض، وكان لا بد من انقضاء قرون للإقرار بحق الإنسانية وللشعور بأن من الفظاعة أن يبذر معظم الناس وأن يحصد أقل الناس عددا، أو لم يكن من سعادة النوع البشري زوال سلطة هؤلاء اللصوص في فرنسة بفعل سلطان ملوكنا الشرعي، وفي إنكلترة بفعل سلطان الملوك والناس الشرعي؟
ومن حسن الحظ أن تستل سيوف الشعوب من غمودها قليلا أو كثيرا في أثناء الهزات التي تصاب بها الدول بسبب منازعات الملوك والأمراء، وقد نشأت الحرية في إنكلترة عن اقتتال الطغاة، وذلك أن البارونات قد حملوا جيمس المحروم وهنري الثالث على منح ذلك المرسوم المشهور الذي قام غرضه الرئيس على جعل الملوك تابعين للوردات بالحقيقة، ولكن مع قليل تحسين لوضع بقية الشعب، فإذا ما لاحت الفرصة انحاز الشعب إلى فريق حماته المزعومين، ويدل هذا المرسوم الأكبر، الذي هو أصل مقدس لحريات الإنكليز، على ما كان معروفا من قليل حرية في ذلك الحين، ويثبت العنوان وحده أن الملك كان يعتقد نفسه مطلقا من ناحية الحقوق وأن البارونات والإكليروس لم يلزموه بأن يلين في أمر هذه الحقوق المزعومة؛ إلا لأنهم أقوى منه.
وإليك كيف بدئ بالمرسوم الأكبر: «ننعم، طوعا واختيارا، بالامتيازات الآتية على رؤساء الأساقفة وعلى الأساقفة ورؤساء الأديار والرهبان وعلى البارونات في مملكتنا، إلخ.»
ولا توجد في مواد هذا المرسوم أية كلمة عن مجلس النواب، ويدل هذا على أن هذا المجلس كان لا يوجد بعد، أو أنه كان يوجد بلا سلطة، ويذكر أحرار إنكلترة حصرا، فيعد هذا برهانا محزنا على وجود أناس في إنكلترة غير أحرار، ويرى في المادة الثانية والثلاثين منه أن هؤلاء الأحرار المزعومين ملزمون بخدم نحو مولاهم، فحرية مثل هذه تنطوي على قسط كبير من العبودية.
وتنص المادة الحادية والعشرون على أن عمال الملك لا يستطيعون بعد الآن أن يأخذوا خيل الأحرار وعرباتهم إلا بدفع ثمنها، ويبدو دفع الثمن هذا حرية حقيقية للشعب؛ وذلك لقضائه على أكبر طغيان.
وكان هنري السابع غاصبا موفقا وسياسيا كبيرا، فيتظاهر بحب البارونات ويمقتهم ويخافهم حقيقة، فعن له أن ينال أراضيهم انتقالا، فبذلك اشترى الأراذل، الذين اكتسبوا مالا بعملهم، قصور مشاهير الأشراف الذين افتقروا عن حماقة، وهكذا غيرت الأرضون كلها أصحابها مقدارا فمقدارا.
ويغدو مجلس النواب أكثر قوة يوما فيوما، وتنقرض أسر قدماء الأقران مع الزمن، وبما أنه لا يوجد غير الأقران من يعدون أشرافا من الناحية القانونية في إنكلترة فقد عاد هذا البلد لا يشتمل على طبقة أشراف لو لم يحدث الملوك بارونات جددا في الحين بعد الحين، ويحفظوا طبقة الأقران التي خافوها كثيرا فيما مضى، فرأوا الآن أن يعارضوا بها طبقة العوام التي صارت مرهوبة جدا.
وينال جميع هؤلاء الأقران الذين يتألف المجلس الأعلى منهم ألقابهم من الملك، ولا شيء أكثر من هذا، فلا تجد واحدا من هؤلاء مالكا للأرض التي يحمل اسمها، فيلقب أحدهم بدوك دورست، مثلا من غير أن يكون مالكا لفتر من أرض دورستشاير، ويلقب آخر كونت لقرية فلا يكاد يعرف أين تقع هذه القرية، وينحصر سلطانهم في البرلمان، لا في مكان آخر.
ولا تسمعون هنا حديثا عن القضاء الأعلى والأوسط والأدنى، ولا قولا عن حق الصيد في أرض مواطن من غير أن يباح لهذا المواطن أن يطلق عيارا ناريا في حقله الخاص.
ولا يعفى أحد من دفع بعض الضرائب بسبب كونه شريفا أو قسيسا، فجميع الضرائب تعين من قبل مجلس النواب الذي يعد الأول اعتبارا مع كونه الثاني مرتبة.
أجل، يمكن السنيورات والأساقفة أن يرفضوا لائحة مجلس النواب عن الضرائب، ولكن من غير أن يباح لهم تغيير شيء فيها وذلك أنه يباح لهم أن يقبلوها أو يردوها بلا قيد، فإذا ما أيد اللوردات اللائحة ووافق عليها الملك دفع جميع الناس ما فرض عليهم، ولا يدفع أحد وفق لقبه (وهذا الدفع غير معقول)، بل وفق دخله، ولا توجد هناك جزية أو جباية مرادية،
1
بل ضريبة حقيقية مفروضة على الأرضين، وقد خمنت الأرضون كلها في عهد وليم الثالث الشهير، وقد جعلت دون ثمنها.
ولا تزال الضريبة كما هي وإن زادت غلة الأرضين، وهكذا لا يظلم أحد فيتذمر، ولا ترم رجل الفلاح بحذاء، ويأكل الفلاح خبزا أبيض، ويبدو حسن البزة، ولا يخشى زيادة عدد ماشيته، ولا ستر سقفه بآجر، فرارا من رفع ضرائبه في العام القادم، ويوجد هنا كثير من الفلاحين من يبلغ مال الواحد منهم مائتي ألف فرنك، فلا يأنف من زراعة الأرض التي أغنته والتي يعيش فيها حرا.
الرسالة العاشرة
حول التجارة
ساعدت التجارة - التي أغنت المواطنين بإنكلترة - على جعل هؤلاء المواطنين أحرارا، ووسعت هذه الحرية مدى التجارة بذورها؛ ومن ثم نشأت عظمة الدولة. والتجارة هي التي أسفرت عن قيام القوى البحرية بالتدريج فصار الإنكليز بها سادة البحار، ويبلغ ما يملكه الإنكليز من السفن الحربية في الوقت الحاضر نحو مائتين، وسيعلم الأعقاب، والحيرة ملء قلوبهم على ما يحتمل، تحول جزيرة صغيرة، لا تشتمل على غير قليل من الرصاص والقصدير والأرض الصلصالية والصوف الخشن، إلى دولة بلغت من القوة بفضل تجارتها ما ترسل معه في سنة 1723، ثلاثة أساطيل دفعة واحدة إلى ثلاثة بلاد من أقاصي العالم؛ أي ترسل أسطولا إلى جبل طارق فيفتحه ويستبقيه بسلاحه، وأسطولا آخر إلى بورتوبلو نزعا لاستمتاع ملك إسبانية بكنوز الهند، وأسطولا ثالثا إلى البحر البلطي منعا لدول الشمال من الاقتتال.
ولما زلزل لويس الرابع عشر إيطالية، وكانت جيوشه سيدة لسافوا وبمونت مستعدة للاستيلاء على تورين، وجب على الأمير أوجين أن يزحف من ألمانيا نصرا لدوك سافوا، ولم يكن عنده مال قط، وبغير المال لا تفتح مدن ولا يدافع عنها، ويلجأ الأمير إلى تجار من الإنكليز، ويقرضونه خمسين مليونا، ويهزم الفرنسيين وينقذ تورين، ويكتب إلى أولئك الذين أقرضوه الرقعة الصغيرة الآتية، وهي: «سادتي، لقد قبضت مالكم، وأجدني قد استعملته فيما يرضيكم.»
ويكون للتاجر الإنكليزي بهذا زهو عادل، ويجرؤ التاجر الإنكليزي بهذا على تشبيه نفسه بالمواطن الروماني، وكذلك فإن أخا القرن الأصغر في المملكة لا يأنف من التجارة مطلقا، ومن ذلك أن لوزير الدولة، اللورد تاونسند، أخا قنع بأن يكون تاجرا في لندن، ومن ذلك أن اللورد أكسفورد كان يحكم في إنكلترة، وأن أخاه الأصغر كان عميلا في حلب، ولم يرد العود منها، فمات فيها.
ومع ذلك فإن هذه العادة، التي أخذت تمضي قدما: تبدو كريهة لدى الألمان الذين يعندون في أمر طبقات الشرف عندهم، فما كان الألمان ليتمثلوا أن ابن القرن بإنكلترة ليس غير برجوازي قوي مع أن كل قرن في ألمانية أمير، ومما رئي في ألمانية وجود ثلاثين صاحب سمو يحملون عين اللقب، فلا يملكون من المال سوى الأشعرة والخيلاء.
وفي فرنسة يكون مركيزا من يشاء، ويمكن كل من يفد إلى باريس من أحد الأقاليم حاملا مالا ينفقه، مع شرف بالآك أو الإيل، أن يقول: «رجل مثلي، رجل من مقامي»، وأن يزدري التاجر، والتاجر يسمع - في الغالب - قولا عن مهنته مع الازدراء فيكون من الجهالة ما يحمر وجهه خجلا من ذلك، ومع ذلك فلا أدري أي الرجلين أكثر نفعا للدولة: آلسنيور ألمبودر
1
الذي يعرف وقت نهوض الملك ووقت نومه بكل دقة، والذي ينتحل أوضاع العظمة بتمثيله دور العبد في غرفة انتظار الوزير، أم التاجر الذي يغني بلده ويصدر من غرفته أوامر إلى سورت أو القاهرة، ويساعد على سعادة العالم.
الرسالة الحادية عشرة
الإلقاح بالجدري
يقال في أوروبة النصرانية، بصوت خافت: إن الإنكليز من المجانين والكلبى
1
هم من المجانين لأنهم يلقحون أولادهم بالجدري منعا لهم من الإصابة؛ وهم من الكلبى لأنهم ينقلون إلى أولادهم، طيبي الخاطر، مرضا ثابتا فظيعا صونا لهم من مرض غير ثابت، ويقول الإنكليز من جهتهم: «إن الأوروبيين الآخرين جبناء فاقدي العواطف؛ هم جبناء لأنهم يخافون أن يلحقوا قليل ضرر بأولادهم، وهم فاقدو العواطف لأنهم يعرضون أولادهم للموت، بالجدري ذات يوم»، فيجب للحكم نفعا للناحية صاحبة الحق في هذا الجدال أن ينظر إلى قصة هذا التلقيح المشهور الذي يحدث عنه خارج إنكلترة بذعر كبير.
إن من عادة نساء بلاد الشركس منذ زمن قديم أن يلقحوا أولادهن بالجدري، حتى في الشهر السادس من عمرهم؛ وذلك ببضعهم في الذراع وإدخالهم إلى هذا الشق بثرا ينزعونه من جسم ولد آخر بدقة، ويكون لهذا البثر في الذراع الذي أدخل إليه مثل عمل الخميرة في العجينة، ويتخ البثر في الذراع، وينشر في جميع الدم ما تم له من خصائص، وتصلح بثور الولد الذي لقح بذلك البثر المصنوع لنقل المرض نفسه إلى أولاد آخرين، وهذه دورة تكاد تكون مستمرة في بلاد الشركس، فإذا لم يوجد جدري في البلد لسوء الحظ فإنه يبحث عنه بجد في بلد آخر يصاب بسنة سوء.
والذي أدخل إلى بلاد الشركس هذه العادة التي تلوح بالغة الغرابة لدى الأمم الأخرى هو سبب شائع في جميع الأرض؛ أي حنان الأمهات والمصلحة.
والشراكسة فقراء، وبناتهم جميلات، وبناتهم أكثر ما يتاجرون به، وهم يزودون بالحسان دوائر حريم شاهنشاه فارس: الصفوي، ودوائر حريم الأغنياء القادرين على الشراء وعلى إعالة هذه السلعة الثمينة، وهم ينشئون هؤلاء الفتيات على رقصات مملوءة غلمة وتخنثا وعلى إيقادهن، بأدعى الأوضاع إلى الشهوة، شبق سادة متكبرين أعددن لهم، وتكرر هذه المخلوقات المسكينات دروسها كل يوم مع أمهاتها كما يكرر بناتنا كتاب التعليم النصراني من غير أن يفقهن منه شيئا.
والحق أن مما كان يقع غالبا كون أمل الأب والأم يخيب بعد أن يلاقيا من المتاعب ما يلاقيان في سبيل منح أولادهما تربية صالحة، وذلك أن الجدري كان يحل بالأسرة فتموت به ابنة، وتفقد ابنة أخرى عينها وتشفى ثالثة متورمة الأنف، فيكون هؤلاء المسكينات قد قوضن بلا موارد، ومما كان يحدث أيضا أن يتحول الجدري إلى وباء فتقف التجارة لسنين كثيرة، وهذا ما كان يؤدي إلى نقصان في سرايات فارس وتركية.
وتكون كل أمة تاجرة كثيرة السهر على مصالحها، وهي لا تهمل شيئا من المعارف يمكن أن يكون نافعا لتجارتها، وقد أبصر الشراكسة أنه لا يكاد يصاب بالجدري التام واحد من الألف مرتين، وأن من الواقع معاناة ثلاثة أو أربعة من الجدري الخفيف أحيانا، ولكن من غير حدوث جدريين قاطعين خطرين مطلقا؛ أي لم تحدث قط إصابة الواحد في حياته مرتين بهذا المرض، ومما لاحظه الشراكسة أيضا أن الجدري عندما يكون خفيفا، وأن فورانه لا يجد ما ينفذ غير جلد ناعم دقيق، لا يترك أي أثر في الوجه، فاستنبطوا من هذه الملاحظات الطبيعية أن الولد البالغ من العمر ستة أشهر أو سنة إذا ما كان لديه جدري خفيف لم يمت منه ولم يبق أثره عليه، وعفي من هذا المرض في بقية أيامه.
ولذا صار لزاما عليهم أن يحفظوا حياة أولادهم وجمال هؤلاء الأولاد وأن يلقحوهم بالجدري باكرا، وهذا ما يصنعون بإدخالهم إلى جسم الولد بثرا من أكمل جدري وأكثر ما يلائم منه، ولم يعوز التوفيق هذه التجربة، ولسرعان ما انتحل الترك، وهم أهل رصانة، هذه العادة، فلا تجد في الأستانة باشا لا يلقح ابنه وبنته بالجدري عند الفطام.
ووجد من ادعوا أن الشراكسة اقتبسوا هذه العادة من العرب فيما مضى، ولكننا ندع تنوير هذا الأمر التاريخي لعالم بندكتي لا يعوزه تأليف مجلدات كثيرة من القطع الكبير عن ذلك مع البراهين، وكل ما أقول حول هذا الموضوع هو أن المرأة الإنكليزية السيدة ورتلي منتاغيو البالغة الذكاء والبالغة التأثير في النفس، كانت مع زوجها في سفارة الأستانة، وكان هذا في أوائل عهد جورج الأول، فعن لها أن تلقح بالجدري ولدا وضعته في هذا البلد، ولم تتردد في ذلك، وقد بذل كاهنها جهده في تبليغها أن هذه العادة لم تكن نصرانية، وأنها لا يمكن أن تنجح لدى غير الكافرين. ويتعافى ابن السيدة ورتلي بما يثير العجب، وتعود هذه السيدة إلى لندن، وتطلع على تجربتها أميرة ويلس التي هي ملكة في الوقت الحاضر، ويجب أن يسلم بأن هذه الأميرة، مع قطع النظر عن الألقاب والتيجان قد ولدت لتشجيع جميع الفنون ولتصنع الخير للناس، فهي فيلسوفة محبوبة جالسة على العرش، وهي لم تضع فرصة للتعلم، ولا فرصة لممارسة كرمها، وهي التي علمت أن ابنة لملتن كانت تعيش في بؤس فأرسلت إليها هدية عظيمة من فورها، وهي التي شملت بعين رعايتها الأب الفقير كراير، وهي التي تفضلت فكانت وسيطة بين الدكتور كلارك والسيد ليبنتز، فلما سمعت ذاك الحديث عن التلقيح بالجدري أمرت بتجربته في أربعة مجرمين محكوم عليهم بالموت، فأنقذت حياتهم إنقاذا مضاعفا، وذلك أنها خلصتهم من المشنقة، وأنها منعت وقوع ما قد يصابون به عن طبيعة، فيحتمل أن يهلكا به في عمر متقدم.
وتطمئن الأميرة إلى نفع هذه التجربة فتلقح أولادها، وتسير إنكلترة على غرارها وهكذا ترى منذ هذا الحين، عشرة آلاف من أبناء الأسر على الأقل مدينين بحياتهم للملكة وللسيدة ورتلي منتاغيو على هذا الوجه كما ترى فتيات يبلغن هذا العدد مدينات لها بجمالهن.
وفي العالم ستون في المائة - على الأقل - يصابون بالجدري، فيموت عشرون في المائة في أكثر السنين مناسبة، وتبقى من ذلك آثار مكدرة في عشرين. وهكذا تبصر إذن أن هذا المرض يقتل أو يشوه، خمس المصابين به لا ريب، ولا أحد يموت من جميع من يلقحون في تركية وإنكلترة ما لم يكن عليلا لا بد من موته لسبب آخر. ولا أثر للجدري على أحد، ولا أحد يصاب به مرة ثانية لما يقدر من كمال الإلقاح، ولا جرم، إذن، أن إحدى السفيرات الفرنسيات إذا ما أتت بهذا السر من الأستانة إلى باريس، عدت قائمة بخدمة خالدة للأمة، ولو كان قد جلب ذلك ما مات دوك فيلكيه في شرخ شبابه، وهذا الدوك هو والد دوك أومون في الوقت الحاضر، وهو من خير رجال فرنسة خلقا وخلقا.
وكذلك ما كان الأمير دوسوبيز ليهلك في الخامسة والعشرين من سنيه مع تمتعه بأحسن صحة، وكذلك ما كان مولانا جد لويس الخامس عشر ليدفن في الخمسين من عمره، وكذلك ما كان ليموت عشرون ألف إنسان في باريس سنة 1723، ولبقي هؤلاء أحياء، ماذا إذن! ألأن الفرنسيين لا يحبون الحياة مطلقا؟ أم لأن نساءهم لا يكترثن لجمالهن مطلقا؟ حقا إننا أناس ذوو طباع غريبة! من المحتمل أن نقتبس هذا المنهاج الإنكليزي بعد عشرة أعوام إذا ما أذن لنا الخوارنة والأطباء في ذلك، أو أن يستعمل الفرنسيون ذلك التلقيح بعد ثلاثة أشهر عن هوى إذا ما سئم الإنكليز منه عن تقلب في الطبع.
وأعلم أن الصينيين يتخذون هذه العادة منذ مائة عام، ومن أعظم المبتسرات
2
أن يعد مثال إحدى الأمم أكثر ما يكون في العالم حكمة ورشدا، ومن الواقع استعمال الصينيين لذلك على وجه آخر، فهم لا يقولون بالبضع مطلقا، وإنما يتناولون الجدري في الأنف، كما يتناول التبغ المسحوق، وهذه الطريقة أكثر ما يكون ملاءمة، وهي ترد إلى الأمر ذاته، فتؤيد الادعاء القائل: إن الإلقاح إذا ما اتخذ في فرنسة أنقذ حياة ألوف الناس.
الرسالة الثانية عشرة
حول الوزير بيكن
لم يمض وقت كبير على ما دار في اجتماع مشهور حول المسألة المبتذلة الباطلة القائلة أي الرجال أعظم من الآخر: قيصر أو الإسكندر أو تيمورلنك أو كرومويل ... إلخ.
وأجاب بعضهم بقوله: إن إسحاق نيوتن هو أعظمهم لا ريب، والحق بجانب صاحب هذا القول؛ وذلك لأن العظمة الحقيقية إذا كانت تقوم على تلقي عبقرية جبارة من السماء وعلى الانتفاع بهذه العبقرية لتنوير الإنسان نفسه وتنوير الآخرين؛ فإن رجلا مثل السيد نيوتن، الذي لا يكاد يظهر مثله في عشرة قرون، يكون العظيم؛ ولأن هؤلاء السياسيين والفاتحين الذين لا يخلو منهم قرن ليسوا غير أشرار بالحقيقة، فترانا ملزمين بإجلال ذلك الذي يسيطر على النفوس بقوة الحقيقة، لا أولئك الذين يصنعون عبيدا بالإكراه والقهر، وترانا ملزمين بتقديم احترامنا إلى ذلك الذي يعرف الكون، لا أولئك الذين يشوهونه.
ثم بما أنكم تطلبون أن أحدثكم عن رجال مشهورين اشتملت عليهم إنكلترة، فإنني أبدأ بالبيكنات واللوكات والنيوتنات، إلخ. وسيأتي القواد والوزراء بدورهم.
والرجل الذي يجب أن أبدأ به هو الكونت فريولام المعروف في أوروبة باسم أسرته: بيكن، وقد كان ابنا لوزير العدل، وظل وزيرا زمنا طويلا في عهد الملك جيمس الأول، ومع ذلك فإنه وجد من الوقت ما يكون فيه فيلسوفا كبيرا ومؤرخا ماهرا وكاتبا رشيقا بين دسائس البلاط وأشاغيل منصبه التي تستلزم تفرغ رجل بكامله، وأدعى إلى العجب من ذلك كونه قد عاش في قرن لم يعرف فيه فن حسن الإنشاء ولا الفلسفة الجيدة، ولم يفلت من عادة الناس، فتراه قد قدر بعد مماته أكثر مما في حياته، ولا غرو، فأعداؤه كانوا في بلاط لندن، والمعجبون به كانوا في جميع أوروبة.
ولما أتى المركيز إفيات إلى إنكلترة بابنة هنري الأكبر، الأميرة ماري كيما تتزوج أمير ويلس زار ذلك الوزير بيكن الذي كان مريضا طريح الفراش في ذلك الحين فاستقبله مسدل الستائر، فقال له المركيز إفيات: «أنت تشابه الملائكة الذين يحدث عنهم دائما فيعتقد أنهم يعلون البشر، ولا يتاح للإنسان أن يقر عينا بمشاهدتهم.»
وأنت تعرف، يا سيدي، كيف اتهم بيكن بجرم غير خليق بفيلسوف مطلقا؛ أي إنه ارتشى، وأنت تعرف كيف حكم عليه من قبل مجلس اللوردات بغرامة تقرب من أربعمائة ألف فرنك من نقودنا، وبنزع منصبه وزيرا وقرنا.
واليوم يكرم الإنكليز ذكراه فلا يريدون الاعتراف بأنه كان مذنبا، وإذا ما سألتموني عما أفكر في الأمر، فإنني أستعمل للرد عليكم كلمة رويت لي عن اللورد بولنغبروك، وذلك أن الحديث دار في حضرته حول نجل دوك مارلبورو المتهم به، وتذكر له أمور يستشهد فيها باللورد بولنغبروك الذي كان عدوه الأزرق، فكان يمكن هذا اللورد أن يقول عنه ما يقتضيه الحال، فاسمع جوابه: «كان هذا الرجل من العظمة ما نسيت معه عيوبه.»
ولذا فإنني أقتصر على تحديثكم عن الأمر الذي استحق به الوزير بيكن إكرام أوروبة.
إن أروع كتبه وأصلحها هو أقل ما يطالعه الناس وأكثرها عدم فائدة، وأعني بذلك كتابه «أرغن العلوم الجديد»، فهذا الكتاب هو المحالة
1
التي بنيت بها الفلسفة الحديثة، فلما قام قسم من هذا البناء على الأقل عادت هذه المحالة لا تستعمل.
وكذلك كان الوزير بيكن لا يعرف الطبيعة، وإنما كان يعرف جميع الطرق المؤدية إليه ويدل عليها، وكان منذ البداءة يقابل بالازدراء ما تسميه الجامعات فلسفة، وكان يصنع كل ما يتوقف عليه ؛ وذلك لكيلا تداوم هذه الجمعيات التي قامت لإكمال العقل البشري على إفساده بماهياتها وفضائها وكنهياتها، وبجميع الكلمات الماجنة التي يوجب الجهل اعتبارها؛ فضلا عن أن مزجها بالدين مزجا مضحكا جعلها مقدسة تقريبا.
وبيكن أبو الفلسفة التجريبية، ومن الثابت أنه كشف من الأسرار قبله ما يثير العجب، فقد اخترعت البوصلة والمطبعة والتصوير القالبي والتصوير الزيتي والمرايا والنظارات وبارود المدافع، إلخ، وقد بحث عن عالم جديد فوجد وفتح، ومن ذا الذي يعتقد أن هذه الاكتشافات العظيمة من صنع الفلاسفة وأنها وقعت في زمن أكثر نورا من زماننا؟ لا أحد. وذلك أن هذه التحولات الكبيرة حدثت في أشد أدوار العالم بربرية والمصادفة هي أسفرت عن جميع هذه الاختراعات تقريبا، حتى إن من الجلي أن يكون لما يسمى مصادفة نصيب كبير في اكتشاف أمريكة، فمما اعتقد في كل وقت - على الأقل - كون كرستوف كولنبس لم يقم برحلته إلا اعتمادا على شهادة ربان سفينة كانت العاصفة قد ألقته في ربى جزائر كرايب.
ومهما يكن من أمر فإن الناس كانوا يعرفون الذهاب إلى أقاصي الدنيا، وإنهم كانوا يعرفون تدمير المدن بصواعق مصنوعة أشد هولا من الصواعق الحقيقية، ولكن من غير أن يعرفوا الدورة الدموية وثقل الهواء وسنن الحركة والضياء وعدد سياراتنا، إلخ. وكان الرجل إذا ما أيد نظرية حول مقولات أرسطو، أو حول «نصيب المذنب» أو غير ذلك من الحماقات، عد نادرة الزمان.
وليست أدعى الاختراعات إلى العجب وأكثرها نفعا هي أكثر ما يشرف الذكاء البشري.
وترانا مدينين بجميع الحرف للغريزة الآلية الموجودة عند معظم الناس، لا للفلسفة الصحيحة.
ولاكتشاف النار، وفن صنع الخبز، وصهر المعادن وإعدادها، وبناء البيوت، واختراع المكوك ضرورة غير ما للمطبعة والبوصلة، ومع ذلك فإن اختراع الحرف قد وقع من قبل أناس لا يزالون متوحشين.
وما أكثر ما يكون من عجب في انتفاع الأغارقة والرومان بالآليات بعدئذ! ومع ذلك فإنه كان يعتقد في زمنهم وجود سماوات من بلور، وأن الكواكب مصابيح صغيرة تسقط في البحار أحيانا، وقد وجد أحد فلاسفتهم العظام، بعد مباحث كثيرة، كون النجوم حصى فصلت عن الأرض.
وحاصل القول أنك لا تجد - قبل الوزير بيكن - أحدا عرف الفلسفة التجربية، ولا تكاد تجد بين التجارب الطبيعية التي حدثت بعده واحدة لم يشر إليها في كتابه، وقد قام بتجارب كثيرة بنفسه، وقد صنع أنواعا من الآلات المفرغة للهواء تنبأ بها مطاطية الهواء، فأدرك توريشلي هذه الحقيقة، ولم يمض على ذلك غير زمن قليل حتى أخذت أقسام أوروبة كلها تقريبا تكب على الفزياء التجربية، فكان هذا كنزا خفيا ساور بيكن أمره، ويتشجع جميع الفلاسفة بوعده فيجدون في نبشه.
ولكن أكثر ما أثار دهشي هو أن أرى في كتابه نصا صريحا على تلك الجاذبية الجديدة التي عد نيوتن مكتشفا لها.
قال بيكن: «يجب أن يبحث عن وجود نوع من القوة المغنطية التي تعمل فيما بين الأرض والأشياء الثقيلة، وبين القمر والمحيط، وبين السيارات، إلخ.»
