فهرست الرسائل وتقسيمها
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم
هذه فهرست رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا وأهل العدل وأبناء الحمد، بجمل معانيها وماهية أغراضهم فيها، وهي اثنتان وخمسون رسالة في فنون العلم وغرائب الحكم وطرائف الآداب وحقائق المعاني عن كلام الخلصاء الصوفية، صان الله قدرهم وحرسهم حيث كانوا في البلاد، وهي مقسومة على أربعة أقسام: فمنها رياضية تعليمية، ومنها جسمانية طبيعية، ومنها نفسانية عقلية، ومنها ناموسية إلهية.
فالرسائل الرياضية التعليمية أربع عشرة رسالة: الرسالة الأولى منها في «العدد» وماهيته وكميته وكيفية خواصه، والغرض المراد من هذه الرسالة هو رياضة أنفس المتعلمين للفلسفة، المؤثرين للحكمة الناظرين في حقائق الأشياء، الباحثين عن علل الموجودات بأسرها، وفيها بيان أن صورة العدد في النفوس مطابق لصور الموجودات في الهيولى، وهي أنموذج من العالم الأعلى، وبمعرفته يتدرج المرتاض إلى سائر الرياضيات والطبيعيات، وأن علم العدد جذر العلوم وعنصر الحكمة ومبدأ المعارف وأسطقس المعاني.
الرسالة الثانية في «الهندسة» وبيان ماهيتها وكمية أنواعها وكيفية موضوعاتها، والغرض المقصود منها هو التهدي للنفوس من المحسوسات إلى المعقولات، ومن الجسمانيات إلى الروحانيات ومن ذوات الهيولى إلى المجردات، وكيفية رؤية البسائط التي لا تتكثر ولا تزداد، ولا تنفرد بالاتحاد، ولا تتقدر بمقدار ولا انحصار في الإقصار، كالصورة المجردة المعراة من المواد المبرأة من الهيولى والجواهر المحضة الروحانية والذوات المفردة العلوية التي لا تدرك بالعيان، وفوق الزمان والمكان، وكيفية الاتصال بها والاطلاع عليها والترقي بالنفس إليها.
الثالثة رسالة في «النجوم» شبه المدخل في معرفة تركيب الأفلاك وصفة البروج وسير الكواكب ومعرفة تأثيراتها في هذا العالم، وكيفية انفعال الأمهات والمواليد منها بالنشوء والبلى والكون والفساد، والغرض منها هو تشويق النفوس الصافية للصعود إلى عالم الأفلاك وأطباق السماوات، منازل الروحانيين والملائكة المقربين والملأ الأعلى والجواهر العلى، والوصول إلى القدس والروح الأمين.
الرابعة رسالة في «الموسيقى» وهو المدخل إلى علم صناعة التأليف والبيان بأن النغم والألحان الموزونة لها تأثيرات في نفوس المستمعين لها كتأثير الأدوية والأشربة والترياقات في الأجسام الحيوانية ، وأن للأفلاك في حركتها ودورانها واحتكاك بعضها ببعض نغمات مطربة ملهية وألحانا طيبة لذيذة معجبة منها كنغمات أوتار العيدان والطنابير وألحان المزامير، والغرض منها التشويق للنفوس الناطقة الإنسانية الملكية للصعود إلى هناك بعد مفارقتها الأجساد التي تسمى الموت؛ لأنه إلى هناك يعرج بأرواح النبيين والصديقين والشهداء والصالحين المحقين المستبصرين كما بين الله تعالى بقوله: @QUR013 إن كتاب الأبرار لفي عليين * وما أدراك ما عليون * كتاب مرقوم.
الخامسة رسالة في «جغرافيا» يعني صورة الأرض والأقاليم والبيان بأن الأرض كرية الشكل بجميع ما عليها، من الجبال والبحار والبراري والأنهار والمدن والقرى، وأنها حية تشبه بجملتها صورة حيوان تام عابد لله تعالى بجميع أعضائها وأجزائها وظاهرها وباطنها، وكيفية تخطيطها وتقديرها ومسالكها وممالكها، والغرض منها هو التنبيه على علة ورود النفس إلى هذا العالم وكيفية اتحادها وعلة ارتباطها بغيرها واستعمالها الحواس واستنباطها للقياس، والتنبيه على خلاصها والحث على النظر والتفكر فيما نصب الله لنا من الدلالات وأرانا من الآيات التي في الآفاق والأنفس؛ حتى يتبين للناظر أنه الحق فيتمسك به ويزدلف إليه ويتوكل في أحواله عليه، فيستعد للرحلة والتزود إلى دار الآخرة قبل الممات وفناء العمر وتقارب الأجل وفوت الأمل ووجدان الحسرة والندامة.
السادسة رسالة في «النسب العددية» والهندسية والتأليفية وكمية أنواعها وكيفية ترتيبها، والغرض منها التهدي لنفوس العقلاء إلى أسرار العلوم وخفياتها وحقائقها وبواطن الحكم ومعانيها، والوقوف على أن الموجودات المختلفة القوى، المتباينة الصور، المتنافرة الطباع، إذا جمع بينها على النسبة المتعادلة ائتلفت وصحت وبقيت ودامت، وإذا كانت على غير النسبة المتعادلة اضطربت وتنافرت حتى اضمحلت وفنيت وما اعتدلت ولا استقام شيء إلا على قدر المناسبة وصحة الائتلاف، وبمعرفة كمية ذلك وكيفيته يكون الحذق والمهارة بالصنائع كلها والتبرز فيها.
السابعة رسالة في «الصنائع العلمية النظرية» وكمية أقسامها وكيفية مراتبها وإيضاح طرائقها ومذاهبها، والغرض منها تعديد أجناس العلوم وأنواع الحكم وبيان أعراضها وحقائقها والتهدي لطلب العلوم والحكم والتوقيت عليها وكيفية الطريق إليها وبيان معرفتها.
الثامنة رسالة في «الصنائع العملية والمهنية» وتعديد أجناس الصنائع العملية والحرف ، والغرض منها هو تنبيه نفوس الغافلين على معرفة جواهرها التي هي الفاعلة على الحقيقة والمستنبطة الصنائع كلها، المستعملة لأجسامهم المستخدمة لأبدانهم؛ إذ هي للصنائع كالآلات للنفوس والأدوات لها تستعملها لتبلغ بها غرضها على اختلاف مقاصدها وفنون حاجاتها.
التاسعة رسالة في «بيان اختلاف الأخلاق» وأسباب اختلافها وأنواع عللها، ونكت من آداب الأنبياء وسننهم وزبد من أخلاق الحكماء وسيرهم، والغرض في ذلك منها تهذيب النفوس وإصلاح الأخلاق اللذان بهما الوصول إلى البقاء الدائم والسرور المقيم وكمال السعادة الباقية في الدنيا والآخرة.
العاشرة رسالة في «إيساغوجي»، وهي الألفاظ الستة التي تستعملها الفلاسفة في المنطق وفي أقاويلهم ومخاطباتهم في كتبهم وحججهم وبراهينهم، والغرض منها هو التنبيه على ما يقوم ذات الإنسان ويتممه ويعرفه البقاء الدائم ويعرفه الفرق بين الكلام المنطقي واللغوي والفلسفي، وما حقيقة كل واحد منها وبيان ما يحتاج من ذلك إليه لتسديد العقل وتثقيفه نحو الحقائق، ورده عن الزلل والغلط كما يحتاج إلى النحو لتسديد اللسان وتقويمه نحو الصواب ورده عن اللحن؛ لأن نسبة صناعة المنطق إلى العقل والمعقولات مثل نسبة صناعة النحو إلى اللسان والألفاظ.
الحادية عشرة رسالة في «قاطيغورياس»، وهو البيان عن المعقولات الكليات وهي الألفاظ العشرة التي كل واحد منها اسم لجنس من الموجودات كلها، والغرض منها هو البيان بأن معاني الموجودات كلها قد اجتمعت في هذه المقولات العشرة التي يسمى كل واحد منها جنسا من الأجناس، والأجناس داخلة فيها وكيف تنقسم الأجناس إلى الأنواع والأنواع إلى الأشخاص، والأشخاص إلى الأمهات وأنها حدائق الآداب وبساتين العلوم وجنات الحكم وفواكه النفوس ونزه الأرواح.
الثانية عشرة رسالة في «باريمانياس»، وهي الكلام في العبارات وأداء المعاني على حقها والإبانة عنها، والغرض منها تعريف الأقاويل الجازمة المفردة البسيطة الجميلة التي هي أقسام الصدق والكذب، وكيف تحصل المقدمات القياسية وتركيبها من الألفاظ البسيطة المفردة وتقابل الإيجاب والسلب، وتقسيم أصناف الأقاويل وأنها هي الجازم الذي منه تتركب المقدمات البرهانية، وما الاسم وما الكلمة وما القول المطلق وما القول الجازم وما الموجبة وما السالبة وما المحصل والمستقيم والعدول، وما القضايا الثنائية والثلاثية والرباعية وما العناصر الثلاثة من ضروري وممكن وممتنع، وما الضد والنقيض وغير ذلك مما يحتاج إليه في مقدمات القياس.
الثالثة عشرة رسالة في «أنولوطيقا الأولى»، وهي القياس، والغرض منها هو بيان كمية القياس الذي تستعمله الحكماء والمتكلمون في احتجاجاتهم والدعاوى والبينات والمناظرات في الآراء والمذاهب، وأنه الميزان بالقسط وضعته الفلاسفة ليعرف به الصدق من الكذب في الأقاويل، والخطأ من الصواب في الآراء والحق من الباطل في الأفعال، وأي شيء يكون وكيف يكون ومتى يكون وأيها الصحيح وأيها الفاسد.
الرابعة عشرة رسالة في «أنولوطيقا الثانية»، وهي البرهان، والغرض منها هو البيان والكشف عن كيفية القياس الصحيح الذي لا خطأ فيه ولا زلل وهو المسمى «البرهان»، وهو ميزان البصائر يقيم الوزن بالقسط ومثاقيلها بداية العقول والمعارف الأولى يستعملها الصيارفة الإلهيون من الحكماء الذين يعرفون به الصواب من الخطأ والحق من الباطل، ويوضح الحق المبين والعلم اليقين. تمت الرسائل الرياضية التعليمية والفلسفية.
•••
ومنها الرسائل الجسمانية الطبيعية وهي سبع عشرة رسالة: الأولى منها رسالة في «الهيولى والصورة» وماهيتهما، وما الزمان والمكان والحركة واختلاف أقاويل الحكماء في حقائقها وكيفياتها، والغرض منها هو تعريف ماهية الجسم وحقيقته وما يخصه من الأعراض اللازمة والزائلة والصور المقومة والمتممة، وتلقب هذه الرسالة بسمع الكيان.
الثانية منها رسالة في «السماء والعالم» وبيان كيفية إطباق السموات وكيفية تركيب الأفلاك، وما هو العرش العظيم وما هو الكرسي الواسع، والغرض منها هو البيان عن كيفية تحريك الأفلاك وتسييرات الكواكب، وأن المحرك لها كلها هو الروح القدس والنفس الكلية الفلكية الموكلة بها بإذن باريها.
الثالثة منها رسالة في «الكون والفساد»، والغرض منها هو البيان عن ماهية الصور المقومة لكل واحد من الأركان الأربعة؛ أعني الأمهات التي هي النار والهواء والماء والأرض، وأنها هي الأمهات الكلية الكائن منها المعدن والنبات والحيوان وكيفية استحالة بعضها إلى بعض باختلاف كيفياتها عليها بدوران الأفلاك حولها ومطارح شعاعات الكواكب عليها، وأن الطبيعة الفاعلة لها المحركة لكل واحد منها إلى كمالها وغايتها هي قوة من قوى النفس الكلية الفلكية، وملك من جملة الملائكة الموكلة بها وسائقة لها إلى تمام ما أعدلها من غايتها.
الرابعة منها رسالة في «الآثار العلوية»، والغرض منها هو البيان عن كيفية حوادث الجو وتغييرات الهواء من النور والظلمة والحر والبرد وتصاريف الرياح من البحار والأنهار، وما يكون منها من الغيوم والضباب والطل والندى والأمطار والرعود والبروق والثلوج والبرد، والهالات وقوس قزح والشهب وذوات الأذناب وما شاكل ذلك.
الخامسة منها رسالة في «كيفية تكوين المعادن»، وكمية الجواهر المعدنية وعلة اختلاف جواهرها وكيفية تكوينها في باطن الأرض، والغرض منها هو البيان بأنها أول مفعولات الطبيعة التي هي دون فلك القمر التي هي قوة من قوى النفس الكلية الفلكية بإذن باريها المصور للجميع والموجد للكل لا من موجود إبداعا واختراعا وخلقا وتكوينا، ومنها تبتدئ الأنفس الجزئية بالتهدي الباعث بها إلى الترقي من أسفل سافلين من مركز الأرض إلى أعلى عليين، عالم الأفلاك وفوق السماوات، موقف الأبرار المتقين ومقر الأخيار المنتجبين ومحل الأنبياء والمرسلين، وهذا أول صراط تجوز عليه الأنفس الجزئية، ثم النبات بوساطة الكون والنمو، ثم الحيوان بوساطة الكون والنمو والحس، ثم الإنسان بوساطة الكون والنمو والحس والعقل، ثم التجرد والدخول في زمرة الملائكة الذين هم سكان الأفلاك والملأ الأعلى الذين هم أهل السماوات.
السادسة رسالة في «ماهية الطبيعة» وكيفية أفعالها في الأركان الأربعة التي هي الأمهات ومواليدها التي هي: الحيوان والنبات والمعادن، والفرق بين الفعل الإرادي، من الفكري والشوقي، وبين الضروري من الطبيعي والقهري، والغرض منها تنبيه الغافلين على أفعال النفس وماهية جوهرها والبيان عن أجناس الملائكة وهي التي تسميها الفلاسفة روحانيات الكواكب الموكلة بإنشاء المواليد بتحريكها إلى استكمال صورها والتمام المعد لها.
السابعة منها رسالة في «أجناس النبات» وأنواعها، وكيفية سريان قوى النفس النامية فيها، والغرض منها هو تعديد أجناس النبات، وبيان كيفية تكوينها ونشوئها واختلاف أنواعها من الأشكال والألوان والطعوم والروائح في أوراقها وأزهارها وثمارها وحبوبها وبذورها وصموغها ولحائها وعروقها وقضبانها وأصولها وغير ذلك من المنافع، وأن أول مرتبة النبات متصلة بآخر مرتبة المعادن، وآخر مرتبتها متصلة بأول مرتبة الحيوان.
الثامنة منها رسالة في «أصناف الحيوان» وعجائب هياكلها وغرائب أحوالها، والغرض منها هو البيان عن أجناس الحيوانات وكمية أنواعها واختلاف صورها وطبائعها وأخلاقها، وكيفية تكوينها ونتاجها وتوالدها وتربيتها لأولادها، وأن أول مرتبة الحيوانية متصلة بآخر مرتبة النبات، وآخر مرتبة الحيوانية متصلة بأول مرتبة الإنسانية، وآخر مرتبة الإنسانية متصلة بأول مرتبة الملائكة الذين هم سكان الهواء والأفلاك وأطباق السماوات، وأن نفوس بعض الحيوانات ملائكة ساجدة لنفس الإنسان التي هي خليفة الله في أرضه، ونفوس بعضها راكعة له، ونفوس بعض الحيوان شياطين عصاة مغلغلة في جهنم عالم الكون والفساد، وأن الإنسان إذا كان خيرا عاقلا فهو ملك كريم خير البرية، وإذا كان شريرا فهو شيطان رجيم شر البرية.
التاسعة منها رسالة في «تركيب الجسد»، والبيان بأنه عالم صغير وأن بنية هيكله تشبه مدينة فاضلة، وأن نفسه تشبه ملكا في تلك المدينة، والغرض منها هو معرفة الإنسان جسده وبنيته المهيأة له، وأن انتصاب القامة أجل أشكال الحيوانات، وأن بنية جسد الإنسان مختصرة من العالم الذي هو في اللوح المحفوظ، وأنه الصراط الممدود بين الجنة والنار، وأنه ميزان القسط الذي وضعه الله بين خلقه، وأنه الكتاب الذي كتبه الله بيده، وصنعته الذي صنع الله بنفسه وكلمته الذي أبدع الله بذاته، وأن نفس الإنسانية هي خليفة الله في أرضه حاكما بين خلقه سائسا لبريته مستعملا لعالمه السفلي مدة من الزمان، فإذا انتقل صار زينة لعالمه العلوي وحافظا لذاته الوجودي على الأبد، وأن الإنسان إذا عرف نفسه المستخلف عرف ربه الذي استخلفه، وأمكنه الوصول إليه والزلفى لديه فائزا بنعيم الأبد والدوام السرمد.
العاشرة منها رسالة في «الحاس والمحسوس»، والغرض منها هو البيان عن كيفية إدراك الحواس محسوساتها واتصالها بواسطة القوة الحاسة، واتصالها إلى الحاسة المشتركة الروحانية الواصلة التي منها انبعثت قوى الحواس الظاهرة، وأنها ترد كالخطوط الخارجة من المركز إلى المحيط بنقط كثيرة، الراجعة إليه بنقطة واحدة، وهو أول منازل الروحانية؛ إذ القوة الحاسة المؤدية إليه جسماني بوجه وروحاني بوجه، والحاسة المشتركة - أعني الداخلة - روحانية محضة؛ لأن حكم الجزء منها حكم الكل وإن كانت التجزئة لا تقع عليه بالحقيقة؛ لأن تصورها الشيء بإدراكها واتصالها إلى القوة المتخيلة التي مجراها مقدم الدماغ لتوصلها إلى القوة المفكرة التي مجراها وسط الدماغ؛ لتميزها وتخلصها بجولانها فيها، وتعرف حقائقها ثم توصلها إلى القوة الحافظة الذاكرة التي مجراها مؤخر الدماغ؛ لتمسكها وتحفظها معتقدة أو غير معتقدة إلى وقت التذكار، ثم تؤديها إلى القوة الناطقة العاقلة التي هي ذات الإنسان المدبرة للكل الباقية بالذات تنزع جميع المعاني والصور، ثم تصور تلك المعاني والصور المنتزعة من مصوراتها المرتسمة فيها، وهي القوة الناطقة أيضا بوساطة الأولى، فتلك الصورة هي لها كالموضوع وكالهيولى، والقوة المعتبرة أيضا للنطق الخارج هي القوة الناطقة أيضا على وجه ثالث بواسطة الألسن، فإذا همت الأولى بإظهار شيء إلى خارج - وهو النطق الإلهي على الحقيقة من صورة النفس - تصورت النفس الثانية؛ إذ هما جوهر واحد لتجردهما عن المواد وتعريهما عن الهيولى؛ أعني الجسمانية فتأدت إلى القوة الناطقة التي مجراها على اللسان لتعبر عنها بالألفاظ الدالة للمخاطبين على المعاني التي تخرج من النفس إلى القوة الصانعة التي مجراها اليدان؛ لتخط بالأقلام على أوجه الألواح وصفحات الدفاتر وبطون الطوامير تلك الألفاظ، وهي النطق الخارج والكلام الظاهر لتبقى العلوم بصورها الذاتية؛ أعني معانيها محفوظة من الأولين إلى الآخرين، وخطابا من الحاضرين للغائبين إلى يوم يبعثون.
الحادية عشرة منها رسالة في «مسقط النطفة» وكيفية رباط النفس بها؛ أعني الهيولانية عند تقلب حالاتها شهرا بعد شهر، وتأثيرات أفعال روحانيات الكواكب في أحكام بنية الجسد من المزاج والتركيب أربعة أشهر قدر مسير الشمس ثلث الفلك واستيفائها طبائع البروج من النارية والترابية والهوائية والمائية، ثم كيفية تأثيراتها وأفعالها في أحكام النفس أربعة أشهر أخر، وما ينطبع فيها من التهيؤ والاستعداد التي هي صورة الأولى بالقوة لتصير صورة بالفعل عند التهيؤ لقبول الأخلاق والأعمال والعلوم والآداب والحكم والآراء في مقبل الزمان، ومستقبل العمر بعد الولادة في الشهر التاسع عند دخول الشمس من بيت التاسع من موضعها يوم مسقط النطفة بيت الحركة والسفر والنقلة والتصور والعلم والفطنة، والغرض منها هو الإخبار عن حال الأنفس البسيطة قبل تشخصها واتصالها بالأجسام الجزئية المحصورة المحدودة المحسوسة بوساطة الألوان والأشكال والأعراض الأخر، وأن المكث في الرحم هذه المدة لتتميم البنية وتكميل الصورة، وهو الكمال الأول لاستكمال الآلة وإعدادها الأدوات؛ ولاستتمام رباط النفس بالهيكل واتحادها بقواه وانبساطها في البنية وتمكنها من الجملة.
الرسالة الثانية عشرة منها في معنى قول الحكماء: «إن الإنسان عالم صغير»، وهو معنى العالم الكبير المؤدي عن جملته والمخصوص بثمرته، وأن صورة هيكله مماثلة لصورة العالم الكبير الجسماني وأن أحوال نفسه وسريان قواها في بنية هيكله وحقيقة جوهره مماثلة لأحوال الخلائق الروحانيين من الملائكة والجن والشياطين وأرواح الحيوانات أجمعين، فإن الإنسان مختصر من العالمين الروحاني والجسماني جميعا، مهيأ مجبول من سوس هو في الحقيقة خلاصة هذا العالم وثمرته وزبدته وكدر هذا العالم وثفالته، وأن يكون جوهر آخر المعاني الجسمانية وأول المعاني الروحانية، فهو كالحد المتاخم لكل العالمين وكالأصل الصالح لمجموع الكمالين وكالجوهر الذي هو بائنته معقول وكيفيته محسوس، وكالشيء الذي بذاته حياة من وجه وذو حياة من وجه، وكالذات القائم بنفسه من جهة، والقائم بغيره من جهة، وكالمعنى المشير بمضمون فحواه ويفطن بمفهومه، لما سواه، ومن وجه آخر كالفرخ المتفقئ عنه البيضة الذي هو له كمال من وجه ومنتهى للكمال من وجه آخر، فهو اللازم للوكر ما دام طائرا بالقوة، فإذا استكمل طار فصار طائرا بالفعل، وكالزاوية التي يوجد ذاتها متوسطة بين المتجزئ وغير المتجزئ، ثم النقطة جامعة لحاليهما؛ أعني البسيط والمركب، وكالنبوة التي هي ممتدة إلى الروحانيين بخط وإلى الجسمانيين بخط، ثم الوحي جامع بين طرفيهما والإلهام حاو لحديهما، وكنهاية المحيط التي هي السطح لذي مكان وليس له مكان، والغرض من هذه الرسالة هو الإخبار عن حال الأنفس البسيطة قبل تشخيصها واتصالها بالأجسام الجزئية والأشخاص الحسية وعلة اتصالها مدة وحال مفارقتها عند بلوغ نهايتها، وكيف يعرف الإنسان هويته وآنيته وكيفية نفسه وحقيقة ذاته، وأنه مجموع فيه معاني الموجودات كلها، فهو كالكل ومحيط بالجميع فينتبه كذلك ويتأمل الصواب والفرصة مدة حياته فيقصده ويقتنيه ويحتويه؛ إذ لذلك أنشأه منشيه فيعيده ويبديه ويديمه ويبقيه، وهو يبليه ويشفيه ويهديه لينجيه فيفوز بالبقاء والنعيم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
الرسالة الثالثة عشرة منها في «كيفية نشر الأنفس الجزئية في الأجساد البشرية والأجسام الطبيعية»، والغرض منها البيان عن كيفية بلوغ الإنسان بدوام انتقاله وتغير أحواله وآخر معاده ومآله، وكيف يصير إلى رتبة الملائكة ومنازل الروحانيين دار القرار ومحل الأخيار عند خلع المادة وبلوغ الإرادة ونهاية السعادة إلى حلوله بعد الموت أو قبله بوجوده الصوري وجوهره النوري. الرسالة الرابعة عشرة منها في «بيان طاقة الإنسان في المعارف»، إلى أي حد هو ومبلغه في العلوم إلى أي غاية ينتهي وأي شرف منها يرتقي، والغرض منها هو التنبيه على معرفة الله - جل جلاله - والقصد نحوه واستنجاز لقائه والوقوف بين يديه والرجوع بالكلية إليه، كما كان منه المبدأ وإليه المعاد والمنتهى. الرسالة الخامسة عشرة منها في «ماهية الموت والحياة»، وما الحكمة في وجودها في الدنيا عالم الكون والفساد وما حقيقة المعاد، والغرض منها هو البيان عن علة رباط الأنفس الناطقة بالأجساد البشرية واتصالها بالأشخاص الجزئية إلى وقت الموت، وكيفية التأهب والاستعداد قبل الفوت والاستعجال ما دام الخلاص ممكنا والنجاة معرضة والأجسام موجودة والآلة متمكنة، والاستهانة بالموت والتجافي عنه وإزالة الخوف منه ببقاء النفس بعد الموت، الذي هو مفارقتها الجسد وترك استعمالها إياه واستراحتها من أذاه ووصولها إلى عالمها ووجودها مناها وبلوغها منتهاها، وأنه لا سبيل لها إلى البقاء السرمدي الذي لا يتغير ولا يزول إلا بمفارقة الجسد المستحيل الذي هو سبب الانتقال والزوال والتغير من حال إلى حال.
