105

لیکونه اخوان الصفاء او دوستانو د وفا

رسائل اخوان الصفاء و خلان الوفاء

ژانرونه

وذكروا أن واحدا منهم اجتاز يوما في بعض سياحته براهب في صومعة له على رأس تل، فوقف بإزائه فناداه: يا راهب، فأخرج رأسه إليه من صومعته، وقال: من هذا؟ قال: رجل من أبناء جنسك الآدميين، قال: فما تريد؟ قال: كيف الطريق إلى الله؟ قال الراهب: في خلاف الهوى، قال له: فما خير الزاد؟ قال: التقوى، قال: لم تباعدت عن الناس وتحصنت في هذه الصومعة؟ قال: مخافة على قلبي من فتنتهم وحذرا على عقلي الحيرة من سوء عشرتهم، فطلبت راحة نفسي من مقاساة مداراتهم وقبيح أفعالهم، وجعلت معاملتي مع ربي فاسترحت منهم.

قال: فأخبرني كيف وجدتهم؟ قال: أسوأ قوم وأشر أصحاب، ففارقتهم، قال: فكيف وجدتم يا معشر أتباع المسيح معاملتكم مع ربكم؟ فاصدقني القول ودع عنك تزويق الكلام وزخارف الألفاظ، فسكت الراهب متفكرا، ثم قال: أسوأ معاملة تكون، قال له: وكيف ذلك؟ قال: لأنه أمرنا بكد الأبدان وجهد النفوس وصيام النهار وقيام الليل وترك الشهوات المركوزة في الجبلة ومخالفة الهوى الغالب ومجاهدة العدو المتسلط والرضا بخشونة العيش والصبر على الشدائد والبلوى، ومع هذه كلها جعل الأجر نسيئه في الآخرة بعد الموت مع بعد الطريق وكثرة الشكوك والحيرة، فهذه حالتنا في معاملتنا مع ربنا، فخبرني عنكم يا معشر أتباع أحمد، كيف وجدتم معاملتكم مع ربكم؟ قال: خير معاملة تكون وأحسنها.

قال الراهب: صفها لي، قال له: إنه أعطانا سلفا كثيرة ومواهب جزيلة لا تحصى فنون أنواعها من النعم والإحسان والأفضال، فنحن ليلنا ونهارنا نتقلب في أنواع من نعمه وفنون من آلائه ما بين سالف معتاد وآنف مستفاد وخالف منقاد، قال الراهب: كيف خصصتم بهذه المعاملة دون غيركم والرب واحد؟ قال: أما النعمة والإحسان والأفضال فعموم للجميع، قد عمتنا كلنا، ولكن نحن خصصنا بحسن الاعتقاد وصحة الرأي والإقرار بالحق والإيمان والتسليم، فوفقنا لمعرفة الحقائق لما أعطينا بالانقياد والإيمان والتسليم وصدق المعاملة من محاسبة النفس وملازمة الطريق، وتفقد تصاريف الأحوال الطارئة من الغيب ومراعاة القلب بما يرد عليه من الخواطر والوحي والإلهام ساعة بساعة.

قال الراهب: زدني في البيان، قال: نعم، اسمع ما أقوله وافهمه، واعقل ما تفهم. إن الله - جل ثناؤه - لما خلق الإنسان من طين ولم يكن شيئا مذكورا وجعل نسله من سلالة ماء مهين، ثم جعله نطفة في قرار مكين، ثم قلبه حالا بعد حال تسعة أشهر إلى أن أخرجه من هناك خلق سويا بنية صحيحة وصورة تامة وقامة منتصبة وحواس سالمة، ثم زوده من هناك لبنا لذيذا خالصا سائغا لذة للشاربين حولين كاملين، ثم رباه وأنشأه وأنماه بفنون من لطفه وغرائب من حكمته إلى أن بلغه أشده واستوى ثم آتاه حكما وعلما وقلبا ذكيا وسمعا دقيقا وبصرا حادا وذوقا لذيذا وشما طيبا ولمسا لينا ولسانا ناطقا وعقلا صحيحا وفهما جيدا وذهنا صافيا وتمييزا وفكرا وروية ومشيئة واختيارا وجوارح طائعة ويدين صانعتين ورجلين ساعيتين.