وقال في مكان آخر: «وجب أن تجذب الأجسام الثقيلة نحو مركز الأرض أو أن يجذب بعضها بعضا مبادلة، ومن الواضح في هذه الحال أن الأجسام، وهي تسقط، كلما دنت من الأرض زاد تجاذبها قوة.» ثم قال مواصلا: «يجب أن يجرب ليرى هل الساعة ذات الأثقال تسير في ذروة الجبل بأسرع مما في أسفل المنجم أو لا، فإذا كانت قوة الأثقال تقل فوق الجبل، وتزيد في المنجم وضح كون الأرض ذات جاذبية حقيقية.»
وكان هذا المبشر بالفلسفة كاتبا رشيقا ومؤرخا لوذعيا أيضا.
وتقدر «رسائله في الأخلاق» كثيرا، ولكنها وضعت لتثقف أكثر من أن تروق، ولكن بما أنها لا تنطوي على هجو للطبيعة، «كالحكم» للمسيو دولا رشفوكول، ولا على مذهب للشك كمونتين، فإن الناس أقل إقبالا على مطالعتها مما على مطالعة هذين الكتابين المحكمين.
وقد عد تاريخه عن «هنري السابع» من الروائع، ولكنني أكون مخطئا كثيرا إذا أمكن أن يقارن بكتاب السيد دوتو المشهور.
وإليك كيف يعرب الوزير بيكن عن فكره حين الكلام عن اليهودي الدجال المعروف باركنز الذي انتحل بوقاحة اسم ملك إنكلترة، هنري الرابع، والذي شجعته على هذا دوكة برغونية، فنازع هنري السابع التاج:
ما انفكت الأرواح الشريرة تلازم الملك هنري بسحر من دوكة برغونية التي أحضرت من مثوى النفوس شبح إدوارد الرابع حتى تؤذي الملك هنري، ولما أخبرت دوكة برغونية باركنز أخذت تفكر في البقعة السماوية التي تظهر منها المذنب، فقررت أن يظهر فوق أفق أيرلندا في بدء الأمر.
ويلوح لي أن حكيمنا دوتو لا يقدم حول هذه الأسطورة غير ما يعد رفيعا فيما مضى، ولكن مع تسميته - بحق - سفسطة في أيامنا.
الرسالة الثالثة عشرة
حول مستر لوك
من المحتمل ألا يكون قد ظهر ألمعي أكثر من مستر لوك حكمة وأصولا، ولا منطقي أكثر منه دقة، ومع ذلك فإنه لم يكن رياضيا كبيرا، وهو لم يستطع قط أن يخضع لتعب الحساب ولا لجفاء الحقائق الرياضية الذي لا يقدم إلى النفس شيئا محسوسا في بدء الأمر، ولم يحدث أن أثبت إنسان أحسن مما أثبت إمكان حيازة روح هندسي من غير استعانة بعلم الهندسة، ومما حدث قبل ظهوره أن قرر فلاسفة عظام أمر الروح تقريرا إيجابيا، ولكن بما أنهم كانوا لا يعرفون شيئا عن الروح، فإن من الطبيعي أن يختلفوا كلهم رأيا.
وكان في بلاد اليونان، التي عدت مهد الفنون والأغاليط، والتي أفرط فيها بعظمة روح الإنسان وجهالته، يبرهن حول الروح كما يبرهن عندنا.
وكان اللاهوتي أنكساغورس الذي أقيم له نصب؛ لأنه علم الناس أن الشمس كانت أعظم من البلوبونيز، وأن الثلج كان أسود وأن السماوات كانت من حجر، فوكد أن النفس كانت روحا هوائيا، ولكنها خالدة مع ذلك.
وكان ذيوجانس، وهو غير الذي غدا كلبيا بعد أن كان مزيفا للنقود، يؤكد أن الروح كان جزءا من الكنه الإلهي، فكانت هذه الفكرة زاهرة على الأقل.
وكان أبيقور يركب الروح من أجزاء كالبدن، وكان أرسطو الذي فسر على ألف وجه؛ لأنه مستغلق يعتقد - على رواية بعض تلاميذه - أن قوة الإدراك عند جميع الناس كانت واحدة جوهرا.
وكان اللاهوتي أفلاطون، الذي هو أستاذ للاهوتي أرسطو، واللاهوتي سقراط، الذي هو أستاذ للاهوتي أفلاطون ؛ يقولان: إن الروح جثماني أبدي، وكان عفريت سقراط قد علمه أمره من ذلك، والواقع أنه يوجد من الناس من يزعمون أن الإنسان الذي يباهي بوجود عفريت عشير له يكون مجنونا أو مداجيا، ولكن هؤلاء الناس عسراء كثيرا.
وأما آباء الكنيسة عندنا فقد اعتقد كثير منهم في القرون الأولى كون الروح البشري والملائكة والرب ذوي جسم.
ويصفى العالم دائما، وإذا ما نظر إلى رواية الأب مابيون وجد أن سان برنارد كان يقول عند الكلام في موضوع الروح: إن النفس بعد الموت لا ترى الرب في السماء مطلقا، بل تحادث ناسوت يسوع المسيح فقط، فلم يصدق كلامه في هذه المرة، وكانت مغامرة الحرب الصليبية قد أزالت شيئا من قيمة عرافاته، ثم أتى ألف عالم لاهوتي، كالأستاذ الثبت والأستاذ المدقق والأستاذ الملائكي والأستاذ السارفيمي والأستاذ الكروبي، كانوا مطمئنين إلى معرفة النفس معرفة جلية، ولكن مع عدم تسليمهم بأن يحدث عنها كما لو كانوا يريدون ألا يسمع أحد عنها حديثا.
وولد ديكارتنا لاكتشاف أغاليط القرون القديمة؛ ولكن ليستبدل بها أغاليطه، وذلك أنه إذا سار - وهذا المنهاج الذي يعمي أعاظم الناس - خيل إليه أنه أثبت أن النفس عين الفكر، كما أنه يرى أن المادة هي عين الاتساع، وقد وكد أن الإنسان يفكر دائما، وأن الروح تحل في الجسم مزودة بجميع مبادئ ما بعد الطبيعة، عارفة بالله وبالفضاء واللانهاية، حائزة جميع الآراء المجردة، زاخرة بروائع العلوم التي تنساها - مع الأسف - عند خروجها من بطن أمها.
ولم يقتصر قس الأوراتوار، مسيو ملبرانش، في أسمى أوهامه، على الأفكار الفطرية، بل كان لا يشك في استقرارنا بالله جميعا؛ ولذا لا يكون الرب خالقا لروحنا.
وظهر من المبرهنين كثير جعلوا من النفس رواية، وتواضع حكيم فجعل منها تاريخا، فقد بين لوك العقل البشري للإنسان، وذلك كما يوضح عالم التشريح نوابض الجسم البشري للإنسان، وهو يستعين بنور الفزياء حيثما كان، وهو يقدم على الكلام مؤكدا أحيانا، ولكنه يقدم على الشك أيضا، وهو يفحص بالتدريج ما نريد أن نعرف بدلا من أن يعرف - من فوره - وهو يتناول طفلا حين ولادته، فيتتبع نشوء إدراكه خطوة، وهو يبصر ما هو مشترك بين جميع الحيوانات، وتكون مشاهدته الشخصية وشعوره الفكري أخص ما يستشير، فقد قال:
أترك أمر النقاش فيه لمن يعرفون عنه أكثر مما أعرف، هل روحنا موجودة قبل تركيب جسمنا أو بعده؟ ولكنني أعترف بأنه كان من قسمي أحد تلك الأرواح الغليظة التي لا تفكر دائما، حتى إنه كان من سوء حظي ألا أتمثل أن احتياج الروح إلى التفكير أكثر من احتياج الجسم إلى الحركة.
وأما من جهتي فأجدني مباهيا بكوني أكثر من لوك غباوة في هذه النقطة، ولن يجعلني أحد أعتقد أنني أفكر دائما، ولا أجدني أكثر استعدادا منه لأتصور أنني كنت بعد بضعة أسابيع من الحمل بي، روحا بالغ العلم، عارفا ألف شيء في ذلك الحين فنسيته عند الولادة، وأنني كنت حائزا في الرحم من المعارف - على غير جدوى - ما أفلت مني عندما أصبحت محتاجا إليه، وأنني صرت عاجزا عن تعلمه ثانية بعد ذلك.
وقد ذهب لوك، بعد أن قضى على مبدأ الأفكار الفطرية، وبعد أن عدل عن الاعتقاد الباطل القائل إن الإنسان يفكر دائما، إلى أن جميع أفكارنا تأتينا بواسطة الحواس، كما فحص أفكارنا البسيطة وأفكارنا المركبة وتتبع روح الإنسان في جميع أعماله، وبين مقدار نقص اللغات التي يتكلم بها الناس ومقدار ما نأتي من سوء في استعمال الكلمات في جميع الأوقات.
وأخيرا يأتي أمر إنعام النظر في مدى المعارف البشرية، وإن شئت فقل عدمها، ففي هذا الموضوع ما يجرؤ على عرض الكلمة الآتية متواضعا: «قد لا نغدو قادرين على معرفة كون الموجود المادي المحض يفكر أولا.»
وقد بدا هذا الكلام الحكيم لكثير من علماء اللاهوت تصريحا فاضحا قائلا: إن الروح مادي هالك.
وبالويل والثبور ينادي بعض الإنكليز الأتقياء على شاكلتهم، ويكون الخرافيون في المجتمع كما يكون الجبناء في الجيش، فيبدون ذوي هزل وناشرين لذعر، ويدعى بأن لوك يريد هدم الدين، ومع ذلك فإنه لا دخل للدين في هذا الأمر الذي هو مسألة فلسفية صرفة كثيرة الاستقلال عن الإيمان والوحي، فليس على الإنسان إلا أن يبحث بلا حدة في إمكان قدرة المادة على التفكير، وفي استطاعة الله أن يوصل الفكر إلى المادة، غير أن علماء اللاهوت يبدءون بقولهم - في الغالب - إنه يجدف على الله إذا لم يكن الإنسان على رأيهم، وما أكثر ما يشابه هذا أردياء الشعراء الذين كانوا يدعون أن دسبرثو يقول سوءا عن الملك؛ لأنه استهزأ بهم.
وقد اشتهر الدكتور ستلغنفليت بأنه عالم لاهوتي معتدل؛ لأنه لم يصب شتائم على لوك تماما، وإنما خاصمه فهزم لإقامته الدليل دكتورا وإقامة لوك الدليل فيلسوفا عارفا بقوة الروح البشرية وضعفها؛ ولأنهما تخاصما بأسلحة كان يعرف طبيعتها.
ولو كنت من الجرأة ما أتكلم معه بعد مستر لوك حول موضوع بالغ هذه الدقة لقلت: إن الناس يجادلون منذ زمن طويل حول طبيعة الروح وحول خلودها، فأما خلود الروح فإن من المستحيل إثباته ما دام يجادل حول طبيعتها أيضا، ولا جرم أنه يجب أن يعرف الموجود معرفة أساسية كيما يقرر كونه خالدا أو لا، ويرى العقل البشري من قلة القدرة على إثبات خلود الروح ما اضطر الدين معه إلى الإيحاء به إلينا، وتقضي مصلحة جميع الناس المشتركة باعتقاد خلود الروح، ويأمرنا الإيمان بهذا، ولا شيء أكثر من هذا، وقد حكم في الأمر، وأما طبيعة الروح فغير هذا، والدين قليل الاكتراث لجوهر الروح على أنها تكون فاضلة، فهي ليست سوى ساعة دقاقة فوض إلينا أمر إدارتها، ولكن الصانع لم يخبرنا بالشيء الذي ركب منه نابضها.
أنا جسم وأفكر، ولا أعرف أكثر من هذا، وهل أعزو إلى علة مجهولة ما يسهل علي أن أعزوه إلى العلة الثانية الوحيدة التي أعرفها؟ هنا يقفني جميع فلاسفة المدرسة مبرهنين، ويقولون: «لا يوجد في الجسم غير الاتساع والصلابة، ولا يمكن أن يكون في الجسم غير الحركة والصورة، والواقع أنه لا يمكن الحركة والصورة والاتساع والصلابة أن تصنع فكرا؛ ولذا فإن من غير الممكن أن تكون الروح مادة.» ويرد جميع هذا البرهان الكبير الذي كرر كثيرا إلى ما يأتي حصرا، وهو: «لا أعرف المادة مطلقا، وإنما أتنبأ ببعض خواصها تنبؤا ناقصا، والواقع أنني لا أعرف هل من الممكن أن تقرن هذه الخواص بالفكر؛ ولذا فبما أنني لا أعرف شيئا فإنني أوكد توكيدا تاما كون المادة لا تعرف التفكير.» وهذه هي مادة البرهنة المدرسية بصراحة، وكان لوك يقول لهؤلاء السادة ببساطة: «ولكن اعترفوا بأنكم جاهلون مثلي، وما كان خيالكم وخيالي ليستطيعا أن يدركا كيف تكون للجسم أفكار، وهل أنتم أحسن إدراكا للوجه الذي تكون للمادة فيه أفكار مهما كان أمر هذه المادة؟ وأنتم لا تدركون المادة ولا الروح، فكيف يمكنكم أن توكدوا شيئا ما؟»
ويأتي الخرافي بدوره، ويقول: إنه يجب إحراق من يرون إمكان التفكير بعون من الجسم فقط، وذلك نفعا لنفوسهم، ولكن ما يقولون إذا ما كانوا أنفسهم مذنبين بالإلحاد؟ والواقع من يجرؤ على الادعاء مؤكدا من غير إلحاد غير معقول بأنه يستحيل على الخالق أن ينعم على المادة بالفكر والشعور؟ وروا - كما أرجو - أي ورطة تردون إليها أنتم الذين يحددون قدرة الخالق على هذا الوجه؟! إن للحيوانات مثل أعضائنا ومشاعرنا وإدراكنا، ولها ذاكرة، وهي تركب بعض الأفكار، وإذا كان الله لا يستطيع أن يحيي المادة وأن ينعم عليها بالشعور، فإنه لا بد من أحد الأمرين: إما أن تكون الحيوانات آلات صرفة أو أن تكون ذات نفس روحانية.
ويبدو لي أن من الثابت تقريبا كون الحيوانات لا يمكن أن تكون آلات بسيطة، ودليلي على هذا أن الله جعل لها من أعضاء الإحساس مثل ما لدينا؛ ولذا فإنها إذا كانت لا تحس مطلقا فإن الله يكون قد أتى عملا باطلا، والواقع أن الله لا يفعل شيئا عبثا كما تشهدون، وليست الحيوانات إذن آلات صرفة مطلقا.
وعندكم أنه لا يمكن أن تكون للحيوانات نفس روحانية؛ ولذا فإنه لا يبقى شيء آخر يقال، وهذا على الرغم منكم، غير كون الله قد منح أعضاء الحيوانات - التي هي مادة - خاصية الإحساس والشعور التي تدعونها غريزة في الحيوانات .
وي! من ذا الذي يستطيع أن يمنع الله من أن ينقل إلى أعضائنا، وهي أكثر دقة هذه الخاصية في الإحساس والشعور والتفكير التي نسميها عقلا بشريا؟ ومهما يكن من أمر الجهة التي تولون وجهكم شطرها، فإنه لا بد لكم من الاعتراف بجهلكم وبقدرة الخالق الواسعة؛ ولذا فلا تثوروا على فلسفة لوك الحكيمة المتواضعة، على هذه الفلسفة البعيدة من مباينة الدين والتي تصلح دليلا له إذا ما احتاج إليه، وذلك: أية فلسفة تكون أكثر دينا من التي لا توكد غير ما تتمثله بوضوح وتعرف أن تقر بضعفها فتقول لكم إنه يجب أن يلتجأ إلى الله فور البحث في الأصول الأولى؟
وفضلا عن ذلك فإنه لا ينبغي أن يخشى إمكان أي شعور فلسفي أن يضر دين أي بلد كان، ومن العبث أن تكون أسرارنا مناقضة لبراهيننا وهي ليست أقل توقيرا من قبل فلاسفة النصارى الذين يعرفون أن موضوعات العقل والإيمان مختلفة طبيعة، وما كان الفلاسفة ليجعلوا من الدين فرقة مطلقا، ولماذا؟ ذلك لأنهم لا يكتبون للشعب أبدا؛ ولأنهم خالون من الحماسة.
وقسموا الجنس البشري إلى عشرين جزءا؛ لتروا أن تسعة عشر جزءا من هؤلاء مؤلف ممن يعملون بأيديهم، ولا يعرفون وجود رجل في العالم يدعى لوك، وما أقل مقدار من يقرءون في الجزء العشرين الباقي! وتجد بين من يقرءون عشرين يطالعون روايات في مقابل واحد يدرس الفلسفة، فعدد من يفكرون قليل إلى الغاية، ولا يعن لهؤلاء أن يكدروا صفو العالم.
وليس منتين، ولا لوك، ولا نيل، ولا سبينوزا، ولا هوبز، ولا اللورد شافتسبري، ولا مستر كولنس، ولا مستر تولند، إلخ، هم الذين حملوا مشعل الشقاق في وطنهم، بل هم - في الغالب - علماء اللاهوت الذين ساورهم طموح ظهورهم رؤساء فرقة في البداءة، فلم يلبثوا أن صاروا رؤساء حزب، وما أقول؛ إذا ما جمعت جميع كتب الفلاسفة في الأزمنة الحديثة لم تجدها قد أحدثت من الضوضاء في العالم ما أحدثه جدال الكردليه فيما مضى حول شكل كمهم وغطاء رأسهم.
الرسالة الرابعة عشرة
حول ديكارت ونيوتن
إذا ما وصل الفرنسي إلى لندن وجد تبدل الأمور في الفلسفة وفي كل ما في سواها، ولا غرو، فقد ترك العالم زاخرا، ووجده فارغا، ففي باريس يرى الكون مؤلفا من زوابع من المادة الدقيقة، ولا يرى شيء من هذا بلندن، وعندنا أن ضغط القمر هو الذي يوجب مد البحر، وعند الإنكليز أن البحر هو الذي ينجذب نحو القمر، وذلك بينا تعتقدون أن القمر هو الذي يجب أن يمنحنا المد، يعتقد أولئك السادة أن الجزر هو الذي يجب أن يكون، وهذا ما لا يمكن تحقيقه مع الأسف؛ وذلك لأنه كان يجب لاستجلاء ذلك أن يفحص القمر والمد والجزر في الساعة الأولى من التكوين.
ومما تلاحظون أيضا أن الشمس التي لا دخل لها في هذا الأمر في فرنسة تساعد على هذا هنا بنحو ربعها، ويقع كل شيء عند ديكارتبيكم بدفع لا يدرك أمره مطلقا، ويقع هذا عند مستر نيوتن بجذب لا تعرف علته بأحسن مما تعرف علة ذلك، وفي باريس تصورون الأرض مصنوعة كالشمامة، وفي لندن تصور مسطحة من الطرفين، وعند الديكارتي يوجد النور في الهواء، وعند النيوتني يأتي النور من الشمس في ست دقائق ونصف دقيقة، وتستعين كيمياؤكم في جميع أعمالها بالحوامض والقلي والمادة والمادة اللطيفة، وتسيطر الجاذبية حتى على الكيمياء الإنكليزية.
وقد تغير جوهر الأمور تماما، وأنتم لا تتفقون على تعريف الروح، ولا على تعريف المادة، فيوكد ديكارت أن النفس هي الفكر عينه، ويثبت لوك له العكس.
ويوكد ديكارت أيضا أن الاتساع وحده يفعل المادة، ويضيف نيوتن الصلابة إلى هذا، فهذه مباينات بالغة:
ليس من شأننا أن نفصل بين خصوماتهم الكثيرة.
ومات هادم النظام الديكارتي، نيوتن المشهور، في شهر مارس من السنة الماضية؛ أي في سنة 1727، فدفن مثل ملك فعل خيرا لرعاياه، وذلك بعد أن عاش مكرما من قبل مواطنيه.
وهنا قرئ بنهم، وترجم إلى الإنكليزية، تأبين مسيو دوفونتنل لمستر نيوتن في المجمع العلمي، وكان ينتظر في إنكلترة حكم مسيو دوفونتنل مثل تصريح رسمي عن أفضلية الفلسفة الإنكليزية، ولكنه عندما رئي أنه شبه ديكارت بنيوتن هاج جميع المجمع الملكي بلندن، وقد انتقدت هذه الخطبة مع الابتعاد عن قبول الحكم، حتى إن كثيرا - وهم ليسوا أعلم الناس بالفلسفة - قد صدموا بهذه المقارنة، لا لسبب غير كون ديكارت فرنسيا.
ولا مناص من الاعتراف بأن هذين الرجلين الكبيرين كانا يختلفان سيرة ونصيبا وفلسفة.
ولد ديكارت قوي الخيال مضطرما نصورا، فجعله هذا رجلا غريبا في حياته الخاصة شاذا في طراز برهنته، وما كان هذا الخيال ليخفى حتى في آثاره الفلسفية حيث ترى في كل آن مقارنات بارعة ساطعة، وتصنع الطبيعة منه شاعرا تقريبا، والواقع أنه وضع لملكة اسوج منظومة لهو لم تطبع إكراما لذكراه.
واختبر الجندية حينا من الزمن، ثم غدا فيلسوفا تماما، فلم ير من غير اللائق به أن يقوم بغرام، فرزق من خليلته ابنة سميت فرنسين، وتموت شابة، ويأسف كل الأسف على فقدانها، وهكذا يبتلي كل ما هو خاص بالإنسانية.
واعتقد زمنا طويلا أن من الضروري أن يعتزل الناس، ولا سيما وطنه حتى يتفلسف طليقا، وحق له ذلك، فما كان علم رجال زمنه بالفلسفة كافيا لتنويره، ولم يكونوا قادرين على غير الإضرار به.
ويغادر فرنسة؛ لأنه كان ينشد الحقيقة المضطهدة في ذلك الحين من قبل الفلسفة المدرسية الهزيلة، ولكنه لم يجد عقلا أكبر مما هناك في جامعات هولندة التي لجأ إليها، وذلك أنه بينا كان يحكم في فرنسة على قضايا فلسفته الصحيحة، اضطهد من قبل فلاسفة هولندة المزعومين الذين لم يكونوا أحسن إدراكا لأمره، والذين أبصروا مجده عن كثب فزادوا مقتا لشخصه، ويضطر إلى الخروج من أترك، ويقاسي ظنة الإلحاد التي هي آخر وسيلة للمفترين، ويتهم بإنكار الله مع أنه بذل أقصى ما عنده من ألمعية للبحث عن أدلة جديدة إثباتا لوجود الله.
وما أكثر الاضطهادات التي تفترض وجود مزية عظيمة، وتوجب شهرة باهرة لدى من كان هدفا لها، وقد اتفق له هذا وذاك، ويكون للعقل بعض النفوذ في العالم من خلال ظلمات المدرسة ومبتسرات أباطيل الناس، وأخيرا يدور حول اسمه من الضوضاء ما يراد معه اجتذابه إلى فرنسة بالمكافآت، ويعرض عليه راتب ألف إيكو، ويجيء حاملا هذا الأمل، ويدفع رسم البراءة التي كانت تباع في ذلك الحين، ولا ينال الراتب، وينطلق إلى عزلته في شمال هولندة كيما يتفلسف، وذلك في زمن كان غليله العظيم، البالغ من العمر ثمانين سنة، يذوب حسرة في سجون محاكم التفتيش؛ لأنه أثبت حركة الأرض. والخلاصة أنه يموت في استكهلم موتا عاجلا ناشئا عن سوء حمية، وذلك بين بعض العلماء الذين كانوا أعداء له، وبين يدي طبيب كان يمقته.
وغير هذا حياة الفارس نيوتن، فقد عاش خمسا وثمانين سنة هادئا سعيدا مكرما في وطنه.
ولم تقم سعادته العظيمة على ولادته في بلد حر فقط، بل قامت أيضا على ظهوره في زمن أقصيت فيه وقاحات الفلسفة الكلامية، وصار العقل وحده محل مراعاة، فما كان العالم ليبدو غير تلميذه لا عدوه.
وهنالك اختلاف غريب بينه وبين ديكارت قائل بخلوه من الضعف والهوى في أثناء عمره الطويل، فهو لم يلامس امرأة قط، وهذا ما وكده لي الطبيب والجراح الذي مات بين ذراعيه، أجل، يمكن الإعجاب بنيوتن في هذا، ولكن لا ينبغي لوم ديكارت.
ويقوم الرأي العام في إنكلترة حول هذين الفيلسوفين على كون الأول حالما وكون الثاني حكيما.
وقليل من الناس في لندن من يقرءون ديكارت الذي صارت كتبه غير نافعة في الحقيقة، وقليل من الناس من يقرءون نيوتن أيضا؛ وذلك لأن على الإنسان أن يكون عالما حتى يفهمه، ومع ذلك فإن جميع الناس يتحدثون عنهما فلا يسلمون بشيء للفرنسي، ويسلم للإنكليزي بكل شيء، ويعتقد بعض الناس أن الناس إذا عادوا لا يقتصرون على هول الفضاء، وإذا ما صاروا يعرفون أن الهواء ثقيل، وإذا استعملوا النظارات، كانوا في هذا كله مدينين لنيوتن، ويعد هنا هركول الأسطورة الذي يعزو الجاهلون إليه جميع أعمال الأبطال الآخرين.
وفي لندن وجه انتقاد إلى خطبة مسيو دو فونتنل، فكان كاتبه من الجرأة ما ادعى معه أن ديكارت لم يكن مهندسا كبيرا، ومن يتكلمون هكذا يمكنهم أن يلوموا أنفسهم على ضرب مرضعهم، وذلك أن ديكارت سار بعلم الهندسة من النقطة التي وجده عليها إلى النقطة التي دفعه إليها كما صنع نيوتن بعده، وهو أول من وجد طريقة إدخال المنحنيات إلى المعادلات الجبرية، وكانت هندسته التي غدت شائعة اليوم، بالغة من العمق في زمانه ما لم يقدم أحد من الأساتذة معه على محاولة شرحها، وما لم يوجد معه غير شوتن في هولندة، وفرما في فرنسة من أدركها.
وقد حمل روح الهندسة والاختراع هذه إلى مبحث انكسار النور الذي أصبح بين يديه فنا تام الجدة، وإذا حدث أن أخطأ في شيء من ذلك كان كمن يكتشف أرضين جديدة، فلا يستطيع أن يعرف جميع خواصها دفعة واحدة، فالذين يأتون بعده والذين يجعلون هذه الأرضين خصيبة يكونون مدينين له باكتشافها على الأقل. ولا أنكر أن جميع كتب مسيو ديكارت الأخرى زاخرة بالأغاليط.
وكان علم الهندسة دليلا وضعه بنفسه من بعض الوجوه، فكان من الممكن أن يسوقه إلى فزيائه، ومع ذلك فقد ترك هذا الدليل في نهاية الأمر وأكب على روح المنهاج، وهنالك عادت فلسفته لا تكون غير رواية بارعة قريبة من الصحة لدى الجاهلين، فقد تطرق إليه الوهم حول طبيعة الروح وحول الأدلة على وجود الله، وحول المادة، وحول سنن الحركة، وحول طبيعة الضياء، وقد قال بالأفكار الفطرية، واخترع عناصر جديدة، وخلق عالما، وصنع الإنسان على شاكلته، فقيل بحق؛ إن إنسان ديكارت ليس بالحقيقة سوى إنسان ديكارت الكثير البعد من الإنسان الحقيقي.
وقد بلغ من خطئه فيما بعد الطبيعة ما صار يزعم معه أن اثنين واثنين لا يكونان أربعة إلا لأن الله أراد هذا، ولكن ليس من المبالغة أن يقال: إنه كان مقدرا حتى في أغاليطه، أجل، لقد تطرق الوهم إليه، ولكن هذا وقع وفق منهاج على الأقل، وبروح برهاني، وهو قد قضى على الأخيلة المحالة التي كانت الشبيبة تفتن بها منذ ألفي سنة، وهو قد علم الناس في زمانه أن يبرهنوا وأن يوجهوا أسلحته إليه، وهو إذا لم يؤد نقودا جيدة فلكثرة ما استخف بالزائف.