الرسالة السادسة عشرة منها في «ماهية اللذات والآلام الجسمانية والروحانية»، وعلة كراهية الحيوانات الموت، وكيف أسباب الآلام واللذة التي تنال النفوس بسبب الأجسام، وكيف تنال بمجردها إذا فارقت الجسد، وكيف يكون انفرادها بذاتها وتجردها بنفسها خلوا منها وانتهاؤها إلى الفردانية واتحادها بالجوهر الصورانية والذوات الروحانية، وكيف تكون لذات أهل الجنان وآلام أهل النيران، والغرض منها هو التصور أن عذاب أهل جهنم كيف يكون مع الجن والشياطين المغللة المقيدة المنكوسة المعكوسة، وأن نعيم أهل الجنان كيف يكون مع الملائكة والروحانيين مسرورين فيها مخلدين لا يمسهم فيها نصب ولا عناء، يتبوءون من الجنة حيث يشاءون، وأن جهنم عالم الكون والفساد يصلاها من شقي بسوء المنقلب والمعاد، وأن الجنان في أعالي عالم الأفلاك وسعة السماوات سعد بها من فاز بعد الممات بذخائر الخيرات والباقيات الصالحات.
الرسالة السابعة عشرة منها في «علل اختلاف اللغات»، ورسوم الخطوط والعبارات، وكيف مبادئ المذاهب والديانات والآراء والاعتقادات وأول نشوئها، وابتداؤها ونماؤها وتزايدها حالا بعد حال وقرنا بعد قرن، وكيفية انتقالها من قوم إلى قوم، وسبب تغييراتها والزيادة فيها والنقصان منها، والغرض منها هو التنبيه على أن أفعال النفس إنما تقع بحسب ما في طبعها وغريزتها، وأن قوة البحث عن الخفيات موجودة في جوهريته؛ أي بضمير التذكير اعتبارا للإنسان أي في جوهرية النفس كالمادة والعلم صورة لتلك المادة، فهي علامة بالقوة والعلم صورة قائمة فيها، وأن في قوتها أن تعلم الأشياء المحسوسة والمعقولة من أصناف العلوم في الأعلى والأسفل والأدق والأجل منها بقوة النطق؛ ولذلك يسنح لذاته سوانح ويخطر بباله خواطر فيعمل فيها فكره فيستخرج بعلمه آراء ويستنبط بذهنه مذاهب، ثم يعبر عن تلك الصورة المتخيلة في ضميره بألفاظ مؤدية عنها، ثم يقيد تلك الألفاظ برسوم من الكتابة دالة على تلك الألفاظ دلالة الألفاظ على تلك الخواطر ودلالة الخواطر على أعيان الأشياء وحقائقها ومعانيها، وإنما يتعاطون ذلك على حسب مناسبات من الطباع واتفاقات تقع في الأوقات والبقاع، والمنشأ والمولد والمخالطات بأقوام أصدقاء وأقارب ومعارف والإصغاء إليهم والأخذ عنهم والتخلق بأخلاقهم، فبحسب هذه الاتفاقات إيثار الإنسان الشيء على غيره من الآراء والمذاهب والمطالب والاعتقادات والنحل والصناعات والمكاسب؛ لأن كل إنسان وإن كان في ظاهر أمره متمكنا من اختيار ما يقتنيه من المذاهب والآراء، فبينه وبين كل واحد منها مناسبات جبلية باطنة وعادات ألفية ظاهرة تجذبها إليه وتحببها عنده وتحرضه عليها وتدعوه إليها، وبحسب انجذابه في طبعه وميله وألفه يكون تبرزه فيها ومهارته بها؛ ولذلك برز أحدهم في شيء وتخلف آخر واجتهادهما واحد وربما اتفق واحد منهم أن يسمع كلاما أو يرى أمرا فيرضاه لنفسه ويميل إليه بطبعه ويقتنيه ويدخل في جملة أهله فيتأكد ألفته وأنسه به على مرور الزمان، فإذا قوي الألف، واستمرت العادة، وسكنت نفسه إليه، وتمكن من قلبه لشدة صحبته له ومعرفته به وفرط ميله إليه آثره على غيره حتى يصير في آخر الأمر ألفا لما يختاره منه ومعاندا لما سواه، ويرى له الفضل على غيره من المذاهب الحقيقية والآراء العقلية وإن كان مفضولا، ويحكم له بالشرف والعلو وإن كان مشروفا، فبحسب ذلك تكثر الاختلافات، وتتباين المذاهب والديانات والحق فيهم مع الأنزر الأقل والآخر لاحق بالأول.
•••
ومنها الرسائل النفسانية العقلية، تشتمل على عشر رسائل: الرسالة الأولى منها في «المبادئ العقلية» على رأي الفيثاغوريين، والغرض منها أن الباري - جل جلاله - لما أبدع الموجودات في المبدع الأول وهو العقل، واخترع المخترعات بوساطته في النفس، وخلقها مقدرة في الطباع، وكونها بحسب الأمهات والموالد، ورتبها ونظمها كمراتب الأعداد من الواحد الذي قبل الاثنين والاثنين قبل الثلاثة وكذلك ما بعده، وجعل لكل جنس منها حدا مخصوصا ونهاية معلومة مطابقة بعضها لبعض فاعلة ومنفعلة هيولى وصورة، نوعا وجنسا، إذا رأى ذلك أحكم وأتقن وأكمل وأهدى إليه وأبين. الرسالة الثانية منها في «المبادئ العقلية» على رأي إخوان الصفا وخلان الوفا، والغرض منها هو البحث عن علة الأشياء والأخبار وأسباب الكائنات الكليات والجزئيات عن الباري - جل وعز - كتركيب العدد الصحيح عن الواحد قبل الاثنين. الرسالة الثالثة منها في معنى قول الحكماء: «إن العالم إنسان كبير» ذو نفس وروح حي، عالم طائع لباريه، خلقه ربه - جل ثناؤه - يوم خلقه تاما كاملا، وأن كل الخلائق داخلون فيه وهو جملتهم، وليس خارج العالم شيء آخر لا خلاء ولا ملاء، وليس العالم في مكان وكل ما فيه في مكان موكل كل واحد من أهل العالم بما يتأتى منه، ويقدر عليه يفعلون ما يؤمرون وكل في فلك يسبحون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، كما قال تعالى @QUR014 وما منا إلا له مقام معلوم * وإنا لنحن الصافون * وإنا لنحن المسبحون. الرسالة الرابعة منها في «العقل والمعقول»، وما العقل الهيولاني وما العقل بالقوة وما العقل بالفعل، وما العقل المستفاد وما العقل الفعال، والغرض منها هو تعريف ذات الإنسان وصورة الصور، وما جوهر النفس بحقيقتها والإشارة إلى الباقي فيها وكيف اجتماع صور المعلومات فيها على تباينها وتغايرها وكيف تصورها الموجودات المنتزعة من المواد، وكيف تصير أحد موجودات العالم بعد أن لم يكن شيء من الموجودات إلا بالقوة وكيف خروجه بالصورة من العدم إلى الوجود وكيف يحصل عقلا بالفعل وعاقلا بالفعل ومعقولا بالفعل والوجود الصوري مجردا من سائر المواد معراة من الهيولات فتبقى ببقاء العقل الفعال وجه الله ذي الجلال والإكرام، لا إله إلا هو، كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون. الرسالة الخامسة منها في «الأكوار والأدوار واختلاف القرون والأعصار والزمان والدهور»، والغرض منها هو البيان عن كيفية إنشاء العالم ومبدأه وترتيبه وظهوره وغايته، وكيفية فنائه وخرابه لو انقطعت مواد بقائه عن مبقيه لينعدم في الحال ويضمحل بلا زمان، وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب.
الرسالة السادسة منه في «ماهية العشق»، ومحبة النفوس ونزوعها وتشوقها إلى الاتحاد والمرض الإلهي وما حقيقته ومن أين مبدأه، والغرض منها هو البيان بأن السابق المشوق إليه، المعشوق المطاع المراد المطلوب، المحبوب على الحقيقة هو الباري - جل ثناؤه - وأن الخلائق وجملة العالم مشتاقة إليه مريدة متحركة نحو الكمال باستتمام الصورية، وعاشقة إلى مصورها الذي هو فوق الصور والكمال التمام، وهو الباري المصور له الأسماء الحسنى والأمثال العلى.
الرسالة السابعة منها في «ماهية البعث والصور والنشور والقيامة والحساب وكيفية المعراج»، وعلمها هو الغرض الأقصى من رسائلنا كلها، وإليه المنتهى وهو الغاية القصوى، وإليه أشار بقوله: @QUR011 تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. الرسالة الثامنة منه في «كمية أجناس الحركات وكيفية اختلافها ومباديها وغايتها»، والغرض منها هو البيان عن كيفية وجود العالم عن الباري - جل جلاله - وكيف حركة الطبائع إلى استكمالها وقبول صورها الخاصية في كل واحد منهما، وكيفية سكونها عند استكمال كل واحد منها لصورته الخاصية؛ إذ بالصورة يصير الشيء هو ما هو، وبه يحصل في الوجود ويتميز ويتحيز ويصير شيئا معلوما مشارا إليه. الرسالة التاسعة منها في «العلل والمعلولات»، وكيف رجوع أواخرها على أوائلها وأوائلها على أواخرها، والغرض المقصود منها هو معرفة أصول العلوم ومباديها وأسبابها وقوانينها، ورسومها وكيفياتها على الحقيقة. الرسالة العاشرة منها في «الحدود والرسوم»، والغرض منها هو معرفة حقائق الأشياء وماهياتها وأجناسها وأنواعها المركبة والبسيطة بما هي كل واحد منها، وبمعرفتها الوقوف على ذوات الأشياء وكيفياتها وفصولها.
•••
ومنها «الرسائل الناموسية الإلهية والشرعية الدينية»، وهي تشتمل على إحدى عشرة رسالة: الرسالة الأول منها في «الآراء والمذاهب» في الديانات الشرعية الناموسية والفلسفية، وبيان اختلاف العلماء في أقاويلهم، وما أدى إليه اجتهادهم من البحث والنظر، والكشف عن الحقائق والأصول، وكمية تلك المقالات وما الأسباب والعلل التي من أجلها كان اختلافهم، ومن المحق ومن البطل، وما يصلح للجميع وما يصلح للخاص وما يصلح للعام، والغرض من هذه كلها هو البيان بأن المذاهب والديانات كلها وضعت كالعقاقير والأدوية والأشربة لمرض النفوس وكسب الصحة ولطف الحيل؛ لخلاصها من بحر الهيولى وأسر الطبيعة، ووصف طريق الآخرة وكيفية النجاة في المعاد من جهنم عالم الكون والفساد، والوصول إلى الجنان والفردوس عالم الأفلاك والسبع السماوات، وأن أكثر هذه الديانات لأقوام قد انحرفوا عن طريق النجاة وبعدوا عن انتهاج سبيل الرشاد، فاستولى عليهم الميل والعصبية والحمية الجاهلية نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة، فضلوا ضلالا بعيدا، وما الله بظلام للعبيد. الرسالة الثانية منها في «ماهية الطريق إلى الله عز وجل» وكيفية الوصول إليه، والغرض منها هو الحث على تهذيب النفس وإصلاح الأخلاق وتطهير السرائر وتنزيه الضمائر، وتنبيه النفوس الساهية عما بعد الموت في المعاد من أحوال القيامة والبعث والنشر والحساب والميزان، والصراط والجواز على جهنم والورود فيها وحقائق معانيها، @QUR018 وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا * ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا. الرسالة الثالثة منها في «بيان اعتقاد إخوان الصفا وخلان الوفا» ومذاهب الربانيين الإلهيين، والغرض منها هو وضوح الحجة على بقاء النفوس بعد مفارقتها الجسد الذي يسمى الموت، وحل الشكوك فيها وكشف الشبه بطريق إقناعي لا برهاني؛ إذ الرسالة الجامعة مقصورة على البراهين على ما أشرنا إليه في رسائلنا التي هي كالمدخل إليه والعنوان له. الرسالة الرابعة منها في «كيفية عشرة إخوان الصفا وخلان الوفا» وتعاون بعضهم لبعص بصدق المودة وصحة المحبة ومحض الرأفة والشفقة والتحنن والرحمة، وسيرهم في صلواتهم ومذاكرتهم ومجالستهم واجتماعاتهم، والغرض منها تأليف القلوب والتعاضد في الدين والدنيا جميعا؛ إذ هي سبب نجاتهم والمؤدية إلى خلاصهم.
الرسالة الخامسة منها في «ماهية الإيمان وخصال المؤمنين المحقين»، والغرض منها هو معرفة الجلالة الروحانية، وما الإلهام وما الوسوسة وما التوفيق وما الخذلان وما الهداية وما الضلالة؛ إذ كان هذا الباب علما غامضا وسرا خفيا من العلوم الروحانية والأسرار النفسانية. الرسالة السادسة منها في «ماهية الناموس الإلهي والوضع الشرعي» وشرائط النبوة وكمية خصالهم ومذاهب الربانيين والإلهيين، والغرض منها هو التنبيه على أسرار الكتب النبوية ومرامي مرموزاتهم المقصودة وأوضاعهم الناموسية الإلهية والتهدي إليها، وكيفية الكشف لها من المهدي المنتظر والبرقليط الأكبر. الرسالة السابعة منها في «كيفية الدعوة إلى الله عز وجل» بصفوة الأخوة وصدق الوفاء ومحض المودة وخطاب طبقات المدعوين ومنازل المستجيبين إلى ذلك، والغرض منها هو البيان بأن دولة أهل الخير تبتدي أولها من قوم أخيار فضلاء أبرار، يجتمعون ويتفقون على رأي واحد ومذهب واحد وسنة رضية وسيرة عادلة من غير تخاذل ولا تقاعد. الرسالة الثامنة منها في «كيفية أفعال الروحانيين والجن والملائكة المقربين والمردة والشياطين»، والغرض منها هو البيان أن في العالم فاعلين نفسانيين روحانيين غير جسمانيين، لا يتمانعون ولا يتزاحمون ولا يتضايق بهم المكان ولا يحويهم الزمان، ولا يتحصلون بمشاعر الحواس ومدارك العيان، ذواتهم حيث أفعالهم وصورهم معروفة بآثارهم. الرسالة التاسعة منها في «كمية أنواع السياسات» وكيفيتها ومراتب المسوسين وصفات المدبرين لها في العالم، والغرض منها هو البيان بأن مدبر الجميع وسائس الكل الحكيم الأول الباري المصور - جل جلاله - وأن من كان أحسن سياسة وأحسن تدبيرا كان عند الله أعظم منزلة ولديه أقرب زلفة، ومن كان بقدرة الله أبصر وبحكمته أعرف كان بسياسة خلقه أعلم، ومن كان بها أعلم فسياسته أحسن وأعدل، ومن كان كذلك فإليه أقرب ولديه أوجه. الرسالة العاشرة منها في «كيفية نضد العالم بأسره» وفي مراتب الموجودات ونظام الكائنات، وأن آخرها منعطف على أولها من أعلى الفلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض، وأنها كلها عالم واحد كمدينة واحدة وكحيوان واحد وكإنسان واحد، والغرض منها هو الوقوف على معرفة الحقائق ومباديها وتواليها وسوابقها ولواحقها، علما يقينا وبيانا شافيا مقنعا كافيا بلا شك ولا شبهة ولا ريب ولا مرية، وأن مبدأها كلها صادرة عن فعل الله - عز وجل - وحده الذي هو الإبداع المحض لا من موجود هو أولها بالوجود والوحدة وأقدمها فيه، وهو المبدئ الذي أبرز الله فيه سائر الموجودات تنبعث منه القوى متكثرة نحو غايتها المختلفة، وإليها تتصاعد متحدة، وأن إلى ربك المنتهى وإلى الله ترجع الأمور، وجعله السبب الأول الذي به يتعلق ما سواه من سائر الموجودات تعلق المعلول بالعلة، مرتبطا بعضها ببعض فاعلة ومنفعلة، منتقلا من رتبة الدنيا إلى رتبة القصوى ارتباط معلول بعلة على حسب بواديها وتواليها إلى أن تتلاحق بأجمعها، وتتوارد بأسرها إليه، فيكون هو علة العلل ومبدأ المبادئ الفائضة بما أفاض إليه الباري - جل جلاله - على ما دونها بخيرها، ووجودها يقبل كل ذات من الذوات بقدر ما يحتمله منها من الوجود اللائق به في الدوام والبقاء نور الله وعنايته ورحمته وكلمته به، الله يهدي من يشاء ويثيب وإليه يرجع من ينيب.
الرسالة الحادية عشرة منها في «ماهية السحر والعزائم»، وماهية العين والزجر والفأل والوهم والرقى، وكيفية أعمال الطلسمات الباقية، وما عمارة الأرض وما الجن وما الشياطين وما الملائكة المقربون والروحانيون، وكيف تأثيرات بعضهم في بعض، والغرض منها هو البيان بأن في العالم فاعلين غير مرئيين ولا محسوسين يسمون روحانيين، أفعالهم ظاهرة وذواتهم باطنة، منها ما تظهر أفعاله بوساطة الطبيعة، ومنها بوساطة النفس، ومنها بوساطة العقل وهو أجل منازل المخلوقين وأعلى رتبة الروحانيين؛ لأن الباري - جل ثناؤه - جعل العقل سابقا والنفس لاحقا، والطبيعة سائقا والهيولى شائقا والعدم ماحقا، والعقل هو المبدئ الأول والموجود الأول عن موجده أبدئ وبه يبقى؛ ولذلك صار ممتد الوجود بوجوده مستكمل الفضائل والخيرات، تام الأنوار والبركات معرى من الشوائب والتغييرات، مبرأ من النقص الواقع من جهة الهيوليات، يرتب كل موجود مرتبة وينزله منزله ويوفيه قسطه في لزوم النظام والبلوغ إلى التمام؛ ولذلك جعل له القوة الحافظة على سائر الموجودات ووجوداتها العاقلة لهم ذواتها الخاصة بواحد واحد منها يستحقها أو يليق بها، فلذلك يشار إلى ذاتها باسم الفعل الصادر عنها؛ إذ فعله ذاته وصورته تأثيراته، فهذا هو السابق البادي، ثم يليه اللاحق التالي وهو القوة المخترعة بوساطته المبدعة بها الذوات من سائر الموجودات أفضل أحوالها في الوجود الذي هو الحياة، وهي النفس التي بها أعطى الأجسام أفضل صورها وأتم وجودها، ولما تصورت الأجسام بها، وانطبعت فيها حصلت لها بها قوة تتعلق بها الأجسام على قدر اختلافها فحصل صورة كل واحد منها مخالفة لصورة الآخر وهو الطبيعة الباقية في الأجسام، يحصل بها التخلق والتصور والتشكل بالصورة الخاصة لواحد واحد منها، وهي قوة وضعها الباري - جل جلاله - في الجسم، وعلق قوامه بوجودها فيه، وصيره بخاصتها للتحرك به إلى تمام معدله وغاية قدر لبلوغه إليه ووقوفه عنده إلا أن يعوقه عائق من خارج، فيمتنع من حركته إلى أن ينقطع ذلك فيعود إلى حركته الخاصية، ثم الهيولى الأولى التي هي ذات بالقوة لا موجود بالفعل يخرج إلى الوجود بالفعل بقبول الصورة التي بها يصير الشيء هو ما هو، ويفارقه كون العدم والعدم هو لا موجود بالفعل ولا موجود بالذات، موجود بالعرض، فسبحان خالق الوجود والعدل وباسط الأنوار ، والظلم موجد وجود كل موجود، فينعدم ومعيده فينصرم ومنشئه فيبلى ومبقيه ليبقى، منه المبدأ وإليه المنتهى، تم الكلام على الرسائل.
وتليها «الرسالة الجامعة لما في هذه الرسائل المتقدمة كلها» المشتملة على حقائقها بأسرها، والغرض منها إيضاح حقائق ما أشرنا إليه، ونبهنا في هذه الرسالة عليه أشد الإيضاح والبيان، يأتي على ما فيها فيتبين حقائقها ومعانيها ملخصة مستوفاة مهذبة مستقصاة ببراهين هندسية يقينية ودلائل فلسفية حقيقية، وبينات علمية وحجج عقلية وقضايا منطقية وشواهد قياسية وطرق إقناعية، لا يقف على كنهها ولا يحيط بحقائقها ولا يحصلها ولا شيئا منها إلا من ارتاض بما قدمنا، وحذق وعرف وتدرب فيها وتمهر أو بما يشاكله؛ إذ هذه الرسائل كلها كالمقدمات لها والمداخل إليها والأدلة عليها والأنموذج منها لا ينفتح غلق معتاصها، ولا ينكشف مستور غامضها إلا لمن تهذب بهذه الرسائل الاثنتين والخمسين أو بما شاكلها من الكتب، والرسالة الجامعة من رسائلنا هي منتهى الغرض لما قدمناه، وأقصى المدى ونهاية القصد وغاية المراد، ولله الحمد والمنة وله الحول والقوة.
هذه فهرست رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا وأهل العدل وأبناء الحمد، وهي اثنتان وخمسون رسالة، ورسالة في تهذيب النفوس وإصلاح الأخلاق.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن مثل صاحب هذه الرسائل مع طالبي العلم ومؤثري الحكمة، ومن أحب خلاصه واختار نجاته كمثل رجل حكيم جواد كريم له بستان خضر نضر بهج مونق، معجب طيب الثمرات لذيذ الفواكه عطر الرياحين أرجة الأوراد فائحة الأزهار بهية المنظر، نزهة المرامي مختلفة الأشكال والأصباغ والألوان والمذاق والمشام من بين رطب ويابس وحلو وحامض، وفيها من سائر الطيور المطربة الأصوات الملهية الألحان المستحسنة التغريد، تطرد تحت أشجارها أنهار جارية وخلال أزهارها وخضرها جداول منسابة تموج، وفي حافات الأنهار خضر مونقة وأصداف مشرقة الألوان وجواهر متناسبة الأصباغ رائقة المناظر عجيبة الصور بديعة التأليف غريبة التنضيد، فرحة كل نفس، ونزهة كل عين، مسلاة كل هم، مدعاة كل أنس، فأراد لكرم نفسه وسخاء سجيته أن يدخلها كل مستحق ويتلذذ فيها وبها كل مشرف عاقل، فنادى في الناس أن هلموا وادخلوا هذا البستان وكلوا من ثمارها ما اشتهيتم، وشموا من رياحينها ما اخترتم، وتفرجوا كيف شئتم، وتنزهوا أين هويتم، وافرحوا واطربوا وكلوا واشربوا وتلذذوا وتنعموا واستروحوا بطيبها وتنسموا بروائحها، فلم يجبه أحد ولم يصدقه خلق، ولا عبئوا به، ولا التفتوا إليه استعظاما لقوله واستبعادا لوصفه واستكبارا لكلامه واستغرابا لذكره، فرأى الحكيم من الرأي أن وقف على باب البستان وأخرج مما فيه تحفا وطرفا ولطفا من كل ثمرة طيبة وفاكهة لذيذة وريحان زكي وورد جني ونور أنيق وجوهر بهي وطير غرد وشراب عذب، فكل من مر به عرضها عليه وشهاها إليه وذوقه منها، وحياه بها، وأشمه من فوائح الرياحين، وأسمعه من بدائع التلحين حتى إذا ذاق وشم وفرح به وطرب منه وارتاح إليه واهتز وعلم أنه قد وقف على جميع ما في البستان، ومالت إليه نفسه واشتاق إلى دخول البستان وتمناه وقلق إليه ولم يصبر عنه، فقال له عند ذلك: ادخل البستان وكل ما شئت وشم ما شئت واختر ما شئت، وانظر كيف شئت وتنزه أين شئت، وجئ من أين شئت وتلذذ وتنعم وتطيب وتنسم.
فهكذا ينبغي لمن حصلت عنده هذه الرسائل، والرسالة لا يضيعها بوضعها في غير أهلها وبذلها لمن لم يرغب فيها، ولا يظلمها بمنعها عن مستحقها وصرفها عن مستوجبها ولا يعرفها إلا لكل حر خير سديد مبصر للقصد، مجلب للرشد من طالبي العلم ومؤثري الأدب ومحبي الحكم، وليتحرز في حفظها وأسرارها وإعلانها وإظهارها كل التحرز، ويحرسها غاية الحراسة ويصنها أحسن الصيانة، وليكن المؤدي فيها حق الأمانة، لا يضعها إلا في حقها ولا يمنعها عن مستحقها، فإنها جلاء وشفاء ونور وضياء، بل كالداء إن لم تكن دواء، وكالفساد إن لم تكن صلاحا، وكالهلاك إن لم تكن نجاة تداوي، وقد تدوي وتميت وتحيي، فهي كالترياق الكبير الذي هو في نفسه وحده، وتختلف الأحوال عنده فيفعل الشيء وضده بحسب القوابل والمنفعلات عنه والحواصل والمتوالد منه، بل مثلها الغذاء والضياء فإن بالغذاء القوة والزيادة، وبالضياء الأبصار والهداية.