ثم علمه الفصاحة والبيان والخط بالقلم والصنائع والحرف والزراعة والبيع والتجارة والتصرف في المعاش وطلب وجوه المنافع واتخاذ البنيان وطلب العز والسلطان والأمر والرياسة والتدبير والسياسة، وسخر له ما في الأرض جميعا من الحيوان والنبات والمعادن، فغدا متحكما عليها تحكم الأرباب ومتصرفا فيها تصرف الملاك، متمتعا بها إلى حين.

ثم أراد الله أن يزيده من إحسانه وفضله وجوده وإنعامه شيئا آخر أشرف وأجل مما عددنا وذكرنا، وهو ما أكرم الله به ملائكته وخالص عباده وأهل جنته من النعيم الذي لا يشوبه نقص ولا تنغيص؛ إذ كان نعيم الدنيا مشوبا بالبؤس ولذاتها بالآلام وسرورها بالحزن وراحتها بالنصب وعزتها بالذل وصفوها بالكدر وغناها بالفقر وصحتها بالسقم وأهلها فيها معذبون في صورة المنعمين، مغتمون في صورة المغبوطين، مغرورون في صورة الواثقين، مهانون في صورة المكرمين، وجلون غير مطمئنين، خائفون غير آمنين.

مترددون بين الأضداد من نور وظلمة، وليل ونهار وشتاء وصيف وحر وبرد ورطب ويابس ونوم ويقظة وجوع وشبع وعطش وري وراحة وتعب وشباب وهرم وقوة وضعف وحياة وموت، وما شاكل ذلك من الأمور التي أهل الدنيا وأبناؤها مترددون بينها، متحيرون فيها، مدفوعون إليها.

فأراد ربك أن يخلصهم من هذه الآلام المشوبة باللذات، وينقلهم منها إلى نعيم لا بؤس فيه ، ولذة لا يشوبها ألم، وسرور بلا حزن، وفرح بلا غم، وعز بلا ذل، وكرامة بلا هوان، وراحة بلا تعب، وصفو لا يخالطه كدر، وأمن بلا خوف، وغناء بلا فقر، وصحة بلا سقم، وحياة بلا موت، وشباب بلا هرم، ومودة لازمة، ونور لا يشوبه ظلام، ويقظة بلا نوم، وذكر بلا غفلة، وعلم بلا جهالة، وصداقة بلا عداوة بين أهلها، ولا حسد ولا غيبة، إخوانا على سرر متقابلين، آمنين مطمئنين أبد الآبدين ودهر الداهرين.

ولما لم يمكن أن يكون الإنسان هناك بهذا الجسد الفاني والجسم الثقيل المستحيل الطويل العريض العميق المظلم المركب من أجزاء الأركان المتضادة، المؤلفة من الأخلاط الأربعة؛ إذ كان لا يليق بمن هذه سبيله من تلك الأوصاف الصافية والأحوال الباقية اقتضت العناية بواجب حكمة الباري - جل ثناؤه - أن ينشأ نشوءا آخر، كما ذكر الله - جل ثناؤه - بقوله: @QUR06 ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون؛ يعني: النشأة الأخرى، وقال: @QUR05 وننشئكم في ما لا تعلمون، وقال: @QUR05 ثم الله ينشئ النشأة الآخرة فبعث بلطفه أنبياءه ورسله يرغبونهم فيها، ويدلونهم على طريقها؛ كي ما يطلبوها ويكونوا لها مستعدين قبل الورود إليها، ولكي يسهل عليهم مفارقة ما ألفوا من الدنيا من شهواتها ولذاتها، وتخفف عليهم شدائد الدنيا ومصائبها؛ إذ كانوا يرجون بعدها ما يغمرها ويمحو ما قبلها من نعيم الدنيا وبؤسها، ويحذرونهم أيضا التواني في طلبها؛ كي لا يفوتهم ما وعدوا به، فإنه من فاتته فقد خسر الدنيا والآخرة جميعا، وضل ضلالا بعيدا، وخسر خسرانا مبينا.

فهذا رأينا واعتقادنا يا راهب في معاملتنا مع ربنا، وبهذا الاعتقاد طاب عيشنا في الدنيا، وسهل علينا الزهد فيها وترك شهواتها، واشتدت رغبتنا في الآخرة، وزاد حرصنا في طلبها، وخف علينا كد العبادة، فلا نحس بها، بل نرى أن ذلك نعمة وكرامة وعز وشرف؛ إذ جعلنا أهلا أن نذكره؛ وإذ هدى قلوبنا وشرح صدورنا ونور أبصارنا لما عرفنا من كثرة إنعامه وفنون ألطافه وإحسانه.

ناپیژندل شوی مخ