ولا أعتقد أنه يجرأ على المقارنة بين فلسفته وفلسفة نيوتن، فالأولى من تجارب القلم، والثانية من الروائع، ولكن الذي وضعنا على سبيل الحقيقة يعدل على ما يحتمل، ذاك الذي بلغ غاية هذا السلك بعد ذلك.
وأنعم ديكارت بالبصر على العمي، فرأوا أغاليط القرون القديمة وأغاليطه، وصارت الطريق التي فتحها كبيرة بعده، وعد كتاب رولت الصغير في الفزياء كاملا لزمن طويل، واليوم لا تعد جميع مجموعات الأكاديمات في أوروبة حتى بدء منهاج، وإذا ما عمقت هذه الهوة وجدت بلا نهاية، والآن يدور الأمر حول ما حفر نيوتن في هذه الهوة.
الرسالة الخامسة عشرة
حول نظام الجاذبية
تناولت اكتشافات الفارس نيوتن، التي نال بها شهرة عالمية، نظام الكون والضياء واللانهائي في الهندسة، ثم علم الأزمنة الذي تلهى به للراحة.
وأحدثكم - بلا هذر ما قدرت - عن الشيء القليل الذي استطعت أن أصيبه من جميع هذه الأفكار العالية.
وكان من حيث نظام عالمنا منذ زمن طويل يجادل حول العامل الذي يدير جميع السيارات ويمسكها في مدارها، وحول العامل الذي يهبط جميع الأجسام نحو سطح الأرض.
وكان نظام ديكارت الذي شرح وفسر كثيرا بعده، يظهر أنه يقدم سببا لهذه الحادثات قريبا من الصحة، ويلوح هذا السبب من الصحة، بنسبة ما عليه من بساطة وسهولة لدى جميع الناس، ولكنه يجب أن يحذر في الفلسفة مما يعتقد أنه يدرك بسهولة، كما يحذر من الأمور التي لا تدرك.
وليس الثقل وسقوط الأجسام على الأرض بسرعة متزايدة ودوران السيارات في مداراتها، ودورانها حول محورها غير حركة، والواقع أن الحركة لا يمكن أن تدرك إلا بمحرك؛ ولذا فإن جميع هذه الأجسام مدفوع، ولكن ما يكون الدافع؟ إن جميع الفضاء مملوء بمادة لطيفة جدا ما دمنا لا نبصرها، وإن هذه المادة تسير من الغرب إلى الشرق ما دامت جميع السيارات تجر من الغرب إلى الشرق، وكذلك فقد انتقل من افتراض إلى افتراض، ومن احتمال إلى احتمال، وتصور دوار واسع من المادة اللطيفة التي انجذبت فيه السيارات حول الشمس، وقد أبدع أيضا دوار خاص آخر يسبح في الدوار الكبير ويدور حول السيارة يوميا، ولما تم جميع هذا زعم أن الثقل تابع لهذه الحركة اليومية، وذلك - كما قيل - أن المادة اللطيفة التي تدور حول دوارنا الصغير يجب أن تسير سبع عشرة مرة بأسرع مما تسير الأرض، والواقع أنها إذا ما سارت سبع عشرة مرة بأسرع مما تسير الأرض، وجب أن تكون ذات قوة هائلة دافعة عن المركز، ومن ثم دافعة لجميع الأجسام ثانية نحو الأرض، وهذا هو عامل الثقل في نظام ديكارت.
ولكنه كان يجب قبل حساب القوة الدافعة عن المركز وسرعة هذه المادة اللطيفة، أن يستيقن أمر وجودها وأما وقد افترض وجودها، فقد أثبت خطأ إمكان كونها عامل الثقل.
ويظهر أن مستر نيوتن أبطل بلا هوادة جميع هذه الدوارات، كبيرة كانت أو صغيرة؛ أي ما يمضي بالسيارات حول الشمس وما يدير كل سيارة حول نفسها. (1)
إذا ما نظر إلى دوار الأرض الصغير المزعوم وجد أنه أثبت وجوب فقدانه حركته مقدارا فمقدارا، فقد أقيم الدليل على أن الأرض إذا كانت تسبح في سيال، فإن من الواجب أن يكون هذا السيال من ذات كثافة الأرض، وأن هذا السيال إذا كان من ذات الكثافة فإن من الواجب أن تعاني جميع الأجسام التي نحركها مقاومة متناهية؛ أي إنه لا بد من عتلة تكون طويلة طول الأرض حتى ترفع رطلا. (2)
إذا ما نظر إلى الدوارات الكبيرة وجد أنها أعرق وهما، ومن المحال أن يوفق بينها وبين مبادئ كبلر التي أثبتت حقيقتها، وقد أثبت مستر نيوتن أن دوران السيال الذي افترض انجذاب المشترى فيه، ليس حيال دوران سيال الأرض كدوران المشترى حيال دوران الأرض.
وقد أثبت أن جميع السيارات إذ تقوم بدوراتها على خطوط إهليلجية، وأن بعضها إذ يكون من حيث النتيجة على أقصى بعد من بعض، وذلك في بعدها الأقصى من الشمس، وأن بعضها إذ يكون على أدنى قرب من بعض، وذلك في قربها الأدنى من الشمس، فإن من الواجب أن تسير الأرض مثلا بأسرع ما يمكن عندما تكون أكثر ما يمكن دنوا من الزهرة والمريخ، وذلك إذ يكون السيال الذي يسير بها أكثر انضغاطا فإنه يجب أن يكون أكثر حركة، ومع ذلك فإن حركة الأرض تكون حينئذ أكثر ما يمكن تباطؤا.
وقد أثبت عدم وجود مادة سماوية تسير من الغرب إلى الشرق، ما دامت النجوم المذنبة تقطع هذه المسافات من الشرق إلى الغرب طورا، ومن الشمال إلى الجنوب طورا آخر.
وأخيرا أراد أن يحسم كل مشكلة إذا أمكن، فأثبت أو جعل محتملا على الأقل حتى عن تجارب أيضا، كون الملاء مستحيلا فردنا إلى الفراغ الذي كان أرسطو وديكارت قد أبعداه من العالم.
وهو حين قضى على دوارات مذهب ديكارت بهذه الأسباب وغيرها، يئس من إمكان معرفته وجود مبدأ خفي في الطبيعة يوجب حركة جميع الأجرام السماوية، ويوجب الثقل على الأرض، ويعتزل في سنة 1666 في الريف بالقرب من كنبردج، وبينما كان يتنزه في حديقته ويرى ثمارا تسقط من شجرة غاص في تأمل عميق حول هذا الثقل، الذي بحث جميع الفلاسفة عن سببه طويل زمن فذهبت جهودهم أدراج الرياح، والذي لا يخطر ببال العوام حتى وجود سر له، فقال في نفسه:
مهما يكن الارتفاع الذي تسقط منه هذه الأجسام في نصف كرتنا، فإن سقوطها يكون - لا ريب - ضمن التدرج الذي اكتشفه غليله، وتكون المسافات التي تقطعها مثل مربعات الأزمنة، وتكون هذه القوة التي تنزل الأجسام الثقيلة، عين القوة بلا نقصان محسوس مهما يكن عمق الأرض الذي تسقط فيه أو ارتفاع الجبل الذي تهبط عليه، ولم لا تمتد هذه القوة إلى الجبل؟ وإذا ما صح أن هذه القوة تنفذ حتى القمر أفلا يوجد احتمال كبير قائل أن هذه القوة تمسكه في مداره وتعين حركته؟ ولكن إذا كان القمر يخضع لهذا المبدأ - مهما كان أمره - أفلا يكون من الصواب كثيرا أن يذهب إلى أن السيارات الأخرى تخضع له أيضا.
وإذا كانت هذه القوة موجودة وجب - وقد أثبت هذا من جهة أخرى - أن تزيد مربعات المسافات على نسبة معكوسة، وعاد لا يبقى غير البحث في الطريق الذي يشقه الجسم الثقيل حين سقوطه على الأرض من ارتفاع متوسط، والطريق الذي يشقه في الوقت عينه جسم يسقط من مدار القمر - وعاد لا يبقى - للوقوف على ذلك، غير قياس الأرض والمسافة التي بين القمر والأرض.
ذلك هو الوجه الذي فطن له مستر نيوتن، ولكنه لم يكن في إنكلترة حينئذ غير قياسات مختلة جدا عن كرتنا، وذلك أنه كان يعتمد على تقدير الربابنة الذين كانوا يحسبون ستين ميلا إنكليزيا عن كل درجة بدلا من نحو سبعين، ولم يطابق هذا الحساب المختل ما أراد مستر نيوتن استنباطه من النتائج، فترك هذه النتائج، ولو كان الأمر نصيب فيلسوف عادي لا سبيل لغير الخيلاء عليه لوفق بين نظامه وقياس الأرض كما يشاء، ولكن مستر نيوتن فضل ترك مشروعه على مثل هذا العمل، ومما حدث بعد أن قاس مسيو بيكار الأرض بدقة ورسم خط الطول رسما مشرفا لفرنسة، أن عاد مستر نيوتن إلى أفكاره الأولى وانتفع بحساب مسيو بيكار، ومما يبدو لي رائعا دائما اكتشاف حقائق راقية بربع دائرة، وبقليل من علم الحساب.
وتعدل دائرة الأرض 123290600 قدم باريسية، فمن هذا وحده يمكن تعقب جميع نظام الجاذبية.
وتعرف دائرة الأرض، وتعرف دائرة مدار القمر وقطر هذا المدار، ويتم دوران القمر في هذا المدار في سبعة وعشرين يوما، وسبع ساعات وثلاث وأربعين دقيقة؛ ولذا فقد أثبت أن القمر يقطع في كل دقيقة من حركته المتوسطة 1870960 قدما باريسية، وقد أثبت بنظرية معروفة أن القوة المركزية التي تسقط جسما من ارتفاع القمر لا تسقطه إلا بمقدار خمس عشرة قدما باريسية في الدقيقة الأولى.
والآن، إذا كانت القاعدة التي تثقل بها الأجسام، وتدور حول نقطة مركزية، وتنجذب على نسبة معكوسة من مربعات المساوف صحيحة، وإذا كانت هذه هي ذات القوة التي تسير في جميع الطبيعة وفق هذه القاعدة، فإن من الواضح أن الجرم الثقيل يجب أن يسقط إلى الأرض بخمس عشرة قدما في الثانية الأولى، وبأربعة وخمسين ألف قدم في الدقيقة الأولى، وذلك نظرا إلى بعد الأرض من القمر بستين نصف قطر.
والواقع أن الجرم الثقيل إذا سقط بخمس عشرة قدما في الثانية الأولى، وقطع أربعة وخمسين ألف قدم في الدقيقة الأولى، كان هذا العدد مربع ستين مضروبة بخمسة عشر؛ ولذا فإن الجرم يثقل بنسبة معكوسة لمربعات المساوف؛ ولذا فإن ذات القوة تأتي بالثقل على الأرض وتمسك القمر في مداره.
إذن، فبما أنه أثبت أن القمر يثقل على الأرض التي هي مركز حركته الخاصة، فإنه أثبت أن الأرض والقمر يثقلان على الشمس التي هي مركز لحركتهما السنوية.
ويجب أن تخضع السيارات الأخرى لهذا القانون العام، وإذا كان هذا القانون موجودا وجب على هذه السيارات أن تتبع القواعد التي وجدها كبلر، والواقع أن السيارات تحافظ على جميع هذه القواعد وهذه النسب محافظة دقيقة إلى الغاية؛ ولذا فإن قوة الجذب تثقل جميع السيارات نحو الشمس - كما هو أمر كرتنا - ثم بما أن رد فعل كل جرم يكون على نسبة الفعل، فإن مما يعد ثابتا كون الأرض تثقل على القمر بدورها، وكون الشمس تثقل على كل منهما، وكون كل من أقمار زحل يثقل على الأربعة، وكون الأربعة تثقل عليه، وكون الخمسة كلها تثقل على زحل، وكون زحل يثقل على الجميع، وقل مثل هذا عن المشترى وعن جميع هذه الكرات التي تجذبها الشمس فتجذب الشمس تبادلا.
وتؤثر قوة الجذب هذه بنسبة المادة التي تشتمل عليها الأجرام، وهذه حقيقة أثبتها مستر نيوتن بالتجارب، ومن نفع هذا الاكتشاف الجديد أن دل على أن الشمس التي هي مركز جميع السيارات، تجذب جميع هذه السيارات على نسبة كتلها مباشرة مع النظر إلى بعد هذه الكتل، وهكذا ارتقى مستر نيوتن بالتدريج حتى المعارف التي كان يلوح أنها خارجة عن نطاق ذهن الإنسان، فجرؤ على حسابه مقدار المادة التي تشتمل عليها الشمس، وكل واحدة من السيارات، وهكذا فإنه بين مستعينا بقوانين الميكانيك البسيطة، وجوب كون كل كرة سماوية في المكان الموجودة فيه، ومن شأن مبدئه الوحيد في سنن الجاذبية تعليل جميع التفاوتات الظاهرة في مجرى الكرات السماوية، وتغدو اختلافات القمر نتيجة لازمة لهذه السنن؛ وفضلا عن ذلك يتضح السبب في كون عقد القمر تتم دورها في تسع وعشرين سنة، وفي كون عقد الأرض في الفضاء تتم دورها في نحو ست وعشرين ألف سنة. وكذلك فإن الجزر والمد نتيجة بالغة البساطة لهذه الجاذبية، وما يكون من قرب القمر في بدره وهلاله وما يكون من بعده في أرباعه، مضافا إلى عمل الشمس، أمر يعلل به ارتفاع البحر وانخفاضه تعليلا محسوما.
وقد أخضع نيوتن النجوم المذنبة لحكم القانون عينه، بعد أن بين بنظريته العالية سير النجوم وتفاوت السيارات، وأخيرا وضع نيوتن في مكانها هذه النيران التي ظل أمرها مجهولا دهرا طويلا، والتي كانت هول العالم وهوة الفلسفة، والتي جعلها أرسطو تحت القمر وأقصاها ديكارت إلى ما فوق زحل.
ويثبت أن الأجرام الصلبة هي التي تتحرك ضمن دائرة عمل الشمس، فترسم خطا إهليلجيا بالغا من الابتعاد عن المركز والاقتراب من القطع المكافئ ما يجب على بعض النجوم المذنبة أن تدور معه أكثر من خمسمائة سنة كيما تضعه.
ويعتقد مستر هاله أن مذنب سنة 1680 هو عين المذنب الذي ظهر في زمن يوليوس قيصر، وذلك المذنب على الخصوص هو ما يصلح أكثر من غيره لإظهار كون المذنبات أجراما صلبة غير شفافة، وذلك أنه يبلغ من الدنو من الشمس ما لا يبتعد معه عنها غير ما يعدل سدس قرصها، ومن ثم يكتسب درجة من الحرارة أشد من درجة الحديد البالغ الالتهاب بألفي مرة، وكان لا بد من انحلاله واستنفاده في وقت قصير لو لم يكن جسما غير شفاف، وهنالك صار من العادة أن يتنبأ بسير المذنبات، فانتهى الرياضي الشهير جاك برنولي بنظامه إلى أن مذنب سنة 1680 المشهور، سيظهر ثانية في 17 من مايو سنة 1719، ولم ينم فلكي بأوروبة في ليلة 17 من مايو، ولكن المذنب المشهور لم يظهر قط، ويكون من فرط الحيلة على الأقل - عند عدم الضمان - أن يعطى هذا المذنب 575 سنة حتى يعود، وهنالك عالم هندسي إنكليزي اسمه ويلستن، كان عريقا في الوهم فوكد بجد ظهور مذنب في زمن الطوفان غمر كرتنا الأرضية بالماء، فكان من عدم الإنصاف ما دهش معه من الاستهزاء به، وكانت القرون القديمة تفكر وفق ذوق ويلستن تقريبا، فالناس في هذه القرون اعتقدوا أن النجوم المذنبة تنذر دائما بحدوث كارثة عظيمة في الأرض، وعلى العكس يخيل إلى نيوتن أن المذنبات كثيرة الإحسان، فلا يقوم الدخان الذي يخرج منها بغير إمداد السيارات، وإنعاشها في أثناء جريانها بما تبتل به من الأجزاء الصغيرة التي تفصلها الشمس عن المذنبات، فهذا الإحساس أكثر احتمالا من الآخر.
وليس هذا كل ما في الأمر، فإذا كانت قوة الجذب هذه تؤثر في جميع الكرات السماوية، فإنها تؤثر في جميع أجزاء هذه الكرات لا ريب؛ وذلك لأن الأجرام إذا كانت تتجاذب على نسبة كتلها، فإن هذا لا يمكن أن يكون إلا على نسبة كمية أجزاء هذه الكتل، وإذا كانت هذه القوة مستقرة بالكل، فإن مما لا شك فيه أن تكون مستقرة بالنصف والربع والثمن، وهكذا إلى ما لا حد له. وفضلا عن ذلك فإن هذه القوة إذا لم تكن متساوية في كل جزء، فإنه لا بد من وجود نواح من الكرة تجذب أكثر من الأخرى - وهذا لا يقع - ولذا فإن هذه القوة توجد بالحقيقة في جميع المادة وفي أصغر أجزاء المادة.
وهكذا فإن الجاذبية هي النابض الكبير الذي يحرك جميع الطبيعة.
وبعد أن أثبت نيوتن وجود هذا المبدأ أبصر جيدا أنه سيثار ضد هذا الاسم وحده، وهو في أكثر من محل في كتابه، حذر قارئه من الجاذبية نفسها؛ أي حذره من خلطها بتنجيمات القدماء، وبالاقتصار على معرفة وجود قوة مركزية في جميع الأجرام تؤثر بين طرفي العالم في أقرب الأجرام وأبعدها وفق قوانين الميكانيك الثابتة.
ومن موجبات الدهش بعد احتجاجات هذا الفيلسوف الكبير الصريحة، أن يعيبه السيدان سورين ودوفونتنل، اللذان يستحقان هذا اللقب أيضا على الأوهام المشائية، أن يعيبه مسيو سورين في مذكرات الأكاديمية لسنة 1709، وأن يعيبه مسيو دوفونتنل في تأبينه لمستر نيوتن.
وقد ردد جميع الفرنسيين - تقريبا - هذا التأنيب، علماء كانوا أو غير علماء. ومما سمع في كل مكان: «لم لم يستعمل نيوتن كلمة الدفع التي تدرك جيدا، ولم يفضلها على كلمة الجذب التي لا تدرك؟»
وكان يمكن نيوتن أن يرد على هذه الانتقادات بقوله: (1)
أنتم لا تدركون كلمة الدفع أكثر من إدراككم كلمة الجذب، وإذا كنتم لا تتمثلون السبب في كون الجرم يتجه إلى مركز جرم آخر، فإنكم لا تكونون أكثر تصورا للعامل الذي يستطيع الجرم أن يدفع به جرما آخر. (2)
لم أستطع أن أسلم بالدفع؛ وذلك لأن هذا يستلزم معرفتي كون المادة السماوية تدفع السيارات بالحقيقة، والواقع أنني لا أعرف هذه المادة فقط، بل أثبت أنها غير موجودة أيضا. (3)
لا أستعمل كلمة الجذب إلا لأعبر عن معلول اكتشفته في الطبيعة، عن معلول ثابت لا جدال فيه لسبب غير معلوم، عن خاصية ملازمة للمادة، سيجد علتها من هم أمهر مني إذا ما استطاعوا أن يجدوها.
ويصر على القول: «ماذا علمتنا إذن، ولم كل هذا الحساب لتقول لنا ما لا تعرف أنت؟»
وكان يمكن نيوتن أن يقول مواصلا: «لقد علمتكم أن ميكانية
1
القوى المركزية تثقل جميع الأجسام بنسبة مادتها، وأن هذه القوى المركزية هي التي تحرك السيارات والمذنبات وفق نسب معينة، وأثبت لكم أن من المستحيل وجود سبب آخر لثقل جميع الأجرام السماوية وحركتها؛ وذلك لأن الأجسام الثقيلة إذ تسقط على الأرض وفق نسبة القوى المركزية التي أثبتت؛ ولأن السيارات إذ تقوم بسيرها وفق هذه النسب، فإنه عند وجود قوة أخرى تؤثر في جميع هذه الأجسام، تزيد هذه القوة سرعة هذه الأجسام أو تغير اتجاهها، والواقع أنه لا يوجد أي من هذه الأجسام خال من درجة حركة وسرعة، وقصد لم يثبت كونه معلول قوى مركزية؛ ولذا فإن من المحال وجود سبب آخر.»
وليسمح لي بأن أحمل نيوتن على الكلام دقيقة أخرى، وهو الذي يقبل منه أن يقول: إنني في حال تختلف عما كان عليه القدماء، فقد كانوا يرون أن الماء يصعد في المضخات مثلا، فيقولون: «إن الماء يصعد لأنه يأنف من الفراغ»، وأما أنا فإنني في حال من لاحظ أول مرة أن الماء يصعد في المضخات تاركا للآخرين أمر إيضاح علة هذا المعلول. ويعد عالم التشريح، الذي هو أول من قال: إن الذراع تتحرك؛ لأن العضل تتقلص، قد علم الناس حقيقة لا جدال فيها، فهل يقل اعترافنا بالجميل له؛ لأنه لم يعرف السبب في كون العضل تتقلص؟ أجل، إن علة نابض الهواء مجهولة، غير أن الذي اكتشف هذا النابض قدم إلى الفزياء خدمة عظيمة، وكان النابض الذي اكتشفته أكثر خفاء وأعظم شمولا، وهكذا يجب أن أحبى بأكبر شكر، ولقد اكتشفت خاصية جديدة للمادة تحسب سرا من أسرار الخالق، وقد حسبتها وأثبت معلولاتها، فهل يمكن أن أوبخ على الاسم الذي أطلقته عليها.
والدوارات هي ما يمكن أن يسمى خاصية خفية، ما دام وجودها لم يثبت قط، وعلى العكس تظهر الجاذبية أمرا حقيقيا، ما دامت معلولاتها قد أثبتت، وما دامت نسبها قد حسبت، وأما علة هذه العلة ففي الله. تقدم إلى هنا ولا تجاوز الحد.
الرسالة السادسة عشرة
حول بصريات مستر نيوتن
كان قد كشف كون جديد من قبل فلاسفة القرن الأخير، وكان هذا الكون من صعوبة العلم به ما كان أمره لا يخطر حتى على البال، وكان يلوح لأعقل الناس أن من التهور أن يجرؤ مع الاقتصار على التفكير في إمكان التنبؤ بالسنن، التي تتحرك بها الأجرام السماوية وبكيفية سير النور.
وقد أبصر غليله في اكتشافاته الفلكية، وكبلر في حساباته، وديكارت في مباحثه عن انكسار النور على الأقل، ونيوتن في جميع آثاره، ميكانية نوابض العالم، وقد أخضعت اللانهاية للحساب في الهندسة، وقد غيرت الدورة الدموية في الحيوانات والنسح في النباتات الطبيعية لدينا، وقد منحت الأجسام في مفرغة الهواء طرازا جديدا في الوجود، وقد قربت الأشياء إلى عيوننا بواسطة المرقب، وأخيرا بدا ما اكتشف نيوتن حول النور جديرا بكل ما يمكن فضول الناس أن ينتظره من أكثر الأمور إقداما بعد تلك الطرائف الكثيرة.
وكان قوس قزح يلوح أعجوبة غامضة قبل أنطونيو دو دومينيس، فتنبأ هذا الفيلسوف بأنه معلول لازم للمطر والشمس، وخلد ديكارت اسمه بإيضاحه الرياضي لهذه الظاهرة الطبيعية، فقد حسب انعكاسات النور في قطرات المطر، وعدت هذه البصيرة من الإلهام في ذلك الحين.
ولكن ما يقول إذا ما أخبر بأن الوهم تطرق إليه حول طبيعة النور، وأنه ليس لديه أقل سبب لتوكيده أنه جسم مركب من كرى، وأن من الخطأ كون هذه المادة، بانبساطها في جميع العالم، لا تنتظر كيما تعمل غير دفع الشمس لها شأن العصا الطويلة التي تعمل بأحد طرفيها عندما تضغط من طرفها الآخر، وأن من الصحة بمكان كونه يلقى من الشمس إلى الأرض في نحو سبع دقائق، مع أن قنبلة المدفع لا تستطيع أن تقطع هذه المسافة إلا في خمس وعشرين سنة على أن تحفظ سرعتها دائما؟
وما يكون دهشه لو قيل له: «من الخطأ أن يذهب إلى أن النور ينعكس مباشرة بوثوبه على أجزاء الجسم الصلبة، ومن الخطأ أن يذهب إلى أن الأجسام تكون شفافة إذا ما كانت ذات مسام واسعة، فسيظهر رجل يثبت غير ما عليه الناس، ويشرح شعاعا واحدا من النور بمهارة أعظم من التي تتم على يد أبرع متفنن يشرح جسم الإنسان!»
ويأتي هذا الرجل، ويستعين نيوتن بالموشور وحده، فيثبت للأعين وحدها أن النور كدسا من الأشعة الملونة التي يسفر مجموعها عن اللون الأبيض، ويقسم الشعاع الواحد إلى سبعة أشعة، ويوضع بعضها فوق بعض وفق ترتيبها، وذلك على نسيج أبيض أو ورقة بيضاء وعلى مسافات متفاوتة، ويكون الأول بلون النار، والثاني بلون الليمون، والثالث أصفر، والرابع أخضر، والخامس أزرق، والسادس بلون النيلج، والسابع بلون البنفسج، ثم يغربل كل واحد من هذه الأشعة بمائة موشور آخر، فلا يغير لونه مطلقا، كما أن الذهب لا يتغير في البوتقات بعد أن يصفى، وإذا ما أردت زيادة في الدليل على كون كل واحد من هذه الأشعة الأولية يحمل في ذاته ما نراه لونه، فخذ قطعة من الخشب الأصفر مثلا واعرضها على الشعاع الذي هو بلون النار؛ لتبصر أن هذه الخشبة تصطبغ بلون النار من فورها، واعرضها على الشعاع الأخضر لتبصر أنها تصطبغ بلون الأخضر، وهلم جرا.
وما علة الألوان في الطبيعة إذن؟ لا شيء غير استعداد الأجسام لانعكاس أشعة صنف ما وابتلاع جميع الأخرى، وما هذا الاستعداد الخفي؟ لقد أثبت أنه يقوم حصرا على كثافة الأجزاء الصغيرة التي يتألف الجسم منها، وكيف يحدث هذا الانعكاس؟ كان يرى أن هذا يقع؛ لأن الأشعة تثب، كالكرة على سطح جسم صلب، ولا يرى نيوتن هذا، ويعلم نيوتن الفلاسفة، وقد بهتوا أن الأجسام ليست غير شفافة إلا لأن مسامها واسعة، وأن الضياء ينعكس على أعيننا من باطن هذه المسام نفسها، وأن مسام الجسم كلما كانت صغيرة كان الجسم شفافا، وهكذا فإن الورقة التي تعكس النور عندما تكون جافة تفضي به إذا ما زيتت؛ وذلك لأن الزيت إذ يملأ مسامها يجعل هذه المسام أصغر مما كانت عليه بدرجات.
وهو إذ يفحص هناك مسامية الأجسام المتناهية، وبما أن لكل جزء مسامه، وبما أن لكل جزء من أجزائه مسامه، فإنه يبين أن مما لا يضمن مطلقا وجود قيراط مكعب واحد من مادة صلبة في العالم، فما أبعد ذهننا من إدراك أمر المادة!