فكما أن الصبي الصغير والطفل الرضيع السليم من الداء المستعد للزيادة والنماء يحتاج إلى حسن التربية ولطف التغذية وإطعام ما هو له أوفق وأصلح وفيه أزكى وأنجع على معرفة ومقدار، ثم التدرج بغذائه حالا بعد حال إلى استكمال قوته وتمام بنيته؛ لئلا يتغذى بما لا ينجع فيه ولا يستمرئه فيمرضه ويدويه بل يهلكه ويرديه، فكان الذي أعد لشفائه وبقائه هو سبب دائه وفنائه، أو كالعليل الملتبس بالداء البعيد من الشفاء إن غذي لا ينتفع بغذائه بل يزيد في دائه، وربما كان سبب هلاك نفسه وانقضاء عمره، وأما الضياء فإنه لا يصلح إلا لمن فتح عينه وصح نظره وقوي بصره، ويزيده الجلاء جلاء والنور قوة وضياء، فأما من لم يفتح عينه أو كان قريب العهد بالخروج من الظلام فيضعف جدا عن مقابلة ضوء النهار ونور الشمس بل يكسبه الضياء ظلمة البصر حتى ربما صار ضلالا وعمى، وكذلك من كان عليل الطرف أرمد العين ذا عور أو في بصره سوء وقذى فلا يفتح عينه فيبصر، ولا يعاين الصور فيميز، بل يستريح أبدا إلى الظلمات، ويهرب من الضياء، وكما زاد الضياء نقص إبصاره وضعف إدراكه، فإن لج أداه إلى الغشاء والعماء وفقد النظر وذهاب البصر، كذلك الواجب على من حصلت عنده هذه الرسائل وهذه الرسالة أن يتقي الله تعالى فيها بأن يهتم ويعتني بها غاية العناية، ولا يخل بهذه الوصاية، ويتلطف في استعمالها وإيصالها تلطف الأخ الشقيق والأب الشفيق والواد الصديق والطيب الرفيق بعد بذل وسعه واستفراغ جهده في توخي القصد، وتحري الصواب في بذله شيئا بعد شيء لمن رآه شديد الحاجة إليه؛ عظيم الحرص عليه؛ كثير الرغبة فيه بعد أن اختبرهم واستبرأهم واستكشف حالهم فمن أنس منه رشدا ورجا فيه خيرا ممن أقصى مناه خلاص روحه ونجاة نفسه وجعل سعيه فيما يرجع إلى ذاته وإلى ما هو سبب حياته يزهد في أعراض الدنيا، ويرغب فيما هو خير وأبقى لا يكذب نفسه ولا يسامحها بل يصدقها صدقا، ويجد حزما، ويعلم حقا أن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى وأن إلى ربك المنتهى، دفعها إليه رسالة رسالة على الولاء شبيه الغذاء والتربية والنماء وكالدواء للصحة والشفاء والكحل والجلاء لتقوية البصر والضياء ما يقرب من فهمه ويليق بمحله من علمه، ويستصلحه لمثله قدر ما يغذيه ويربيه ويصحه ويشفيه، بل يبصره ويهديه ويشده ويقويه أولا فأولا، على الترتيب المبين في الفهرست حتى إذا ما تمكنت الحكمة من نفسه وأنست به وتصورت عنده واستقر في خلده وقوي فيه وتحقق بفكرة معانيه، طلب عند ذلك الكل بشدة حرص وانشراح صدر وغاية رغبة وخلوص نية وقوة عزيمة، وفضل معرفة وزيادة يقين وصحة بصيرة فحصلها وعمل بها، واستحق بعد النظر فيهن والوقوف على جمل معانيهن النظر في الرسالة الجامعة التي هي نهاية المراد ونزهة المرتاد والفوز في المعاش والمعاد؛ لأن بهن التوصل إليها وبفهمهن الوقوف عليها، فمن وفقه الله لذلك ويسره فقد هداه من الحيرة، وأحياه بعد الموت، وأمنه من الخوف، وأزلفه إليه، وأسبغ جلائل نعمه عليه فيبقى بقاء الأبد، ويدوم دوام السرمد في السعادة التامة والبركات العامة والنعيم المقيم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
(تمت فهرست رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا وأهل العدل وأبناء الحمد وأرباب الحقائق وأصحاب المعاني، في تهذيب النفوس وإصلاح الأخلاق، للبلوغ إلى السعادة الكبرى والجلالة العظمى والبقاء الدائم والكمال الأخير بحول الله وقوته وتأييده وتوفيقه، وله الحمد وحده وصلى الله على رسوله سيدنا محمد وآله الأئمة الطاهرين وسلم تسليما عليهم أجمعين.)
القسم الرياضي
الرسالة الأولى في العدد
@QUR07 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى
اعلم أيها الأخ البار الرحيم بأنه لما كان من مذهب إخواننا الكرام - أيدهم الله - النظر في جميع علوم الموجودات التي في العالم من الجواهر والأعراض والبسائط والمجردات والمفردات والمركبات، والبحث عن مبادئها وعن كمية أجناسها وأنواعها وخواصها، وعن ترتيبها ونظامها على ما هي عليه الآن، وعن كيفية حدوثها ونشوئها عن علة واحدة ومبدأ واحد من مبدع واحد جل جلاله، ويستشهدون على بيانها بمثالات عددية وبراهين هندسية مثل ما كان يفعله الحكماء الفيثاغوريون؛ احتجنا أن نقدم هذه الرسالة قبل رسائلنا كلها، ونذكر فيها طرفا من علم العدد وخواصه التي تسمى «الأرثماطيقي» شبه المدخل والمقدمات؛ لكيما يسهل الطريق على المتعلمين إلى طلب الحكمة التي تسمى الفلسفة، ويقرب تناولها للمبتدئين بالنظر في العلوم الرياضية، فنقول:
الفلسفة أولها محبة العلوم، وأوسطها معرفة حقائق الموجودات بحسب الطاقة الإنسانية، وآخرها القول والعمل بما يوافق العلم. والعلوم الفلسفية أربعة أنواع: أولها الرياضيات، والثاني المنطقيات، والثالث العلوم الطبيعيات، والرابع العلوم الإلهيات، فالرياضيات أربعة أنواع: أولها الأرثماطيقي، والثاني الجومطريا، والثالث الأسطرنوميا، والرابع الموسيقى، فالموسيقى هو معرفة تأليف الأصوات وبه استخراج أصول الألحان، والأسطرنوميا هو علم النجوم بالبراهين التي ذكرت في كتاب المجسطي، والجومطريا هو علم الهندسة بالبراهين التي ذكرت في كتاب إقليدس، والأرثماطيقي هو معرفة خواص العدد وما يطابقها من معاني الموجودات التي ذكرها فيثاغورس ونيقوماخس، فأول ما يبتدأ بالنظر به في هذه العلوم الفلسفية الرياضيات، وأول الرياضيات معرفة خواص العدد؛ لأنه أقرب العلوم تناولا، ثم الهندسة ثم التأليف ثم التنجيم ثم المنطقيات ثم الطبيعيات ثم الإلهيات، وهذا أول ما نقول في علم العدد شبه المدخل والمقدمات:
الألفاظ تدل على المعاني والمعاني هي المسميات، والألفاظ هي الأسماء، وأعم الألفاظ والأسماء قولنا: «الشيء»، والشيء إما أن يكون واحدا أو أكثر من واحد، فالواحد يقال على الوجهين إما بالحقيقة وإما بالمجاز، فالواحد بالحقيقة هو الشيء الذي لا جزء له البتة ولا ينقسم، وكل ما لا ينقسم فهو واحد من تلك الجهة التي بها لا ينقسم، وإن شئت قلت الواحد ما ليس فيه غيره بما هو واحد، وأما الواحد بالمجاز فهو كل جملة يقال لها واحد كما يقال عشرة واحدة ومائة واحدة وألف واحد. والواحد واحد بالوحدة، كما أن الأسود أسود بالسواد، والوحدة صفة للواحد كما أن السواد صفة للأسود. وأما الكثرة فهي جملة لآحاد، وأول الكثرة الاثنان ثم الثلاثة ثم الأربعة ثم الخمسة، وما زاد على ذلك بالغا ما بلغ. والكثرة نوعان: إما عدد وإما معدود، والفرق بينهما أن العدد إنما هو كمية صور الأشياء في نفس العاد، وأما المعدودات فهي الأشياء نفسها، وأما الحساب فهو جمع العدد وتفريقه. والعدد نوعان: صحيح وكسور، والواحد الذي قبل الاثنين هو أصل العدد ومبدأه، ومنه ينشأ العدد كله، صحيحه وكسوره، وإليه ينحل راجعا، أما نشوء الصحيح فبالتزايد، وأما الكسور فبالتجزؤ، والمثال في ذلك ما أقول في نشوء الصحيح إنه إذا أضيف إلى الواحد واحد آخر يقال عند ذلك إنهما اثنان، وإذا أضيف إليهما واحد آخر يقال لتلك الجملة ثلاثة، وإذا أضيف إليها واحد آخر يقال لها أربعة، وإذا أضيف إليها واحد يقال لها خمسة، وعلى هذا القياس نشوء العدد الصحيح بالتزايد واحدا واحدا بالغا ما بلغ، وهذه صورتها: «1 2 3 4 5 6 7 8 9».
وأما تحليل العدد إلى الواحد فعلى هذا المثال الذي أقول إنه إذا أخذ من العشرة واحد تبقى تسعة، وإذا ألقي من التسعة واحد تبقى ثمانية، وإذا أسقط من الثمانية واحد تبقى سبعة، وعلى هذا القياس يلقى واحد واحد حتى يبقى واحد، فالواحد لا يمكن أن يلقى منه شيء؛ لأنه لا جزء له البتة، فقد تبين كيف ينشأ العدد الصحيح من الواحد وكيف ينحل إليه، وأما نشوء العدد الكسور من الواحد فعلى هذا المثال الذي أقول إنه إذا رتب العدد الصحيح على نظمه الطبيعي الذي هو واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة ثمانية تسعة عشرة، ثم أشير إلى الواحد من كل جملة فإنه يتبين كيف يكون نشوءه من الواحد، وذلك أنه إذا أشير إلى الواحد من الاثنين يقال للواحد عند ذلك نصف، وإذا أشير إلى الواحد من جمله الثلاثة فيقال له الثلث، وإذا أشير إليه من جملة الأربعة يقال له الربع، وإذا أشير إليه من جمله الخمسة يقال له الخمس، وكذلك السدس والسبع والثمن والتسع والعشر، وأيضا إذا أشير إلى الواحد من جملة الإحدى عشر فيقال له: جزء من أحد عشر ومن اثني عشر نصف السدس ومن ثلاثة عشر جزءا من ثلاثة عشر ومن أربعة عشر نصف السبع وخمسة عشر ثلث الخمس، وعلى هذا المثال يعتبر سائر الكسور، فقد تبين كيف يكون نشوء العدد من الواحد الصحيح منها والكسور جميعا، وكيف هو أصل لهما جميعا، وهذه صورتها:
واعلم يا أخي بأن العدد الصحيح رتب أربع مراتب: آحاد وعشرات ومئات وألوف، فالآحاد من واحد إلى تسعة، والعشرات من عشرة إلى تسعين، والمئات من مائة إلى تسعمائة والألوف من ألف إلى تسعة آلاف، ويشتملها كلها اثنتا عشرة لفظة بسيطة، وذلك من واحد إلى عشرة عشرة ألفاظ، ولفظة مائة ولفظة ألف فصار الجميع اثنتي عشرة لفظة بسيطة، وأما سائر الألفاظ فمشتقة منها أو مركبة أو مكررة، فالمكررة كالعشرين من العشرة، والثلاثين من الثلاثة، والأربعين من الأربعة، وأمثال ذلك، وأما المركبة كالمائتين وثلاثمائة وأربعمائة وخمسمائة فإنها مركبة من لفظة المائة مع سائر الآحاد، وكذلك ألفان وثلاثة آلاف وأربعة آلاف، فإنها مركبة من لفظة الألف مع سائر الألفاظ من الآحاد والعشرات والمئات، كما يقال خمسة آلاف وسبعة آلاف وعشرون ألفا ومائة ألف وسائر ذلك، وهذه صورتها:
أما الآحاد فهي «أ ب ج د ه و ز ح ط ي»، وأما العشرات فهي «ك ل م ن س ع ف ص»، وأما المئات فهي «ق ر ش ت ث خ ذ ض ظ»، وأما الألوف فهي «غ بغ، جغ، دغ، هغ، وغ، زغ، حغ، طغ، يغ».
واعلم بأن كون العدد على أربع مراتب، التي هي الآحاد والعشرات والمئات والألوف ليس هو أمرا ضروريا لازما لطبيعة العدد مثل كونه أزواجا وأفرادا صحيحا وكسورا بعضها تحت بعض، لكنه أمر وضعي رتبته الحكماء باختيار منهم؛ وإنما فعلوا ذلك لتكون الأمور العددية مطابقة لمراتب الأمور الطبيعية، وذلك أن الأمور الطبيعية أكثرها جعلها الباري - جل ثناؤه - مربعات مثل الطبائع الأربع التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، ومثل الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، ومثل الأخلاط الأربعة التي هي الدم والبلغم، والمرتان المرة الصفراء والمرة السوداء، ومثل الأزمان الأربعة التي هي الربيع والصيف والخريف والشتاء، ومثل الجهات الأربع، والرياح الأربع: الصبا والدبور والجنوب والشمال، والأوتاد الأربع: الطالع والغارب ووتد السماء ووتد الأرض، والمكونات الأربع التي هي المعادن والنبات والحيوان والإنس، وعلى هذا المثال وجد أكثر الأمور الطبيعية مربعات.
واعلم بأن هذه الأمور الطبيعية إنما صارت أكثرها مربعات بعناية الباري - جل ثناؤه - واقتضاء حكمته لتكون مراتب الأمور الطبيعية مطابقة للأمور الروحانية التي هي فوق الأمور الطبيعية، وهي التي ليست بأجسام، وذلك أن الأشياء التي فوق الطبيعية على أربع مراتب؛ أولها الباري - جل جلاله - ثم دونه العقل الكلي الفعال، ثم دونه النفس الكلية، ثم دونه الهيولى الأولى، وكل هذه ليست بأجسام.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن نسبة الباري - جل ثناؤه - من الموجودات كنسبة الواحد من العدد، ونسبة العقل منها كنسبة الاثنين من العدد، ونسبة النفس من الموجودات كنسبة الثلاثة من العدد، ونسبة الهيولى الأولى كنسبة الأربعة.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن العدد كله آحاده وعشراته ومئاته وألوفه أو ما زاد بالغا ما بلغ؛ فأصلها من الواحد إلى الأربعة، وهي هذه «1 2 3 4»، وذلك أن سائر الأعداد كلها من هذه يتركب ومنها ينشأ وهي أصل فيها كلها.
بيان ذلك أنه إذا أضيف واحد إلى أربعة كانت خمسة، وإن أضيف اثنان إلى أربعة كانت ستة، وإن أضيف ثلاثة إلى أربعة كانت سبعة، وإن أضيف واحد وثلاثة إلى أربعة كانت ثمانية، وإن أضيف اثنان وثلاثة إلى أربعة كانت تسعة، وإن أضيف واحد واثنان وثلاثة إلى أربعة كانت عشرة. وعلى هذا المثل حكم سائر الأعداد من العشرات والمئات والألوف وما زاد بالغا ما بلغ.
وكذلك أصول الخط أربعة، وسائر الحروف منها يتركب، والكلام من الحروف يتركب - كما بينا فيما بعد - فاعتبرها، فإنك تجد ما قلنا حقا صحيحا، ومن يريد أن يعرف كيف اخترع الباري - جل ثناؤه - الأشياء في العقل وكيف أوجدها في النفس وكيف صورها في الهيولى فليعتبر ما ذكرنا في هذا الفصل.
واعلم يا أخي أن الباري - جل ثناؤه - أول شيء اخترعه وأبدعه من نور وحدانيته جوهر بسيط يقال له: العقل الفعال كما أنشأ الاثنين من الواحد بالتكرار، ثم أنشأ النفس الكلية الفلكية من نور العقل، كما أنشأ الثلاثة بزيادة الواحد على الاثنين، ثم أنشأ الهيولى الأولى من حركة النفس كما أنشأ الأربعة بزيادة الواحد على الثلاثة، ثم أنشأ سائر الخلائق من الهيولى ورتبها بتوسط العقل والنفس كما أنشأ سائر العدد من الأربعة بإضافة ما قبلها إليها - كما مثلنا قبل.
واعلم يا أخي، أيدك الله بروح منه، بأنك إذا تأملت ما ذكرنا من تركيب العدد من الواحد الذي قبل الاثنين ونشوئه منه؛ وجدته من أدل الدليل على وحدانية الباري - جل ثناؤه - وكيفية اختراعه الأشياء وإبداعه لها؛ وذلك أن الواحد الذي قبل الاثنين وإن كان منه يتصور وجود العدد وتركيبة - كما بينا قبل - فهو لم يتغير عما كان عليه ولم يتجزأ.
كذلك الله - عز وجل - وإن كان هو الذي اخترع الأشياء من نور وحدانيته وأبدعها وأنشأها وبه قوامها وبقاؤها وتمامها وكمالها فهو لم يتغير عما كان عليه من الوحدانية قبل اختراعه وإبداعه لها - كما بينا في رسالة المبادئ العقلية - فقد أنبأناك بما ذكرنا من أن نسبة الباري - جل ثناؤه - من الموجودات كنسبة الواحد من العدد، وكما أن الواحد أصل العدد ومنشأه وأوله وآخره؛ كذلك الله - عز وجل - هو علة الأشياء وخالقها وأولها وآخرها.
وكما أن الواحد لا جزء له ولا مثل له في العدد، فكذلك الله - جل ثناؤه - لا مثل له في خلقه ولا شبه، وكما أن الواحد محيط بالعدد كله، ويعده كذلك الله - جل جلاله - عالم بالأشياء وماهياتها تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
واعلم يا أخي بأن مراتب العدد عند أكثر الأمم على أربع مراتب كما تقدم ذكرها، وأما عند الفيثاغوريين فعلى ستة عشر مرتبة، وهذه صورتها:
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن العدد الكسور مراتبه كثيرة؛ لأنه ما من عدد صحيح إلا وله جزء أو جزآن أو عدة أجزاء كالاثني عشر، فإن له نصفا وثلثا وربعا وسدسا ونصف سدس، وكذلك الثمانية وعشرون وغيرهما من الأعداد، إلا أن العدد الكسور وإن كثرت مراتبه وأجزاؤه فهي مرتبة بعضها تحت بعض، ويشملها كلها عشرة ألفاظ، لفظة منها عامة مبهمة وتسعة مخصوصة مفهومة ومن التسعة الألفاظ لفظة موضوعة، وهي النصف.
وثمانية مشتقة وهي: الثلث من الثلاثة والربع من الأربعة والخمس من الخمسة والسدس من الستة والسبع من السبعة والثمن من الثمانية والتسع من التسعة والعشر من العشرة، وأما اللفظة العامة المبهمة فهي الجزء؛ لأن الواحد من أحد عشر يقال له: جزء من أحد عشر وكذلك من ثلاثة عشر ومن سبعة عشر وما شاكل ذلك.
وأما باقي الألفاظ الكسور فمضافة إلى هذه العشرة الألفاظ كما يقال لواحد من اثني عشر: نصف السدس، ولواحد من خمسة عشر: خمس الثلث، ولواحد من عشرين: نصف العشر، وعلى هذا المثال يتبين سائر معاني الكسور بإضافة بعضها لبعض.
واعلم بأن نوعي العدد يذهبان في الكثرة بلا نهاية، غير أن العدد الصحيح يبتدئ من أقل الكمية وهو الاثنان ويذهب في التزايد بلا نهاية، وأما الكسور فيبتدئ من أكثر الكمية وهو النصف ويمر في التجزؤ بلا نهاية، فكلاهما من حيث الابتداء ذو نهاية، ومن حيث الانتهاء غير ذي نهاية.
(1) فصل في خواص العدد
ثم اعلم أن ما من عدد إلا وله خاصية أو عدة خواص، ومعنى الخاصية أنها الصفة المخصوصة للموصوف الذي لا يشركه فيها غيره، فخاصية الواحد أنه أصل العدد ومنشأه - كما بينا قبل - وهو يعد العدد كله الأزواج والأفراد جميعا، ومن خاصية الاثنين أنه أول العدد مطلقا وهو يعد نصف العدد الأزواج دون الأفراد، ومن خاصية الثلاثة أنها أول عدد الأفراد، وهي تعد ثلث الأعداد تارة الأفراد وتارة الأزواج، ومن خاصية الأربعة أنها أول عدد مجذور، ومن خاصية الخمسة أنها أول عدد دائر، ويقال: كري، ومن خاصية الستة أنها أول عدد تام، ومن خاصية السبعة أنها أول عدد كامل، ومن خاصية الثمانية أنها أول عدد مكعب، ومن خاصية التسعة أنها أول عدد فرد مجذور وأنها آخر مرتبة الآحاد. ومن خاصية العشرة أنها أول مرتبة العشرات، ومن خاصية الأحد عشر أنها أول عدد أصم، ومن خاصية الاثني عشر أنها أول عدد زائد.
وبالجملة: إن من خاصية كل عدد أنه نصف حاشيتيه مجموعتين وإذا جمعت حاشيتاه تكونان مثله مرتين، ومثال ذلك خمسة فإن إحدى حاشيتيها أربعة والأخرى ستة ومجموعهما عشرة وخمسة نصفها، وعلى هذا القياس يوجد سائر الأعداد إذا اعتبر، وهذه صورتها:
1 2 3 4 - 5 - 6 7 8 9
وأما الواحد فليس له إلا حاشية واحدة وهي الاثنان والواحد نصفها وهي مثله مرتين، وأما قولنا: إن الواحد أصل العدد ومنشأه فهو أن الواحد إذا رفعته من الوجود ارتفع العدد بارتفاعه، وإذا رفعت العدد من الوجود لم يرتفع الواحد، وأما قولنا: إن الاثنين أول العدد مطلقا فهو أن العدد كثرة الآحاد وأول الكثرة اثنان، وأما قولنا: إن الثلاثة أول الأفراد فهي كذلك؛ لأن الاثنين أول العدد وهو الزوج، ويليه ثلاثة، وهي فرد، وأما قولنا: إنها تعد ثلث العدد تارة الأفراد وتارة الأزواج فلأنها تتخطى العددين وتعد الثالث منهما، وذلك الثالث يكون تارة زوجا وتارة فردا، وأما قولنا: إن الأربعة أول عدد مجذور فلأنها من ضرب الاثنين في نفسه وكل عدد إذا ضرب في نفسه يصير جذرا والمجتمع من ذلك مجذورا.
وأما ما قيل من أن الخمسة أول عدد دائر فمعناه أنها إذا ضربت في نفسها رجعت إلى ذاتها، وإن ضرب ذلك العدد المجتمع من ضربها في نفسها رجع إلى ذاته أيضا، وهكذا دائما؛ مثال ذلك خمسة في خمسة خمسة وعشرون، وإذا ضرب خمسة وعشرون في مثله صار ستمائة وخمسة وعشرين، وإذا ضرب هذا العدد أيضا في نفسه خرج ثلاثمائة ألف وتسعون ألفا وستمائة وخمسة وعشرون، وإن ضرب هذا العدد في نفسه خرج عدد آخر وخمسة وعشرون. ألا ترى أن الخمسة كيف تحفظ نفسها وما يتولد منها دائما بالغا ما بلغ؟ وهذه صورتها:
5 - 25 - 625 - 390625
وأما الستة فإن فيها مشابهة للخمسة في هذا المعنى لكنها ليست ملازمة كلزوم الخمسة ودوامها 6 36 1296 ستة في ستة ستة وثلاثون فالستة راجعة إلى ذاتها وظهر ثلاثون وإذا ثلاثون، وإذا ضربت ستة وثلاثون في نفسها خرج ألف ومائتان وستة وتسعون فظهرت الستة ولم يظهر الثلاثون، فقد بان أن الستة تحفظ نفسها ولا تحفظ ما يتولد منها، وأما الخمسة فإنها تحفظ نفسها وما يتولد منها دائما أبدا. وأما ما قيل من خاصية الستة أنها أول عدد تام فمعناه أن كل عدد إذا جمعت أجزاء فكانت مثله سواء سمي ذلك العدد عددا تاما فالستة أولها، وذلك أن لها نصفا وهو ثلاثة، وثلثا وهو اثنان وسدسا وهو واحد فإذا جمعت هذه الأجزاء كانت ستة سواء وليست هذه الخاصية لعدد قبلها، ولكن لما بعدها لثمانية وعشرين ولأربعمائة وستة وتسعين وثمانية آلاف ومائة وثمانية وعشرين، وهذه صورتها:
6 28 496 8128
وأما ما قيل: إن السبعة أول عدد كامل فمعناه أن السبعة قد جمعت معاني العدد كلها؛ وذلك أن العدد كله أزواج وأفراد، والأزواج منها أول وثان، فالاثنان أول الأزواج، والأربعة زوج ثان، والأفراد منها أول وثان والثلاثة أول الأفراد والخمسة فرد ثان، فإذا جمعت فردا أولا إلى زوج ثان أو زوجا أولا إلى فرد ثان كانت منها سبعة؛ مثال ذلك أنك إذا جمعت الاثنين الذي هو أول الأزواج إلى الخمسة الذي هو فرد ثان كان منهما سبعة، وكذلك إذا جمعت الثلاثة التي هي فرد أول إلى الأربعة التي هي زوج ثان كانت منهما سبعة، وكذلك إذا أخذ الواحد الذي هو أصل العدد مع الستة التي هي عدد تام يكون منهما السبعة التي هي عدد كامل، وهذه صورتها:
7654321
وهذه الخاصية لا توجد لعدد قبل السبعة ولها خواص أخر، سنذكرها عند ذكرنا أن الموجودات بحسب طبيعة العدد.
وأما ما قيل: إن الثمانية أول عدد مكعب فمعناه أن كل عدد إذا ضرب في نفسه سمي جذرا والمجتمع منهما مجذورا - كما بينا من قبل - وإذا ضرب المجذور في جذره سمي المجتمع من ذلك مكعبا؛ وذلك أن الاثنين أول العدد، فإذا ضرب في نفسه كان المجتمع منه أربعة وهي أول عدد مجذور ثم ضرب المجذور في جذره الذي هو اثنان فخرج من ذلك ثمانية، فالثمانية أول عدد مكعب.
وأما ما قيل: إنها أول عدد مجسم فلأن الجسم لا يكون إلا من سطوح متراكمة، والسطح لا يكون إلا من خطوط متجاورة، والخط لا يكون إلا من نقط منتظمة، كما بينا في رسالة «الهندسة»، فأقل خط من جزأين وأضيف سطح من خطين وأصغر جسم من سطحين، فينتج من هذه المقدمات أن أصغر جسم من ثمانية أجزاء؛ أحدها الخط وهو جزءان فإذا ضرب الخط في نفسه كان منه السطح وهو أربعة أجزاء، وإذا ضرب السطح في أحد طوليه كان منه العمق فيصير جملة ذلك ثمانية أجزاء طول اثنين في عرض اثنين في عمق اثنين.