وهو إذ يحلل النور على هذا الوجه، وهو إذ يبلغ من حمل لب اكتشافاته إلى حد إثبات الوسيلة التي يعرف بها اللون المؤلف من الألوان الابتدائية، يدل على أن هذه الأشعة الابتدائية المفصول بعضها عن بعض بواسطة الموشور، لم ترتب ضمن نظامها إلا لانكسارها وفق هذا النظام، فأطلق اسم قابلية انحراف الأشعة على هذه الخاصية، المجهولة قبله في الانكسار وفق هذه النسبة، وعلى هذا الانكسار الشعاعي المتفاوت، وعلى هذه القوة في انكسار اللون الأحمر أقل من انكسار اللون البرتقالي، إلخ.
والأشعة الأكثر انكسارا هي الأكثر قابلية للانحراف، ومن ثم دل على أن ذات القوة تسبب انكسار النور وانحرافه.
ولم تكن هذه العجائب الكثيرة غير فاتحة اكتشافاته، وذلك أنه وجد سر رؤية اهتزاز النور وارتجاجه، اللذين يذهبان ويأتيان بما لا حد له، واللذين ينقلان الضياء أو يعكسانه على حسب ما يلاقيان من كثافة الأجزاء، وقد جرؤ على حساب كثافة أجزاء الهواء اللازم بين زجاجين موضوع أحدهما على الآخر، ويكون أحدهما مستويا والآخر محدبا من ناحية، كيما يتم هذا الانتقال أو ذلك الانعكاس، وكيما يحدث هذا اللون أو ذاك.
ويجد من خلال جميع هذه الترتيبات نسبة تأثير النور في الأجسام، ونسبة تأثير الأجسام في النور.
وقد بلغ من حسن رؤيته النور ما عين معه مقدار ما يجب أن يقتصر عليه فن زيادة بصرنا ومساعدته بالمرقب.
وكان ديكارت يأمل عن اعتماد كريم يصفح عنه ناشئ عن حماسة أوجبتها فيه بداءات فن اكتشفه تقريبا، أن يرى بالنظارات أشياء في النجوم بالغة من الصغر كالتي ترى على الأرض.
وقد بين نيوتن أنه عاد لا يمكن إكمال النظارات، وذلك بسبب هذا الانكسار وهذا الانحراف اللذين - مع تقريبهما الأشياء - يبعدان الأشعة الابتدائية كثيرا، فحسب في هذا الزجاج نسبة تباعد الأشعة الحمر والأشعة الزرق، ويتناول نيوتن ببرهانه أشياء لا يخطر ببال الإنسان حتى أمر وجودها، ويفحص التفاوتات التي يحدثها وجه الزجاج، والتفاوت الذي تحدثه قابلية انحراف الأشعة، وهو إذ يجد أن زجاج النظارة الظاهر محدبا من ناحية ومستويا من الأخرى، وذلك مع تحويل الناحية المستوية نحو الشيء، فإن العيب الذي يأتي من صنع الزجاج ووضعه، يكون أقل خمسة آلاف مرة من العيب الذي يأتي من قابلية انحراف الأشعة، وهكذا فإن تعذر إكمال النظارات لا ينشأ عن وجه الزجاج، وإنما يجب أن يوجه اللوم في هذا إلى مادة الضياء نفسها.
ولذا فقد اخترع مرقبا يري الأشياء بانعكاس النور، لا بانكساره. ومن الصعب إلى الغاية صنع هذا النوع من النظارات، وليس من السهل استعماله، ولكن مما يقال في إنكلترة كون مرقب الانعكاس ذي الأقدام الخمس، يوجب مثل ما لنظارة مائة القدم من التأثير.
الرسالة السابعة عشرة
حول اللانهاية وحول علم الأزمنة
تعد معضلة اللانهاية وهوتها ميدانا جديدا، جال فيه نيوتن فأمسك منه السلك الذي يمكن أن يسار عليه.
ولا يزال ديكارت مبشرا به في هذه الطرفة العجيبة، وقد كان يسير بخطى كبيرة في علمه الهندسي نحو اللانهاية، ولكنه وقف عند الحافة، وكان مستر واليس حوالي منتصف القرن الأخير، أول من حول الكسور بتقسيم مستمر إلى سلسلة لا نهاية لها.
وقد انتفع اللورد براونكر بهذه السلسلة في تربيع القطع الزائد.
وقد نشر مركاتر إثباتا لهذا التربيع، ففي هذا الزمن تقريبا اخترع نيوتن البالغ من العمر ثلاثة وعشرين عاما منهاجا عاما؛ لكي يصنع على جميع المنحنيات ما جرب على القطع الزائد.
فهذه هي الطريقة التي تخضع بها اللانهاية للحساب الجبري في كل موضع، فتسمى حساب التفاضل، أو التفاضل، وحساب التكامل، وهذا هو فن تعداد ما لا يمكن تصور وجوده بالضبط وقياسه بالدقة.
أفلا تعتقدون - كما هو الواقع - أنه يراد الاستهزاء بكم إذا ما أخبرتم بوجود خطوط لا حد لكبرها تؤلف زاوية لا حد لصغرها؟
وهل يتحول الخط المستقيم الذي هو مستقيم ما كان محدودا، فيغير اتجاهه بعض التغيير بما لا حد له، إلى منحن لا نهاية له، وهل يمكن المنحنى أن يتحول إلى منحن أقل انحناء بما لا حد له؟
وهل توجد مربعات لا نهاية لها، ومكعبات لا نهاية لها، ولا نهايات للانهاية، لا يعد قبل أخيرها شيئا بالنسبة إلى الأخير؟
والحق أن جميع هذا الذي يلوح أول وهلة غاية في مخالفة الصواب، هو مجهود دقة الذهن البشري واتساعه، وهو طريقة اكتشاف الحقائق التي كانت مجهولة حتى ذلك الحين.
وهذا البناء الشامخ قائم حتى على أفكار بسيطة، ويدور الأمر حول قياس خط زاوية المربع، وحيازة مساحة محدودة لمنحن، والفوز بجذر مربع لعدد لا وجود له في علم الحساب العادي.
ومهما يكن من أمر، فإنه لا ينبغي أن تثير الخيال هذه اللانهايات أكثر من القضية المعروفة القائلة: إن من الممكن - دائما - إمرار منحنيات بين دائرة ومماس، أو من القضية القائلة بقابلية المادة للتجزؤ، فقد أثبتت هاتان الحقيقتان منذ زمن طويل، وليس الذهن أكثر فهما لهما من البقية.
وقد وجد من نازع نيوتن اكتشاف هذا الحساب المشهور زمنا طويلا، فعد ليبنتز في ألمانية مكتشفا للتفاوتات التي يدعوها نيوتن بالتفاضلات، وادعى برنولي بحساب التكامل، بيد أن شرف الاكتشاف الأول يرجع إلى نيوتن، وبقي للآخرين فخر إمكان التردد بينه وبينهم.
وهكذا وجد من نازع هارڨي اكتشاف الدورة الدموية، ومن نازع مسيو بيرو اكتشاف الدورة النسغية، ووجد من نازع هرتسوكر وليڨنهوك شرف كونه أول من رأى الحييوينات التي جعلنا منها، ونازع هرتسوكر هذا مسيو هويجن اختراع طريقة جديدة لحساب بعد النجم الثابت، ولم يعرف بعد من هو الفيلسوف الذي وجد مسألة الدولاب.
ومهما يكن من أمر، فإن نيوتن انتهى إلى أعلى المعارف بفضل الهندسة اللانهائية، وبقي علي أن أحدثكم عن أثر آخر يعد أكثر ما يكون في متناول الإنسان، ولكن مع تأثره بتلك الروح الخلاقة التي كان نيوتن يحملها في جميع مباحثه، وذلك هو علم للأزمنة تام الجدة، وذلك أنه كان يرى في كل ما يتصدى له، وجوب تغييره الأفكار التي تلقاها الآخرون.
وهو إذ كان مدربا على الهيوليات، أراد أن يلقي بعض النور على الأقاصيص القديمة التي اختلطت بالتاريخ، وأن يوطد علما للأزمنة غير محقق، والواقع أنك لا تجد أسرة أو مدينة أو أمة لا تحاول إرجاع أصلها إلى تاريخ قديم، وهذا إلى أن المؤرخين الأولين أكثر الناس إهمالا لتعيين الأزمنة، وذلك أن الكتب كانت أقل انتشارا مما هي عليه اليوم ألف مرة، وأنها كانت أقل هدفا للنقد، فكان الناس يخدعون بلا كبير عقاب، وبما أن الوقائع كانت تفترض كما هو واضح، فإن من المحتمل أن كانت الأزمنة تفترض أيضا.
وعلى العموم لاح لنيوتن أن العالم أحدث خمسة قرون مما يروي علماء الأزمنة، فأقام رأيه على المجرى العادي للطبيعة وعلى الرصد الفلكي.
وبمجرى الطبيعة يقصد هنا زمن كل جيل من الناس، وكان المصريون أول من انتفع بهذا النوع غير المحقق في التعداد، وهم عندما أرادوا كتابة أوائل تاريخهم عدوا 341 جيلا منذ منا حتى سيتون، وهم إذ لم يكن عندهم تواريخ ثابتة، قدروا كل ثلاثة أجيال بمائة سنة، وهكذا كانوا يعدون 11340 سنة منذ عهد منا حتى عهد ...
وكان الأغارقة - قبل العد وفق الدورات الألنبية - يتبعون طريقة المصريين، فيطيلون مدة الأجيال، ويجعلون كل جيل أربعين سنة.
والواقع أن الوهم تطرق إلى المصريين والأغارقة في حسابهم ذلك، وإذا ما نظر إلى مجرى الطبيعة العادي، وجد أن كل ثلاثة أجيال يعدل نحو ما بين مائة سنة و120 سنة، ولكن هيهات أن تشتمل ثلاثة عهود على هذا العدد من السنين، ومن الثابت جدا أن الرجال يعيشون مدة أطول من التي يقضيها الملوك على عروشهم، وهكذا فإن الرجل الذي يريد تأليف تاريخ من غير أن يكون حائزا لأزمنة معينة، ولكن مع علمه بوجود تسعة ملوك لدى إحدى الأمم، يكون على جانب كبير من الخطأ إذا ما عد ثلاثمائة سنة كعهود لهؤلاء الملوك التسعة، وكل جيل يعدل نحو ست وثلاثين سنة، وكل عهد يعدل نحو عشرين سنة، فيشتمل هذا على ذاك. وتناولوا ملوك إنكلترة الثلاثين، وذلك منذ وليم الفاتح حتى جورج الأول، تجدوا مدة حكمهم 648 سنة، فإذا ما قسمتم هذه السنين بين ثلاثين ملكا، وجدتم أن عهد كل منهم إحدى وعشرين سنة ونصف سنة، وحكم في فرنسة ثلاثة وستون ملكا، ودام عهد كل منهم نحو عشرين سنة في مجموعه، وهذا هو مجرى الطبيعة العادي؛ ولذا فإن الوهم قد تطرق إلى القدماء عندما ساووا - على العموم - بين مدة العهود ومدة الأجيال؛ ولذا فإنهم زادوا في العدد؛ ولذا فإن من المناسب أن يطرح قليل من حسابهم.
ويظهر أن المشاهدات الفلكية تقوم بأكبر مساعدة لفيلسوفنا، وهو يظهر أعظم قوة حين كفاحه فوق أرضه.
وتعرفون - يا سادتي - أن للأرض عدا حركتها السنوية التي تدور بها حول الشمس من الغرب إلى الشرق في الفضاء، دورانا غريبا ظل أمره مجهولا حتى الأزمنة الأخيرة، وذلك أن لقطبي الأرض حركة بطيئة قهقرية من الشرق إلى الغرب، جاعلة وضعهما في كل يوم غير مطابق لذات النقاط في السماء مطابقة تامة، ويصير هذا الفرق غير المحسوس في سنة كبيرا مع الزمن، فإذا ما مضت اثنتان وسبعون سنة بلغ الفرق درجة واحدة؛ أي جزءا من أجزاء السماء ال 360، وهكذا فإن دائرة السمت الاعتدالية الربيعية التي كانت تعد ثابتة، تطابق ثابتا آخر، ومن ثم تطابق الشمس قسم السماء الذي كان برج الثور فيه، بدلا من أن تكون في قسم السماء الذي كان برج الحمل فيه في زمن إبرخس، ويكون برج الجوزاء في المكان الذي كان فيه برج الحمل في ذلك الحين، وقد غيرت جميع البروج مكانها، ومع ذلك فإننا نستمسك بطريقة القدماء في الكلام، فنقول: إن الشمس تكون في برج الحمل في الربيع، وذلك - كما نقول - إن الشمس تدور عن مجاراة.
وكان إبرخس أول يوناني أبصر وجود تغيرات في البروج بالنسبة إلى الاعتدالات، وإن شئت فقل إنه تعلم ذلك من المصريين. وقد عزا الفلاسفة هذه الحركة إلى الكواكب؛ وذلك لأنه كان من البعيد أن يتمثل مثل هذا الدوران في الأرض التي كان يعتقد سكونها من كل جهة؛ ولذا فقد أوجدوا فلكا ربطوا به جميع النجوم، وأعطوا هذا الفلك حركة خاصة يتقدم بها نحو الشرق، وذلك على حين يلوح أن جميع النجوم تقوم بسيرها اليومي من الشرق إلى الغرب، وقد أضافوا إلى هذا الخطأ خطأ آخر جوهريا أكثر من ذاك، وذلك أنهم اعتقدوا أن فلك الكواكب الثابتة المزعوم كان يتقدم نحو الشرق بدرجة واحدة في مائة سنة، وهكذا فقد خدعوا في حسابهم الفلكي كما خدعوا في نظامهم الفزياوي، ومن ذلك مثلا أنه كان يمكن الفلكي أن يقول في ذلك الحين: «إن الاعتدال الربيعي كان أيام ذاك الراصد في ذاك البروج ولدى ذاك الكوكب، وإنه سار درجتين منذ زمن هذا الراصد حتى زماننا، والواقع أن الدرجتين تعدلان مائتي سنة؛ ولذا كان هذا الراصد يعيش قبلي بمائتي سنة»، ومما لا ريب فيه أن يكون الفلكي، الذي فكر في الأمور على هذا الوجه، قد أخطأ بمقدار أربع وخمسين سنة، وهذا هو السبب في أن القدماء الذين كان خطؤهم مضاعفا قد ألفوا عامهم العالمي الكبير؛ أي دوران جميع الفلك من نحو ست وثلاثين ألف سنة، غير أن المعاصرين يعرفون أن دوران فلك الكواكب الخيالي هذا ليس سوى دوران قطبي الأرض الذي يتم في 25900 سنة. ومما يجدر ملاحظته هنا أن نيوتن - حين عين وجه الأرض - كان بالغ التوفيق في إيضاحه سبب هذا الدوران.
وإنه - بعد وضع هذا - يبقى لتعيين علم الأزمنة، أن يرى بأي كوكب تقطع دائرة السمت الاعتدالية مدار الشمس في الربيع، وأن يعرف وجود رجل من القدماء كان قد أخبرنا عن النقطة التي قطع المدار عندها في زمنه بدائرة السمت الاعتدالية.
ويروي كليمان الإسكندري أن كيرون الذي كان من حملة الأرغونوت، قد رصد البروج في زمن هذه الحملة المشهورة فعين الاعتدال الربيعي في وسط برج الحمل، والاعتدال الخريفي في وسط برج الميزان، والانقلاب الصيفي في وسط برج السرطان، والانقلاب الشتوي في وسط برج الجدي.
ويمضي زمن على حملة الأرغونوت، فيلاحظ ميتون قبل حروب البلوبونيز بعام، أن نقطة الانقلاب الصيفي كانت تمر من الدرجة الثامنة من برج السرطان.
والواقع أن كل برج في الفلك مؤلف من ثلاثين درجة، وكان الانقلاب في زمن كيرون في منتصف البرج؛ أي في الدرجة الخامسة عشرة، وكان الانقلاب في الدرجة الثامنة قبل حرب البلوبونيز بسنة؛ ولذا كان قد تأخر سبع درجات، وتعدل الدرجة اثنتين وسبعين سنة؛ ولذا لا يوجد بين ابتداء حرب البلوبونيز وغزوة الأرغونوت غير اثنتين وسبعين سنة سبع مرات؛ أي 104 سنة، لا سبعمائة سنة؛ كما كان يقول الأغارقة. وهكذا فإننا إذا قارنا بين حال الفلك اليوم، والحال التي كان عليها في ذلك الحين رأينا وجوب وضع حملة الأرغونوت فيما قبل الميلاد بتسعة قرون تقريبا، لا فيما قبل الميلاد بنحو أربعة عشر قرنا، ومن ثم يكون العالم أقل قدما مما كان يرى بنحو خمسة قرون، ومن ثم تكون بعض الأزمنة أدنى إلى بعض، وأن كل حادث وقع في وقت متأخر عن الوقت الذي وضع فيه، ولا أدري هل يكتب لهذه الطريقة حظ كبير ، وهل تعقد النية على إصلاح علم أزمنة العالم على نور هذه الأفكار، ومن المحتمل أن يجد العلماء من الإفراط تسليمهم لرجل واحد بشرف إصلاح الفزياء والهندسة والتاريخ، فهذا ضرب من الملكية العامة التي يشق على خلق الأنانية ارتضاؤه، وهكذا ترى فلاسفة عظاما يهاجمونه في موضوع الجاذبية، كما ترى آخرين يناوئون طريقته التاريخية، ومن شأن الزمن الذي يجب أن يدل على الفريق المنتصر، أن يدع الصراع أكثر تحيرا على ما يحتمل.
الرسالة الثامنة عشرة
حول المأساة
كان للإنكليز مسرح - كما كان للإسبان - وذلك في زمن لم يكن الفرنسيون حائزين فيه غير تخوت، وكان شكسبير المعدود كرناي الإنكليز يزدهر في زمن لوب البيغي تقريبا، فأبدع المسرح وكان عبقريا يطفح قوة وخصبا، وموهبة وسموا، وذلك من غير تلألؤ في حسن الذوق، ومعرفة للقواعد. وأروي لكم أمرا ماجنا ولكن حقيقيا، وذلك أن هذا الكاتب أضاع المسرح الإنكليزي بمزيته، وذلك أنه مبثوث في مسرحياته النابية المضحكة، التي تدعي مآس من المشاهد ما هو بالغ الروعة، ومن القطع ما هو بالغ العظمة والهول، وأن هذه المسرحيات مثلت بنجاح كبير، والزمن وهو الذي ينال الرجال به بعد الصيت وحده، هو الذي يجعل عيوبهم أهلا للاحترام، وقد نال معظم أفكار هذا الكاتب الغريبة الضخمة حق عدها علوية بعد انقضاء مائتي عام، فسار على غرارها جميع الكتاب المعاصرين تقريبا، ولكن ما وفق لدى شكسبير صفر له عندهم، وأنتم ترون أن ما يحبى به هذا القديم من تبجيل يزيد بنسبة ما يزدرى به المعاصرون، وما كان ليبصر عدم وجوب تقليده وما أصاب مقلديه من عدم نجاح؛ أسفر وحده عن اعتقاد الناس تعذر تقليده.
وأنتم تعرفون في مأساة مغربي البندقية في هذه المسرحية المؤثرة جدا، زوجا يخنق امرأته على المسرح، وعندما كانت هذه المرأة المسكينة تخنق صرخت قائلة: إنها تموت ظلما. وأنتم لا تجهلون في «هملت» أمر الحفارين، الذين يحفرون حفرة وهم يشربون وينشدون تلاحين صغيرة، ويأتون حول رءوس من يصادفون من الموتى أفاكيه تلائم أناسا من أبناء حرفتهم. ولكن الذي يثير الحيرة في قلوبكم كون هذه الغباوات، قد قلدت في عهد شارل الثاني الذي كان عهد التهذيب وعصر الفنون الجميلة الذهبي.
وفي «البندقية الناجية» قدم أتوه السناتي أنطونيو والبغي ناكي بين قبائح ائتمار المركيز بدمار، ويأتي السناتي الشائب أنطونيو لدى خليلته هذه جميع الخبائث الخليق بها شيخ داعر واهن غير راشد، ويتشبه بالثور والكلب، فيعض ساقي خليلته التي تنعم عليه بالركل والسوط. أجل، حذفت المداعبات من مسرحية أتوه هذه، ولكن تركت في «يوليوس قيصر» شكسبير فكاهات حذائي الرومان، وسكافيهم التي أدخلت إلى المسرحية مع بروتوس وكاسيوس؛ وذلك لأن حماقة أتوه حديثة وحماقة شكسبير قديمة.
وستألمون - لا ريب - من كون أولئك الذين حدثوكم عن المسرح الإنكليزي حتى الآن، وعن شكسبير الشهير على الخصوص، لما يدلوكم على غير أغاليطه، ومن كونه لم يترجم أحد واحدا من تلك المواضع المؤثرة، التي تطالب بالعفو عن جميع ذنوبه، وسأرد عليكم بأن من السهل ذكر أغاليط الشاعر نثرا، ولكن مع صعوبة ترجمة روائع شعره، ولو جمع ما كتبه كل كويتب من نقد لمشاهير الكتاب لتألفت منه مجلدات، وأفضل عليها صفحتين نطلع بهما على بعض الروائع، وذلك أنني أذهب مع أصحاب الذوق السليم دائما إلى أنه يوجد ما يستفاد من اثني عشر بيتا لأوميرس وڨرجيل أكثر مما يستفاد من ضروب النقد الذي وجه إلى هذين العظيمين.
وقد خاطرت بترجمة بعض قطع لأحسن شعراء الإنكليز، وإليك واحدة من شكسبير، واصفحوا عن التقليد نفعا للأصل، وإذا ما اطلعتم على ترجمة، فاذكروا دائما أنكم لا ترون غير صورة مطبوعة على الخشب، منقولة عن لوحة رائعة.
وقد اقتطفت مناجاة مأساة «هملت» التي يعرفها جميع الناس، والتي تبدأ بهذا البيت: «تدور المسألة حول الوجود والعدم» وأمير دنيمركة هملت هو الذي يقول:
تأخر، فلا بد من الخيار والانتقال، حالا، من الحياة إلى الموت، أو من الوجود إلى العدم. ويا أيها الآلهة الطغاة، عند وجودكم أنيروا سبيل شجاعتي كيما أعرف؛ هل يجب أن أشيب، فأنحني صابرا تحت اليد التي تهينني، أو أن أختم شقائي وحالي؟ ومن أنا؟ ومن يعوقني؟ وما الموت؟ هو خاتمة مصائبنا، هو ملاذي الوحيد، هو الرقاد الهادئ بعد انتقالات طويلة، أجل، ينام الإنسان ويموت الجميع، بيد أن يقظة هائلة قد تعقب حلاوة الرقاد، أجل، إننا نهدد، أجل، إنه يقال لنا إن عذابا أبديا يعقب هذه الحياة القصيرة حالا، أيها الموت، أيها الأجل المقدر، أيها الأبد المرهوب؛ إن كل قلب يجمد عند ذكرك مذعورا، آه! من ذا الذي يستطيع احتمال هذه الحياة بغيرك ...؟
ولا تظنوا أنني نقلت ما تقدم عن الإنكليزية نقلا حرفيا، ويا لشقاء من يقومون بالترجمات الحرفية! فهم إذ يترجمون كل لفظة يضعفون المعنى، وهنا يمكن أن يقال: إن الحرف يقتل والروح يحيي.
وإليك - أيضا - نصا من المأساتي الإنكليزي المشهور، دريدن الذي هو شاعر زمن شارل الثاني، والذي هو أكثر خصبا منه صوابا، والذي كان ينال صيتا خالصا لو لم يضع غير عشر آثاره، والذي يقوم عيبه على إرادته أن يكون عاما.
وهكذا تبدأ هذه القطعة:
تأملت الحياة فوجدتها خداعا، والأمل يفتن الناس فيكرمون الخداع، والناس حمق تساورهم المقاصد في الحسرات والغوايات في الرغبات، فيتمادون في حماقتهم، ونحن لا نحيا، بل ننتظر الحياة في البلايا الحاضرة وفي أمل الملاذ، والغد، الغد، سيشفي غلتنا كما يقال، ويأتي الغد فيدعنا أكثر شقاء، واها! ما خطأ السعي الذي يفترسنا؟ لا أحد منا يريد أن يبدأ سيرة ثانية، ونحن نلعن الفجر منذ الساعة الأولى، ونحن لا نزال ننتظر من الليل الذي يأتي، ما وعدنا به أجمل أيامنا، إلخ.
وفي هذه القطع المفصولة برعت مآسي الإنكليز حتى الآن، وتشتمل مسرحياتهم التي ترى كلها غليظة مجردة من اللياقة والسياق، وظاهر الحق على بوارق عجيبة في سواء هذا الليل، ويبدو الأسلوب كثير المبالغة، كثير البعد من الطبيعة، كثير الاقتداء بكتاب العبريين المترعين بهرجا آسيويا، ولكن مما يجب الاعتراف به أيضا أن وسائل بهرج الأسلوب المجازي الذي تتعاظم به اللغة الإنكليزية يرفع النفس أيضا، وإن كان هذا بسير غير منتظم.
ومستر أديسن الشهير، هو أول من وضع مسرحية مناسبة ذات طلاوة من أولها إلى آخرها، ويعد «كاتون الاتيكي» من الروائع بيانا وجمال قريض، ويبدو لي أن دور كاتون أعلى من دور كرنلية في «بوني» كورناي؛ وذلك لأن كاتون عظيم من غير كبرياء؛ ولأن كرنلية التي لا ترى بطلة ضرورية في الرواية تميل إلى الهذر أحيانا. ويلوح لي أن كاتون مستر أديسن أروع بطل روائي في أي مسرح كان، ولكن مع عدم تناسب بينه وبين أدوار المسرحية الأخرى، وقد شوه هذا الأثر الحسن البيان بمكيدة حب باردة، أصابت المسرحية بذبول قاتل لها.
وقد أدخلت، حوالي سنة 1660 عادة إدخال الغرام من غير فطنة إلى الآثار الدرامية
1
وذلك من باريس إلى لندن، وذلك مع أوشحتنا وشعورنا المستعارة، وعاد النساء اللائي يزين المسارح، كما عندنا لا يطقن أن يخاطبن بغير الغرام، ومن مجاملة الحكيم أديسن الرقيقة أن أخضع شدة طبعه لعادات زمنه، فأفسد إحدى الروائع؛ لأنه أراد أن يروق.
وتغدو المسرحيات بعده أعظم انتظاما، والشعب أشد مراسا، والكتاب أكثر صحة وأقل جسارة، وقد شاهدت مسرحيات جديدة بالغة الحكمة، ولكن مع برودة، ويظهر أن الإنكليز لم يخلقوا حتى الآن إلا لينتجوا روائع غير محكمة، وتنال غيلان شكسبير اللامعة من الحظوة ما يزيد على ما تنال الحكمة الحديثة ألف مرة، وتشابه عبقرية الإنكليز الشعرية حتى الآن شجرة وارفة غرستها الطبيعة، فتخرج ألف غصن ذات اليمين وذات الشمال، وتنمو بقوة وعلى غير ترتيب، وهي تموت إذا ما أردتم قهر طبيعتها وتشذيبها على غرار شجر حدائق مارلي.
الرسالة التاسعة عشرة
حول الكميدية
لا أعرف كيف اقتصر الحكيم الأريب مسيو دومورال، الذي انتهت إلينا رسائله عن الإنكليز والفرنسيين، وذلك عند كلامه عن الكميدية، على نقد هزلي اسمه شادول، وكان هذا الكاتب قد ازدرى في زمنه، ولم يكن هذا الكاتب شاعر ذوي الصلاح، وكانت مسرحياته التي حسن موقعها لدى الجمهور في تمثيلها، محل استخفاف أناس من أصحاب الذوق السليم، فشابهت بهذا كثيرا من المسرحيات التي رأيتها تجتذب الجمهور في فرنسة وتغضب القراء، فأمكن أن يقال عنها:
باريس تردها ، وباريس تردها.