وأما ما قيل: إن التسعة أول فرد مجذور فلأن الثلاثة في الثلاثة تسعة وليس من السبعة والخمسة والثلاثة شيء مجذور.
وأما ما قيل: إن العشرة أول مرتبة العشرات فهو بين، كما أن الواحد أول مرتبة الآحاد، وهذا بين ليس يحتاج إلى الشرح ولها خاصية أخرى وهي تشبه خاصية الواحد، وذلك أنه ليس لها من جنسها إلا طرف واحد، وهو العشرون، وهي نصفها كما بينا للواحد أنه نصف الاثنين.
وأما ما قيل: إن الأحد عشر أول عدد أصم، فلأنه ليس له جزء ينطق به ولكن يقال: واحد من أحد عشر واثنان منه، وكل عدد هذا وصفه يسمى أصم مثل ثلاثة عشر وسبعة عشر وما شاكل ذلك، وهذه صورتها:
وأما ما قيل: إن الاثني عشر أول عدد زائد؛ فلأن كل عدد إذا جمعت أجزاؤه وكانت أكثر منه سمي عددا زائدا والاثنا عشر أولها، وذلك أن لها نصفا وهو ستة ولها ثلث وهو أربعة وربع وهو ثلاثة وسدس وهو اثنان، ونصف سدس وهو واحد. وإذا جمعت هذه الأجزاء كانت ستة عشر، وهي أكثر من الاثني عشر بزيادة أربعة، وهذه صورتها:
12 نصف 6 ثلث 4 ربع 3 سدس 2 نصف السدس 1
وبالجملة ما من عدد صحيح إلا وله خاصية تختص به دون غيره، ونحن تركنا ذكرها كراهية للتطويل.
•••
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن العدد ينقسم قسمين: صحيح وكسور كما بينا قبل، فالصحيح ينقسم قسمين أزواجا وأفرادا، فالزوج هو كل عدد ينقسم بنصفين صحيحين، والفرد كل عدد يزيد على الزوج واحدا أو ينقص عن الزوج بواحد، فأما نشوء عدد الزوج فيبتدئ من الاثنين بالتكرير دائما على ما يرى:
وأما نشوء الأفراد فيبتدئ من الواحد إذا أضيف إليه اثنان وأضيف إلى ذلك اثنان دائما بالغا ما بلغ:
والزوج ينقسم على ثلاثة أنواع: زوج الزوج، وزوج الفرد، وزوج الزوج والفرد، فزوج الزوج هو كل عدد ينقسم بنصفين صحيحين متساويين ونصفه بنصفين دائما إلى أن تنتهي القسمة إلى الواحد، مثال ذلك أربعة وستون، فإنه زوج الزوج، وذلك أن نصفه اثنان وثلاثون، ونصفه ستة عشر، ونصفه ثمانية، ونصفه أربعة، ونصفه اثنان، ونصفه واحد. ونشوء هذا العدد يبتدئ من الاثنين إذا ضرب في الاثنين ثم ضرب المجموع في الاثنين وما يجمع من ذلك في الاثنين، ثم ضرب المجموع في الاثنين دائما بلا نهاية.
ومن أراد أن يتبين هذا مستقصى فليضعف بيوت الشطرنج فإنه لا يخرج إلا من هذا العدد، أعني زوج الزوج؛ ولهذا العدد خواص أخر ذكرها نيقوماخس في كتابه بشرح طويل ونحن نذكر منها طرفا؛ قال:
إن هذا العدد إذا رتب على نظمه الطبيعي وهو واحد اثنان أربعة ثمانية ستة عشر اثنان وثلاثون أربعة وستون، وعلى هذا القياس بالغا ما بلغ فإن من خاصيته أن من ضرب الطرفين أحدهما في آخر يكون مساويا لضرب الواسطة في نفسها إن كان له واسطة واحدة، وإن كانت له واسطتان فمثل ضرب أحدهما في الأخرى، مثال ذلك أربعة وستون فإنه الطرف الآخر والواحد الطرف الأول وله واسطة واحدة، وهي ثمانية، فأقول: إن ضرب الواحد في أربعة وستين أو الاثنين في اثنين وثلاثين أو الأربعة في ستة عشر مساو لضرب ثمانية في نفسها، وهذه صورتها:
وإن زيدت فيه رتبة أخرى حتى يصير له واسطتان فأقول: إن ضرب الطرفين أحدهما في الآخر يكون مساويا لضرب الواسطتين إحداهما في الأخرى؛ مثال ذلك مائة وثمانية وعشرون إذا ضرب في واحد وأربع وستون في اثنين أو اثنان وثلاثون في أربعة يكون مساويا لضرب ستة عشر في ثمانية، وهذه صورتها:
ولهذا العدد خاصية أخرى أنه إذا جمع من واحد إلى حيث ما بلغ يكون أقل من ذلك العدد الذي انتهى إليه بواحد؛ مثال ذلك إذا أخذ واحد واثنان وأربعة يكون جملتها أقل من ثمانية بواحد وإن زيدت الثمانية عليها يكون الجملة أقل من ستة عشر بواحد وإن زيدت الستة عشر عليها يكون الجملة أقل من اثنين وثلاثين بواحد، وعلى هذا القياس توجد مراتب هذا العدد بالغا ما بلغ، وهذه صورتها:
وأما زوج الفرد فهو كل عدد ينقسم بنصفين مرة واحدة ولا ينتهي في القسمة إلى الواحد، مثل ستة وعشرة وأربعة عشر وثمانية عشر واثنين وعشرين وستة وعشرين، فإن كل واحد من هذه وأمثالها من العدد ينقسم مرة واحدة ولا ينتهي إلى الواحد، ونشوء هذا العدد من ضرب كل عدد فرد في اثنين، وهذه صورتها: «و ي يد يح كب كول لو لج مب مو» كل واحد من هذه الأعداد نصف لما فوقه من العدد، وأما زوج الزوج والفرد فهو كل عدد ينقسم بنصفين أكثر من مرة واحدة ولا ينتهي في القسمة إلى الواحد مثل اثني عشر وعشرين وأربعة وعشرين وثمانية وعشرين وأمثالها في الأعداد، وهذه صورتها:
ونشوء هذا العدد من ضرب زوج الفرد في اثنين مرة أو مرارا كثيرة، ولها خواص تركنا ذكرها مخافة التطويل.
وأما العدد الفرد فيتنوع قسمين: فرد أول وفرد مركب، والفرد المركب نوعان مشترك ومتباين، تفصيل ذلك: أما الفرد الأول فهو كل عدد لا يعده غير الواحد عدد آخر مثل ثلاثة خمسة سبعة أحد عشر ثلاثة عشر سبعة عشر تسعة عشر ثلاثة وعشرين وأشباه ذلك من العدد، وخاصية هذا العدد أنه ليس له جزء سوى المسمى له؛ وذلك أن الثلاثة ليس لها إلا الثلث والخمسة ليس لها إلا الخمس وكذلك السبعة ليس لها إلا السبع، وهكذا الأحد عشر والثلاثة عشر والسبعة عشر، وبالجملة: جميع الأعداد الصم لا يعدها إلا الواحد فإن اسم جزئها مشتق منها.
وأما الفرد المركب فهو كل عدد يعده غير الواحد عدد آخر مثل تسعة وخمسة وعشرين وتسعة وأربعين وواحد وثمانين، وأمثالها من العدد، وهذه صورتها «ط كه مط فاقكا قسط»، وأما الفرد المشترك فهو كل عددين يعدهما غير الواحد عدد آخر مثل تسعة وخمسة عشر وواحد وعشرين؛ فإن الثلاثة تعدها كلها وكذلك خمسة عشر وخمس وعشرون وخمسة وثلاثون، فإن الخمسة تعدها كلها، فهذه الأعداد وأمثالها تسمى مشتركة في العدد الذي يعدها، وهذه صورتها «ط يه كا كه له»، وأما الأعداد المتباينة فهي كل عددين يعدهما عددان آخران غير الواحد، ولكن الذي يعد أحدهما لا يعد الآخر مثل تسعة وخمسة وعشرين؛ فإن الثلاثة تعد التسعة ولا تعد الخمسة والعشرين والخمسة تعد الخمسة والعشرين ولا تعد التسعة، فهذه الأعداد وأمثالها يقال لها: المتباينة.
فصل
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن من خاصية كل عدد فرد أنه إذا قسم بقسمين كيف ما كان فأحد القسمين يكون زوجا والآخر فردا، ومن خاصية كل عدد زوج أنه إذا قسم كيف ما كان فيكون كلا قسميه إما زوجا وإما فردا، وهذه صورتها:
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن العدد ينقسم من جهة أخرى ثلاثة أنواع، إما تاما وإما زائدا وإما ناقصا، فالتام هو كل عدد إذا جمعت أجزاؤه كانت الجملة مثله سواء مثل ستة وثمانية وعشرين وأربعمائة وستة وتسعين وثمانية آلاف ومائة وثمانية وعشرين، فإن كل واحد من هذه الأعداد إذا جمعت أجزاؤه كانت الجملة مثله سواء.
ولا يوجد من هذا العدد إلا في كل مرتبة من مراتب العدد واحد كالستة في الآحاد وثمانية وعشرين في العشرات وأربعمائة وستة وتسعين في المئات وثمانية آلاف ومائة وثمانية وعشرين في الألوف، وهذه صورتها: 6 28 496 8128 وأما العدد الزائد فهو كل عدد إذا جمعت أجزاؤه كانت أكثر منه، مثل الاثني عشر والعشرين والستين وأمثالها من العدد، وذلك أن الاثني عشر نصفها ستة وثلثها أربعة وربعها ثلاثة وسدسها اثنان ونصف سدسها واحد، فجملة هذه الأجزاء ستة عشر، وهي أكثر من اثني عشر، وأما العدد الناقص فهو كل عدد إذا جمعت أجزاؤه كانت أقل منه مثل أربعة وثمانية وعشرة وأمثالها من العدد، وذلك أن الثمانية نصفها أربعة وربعها اثنان وثمنها واحد وجملتها تكون سبعة، فهي أقل من الثمانية، وعلى هذا القياس حكم سائر الأعداد الناقصة.
فصل
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن العدد من جهة أخرى ينقسم قسمين؛ أحدهما يقال له: أعداد متحابة، وهي كل عددين أحدهما زائد والآخر ناقص، وإذا جمعت أجزاء العدد الزائد كانت مساوية لجملة العدد الناقص، وإذا جمعت أجزاء العدد الناقص كانت مساوية لجملة العدد الزائد، مثال ذلك مائتان وعشرون وهو عدد زائد ومائتان وأربعة وثمانون وهو عدد ناقص، فإذا جمعت أجزاء مائتين وعشرين كانت مساوية لمائتين وأربعة وثمانين، وإذا جمعت أجزاء هذا العدد يكون جملتها مائتين وعشرين فهذه الأعداد وأمثالها تسمى «متحابة» وهي قليلة الوجود، وهذه صورتها:
واعلم يا أخي بأن من خاصية العدد أنه يقبل التضعيف والزيادة بلا نهاية، ويكون ذلك على خمسة أنواع: فمنها «على النظم الطبيعي» مثل هذا بالغا ما بلغ: 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12، ومنها «على نظم الأزواج» بالغا ما بلغ مثل هذا 2 4 6 8 10 12 14، ومنها «على نظام الأفراد» بالغا ما بلغ مثل هذا 1 3 5 7 9 11 13 15 17، ومنها «بالطرح» كيفما اتفق كما يوجد في سائر الحساب، ومنها «بالضرب» كما نبين بعد.
فصل
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن لكل نوع من هذه الأنواع عدة خواص، وقد ذكر ذلك في كتاب الأرثماطيقي بشرح طويل، ولكن نذكر منها طرفا في هذا الفصل؛ فنقول:
إن من خاصية النظم الطبيعي أنه إذا جمع من واحد إلى حيث ما بلغ يكون المجموع مساويا لضرب ذلك العدد الأخير بزيادة واحد عليه في نصفه، مثال ذلك إذا قيل: كم من واحد إلى عشرة مجموعا على النظم الطبيعي؟ فقياسه أن يزاد على العشرة واحد ثم يضرب في نصف العشرة فيكون خمسة وخمسين، أو تضرب الخمسة في نفسها فيكون خمسة وعشرين ثم في النصف الآخر الذي هو ستة فيكون ثلاثين، الجملة خمسة وخمسون وذلك بابه المطلوب وقياسه.
وأما نظم الأزواج فهو مثل واحد اثنين أربعة ستة ثمانية عشرة اثني عشر، وعلى هذا المثال بالغا ما بلغ، ومن خاصية هذا النظم أن يكون المجموع أبدا فردا ، ومن خاصيته أيضا أنه إذا جمع على نظمه الطبيعي من واحد إلى حيث ما بلغ يكون المجموع مساويا لضرب ذلك العدد في النصف الآخر بزيادة واحد ثم يزاد على الجملة واحد؛ مثال ذلك إذا قيل لك: كم واحد إلى العشرة مجموعا على نظم الأزواج؟ فقياسه أن تأخذ نصف العشرة فتزيد عليه واحدا، ثم تضربه في النصف الآخر ثم تزيد على الجملة واحدا فذلك أحد وثلاثون، وعلى هذا القياس سائر الأعداد.
وأما نظم الأفراد فمثل واحد، ثلاثة، خمسة، سبعة، تسعة، أحد عشر، بالغا ما بلغ، فمن خاصيته أنه إذا جمع على نظمه الطبيعي يكون المجموعان الواحد زوج والآخر فرد، يتلو بعضها بعضا، بالغا ما بلغ، وتكون كلها مجذورات، ومن خاصيته أيضا أنه إذا جمع على نظمه الطبيعي من واحد إلى حيث ما بلغ فإن المجموع يكون مساويا لضرب نصفه مجذورا مجبورا في نفسه، مثال ذلك إذا قيل: كم من واحد إلى أحد عشر؟ فبابه أن تأخذ نصف العدد وهو خمسة ونصف فتجبره فيصير ستة فتضربه في نفسه فيكون ستة وثلاثين، وذلك بابه فقس عليه.
•••
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن معنى الضرب هو تضعيف أحد العددين بقدر ما في الآخر من الآحاد، مثال ذلك إذا قيل: كم ثلاثة في أربعة، فمعناه: كم جملة ثلاثة أربع مرات؟
واعلم يا أخي بأن العدد نوعان صحيح وكسور - كما بينا قبل - فصار أيضا ضرب العدد بعضه في بعض نوعين: مفرد ومركب، فالمفرد ثلاثة أنواع: الصحيح في الصحيح مثل اثنين في ثلاثة وثلاثة في أربعة وما شاكله، ومنها الكسور في الكسور مثل نصف في ثلث وثلث في ربع وما شاكله، ومنها الصحيح في الكسور مثل اثنين في ثلث أو ثلث في أربعة ما شاكله، وأما المركب فهو أيضا ثلاثة أنواع: فمنها الكسور والصحيح في الصحيح مثل اثنين وثلث في خمسة وما شاكلها، ومنها الصحيح والكسور في الصحيح والكسور مثل اثنين وثلث في ثلاثة وربع وما شاكلها، ومنها الصحيح والكسور في الكسور مثل اثنين وثلث في سبع.
فصل
واعلم يا أخي بأن ضرب العدد الصحيح على أربعة أنواع وجملتها عشرة أبواب، وهي: آحاد وعشرات ومئات وألوف، فالآحاد في الآحاد واحدها واحد وعشرتها عشرة، والآحاد في العشرات واحدها عشرة وعشرتها مائة، والآحاد في المئات واحدها مائة وعشرتها ألف، والآحاد في الألوف وأحدها ألف وعشرتها عشرة آلاف، فهذه أربعة أبواب. وأما العشرات في العشرات فواحدها مائة وعشرتها ألف، والعشرات في المئات واحدها ألف وعشرتها عشرة آلاف، والعشرات في الألوف واحدها عشرة آلاف وعشرتها مائة ألف. فهذه ثلاثة أبواب، وأما المئات في المئات فواحدها عشرة آلاف وعشرتها مائة ألف، والمئات في الألوف واحدها مائة ألف وعشرتها ألف ألف فهذان بابان، وأما الألوف في الألوف فواحدهما ألف ألف وعشرتها عشرة آلاف ألف، وهو باب واحد، فصار جملة الجميع عشرة أبواب، وهذه صورتها:
«آحاد في آحاد» «آحاد في عشرات» «آحاد في مئات» «آحاد في ألوف» «عشرات في عشرات» «عشرات في مئات» «عشرات في ألوف» «مئات في مئات» «مئات في ألوف» «ألوف في ألوف».
(2) فصل في الضرب والجذر والمكعبات، وما يستعمله الجبريون والمهندسون من الألفاظ ومعانيها
فنقول:
كل عددين - أي عددين كانا - إذا ضرب أحدهما في الآخر؛ فإن المجتمع من ذلك يسمى عددا مربعا، فإن كان العددان متساويين يسمى المجتمع من ضربيهما عددا مربعا مجذورا أو العددان يسميان جذري ذلك العدد؛ مثال ذلك: إذا ضرب اثنان في اثنين يكون أربعة وثلاثة في ثلاثة تسعة وأربعة في أربعة ستة عشر فالأربعة والتسعة والستة عشر وأمثالها من العدد؛ يسمى كل واحد منها مربعا مجذورا، والاثنان والثلاثة والأربعة يسمى جذرا؛ لأن الاثنين هو جذر الأربعة والثلاثة جذر التسعة والأربعة جذر الستة عشر، وعلى هذا القياس يعتبر سائر المربعات المجذورات وجذورها:
وكل عددين مختلفين - أي عددين كانا - إذا ضرب أحدهما في الآخر فإن المجتمع من ذلك يسمى عددا مربعا غير مجذور والعددان المختلفان يسميان جزأين له ويسميان ضلعين لذلك المربع وهي من ألفاظ المهندسين، مثال ذلك اثنان في ثلاثة أو ثلاثة في أربعة أو أربعة في خمسة، وأشباه ذلك؛ فإن المجتمع من مثل هذه الأعداد المضروبة بعضها في بعض تسمى مربعات غير مجذورات.
فصل
كل عدد مربع، كان مجذورا أو غير مجذور، ضرب في عدد آخر - أي عدد كان - فإن المجتمع من ذلك يسمى عددا مجسما مكعبا فإن كان العدد المربع مجذورا وضرب في جذره يسمى المجتمع من ذلك عددا مجسما مكعبا؛ مثال ذلك أربعة، فإنه عدد مربع مجذور ضرب في الاثنين الذي هو جذرها فخرج منه ثمانية وكذلك أيضا التسعة وهو أيضا عدد مربع مجذور ضرب في الثلاثة الذي هو جذرها كانت منه سبعة وعشرون، وكذلك الستة عشر فإنه عدد مجذور ضرب في الأربعة التي هي جذرها فخرج منه أربعة وستون فالثمانية والسبعة والعشرون وأربعة وستون وأمثالها من الأعداد تسمى أعدادا مجسمة مكعبة، والمكعب جسم طوله وعرضه وعمقه متساوية وله ستة سطوح مربعات متساوية الأضلاع قائمة الزوايا وله اثنا عشر ضلعا متوازية وثماني زوايا مجسمة وأربع وعشرون زاوية مسطحة.
وإن ضرب العدد المربع المجذور في عدد أقل من جذره يسمى المجتمع من ضربه عددا مجسما لبنيا، والجسم اللبني هو الذي طوله وعرضه متساويان وسمكه أقل منهما وله ستة سطوح مربعات متوازي الأضلاع، قائم الزوايا، لكن له سطحين متقابلين مربعين متساويي الأضلاع، قائمي الزوايا، وله أربعة سطوح مستطيلات وله اثنا عشر ضلعا كل اثنين منها متوازيان وثماني زوايا مجسمة وأربع وعشرون زاوية مسطحة، وإن ضرب المربع المجذور في أكثر من جذره يسمى المجتمع منه عددا مجسما بيريا؛ مثال ذلك أربعة فإنه عدد مجذور ضرب في الثلاثة التي هي أكثر من جذرها فكان منه اثنا عشر وكذلك التسعة إذا ضربت في أربعة التي هي أكثر من جذرها خرج منها ستة وثلاثون.
فالاثنا عشر والستة والثلاثون وأمثالها من العدد يسمى مجسما بيريا و«المجسم البيري» هو الذي سمكه أكثر من طوله وعرضه، وله ستة سطوح مربعات اثنان منها مربعان متقابلان متساويا الأضلاع قائما الزوايا وأربعة منها مستطيلة متوازية الأضلاع قائمة الزوايا، وله اثنا عشر ضلعا كل اثنين منها متوازيان متساويان، وله ثماني زوايا مجسمة وأربع وعشرون زاوية مسطحة، وكل عدد مربع غير مجذور ضرب في ضلعه الأصغر فإن المجتمع منه يسمى مجسما لبنيا، وإن ضرب في ضلعه الأطول فإن المجتمع منه يسمى مجسما بيريا، وإن ضرب في عدد أقل منهما أو أكثر فإن المجتمع منه يسمى «مجسما لوحيا».
مثال ذلك الاثنا عشر فإنه عدد مربع غير مجذور واحد ضلعيه ثلاثة والآخر أربعة، فإن ضرب اثنا عشر في ثلاثة خرج منه ستة وثلاثون، وهو مجسم لبني، وإن ضرب في أربعة خرج منه ثمانية وأربعون وهو مجسم بيري، وإن ضرب في أقل من الثلاثة أو أكثر من الأربعة يسمى مجسما لوحيا، والمجسم اللوحي هو الذي طوله أكثر من عرضه وعرضه أكثر من سمكه وله ستة سطوح كل اثنين منها متساويان متوازيان وله اثنا عشر ضلعا كل اثنين منها متوازيان وثماني زوايا مجسمة وأربع وعشرون زاوية مسطحة.
فصل في خواص العدد المجذور،
فنقول: وكل عدد مجذور إذا زيد عليه جذراه وواحد كان المجتمع من ذلك مجذورا، وكل عدد مجذور إذا انتقص منه جذراه إلا واحدا يكون الباقي مجذورا، وكل عددين مجذورين على الولاء إذا ضرب جذر أحدهما في جذر الآخر وزيد عليه ربع يكون الجملة مجذورا؛ مثال ذلك: جذر أربعة وهو اثنان في جذر تسعة وهو ثلاثة، فيكون ستة وزيد عليه ربع يكون ستة وربعا جذرها اثنان ونصف، فإذا ضرب الاثنان والنصف في مثله كان ستة وربعا جذرها اثنان ونصف وكل عددين مجذورين على الولاء إذا ضرب جذر أحدهما في جذر الآخر يخرج بينهما عدد وسط وتكون ثلاثتها في نسبة واحدة؛ مثال ذلك: أربعة وتسعة فإنهما عددان مجذوران وجذراهما اثنان وثلاثة واثنان في ثلاثة ستة فنسبة الأربعة إلى الستة كنسبة الستة إلى التسعة، وعلى هذا القياس يعتبر سائرها.
(3) فصل في مسائل من المقالة الثانية من كتاب إقليدس في الأصول
كل عددين قسم أحدهما بأقسام كم كانت فإن ضرب أحدهما في الآخر مساو لضرب الذي لم يقسم في جميع أقسام العدد المقسوم قسما قسما، مثال ذلك عشرة وخمسة عشر وقسم الخمسة عشر ثلاثة أقسام سبعة وثلاثة وخمسة، فنقول «أ» إن ضرب العشرة في خمسة عشر مساو لضرب العشرة في سبعة وفي ثلاثة وفي خمسة «ب» كل عدد قسم بأقسام كم كانت فإن ضرب ذلك العدد في مثله مساو لضربه في جميع أقسامه؛ مثال ذلك عشرة قسمت بقسمين سبعة وثلاثة فأقول: إن ضرب العشرة في نفسها مساو لضربها في سبعة وفي ثلاثة «ج» كل عدد قسم بقسمين فنقول: إن ضرب ذلك العدد في أحد قسميه مساو لضرب ذلك القسم في نفسه، وفي القسم الآخر، مثال ذلك عشرة قسمت بقسمين ثلاثة وسبعة فأقول: إن ضرب العشرة في سبعة مساو لضرب سبعة في نفسها وثلاثة في سبعة، «د» كل عدد قسم قسمين فأقول: إن ضرب ذلك العدد في نفسه مساو لضرب كل قسم في نفسه وأحدهما في الآخر مرتين؛ مثال ذلك عشرة قسمت قسمين سبعة وثلاثة فأقول: إن ضرب العشرة في نفسها مساو لضرب سبعة في نفسها وثلاثة في نفسها وسبعة في ثلاثة مرتين، «ه» كل عدد قسم بنصفين ثم بقسمين مختلفين فإن ضرب أحد المختلفين في الآخر وضرب التفاوت في نفسه مساو لضرب نصف ذلك العدد في نفسه.
مثاله عشرة قسمت بنصفين ثم بقسمين مختلفين ثلاثة وسبعة، فنقول: إن ضرب السبعة في ثلاثة والتفاوت في نفسها وهو اثنان مجموعا مساو لضرب الخمسة في نفسها، «و» كل عدد قسم بنصفين ثم يزاد فيه زيادة ما فأقول: إن ضرب ذلك العدد مع الزيادة في تلك الزيادة ونصف العدد في نفسه مجموعا يكون مساويا لضرب نصف ذلك العدد مع الزيادة في نفسه، مثاله عشرة قسمت بنصفين ثم زيد عليه اثنان فنقول: إن ضرب الاثني عشر في اثنين وخمسة في نفسها مجموعا مساو لضرب الاثنين وخمسة مجموعا في نفسه، «ز» كل عدد قسم بقسمين فأقول: إن ضرب ذلك العدد في نفسه وضرب أحد القسمين في نفسه مجموعا مساو لضرب ذلك العدد في ذلك القسم مرتين، وضرب القسم الآخر في نفسه مجموعا مثاله عشرة قسمت بقسمين سبعة وثلاثة فأقول: إن ضرب العشرة في نفسها وسبعة في نفسها مجموعا مساو لضرب العشرة في سبعة مرتين وثلاثة في نفسها مجموعا، «ح» كل عدد قسم بقسمين ثم زيد عليه مثل أحد القسمين فنقول: إن الذي يكون من ضرب جميع ذلك في نفسه مساو لضرب ذلك العدد قبل الزيادة في تلك الزيادة أربع مرات والقسم الآخر في نفسه.