وكان الواجب يقضي على مسيو دومورا كما يلوح، بأن يتكلم عن كاتب بارع عاش في ذلك الحين، وهو مستر ويشرلي الذي ظل زمنا طويلا عاشقا مجاهرا لأشهر خليلات شارل الثاني، وكان هذا الرجل الذي قضى حياته بين الأكابر، تام المعرفة بمعايب هؤلاء ومهازئهم، فصورها بأحزم قلم وأصدق ألوان.
وقد صنع فظا مع تقليد موليار، أجل، إن أوصاف فظ ويشرلي كلها أقوى من أوصاف فظ موليار وأكثر جرأة، ولكن مع كونها أقل دقة ولياقة، ومما صنع الكاتب الإنكليزي أن أصلح العيب الوحيد في مسرحية موليار، وهذا العيب هو عدم الكيد والغرض، والمسرحية الإنكليزية ممتعة، والكيد فيها بارع، ولا ريب في كونها بالغة القحة بالنسبة إلى طباعنا، وهذا هو ربان مركب مملوء إقداما وصراحة وطافح ازدراء للجنس البشري، ولهذا الربان صديق عاقل مخلص يحذر منه، وخليلة تحبه حب حنان فلا يتفضل بإلقاء نظره عليها، وهو على العكس، قد وثق بصديق مماذق
1
يعد أرذل من كل إنسان ذي نفس، كما وهب قلبه لأكثر النساء غناجا وغدرا، وقد اطمأن إلى أن هذه المرأة تحكي بلنوب، وأن هذا الصديق المماذق يحكي كاتون، ويذهب لقتال الهولنديين، ويترك جميع ماله وجواهره، وكل ما يملك في الدنيا لامرأة الخير هذه، ويوصي هذا الخل الوفي بهذه المرأة، ومع ذلك فإن ذلك الرجل الصالح الحقيقي الذي يحذره كثيرا يبحر معه، وأن تلك الخليلة الذي لم يتفضل عليها بنظرة، تتنكر بزي غلام، وتسافر من غير أن يفطن الربان لجنسها في الحملة كلها.
وبما أن الربان قد نسف سفينته في إحدى المعارك، فقد عاد إلى لندن بلا عون ولا مركب ولا مال، وذلك مع خادمه وصديقه غير مطلع على صداقة هذا، ولا على حب ذاك، ويذهب إلى درة النساء توا، معتقدا أنه يجدها مع صندوقه الصغير ووفائها، ويلقاها متزوجة ذلك الصالح المخادع الذي كان قد ائتمنه، ولم تكن وديعته لتحفظ له أكثر من حفظ ما سواها له، ويؤلم صاحبنا كل الألم أن يعتقد وجود امرأة خير تقدم على فعل مثل هذه الحيل، ولكن حسن إقناعه يقضي بأن تصبح هذه المرأة الصالحة عاشقة للغلام الصغير وأن تناله قهرا، ولكن بما أنه يجب أن يأخذ العدل مجراه، وأن يعاقب على العيب، وأن تكافأ الفضيلة، فإن الوضع يقضي بأن يحل الربان محل الغلام في آخر الأمر، وأن ينام مع ناكثة عهده، وأن يمثل دور الزوج الذي تخونه زوجته، وأن يقوم مقام صديقه الخائن فيقتلها بالسيف، وأن يسترد صندوقه الصغير، وأن يتزوج خادمه، وستلاحظون أن هذه المسرحية لوثت أيضا، ببطلة على نمط كونتسة بنبش، التي هي محامية عجوز قريبة للربان، ومعدودة أكثر من يكون على المسرح مزاحا وطيب نفس.
وكذلك استنبط ويشرلي من موليار مسرحية ليست أقل غرابة ولا أقل جرأة، وهي ضرب من «مدرسة النساء».
والممثل الرئيس في المسرحية هو رجل ماجن حسن الطالع، وذلك أن فزع الأزواج بلندن يوحي للاطمئنان إلى أمره؛ بفكرة إذاعته أن الجراحين رأوا في أثناء مرضه الأخير أن يجعلوه خصيا، ويأتيه جميع الأزواج بنسائهم نظرا إلى هذه الشهرة الرائعة، ولا شيء يورث هذا المسكين حيرة كالاختيار، وأخص ما يقع خياره على ريفية صغيرة بالغة العفة طيبة المزاج، فتخون زوجها بنية حسنة تفضل على خبث النساء الخبيرات، وليست هذه المسرحية - إذا ما شئتم - مدرسة حسن الأخلاق، وإنما هي بالحقيقة مدرسة الظرف والهزل.
ووضع الفارس ڨنبروغ كميديات أكثر فكاهة، ولكن أقل براعة، وكان هذا الفارس رجل لهو، وكان شاعرا ومهندسا معماريا فضلا عن ذلك، ويزعم أنه كان يكتب بغلظة كما كان يبني، وهو الذي بنى قصر بلنهايم المشهور؛ أي هذا البناء الثقيل الباقي من قتالنا المشئوم في هوشستد، ولو كانت الغرف من الاتساع كثخن الجدر لبدا هذا القصر مريحا.
وقد أدمجت في الكتابة على قبر ڨنبروغ كلمة: «كان يرجي ألا تكون الأرض خفيفة عليه، ما دام قد أثقلها بقسوة بالغة في أثناء حياته.»
ويطوف هذا الفارس في فرنسة قبل حرب 1701، فيلقى في الباستيل، ويبقى فيه حينا من الزمن، وذلك من غير أن يستطيع معرفة السبب الذي جلب إليه هذا الامتياز من قبل نيابتنا العامة، ويضع في الباستيل كميدية، ومن موجبات استغرابي الشديد أنه لا يوجد في هذه المسرحية أي أثر ضد البلد الذي قاسى فيه هذه الشدة.
والمرحوم مستر كونغريڨ هو الذي نال - بين جميع الإنكليز - فخر السير بالمسرح الهزلي قدما، وهو لم يضع غير قليل من المسرحيات، ولكن كل ما وضع رائع في نوعه. وقد راعى في مسرحياته قواعد المسرح مراعاة وثيقة، فتراها زاخرة بأدق الوسوم مع الرقة المتناهية، ولا يعانى فيها أقل دعابة نابية، فتبصر فيها لغة الصالحين مع أعمال الماكرين، وهذا يثبت أنه كان حسن المعرفة بعالمه، وأنه يعيش فيما يدعى بالمجتمع الراقي، وكان مريضا - محتضرا تقريبا - عندما عرفته، ويقوم عيبه الوحيد على قلة تقديره لمهنته الأولى كاتبا لهذه المهنة التي قام عليها صيته وثروته، فكان يحدثني عن آثاره، كأنها ترهات دون مستواه، وقد قال لي عند أول حديث؛ ألا أنظر إليه إلا على قدم المساواة مع شريف يقضي حياة بسيطة، فأجبته بأنه لو كان من الشقاء ما يكون معه شريفا حصرا كغيره، ما جئت لزيارته مطلقا، وقد أوذيت بهذا الزهو الذي أتى في غير محله.
وتعد مسرحياته أكثر ما يكون ظرفا وإحكاما، وتعد مسرحيات ڨنبروغ أكثر ما يكون مرحا، وتعد مسرحيات ويشرلي أكثر ما يكون قوة.
ومما يلاحظ أنه لم يتعرض لموليار بسوء في أي من هذه اللطائف الرائعة، ولا يوجد غير أردياء كتاب الإنكليز من قال سوءا عن هذا الرجل الكبير، أجل، إن أردياء موسيقي إيطاليا هم الذين يستخفون بلولي، ولكن رجلا مثل بوينونشيني يكرمه، ويقر بمزاياه كما أن ميد أقام وزنا لإلڨسيوس وسلڨا.
وكذلك تشتمل إنكلترة على شعراء هزليين مجيدين، كالفارس ستيل والكميدي البارع مستر سبر، الذي هو شاعر للملك؛ أي حامل لهذا اللقب الذي يبدو مضحكا، ولكن مع منحه ألف إيكو دخلا سنويا والإنعام عليه بامتيازات موافقة لم يتفق مثلها لشاعرنا الكبير كرناي.
ومع ذلك فلا تطلبوا مني أن أفصل هنا دقائق هذه المسرحيات الإنكليزية التي أراني نصيرا كبيرا لها، كما أنني لا أروي لكم ملحة من ملح ويشرلي وكونغريڨ، ولا نكتة من نكته ، فما كان ليضحك بترجمة مطلقا. وإذا أردتم معرفة الكميدية الإنكليزية، فإنه ليس لديكم وسيلة لبلوغ هذا غير الذهاب إلى لندن والبقاء فيها ثلاث سنين، وتعلم الإنكليزية جيدا ومشاهدة الكميدية كل يوم، ولا أجد لذة كبيرة بمطالعة بلوتوس وأرستوفان، ولم هذا؟ ذلك لأنني لست يونانيا ولا رومانيا، فدقة اللطائف والتلميح والملاءمة أمور لا تتفق لأجنبي.
وليس أمر المأساة هكذا، فلا محل فيها لغير الأهواء الكبيرة والغباوات البطلية المؤيدة بأضاليل القصة أو الأحدوثة، فإديب وإلكتر خاصان بنا وبالإسبان والإنكليز، كما أنهما خاصان باليونان، وأما الكميدية الجيدة فهي صورة ناطقة لمهازئ الأمة، فإذا كنتم لا تعرفون الأمة معرفة أساسية، فإنكم لا تستطيعون أن تحكموا في أمر هذه الصورة مطلقا.
الرسالة العشرون
حول السنيورات الذين يرعون الآداب
أتى على فرنسة حين من الزمن، كانت الفنون الجميلة ترعى فيه من قبل أكابر الدولة، وكانت من أخص ما تعنى به البطائن على الرغم من الانهماك في الملاذ والولع بالمكايد، ومن جميع غواني البلد.
ويلوح لي أنه يسود البلاط في الوقت الحاضر ميل آخر غير الميل إلى الآداب، ومن المحتمل أن يعود طراز التفكير إلى سابق عهده، فما على الملك إلا أن يريد، فمن هذه الأمة يصنع ما يراد، ويفكر في إنكلترة غالبا، وتكرم الآداب في إنكلترة أكثر مما في فرنسة، وتعد هذه الخطوة نتيجة لازمة لشكل حكومتها. ويوجد في لندن نحو ثمانمائة شخص يحق لهم أن يجهروا بالقول، وأن يؤيدوا مصالح الأمة، ويوجد نحو خمسة آلاف، أو ستة آلاف من الناس يدعون عين الشرف بدورهم، وأما الباقون فينزلون أنفسهم منزلة القاضي حيال هؤلاء، ويستطيع كل واحد أن يطبع ما يفكر فيه حول الأمور العامة، وهكذا فإن الأمة بأسرها مضطرة إلى الثقافة، ولا تسمع حديثا عن غير حكومات أثينة ورومة؛ ولذا فلا بد من مطالعة المؤلفين الذين عالجوا أمر هذه الحكومات، ومن الطبيعي أن تسوق هذه المطالعة إلى الآداب الجميلة، وعلى العموم يكون للناس روح مهنتهم ، ولم يوجد لدى قضاتنا ومحامينا وأطبائنا وكثير من رجال الكنيسة آداب وذوق وذهن أكثر مما في المهن الأخرى؟ ذلك لأن من مقتضيات مهنتهم أن يتعهدوا ذهنهم، كما أن من مقتضى حرفة التاجر أن يعرف تجارته. ولما يمض زمن طويل على زيارة سنيور شاب إنكليزي إياي في باريس، وذلك في أثناء رجوعه من إيطالية، وكان قد وصف ذلك البلد شعرا، وذلك مع التزام جانب الأدب كما صنع الكونت روشستر، وكما صنع أمثال شوليو وسرزان وشابل عندنا.
وما قمت به من ترجمة لذلك، هو من الابتعاد عن بلوغ قوة الأصل ودعابته ما أراني ملزما بأن أطلب معه العفو من الكاتب، وممن يجيدون الإنكليزية جادا في طلبي، وبما أنني - مع ذلك لا أملك وسيلة غير الترجمة أطلع بها على شعر اللورد، فإنني أعرضه بلغتي كما يأتي:
وماذا رأيت في إيطالية إذن؟ رأيت مكرا وفقرا وتكبرا، رأيت كبير مجاملة، وقليل كرم، وكثير تكلف، وتمثيلا هزليا هاذيا، رأيت ما يريد القضاء التفتيشي أن يدعوه دينا وما نسميه هنا جنونا، وتريد الطبيعة المنعام سدى إغناء هذه الأماكن الفاتنة، ويزيل القسوس أروع هباتها بيد مدمرة، ويكون المنسنيورات وهم عظماء على زعمهم في قصورهم الفاخرة وحدهم، فيظهرون فيها أجلاء كسالى بلا مال ولا خدم، وأما الصغراء المحرومون نعمة الحرية، والذين هم ضحية النير الذي يعبدهم، فقد وقفوا على الفقر، فيدعون الرب عن بطالة ويصومون عن مجاعة، فيلوح أن هذه الأماكن الرائعة التي يبارك لها البابا تسكنها الشياطين، وقد حكم على الأهلين البائسين بالهلاك الأبدي في الفردوس.
وقد يقال: إن هذا الشعر إلحادي، ولكنه يترجم في كل يوم، حتى مع السوء، شعر هوراس وجوڨينال اللذين شقيا بأن يكونا من الوثنيين، وأنتم تعلمون أنه لا ينبغي للمترجم أن يرد على مشاعر الكاتب، وكل ما يستطيع صنعه هو أن يطلب من الله هدايته، وهذا ما لا أقصر في فعله حيال هداية اللورد.
الرسالة الحادية والعشرون
حول كونت روشستر ومستر والر
يعرف جميع الناس ما يتمتع به كونت روشستر من صيت، وقد تحدث عنه مسيو دوسان إيڨرمون كثيرا، ولكنه لم يعرف روشستر الشهير لنا بغير ؛ رجل لهو ورجل حسن طالع، وأريد أن أعرفه برجل عبقرية وبشاعر كبير، وترى بين آثاره الأخرى التي كانت تسطع من هذا الخيال المتقد الذي انفرد به، بعض أهاجي وفق عين الموضوعات التي اختارها دبريئو الشهير، ولا أعرف ما هو أنفع لإكمال الذوق من المقابلة بين أكابر العباقرة الذين تناولوا عين الموضوعات.
وإليك ما قاله مسيو دبريئو حيال العقل البشري في أهجيته عن الإنسان:
ومع ذلك يرى - حين النظر إليه - أنه مملوء دخانا خفيفا، فيعلل نفسه بأوهامه، وهو الأساس والركن من الطبيعة دون سواه، فلا تدور السماء العاشرة إلا من أجله، وهنا هو السيد بين جميع الحيوانات، وأنت تعقب قائلا: من يستطيع إنكار ذلك؟ قد أكون أنا. فيا أيها السيد المزعوم الذي يحبو الحيوان بالسنن، ويا ملك الحيوان، ما عدد ملوكك؟
أجل، ذلك ما يعبر به كونت روشستر عما في نفسه في أهجيته عن الإنسان، غير أنه يجب على القارئ أن يذكر - دائما - أن هذه ترجمات طليقة عن شعراء الإنكليز، فلا يستطيع عسر عروضنا، ولا لياقات لغتنا الرقيقة أن تؤدي ما يعدل رخصة الأسلوب الإنكليزي الصائلة.
فهذا العقل الذي أمقت، هذا العقل المملوء ضلالا ليس عقلي، بل عقلك - أيها الدكتور - هو عقلك الخفيف الهلوع المختال، هو المنافس المزدري للحيوانات الحكيمة، فيرى أنه يشغل منزلة بينها وبين الملك، وهو يتصور أنه في هذه الدنيا على صورة ربه، مع أنه ذرة حقيرة مزعجة تؤمن وتشك وتناضل وتزحف وترتفع وتقع، ثم تنكر سقوطها، وهو يقول لنا: «إنني حر» حين يرينا أغلاله، وهو يعتقد أنه ينفذ الكون بعينه الكدرة الضالة، اذهبوا - أيها المجانين - الأجلاء والمتعصبون السعداء، اذهبوا وأحسنوا جمع كدس ترهاتكم الفلسفية الكلامية، ويا آباء الأوهام والألغاز المقدسة، ويا واضعي المعضلات التي تضلون فيها، اذهبوا لتنوير أسراركم في الظلام، واركضوا في المدرسة لعبادة خيالاتكم! وهناك ضالون آخرون، هناك هؤلاء المتقون الذين حكموا على أنفسهم بسأم السكون، وهذا الروحاني القابع في ديره، والفخور بكسله، والهادئ في كنف ربه، ما يستطيع أن يصنع؟ هو يفكر، كلا، أنت لا تفكر مطلقا - أيها المسكين - وإنما أنت نائم، أنت غير نافع في الأرض، أنت في عداد الأموات، يصرى
1
عقلك الخامل في الترف، فأفق وكن رجلا واخرج من ثملك، فالإنسان ولد ليعمل، وأنت تزعم أنك تفكر!
وسواء أكانت هذه الأفكار صحيحة أو فاسدة يعبر عنها دائما - لا ريب - بنشاط صانع للشاعر.
وأحترز من دراسة الأمر مثل فيلسوف، ومن ترك قلم الرسم منتقلا إلى البيكار، ويقوم غرضي الوحيد في هذه الرسالة على التعريف بعبقرية شعراء الإنكليز، وأداوم على هذا المنهاج.
وقد سمع في فرنسة حديث كثير عن والر الشهير، فأثنى عليه السادة دولافونتن وسان إڨرمون وبيل، ولكن لا يعرف عنه غير اسمه، وله في لندن من الشهرة مثل ما لڨواتور في باريس من الصيت، وهو أحق به منه على ما أعتقد. فأما ڨواتور فقد ظهر في زمن كان يخرج فيه من التوحش؛ أي في زمن لا يزال الناس فيه خباطى جهالات، فكان يراد الظرف من غير أن يظفر به، وكانت تحاول الحيل بدلا من الأفكار، وكان يسهل العثور على الألماس البهرج أكثر مما على الحجارة الثمينة، وكان ڨواتور الذي ولد سهلا خفيف العبقرية، أول من لمع في فجر الأدب الفرنسي هذا، ولو ظهر بعد العظماء الذين اشتهر بهم عصر لويس الرابع عشر لجهل أمره، أو لحدث عنه مع الازدراء، أو لأصلح أسلوبه، أجل، أثنى عليه مسيو دسبريئو، ولكن هذا المديح وقع في أهاجيه الأولى، وكان هذا في زمن لم يكن فيه دوق دسبريئو بعد، وكان هذا في دور شباب دسبريئو، في سنه التي يوزن الناس فيها بشهرتهم، لا بقيمتهم، وفضلا عن ذلك فإن دسبريئو كان على غير حق في مدحه وذمه، ومن ذلك أنه كان يثني على سفره الذي لا يقرؤه أحد، وأنه كان يطعن في كينو الذي يعرفه جميع الناس على ظهر القلب، وأنه لم يقل شيئا عن لاڨونتين، وأما والر وكان خيرا من ڨواتور، فلم يكن كاملا أيضا، أجل، إن آثاره الظريفة تنشر لطفا، ولكنها ذوت عن إهمال، وشوهت بفاسد الأفكار غالبا، ولما يصل الإنكليز في زمنه إلى دور الكتابة الصحيحة بعد، وترى آثاره الرصينة مملوءة شدة لم تنتظر من لين مسرحياته الأخرى، وتراه قد أبن كرومويل بمرثية عدت من الروائع مع ما اشتملت عليه من عيوب، ويجب لإدراك هذا الأثر، أن يعلم أن كرومويل مات في يوم عاصف غير مألوف. وتبدأ القطعة كما يأتي:
مات، وقضي الأمر، فلنذعن لحكم القدر، وتشهر السماء ذلك اليوم بالزوابع، ويقصف الرعد فوق رءوسنا فيخبر هزيمه
2
بموته، ويزلزل هذه الجزيرة بأنفاسه الأخيرة، يزلزل هذه الجزيرة التي أرجفها بذراعه غير مرة، وكان هذا في أثناء مآثره حين يكسر رأس الملوك ويخضع الأمة الذلول لنيره. أيها البحر، لقد أعكرك ذلك. أيها البحر، وتقول أمواجك الهائجة لأقصى الضفاف - كما يظهر: عاد فزع الأرض لا يكون، عاد مولاك لا يكون، هكذا طار رومولوس إلى السماء في غابر الأزمان، هكذا غادر الأرض بين الأعاصير، هكذا فاز بإكرام شعب مجاهد؛ أطيع في محياه وعبد في مماته، وصار قصره معبدا، إلخ.
وبسب رثاء كرومويل هذا رد والر على الملك شارل الثاني بالجواب الذي يوجد في معجم بيل، وذلك أن الملك الذي جاءه والر، على حسب عادة الملوك والشعراء، ليقدم إليه قطعة محشوة مدحا فلامه على وضعه لكرومويل ما هو خير منها، فاسمع جواب والر: «مولاي، ننجح، نحن معشر الشعراء في الأوهام أكثر مما في الحقائق.» فلم يكن هذا الجواب من الإخلاص كجواب سفير هولندة، الذي أجاب عندما توجع هذا الملك من إكرامه أقل من إكرام كرمويل: «آه! يا مولاي، إن كرومويل هذا كان شيئا آخر.»
وليس غرضي أن أعلق على أخلاق والر وغيره، فأنا لا أقدر الناس بعد موتهم بغير آثارهم، وكل شيء ما خلا هذا يكون قد زال في نظري، وإنما ألاحظ أن والر، الذي نشئ في البلاط مع دخل ستين ألف فرنك، لم يكن من الغباوة والبلادة ما يتخلى معه عن مواهبه، ولم ير كونتات دورسه ، وروسكومون، ودوكا بكنغام، واللورد هليفاكس وكثير غيرهم أن مما يشين مقامهم ظهورهم من أكابر الشعراء ومشاهير الكتاب، وكان لهم من الفخر بآثارهم أكثر مما بأسمائهم، وهم قد شملوا الآداب بعين رعايتهم كما لو كانوا ينتظرون ثراءهم منها، وهم - فضلا عن ذلك - قد جعلوا الفنون أعظم حرمة لدى الشعب الذي يحتاج - في كل حال - إلى قيادة الكبراء، والذي يظهر - مع ذلك - أقل اقتداء بهم في إنكلترة مما في أي مكان آخر في العالم.
الرسالة الثانية والعشرون
حول مستر بوب وبعض مشاهير الشعراء
كنت أود أن أحدثكم عن مستر بريار، الذي هو من أكثر الشعراء لطفا في إنكلترة، والذي رأيتموه في باريس وزيرا مفوضا وسفيرا فوق العادة في سنة 1712، وكنت أقدم إليكم فكرة عن شعر اللورد رسكومون واللورد دورسه وغيرهما، لولا أنني أشعر بأن مثل هذا يتطلب مجلدا كبيرا، ولولا أنني لن أعطيكم - بعد كبير عسر - غير فكرة عن هذه الآثار ناقصة جدا، والشعر ضرب من الموسيقا، فيجب سماعه للحكم فيه، أجل، إنني عندما ترجمت لكم بعض قطعات من هذه الأشعار الأجنبية، وضعت لكم علامات ناقصة عن موسيقاها، ولكنني لا أستطيع أن أعرب عن ذوق شدوها.
وتوجد - على الخصوص - قصيدة أقنط من إطلاعكم عليها، وتسمى هوديبراس، وموضوعها الحرب الأهلية والمذهب البيوريتاني الذي حول إلى مهزأة، وهذه هي مزيج من دون كيشوت وأهجية منيبه، وهذه هي أكثر ما وجدت فيه من ظرف بين جميع الكتب التي قرأت، ولكن مع كونها أكثر ما تتعذر ترجمته، ومن يظن أن الكتاب الذي يشتمل على جميع مهازئ البشر، والذي ينطوي على أفكار أكثر مما على كلمات، يحتمل الترجمة؟ وذلك أنه يشير بأسره إلى مغامرات خاصة، وتقع أعظم مهزأة، خاصة على علماء اللاهوت الذين لا يدركهم غير قليل من الناس، فلا بد من شرح في كل ثانية، ومتى شرحت الفكاهة عادت لا تكون فكاهة؛ ولذا يعد كل شارح للنكت غبيا.
من أجل هذا لا تدرك في فرنسة كتب الأريب الدكتور سويفت الذي يدعى رابله إنكلترة، وله شرف كونه قسيسا مثل رابله، وأن يسخر من الجميع كما يسخر رابله، ولكنني أرى من التجني عليه أن يدعى بهذا الاسم ، فقد نشر رابله، في كتابه المبهم الأهوس أقصى مرح وأعظم سفاهة، وقد أسرف في التنطع والقذع والإملال، وشرى قصة الصفحتين الصغيرة الحسنة بمجلدات من الحماقات، ولا تجد غير نفر قليل من غريبي الذوق من يتلذذون بالوقوف على هذا الأثر وتقديره، وأما بقية الأمة فتسخر من نكت رابله وتزدري كتابه، وهو يعد أول الهازلين. ومما يغيظ أن يتصف بمثل ذهنه، فيستعمله استعمالا هزيلا، فهذا فيلسوف سكران لم يكتب في غير وقت سكره.
ومستر سويفت هو رابله من حيث استقامة الحس وحسن المعاشرة، وليس عنده ما عند الأول من مرح في الحقيقة، ولكنه يتصف بما يعوز قسيس مورون من رقة وعقل واختيار وحسن ذوق، فتنم أشعاره على ذوق فائق لا يبارى تقريبا، وتبدو النكتة الجيدة نصيبه في النظم والنثر، ولكن لا بد من السفر إلى بلده كيما يدرك جيدا.
وأسهل عليكم تكوين فكرة عن مستر بوب، فهذا الشاعر هو - على ما أعتقد - أرشق شعراء إنكلترة، وأكثرهم صحة، وأعظمهم انسجاما، وهو قد حول صفير البوق الإنكليزي إلى ألحان الناي، ويمكن ترجمته؛ وذلك لوضوحه البالغ، ولأن موضوعاته عامة في الغالب ومن نابض جميع الأمم.
وستعرف فرنسة - عما قليل «رسالته في النقد» التي ترجمها السيد راهب رسنل نظما.
وإليك قطعة من قصيدته «الزرفين»
1
التي أترجمها وفق حريتي المعتادة؛ وذلك لأنني لا أعرف شيئا أسوأ من أن يترجم الشعر ترجمة حرفية:
أي أنبريال، أيها العفريت الشائب العبوس، اذهب الآن وزين الجناح مقطبا، وابحث مهمهما عن الكهف العميق، حيث اختارت الإلهة ذات الأبخرة مقرها بعيدة من الأشعة الهادئة التي تنشرها عين الدنيا، ويصفر الأكيلون الحزان حولها، ويحمل نفسهم الجاف الوبيل إلى الجوار ما يشتمل عليه من الحمى والصداع، وما فتئت الإلهة الجموح تستريح على أريكة وخلف حاجز بعيدة من المصابيح والضوضاء والمهاذير والريح مورمة الفؤاد هموما، غير عارفة لهذا سببا، غير مفكرة مطلقا، مكدرة النفس دائما، مثقلة العين ، شاحبة اللون، منفخة الخصر، وتكون الغيرة النمامة جاثمة بجانبها، فيمزق هذا الطيف النسوي، تمزق هذه الفتاة الهرمة، قريبها، وتهجو الناس وهي تغني حاملة الإنجيل بيدها، وعلى سرير مغمور بالزهور تميل غانية عن تهاون، وتضطجع غير بعيدة منها، فهذه هي الكلفة التي تلثغ حين تتكلم، والتي تستمتع من غير أن تفهم، والتي تلمح عندما تنظر، والتي تحمر بلا عذار، وتضحك بلا سرور، والتي تزعم أنها فريسة مائة نوع من الألم، والتي تطفح صحة تحت ظاهر من الحمرة والخضاب، فتتوجع مع تخنث، ويغشى عليها مع تصنع.
وإذا ما قرأتم هذه القطعة في الأصل بدلا من قراءتها في هذه الترجمة الضعيفة، قارنتموها بوصف التخنث في «لنقرأ».
ذلك ما أقول بنزاهة عن شعراء الإنكليز، وقد حدثتكم قليلا عن فلاسفتهم، ولا أعرف لهم مؤرخا مجيدا حتى الآن، فكان يجب أن يكتب تاريخهم فرنسي، ومن المحتمل ألا تكون العبقرية الإنكليزية، التي هي باردة أو صائلة قد أدركت، بعد، بلاغة التاريخ الساذجة ولهجته الكريمة البسيطة، ومن المحتمل أيضا أن تكون روح الحزبية، التي تعشي البصر - قد ثلمت صيت جميع مؤرخيهم - ولا عجب - فنصف الأمة عدو النصف الآخر، وقد لاقيت أناسا وكدوا لي أن اللورد مرلبورو كان جبانا، وأن مستر بوب كان غبيا، شأن بعض اليسوعيين الذين يجدون بسكال سخيفا، وشأن بعض الينسينيين الذين يقولون: إن الأب بردالو لم يكن غير ثرثار، وتعد ماري ستيوارت قديسة باسلة في نظر اليعاقبة، ويعدها الآخرون عاهرة زانية قاتلة. وهكذا ترى لوائح دعاوى، لا تاريخ. أجل، يوجد، في الوقت الحاضر، مستر غوردون الذي هو ناقل بارع لتاسيت بالغ الأهلية لكتابة تاريخ بلده، غير أن مسيو رابن تواراس حذر منه، والخلاصة أن مما يبدو لي كون الإنكليز عاطلين من مؤرخين مجيدين كالذين عندنا، وأنه ليس عندهم مآس حقيقة، وأن لديهم كميديات فاتنة، وقطعا شعرية رائعة، وفلاسفة يجب أن يتخذوا معلمين للجنس البشري.
وقد استفاد الإنكليزي كثيرا من مؤلفات لغتنا، فعلينا أن نقتبس منهم بدورنا بعد أن أقرضناهم، ولم نأت - نحن والإنكليز - إلا بعد الإيطاليين الذين كانوا أساتذة لنا في كل شيء، فسبقناهم في بعض الأمور، ولا أعلم أي الأمم الثلاث ما يجب أن تعطى الأفضلية، ولكن طوبى لمن يعرف أن يشعر بمختلف مزاياها.
الرسالة الثالثة والعشرون
حول ما يجب من إجلال رجال الأدب
لا تجد في إنكلترة، ولا في أي بلد من العالم، ما تجد في فرنسة من المؤسسات التي ترعى فيها الفنون الجميلة، وتوجد جامعات في كل مكان تقريبا لا ريب، ولكن في فرنسة وحدها ما تبصر من تشجيع علم الفلك وجميع فروع العلوم الرياضية وعلم الطب والبحث في الآثار القديمة، ومن الحث على التصوير والنحت والمعماري. وقد خلد لويس الرابع عشر اسمه بجميع هذه المعاهد، ولم يكلفه هذا التخليد أكثر من مائتي ألف فرنك كل عام.
وأعترف بأن من موجبات دهشتي أن يعن لبرلمان إنكلترة وعد من يأتي بالمستحيل في اكتشاف خطوط الطول بعشرين ألف جنيه، فلا يفكر هذا البرلمان في السير على غرار لويس الرابع عشر في كرمه نحو الفنون.
ومن الحق أن يقال إن للمزية في إنكلترة جوائز أخرى أكرم للأمة، وذلك أن إثراء ذوي المواهب هو من إكرام هذا الشعب لهم، ولو ظهر مستر أديسن في فرنسة لاختير لبعض الأكاديميات، ولنال راتب 1200 فرنك بفضل بعض النساء، أو لوجدت له أشغال استنادا إلى أنه أبصر في مأساته «كاتون» بعض السمات ضد بواب رجل في مكانه. فأديسن هذا عين وزيرا في إنكلترة، وقد كان مستر نيوتن ناظر نقد المملكة، وكان مستر كنغريڨ يشغل منصبا مهما، وكان مستر بريار وزيرا مفوضا، ومستر سويفت هو عميد أيرلندا، فيجل فيها أكثر من الجثليق
1
وإذا كان دين مستر بوب لا يسمح له بأن يتقلد منصبا؛ فإنه لم يحل دون كسبه من ترجمة أوميرس مائتي ألف فرنك، وما أكثر ما رأيت مؤلف «رادامست» في فرنسة يكاد يموت جوعا. وكان البؤس يلقي جرانه على ابن لأحد أعاظم فرنسة لولا مسيو فاغون. وأكثر ما يشجع الفنون بإنكلترة ما تلاقيه فيها من تبجيل، ومن ذلك أن صورة رئيس الوزراء توجد فوق موقد مكتبه، مع أنني رأيت صورة مستر بوب في عشرين منزلا.
وقد أكرم مستر نيوتن في حياته كما أكرم بعد مماته بما يجب، وقد تنازع أكابر القوم شرف حمل بساط رحمته. وادخلوا وستمنستر لم تعجبوا بقبور الملوك فيها، بل بالآثار التي أقامها اعتراف الأمة بالجميل لأعاظم الناس الذين ساعدوا على بناء مجدها، ومما تشاهدون هنالك تماثيلهم كما تشاهد في أثنة تماثيل أمثال سوفوكل وأفلاطون، وأراني قانعا بأن منظر هذه الآثار المجيدة وحده قد حرك أكثر من ذهن وكون أكثر من عظيم.
حتى إنه وجد من لام الإنكليز على الذهاب بعيدا في إكرام الموهبة البسيطة، ومن ذلك ما وقع من لوم حول دفنهم الكميدية المشهورة، الآنسة ألدفيلد، بمثل ما بجل به نيوتن تقريبا. وقد زعم بعضهم أنهم أبدوا مثل هذا التكريم لذكرى هذه الممثلة كيما يشعروننا بما يلوموننا عليه من القسوة البالغة والجور الخسيس في إلقاء جثة الآنسة لوكوڨرور في مطرح القمامة.
بيد أنني أستطيع أن أقول موكدا: إن الإنكليز لم يشاوروا غير ذوقهم في دفنهم الآنسة ألدفيلد في سان دنيهم، وهم بعيدون كل البعد من استرذال فن أمثال سوفوكل وأريبيد ومن فصل كيان مواطنيهم أولئك الذين حبسوا أنفسهم على تلاوتهم أمام هؤلاء المواطنين ما تباهي به الأمة من آثار.
وحمل منذ عهد شارل الأول، وفي أوائل الحروب الأهلية التي بدئت بالمتزمتين المتعصبين، والتي ذهب هؤلاء أنفسهم ضحيتها في آخر الأمر، كثيرا على التمثيل، مع أن شارل الأول وامرأته، التي هي ابنة ملكنا هنري الكبير، كانا يحبانه كثيرا جدا.
وعن لدكتور، اسمه برين، بالغ الوسواس، كان يعتقد أنه يهلك هلاكا أبديا إذا ما لبس جبة القس بدلا من المعطف القصير، وكان يود لو يقتل نصف الناس تمجيدا لله ونشرا للإيمان، أن يضع كتابا كثير السوء ضد الكميديات التي هي على كل شيء من الإجادة، والتي كانت تمثل كل يوم تمثيلا بريئا جدا أمام الملك والملكة، فاستند إلى برهان الربانيين وبعض نصوص من القديس بونافنتور كيما يثبت أن «إديب » سوفوكل كتاب الشيطان، وأن تيرنس محروم لذات العمل، وأضاف إلى هذا قوله: إن بروتوس، الذي كان ينسينيا شديدا جدا، لم يقتل قيصر، الذي كان كاهنا كبيرا، إلا لأنه ألف مأساة «إديب»، والخلاصة أن برين قال: إن جميع الذين يشاهدون تمثيل رواية يعدون من المحرومين المنكرين لميرونهم
2
وعمادهم، وكان هذا قذفا للملك ولجميع الأسرة المالكة، وكان الإنكليز يوقرون شارل الأول في ذلك الحين، وكانوا لا يطيقون الكلام عن حرم هذا الأمير الذي قطعوا رأسه بعدئذ، ويدعى أمام الحجرة المنجمة، ويحكم عليه بأن يرى إحراق كتابه الجميل بيد الجلاد مع قطع أذنيه، وترى قضيته بين الأحكام العامة.
وفي إيطالية يحترز من فضح الأبرا وحرم السنيور سنيسينو والسنيورة كوزوني. وفي فرنسة أتمنى لو يمكن أن يزال كل كتاب طبع ضد التمثيل، فإذا علم الإيطاليون والإنكليز أننا نعيب فنا نبرع فيه، وأننا نعد من الإلحاد منظرا يمثل من قبل الرهبان وفي الأديار، وأننا نشين ألعابا كان لويس الرابع عشر ولويس الخامس عشر ممثلين فيها، وأننا نعلن أن من عمل الشيطان مسرحيات راجعها أصعب القضاة مراسا ومثلت أمام ملكة فاضلة، وإذا علم الأجانب أمر هذه الوقاحة، وأمر هذا النقص في الاحترام للسلطة الملكية، وأمر هذه البربرية القوطية التي يجرأ على دعوتها بالشدة النصرانية، فما تريدون أن يفكر حول أمتنا؟ وكيف يمكن أن يتصوروا إباحة قوانيننا فنا شائنا جدا، أو أن يجرأ على أن ينعت بالفضوح فنا تجيزه القوانين ويكافئ عليه الملوك ويرعاه العظماء وتعجب به الأمم، وأن يوجد عند عين الكتبي قذع الأب لوبران بتمثيلنا بجانب أوابد أمثال راسين وكرناي وموليار، إلخ؟
الرسالة الرابعة والعشرون
حول الأكاديميات
أجل، كان للإنكليز - قبلنا بزمن طويل - مجمع للعلوم، ولكنه ليس من حسن التنظيم كمجمعنا، وذلك عن كونه أكثر قدما، فقط، على ما يحتمل؛ وذلك لأنه لو كان قد أقيم بعد مجمع باريس لانتحل بعض القوانين الحكيمة ولأصلح القوانين الأخرى.
ويعوز الجمعية الملكية بلندن أمران يعدان ألزم ما يكون للناس، وهما: الجوائز والقواعد، ويضمن قليل مال لمن له مكان في الأكاديمية بباريس، عالما بالهندسة كان أو كيماويا مثلا، وعلى العكس يستلزم الانتساب إلى الجمعية الملكية بلندن مالا، ومن يقل في إنكلترة: «أحب الفنون»، ويرد أن يكون من الجمعية، ينل هذا من فوره، ولكن من يرد في فرنسة أن يكون عضوا ذا راتب من أعضاء الأكاديمية لا يكفه أن يكون هاويا، وإنما يجب أن يكون عالما، وأن ينازع؛ ليفوز بالمكان، منافسين يخشى جانبهم بما يمازجهم من طلب المجد والسعي وراء المصلحة، وبما يلاقون من العقبات، وبما اكتسبوا من صلابة العود التي تنشأ - عادة - عن دراسة علوم الحساب بعناد.
ومن الفطنة أن قصرت أكاديمية العلوم على درس الطبيعة، والحق أن هذا الميدان هو من الاتساع ما يستوعب معه خمسين شخصا أو ستين، وتخلط أكاديمية لندن ما بين الأدب والفزياء بلا تفريق، ويظهر لي أنه يجدر وجود أكاديمية خاصة بالآداب الجميلة اجتنابا لاختلاط الأمور، فلا يبحث في زينة الرأس لدى الرومانيات بجانب مائة خط منحن جديد.
وبما أن جمعية لندن قليلة الترتيب خالية من التشجيع، وبما أن مجمع باريس على النقيض تماما؛ فإنه لا يدهشنا أن تكون مذكرات مجمعنا أرقى من مذكرات جمعيتهم - ولا عجب - فالجنود الأحسن نظاما والأجزل أجرا يفوزون على المتطوعين على مر الزمن. أجل، كانت الجمعية الملكية تشتمل على رجل مثل نيوتن، ولكنها لم تنتجه، حتى إن القليل من زملائه كانوا يدركون أمره، فعبقري مثل مستر نيوتن كان ملك جميع أكاديميات أوروبة لما وجب عليها أن تتعلم منه كثيرا.
وفي أواخر عهد الملكة حنة، عن للدكتور سويفت الشهير إنشاء أكاديمية للغة على غرار الأكاديمية الفرنسية، وقد اعتمد في هذا المشروع على أمين بيت المال الكبير، كونت أكسفورد، وعلى الوزير الڨيكونت، بولينغبروك، الذي أعطي موهبة الارتجال في البرلمان بمثل صفاء ما يكتب سويفت في حجرته، والذي كان يغدو حامي هذه الأكاديمية وفخرها. هذه الأكاديمية التي كانت تؤلف - كما يجب - من رجال تبقى آثارهم ما بقيت اللغة الإنكليزية، كانت تؤلف من الدكتور سويفت، ومن مستر بريار الذي رأيناه هنا نائبا عاما ، والذي له في إنكلترة مثل شهرة لافونتن بيننا، ومن بوالو إنكلترة؛ مستر بوب، ومن مستر كنغريڨ الذي يمكن أن يسمى موليار، ومن آخرين كثيرين لا تحضرني أسماؤهم هنا، ومن جميع هؤلاء الذين كان يزدهر بهم هذا المجمع منذ إنشائه، بيد أن الملكة تموت بغتة، ويدور في رأس الأحرار شنق حماة الأكاديمية، ويكون هذا ضربة قاتلة للأدب الجميل كما ترون، وكان يبدو أعضاء هذه الهيئة لو تم أمرها، أرقى من الأولين الذين تتألف منهم الأكاديمية الفرنسية؛ وذلك لأن سويفت وبريار وكنغريڨ ودريدن وبوب وأديسن وغيرهم؛ قد مكنوا اللغة الإنكليزية بمؤلفاتهم، وذلك مع كون شابلن وكولته وكاسين وفاره وبران وكوتان؛ أي رجال أكاديميتكم الأولين، عار أمتكم، وكون أسمائهم بلغت من إثارة السخرية ما لو كان معه أحد الكتاب العابرون من سوء الحظ ما دعا معه نفسه شابلن أو كوتن لاضطر إلى تغيير اسمه، ومن أخص ما كان يجب أن يقع اتخاذ الأكاديمية الإنكليزية أشاغيل تختلف عن أشاغيل أكاديميتنا كل الاختلاف، ومما حدث ذات يوم أن سألني أحد الألباء في ذلك البلد عن مذكرات الأكاديمية الفرنسية، فأجبته عن سؤاله بقولي: «إنه لا يكتب مذكرات مطلقا، ولكنه طبع ستين مجلدا أو ثمانين مجلدا من المجاملات»، ويتصفح مجلدا أو اثنين منها فلم يستطع أن يدرك هذا الأسلوب مطلقا، مع أنه بدا حسن الفهم لجميع كتابنا المجيدين. وقد قال لي: «إن كل ما أبصر في هذا الكلام الجميل هو أن المرشح، بعد اختياره، إذ يوكد أن سلفه كان رجلا عظيما، وأن الكردينال ريشليو كان رجلا عظيما جدا، وأن الوزير سيغيه على شيء من العظمة، وأن لويس الرابع عشر أكثر من عظيم. يجيبه المدير بالشيء عينه مضيفا إمكان ظهور ذاك المرشح المنتخب رجلا عظيما أيضا، وذلك مع عدم ترك المدير لنصيبه من العظمة.»
ومن السهل أن يرى أي قدر أوجب على هذه الخطب أن تكون قليلة التشريف لهذه الهيئة، «وسوء الوقت خير من سوء المرء»، وذلك أن مما قام بالتد يربح تلك العادة التي تقضي على كل عضو من الأكاديمية أن يكرر هذه المدائح في حفلة القبول، فكان هذا ضربا من عوامل تبرم الجمهور، وإذا ما بحث - بعد ذلك - عن السبب في كون أكابر العباقرة الذين دخلوا هذه الهيئة قد أتوا بأسوأ الخطب وجد أنه أيسر من ذاك، وذلك أنهم أرادوا التألق، وأنهم أرادوا أن يتناولوا، مجددا، موضوعا مطروقا تماما، فضرورة الكلام وورطة عدم وجود ما يقال وشهوة النكيس أمور ثلاثة، يمكنها أن تحول أعظم رجل إلى مهزأة، وهم إذ كانوا راغبين عن إيجاد أفكار جديدة؛ فإنهم بحثوا عن لباقات جديدة، فتكلموا بلا تفكير، كمن يعلك بلا علك، وتظاهروا بالأكل مع خورهم جوعا.
ومع أن من قواعد الأكاديمية الفرنسية أن تطبع جميع هذه الخطب التي عرفت بها؛ فإنه كان من الواجب عدم طبعها.
وقد هدفت أكاديمية الآداب الجميلة إلى غرض أعظم حكمة وأكثر فائدة، وهو أن تعرض على الجمهور مجموعة من المذكرات الزاخرة بمباحث النقد الطريف، وقد قدرت هذه المذكرات لدى الأجانب، وإنما الذي يرجى هو أن تكون بعض الموضوعات فيها أكثر عمقا، وألا تعالج فيها موضوعات أخرى، ومن ذلك أن يستغنى مثلا عن البحث في مزية اليد اليمنى على اليد اليسرى، وعن مباحث أخرى، ليست أقل لغوا تحت عناوين أقل إثارة للسخرية.
وتشتمل أكاديمية العلوم - في مباحثها الأكثر صعوبة والأظهر نفعا - على معرفة للطبيعة وإكمال للفنون، وهنالك ما يحمل على الاعتقاد بأن الدراسات البالغة العمق والسياق، والحسابات البالغة الضبط، والاكتشافات البالغة الدقة، والمقاصد البالغة العظمة، تسفر - في آخر الأمر - عما فيه خير العالم.
ومما لاحظناه معا أن أنفع الاكتشافات وقع في أكثر القرون بربرية، ويلوح أن نصيب أكثر الأزمنة نورا والجمعيات عرفانا يقوم على البرهنة حول ما كان الجاهلون قد اخترعوه - ومما يعلم اليوم - بعد مجادلات طويلة بين السيدين هويغنز ورينو، تعيين أنفع زاوية في سكان
1
السفينة مع الحيزوم،
2
ولكن كريستوف كولنبس اكتشف أمريكة من غير أن يخطر بباله أمر هذه الزاوية.
وأراني بعيدا من الذهاب بهذا إلى وجوب الوقوف عند حد العمل الأعمى فقط، ولكن من الخير أن يقرن علماء الفزياء والهندسة أمر العمل بالنظر، وهل من الواجب أن يكون أكثر ما يشرف الذهن البشري أقل ما يكون فائدة في الغالب؟ ويصبح الرجل العالم بقواعد الحساب الأربع مع حسن الفهم تاجرا كبيرا؛ أي مثل جاك كور أو دلمه أو برنارد، على حين يقضي العالم الجبري حياته باحثا في الأعداد عن النسب والخاصيات العجيبة، ولكن من غير استعمال، ومن غير أن يتعلم منها ما المبادلة مثلا، وهذه حال جميع الفنون تقريبا، وتوجد نقطة إذا ما جاوزتها وجدت المباحث أمر طرافة فقط، والنقطة هي أن هذه الحقائق الدقيقة غير النافعة تشابه النجوم التي لا تنير لنا السبيل مطلقا لبعدها.
وأية خدمة لا تكون الأكاديمية الفرنسية قد أسدتها إلى الآداب واللغة والأمة إذا ما طبعت أحسن آثار عصر لويس الرابع عشر خالية من جميع الأغاليط اللغوية التي تسربت فيها، وذلك بدلا من أن تطبع مدائح في كل عام؟ وترى كرناي وموليار زاخرين بالأغاليط، وترى الأغاليط كثيرة في لافونتن. وما لا يمكن إصلاحه منها يشار إليه على الأقل، ومن هؤلاء الكتاب الذين تقرءهم أوروبة تتعلم لغتنا تعلما مضمونا، وبهم يثبت صفاؤها إلى الأبد، وتكون الكتب الفرنسية الجيدة التي تطبع بهذه العناية على حساب الملك من أفخر آثار الأمة، وقد سمعت أن مسيو دبريئو كان قد قام بمثل هذا العرض فيما مضى، وأنه جدد من قبل رجل مشهور بالذكاء والحكمة والنقد الصحيح، بيد أنه كان لهذه الفكرة مثل نصيب كثير من المشاريع النافعة، فقد قبلت وأهملت.
الرسالة الخامسة والعشرون
حول الأفكار لمسيو بسكال
أبعث إليكم بما وضعت - منذ زمن طويل - من ملاحظات في نقد «الأفكار» لمسيو بسكال، وأرجو منكم ألا تشبهوني هنا بحزقيا، الذي أراد إحراق جميع كتب سليمان؛ فأنا أقدر عبقرية بسكال وبلاغته، ولكنني كلما قدرتها قنعت بأنه كان لا بد من تصحيحه كثيرا من هذه «الأفكار» التي ألقاها على الورق اتفاقا كيما يدقق فيها بعدئذ؛ أي إنني إذ أعجب بعبقريته أناهض بعض أفكاره.
وعلى العموم يبدو لي أن الروح التي كتب بها بسكال «أفكاره» هي إظهار الإنسان من ناحيته الممقوتة، فهو ينهمك في وصفه لنا جميع الأشرار والأشقياء، وهو يكتب ضد الطبيعة البشرية، كما كان يكتب ضد اليسوعيين، وهو يعزو إلى جوهر طبيعتنا ما لا يرد إلا إلى بعض الناس، وهو يصب الشتائم على الجنس البشري ببلاغة؛ ولذا فإنني أتعصب للبشرية، مجترئا، على هذا المبغض الأعلى للإنسان؛ ولذا فإنني أجرؤ على توكيدي أننا لسنا أشرارا ولا أشقياء بمقدار ما يقول، ثم إنني كثير الاقتناع بأنه لو اتبع في الكتاب الذي كان يتأمله ما لاح في «أفكاره» من مقصد لوضع كتابا زاخرا بالقياسات البليغة الفاسدة وبالأباطيل التي استنبطت على وجه عجيب، ومما أعتقد أيضا أن جميع هذه الكتب التي وضعت منذ زمن قريب لإثبات الدين النصراني أقدر على الإهانة مما على الإفادة، وهل يزعم هؤلاء الكتاب أنهم يعرفون أكثر مما يعرف يسوع والرسل؟ هذا عزم على دعم بلوطة بإحاطتها بقصب، فيمكن إقصاء هذا القصب غير النافع من غير أن يخشى الإضرار بالبلوطة.
وقد اخترت بعض الأفكار من بسكال مع الاحتراز، فأضع الأجوبة في أدناها، ولكم أن تحكموا في وجود الحق بجانبي أو لا: (1)
يبلغ سمو الإنسان وخبثه من الوضوح ما يجب أن يعلمنا الدين الصحيح معه بحكم الضرورة؛ وجود أصل كبير للسمو فيه، ووجود أصل كبير للخبث فيه؛ وذلك لأنه لا بد للدين الصحيح من معرفة طبيعتنا معرفة أساسية؛ أي أن يعرف كل ما هو رفيع، وكل ما هو خبيث فيها وسبب هذا وذاك، ومما يجب أيضا أن يبين لنا أسباب ما يلتقي فيها من متناقضات عجبية.
يظهر أن هذا الأسلوب في البرهنة فاسد خطر؛ وذلك لأن أسطورة بروميته وبندور وخنثى أفلاطون وعقائد السياميين تبين أيضا أسباب هذه المتناقضات الظاهرة، ولا يكون الدين النصراني أقل صحة مما هو عليه إذا لم تستنبط منه هذه النتائج اللبقة التي لا يمكن أن تكون صالحة لغير تألق الذهن.
ولا تعلم النصرانية غير البساطة والإنسانية والمحبة، فرد النصرانية إلى ما بعد الطبيعة يجعل منها منبع ضلالات. (2)
ليبحث حول هذا في جميع أديان العالم، ولير هل يوجد غير النصرانية دين يشفي الغلة في ذلك، وهل هذا ما كان قد علمه الفلاسفة الذين عرضوا علينا أن ما هو خير فينا هو كل الخير؟ وهل هذا هو الخير الحقيقي؟ وهل وجدوا دواء بلايانا؟ وهل شفاء الإنسان من زهوه في مساواته بالرب؟ وهل أتانا بدواء لميلنا إلى الملاذ الحسية أولئك الذين ساوونا بالبهائم، فحبونا بلذات الدنيا على أنها الخير كله؟
لم يعلم الفلاسفة دينا، وليست فلسفتهم ما يجب أن تناهض، ولا تجد فيلسوفا ادعى أنه موحى إليه من الله؛ وذلك لأنه يعود بهذا غير فيلسوف، فيبدو نبيا، ولا يدور الأمر حول وجوب تفضيل يسوع على أرسطو، بل حول إقامة الدليل على أن دين يسوع هو الصحيح، وكون الإسلام والمجوسية وغيرهما من الأديان فاسدة. (3)
ومع ذلك فإننا غير مدركين لأنفسنا بغير هذا السر الذي هو أكثر ما يكون إشكالا، وتتناول عقدة حالنا رداتها وطياتها في هوة الخطيئة الأصلية، وذلك بحيث إن الإنسان يكون أكثر استغلاقا بغير هذا السر من استغلاق هذا السر على الإنسان.
يعني هذا «أن الإنسان مستغلق بغير هذا السر المستغلق»، ولم الذهاب إلى أبعد مما ذهب إليه الكتاب المقدس؟ أليس من التهور أن يعتقد احتياج الكتاب المقدس إلى دعامة، وأنه يمكن هذه الآراء الفلسفية أن تمنحه إياها؟
وما يكون جواب مسيو بسكال لرجل يقول له: «أعرف أن سر الخطيئة الأصلية هو موضوع إيماني لا عقلي، وأدرك جيدا ما الإنسان بغير هذا السر، وأراه يأتي إلى العالم كالحيوانات الأخرى، وأرى أن طلق الأمهات أشد ألما بنسبة لطافتهن، وأن مما يحدث أحيانا كون النساء وأنثى الحيوانات يمتن حين الوضع، وأنه يوجد في بعض الأحيان من الأولاد من هم سيئو التركيب، فيعيشون عاطلين من حاسة أو حاستين، خالين من قوة الإدراك، وأن من هم أحسن تركيبا يكونون أشد الناس أهواء، وأن الحب نفسه متساو لدى جميع الناس، وأنهم محتاجون إليه كاحتياجهم إلى الحواس الخمس، وأن الله أعطانا هذه الأنانية حفظا لوجودنا، وأنه أعطانا الدين لتنظيم هذه الأنانية، وأن أفكارنا تكون صائبة أو خاطئة، وغامضة أو جلية، على حسب ما تكون أعضاؤنا متينة أو منحلة، وعلى حسب ما نكون هواة، وأننا تابعون تماما للهواء الذي يحيط بنا والأقوات التي نتناولها، وأنه لا تناقض في جميع هذا. وليس الإنسان لغزا كما تصورونه، كيما يجد لذة في حله، ويظهر أن الإنسان في مكانه ضمن الطبيعة، فهو أرقى من الحيوانات التي يشابهها بالأعضاء، وهو دون موجودات أخرى يشابهها بالفكر على ما يحتمل، وهو - لجميع ما نرى - مزيج من الخير والشر ومن اللذة والألم، وهو مجهز بميول كيما يسير وبعقل كيما يسيطر على أفعاله، فلو كان الإنسان كاملا لبدا إلها، وليست هذه المتناقضات - كما تسمونها - غير عناصر ضرورية، تدخل في تركيب الإنسان الذي هو كما يجب أن يكون.» (4)
ولنتتبع حركاتنا، ولنلاحظ أنفسنا، ولنر هل نجد الأوصاف الحية لهاتين الطبيعتين؟
وهل توجد المتناقضات التي هي بهذا المقدار في إنسان بسيط؟
يبلغ هذا الازدواج في الإنسان من الوضوح ما وجد من رأي معه أننا كنا ذوي نفسين؛ وذلك لما لاح لهم من أن الإنسان البسيط قاصر عن مثل هذه المنوعات المفاجئة بهذا المقدار، قاصر عن زهو مفرط في فؤاد واه.