مثاله عشرة قسمت بقسمين سبعة وثلاثة، ثم زيدت عليه ثلاثة فنقول: إن ضرب الثلاثة عشر في نفسه مساو لضرب عشرة في ثلاثة أربع مرات وضرب سبعة في نفسه مرة واحدة، «ط» كل عدد قسم بنصفين ثم بقسمين مختلفين فإن الذي يكون من ضرب القسمين المختلفين كل واحد منهما في نفسه مجموعا مثلا ما يكون من ضرب نصف ذلك في نفسه وضرب التفاوت ما بين العددين في نفسه مجموعا؛ مثال ذلك عشرة قسمت بنصفين، ثم بقسمين مختلفين ثلاثة وسبعة فأقول: إن الذي يكون من ضرب سبعة في نفسها وثلاثة في نفسها مجموعا مثلا ما يكون من ضرب الخمسة في نفسها ومن ضرب الاثنين الذي هو التفاوت ما بين القسمين في نفسه مجموعا، «ي» كل عدد قسم بنصفين ثم زيد فيه زيادة ما فإن الذي يكون من ضرب ذلك العدد مع الزيادة في نفسه وضرب الزيادة في نفسها مجموعا مثلا ما يكون من ضرب نصف العدد مع الزيادة في نفسه وضرب نصف العدد في نفسه.
مثال ذلك عشرة قسمت بنصفين ثم زيد عليها اثنان فأقول: إن ضرب الاثني عشر في نفسه والاثنين في نفسه مجموعا مثلا ما يكون من ضرب سبعة في نفسها وخمسة في نفسها مجموعا.
فصل
واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه إنما قدم الحكماء النظر في علم العدد قبل النظر في سائر العلوم الرياضية؛ لأن هذا العلم مركوز في كل نفس بالقوة، وإنما يحتاج الإنسان إلى التأمل بالقوة الفكرية حسب، من غير أن يأخذ لها مثالا من علم آخر بل منه يؤخذ المثال على معلوم، وأما ما أشرنا إليه من المثالات التي بالخطوط في هذه الرسالة فإنما تلك للمتعلمين المبتدئين الذين قوة أفكارهم ضعيفة، فأما من كان منهم فهيما ذكيا فغير محتاج إليها.
واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن أحد أغراضنا من هذه الرسالة ما قد بينا في أولها، وأما الغرض الآخر فهو التنبيه على «علم النفس» والحث على معرفة جوهرها، وذلك أن العاقل الذهين إذا نظر في علم العدد، وتفكر في كمية أجناسه وتقاسيم أنواعه وخواص تلك الأنواع؛ علم أنها كلها أعراض وجودها وقوامها بالنفس فالنفس إذن جوهر؛ لأن العرض لا يكون له قوام إلا بالجوهر ولا يوجد إلا فيه.
•••
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن غرض الفلاسفة الحكماء من النظر في العلوم الرياضية وتخريجهم تلامذتهم بها إنما هو السلوك والتطرق منها إلى علوم الطبيعيات، وأما غرضهم في النظر في الطبيعيات فهو الصعود منها والترقي إلى العلوم الإلهية الذي هو أقصى غرض الحكماء والنهاية التي إليها يرتقي بالمعارف الحقيقية، ولما كان أول درجة من النظر في العلوم الإلهية هو معرفة جوهر النفس والبحث عن مبدئها من أين كانت قبل تعلقها بالجسد والفحص عن معادها إلى أين تكون بعد فراق الجسد الذي يسمى الموت وعن كيفية ثواب المحسنين كيف يكون في عالم الأرواح وعن جزاء المسيئين كيف يكون في دار الآخرة.
وخصلة أخرى أيضا لما كان الإنسان مندوبا إلى معرفة ربه ولم يكن له طريق إلى معرفته إلا بعد معرفة نفسه، كما قال الله تعالى: @QUR09 ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه؛ أي جهل النفس وكما قيل: من عرف نفسه فقد عرف ربه، وقد قيل أيضا: أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه؛ وجب على كل عاقل طلب علم النفس ومعرفة جوهرها وتهذيبها، وقد قال الله تعالى: @QUR017 ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها، وقال الله تعالى - حكاية عن امرأة العزيز في قصة يوسف عليه السلام: @QUR08 إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، وقال تعالى: @QUR014 وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى، وقال تعالى: @QUR07 يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها، وقال تعالى: @QUR010 يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية، وقال تعالى: @QUR010 الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها، وآيات كثيرة في القرآن ودلالات على وجود النفس وعلى تصرف حالاتها وهي حجة على الجرميين المنكرين أمر النفس ووجدانها.
وأما أولئك الحكماء الذين كانوا يتكلمون في علم النفس قبل نزول القرآن والإنجيل والتوراة، فإنهم لما بحثوا عن علم النفس بقرائح قلوبهم واستخرجوا معرفة جوهرها بنتائج عقولهم؛ دعاهم ذلك إلى تصنيف الكتب الفلسفية التي تقدم ذكرها في أول هذه الرسالة، ولكنهم لما طولوا الخطب فيها ونقلها من لغة إلى لغة من لم يكن فهم معانيها ولا عرف أغراض مؤلفيها؛ انغلق على الناظرين في تلك الكتب فهم معانيها وثقلت على الباحثين أغراض مصنفيها، ونحن قد أخذنا لب معانيها وأقصى أغراض واضعيها وأوردناها بأوجز ما يمكن من الاختصار في اثنتين وخمسين رسالة؛ أولها هذه ثم يتلوها أخواتها على الولاء كترتيب العدد تجدها - إن شاء الله تعالى.
(تمت الرسالة والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على رسوله محمد النبي وآله الطاهرين وسلم تسليما.)
الرسالة الثانية الموسومة بجومطريا في الهندسة وبيان ماهيتها
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنا قد فرغنا من رسالة العدد في الأرثماطيقي، وبينا من خواص العدد قدر الكفاية والجهد، وانتقلنا من تلك الرسالة إلى هذه الرسالة التي هي الثانية من رسالة الرياضيات في المدخل إلى علم الهندسة، فنقول:
اعلم بأن العلوم التي كان القدماء يخرجون أولادهم بها ويروضون بها تلامذتهم أربعة أجناس، أولها العلوم الرياضيات، والثاني العلوم المنطقيات، والثالث العلوم الطبيعيات، والرابع العلوم الإلهيات، فالرياضيات أربعة أنواع، أولها الأثماطيقي وهو معرفة العدد وكمية أجناسه وخواصه وأنواعه وخواص تلك الأنواع، ومبدأ هذا العلم من الواحد الذي قبل الاثنين، والثاني «الجومطريا» وهو علم الهندسة وهي معرفة المقادير والأبعاد وكمية أنواعها وخواص تلك الأنواع ومبدأ هذا العلم من النقطة التي هي طرف الخط؛ أي نهايته، والثالث الأسطرنوميا يعني: علم النجوم، وهو معرفة تركيب الأفلاك وتخطيط البروج وعدد الكواكب وطبائعها ودلائلها على الأشياء الكائنات في هذا العلم من حركة الشمس، والرابع الموسيقى وهو معرفة التأليفات والنسب بين الأشياء المختلفة والجواهر المتضادة القوى، ومبدأ هذا العلم من نسبة المساواة نسبة الثلاثة إلى الستة كنسبة الاثنين إلى الأربعة.
وأما المنطقيات فهي معرفة معاني الأشياء الموجودة التي هي مصورة في أفكار النفوس ومبدأها من الجوهر، وأما الطبيعيات فهي معرفة جواهر الأجسام وما يعرض لها من الأعراض، ومبدأ هذا العلم من الحركة والسكون، وأما الإلهيات فهي معرفة الصورة المجردة المفارقة للهيولى، ومبدأ هذا العلم من معرفة جوهر النفس كالملائكة والنفوس والشياطين والجن والأرواح بلا أجسام، وأن الأجسام عندهم ذوو أبعاد ثلاثة، ومبدأ هذا العلم من جوهر النفس.
وقد عملنا في كل نوع من هذه العلوم رسالة شبه المدخل والمقدمات، فأولها رسالة في العدد قبل هذه، وقد بينا فيها طرفا من خواص الأعداد وكمية أنواعها وكيفية نشوئها من الواحد الذي قبل الاثنين، ونريد أن نبين ونذكر في هذه الرسالة أصل الهندسة التي هي أصل المقادير الثلاثة وكمية أنواعها وخواص تلك الأنواع وكيفية نشوئها من النقطة التي هي رأس الخط وأنها في صناعة الهندسة مثل الواحد في صناعة العدد.
واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الهندسة يقال على نوعين عقلية وحسية، فالحسية هي معرفة المقادير وما يعرض فيها من المعاني إذا أضيف بعضها إلى بعض، وهي ما يرى بالبصر ويدرك باللمس، والعقلي بضد ذلك، وهو ما يعرف ويفهم، فالذي يرى بالبصر هو الخط والسطح والجسم ذوو الأبعاد وما يعرض فيها، كما أن الثقل في الثقيل لا يعرف إلا بالعقل والثقل عين الثقيل، والمقادير ثلاثة أنواع وهي الخطوط والسطوح والأجسام، وهذه الهندسة تدخل في الصنائع كلها، وذلك أن كل صانع إذا قدر في صناعته قبل العمل فهو ضرب من الهندسة العقلية فهي معرفة الأبعاد وما يعرض فيها من المعاني إذا أضيف بعضها إلى بعض وهي ما يتصور في النفس بالفكر، وهي ثلاثة أنواع الطول والعرض والعمق، وهذه الأبعاد العقلية صفات لتلك المقادير الحسية، وذلك أن الخط هو أحد المقادير وله صفة واحدة، وهي الطول حسب، وأما السطح فهو مقدار ثان وله صفتان وهما الطول والعرض، وأما الجسم فهو مقدار ثالث وله ثلاث صفات وهي الطول والعرض والعمق.
واعلم أن النظر في هذه الأبعاد مجردة عن الأجسام من صناعة المحققين فنبدأ أولا بوصف الهندسة الحسية؛ لأنها أقرب إلى فهم المتعلمين، فنقول:
إن الخط الحسي الذي هو أحد المقادير أصله النقطة كما بينا قبل في الرسالة التي في خواص العدد بأن الواحد أصل العدد؛ وذلك أن النقطة الحسية إذا انتظمت ظهر الخط بحاسة النظر مثل هذا ••••• فإنا لا نقول: إن هذه النقطة شيء لا جزء له، لكن النقطة العقلية هي لا جزء لها، ونقول أيضا: الخط أصل السطح كما أن النقطة أصل الخط، وكما أن الواحد أصل الاثنين، والاثنان أصل لعدد الزوج - كما بينا قبل ذلك - وذلك أن الخطوط إذا تجاورت ظهر السطح لحاسة البصر مثل هذا ![](../Images/figure5.png) ونقول: إن السطح أصل للجسم كما أن الخط أصل للسطح والنقطة أصل للخط كما أن الواحد أصل الاثنين والاثنان والواحد أصلان لأول الفرد - كما بينا قبل ذلك - وذلك أن السطوح إذا تراكمت بعضها فوق بعض ظهر الجسم لحاسة النظر مثل هذا ![](../Images/figure6.png).
(1) فصل في أنواع الخط
فنقول: الخطوط ثلاثة أنواع أولها المستقيم وهو مثل الذي يخط بالمسطر على ما يرى في هذه الصورة مثل هذا --- والثاني المقوس وهو مثل الذي يخط بالبركار ![](../Images/figure7.png) مثل هذا والثالث الخط المنحني وهو المركب منهما مثل هذا ![](../Images/figure8.png) فهذه أنواع الخطوط الثلاثة.
(2) فصل في ألقاب الخطوط المستقيمة
فنقول: إن الخطوط المستقيمة إذا أضيف بعضها إلى بعض إما أن تكون متساوية أو متوازية أو متلاقية أو متماسة أو متقاطعة، فالمتساوية هي التي طولها واحد مثال هذا ![](../Images/figure9.png) والمتوازية هي التي إذا كانت في سطح واحد وأخرجت في كلتي الجهتين إخراجا دائما لا يلتقيان أبدا مثل هذا ![](../Images/figure10.png) والمتلاقية هي التي تلتقي في إحدى الجهتين وتحيط بزاوية واحدة مثل هذا ![](../Images/figure11.png) والمتماسة هي التي تماس إحداهما الأخرى وتحدث زاويتين أو زاوية مثل هذا المثال ![](../Images/figure12.png) والمتقاطعة التي تقطع إحداهما الأخرى وتحدث من تقاطعهما أربع زوايا مثل هذا ![](../Images/figure13.png) فهذه ألقاب الخطوط المستقيمة.
(3) فصل في أسماء الخط المستقيم
إذا قام خط مستقيم على خط آخر قياما مستويا من غير ميل إلى طرف يقال عند ذلك للخط القائم العمود وللقائم عليه القاعدة مثل هذا ![](../Images/figure14.png)، وإذا أضيف الخطان إلى زاوية يقال لهما: الساقان لتلك الزاوية مثل هذا ![](../Images/figure15.png).
وإذا قام خط مستقيم على خط وللخط والقائم ميل إلى أحد الطرفين يحصل زاويتان إحداهما أكبر يقال لها: المنفرجة والأخرى أصغر يقال لها: الحادة، وكل خط مستقيم يقابل زاوية ما يقال له: وتر تلك الزاوية التي يقابلها مثل هذا ![](../Images/figure16.png) والخطوط إذا أضيفت إلى سطح ما يقال لها: أضلاع ذلك السطح مثل هذا ![](../Images/figure17.png) وكل خط يخرج من زاوية وينتهي إلى أخرى يقال له: قطر المربع مثل هذا ![](../Images/figure18.png) وكل خط يخرج من زاوية المثلث وينتهي إلى الضلع المقابل لها ويقوم على الخط المقابل لها على زاويا قائمة يقال لذلك الخط: مسقط الحجر، ويقال له: العمود أيضا، ويقال للخط الذي وقع عليه مسقط الحجر القاعدة مثل هذا ![](../Images/figure19.png) فهذه أسماء الخطوط المستقيمة.
(4) فصل في أنواع الزوايا
نقول: إن الزوايا على نوعين مسطح ومجسم، والمسطحة هي التي يحيط بها خطان على غير استقامة مثل هذا ![](../Images/figure20.png) والمجسمة هي التي تحيط بها ثلاثة خطوط في زاوية كل اثنين زاوية على غير استقامة.
(5) فصل في أنواع الزوايا المسطحة
تتنوع من جهة الخطوط ثلاثة أنواع إما من خطين مستقيمين مثل هذا ![](../Images/figure21.png) أو خطين مقوسين مثل هذا ![](../Images/figure22.png) أو أحدهما مقوس والآخر مستقيم، والزوايا التي تحيط بها خطوط مستقيمة تتنوع من جهة الكيفية ثلاثة أنواع: قائمة ومنفرجة وحادة، فالقائمة هي التي إذا قام خط مستقيم على خط آخر مستقيم قياما مستويا حدث عن جنبيه زاويتان متساويتان وكل واحدة منهما يقال لها: زاوية قائمة مثل هذا ![](../Images/figure23.png)، وإذا قام ذلك الخط قياما غير مستو على خط مستقيم حدث عن جنبيه زاويتان مختلفتان إحداهما أكبر من القائمة يقال لها: المنفرجة والأخرى أصغر من القائمة يقال لها: الحادة ومجموعهما مساو لقائمتين؛ لأن الزاوية الحادة تنقض عن القائمة بمقدار زيادة المنفرجة على القائمة على هذا المثال ![](../Images/figure24.png) فهذا عدد أنواع الزوايا.
(6) فصل في أنواع الخطوط القوسية
فنقول: إن الخطوط القوسية أربعة أنواع منها محيط الدائرة، ومنها نصف الدائرة، ومنها أكثر من نصف الدائرة، ومنها أقل من نصف الدائرة، ومركز الدائرة هي النقطة التي في وسط الدائرة، وقطر الدائرة هو الخط المستقيم الذي يقطع الدائرة بنصفين، والوتر الخط المستقيم الذي يصل بين طرفي الخط المقوس، والسهم هو الخط المستقيم الذي يفصل الوتر والقوس كل واحد منهما بنصفين، وهو إذا أضيف إلى نصف القوس يقال له عند ذلك: الجيب المعكوس وإذا أضيف نصف الوتر إلى نصف القوس يقال له عند ذلك: الجيب المستوي والخطوط المقوسة المتوازية هي التي مركزها واحد مثل هذا ![](../Images/figure25.png).
والخطوط القوسية المتقاطعة هي التي مراكزها مختلفة مثل هذا: ![](../Images/figure26.png) والخطوط القوسية المتماسة هي التي تماس بعضها بعضا إما من داخل أو خارج ولا يتقاطع مثل هذا ![](../Images/figure27.png) وأما الخطوط المنحنية فقد تركنا ذكرها لأنها غير مستعملة، فاعلم جميع ذلك.
(7) فصل في ذكر السطوح
فنقول: السطح هو شكل يحيط به الخط أو خطوط، والدائرة هي شكل يحيط به خط واحد مثل هذا ![](../Images/figure28.png) وفي داخله نقطة كل الخطوط المستقيمة التي تخرج منها وينتهي إلى جهتين مساو بعضهما لبعض، ونصف الدائرة شكل يحيط به خطان أحدهما مقوس والآخر مستقيم مثل هذا ![](../Images/figure29.png) وقطعة الدائرة هو شكل يحيط به خط مستقيم وقوس من محيط الدائرة إما أكبر من نصفه وإما أصغر حسب ما بينا وأوردنا مثالها قبل هذا.
(8) فصل في الأشكال المستقيمة الخطوط وأنواعها
فنقول: الأشكال التي يحيط بها خطوط مستقيمة أولها الشكل المثلث وهو الذي يحيط به ثلاثة خطوط وله ثلاث زوايا مثل هذا ![](../Images/figure30.png)، ثم المربع وهو الذي يحيط به أربعة خطوط مستقيمة وأربع زوايا قائمات مثل هذا ![](../Images/figure31.png)، ثم المخمس وهو شكل يحيط به خمسة خطوط وله خمس زوايا مثل هذا ![](../Images/figure32.png)، ثم المسدس وهو الذي يحيط به ستة خطوط وله ست زوايا مثل هذا ![](../Images/figure33.png)، وبعده المسبع مثل هذا ![](../Images/figure34.png)، وعلى هذا القياس تتزايد الأشكال كتزايد العدد.
فصل
وقد بينا أن الخطوط يظهر طولها لحاسة البصر من النقطة إذا انتظمت فأقصر خط من نقطتين مثل هذا •• ثم من ثلاث مثل هذا ••• ثم من أربع مثل هذا •••• ثم من خمس مثل هذا ••••• ويتزايد واحدا بعد واحد كتزايد العدد على النظم الطبيعي، وأصغر شكل المثلث من ثلاثة أجزاء مثل هذا ![](../Images/figure35.png) ثم من أربعة أجزاء مثل هذا ![](../Images/figure36.png) ثم من عشرة أجزاء مثل هذا ![](../Images/figure37.png).
وعلى هذا القياس يتزايد كما يتزايد جمع العدد على النظم الطبيعي، وأما الأشكال المربعات فأولها تظهر في أربعة أجزاء مثل هذا ![](../Images/figure38.png) وبعده من تسعة أجزاء مثل هذا ![](../Images/figure39.png) وبعده من ستة عشر مثل هذا ![](../Images/figure40.png) وبعده من خمسة وعشرين جزءا مثل هذا ![](../Images/figure41.png).
وعلى هذا القياس تتزايد المربعات دائما كتزايد جمع العدد على نظم طبيعة الأفراد وتكون كلها مجذورات.
(9) فصل في بيان المثلث أنه أصل لجميع الأشكال
فنقول: إن الشكل المثلث أصل لجميع الأشكال المستقيمة الخطوط كما أن الواحد أصل لجميع العدد، والنقطة أصل للخطوط، والخط أصل للسطوح، والسطح أصل للأجسام كما بينا قبل، وذلك أنه إذا أضيف شكل مثلث إلى شكل آخر مثله حدث من جملتهما شكل مربع مثل هذا ![](../Images/figure42.png) وإذا أضيف إليهما شكل آخر مثلث حدث من ذلك شكل مخمس، وإن أضيف إليها شكل آخر مثلث حدث شكل مسدس وإن أضيف إليها شكل آخر حدث من ذلك شكل مسبع مثل هذا ![](../Images/figure43.png) وعلى هذا القياس تحدث الأشكال المستقيمة الخطوط الكثيرة الزوايا من الشكل المثلث إذا ضم بعضها إلى بعض وتتزايد دائما بلا نهاية كتزايد العدد من الآحاد إذا ضم بعضها إلى بعض دائما بلا نهاية كما بينا قبل.
وقد تبين أن من الشكل المثلث تتركب الأشكال المستقيمة الخطوط، وأن من السطح تتركب الأجسام، وأن من الخطوط تتركب السطوح، وأن من النقطة تتركب الخطوط، كما أن من الواحد يتركب العدد، فإن النقطة في صناعة الهندسة كالواحد في صناعة العدد وكما أن الواحد لا جزء له فكذلك النقطة العقلية لا جزء لها.
(10) فصل في أنواع السطوح
السطوح من جهة الكيفية تتنوع ثلاثة أنواع: مسطحا ومقعرا ومقببا، فالمسطح كوجوه الألواح والمقعر كقعر الأواني والمقبب كظهر القباب، ومن الأشكال ما يسمى البيضي مثل هذا ![](../Images/figure44.png) ومنها الهلالي مثل هذا ![](../Images/figure45.png) ومنها المخروط الصنوبري مثل هذا ![](../Images/figure46.png) ومنها الإهليلجي ![](../Images/figure47.png) ومنها نيم خانجي مثل هذا ![](../Images/figure48.png) ومنها الطبلي مثل هذا ![](../Images/figure49.png) ومنها الزيتوني مثل هذا ![](../Images/figure50.png).
(11) فصل في ذكر الأجسام
فنقول: السطوح هي نهايات الأجسام ونهايات السطوح الخطوط ونهايات الخطوط هي النقط، وذلك أن كل خط لا بد أن يبتدئ من نقطة وينتهي إلى أخرى، فكل سطح ينتهي إلى خط أو خطوط وكل جسم فلا بد من أن ينتهي إلى سطح أو سطوح، فمن الأجسام ما يحيط به سطح واحد وهي الكرة ومنها ما يحيط به سطحان وهو نصف الكرة، وذلك أن سطحا منه مقبب وسطحا مدور، ومن الأجسام ما يحيط به ثلاثة سطوح وهو ربع الكرة، ومنها ما يحيط به أربعة سطوح مثلثات ويسمى الشكل الناري، ومنها ما يحيط به خمسة سطوح ومنها ما يحيط به ستة سطوح مربعات فمنها المكعب ومنها اللبني ومنها البئري ومنها اللوحي، فالجسم المكعب هو الذي طوله مثل عرضه وعرضه مثل سمكه وله ستة سطوح مربعات متساوية الأضلاع قائمة الزوايا وله ثماني زوايا مجسمة وأربع وعشرون زاوية مسطحة واثنا عشر ضلعا متساوية كل أربعة منها متوازية، وهذه صورتها: ![](../Images/figure51.png).
وأما الجسم البئري فهو الذي طوله مثل عرضه وسمكه أكبر منهما وله ستة سطوح مربعات، اثنان منهما متقابلان متساويا الأضلاع، قائما الزوايا، وأربعة ضيقات مستطيلات متساوية الأضلاع قائمة الزوايا، وله اثنا عشر ضلعا أربعة منها طوال متساوية متوازية وثمانية قصار متساوية متوازية وله ثماني زوايا مجسمة وأربع عشرون زاوية مسطحة: ![](../Images/figure52.png).
وأما الجسم اللوحي فهو الذي طوله أكبر من عرضه وعرضه أكبر من سمكه وله ستة سطوح مربعات اثنان منها طويلان متقابلان متسعان ومتساويا الأضلاع قائما الزوايا وسطحان آخران قصيران ضيقان متساويا الأضلاع قائما الزوايا وله اثنا عشر ضلعا أربعة منها طوال وأربعة منها قصار وأربعة أقصر من ذلك وله ثماني زوايا مجسمة وأربع وعشرون زاوية مسطحة مثل هذا: ![](../Images/figure53.png).
وأما الجسم اللبني فهو الذي طوله مثل عرضه وسمكه أقل منهما وله ستة سطوح مربعات، اثنان منها واسعان متقابلان متساويا الأضلاع قائما الزوايا وأربعة منها ضيقات مستطيلات متساوية الأضلاع قائمة الزوايا وله اثنا عشر ضلعا أربعة منها قصار متساوية متوازية وثمانية منها طوال متساوية كل أربعة منها متوازية ولها ثماني زوايا مجسمات وأربع وعشرون زاوية مسطحة مثل هذا ![](../Images/figure54.png).
وأما الجسم الكري فهو الذي يحيط به سطح واحد وفي داخله نقطة وكل الخطوط المستقيمة الخارجة من تلك النقطة إلى سطح الكرة متساوية يقال لتلك النقطة: مركز الدائرة، وإذا دارت الكرة فيكون في سطحها نقطتان متقابلتان ساكنتان يقال لهما: قطب الكرة مثل هذا ![](../Images/figure55.png).
وإذا وصل بينهما بخط مستقيم جاز ذلك الخط على مركز الكرة يقال له: محور الكرة، وإذا اتصل الخط من نقطة إلى نقطة فهو المحور.