ليست عزائمنا المنوعة متناقضات في الطبيعة مطلقا، وليس الإنسان موجودا بسيطا مطلقا، فهو مؤلف من أعضاء لا حصر لها، فإذا ما فسد أحد هذه الأعضاء قليلا غير جميع انطباعات الدماغ بحكم الضرورة، وكانت للحيوان أفكار جديدة وعزائم جديدة، ومما هو صحيح كثيرا أننا خامدون عن غم تارة منتفخون عن زهو تارة أخرى، وهذا ما يجب أن يكون عند وجودنا في أحوال متباينة، فالحيوان الذي يلمسه صاحبه برفق ويغذيه والحيوان الذي يذبح ببطء ومهارة تشريحا له يشعران بإحساسات مختلفة لا ريب، ولكن ما فينا من فروق هو من القلة ما يكون من المتناقض معه عدم وجوده.
وكان يمكن للمجانين الذين قالوا: إننا كنا ذوي نفسين أن يقدموا إلينا ثلاثين نفسا أو أربعين نفسا لذات السبب؛ وذلك لأن الإنسان الذي يساوره ألم كبير يكون عنده من مختلف الأفكار حيال عين الشيء ما يبلغ ثلاثين أو أربعين في الغالب، وهذا ما يجب أن يكون عنده بحكم الضرورة، وذلك وفق ما يلوح له هذا الشيء على وجوه مختلفة.
وهذا الازدواج المزعوم في الإنسان هو أمر محال بمقدار ما هو خاص بما بعد الطبيعة، وهذا ما يغريني على القول بأن الكلب الذي يعض والذي يلامس برقة هو مضاعف، وأن الدجاجة التي تعنى بصغارها ثم تترك هذه الصغار حتى درجة الإنكار هي مضاعفة، وأن المرأة التي تعرض أشياء مختلفة معا هي مضاعفة، وأن الشجرة التي كانت كاسية تارة وعارية تارة أخرى هي مضاعفة، أجل، إنني أسلم بأن الإنسان مستغلق، ولكن بقية الطبيعة مستغلقة أيضا، فلا توجد تناقضات ظاهرة في الإنسان أكثر مما في جميع البقية. (5)
عدم الرهان على وجود الله يعني رهانا على عدم وجوده، وأي الأمرين تتناول إذن؟ ولنزن الربح والخسر ماثلين إلى اعتقاد وجود الله، فإذا ربحتم ربحتم كل شيء وإذا خسرتم لم تخسروا شيئا؛ ولذا فراهنوا على وجوده من غير تردد، أجل، لا بد من الربح، ولكن قد أربح كثيرا على ما يحتمل، والآن، بما أنه يوجد مثل هذه المخاطرة في الربح والخسر فإنه عندما لا يكون لديكم غير حياتين تكسبونهما في مقابل واحدة، يمكنكم أن تكسبوا أيضا.
ومن الغلط الواضح أن يقال: «لا تراهن على وجود الله، فهذا برهان على عدم وجوده» وذلك لأن الذي يشك وينشد العرفان لا يراهن على السلب أو الإيجاب لا ريب.
وفضلا عن ذلك فإن هذه المادة تبدو على شيء من الفحش والسخف، ولا يناسب هذا المبدأ في اللعب والخسر والربح أهمية الموضوع مطلقا.
وأضف إلى ذلك كون مصلحتي في الإيمان بالشيء ليس دليلا على وجود هذا الشيء، وأنت تقول لي: أعطيك سلطان العالم إذا ما اعتقدت أنك على حق، وحينئذ أتمنى من صميم فؤادي أن تكون على حق، ولكنني لا أستطيع تصديقك حتى تثبت لي ذلك.
ويمكن أن يقال لمسيو بسكال : ابدأ بإقناع عقلي، ولي نفع في وجود إله لا ريب، ولكن إذا كان منهاجك يقول: إن الله لم يكن إلا من أجل قليل من الناس، وإن عدد الأخيار بالغ القلة، وإنني لا أقدر على شيء بنفسي، فأرجو منك أن تقول لي: أي نفع لي في تصديقك؟ ألا يكون لي نفع واضح في أن أقنع بالعكس؟ وبأي وجه تجرؤ على إطلاعي على سعادة بالغة، لا يكاد يحق لواحد من مليون إنسان أن يتطلع إليها؟ إذا أردت إقناعي فاسلك طريقا أخرى، ولا تذهب تارة إلى تحديثي عن النصيب والرهان والقمار، وتارة إلى تخويفي بالأشواك التي تلقيها في الطريق التي أريد سلوكها واتباعها، ولا تنفع برهنتك لغير صنع ملحدين لولا أن جميع صوت الطبيعة ينادي بوجود إله واحد بقوة تقابل ما في تلك الدقائق من ضعف. (6)
وإني، حين أبصر عمى الإنسان وشقاءه، وحين أبصر المناقضات الغريبة التي تبدو في طبيعته، وإني حين أنظر جميع الكون الصامت والإنسان الجاهل المتروك لنفسه، والتائه في هذه الزاوية من الكون غير عالم من وضعه فيها، ولا ما يصنع فيها، ولا ما يصير إليه بموته، يعتريني ذعر كما لو كنت إنسانا أخذ - وهو نائم - إلى جزيرة قفر مخيفة، فإذا ما أفاق لم يعرف أين هو، ولم يكن حائزا أية وسيلة كانت للخروج منها؛ ولذا فإنني أعجب من عدم الغم من حال بالغة هذه الدرجة من الشقاء.
إني - حين قراءتي هذا التأمل - تناولت كتابا من صديق لي مقيم ببلد بعيد جدا، وإليك ما جاء فيه:
أنا هنا كما تركتموني، فلست بالغ الفرح ولا بالغ الترح، ولست بالغ اليسر ولا بالغ العسر، وأتمتع بصحة تامة حائزا كل ما يجعل الحياة طيبة خالية من الحب والطمع والطموح والحسد، وترونني أجرؤ على عد نفسي سعيدة جدا ما بقي هذا.
يوجد كثير من الناس من هم سعداء مثله، ويوجد من الناس من هم كالحيوانات، فهذا الكلب يضجع ويأكل مع صاحبته، وهذا آخر يدير السفود؛ فيبدو راضيا أيضا، وهذا ثالث يكلب فيقتل، وأما أنا فإني حين أرى باريس ولندن لا أرى سببا لدخول باب هذا الغم الذي حكى عنه مسيو بسكال، وإنما أرى مدينة لا تشابه جزيرة قفرا في أي شيء كان، فهي عامرة موسرة مهذبة، يكون الناس فيها سعداء بمقدار ما تقتضيه طبيعة الإنسان، وأي رجل عاقل يكون مستعدا لشنق نفسه؛ لأنه لا يعرف كيف يرى الله وجها إلى وجه، ولأن عقله لا يستطيع أن يكشف سر الثالوث؟ وهكذا كان يجب أن يقنط من عدم حيازة أربع أرجل وجناحين.
ولم ننفر من وجودنا؟ ليست حياتنا من الشقاء بمقدار ما يراد إيهامنا فيه، وليس عد العالم سجنا مظلما ضيقا، وعد جميع الناس مجرمين يعدمون، إلا فكرة متعصب، ويعد فكرة شهواني كل ذهاب إلى أن العالم دار نعيم لا ينبغي أن تشتمل على غير اللذة، ويعد من تفكير رجل عاقل كل ذهاب إلى أن الأرض والناس والحيوانات هي ما يجب أن تكون عليه ضمن نظام القدرة الربانية. (7) «يرى اليهود» أن الله لا يدع الأمم الأخرى في هذه الظلمات إلى الأبد، وأنه سيظهر منقذ للجميع، وأنهم في العالم ليبشروا به، وأنهم خلقوا ليكونوا مبشرين بهذا الأمر العظيم خاصة؛ وليدعوا جميع الأمم لتنضم إليهم في انتظار هذا المنقذ.
أجل، إن اليهود قد انتظروا هذا المنقذ دائما، غير أن منقذهم هو لأنفسهم، لا لنا، وهم ينتظرون مسيحا يجعل اليهود سادة النصارى، ونحن نأمل أن يؤلف المسيح بين اليهود والنصارى ذات يوم، واليهود يرون في هذا عكس ما نرى تماما. (8)
وكذلك فإن الشريعة التي يحكم بها في هذا الشعب هي أقدم شرائع العالم وأكملها، وهي الوحيدة التي حفظت دائما، في إحدى الدول بلا انقطاع، وهذا ما أثبته اليهودي فيلون في مواضع كثيرة، وهذا ما رد به يوسف على أبيون فبين أن هذه الشريعة هي من القدم ما لم يعرف الأقدمون اسم الشريعة معه إلا بعد ألف سنة، حتى إن أوميرس الذي تكلم عن كثير من الأمم لم يستعمل هذا الاسم قط، ومن السهل أن يحكم في كمالها بمطالعتها، فبها يرى أنها بلغت من معالجة جميع الأمور بحكمة عظيمة وإنصاف كبير وحسن حكم ما اقتبس معه مشترعو اليونان والرومان الأقدمون قوانينهم الرئيسة منها عندما نالوا شيئا من نورها، وهذا ظاهر من القوانين التي أطلقوا عليها اسم الألواح الاثني عشر، ومن الأدلة الأخرى التي قدمها يوسف.
إن من الخطأ الكبير أن يذهب إلى أن شريعة اليهود أقدم الشرائع، ما داموا قد أقاموا بمصر قبل مشترعهم؛ موسى؛ أي بهذا البلد الذي هو أكثر بلاد العالم اشتهارا بقوانينه الرشيدة.
ومن الخطأ الكبير أن يذهب إلى أن اسم الشريعة لم يعرف إلا بعد أوميرس، فهو قد تكلم عن شرائع مينوس، وتجد كلمة شريعة في هزيود، حتى إن عدم وجود كلمة شريعة في هزيود أو أوميرس لا يدل على شيء، فقد كان يوجد ملوك وقضاة؛ ولذا كانت توجد شرائع.
ومن الخطأ الكبير أيضا أن يذهب إلى أن الأغارقة والرومان اقتبسوا قوانين من اليهود، فلا يمكن أن يكون هذا في أوائل جمهوريتهم؛ وذلك لأنهم ما كانوا ليعرفوا أمر اليهود في ذلك الحين، ولا يمكن أن يكون هذا في إبان عظمتهم؛ وذلك لأنهم كانوا يزدرون هذا الشعب ازدراء معروفا في جميع العالم. (9)
ويثير هذا الشعب عجبنا بإخلاصه، فقد حافظ هؤلاء القوم محافظة ود ووفاء على الكتاب الذي صرح موسى فيه بأنهم كافرون بنعمة الله دائما، وبأنه يعلم أنهم سيبقون هكذا بعد موته، ولكن مع دعوة السماء والأرض أن تكونا شاهدتين عليهم، ومع تبليغهم هذا بما فيه الكفاية، وبأن الله سيغضب عليهم في آخر الأمر، فيفرق شملهم بين جميع أمم الدنيا، وبأنهم إذا أغضبوه بعبادتهم آلهة - لم يكونوا آلهة لهم قط - فإنه سيغضبهم بدعوته قوما لم يكونوا قومه قط، ومع ذلك فإنهم يحافظون على هذا الكتاب الذي يفضحهم على وجوه كثيرة ويفدونه بحياتهم، وهذا إخلاص لا مثيل له في العالم ولا أصل له في الطبيعة.
تجد لهذا الإخلاص أمثلة في كل مكان، وليس أصله في غير الطبيعة، فزهو كل يهودي يحمله على الاعتقاد بأن غضب الله هو سبب عقابه، لا كون سياسته الفاسدة، ولا جهله للمهن، ولا غلظته، علة ضياعه، وهو يرى - مع القناعة - أنه كان لا بد من الخوارق حتى يهد ، وأن شعبه حبيب الرب الذي يجازيه.
وليصعد واعظ في المنبر وليقل للفرنسيين: «أنتم مساكين، لا قلب لكم، ولا هدى عندكم، فهزمتهم في هوستد وراملي؛ لعدم معرفتكم أن تدافعوا عن أنفسكم»؛ ليبصر رجمهم إياه. ولكنه إذا ما قال لهم: «أنتم كاثوليك أعزة على الرب، فأغضبت خطاياكم الشائبة ربكم الأزلي الذي سلمكم إلى الملاحدة في هوستد وراملي، ولكنكم عندما تبتم إلى الله بارك شجاعتكم في دينان.» حببته هذه الكلمات لدى الحضور. (10)
إذا ما وجد إله واحد وجب ألا يحب غيره، لا مخلوقاته.
يجب حب المخلوقات حب حنان، ويجب على الإنسان أن يحب وطنه وامرأته وأباه وأولاده، ويجب أن يحبوا كثيرا ما دام الرب قد حببهم إلينا على الرغم منا، ولا تصلح المبادئ المباينة لغير صنع برابرة مبرهنين. (11)
ونولد بغاة ما دام كل واحد يميل إلى نفسه، وهذا خلاف كل نظام، فيجب الميل إلى العام، فميل الإنسان إلى نفسه بدء كل اختلال في الحرب والضابطة والاقتصاد، إلخ.
هذا وفق كل نظام، ومن المحال أيضا إمكان قيام مجتمع وبقائه بلا أنانية، كما أن من المحال أن تقع ولادة بلا ميل إلى الملاذ الحسية، وأن يفكر في الغذاء بلا شهوة طعام ... إلخ، فحبنا لأنفسنا هو الذي يساعد على حب الآخرين، ونحن نكون نافعين للجنس البشري بتبادل احتياجاتنا، وهذا هو أساس كل مصاحبة، وهذه هي الصلة الخالدة بين الناس، ولولا ذلك الحب ما اخترعت صنعة، ولا قام مجتمع مؤلف من عشرة أشخاص. وهذه الأنانية التي نالها كل حيوان من الطبيعة هي التي تنبهنا إلى احترام أنانية الآخرين، والقانون يوجه هذه الأنانية، والدين يكملها، والحق أنه كان يمكن الرب أن يصنع مخلوقات منتبهة لخير الآخرين، ففي هذه الحال يذهب التجار إلى الهند عن إحسان، وينشر البناء حجرا عن مراعاة لخاطر قريبه، بيد أن الله أقام الأشياء على وجه آخر، فلا نتهم الغريزة التي أنعم بها علينا، ولنستعملها كما أمرنا. (12)
وما كان «حس النبوءات الخفي» ليغوي، وما كان ليمكن غير شعب شهواني كذلك أن يغلط في ذلك؛ وذلك لأن النعم إذا ما أمل بها كثيرا، فما الذي يحول دون إدراك أولئك القوم للحقيقي منها إن لم يكن طمعهم الذي كان يعين هذا الميل إلى حطام الدنيا؟
هل كان يدرك أشد شعوب الأرض روحانية ذلك الأمر على وجه آخر على حسن نية؟ لقد كانوا عبيدا للرومان، وكانوا ينتظرون منقذا، يجعلهم منصورين، ويحمل على احترام أورشليم في جميع العالم، وكيف كان يمكنهم أن يبصروا - على نور عقلهم - هذا المنصور، هذا العاهل في يسوع الفقير المصلوب، وكيف كان يمكنهم أن يدركوا وجود أورشليم سماوية، تقوم مقام عاصمتهم مع أن الوصايا العشر لم تحدثهم عن خلود الروح فقط؟ وكيف يمكن شعبا شديد التمسك بشريعته أن يعرف - بلا نور عال - في النبوءات، التي لم تكن شرعا له، إلها خفيا في صورة يهودي مختون، قضى بدينه الجديد على الختان والسبت اللذين هما أساس الشريعة اليهودية المقدسة؟ وأخيرا لنعبد الله من غير أن نلج في ظلام أسراره. (13)
وقد نبئ بزمن أول ظهور ليسوع، ولم ينبأ بظهوره الثاني قط؛ وذلك لما وجب أن يكون الأول خفيا، ولما يجب أن يكون الثاني سنيا بالغا من الوضوح ما يعترف به حتى أعداؤه.
لقد نبئ بظهور يسوع الثاني بأوضح مما نبئ بالأول، ومن الواضح أن يكون مسيو بسكال قد نسي أن يسوع صرح قائلا في الفصل الحادي والعشرين من إنجيل مار لوقا: وإذا رأيتم أورشليم قد أحاطت بها الجنود، فاعلموا حينئذ أن خرابها قد اقترب ... وتدوس الأمم أورشليم، وتكون علامات في الشمس والقمر والنجوم وعلى الأرض كرب للأمم حيرة من عجيج البحر وجيشانه، وتزهق الناس من الخوف وانتظار ما يأتي على المسكونة، فإن قوات السماوات تتزعزع، وحينئذ يشاهدون ابن البشر آتيا على سحابة بقوة وجلال عظيمين.
أو ليس هذا إنباء جليا بالظهور الثاني؟ ولكن إذا كان هذا لم يقع بعد؛ فإنه ليس لنا أن نجرؤ على سؤال القدرة الربانية عنه. (14)
ويجب أن يكون المسيح عند اليهود الشهاوى أميرا زمنيا كبيرا، وقد جاء المسيح عند النصارى الشهاوى؛ ليعفينا من حب الرب، ويعطينا أسرار القربان التي تؤثر كلها بغيرنا، وليس الدين النصراني أو اليهودي هذا أو ذاك.
فهذه المادة كلام هجو أكثر من كونها تأملا نصرانيا، ويرى أن اليسوعيين هم الذين يحقد عليهم هنا، ولكن هل قال يسوعي إن يسوع «جاء ليعفينا من حب الرب؟» إن الجدال حول حب الرب هو جدال ألفاظ، شأن معظم المناقشات العلمية الأخرى التي أدت إلى ضغائن شديدة ومصائب فظيعة.
ويبدو نقص آخر في هذه المادة، وهو أن ما يفترض فيها من انتظار مسيح عد مسألة دين لدى اليهود، مع أن هذا كان فكرة مسرية منتشرة بين هؤلاء القوم، أجل، إن اليهود كانوا يرجون ظهور منقذ، بيد أنهم لم يؤمروا باعتقاد هذا على أنه مادة إيمان، وقد كان جميع دينهم مدونا في أسفار الشريعة، ولم يحدث قط أن عد اليهود الأنبياء مشترعين. (15)
ولا بد من فحص النبوءات لإدراكها؛ وذلك لأنه إذا ما اعتقد أنه ليس لها غير معنى واحد كان من الأكيد أن المسيح لا يظهر مطلقا، ولكنه إذا كان لها معنيان؛ فإنه سيظهر في شخص يسوع لا ريب.
إن الدين النصراني هو من الصحة ما لا يحتاج معه إلى أدلة مبهمة، والواقع أنه إذا وجد شيء لا يمكن أن يزعزع أسس هذا الدين المقدس المعقول كان إحساس مسيو بسكال هذا هو ذاك الشيء، وذلك أنه يريد وجود معنيين لكل شيء في الكتاب المقدس، ولكنه إذا وجد رجل بلغ من شقاء الإلحاد ما يقول له: إن الذي يعطي معنيين لكلامه يريد خدع الناس، وإن هذه المخادعة مما تعاقب عليه القوانين دائما؛ ولذا فكيف تستطيع أن تذهب - بلا خجل - إلى وجود شيء في الله يعاقب عليه، ويكره وجوده في الناس؟ وما أقول؟ فأي ازدراء وأي حنق لا تعاملون بهما هواتف الوثنيين لأن لها معنيين؟ ألا يمكن أن يقال: إن الأفضل هو ألا يكون للنبوءات الخاصة بيسوع مباشرة غير معنى واحد كنبوءات دانيال وميخا وغيرهما؟ أو لا يمكن أن يقال أيضا: إننا إذا لم نكن مدركين لشيء من النبوءات، أفلا يكون الدين أقل ثبوتا بهذا؟ (16)
وما بين الأجسام والأرواح من بعد لا حد له، يصور ما بين الأرواح والمحبة من بعد أكثر لا نهاية من ذلك بما لا حد له؛ وذلك لأنها فوق الطبيعة.
ما كان مسيو بسكال ليستعمل هذه السفسطات في كتابه - على ما نعتقد - لو كان لديه من الوقت ما يفعل فيه هذا. (17)
ويكون أظهر ضعف قوة لدى من يحسنون تناول الأشياء، ومن ذلك سلسلتا النسب لدى مار متى ومار لوقا، ومن الواضح أن هذا لم يوضع باتفاق.
فهل كان على ناشري «الأفكار» أن يطبعوا هذه الفكرة التي يكفي عرضها وحده على الإضرار بالدين؟ وما فائدة القول بأن تينك السلسلتين، بأن تينك النقطتين الأساسيتين في الدين النصراني، متناقضتان من غير أن يبين الوجه الذي يمكن أن يوفق فيه بينهما؟ كان يجب تقديم الترياق مع السم، وما يفكر في أمر محام يقول: «أجل، إن موكلي يناقض نفسه، بيد أن هذا الضعف قوة لدى من يعرفون حسن تناول الأمور؟» (18)
ولذا لا ينبغي أن نعير - بعد الآن - بعدم الوضوح، ما دمنا نباهي به، ولكن لتعرف حقيقة الدين في غموض الدين نفسه، فيما عندنا من قلة وضوحه، وفيما لدينا من عدم اكتراث لمعرفة ذلك.
تلك هي دلائل الحقيقة التي يأتي بها بسكال! وما يمكن أن يكون للكذب من دلائل أخرى؟ ماذا؟! كان يكفي الإنسان أن يقول ليصدق: «أنا غامض، أنا مستغلق!» يكون أقرب إلى الصواب ألا يعرض على الأبصار غير أنوار الإيمان بدلا من غوامض العلم. (19)
ولو لم يكن غير دين واحد لكان الله جليا جدا.
ماذا؟! أنت تقول: «لو لم يكن غير دين واحد لكان الله جليا جدا؟!» آه! أو تنسى أنك تقول في كل صفحة: إنه لن يكون غير دين واحد ذات يوم؟ ولذا فأنت ترى أن الله سيكون جليا جدا في ذلك الحين . (20)
وأقول: إن الدين اليهودي لم يقم على أي من هذه الأمور، بل على حب الله فقط، وإن الله كره جميع الأمور الأخرى.
ماذا؟! كره الله جميع ما أمر به اليهود بالغ العناية مفصلا تفصيلا عجيبا! أليس أصح من هذا أن يقال إن شريعة موسى قامت على المحبة والعبادة؟ قد ينطوي رد كل شيء إلى حب الله على ما هو أقل من مقت كل ينسيني لقريبه الموليني. (21)
وأهم شيء للحياة هو اختيار مهنة، والحكم في ذلك للنصيب، والعادة هي التي تصنع البنائين والجنود المسقفين.
وما الذي يستطيع أن يقضي في أمر الجنود والبنائين وجميع العمال الميكانيين إن لم يكن ما يسمى النصيب والعادة؟ ولا يوجد غير المهن القائمة على العبقرية ما يعين تعيينا تلقائيا، وأما المهن التي يستطيع جميع الناس أن يقوموا بها فإن من الطبيعي جدا، ومن المعقول جدا، أن تحكم العادة في أمرها. (22)
وليفحص كل واحد فكرة، فهو يجده مشغولا بالماضي والمستقبل دائما، ونحن لا نكاد نفكر في الحاضر مطلقا، ونحن إذا ما فكرنا فيه؛ فذلك لكي نقتبس من نوره ما نحكم به في أمر المستقبل، فليس الحاضر غرضنا مطلقا، ونعد الماضي والحاضر وسيلتين لنا، والمستقبل وحده هو هدفنا.
ولنشكر، مع الابتعاد عن التوجع، لصانع الطبيعة إنعامه علينا بهذه الغريزة التي تمضي بنا إلى المستقبل بلا انقطاع، فأثمن كنز لدى الإنسان هو هذا الأمل الذي يلطف أحزاننا، والذي يصور لنا ملاذ المستقبل في موكب الملاذ الحاضرة، ولو كان الناس من الشقاء ما لا يبالون معه بغير الحاضر ما زرعوا مطلقا، وما بنوا مطلقا، وما غرسوا مطلقا، وما استعدوا لشيء مطلقا، ولأعوزهم كل شيء بين هذا التمتع الخادع، وهل كان يمكن ذكيا مثل مسيو بسكال أن يبدي مثل ذلك الرأي الفاسد في مكان عام؟ فالطبيعة قضت بأن يتمتع كل إنسان بالحاضر، وذلك بأن يتغذى وينسل أولادا وأن يصغي إلى الأصوات العذبة وأن يعمل ملكة التفكير والإحساس فيه، فهو إذا ما قام بهذه الأحوال فكر في أمر الغد في أثناء قيامه بهذه غالبا، وإلا هلك اليوم بؤسا. (23)
ولكنني عندما نظرت إلى ذلك عن كثب، وجدت أن ابتعاد الناس عن الراحة والسكون إلى أنفسهم ناشئ عن سبب فعال؛ أي عن الشقاء الطبيعي الملازم لضعفنا وزوالنا وبؤسنا البالغ الذي لا يستطيع شيء أن يسلينا عنه لو لم يوجد ما يمنعنا من التفكير فيه، ولو قصر أمرنا على غير رؤية أنفسنا.
لا تجد أي معنى لكلمة «غير رؤية أنفسنا.»
وما يكون الإنسان الذي لا يسعى مطلقا، والذي يفترض إنعام نظره في نفسه؟ لا أقتصر على القول بأن هذا الإنسان يكون غبيا غير نافع للمجتمع، بل أقول: إن هذا الإنسان لا يمكن أن يكون، وإلا ففيم ينعم النظر؟ أفي جسمه ورجليه ويديه وحواسه الخمس؟ هو إما أن يكون غبيا وإما أن ينتفع بجميع هذا، وهل يقف عند تأمل ملكة تفكيره؟ هو إما ألا يفكر في شيء، وإما أن يفكر في الآراء التي كانت قد أتته، وإما أن يؤلف آراء جديدة، والواقع أنه لا يمكن أن ينال أفكارا من غير الخارج، وهكذا ترى باله مشغولا بحواسه أو بآرائه بحكم الضرورة إذن، وهكذا تراه خارج نفسه أو غبيا إذن.
ونعود فنقول: إن مما يتعذر على الطبيعة البشرية أن يبقى الإنسان غارقا في هذا الخيل الخيالي، وإن من المحال أن يفكر فيه، وإن من الحماقة أن يدعي ذلك، فالإنسان ولد ليعمل، وهو في هذا كالنار التي تميل إلى الصعود، والحجر الذي يميل إلى السقوط، ولا فرق بين عدم العمل وعدم الوجود نظرا إلى الإنسان، والفرق كل الفرق بين الأشاغيل اللطيفة والأشاغيل الصاخبة، وبين الأشاغيل الخطرة والأشاغيل النافعة. (24)
وللناس غريزة خفية تحملهم على طلب التسلية والشغل في الخارج، وتأتيهم من شعورهم ببؤسهم الدائم، وللناس غريزة خفية أخرى تبقى من طبيعتهم الأولى، فيعرفون بها أن السعادة ليست في غير الراحة بالحقيقة.
وبما أن هذه الغريزة الخفية هي أصل المجتمع الأول وأساسه اللازم؛ فإنها تصدر عن كرم الله كما هو الأحرى، وهي وسيلة سعادتنا أكثر من أن تكون شعورا ببؤسنا، ولا أعرف ماذا كان آباؤنا الأولون يفعلون في جنة الدنيا، ولكن إذا كان كل واحد منهم لم يفكر في غير نفسه؛ فإن حياة الجنس البشري تكون قد عرضت للخطر، أو ليس من غير المعقول أن يذهب إلى أنهم كانوا ذوي حواس كاملة؛ أي وسائل عمل تامة، للتأمل فقط؟ أو ليس من المضحك أن تستطيع رءوس مفكرة أن تتصور أن الكسل عنوان للعظمة وأن العمل تنزيل لطبيعتنا؟ (25)
ولذا فإن سينياس عندما كان يقول لبروس، الذي كان ناويا هو وأصدقاؤه أن يتمتع بالراحة بعد فتح قسم كبير من العالم، إن الأفضل أن يعجل سعادته بنفسه متمتعا بهذه الراحة منذ ذلك الحين من غير أن يطلبها بمشاق كثيرة، كان يقدم إليه نصيحة تلاقي مصاعب كبيرة، ولم تكن قط أكثر صوابا مما عقد هذا الطامح الشاب نيته عليه، فهذا وذاك كانا يفترضان إمكان رضى الإنسان عن نفسه وقناعته بأطايبه الحاضرة، وذلك من غير ملء فراغ فؤاده بآمال خيالية، وهذا خطأ، فما كان بروس ليستطيع أن يكون سعيدا قبل فتح العالم، ولا بعده.
إن مثل سينياس حسن في أهاجي دبريئو، لا في كتاب فلسفي، فالملك العاقل يمكن أن يكون سعيدا في منزله، وما يقدم إلينا عن بروس مجنونا لا يستدل به على بقية الناس. (26)
ويجب أن يعترف بأن الإنسان هو من الشقاء ما يسأم معه، حتى عند عدم وجود سبب غريب للسأم، وذلك بفعل وضعه الخاص.
فالإنسان - على العكس - كثير السعادة من هذه الناحية، وترانا مدينين كثيرا لصانع الطبيعة الذي أناط السأم بالسكون؛ كيما يلزمنا أن نكون نافعين للقريب ولأنفسنا. (27)
ومن أين أتى كون هذا الرجل الذي فقد ابنه الوحيد منذ قليل، والذي أثقلته القضايا والخصومات، كثير الاضطراب في هذا الصباح، فعاد الآن لا يفكر في شيء من هذا؟ لا تعجبوا من ذلك، فهو منهمك في مشاهدته أين يمر أيل تتعقبه كلابه بهمة منذ ست ساعات، وليس أكثر من هذا ما ينتظر من الإنسان مهما كان مملوءا كربا، فإذا ما أمكن جعله يلهو بعض اللهو كان سعيدا في أثناء ذلك الوقت.
وحسنا ما يصنع هذا الإنسان، فاللهو أشفى للألم من الكينا للحمى، فلا نلم الطبيعة على هذا مطلقا، والطبيعة مستعدة لمساعدتنا دائما. (28)
ولنتصور عددا من الناس مقرنين في القيود، وأن هؤلاء الناس محكوم عليهم بالموت، فيذبح بعضهم في كل يوم على مرأى من بعض، فيبصر الباقون وضعهم الخاص من خلال وضع أمثالهم، وهم - إذ ينظر بعضهم إلى بعض مع الألم وبلا أمل - ينتظرون دورهم، وهذه هي صورة حال الناس.
لا مراء في أن هذه المقارنة ليست صائبة، فالتعساء المقيدون الذين يذبح الواحد منهم بعد الآخر تعساء، لا لأنهم يألمون فقط؛ بل لأنهم يحسون ما لا يألم منه الآخرون أيضا، وليس المصير الطبيعي للإنسان أن يقيد، ولا أن يذبح وإنما صنع الناس، كما صنع الحيوان والنبات؛ ليكثروا ويعيشوا حينا من الزمن، ولينسلوا أمثالهم ويموتوا، أجل، يمكن إظهار الإنسان في الأهجوة من الناحية السيئة كما يراد، ولكن إذا ما نظر إلى عقله اعترف بأنه أكمل جميع الحيوانات وأكثرها سعادة وأطولها عمرا؛ ولذا فإن علينا أن نهنئ أنفسنا معجبين بسعادتنا وطول عمرنا بدلا من أن نتوجع من العجب من تعس الحياة وقصرها؛ ولذا فإنني إذا ما نظرت في الأمر مثل فيلسوف أقدمت على القول بأنه يوجد كثير من الصلف والتهور في الزعم بأنه يجب أن نكون بطبيعتنا أحسن مما نحن عليه. (29)
وقد اضطهد الحكماء الذين قالوا بين الوثنيين بعدم وجود إله غير الله، كما مقت اليهود وأبغض النصارى أكثر من اليهود.
أجل، كانوا قد اضطهدوا أحيانا، وذلك كما يحدث لو ظهر رجل ونادى بعبادة إله على وجه يخالف العبادة المتبعة. ولم يحكم على سقراط لأنه قال: «لا يوجد غير إله واحد» بل لأنه عارض عبادة البلد الخارجية، ولأنه خلق لنفسه أعداء أشداء في وقت غير مناسب جدا. وأما اليهود فقد مقتوا، لا لأنهم كانوا لا يؤمنون بغير إله واحد؛ بل لأنهم كانوا يمقتون الأمم الأخرى مقت سخرية، ولأنهم كانوا برابرة يقتلون أعداءهم المغلوبين بلا رحمة، ولأن هذا الشعب اللئيم الخرافي الجاهل العاطل من المهن والتجارة كان يزدري أكثر الأمم تهذيبا. وأما النصارى فقد أبغضهم الوثنيون؛ لأنهم كانوا يهدفون إلى هدم الدين والإمبراطورية اللذين غلبوهما في آخر الأمر وهم في هذا كالبروتستان الذين غدوا سادة بلاد مقتوا فيها واضطهدوا وذبحوا زمنا طويلا. (30)
وعيوب مونتن كبيرة، فهو زاخر بالألفاظ البذيئة، ولا قيمة لهذا، وما يساوره من مشاعر حول القاتل القاصد، وحول الإعدام، فظيع.
يتكلم مونتن مثل فيلسوف لا مثل نصراني، وهو يقول ما للقتل قصدا وما عليه. ونسأل من الناحية الفلسفية: أي سوء يصيب به المجتمع رجل يتركه بعد أن عاد غير قادر على خدمته؟ إذا ما ظهر شائب مصاب بالحصاة، وكان يعاني آلاما لا تطاق، قيل له: «إذا لم تبضع مت، وإذا ما بضعت أمكن أن تهذي وتريل
1
وتسقم عاما، فتكون عبئا على نفسك وعلى غيرك». فأفترض أن هذا الرجل الطيب القلب يزمع إذ ذاك، ألا يعود عبئا على أحد، وهذه هي الحال التي يعرضها مونتن. (31)
ما عدد النجوم التي اكتشفتها النظارات بعد أن كانت مجهولة لدى فلاسفتنا في غابر الأزمان؟ كان يحمل على الكتاب المقدس لوجود عدد كبير من الكواكب في مواضع كثيرة منه، وكان يقال إنه لا يوجد منها غير 1022، ونعرف هذا.
من الثابت أن الكتاب المقدس، في موضوع الفزياء، تساوق والأفكار الدارجة دائما، ومن ذلك افترض سكون الأرض وأن الشمس تسير، إلخ. ولم ينشأ قوله إن الكواكب تفوق الحصر عن تدقيق فلكي، بل عن مطابقة للآراء العامية، والواقع أن عيوننا - وإن كانت لا تكتشف من الكواكب غير 1022 تقريبا - تبهر حينما تنظر إلى السماء محدقة، فتعتقد أنها ترى من النجوم ما لا يحصيه عد؛ ولذا فإن الكتاب المقدس يخاطبنا وفق هذا المبتسر
2
العامي، وذلك أننا لم نعطه ليصنع منا علماء فزياء، كما أن من الواضح جدا أن الرب لم يوح إلى حبفوق وباروك وميخا بأن الإنكليزي فلمستد سيضع في جدوله أكثر من سبعة آلاف نجم شاهدها بالمرقب. (32)
وهل من الشجاعة أن يذهب إنسان ضعيف محتضر؛ ليجبه إلها قادرا أزليا؟
لم يحدث هذا قط: ولا يمكن الرجل أن يقول: «أومن بإله وأجرؤ عليه» إلا في أثناء هذيان شديد. (33)
أومن، مختارا، بالتواريخ التي يتناحر شهودها.
ليست الصعوبة في معرفتنا فقط؛ هل نصدق شهودا يموتون تأييدا لشهادتهم كما يصنع كثير من المتعصبين، فالصعوبة أيضا في معرفتنا: هل مات هؤلاء الشهود في هذا السبيل بالحقيقة، وهل حفظت شهاداتهم، وهل أقاموا بالبلاد التي روي أنهم ماتوا فيها، ولم لم يقل يوسف، الذي ولد أيام موت يسوع، والعدو لهيرودس، والقليل الارتباط في اليهودية، كلمة عن جميع هذا؟ هذا ما كشف عنه مسيو بسكال مع التوفيق، وهذا ما صنعه كثير من بلغاء الكتاب، بعد ذلك. (34)
وللعلوم طرفان متماسان، فالطرف الأول هو الجهل الطبيعي الخالص الذي يكون عليه جميع الناس حين يولدون، والطرف الثاني هو ما يصل إليه ذوو النفوس العظيمة الذين يجولون في كل ما يمكن أن يعرفه الناس، فيجدون أنهم لا يعرفون شيئا، والذين يلاقون هذا الجهل الذي كانوا قد انطلقوا منه.
إن هذه الفكرة سفسطة صرفة، فالبطل يقوم على كلمة «الجهل»، التي تعد ذات معنيين مختلفين. أجل، إن الذي لا يعرف القراءة ولا الكتابة جاهل، ولكن الرياضي، الذي يجهل مبادئ الطبيعة الخفية، ليس عند نقطة الجهل التي انطلق منها عندما أخذ يتعلم القراءة. أجل، كان مستر نيوتن لا يعرف سبب تحريك الإنسان لذراعه عندما يريد، ولكن هذا لم يمنع من كونه عالما بالنسبة إلى البقية، ويحسب الذي لا يعرف العبرية، والذي يعرف اللاتينية، عالما إذا ما قيس بالذي لا يعرف غير الفرنسية. (35)
ولا تعني قدرة الإنسان على الاستمتاع باللهو كونه سعيدا؛ وذلك لأنه يأتي من الخارج ومن موضع آخر، وهكذا فهو تابع؛ ومن ثم عرضة ليكدر بألف حادث، يجعل الأحزان أمرا لا مفر منه.
إن صاحب اللذة سعيد حاليا، ولا يمكن أن تأتي هذه اللذة من غير الخارج، ولا يمكننا أن نكون ذوي أحاسيس أو أفكار بغير الأشياء الخارجية، كما أننا لا نستطيع أن نغذي جسمنا إلا بإدخال مواد غريبة تتحول إلى مادتنا . (36)
ويتهم أقصى الذكاء بالجنون كما يتهم أقصى العيب، ولا شيء يعد صالحا غير الاعتدال.
ليس أقصى الذكاء؛ بل أقصى الخفة والبعبعة، ما يتهم بالجنون ، فأقصى الذكاء هو أقصى السداد، وأقصى الدقة وأقصى البسطة المناقضة للجنون على خط مستقيم.
ويعد نقص الذكاء الأقصى نقصا في الإدراك؛ أي خلوا من الأفكار، وليس هذا جنونا مطلقا، بل غباوة، والجنون هو اختلال في الأعضاء يري أشياء كثيرة بسرعة، أو يقف الخيال حيال شيء واحد مع كثير من الحصر والصولة؛ ولذا فليس الاعتدال هو ما يستطاب، بل الابتعاد عن العيبين، وهذا ما يسمى «بين بين»، لا «اعتدالا». (37)
وإذا كنا في حال سعيدة حقا؛ فإنه لا ينبغي لنا أن ننصرف عن التفكير فيها.
تقضي حالنا بالتفكير، ضبطا في الأمور الخارجية، التي نكون على صلة لازمة بها، ومن الخطأ أن يذهب إلى إمكان صرف الإنسان عن التفكير في الحال الإنسانية، وذلك أن الإنسان، مهما كان الشيء الذي يعمل فيه ذهنه، يعمل هذا الذهن في الشيء المرتبط، في الحال البشرية ارتباطا ضروريا، ونعود فنقول: إن تفكير الإنسان في نفسه تفكيرا مجردا من الأمور الطبيعية يعني عدم التفكير في شيء، فليحترز من هذا.
وإنا، مع بعدنا من منع الإنسان من التفكير في حاله، لا نزوده بغير ملاذ حاله، ويخاطب العالم بالصيت والعلم، ويخاطب الأمير بكل ما له صلة بعظمته، ويخاطب كل إنسان باللذة. (38)
وللأكابر والأصاغر عين النوائب وعين الكروب وعين الآلام، بيد أن الأولين في أعلى الدولاب وأن الآخرين قريبون من المركز فيكونون - على هذا الوجه - أقل اهتزارا بعين الحركات.
من الخطأ أن يقال إن الأصاغر أقل اهتزارا من الأكابر، فعلى العكس ترى أن يأسهم أكثر شدة؛ لأنهم أقل وسائل، فانظر إلى مائة شخص يتذابحون بلندن تجد تسعين من المائة من العوام وواحدا من المائة من الخواص، فالمقارنة بالدولاب لبقة فاسدة. (39)
لا يعلم الناس أن يكونوا صالحين، وهم يعلمون كل ما بقي، ومع ذلك فإنهم لا يدعون بشيء ادعاءهم بذلك، وهكذا فإنهم لا يدعون من المعرفة بغير الشيء الوحيد الذي لا يتعلمونه مطلقا.
يعلم الناس أن يكونوا صالحين، ولولا هذا ما انتهى إلى الصلاح غير القليلين، فدعوا ابنكم يأخذ في صباه كل ما تصل يده إليه تجدوه من قطاع الطرق في الخامسة عشرة من سنيه، وامتدحوا قوله الكذب يصبح شاهدا كاذبا، وداروا ميله الجنسي يكن فاجرا لا ريب، فالناس يعلمون كل شيء، يعلمون الفضيلة والدين. (40)
ويا للمشروع السخيف الذي أخذ مونتن على نفسه أن يرسمه! وليس هذا أمرا عابرا وخلافا لمبادئه، كما يمكن أن يزل كل إنسان، بل وفق مبادئه الخاصة ووفق الرسم الأصلي الأول؛ وذلك لأن قول الحماقات اتفاقا وعن ضعف شر عادي، وأما قولها قصدا فأمر لا يطاق، كقول تلك.
يا للمشروع الفاتن الذي أخذ مونتن على نفسه أن يرسمه كما صنع! وذلك أنه رسم الطبيعة البشرية، ويا لمشروع نيكول وملبرانش وبسكال الهزيل في الاستخفاف بمونتن! (41)
وعندما أنعمت النظر في أمر الركون إلى كثير من الدجالين الذين يقولون إن لديهم أدوية، فيتصرفون حتى في حياة الإنسان غالبا ظهر لي أن علة هذا الحقيقية هو وجود أدوية صحيحة؛ وذلك لأن من غير الممكن وجود أباطيل كثيرة يركن إليها كثيرا من غير أن يوجد بينها ما هو صحيح، ولو حدث أن خلت منها، وكانت جميع الأمراض مستعصية لكان من المحال أن يعن للناس إمكان إعطائهم منها، وذلك إلى إمكان ركون آخرين كثيرين إلى من يتبجحون بحيازتهم لها، وكذلك فإن الرجل الذي يتبجح بأنه يحول دون الموت لا يصدقه أحد؛ وذلك لعدم وجود مثال على ذلك. ولكن بما أنه يوجد مقدار من الأدوية التي وجد أنها صحيحة بشهادة أعاظم الرجال، فإن ركون الناس قد ضمن بهذا، وذلك بما أن الأمر لا يمكن أن ينكر على العموم (ما دام يوجد من المعلومات الخاصة ما هو حقيقي)، فإن الجمهور، الذي لا يستطيع أن يميز أي هذه المعلولات هو الصحيح، يعتقدها كلها، وكذلك فإن الذي يحمل على اعتقاد كثير من معلولات القمر الفاسدة هو وجود ما هو صحيح منها، وذلك كمد البحر.
وهكذا فإن من الجلي أيضا - كما يبدو لي - أن المعجزات الباطلة الكثيرة والوحي الكثير الفاسد، وأضرار السحر الكثيرة لم تكن إلا لوجود ما هو صحيح منها.
يلوح لي أن الطبيعة البشرية لا تحتاج إلى الصحيح حتى تقع في الخطأ، فقد عزي ألف تأثير زائف إلى القمر قبل أن تتصور أقل صلة حقيقية بمد البحر، وقد صدق أول رجل مريض أول طبيب جاهل، ولم ير أحد سعالى ولا ساحرا يجول في الليل متنكرا بهيئة ذئب، وترى كثيرا من الناس قد اعتقدوا وجود هؤلاء، ولم ير أحد تحول المعادن. وترى كثيرا من الناس قد أفلسوا بسبب اعتمادهم على الإكسير، وهل كان الرومان والأغارقة وجميع الوثنيين لا يؤمنون بالمعجزات الكاذبة التي كانوا غارقين فيها، إذن، إلا لأنهم شاهدوا الصحيح منها؟ (42)
وينظم الميناء من يكونون في المركب، ولكن أين نجد هذه النقطة في الأخلاق؟
نجدها في المبدأ الآتي الذي قالت به جميع الأمم، وهو:
لا تعامل الناس بما لا تحب أن يعاملوك به. (43)
وأولو البأس لا يرون الحياة بلا سلاح، وهم يفضلون الموت على السلم، والآخرون يفضلون الموت على الحرب، وكل رأي يفضل على الحياة، التي يظهر أن حبها بالغ القوة طبيعي جدا.
هذا ما قاله تاسيت عن الكتلونيين، ولكن لا يوجد من قيل عنهم أو من يمكن أن يقال عنهم: «إنهم يفضلون الموت على الحرب.» (44)
وكلما وجد كثير ذكاء وجد مبدعون، ولا يجد السوقة فرقا بين الناس.
حقا إن المبدعين قليلون، والجميع - تقريبا - يسيرون ويفكرون ويشعرون، بفعل العادة والتربية، ولا شيء أندر من أن تسير نفس في طريق جديدة، ولكن كل واحد بين هذا الجمع من الآدميين الذين يسيرون معا ذو فروق صغيرة في المشية تنتبه لها الأبصار الدقيقة. (45)
ولذا توجد نفسان: نفس تنفذ نفوذا قويا عميقا في نتائج المبادئ، وهذه هي نفس السداد، ونفس تدرك كثيرا من المبادئ من غير أن تخلط بينها، وهذه هي النفس الهندسية.
أعتقد أن العادة تذهب اليوم إلى تسمية روح التدقيق والبرهنة بالروح الهندسية. (46)
ويسهل احتمال الموت من غير أن يفكر فيه أكثر من فكرة الموت بلا خطر.
لا يمكن أن يقال أن الإنسان يحتمل الموت بسهولة أو بصعوبة إذا لم يفكر فيه قط، فالذي لا يحس شيئا لا يحتمل شيئا. (47)
ونفترض أن جميع الناس يدركون، ويحسون، على نمط واحد، ما يظهر لهم من الأشياء، ولكننا نفترض هذا بلا داع؛ وذلك لأنه لا يوجد لدينا أي دليل على ذلك، وأرى جيدا أن عين الكلمات تطبق على عين الأحوال، فإذا ما رأى رجلان الثلج مثلا عبر كل واحد منهما عن منظر عين الشيء بعين الكلمات، وذلك بأن يقول هذا وذاك إنه أبيض. فمن هذا الاتفاق في التطبيق يستنبط افتراض قوي لاتفاق الفكر، بيد أن هذا ليس مقنعا على الإطلاق، وإن وجد مجال للرهان على الناحية الإيجابية.
وليس اللون الأبيض ما كان يجب أن يؤتى به برهانا، فالأبيض الذي هو اجتماع جميع الأشعة، يبدو ساطعا لجميع الناس، وهو يبهر بعض الشيء على مر الأيام، ويكون له ذات الأثر في جميع العيون، ولكن من الممكن أن يقال إن من المحتمل ألا تدرك الألوان الأخرى من قبل جميع العيون على ذات الوجه. (48)
يقنع جميع عقلنا بالإذعان للإحساس.
فعقلنا يقنع بالإذعان للإحساس من ناحية الذوق، لا من ناحية العقل. (49)
والذين يحكمون في أمر كتاب وفق قاعدة يكونون تجاه الآخرين كالذين لديهم ساعة تجاه من ليست لديهم ساعة مطلقا، فأحدهم يقول: «مضت على وجودنا هنا ساعتان.» ويقول الآخر: «لم يمض غير ثلاثة أرباع الساعة.» وأنظر إلى ساعتي، فأقول لأحدهما: «أنت تسأم»، وأقول للآخر: لا يجري الزمن عندك مطلقا.
فالذوق في آثار الذوق، كالموسيقا والشعر والتصوير، هو الذي يقوم مقام الساعة، والذي لا يحكم فيها بغير القواعد يكون حكمه سيئا. (50)
ويلوح لي أن قيصر كان من الكبر ما لا يذهب ليتلهى معه بفتح العالم، فألهوة مثل هذه كانت صالحة للإسكندر الذي كان من الشباب ما يصعب معه صرفه عن قصده، وقد كان قيصرا أكثر رشدا.
يخيل للإنسان عادة أن الإسكندر وقيصر قد خرجا من بلادهما قاصدين فتح العالم، وليس الأمر هكذا مطلقا، فالإسكندر قد خلف فليب في رئاسة اليونان وفوض إليه أن يغير انتقاما للأغارقة من إهانات ملك الفرس ، فلما هزم العدو المشترك واصل فتوحه حتى الهند؛ وذلك لأن مملكة دارا كانت تمتد حتى الهند، شأن دوك مارلبورو الذي كان يصل إلى ليون لولا المريشال فيلار.
وأما قيصر فقد كان من أكابر الجمهورية، وقد ساء ما بينه وبين يونبي، كما وقع بين الينسينيين والمولينيين، فتوقف الأمر على من يقطع دابره، وتقع المعركة حيث لم يقتل أكثر من عشرة آلاف رجل، ويتقرر كل أمر.
ومع ذلك فإن رأي مسيو بسكال فاسد من كل ناحية على ما يحتمل، فكان لا بد من رشد قيصر لتبين المكايد الكثيرة، ومما يثير الحيرة أن كان يعدل من هو في مثل سن الإسكندر عن اللهو كيما يقوم بحرب شاقة جدا. (51)
ومن المضحك أن يوجد في العالم أناس أعرضوا عن جميع شرائع الرب والطبيعة، فوضعوا لأنفسهم منها ما يطيعونه تماما، كاللصوص مثلا ... إلخ.
هذا أيضا أكثر فائدة في إنعام النظر من أن يكون مضحكا؛ وذلك لأن هذا يثبت عدم استطاعة مجتمع أن يبقى قائما يوما واحدا بلا قواعد. (52)
ليس الإنسان ملكا ولا حيوانا، ومن الشقاء أن يكون حيوانا من يريد أن يكون ملكا.
ومن يرد أن يقضي على الأهواء بدلا من تنظيمها يرد أن يكون ملكا. (53)
ولا يحاول الحصان أن يجعل قرينه يعجب به مطلقا، ويرى بين الحصن ضرب من التنافس في السباق، ولكن بلا نتيجة؛ وذلك لأن أثقلها وأسوأها تقويما لا يتخلى، وهو في الإصطبل، عن شيء من جلبانه لهذا السبب، والأمر غير هذا بين الناس، فلا تقنع فضيلتهم بنفسها، وهم لا يقنعون إذا لم يستغلوها حيال الآخرين.
وكذلك الإنسان السيئ التقويم لا يتنزل عن خبزه للآخر، فالأقوى ينزعه من الأضعف، والكبار بين الحيوان - كما بين الإنسان - تأكل الصغار. (54)
ولو أخذ الإنسان يدرس نفسه بنفسه لأبصر مقدار عجزه عن ترك ذلك، وكيف يقع علم الجزء بالكل؟ قد يتطلع - على الأقل - إلى معرفة الأجزاء التي يوجد بينه وبينها تناسب، ولكنه يوجد بين أجزاء العالم من الصلة والتسلسل ما يتعذر معه معرفة أحدها من غير معرفة الآخر ومن غير معرفة الجميع.
لا ينبغي تحويل الإنسان عن طلب ما هو نافع له؛ لأنه لا يستطيع أن يعرف الجميع.
لا تستطيع أن تكافح حديد البصر بالعين
ولا تستخف بالأرمد حين يحوم حولك.
ونعرف الحقائق كثيرا، وقد وجدنا كثيرا من الاختراعات النافعة، ولنسل عدم معرفتنا ما يمكن أن يكون بين العنكبوت وحلقة زحل من صلات، ولنداوم على البحث فيما هو في متناولنا. (55)
وإذا ما وقعت صاعقة على الأماكن المنخفضة فإن البراهين تعوز الشعراء ومن لا يعرفون غير البرهنة على أمور هذه الطبيعة.
ليس التشبيه برهانا في الشعر أو النثر، وإنما يستخدم للتجميل في الشعر، وينفع في النثر للإبانة، وجعل الأشياء محسوسة أكثر مما هي عليه، فالشعراء - الذين شبهوا مصائب الأكابر بالصاعقة التي تخبط الجبال - يأتون بتشبيهات معاكسة إذا ما حدث العكس. (56)
وتركيب الروح والبدن هذا هو الذي جعل جميع الفلاسفة تقريبا، يخلطون بين تصور الأشياء، فيعزون إلى الأبدان ما ليس خاصا بغير الأرواح، ويعزون إلى الأرواح ما لا يلائم غير الأبدان.
لو كنا نعرف ما الروح لأمكننا أن نتوجع من عزو الفلاسفة إليه ما هو غير خاص به، ولكننا لا ندري ما الروح ولا البدن، فليس لدينا أي فكر عن أحدهما، وليس لدينا غير أفكار ناقصة جدا عن الآخر؛ ولذا فإننا لا نعرف حدودهما. (57)
وكما أنه يقال جمال شعري يجب أن يقال جمال هندسي وجمال دوائي، ومع ذلك فإن هذا لا يقال مطلقا؛ وسبب هذا أن موضوع علم الهندسة معروف جيدا، وأن موضوع علم الطب معروف جيدا. وأما الظرافة التي هي موضوع الشعر، فلا يعرف الشيء الذي تقوم عليه، ولا يعرف النموذج الطبيعي الذي يجب أن يقلد، فاخترع لعدم هذه المعرفة بعض العبارات الغريبة، فقيل: العصر الذهبي، نادرة زماننا، الفوز المقدر، النجم الجميل، إلخ. وتدعى هذه الرطانة بالجمال الشعري، ولكن الذي يتصور امرأة لابسة وفق هذا النموذج يبصر آنسة أنيقة مستورة بالمرايا وبسلاسل من نحاس أصفر.
وهذا خطأ بالغ، فلا ينبغي أن يقال: «جمال هندسي» و«جمال دوائي» وذلك لأن القضية والمسهل لا يؤثران في الحواس تأثيرا مقبولا مطلقا؛ ولأن اسم «الجمال» لا يطلق على غير الأشياء التي تفتن الحواس، كالموسيقا والتصوير والبيان والشعر وفن البناء المحكم، إلخ.
والسبب الذي يأتي به مسيو بسكال فاسد، فيعرف جيدا ما يقوم عليه موضوع الشعر، وهو يقوم على الوصف بلباقة ونقاء ودقة وانسجام، فالشعر بيان منسجم، وكان مسيو بسكال من قلة الذوق - كما يرى - ما قال معه إن «الفوز المقدر، والنجم الجميل» وغيرهما من الغباوات معدودة من الروائع الشعرية، وكان الوضع يقضي بأن يكون ناشرو هذه «الأفكار» ممن لهم إلمام بالآداب الجميلة؛ لكيلا يطبعوا تأملا غير خليق بكاتبه الشهير.
ولا أرسل إليكم ملاحظاتي الأخرى عن أفكار مسيو بسكال لما توجبه من مناقشات طويلة جدا، وما تقدم يكفي لتبين بعض الأغاليط الناشئة عن غفلة هذا العبقري الكبير، وهو يعد سلوانا لرجل محدود الذكاء مثلي في قناعته بأن أعاظم الرجال يخدعون كما يخدع العوام.
ناپیژندل شوی مخ