وإذ قد ذكرنا طرفا من أصل الهندسة الحسية شبه المدخل والمقدمات، وقلنا: إن هذا العلم يحتاج إليه أكثر الصناع فلنبين ذلك، وهو التقدير قبل العمل؛ لأن كل صانع يؤلف الأجسام بعضها إلى بعض ويركبها فلا بد له أن يقدر أولا المكان في أي موضع يعملها والزمان في أي وقت يعملها ويبتدئ فيها والإمكان هل يقدر عليه أم لا وبأي آلة وأدوات يعملها وكيف يؤلف أجزاءها حتى تلتئم وتأتلف، فهذه هي الهندسة التي تدخل في أكثر الصنائع التي هي تأليف الأجسام بعضها إلى بعض.
واعلم أن كثيرا من الحيوانات تعمل صنعة طبيعية قد جبلت عليها بلا تعليم كالنحل في اتخاذها البيوت، وذلك أنها تبني بيوتها مطبقات مستديرات الشكل كالأتراس بعضها فوق بعض وتجعل ثقب البيوت كلها مسدسات الأضلاع والزوايا لما في ذلك من إتقان الحكمة؛ لأن من خاصية هذا الشكل أنه أوسع من المربع والمخمس وأنها تكشف تلك الثقوب حتى لا يكون بينها خلل فيدخل الهواء فتفسد العسل فيعفن، وهذا مثال ذلك: ![](../Images/figure56.png).
وهكذا العنكبوت تنسج شبكتها في زاويا البيت والحائط شفقة عليها من تخريق الرياح وتمزيق حملها، وأما كيفية نسجها فهو أن تمد سداها على الاستقامة وخيوط لحمتها على الاستدارة؛ لما فيه من سهولة العمل، وهذا مثال ذلك: ![](../Images/figure57.png).
ومن الناس من يستخرج صناعة بقريحته وذكاء نفسه لم يسبق إليها، وأما أكثر الصناع فإنهم يأخذونها توقيفا وتعليما من الأستاذين.
فصل
واعلم يا أخي أيدك الله وإيانا بروح منه؛ أن علم الهندسة يدخل في الصنائع كلها وخاصة في المساحة وهي صناعة يحتاج إليها العمال والكتاب والدهاقين وأصحاب الضياع والعقارات في معاملاتهم من جباية الخراج وحفر الأنهار وعمل البريدات وما شاكلها.
ثم اعلم بأن المقادير التي تمسح بها الأراضي بالعراق خمسة مقادير، وهي الأشل والباب والذراع والقبضة والأصبع، واعلم بأن الأصبع الواحدة غلظها ست شعيرات مصفوفة مضمومة ظهور بعضها إلى بطون بعض والقبضة الواحدة أربع أصابع والذراع الواحدة ثماني قبضات، وهو اثنان وثلاثون أصبعا والباب طوله ست أذرع وهي ثمان وأربعون قبضة وهو مائة واثنان وتسعون أصبعا والأشل حبل طوله عشرة أبواب وهو ستون ذراعا وأربعمائة وثمانون قبضة وألف وتسعمائة وعشرون أصبعا.
واعلم بأنك إذا ضربت هذه المقادير بعضها في بعض، فالذي يخرج منها يسمى تكسيرا، فإذا جمعت فيكون منها جريبات وقفيزات وعشيرات، وأما حسابها فهو أن القبضة الواحدة في مثلها تكون ستة عشر أصبعا والذراع الواحدة في مثلها تكون أربعا وستين قبضة مكسرة وألفا وأربعة وعشرين أصبعا مكسرة وهو تسع ربع عشر عشير الجريب والباب الواحد في مثله يكون ستا وثلاثين ذراعا مكسرة، وهذه صورتها 36 وهو 2304 قبضات مكسرة وهو 36864 أصبعا مكسرة، وهو عشر عشير الجريب.
وأما الأشل في مثله فيكون جريبا وهو عشرة أقفزة وهو مائة عشير، وهذه صورتها 3600 ذراع مكسرة وهو 230400 قبضة مكسرة وهو 3686400 أصبعا مكسرة، وأما القفيز فهو عشرة أعشار وهو عشرة أبواب مكسرة، وهو من ضرب تسعة عشر ذراعا إلا شيئا يسيرا في مثله وهو ثلاثمائة وستون ذراعا، وأما العشير فهو من ضرب باب واحد في مثله وهو 36 ذراعا مكسرة وهو 2304 قبضات مكسرة وهو 36864 أصبعا مكسرة، والأشوال في الأشوال واحدها جريب وعشرتها عشرة أجربة، والأشوال في الأبواب واحدها قفيز وعشرتها جريب، والأشوال في الأذرع واحدها عشير وثلثا عشير وست منها قفيز، والأشل في القبضات واحدها سدس عشير وربع سدس عشير وكل ثلاثة أخماس منها عشير، وكل 36 منها قفيز والأشل في الأصابع كل واحد منها ربع سدس عشير وربع ربع سدس عشير وكل عشرة منها ربعا عشير وسدس ثمن عشير.
والأبواب في الأبواب واحدها عشير وعشرتها قفيز والأبواب في الأذرع واحدها سدس عشير وستة منها عشير، والأبواب في القبضات كل واحد منها ثلاثة أرباع ربع تسع عشير، والأبواب في الأصابع كل خمسة وثمانين منها ثلث عشير وربع سدس عشير وتسع عشير تقريبا، وكل أربعة منها ثلاثة أرباع وتسع عشير وكل مائة ثمان وعشرين منها ثلثا ثلث عشير والأذرع في الأذرع واحدها ربع تسع عشير، وكل أربع منها تسع عشير وكل مائة منها عشيران وثلثا عشير وتسع عشير.
فهذا شرح مساحة العرض والطول، فأما مساحة العمق فهو أن تضرب الطول في العرض فما اجتمع من ذلك فاضربه في العمق وما يجتمع فهو تكسير المجسم والحاجة إلى هذا العمل عند حفر الأنهار والآبار والحفائر والبريدات والمسنيات والأساسات للديار والبنيان، وما شاكل ذلك.
ثم اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه قد تدخل الشبه في كل صناعة علمية على من يتعاطاها وليس من أهلها وكان ناقصا فيها أو ساهيا عنها، مثال ذلك ما ذكروا أن رجلا باع من رجل آخر قطعة أرض بألف درهم على أن طولها مائة ذراع وعرضها مائة ذراع، ثم قال له: خذ مني عوضا عنها قطعتين من أرض كل واحدة منهما طولها خمسون ذراعا وعرضها خمسون ذراعا، وتوهم أن ذلك حقه فتحا كما إلى قاض غير مهندس فقضى بمثل ذلك خطأ ثم تحاكما إلى حاكم من أهل الصناعة فحكم بأن ذلك نصف حقه، وهكذا أيضا ذكر أن رجلا استأجر رجلا على أن يحفر له بركة طولها أربع أذرع في عرض أربع أذرع في عمق أربع أذرع بثمانية دراهم، فحفر له ذراعين في ذراعين طولا وعرضا وعمقا، فطالبه بأربعة دراهم نصف الأجرة فتنازعا وتحاكما إلى مفت غير مهندس، فحكم بأن ذلك حقه ثم تحاكما إلى أهل الصناعة فحكموا له بدرهم واحد، وقيل لرجل يتعاطى الحساب ولم يكن من أهله: كم نسبة ألف ألف إلى ألف ألف ألف؟ فقال: ثلثان، فقال أهل الصناعة: إنه عشر عشر العشر، فعلى هذا المثال تدخل الشبهة على كل من يتعاطى صناعة وليس من أهلها ومن أجل هذا قيل: استعينوا على كل صنعة بأهلها.
(12) فصل في حاجة الإنسان إلى التعاون
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الإنسان الواحد لا يقدر أن يعيش وحده إلا عيشا نكدا؛ لأنه محتاج إلى طيب العيش من إحكام صنائع شتى ولا يمكن الإنسان الواحد أن يبلغها كلها؛ لأن العمر قصير والصنائع كثيرة، فمن أجل هذا اجتمع في كل مدينة أو قرية أناس كثيرون لمعاونة بعضهم بعضا، وقد أوجبت الحكمة الإلهية والعناية الربانية بأن يشتغل جماعة منهم بإحكام الصنائع وجماعة في التجارات وجماعة بإحكام البنيان وجماعة بتدبير السياسات وجماعة بإحكام العلوم وتعليمها وجماعة بالخدمة للجميع والسعي في حوائجهم؛ لأن مثلهم في ذلك كمثل إخوة من أب واحد في منزل واحد متعاونين في أمر معيشتهم كل منهم في وجه منها، فأما ما اصطلحوا عليه من الكيل والوزن والثمن والأجرة فإن ذلك حكمة وسياسة ليكون حثا لهم على الاجتهاد في أعمالهم وصنائعهم ومعاوناتهم حتى يستحق كل إنسان من الأجرة بحسب اجتهاده في العمل ونشاطه في الصنائع.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه ينبغي لك أن تتيقن بأنك لا تقدر أن تنجو وحدك مما وقعت فيه من محنة هذه الدنيا وآفاتها بالجناية التي كانت من أبينا آدم عليه السلام؛ لأنك محتاج في نجاتك وتخلصك من هذه الدنيا التي هي من عالم الكون والفساد ومن عذاب جهنم وجوار الشياطين وجنود إبليس أجمعين والصعود إلى عالم الأفلاك وسعة السماوات ومسكن العليين وجوار ملائكة الرحمن المقربين إلى معاونة إخوان لك نصحاء وأصدقاء لك فضلاء متبصرين بأمر الدين علماء بحقائق الأمور ليعرفوك طرائق الآخرة وكيفية الوصول إليها والنجاة من الورطة التي وقعنا فيها كلنا بجناية أبينا آدم عليه السلام فاعتبر بحديث الحمامة المطوقة المذكورة في كتاب «كليلة ودمنة» وكيف نجت من الشبكة لتعلم حقيقة ما قلنا.
واعلم أن الحكماء إذا ضربوا مثلا لأمور الدنيا فإنما غرضهم منه أمور الآخرة والإشارة إليها بضروب الأمثال بحسب ما تحتمل عقول الناس في كل مكان وزمان.
(13) فصل في الهندسة العقلية
وإذ قد ذكرنا طرفا من الهندسة الحسية شبه المدخل والمقدمات فنريد أن نذكر طرفا من الهندسة العقلية؛ إذ كانت هي أحد أغراض الحكماء الراسخين في العلوم الإلهية المرتاضين بالرياضات الفلسفية، وذلك أن غرضهم في تقديم الهندسة بعد علم العدد هو تخريج المتعلمين من المحسوسات إلى المعقولات وترقيتهم لتلاميذهم وأولادهم من الأمور الجسمانية إلى الأمور الروحانية.
فاعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن النظر في الهندسة الحسية يؤدي إلى الحذق في الصنائع العملية كلها، والنظر في الهندسة العقلية يؤدي إلى الحذق في الصنائع العلمية؛ لأن هذا العلم هو أحد الأبواب التي تؤدي إلى معرفة جوهر النفس التي هي جذر العلوم وعنصر الحكمة وأصل الصنائع العلمية والعملية جميعا؛ أعني معرفة جوهر النفس، فاعلم جميع ما قلنا.
فصل
الخط العقلي لا يرى مجردا إلا بين السطحين، وهو مثل الفصل المشترك الذي هو بين الشمس والظل وإذا لم يكن شمس ولا فيء لم تر خطا بنقطتين وهميتين، فإذا توهمت أن قد تحركت إحدى النقطتين وسكنت الأخرى حتى رجعت إلى حيث ابتدأت بالحركة حدث في فكرك السطح ، والسطح العقلي أيضا لا يرى بمجرده إلا بين الجسمين، وهو الفصل المشترك بين الماء والدهن، والنقطة العقلية لا ترى أيضا بمجردها إلا حيث ينقسم الخط بنصفين بالوهم أي موضع وقعت للإشارة إليها فهي تنتهي هناك.
واعلم يا أخي أنك إذا توهمت حركة هذه النقطة على سمت واحد حدث في فكرك خط وهمي مستقيم، وإذا توهمت حركة هذا الخط في غير الجهة التي تحركت إليها النقطة حدث في فكرك سطح وهمي، وإذا توهمت حركة هذا السطح في غير الجهة التي تحرك إليها الخط والنقطة حدث في وهمك جسم وهمي له ستة سطوح مربعات قائمة الزوايا وهو المكعب، وإن كانت مسافة حركة السطح أقل من مسافة حركة الخط حدث من ذلك جسم لبني وإن كان أكثر من ذلك حدث من ذلك جسم بئري وإن كانت متساوية حدث مكعب.
واعلم يا أخي بأن كل خط مستقيم مفروض في الوهم فلا بد له من نهايتين وهما رأساه ويسميان النقطتين الوهميتين، وإذا توهمت أنه تحركت إحدى النقطتين وسكنت الأخرى حتى رجعت إلى حيث ابتدأت بالحركة حدث في فكرك من ذلك سطح مدور وهمي وتكون النقطة الساكنة مركز الدائرة والنقطة المتحركة التي قد حدثت في فكرك بحركتها محيط الدائرة.
ثم اعلم بأن أول سطح يحدث من حركتها ثلث الدائرة ثم ربع الدائرة ثم نصف الدائرة ثم الدائرة، وإذا توهمت أن الخط المقوس الذي هو نصف محيط الدائرة سكن رأساه جميعا وتحرك الخط نفسه حتى يرجع إلى حيث ابتدأ بالحركة؛ حدث في فكرك من حركتها جسم كري، فقد بان لك - بما ذكرنا - أن الهندسة العقلية هي النظر في الأبعاد الثلاثة التي هي الطول والعرض والعمق خلوا من الأجسام الطبيعية، وذلك أن الناظرين في الهندسة الحسية التي تقدم ذكرها إذا ارتاضوا فيها وقويت أفكارهم بالنظر فيها؛ انتزعوا هذه الأبعاد الثلاثة التي هي الخط والسطح والجسم وصورها في نفوسهم لتلك الأبعاد المصورة كالهيولى.
وهي فيها كالصورة يسمونها مقادير مساحية ويستغنون عن النظر إلى المقادير الحسية، ثم يتكلمون عليها ويخبرون عن أجناسها وأنواعها وخواصها وما يعرض فيها من المعاني إذا أضيف بعضها إلى بعض، فيقولون: الخط هو مقدار ذو بعد واحد والسطح هو مقدار ذو بعدين والجسم هو مقدار ذو ثلاثة أبعاد والخط المستقيم هو أقصر خط وصل بين النقطتين والنقطة رأس الخط والخط المقوس هو الخط الذي لا يمكن أن يفرض عليه ثلاثة فقط على سمت واحد والزوايا ما بين خطين على غير استقامة والشكل ما أحاط به خط واحد أو خطوط والدائرة شكل يحيط به خط يقال له: المحيط وفي داخله نقطة كل الخطوط المستقيمة المخرجة منها إليه متساوية، والمثلث شكل يحيط به ثلاثة خطوط وثلاث زوايا، والمربع شكل يحيط به أربعة خطوط وله أربع زوايا قائمات، وعلى هذا القياس والمثال سائر ما يتكلمون به في أشكال الهندسة من غير إشارة إلى جسم من الأجسام الطبيعية.
(14) فصل في حقيقة الأبعاد في الهندسة العقلية
واعلم بأن كثيرا من المهندسين والناظرين في العلوم يظنون أن لهذه الأبعاد الثلاثة؛ أعني الطول والعرض والعمق، وجودا بذاتها وقوامها ولا يدرون أن ذلك الوجود إنما هو في جوهر الجسم أو في جوهر النفس، وهي لها كالهيولى، وهي فيها كالصورة إذا انتزعتها القوة المفكرة من المحسوسات.
ولو علموا أن الغرض الأقصى من النظر في العلوم الرياضية إنما هو أن ترتاض أنفس المتعلمين بأن يأخذوا صور المحسوسات من طريق القوى الحساسة وتصورها في ذاتها بالقوة المفكرة حتى إذا غابت المحسوسات عن مشاهدة الحواس لها بقيت تلك الرسوم التي أدتها القوى الحساسة إلى القوة المتخيلة، والمتخيلة إلى القوة المفكرة، والمفكرة أدت إلى القوة الحافظة مصورة في جوهر النفس، فاستغنت عند ذلك النفس عن استخدامها القوى الحساسة في إدراك المعلومات عند نظرها إلى ذاتها، ووجدت صور المعلومات كلها في جوهرها فعند ذلك استغنت عن الجسد، وزهدت في السكون معه، وانتبهت من نوم الغفلة، واستيقظت من رقدة الجهالة، ونهضت بقوتها، واستقلت بذاتها، وفارقت الأجسام، وخرجت من بحر الهيولى، ونجت من أسر الطبيعة، وأعتقت من عبودية الشهوات الجسمانية، وتخلصت من حرقة الاشتياق إلى اللذات الجرمانية، وشاهدت عالم الأرواح، وارتقت إلى هناك؛ حيث قال: @QUR07 إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه أراد به النفس الزكية، وجوزيت بأحسن الجزاء، وهذا هو الغرض الأقصى من النظر في العلوم الرياضية التي كانوا يخرجون بها أولاد الحكماء وتلامذة القدماء، هكذا مذهب إخواننا الكرام، وفقك الله وإيانا سبيل الرشاد، إنه رءوف بالعباد.
(15) فصل في خواص الأشكال الهندسية
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن للأشكال الهندسية خواص ولمجموعها خواص أيضا، وقد بينا في رسالة الأرثماطيقي طرفا من خواص العدد فنريد أن نذكر في هذا الفصل طرفا من خواص الأشكال الهندسية؛ ليكون تنبيها للناظرين في هذين العلمين على الغرض منهما ويكون أيضا إرشادا لطالبي خواص الأشياء وكيفية المسلك فيها، ونبدأ أولا بذكر المثلثات؛ إذ كانت هي أول الأشكال الهندسية - كما بينا في رسالة جومطريا، فنقول:
إن الشكل المثلث هو الذي له ثلاثة أضلاع وثلاث زوايا وهو سبعة أنواع:
أولها المتساوي الأضلاع الحاد الزوايا مثل هذا ![](../Images/figure58.png)، والثاني الحاد الزوايا المتساوي الضلعين مثل هذا ![](../Images/figure59.png)، والثالث الحاد الزوايا المختلف الأضلاع كهذا ![](../Images/figure60.png)، والرابع المتساوي الضلعين القائم الزاوية مثل هذا ![](../Images/figure61.png)، والخامس القائم الزاوية المختلف الأضلاع مثل هذا ![](../Images/figure62.png)، والسادس المنفرج الزاوية المتساوي الضلعين هكذا ![](../Images/figure63.png)، والسابع المنفرج الزاوية المختلف الأضلاع مثل هذا ![](../Images/figure64.png).
(16) فصل في بيان تلك الخواص
واعلم يا أخي بأن لكل واحد من هذه المثلثات خاصية ليست للآخر؛ فقد تبين ذلك في كتاب أوقليدس في المقالة الأولى ببراهينها، ولكن نذكر منها الخاصية التي تشتمل على سبعتها كلها، وذلك أن من خاصية كل شكل مثلث - أي مثلث كان - أنه لا بد من أن يكون فيه زاويتان حادتان، فأما الزاوية الثالثة فيمكن أن تكون حادة أو قائمة أو منفرجة.
ومن خاصيتها أيضا أن ثلاث زوايا كل مثلث مجموعها مساو لزاويتين قائمتين، ومن خاصيتها أيضا أن الضلع الأطول من كل مثلث بوتر الزاوية العظمى، ومن خاصيتها أن كل ضلعين مجموعين من كل مثلث أطول من الضلع الثالث من خاصيتها أيضا أنه إذا أخرج ضلع من أضلاعه - أي ضلع كان - على استقامته، فإنه يحدث زاوية خارجة من المثلث وتكون هي أكبر من كل زاوية تقابلها، ويكون مساويا للداخلتين المقابلتين لها، ومن خاصيتها أيضا أن ضرب مسقط الحجر من كل مثلث في نصف قاعدتها هو مساحة ذلك المثلث.
وأما خاصية المثلث القائم الزاوية فهي أن مربع وتر الزاوية القائمة مساو للمربعين الكائنين من الضلعين.
ومن خاصية المثلث الحاد الزاوية أن مربع الوتر أقل من مربع الضلعين الباقيين بمقدار مربع الضلع الذي وقع عليه العمود فيما بين مسقط العمود والزاوية مرتين.
ومن خاصية المثلث المنفرج الزاوية أن مربع الوتر أكثر من مربع الضلعين بمقدار مربع أحد الضلعين فيما هو خارج منه إلى مسقط العمود مرتين مثل هذا: ![](../Images/figure65.png)
وأما الشكل المربع فهو الذي له أربعة أضلاع وأربع زوايا وهو خمسة أنواع أولها المتساوي الأضلاع القائم الزوايا مثل هذا ![](../Images/figure66.png)، والثاني المستطيل القائم الزوايا المتساوي كل ضلعين متقابلين مثل هذا ![](../Images/figure67.png)، الثالث المعين وهو المتساوي الأضلاع المختلف الزوايا مثل هذا ![](../Images/figure68.png)، والرابع الشبيه بالمعين وهو المتساوي كل ضلعين متقابلين مثل هذا ![](../Images/figure69.png) والخامس المختلف الأضلاع والزوايا مثل هذا ![](../Images/figure70.png).
واعلم يا أخي بأن لكل واحد من هذه الأشكال خواص يطول شرحها، ولكن نذكر الخاصية التي تشملها كلها وهي أن كل مربع - أي مربع كان - فإن زواياه الأربع مجموعة تكون مساوية لأربع زوايا قائمة، وأن كل مربع يمكن أن ينقسم بمثلثين وإن زيد عليه مثلث آخر صار منها شكل مجسم، وأما الشكل المخمس فهو الذي يحيط به خمسة أضلاع وله خمس زوايا وهو أول الأشكال الكثيرة الزوايا المتساوي الأضلاع وأنه يمكن أن يحيط بكل واحد منها دائرة، ويمكن أن يحيط هو أيضا بدائرة وأن كل شكل منها الذي هو أكثر زوايا فهو أكثر وأوسع مساحة من الذي هو أقل منه إذا كان المحيط بها مقدارا واحدا وإن ضرب عمود واحد من تلك المثلثات في نصف قواعدها فهو مساحة ذلك الشكل الكثير الزوايا.
ومن خاصية الشكل المسدس المتساوي الأضلاع أن كل ضلع من أضلاعه مساو لنصف قطر الدائرة التي تحيط به، وبالجملة ما من شكل إلا وله خاصية أو عدة خواص تركنا ذكرها مخافة التطويل، فأما خواص الشكل المستدير فقد أفرد لها أوقليدس مقالة من كتابه، ولكن نذكر منها طرفا؛ فنقول: إن الشكل المستدير هو سطح يحيط به خط واحد، وإن مركزه في وسطه، وإن أقطاره كلها متساوية، وإنه أوسع من كل شكل كثير الزوايا إذا كان الذي يحيط به سطحا واحدا، وهو يشارك الدائرة في خواصها، ونسبته من سائر الأجسام كنسبة الدائرة من سائر السطوح، وقد تبين خواص هذا الشكل في المقالة الأخيرة من كتاب أوقليدس بشرح وبراهين.
وبالجملة: إنك لو تأملت يا أخي غرض أوقليدس من البيان وعلم ما في سائر كتب الهندسة؛ لوجدت كلها إنما هو البحث عن خواص المقادير ومعرفة حقائقها التي هي الخطوط والسطوح والأجسام وما يعرض فيها من الأبعاد والزوايا والمناسبات التي بين بعضها وبعض، وإذ قد بينا طرفا من خواص الأشكال في هذه الرسالة، وقبلها طرفا من خواص العدد في رسالة الأثماطيقي فنريد أن نذكر طرفا من خواص مجموعها، وذلك أنه إذا جمع بين بعض الأعداد وبين بعض الأشكال الهندسية ظهر منها خواص أخر لا يتبين في كل واحد منهما بمجرده؛ مثال ذلك إذا كتب التسعة الأعداد في الشكل المتسع على هذه الصورة؛ فإن خاصيته في الشكل المتسع أنه كيفما عد كانت الجملة خمسة عشر مثل هذا:
وهكذا الستة عشر إذا كتب في الشكل ذي الستة عشر بيتا على هذه الصورة، فإن من خاصيته أنه كيفما عد كانت الجملة أربعة وثلاثين مثل هذا:
وهكذا الخمسة والعشرون إذا كتب في الشكل ذي الخمسة والعشرين بيتا على هذه الصورة، فإن من خاصيته أنه كيفما عد كانت الجملة خمسة وستين، مثل هذا:
وهكذا الستة والثلاثون إذا كتب في الشكل ذي الستة والثلاثين بيتا على هذه الصورة، فإن من خاصيته أنه كيفما عد كانت الجملة مائة وأحد عشر، مثل هذا:
وهكذا التسعة والأربعون إذا كتب في الشكل ذي التسعة والأربعين بيتا على هذه الصورة، فإن من خاصيته أنه كيفما عد كانت الجملة مائة وخمسة وسبعين، مثل هذا:
وهكذا الأربعة والستون إذا كتب في الشكل ذي الأربعة والستين بيتا على هذه الصورة، فإن من خاصيته أنه كيفما عد كانت الجملة مائتين وستين، وهذه صورتها:
وهكذا الأحد والثمانون إذا كتب في الشكل ذي الأحد والثمانين بيتا على هذه الصورة، فإن من خاصيته أنه كيفما عد كانت الجملة ثلاثمائة وتسعة وستين، وهذه صورتها:
وفي التي هي الأساس بالواسطة السفلى لأي حساب كان ثم يمشي على «كتمي» صاعدا سير الخسرو فيقع العدد ما يتلو الواسطة على النظم الطبيعي في الزاوية العليا التي عن «كتمي»، ثم يمشي سير الرمك التي تلت الفرس التي هي واسطة للزاويتين اللتين على كرابوي، ثم يصعد صعود البيدق إلى الزاوية العليا من يسارك، فالحساب على النظم الطبيعي، ثم منها يسير سير الفرزان بعددين اثنين على النظم الطبيعي إلى أن يبلغ الزاوية السفلى على يمينك، ثم تدفع البيدق بالعدد الذي يتلو العدد الواقع في الزاوية على النظم الطبيعي إلى بيت الفرس الذي هو الزاوية السفلى عن يسارك على النظم الطبيعي، ثم تدفع سير الفرس على النظم الطبيعي إلى بيت الفرس الذي هو واسطة العليا.
ومن خاصيتها أن الزوايا كلها أزواج والأوساط كلها أفراد، والسير فيه سير الفرس ثم سير البيدق ثم سير الفرزان مرتين ثم سير البيدق مرة ثم سير الفرس مرة أخرى ثم سير الفرس إلى الواسطة العليا.
وأما منافعها والفائدة منها فقد ذكرنا في رسالة الطلسمات والعزائم طرفا منها، ولكن نذكر منها في هذا الفصل مثالا واحدا ليكون دلالة على صدق ما قلنا، فنقول: إن من خاصية هذا الشكل المتسع ومنفعته تسهيل الولادة إذا كتب على خزفين لم يصبهما الماء وعلقتهما على المرأة التي ضربها الطلق وإن اتفق أن يكون القمر في التاسع ومتصلا برب التاسع سهل الولادة أو برب بيته من التاسع وما شاكل ذلك من المتسعات.
وعلى هذا الطريق سلك أصحاب الطلمسات في نصبها، وذلك أنه ما من شيء من الموجودات الرياضية والطبيعية والإلهية إلا وله خاصية ليست لشيء آخر ولمجموعاتها خواص ليست لمفرداتها من الأعداد والأشكال والصور والمكان والزمان والعقاقير والطعوم والألوان والروائح والأصوات والكلمات والأفعال والحروف والحركات، فإذا جمعت بينها على النسب التأليفية ظهرت خواصها وأفعالها، والدليل على صحة ما قلنا أفعال الترياقات والمراهم والشربات وألحان الموسيقى وتأثيراتها في الأجساد والنفوس جميعا، مما لا خفاء به عن كل ذي لب حكيم فيلسوف - كما بينا طوفا من ذلك في رسالة الموسيقى.
(17) فصل في ثمرة هذا الفن
واعلم بأن النظر في علم الهندسة الحسية يعين على الحذق في الصنائع والنظر في الهندسة العقلية، ومعرفة خواص العدد والأشكال يعين على فهم كيفية تأثيرات الأشخاص الفلكية وأصوات الموسيقى في نفوس المستمعين، والنظر في كيفيات تأثيرات الحس في منفعلاتها يعين على فهم كيفية تأثيرات النفوس المفارقة في النفوس المتجسدة في عالم الكون والفساد، وفي علم الهندسة العقلية للناظرين طريق إلى الوصول إلى معرفتها بعون الله وهدايته.
(تمت رسالة الجومطريا ويتلوها رسالة في مدخل علم النجوم، وهي الثالثة من القسم الأول من الأربعة الأقسام.)
الرسالة الثالثة الموسومة بالأسطرنوميا في علم النجوم وتركيب الأفلاك
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنا قد فرغنا من رسالة المدخل إلى علم الهندسة، وبينا فيها الهندسة الحسية والعقلية، واستوفينا الكلام في الخطوط والأشكال والزوايا التي لا بد للمهندسين أن يعرفوها، ونريد أن نذكر في هذه الرسالة طرفا من علم النجوم مثل ما فيها، فنقول:
إن علم النجوم ينقسم ثلاثة أقسام، قسم منها هو معرفة تركيب الأفلاك وكمية الكواكب وأقسام البروج وأبعادها وعظمها وحركاتها وما يتبعها من هذا الفن، ويسمى هذا القسم «علم الهيئة»، ومنها قسم هو معرفة حل الزيجات وعمل التقاويم واستخراج التواريخ، وما شاكل ذلك، ومنها قسم هو معرفة كيفية الاستدلال بدوران الفلك، وطوالع البروج، وحركات الكواكب على الكائنات قبل كونها تحت فلك القمر، ويسمى هذا النوع «علم الأحكام»، فنريد أن نذكر في هذه الرسالة من كل نوع طرفا شبه المدخل؛ كيما يسهل الطريق على المتعلمين ويقرب تناوله للمبتدئين، فنقول:
أصل علم النجوم هو معرفة ثلاثة أشياء وهي الكواكب والأفلاك والبروج، فالكواكب أجسام كريات مستديرات مضيئات وهي ألف وتسعة وعشرون كوكبا كبارا التي أدركت بالرصد منها سبعة يقال لها: السيارة، وهي: زحل والمشتري والمريخ والشمس والزهرة وعطارد والقمر، والباقية يقال لها: ثابتة ولكل كوكب من السبعة السيارة فلك يخصه.
والأفلاك هي أجسام كريات مشفات مجوفات، وهي تسعة أفلاك مركبة بعضها في جوف بعض كحلقة البصلة فأدناها إلينا فلك القمر وهو محيط بالهواء من جميع الجهات كإحاطة قشرة البيضة ببياضها والأرض في جوف الهواء كالمح في بياضها، ومن وراء فلك القمر فلك عطارد، ومن وراء فلك عطارد فلك الزهرة، ومن وراء فلك الزهرة فلك الشمس، ومن وراء فلك الشمس فلك المريخ، ومن وراء فلك المريخ فلك المشتري، ومن وراء فلك المشتري فلك زحل، ومن وراء فلك زحل فلك الكواكب الثابتة، ومن وراء فلك الكواكب الثابتة فلك المحيط، وهذا مثال ذلك:
![figure](../Images/figure71.png)
وذلك أن الفلك المحيط دائم الدوران كالدولاب، يدور من المشرق إلى المغرب فوق الأرض، ومن المغرب إلى المشرق تحت الأرض في كل يوم وليلة دورة واحدة ويدير سائر الأفلاك والكواكب معه، كما قال الله - عز وجل: @QUR04 وكل في فلك يسبحون، وهذا الفلك المحيط مقسوم باثني عشر قسما كجزر البطيخة كل قسم منها يسمى برجا، وهذه أسماؤها: الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت، فكل برج ثلاثون درجة جملتها ثلاثمائة وستون درجة وكل درجة ستون جزءا، كل جزء يسمى دقيقة جملتها واحد وعشرون ألفا وستمائة دقيقة، وكل دقيقة ستون جزءا يسمى ثانية وكل ثانية ستون جزءا وكل جزء يسمى ثالثة، وهكذا إلى الروابع والخوامس وما زاد بالغا ما بلغ، مثال ذلك:
![figure](../Images/figure72.png)
وهذه البروج توصف بأوصاف شتى من جهات عدة، وقبل وصفها نحتاج أن نذكر أشياء لا بد من ذكرها، منها: أن الزمان أربعة أقسام، وهي: الربيع والصيف والخريف والشتاء، والجهات أربع، وهي: المشرق والمغرب والجنوب والشمال. والأركان أربعة وهي: النار والهواء والماء والأرض. والطبائع أربع وهي: الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة. والأخلاط أربع وهي: الصفراء والسوداء والبلغم والدم. والرياح أربع وهي: الصبا والدبور والجريباء والتيماء.
(1) فصل في ذكر صفة البروج
فنقول: منها ستة شمالية وستة جنوبية وستة مستقيمة الطلوع وستة معوجة الطلوع، وستة ذكور وستة إناث وستة نهارية وستة ليلية وستة فوق الأرض وستة تحت الأرض، وستة تطلع بالنهار وستة تطلع بالليل وستة صاعدة وستة هابطة وستة يمنة وستة يسرة وستة من حيز الشمس وستة من حيز القمر.
تفصيلها: أما الستة الشمالية فهي الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة، وإذا كانت الشمس في واحد منها يكون الليل أقصر والنهار أطول، وأما الستة الجنوبية فهي الميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت، وإذا كانت الشمس في واحد منها يكون الليل أطول والنهار أقصر، وأما المستقيمة الطلوع فهي السرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس، وكل واحد منها يطلع في أكثر من ساعتين، وإذا كانت الشمس في واحد منها تكون هابطة من الشمال إلى الجنوب ومن الأوج إلى الحضيض والليل آخذ من النهار.
وأما المعوجة الطلوع فهي الجدي والدلو والحوت والحمل والثور والجوزاء، وكل واحد منها يطلع في أقل من ساعتين، وإذا كانت الشمس في واحد منها تكون صاعدة من الجنوب إلى الشمال ومن الحضيض إلى الأوج والنهار آخذ من الليل، وأما الستة الذكور النهارية فهي الحمل والجوزاء والأسد والميزان والقوس والدلو، وأما الستة الإناث الليلية فهي الثور والسرطان والسنبلة والعقرب والجدي والحوت.
وأما الستة التي تطلع بالنهار فهي من البرج الذي فيه الشمس إلى البرج السابع منها، والستة التي تطلع بالليل هي من البرج السابع إلى البرج الذي فيه الشمس، وأما الستة التي من حيز الشمس فهي من برج الأسد إلى برج الجدي، والستة التي من حيز القمر هي من برج الدلو إلى برج السرطان، ومن وجه آخر هذه البروج تنقسم أربعة أقسام، منها ثلاثة ربيعية صاعدة في الشمال زائدة النهار على الليل، وهي: الحمل والثور والجوزاء، وثلاثة صيفية هابطة في الشمال آخذة الليل من النهار، وهي: السرطان والأسد والسنبلة، منها ثلاثة خريفية هابطة في الجنوب زائدة الليل على النهار، وهي: الميزان والعقرب والقوس، ومنها ثلاثة شتوية صاعدة من الجنوب آخذة النهار من الليل، وهي: الجدي والدلو والحوت.
وتنقسم هذه البروج من جهة أخرى أربعة أقسام ثلاثة منها مثلثات ناريات حارات يابسات شرقيات على طبيعة واحده، وهي: الحمل والأسد والقوس، وثلاثة منها مثلثات ترابيات باردات يابسات جنوبيات على طبيعة واحدة، وهي: الثور والسنبلة والجدي، وثلاثة منها مثلثات هوائيات حارات رطبات غربيات على طبيعة واحدة وهي: الجوزاء والميزان والدلو، ومنها مثلثات مائيات باردات رطبات شماليات على طبيعة واحدة، وهي: السرطان والعقرب والحوت، وكذلك من جهة أخرى تنقسم هذه البروج ثلاثة أثلاث، أربعة منها منقلبة الزمان، وهي: الحمل والسرطان والميزان والجدي، وأربعة منها ثابتة الزمان وهي: الثور والأسد والعقرب والدلو، وأربعة منها ذوات الجسدين وهي: الجوزاء والسنبلة والقوس والحوت.
فقد بان بهذا الوصف في هذا الشكل أن لو كانت البروج أكثر من اثني عشر أو أقل من ذلك لما استمرت فيه هذه الأقسام على هذا الوجه الذي ذكرنا، فإذا بواجب الحكمة كانت اثني عشر؛ لأن الباري - جل ثناؤه - لا يفعل إلا الأحكم والأتقن، ومن أجل هذا جعل الأفلاك كريات الشكل؛ لأن هذا الشكل أفضل الأشكال، وذلك أنه أوسعها وأبعدها من الآفات وأسرعها حركة ومركزه في وسطه وأقطاره متساوية ويحيط به سطح واحد ولا يماس غيره إلا على نقطة ولا يوجد في شكل غيره هذه الأوصاف، وجعل أيضا حركته مستديرة؛ لأنها أفضل الحركات، وهذه البروج الاثنا عشر تنقسم بين هذه الكواكب السبعة السيارة من عدة وجوه، ولها فيها أقسام وخطوط من وجوه شتى، فمنها البيت والوبال، ومنها الأوج والحضيض، ومنها الشرف والهبوط، ومنها الجوزهر يعني: الرأس والذنب، ومنها ربوبية المثلثات، ومنها ربوبية الوجوه، ومنها ربوبية الحدود، ومنها ربوبية النوبهرات، ومنها ربوبية الاثني عشريات، ومنها ربوبية مواضع السهام، وغير ذلك، وأن هذه الكواكب السيارة كالأرواح، والبروج لها كالأجساد.
(2) فصل في ذكر البيوت والوبال
فنقول: اعلم أن الأسد بيت الشمس والسرطان بيت القمر والجوزاء والسنبلة بيتا عطارد والثور والميزان بيتا الزهرة والحمل والعقرب بيتا المريخ والقوس والحوت بيتا المشتري والجدي والدلو بيتا زحل، ولكل واحد من هذه الكواكب الخمسة بيت من حيز الشمس وبيت من حيز القمر، ووبال كل كوكب في مقابلة بيته، وهذه الكواكب لبعضها في بيوت بعض مواضع مخصوصة، فمنها الشرف والهبوط ومنها الأوج والحضيض ومنها الجوزهر، مثال ذلك:
![](../Images/figure73.png)
تفسير ذلك: فأما الشرف فهو أعز موضع للكواكب في الفلك والهبوط ضده، والأوج أعلى موضع للكواكب في الفلك والحضيض ضده، فشرف الشمس في الحمل وهو بيت المريخ وأوجها في الجوزاء بيت عطارد وشرف زحل في الميزان بيت الزهرة وأوجه في القوس بيت المشتري وجوزهره في السرطان بيت القمر. ومعنى الجوزهر: تقاطع طريق الكواكب لطريق الشمس بممرها في البروج في موضعين؛ أحدهما يسمى رأس الجوزهر والآخر ذنب الجوزهر، وذلك أن زحل إذا سار في البروج يكون مسيره في ستة أبراج عن يمنة طريق الشمس ثم يعبر إلى الجانب الآخر ويسير ستة أبراج عن يسرة طريق الشمس، فيحدث لطريقها تقاطع في موضعين أحدهما يسمى الرأس والآخر الذنب، وهذا مثاله:
![](../Images/figure74.png)
ولكل كوكب من الخمسة السيارة جوزهر مثل ما لزحل مذكور ذلك في الزيجات، وأما المذكور في التقاويم فهو الذي للقمر، ويقال لهما أيضا: العقدتان، وإنما اختص ذكرهما في التقاويم؛ لأنهما ينتقلان في البروج والدرج ولهما سير كسير الكواكب ولهما دلالة كدلالة الكواكب.
وإذا اجتمع الشمس والقمر في وقت من الأوقات عند أحدهما في برج واحد ودرجة واحدة انكسفت الشمس، ولا يكون ذلك إلا في آخر الشهر؛ لأن القمر يصير محاذيا لموضع الشمس من البرج والدرجة فيمنع نور الشمس عن أبصارنا فنراها منكسفة مثل ما تمنع قطعة غيم عن أبصارنا نور الشمس إذا مرت محاذية لأبصارنا ولعين الشمس، وإذا كانت الشمس عند أحدهما وبلغ القمر إلى الآخر انكسف القمر ولا يكون كسوف القمر إلا في نصف الشهر؛ لأن القمر في نصف الشهر يكون في البرج المقابل للبرج الذي فيه الشمس وتكون الأرض في الوسط فتمنع نور الشمس عن إشراقه على القمر فيرى القمر منكسفا؛ لأنه ليس له نور من نفسه، وإنما يكتسي النور من الشمس، ومثال ذلك:
![](../Images/figure75.png)
وشرف المشتري في السرطان، وأوجه في السنبلة، ورأس جوزهره في الجوزاء، وشرف المريخ في الجدي وأوجه في الأسد وجوزهره في الحمل، وشرف الزهرة في الحوت وأوجها في الجوزاء ورأس جوزهرها في الثور، وشرف عطارد في السنبلة وأوجه في الميزان وجوزهره في الحمل، وشرف القمر في الثور وأوجه في البروج متحرك يعرف موضعه ذلك من التقويم والزيج، وجملته أن القمر إذا قارن الشمس فهو عند الأوج أو قابلها فهو عند الأوج، وفي مقابلة شرف كل كوكب هبوطه من البرج السابع مثله، وفي مقابلة الأوج الحضيض مثل ذلك، وفي مقابلة شرف رأس الجوزهر موضع الذنب من البرج السابع مثله.
(3) فصل في ذكر أرباب المثلثات والوجوه والحدود
اعلم أن هذه الكواكب السيارة لبعضها في بيوت بعض شركة تسمى «ربوبية المثلثات»، ولها فيها أقسام تسمى «الوجوه»، ولها فيها خطوط تسمى «الحدود»، تفصيل ذلك أن كل ثلاثة أبراج على طبيعة واحدة تسمى المثلثات كما بين من قبل ذلك، وتديرها ثلاثة كواكب تسمى أرباب المثلثات يستدل بها على أثلاث أعمار المواليد، فأرباب المثلثات الناريات بالنهار الشمس ثم المشتري وبالليل المشتري ثم الشمس وشريكهما بالليل والنهار زحل، وأرباب المثلثات الترابيات بالنهار الزهرة ثم القمر وبالليل القمر ثم الزهرة وشريكهما بالليل والنهار المريخ، وأرباب المثلثات الهوائيات بالنهار زحل ثم عطارد وبالليل عطارد ثم زحل وشريكهما بالليل والنهار المشتري، وأرباب المثلثات المائيات بالنهار الزهرة ثم المريخ وبالليل المريخ ثم الزهرة وشريكهما بالليل والنهار القمر.
(4) فصل في ذكر أرباب الوجوه
اعلم أن كل برج من هذه الأبراج ينقسم ثلاثة أثلاث، كل ثلث عشر درجات يسمى وجها منسوبا ذلك إلى كوكب من السيارة يقال له: «رب الوجه» يستدل به على صورة المولود وعلى ظواهر الأمور، تفصيل ذلك العشر درجات الأولى من برج الحمل وجه المريخ وعشر درجات الثانية وجه الشمس وعشر درجات الأخيرة وجه الزهرة وعشر درجات من الثور وجه عطارد والعشر الثانية وجه القمر والعشر الأخيرة وجه زحل وعشر درجات من الجوزاء وجه المشتري والعشر الثانية وجه المريخ والعشر الأخيرة وجه الشمس.
وعلى هذا القياس إلى آخر الحوت كل عشر درجات وجه لكوكب واحد على توالي أفلاكها - كما بينا - فأما ذكر الحدود وأربابها فإن كل برج من هذه الأبراج ينقسم بخمسة أقسام مختلفة الدرج أقل جزء منها درجتان وأكثرها اثنتا عشرة درجة كل جزء منها يسمى حدا منسوبا ذلك الحد إلى الكوكب من الخمسة السيارة، يقال له: «رب الحد» يستدل به على أخلاق المولود وليس للشمس ولا للقمر فيها نصيب، وقد صورنا لحسابه دائرة فيها مكتوب حرفان الحرف الأول من اسم صاحب الحد والثاني كمية درج الحد وكذلك حساب الوجوه حرفان اسم صاحب الوجه حرف والثاني كمية درج الوجه وهذه أسماؤها: كيوان «ك» مشتري «م» بهرام «ب» شمس «ش» قمر «ق» زهرة «ز» عطارد «ع».
فأما الأوسع من الدائرة فهو حساب الحدود حرفان حرفان والدائرة الوسطى حساب الوجوه.
(5) فصل في ذكر الكواكب السيارة
فنقول: اثنان منها نيران وهما الشمس والقمر، واثنان منها سعدان وهما المشتري والزهرة، واثنان منها نحسان وهما زحل والمريخ، وواحد ممتزج وهو عطارد، وعقدتان وهما الرأس والذنب.
ذكر طبائعها: «الشمس» ذكر حار ناري نهاري سعد «زحل» بارد يابس ذكر نهاري نحس «المشتري» حار رطب ذكر نهاري سعد «المريخ» حار يابس أنثى ليلي نحس «الزهرة» باردة رطبة مؤنثة ليلية سعد «عطارد» لطيف ممتزج سعد «القمر» بارد رطب أنثى ليلي سعد أسود «الرأس» مثل المشتري «الذنب» مثل زحل.
ذكر أنوارها: نور الشمس خمس عشرة درجة أمامها، ومثل ذلك خلفها نور زحل والمشتري كل واحد تسع درجات قدامه، ومثل ذلك خلفه نور المريخ ثماني درجات أمامه ومثل ذلك خلفه، نور الزهرة وعطارد كل واحد سبع درجات أمامه ومثل ذلك خلفه، نور القمر اثنتا عشرة درجة قدامه ومثل ذلك خلفه.
ذكر ما لها من الأيام والليالي: اعلم أن الليل والنهار وساعاتهما مقسومة بين الكواكب السيارة، فأول ساعة من يوم الأحد من ليلة الخميس للشمس، وأول ساعة من يوم الاثنين ومن ليلة الجمعة للقمر، وأول ساعة من يوم الثلاثاء ومن ليلة السبت للمريخ، وأول ساعة من الأربعاء وليله الأحد لعطارد، وأول ساعة من يوم الخميس وليلة الاثنين للمشتري، وأول ساعة من يوم الجمعة وليلة الثلاثاء للزهرة، وأول ساعة من يوم السبت وليلة الأربعاء لزحل، فأما سائر ساعات الليل والنهار فمقسومة بين هذه الكواكب على توالي أفلاكها، مثال ذلك أن الساعة الثانية من يوم الأحد للزهرة التي فلكها دون فلك الشمس والساعة الثالثة لعطارد الذي فلكه دون فلك الزهرة والساعة الرابعة للقمر الذي فلكه دون فلك عطارد والساعة الخامسة لزحل والساعة السادسة للمشتري والساعة السابعة للمريخ والساعة الثامنة للشمس والتاسعة للزهرة والعاشرة لعطارد والحادية عشرة للقمر والثانية عشرة لزحل، وعلى هذا الحساب سائر ساعات الأيام والليالي يبتدئ من رب الساعة الأولى على توالي أفلاكها - كما بينا.
ذكر ما للكواكب من الأعداد
إن هذه الكواكب السيارة لكل واحد منها دلالة على أعداد معلومة من السنين والشهور والأيام والساعات يستدل بها على كمية أعمار المواليد وعلى طول بقاء الكائنات في عالم الكون والفساد، فمنها:
ذكر دوران الفلك وقسمة أرباعه
الفلك المحيط دائم الدوران كالدولاب يدور من المشرق إلى المغرب فوق الأرض ومن المغرب إلى المشرق تحت الأرض، فيكون في دائم الأوقات نصف الفلك ستة أبراج مائة وثمانين درجة فوق الأرض ويسمى يمنة، والنصف الآخر ستة أبراج مائة وثمانين درجة تحت الأرض يسمى يسرة، وكلما طلعت درجة من أفق المشرق غابت نظيرتها في أفق المغرب من البرج السابع منه فيكون في دائم الأوقات ستة أبراج طلوعها بالنهار وستة طلوعها بالليل ويكون في دائم الأوقات درجة في أفق المشرق وأخرى نظيرتها في أفق المغرب ودرجة أخرى في كبد السماء ويسمى وتد العاشر، وأخرى نظيرتها منحطة تحت الأرض تسمى وتد الرابع فيكون الفلك في دائم الأوقات منقسما بأربعة أرباع كل ربع منها تسعون درجة، فمن أفق المشرق إلى وتد السماء تسعون درجة، يقال لها: الربع الشرقي الصاعد في الهواء، ومن وتد السماء إلى وتد المغرب تسعون درجة يقال لها: الربع الجنوبي الهابط، ومن وتد المغرب إلى وتد الأرض تسعون درجة يقال لها: الربع الغربي الهابط في الظلمة، ومن وتد الأرض إلى وتد المشرق تسعون درجة يقال لها: الربع الشمالي الصاعد، وهذا مثال ذلك:
![](../Images/figure76.png)
ذكر دوران الشمس في البروج وتغييرات أرباع السنة
الشمس تدور في البروج الاثني عشر في كل ثلاثمائة وخمسة وستين يوما وربع دورة واحدة تقيم في كل برج ثلاثين يوما وكسرا، وفي كل درجة يوما وليلة وكسرا تكون بالنهار فوق الأرض وبالليل تحت الأرض وتكون في الصيف في البروج الشمالية في الهواء وتقرب من سمت رءوسنا وتكون في الشتاء في البروج الجنوبية وتنحط في الهواء، وتبعد من سمت رءوسنا، وفي الأوج ترتفع في الفلك وتبعد من الأرض، وفي الحضيض تنحط في الفلك وتقرب من الأرض والدائرة الآتية مثاله وصورته:
![](../Images/figure77.png)
ذكر نزول الشمس في أرباع «الفلك وتغييرات الأزمان»
إذا نزلت الشمس أول دقيقة من برج الحمل استوى الليل والنهار، واعتدل الزمان، وانصرف الشتاء، ودخل الربيع، وطاب الهواء، وهب النسيم فذابت الثلوج، وسالت الأودية، ومدت الأنهار، ونبعت العيون، ونبت العشب، وطال الزرع، ونما الحشيش، وتلألأ الزهر وأورق الشجر، وتفتح النور، واخضر وجه الأرض، ونتجت البهائم، ودرت الضروع، وتكونت الحيوانات، وانتشرت على وجه الأرض، وأخرجت الأرض زخرفها وازينت، وفرح الناس واستبشروا، وصارت الدنيا كأنها جارية شابة تزينت، وتجلت للناظرين.
ذكر دخول الصيف
إذا بلغت الشمس آخر الجوزاء وأول السرطان تناهى طول النهار وقصر الليل، وأخذ النهار في النقصان، وانصرف الربيع، ودخل الصيف، واشتد الحر، وحمي الهواء، وهبت السموم، ونقصت المياه، ويبس العشب، واستحكم الحب، وأدرك الحصاد، ونضجت الثمار، وسمنت البهائم، واشتدت قوة الأبدان، وأخصبت الأرض، وكثر الريف، ودرت أخلاف النعم، وبطر الإنسان، وصارت الدنيا كأنها عروس غنية منعمة رعناء ذات جمال.
ذكر دخول الخريف
وإذا بلغت الشمس آخر السنبلة وأول الميزان استوى الليل والنهار مرة أخرى، وأخذ الليل في الزيادة على النهار، وانصرف الصيف ودخل الخريف وبرد الهواء وهبت ريح الشمال، وتغير الزمان، وجفت الأنهار، وغارت العيون، واصفر ورق الأشجار، وصرمت الثمار، وديست البيادر، وأحرز الحب، وفني العشب، واغبر وجه الأرض، وهزلت البهائم، وماتت الهوام، وانحجزت الحشرات، وانصرف الطير والوحش يطلب البلدان الدفئة، وأخذ الناس يحرزون القوت للشتاء، وصارت الدنيا كأنها كهلة مدبرة قد تولت عنها أيام الشباب.
ذكر دخول الشتاء
وإذا بلغت الشمس آخر القوس وأول الجدي؛ تناهى طول النهار، وأخذ الليل في الزيادة، وانصرف الخريف، ودخل الشتاء، واشتد البرد، وخشن الهواء، وتساقط ورق الأشجار، ومات أكثر النبات، وانحجرت هوام الحيوانات في باطن الأرض، وضعفت قوى الأبدان، وعري وجه الأرض من زينته، ونشأت الغيوم، وكثرت الأنداء، وأظلم الهواء، وكلح وجه الأرض، وهرم الزمان، ومنع الناس عن التصرف، وصارت الدنيا كأنها عجوز هرمة قد دنا منها الموت، وإذا بلغت الشمس آخر الحوت وأول الحمل عاد الزمان كما كان في العام الأول وهذا دأبه، ذلك تقدير العزيز العليم.
ذكر دوران زحل في البرج وحالاته من الشمس
زحل يدور في البروج الاثني عشر - في كل ثلاثين سنة بالتقريب - دورة واحدة، يقيم في كل برج سنتين ونصفا وفي كل درجة شهرا، وفي كل دقيقة اثنتي عشرة ساعة، وتقابله الشمس في كل سنة مرة واحدة إذا صارت الشمس في السابع منه وتربعه مرتين، مرة يمنة ومرة يسرة، وتقارنه في كل سنة مرة إذا صارت معه في برج واحد ودرجة واحدة، ثم تجاوزه الشمس، ويظهر زحل بعد عشرين يوما من المشرق بالغدوات قبل طلوع الشمس، ويسير زحل من وقت مفارقة الشمس إلى أن تقارنه مرة أخرى ثلاثمائة واحدا وثمانين يوما، من ذلك مائة وثلاثة وعشرون يوما مستقيما مشرقا ومائة وأربعة وثلاثون يوما راجعا ومائة وأربعة وعشرون يوما مستقيما مغربا، وذلك دأبهما في كل سنة، وفيما يلي مثال ذلك:
![](../Images/figure78.png)
ذكر دوران المشتري في البروج وحالاته من الشمس
المشتري يدور في البروج الاثني عشر في اثنتي عشرة سنة بالتقريب مرة واحدة يقيم في كل برج سنة وفي كل درجتين ونصف شهرا وفي كل خمس دقائق يوما وليلة، وتقابله الشمس في كل مرة إذا صارت معه في البرج السابع منه، وتربعه مرتين مرة يمنى ومرة يسرى، وتقارنه في كل سنة مرة إذا صارت معه في برج واحد ودرجة واحدة، ثم تجاوزه الشمس ويظهر المشتري بعد عشرين يوما من المشرق بالغدوات قبل طلوعها، ويسير المشتري من وقت مفارقتها إلى وقت مقارنتها دفعة أخرى ثلاثمائة وتسعة وتسعين يوما من ذلك مائة وأربعة وأربعون يوما مستقيما مشرقا ومائة وأحد عشر يوما راجعا ومائة وأربعة وأربعون يوما مستقيما مغربا، وذلك دأبهما، وهذه دائرة مثال ذلك المذكور وصورته:
![](../Images/figure79.png)
ذكر دوران المريخ في الفلك وحالاته من الشمس
المريخ يدور في الفلك في مدة سنتين إلا شهرا واحدا بالتقريب يقيم في كل برج خمسة وأربعين يوما يزيد وينقص ويقيم في كل درجة مقدار يوم وبعض يوم، فإذا رجع في البرج أقام فيه ستة أشهر يزيد وينقص وتقابله الشمس في هذه المدة مرة واحدة عند رجوعه من البرج السابع وتربعه مرتين مرة يمنى ومرة يسرى وتقارنه في هذه المدة مرة إذا صارت معه في برج واحد ودرجة واحدة، ثم تجاوره الشمس ويسير المريخ تحت شعاع الشمس مقدار شهرين، ثم يظهر بالغدوات من المشرق قبل طلوع الشمس مقدار شهرين، ويسير المريخ من وقت مفارقة الشمس له إلى أن تقارنه مرة أخرى 858 يوما من ذلك 325 يوما مستقيما مشرقا و88 يوما راجعا و455 يوما مستقيما مغربا وهذا دأبه، ذلك تقدير العزيز العليم.
ذكر دوران الزهرة في الفلك
الزهرة تدور في البروج مثل دوران الشمس غير أنها تسرع السير تارة فتسبق الشمس وتصير قدامها، وتارة تبطئ في السير فترجع وتصير خلفها فتقارنها مرة وهي راجعة ومرة أخرى وهي مستقيمة، فإذا قارنتها وهي راجعة ظهرت بعد خمسة أيام طالعة من المشرق بالغدوات قبل طلوع الشمس وترى ثمانية أشهر تطلع في أواخر الليل، فيقال لها: مشرقية ثم تسرع في السير وتلحق بالشمس وتسير تحت شعاعها ثلاثة أشهر لا ترى، ثم تظهر بالعشيات في المغرب بعد غروب الشمس فترى ثمانية أشهر ثم تغيب في أول الليل وتسمى مغربية فمن وقت مقارنتها الشمس وهي مستقيمة إلى أن تقارنها مرة أخرى يكون 478 يوما، ومن ذلك تكون 45 يوما راجعة والباقي مستقيمة وأكثر ما تبعد عن الشمس 48 درجة قدامها، ومثل ذلك خلفها، وذلك دأبها.
ذكر دوران عطارد في الفلك وحالاته من الشمس
حالات عطارد من الشمس مثل حالات الزهرة منها غير أن عطارد من وقت مفارقة الشمس وهو مستقيم السير إلى أن يقارنها مرة أخرى على تلك الحال؛ يكون 124 يوما من ذلك 22 يوما راجعا والباقي مستقيما، وأكثر ما يبعد من الشمس 27 درجة قدامها ومثل ذلك خلفها، ويرجع في كل سنة ثلاث مرات، ويحترق ست مرات، ويشرق ثلاث مرات، ويغرب ثلاث مرات، وذلك دأبه.
ذكر دوران القمر في الفلك وحالاته من الشمس
القمر يدور في البروج في كل سنة عربية اثنتي عشرة مرة في كل شهر مرة، ويقيم في كل برج يومين وثلثا وفي كل منزل يوما وليلة وفي كل درجة ساعتين بالتقريب، ويقابل الشمس في كل شهر مرة، ويربعها مرتين مرة يمنة ومرة يسرة، ويقارنها في كل شهر مرة فلا يرى يومين، ثم يظهر في المغرب بعد مغيب الشمس، ويهل ثم يزيد في نوره كل ليلة نصف سبع إلى أن يستكمل ويمتلئ من النور ليلة البدر الرابع عشر من كل شهر، ثم يأخذ في النقصان فينقص كل ليلة نصف السبع إلى أن يمحق في آخر الشهر.
وللقمر في البروج ثمانية وعشرون منزلة - كما قال الله تعالى: @QUR07 والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم وفي كل ثلاثة أبراج منها سبعة منازل، وفي كل برج منزلتان وثلث، وهذه أسماؤها: السرطان البطين الثريا الدبران الهقعة الهنعة الذراع، وهذه منازل الربيع: النثرة الطرف الجبهة الزئرة الصرفة العواء السماك، وهذه منازل الصيف الغفر الزبانيان الإكليل القلب الشولة النعائم البلدة، وهذه منازل الخريف: سعد الذابح سعد بلع سعد السعود سعد الأخبية الفرع المقدم الفرع المؤخر بطن الحوت، وهذه منازل الشتاء: الحمل بيت المريخ وشرف الشمس وهبوط زحل ووبال الزهرة، وهو برج ناري شرقي ذكر منقلب طبيعته المرة الصفراء ربيعي إذا نزلت الشمس أول دقيقة منه استوى الليل والنهار، وأخذ النهار يزيد والليل ينقص ثلاثة أشهر تسعين يوما.
وله ثلاثة أوجه وخمسة حدود «الثور» بيت الزهرة وشرف القمر ووبال المريخ وهو برج ترابي ليلي جنوبي ثابت ربيعي، وطبيعته المرة السوداء، وله ثلاثة وجوه وخمسة حدود، «الجوزاء» وشرف الرأس وهبوط الذنب ووبال المشتري وهو برج هوائي ذكر نهاري غربي ربيعي دموي ذو جسدين وفي آخره ينتهي طول النهار وقصر الليل، وله ثلاثة وجوه وخمسة حدود، و«السرطان» بيت القمر وشرف المشتري وهبوط المريخ ووبال زحل وهو برج مائي أنثى ليلي شمالي منقلب صيفي بلغمي.
وفي أوله يبتدئ الليل بالزيادة والنهار في النقصان تسعون يوما، وله ثلاثة وجوه وخمسة حدود، «الأسد» بيت الشمس وليس فيه شرف ولا هبوط وهو وبال زحل وهو برج ناري ذكر نهاري شرقي ثابت صيفي طبيعته مرة صفراء وله ثلاثة وجوه وخمسة حدود، «السنبلة» بيت عطارد وشرفه وهبوط الزهرة ووبال المشتري وهو برج ترابي ليلي أنثي جنوبي صيفي ذو جسدين طبيعته السوداء، وفي آخره يستوي الليل والنهار مرة أخرى، وله ثلاثة وجوه وخمسة حدود، «الميزان» بيت الزهرة وشرف زحل وهبوط الشمس ووبال المريخ وهو برج ذكر هوائي نهاري غربي منقلب خريفي دموي، وفي أوله يبتدئ الليل بالزيادة على النهار ثلاثة أشهر تسعون يوما.
وله ثلاثة وجوه وخمسة حدود، «العقرب» بيت المريخ وهبوط القمر ووبال الزهرة وهو برج مائي ليلي أنثى خريفي شمالي بلغمي، وله ثلاثة وجوه وخمسة حدود ، «القوس» بيت المشتري وشرف الذنب وهبوط الرأس ووبال عطارد وهو برج ناري ذكر نهاري ذو جسدين خريفي طبيعته المرة الصفراء، وفي آخره ينتهي طول الليل وقصر النهار وله ثلاثة وجوه وخمسة حدود، «الجدي» بيت زحل وشرف المريخ وهبوط المشتري ووبال القمر وهو برج ترابي ليلي منقلب طبيعته السوداء شتوي جنوبي وفي أوله يأخذ النهار في الزيادة والليل في النقصان ثلاثة أشهر، وله ثلاثة وجوه وخمسة حدود، «الدلو» بيت زحل وليس فيه شرف ولا هبوط بل هو وبال الشمس وهو برج هوائي ذكر ناري غربي ثابت شتوي دموي وله ثلاثة وجوه وخمسة حدود، «الحوت» بيت المشتري وشرف الزهرة وهبوط عطارد ووباله وهو برج مائي أنثي ليلي شمالي بلغمي، وفي آخره يستوي الليل والنهار، ثم تنزل الشمس أول الحمل، ويستأنف الزمان مثل ما كان في العام الأول، ذلك تقدير العزيز العليم.
(6) فصل في قران الكواكب
وهذه الكواكب السيارة تسير في هذه البروج الاثني عشر بحركاتها المختلفة - كما بينا - فربما اجتمع منها اثنان في برج واحد وثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة أو كلها، وإذا اجتمع منها اثنان في درجة واحدة من البرج يقال: إنهما مقتربان، وأما في أكثر الأوقات فإنها تكون متفرقة في البروج فيعرف مواضعها في البروج والدرج كيف كانت متفرقة أو مجتمعة من التقويم أو الزيج.
ذكر البيوت الاثني عشر
إذا ولد مولود أو حدث أمر من الأمور فلا بد من أن تكون في تلك اللحظة درجة طالعة من أفق المشرق فمن تلك الدرجة إلى تمام ثلاثين درجة فما يتلوها يسمى طالع بيت الحياة سواء كانت تلك الدرج من برج واحد أو من برجين، ومن تمام ثلاثين درجة إلى تمام ستين درجة يسمى الثاني بيت المال، وإلى تمام تسعين درجة يسمى الثالث بيت الإخوة، وإلى تمام مائة وعشرين درجة يسمى الرابع بيت الآباء، وإلى تمام مائة وخمسين درجة يسمى الخامس بيت الأولاد، وإلى تمام مائة وثمانين درجة يسمى السادس بيت الأمراض، وإلى تمام مائتين وعشر درجات يسمى السابع بيت الأزواج، وإلى تمام مائتين وأربعين درجة يسمى الثامن بيت الموت، وإلى مائتين وسبعين درجة يسمى التاسع بيت الأسفار، وإلى تمام ثلاثمائة درجة يسمى العاشر بيت السرطان، وإلى ثلاثمائة وثلاثين درجة يسمى الحادي عشر بيت الرجاء، وإلى تمام ثلاثمائة وستين درجة يسمى الثاني عشر بيت الأعداد، وكل بيت من هذه البيوت يدل على أشياء كثيرة تركنا ذكرها؛ لأنها مذكورة في كتب الأحكام بشرحها.
(7) فصل في تجرد النفس واشتياقها إلى عالم الأفلاك
اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن العاقل الفهم إذا نظر في علم النجوم وفكر في سعة هذه الأفلاك وسرعة دورانها وعظم هذه الكواكب وعجيب حركاتها وأقسام هذه البروج وغرائب أوصافها كما وصفنا قبل؛ تشوقت نفسه إلى الصعود إلى الفلك والنظر إلى ما هناك معاينة، ولكن لا يمكن الصعود إلى ما هناك بهذا الجسد الثقيل الكثيف، بل النفس إذا فارقت هذه الجثة ولم يعقها شيء من سوء أفعالها أو فساد آرائها وتراكم جهالاتها أو رداءة أخلاقها؛ فهي هناك في أقل من طرفة عين بلا زمان؛ لأن كونها حيث همتها ومحبوبها كما تكون نفس العاشق؛ حيث معشوقه، فإذا كان عشقها هو الكون مع هذا الجسد ومعشوقها هذه اللذات المحسوسة المحرقة الجرمانية وشهواتها هذه الزينة الجسمانية فهي لا تبرح من هاهنا ولا تشتاق الصعود إلى عالم الأفلاك ولا تفتح لها أبواب السماوات، ولا تدخل الجنة مع زمر الملائكة بل تبقى تحت فلك القمر سائحة في قعر هذه الأجسام المستحيلة المتضادة تارة من الكون إلى الفساد وتارة من الفساد إلى الكون كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب لابثين فيها أحقابا ما دامت السماوات والأرض لا يذوقون فيها برد عالم الأرواح الذي هو الروح والريحان، ولا يجدون لذة شراب الجنان المذكور في القرآن، @QUR020 ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين، الظالمين لأنفسهم الكافرين لحقائق الأشياء ويروى عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: «الجنة في السماء والنار في الأرض.»
ويحكى في الحكمة القديمة أنه من قدر على خلع جسده ورفض حواسه وتسكين وساوسه وصعد إلى الفلك؛ جوزي هناك بأحسن الجزاء، ويقال: إن بطليموس كان يعشق علم النجوم، وجعل علم الهندسة سلما صعد به إلى الفلك فمسح الأفلاك وأبعادها والكواكب وأعظامها ثم دونه في المجسطي، وإنما كان ذلك الصعود بالنفس لا بالجسد وهكذا.
ويحكى عن هرمس المثلث بالحكمة، وهو إدريس النبي - عليه السلام - أنه صعد إلى فلك زحل، ودار معه ثلاثين سنة حتى شاهد جميع أحوال الفلك، ثم نزل إلى الأرض فخبر الناس بعلم النجوم، قال الله تعالى: @QUR03 ورفعناه مكانا عليا.
وقال أرسططاليس في كتاب الثالوجيا شبه الرمزاني: ربما خلوت بنفسي، وخلعت بدني، وصرت كأني جوهر مجرد بلا بدن، فأكون داخلا في ذاتي خارجا عن جميع الأشياء، فأرى في ذاتي من الحسن والبهاء ما أبقى له متعجبا باهتا فأعلم أني جزء من أجزاء العالم الأعلى الفاضل الشريف.
وقال فيثاغورس في الوصية الذهبية: إذا فعلت ما قلت لك يا ديوجانس وفارقت هذا البدن حتى تصير نحلا في الجو فتكون حينئذ سائحا غير عائد إلى الإنسانية ولا قابل للموت.
وقال المسيح - عليه السلام - للحواريين في وصية له: إذا فارقت هذا الهيكل فأنا واقف في الهواء عن يمنة عرش ربي وأنا معكم حيثما ذهبتم فلا تخالفوني حتى تكونوا معي في ملكوت السماء غدا.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه في خطبة له طويلة: «أنا واقف لكم على الصراط وأنكم ستردون على الحوض غدا فأقربكم مني منزلا يوم القيامة من خرج من الدنيا على هيئة ما تركته، ألا لا تغيروا بعدي ألا لا تبدلوا بعدي.»
فهذه الحكايات والأخبار كلها دليل على بقاء النفس بعد مفارقة الجسد وأن الإنسان العاقل إذا استبصرت نفسه في هذه الدنيا وصفت من درن الشهوات والمآثم، وزهدت في الكون ها هنا، فإنها عند مفارقة الجسد لا يعوقها شيء عن الصعود إلى السماء ودخول الجنة والكون هناك مع الملائكة وفي مثل هذه النفوس قيل بالعربية شعر:
وما كان إلا كوكبا كان بيننا
فودعنا جادت معاهده دهم رأى المسكن العلوي أولى بمثله
ففاز وأضحى بين أشكاله نجم
وقيل بالفارسية بيت:
خواهي تأمرك نيا بدترا
خواهي كزمك بهابي أمان زير زمين خيره نهفتي بجوي
بس بفلك برشوبي نرد بان
وقيل أيضا:
خنك أين أفتاب وزهره وماه
كه نباشند جاودانه تباه همه بريك نهاد خويش دوند
كه نكردند هركزا زيك راه راست كوئي ستار كان ملك أند
جشمه أفتاب شاهنشاه ته بخوانيد نائحة مشغول
يا بتديين كين وحرب وسياه دوستا نند بيش روياروي
يك بديكر همي كنندنكاه
فمن بلغ رتبة نفسه هذه المرتبة كما ذكرت من قبل صار بهذه المنزلة، إلا أن في هذه السماوات جنة لكنها محفوفة بالمكاره، «قال» الله - عز وجل: @QUR04 إخوانا على سرر متقابلين، وإنما ذكرنا هذه المعاني في هذه الرسالة؛ لأن أكثر أهل زماننا الناظرين في علم النجوم شاكون في أمر الآخرة، متحيرون في أحكام أمر الدين، جاهلون بأسرار النبوات، منكرون البعث والحساب، فدللناهم على صحة أمور الدين من صناعتهم، واحتججنا عليهم من علمهم؛ ليكون أقرب من فهمهم وأوضح لتبيانهم.
(8) فصل في علة انحصار الأفلاك والبروج والكواكب في عدد مخصوص
اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن علة كون الأفلاك تسع طبقات والبروج اثني عشر والكواكب السيارة سبعة ومنازل القمر ثمانية وعشرين واقتصارها على هذه الأعداد؛ فيه حكمة جليلة لا يبلغ فهم البشر كنه معرفتها، ولكن نذكر من ذلك طرفا؛ ليكون تنبيها لنفوس المتعلمين المرتاضين بالنظر في خواص العدد ومطابقة الموجودات لخواص العدد وطبيعته على رأي الحكماء الفيثاغوريين، وذلك أن هؤلاء الحكماء لما نظروا في طبيعة العدد وجدوا لكل عدد خاصية ليست لغيره ثم تأملوا أحوال الموجودات فوجدوا كل نوع منها قد اقتصر على عدد مخصوص لا أقل ولا أكثر، ثم بحثوا عن طبيعة ذلك الموجود وخاصية ذلك العدد فكانا مطابقين، واستبان لهم إتقان الحكمة الإلهية فيها، فمن أجل هذا قالوا: إن الموجودات بحسب طبيعة العدد وخواصه .
فمن عرف طبيعة العدد وأنواعه وخواص تلك الأعداد؛ تبين له إتقان الحكمة وكون الموجودات على أعداد مخصوصة، فكون الكواكب السيارة سبعة مطابق لأول عدد كامل، وكون الأفلاك تسعة مطابق لأول عدد فرد مجذور، وكون البروج اثني عشر مطابق لأول عدد زائد، وكون المنازل ثمانية وعشرين مطابق لعدد تام، ولما كانت السبعة مجموعة من ثلاثة وأربعة وكان الاثنا عشر من ضرب ثلاثة في أربعة وثمانية وعشرون من ضرب سبعة في أربعة؛ فبواجب الحكمة صارت مقصورة على هذه الأعداد، وكانت السبعة والاثنا عشر والتسعة مجموعها ثمانية وعشرون عددا؛ لتكون الموجودات الفاضلة مطابقة للأعداد الفاضلة.
(9) فصل في حكمة اختلاف خواص الكواكب
وأما الحكمة في كون الكواكب السبعة السيارة اثنان منها نيران واثنان منها سعدان واثنان نحسان وواحد ممتزج، وكون البروج الاثني عشر أربعة منها منقلبة وأربعة ثابتة وأربعة ذوات جسدين، وكون العقدتين في خللها؛ فالحكمة في ذلك أكثر مما يحصى، ولكن نذكر منها طرفا ليكون دليلا على الباقي، وذلك أن الباري - سبحانه وتعالى - بواجب حكمته جعل حال الموجودات بعضها ظاهرا جليا لا يخفى وبعضها باطنا خفيا لا تدركه الحواس، فمن الموجودات الظاهرة الجلية جواهر الأجسام وأعراضها وحالاتها، ومن الموجودات الباطنة الخفية جواهر النفس، ومن الموجودات الظاهرة الجلية للحواس أيضا أمور الدنيا، ومن الموجودات الباطنة الخفية عن أكثر العقول أمور الآخرة ثم جعل ما كان منها ظاهرا جليا دليلا على الباطن الخفي، فمن ذلك النيران: الشمس والقمر؛ فإن أحدهما الذي هو القمر دليل على أمور الدنيا وحالات أهلها من الزيادة والنقصان والتغيير والمحاق، والأخرى التي هي الشمس دليل على أمور الآخرة وحالات أهلها من التمام والكمال والنور والإشراق.
ومن ذلك حال السعدين المشتري والزهرة؛ فإن أحدهما دليل على سعادة أبناء الدنيا وهي الزهرة؛ وذلك أنها إذا استولت على المواليد دلت لهم على نعيم الدنيا من الأكل والشرب والنكاح والميلاد، ومن كانت هذه حاله في الدنيا فهو من السعداء فيها، وأما المشتري فهو دليل على سعادة أبناء الآخرة؛ وذلك أنه إذا استولى على المواليد دل لهم على صلاح الأخلاق وصحة الدين وصدق الورع ومحض التقى، ومن كانت هذه حاله في الدنيا فهو من السعداء في الآخرة.
ومن ذلك أيضا النحسان: زحل والمريخ، فإن أحدهما دليل على منحسة أبناء الدنيا وهو زحل؛ وذلك أنه إذا استولى على المواليد دل ذلك على الشقاء والبؤس والفقر والمرض والعسر في الأمور، ومن كانت هذه حاله في الدنيا فهو من الأشقياء فيها، وأما المريخ فإنه دليل على منحسة أبناء الآخرة، وذلك أنه إذا استولى على المواليد دل لهم على الشرور من الفسق والفجور والقتل والسرقة والفساد في الأرض، ومن كانت هذه حاله في الدنيا فهو من الأشقياء في الآخرة، وأما من استولى على مولده المشتري والزهرة فسعادتهما دلالة على السعادة في الدنيا والآخرة، ومن استولى على مولده زحل والمريخ فنحوستهما دلالة على منحسة الدنيا والآخرة، وأما امتزاج عطارد بالسعادة والنحوسة فهو دليل على أمور الدنيا والآخرة وتعلق إحداهما بالأخرى، وأما كون البروج المنقلبة وحالاتها تدل على تقلب أحوال أبناء الدنيا، والبروج الثوابت تدل على ثبات أحوال أبناء الآخرة والبروج ذوات الجسدين تدل على تعلق أمور الدنيا والآخرة أحدهما بالآخر.
وقد قيل: إن طالع الدنيا السرطان وهو برج منقلب وأوتاده مثله، وأما العقدتان اللتان تسمى إحداهما رأس التنين والأخرى الذنب فليسا بكوكبين ولا جسمين ولكنهما أمران خفيان - كما بينا قبل - ولهما حركات في البرج كحركات الكواكب، ولهما دلالة على الكائنات كدلالة الكواكب النحوس وهما خفيا الذات ظاهرا الأفعال فخفاء ذاتيهما وظهور أفعالهما يدل على أن في العالم نفوسا أفعالها ظاهرة وذواتها خفية يسمون الروحانيين، وهم أجناس الملائكة وقبائل الجن وأحزاب الشياطين، فأجناس الملائكة هي نفوس خيرة موكلة بحفظ العالم وصلاح الخليقة، وقد كانت متجسدة قبل وقتا من الزمان فتهذبت واستبصرت وفارقت أجسادها واستقلت بذاتها، وفازت ونجت وساحت في فضاء الأفلاك وسعة السماوات، فهي مغتبطة فرحانة مسرورة ملتذة ما دامت السماوات والأرض.
وأما عفاريت الجن ومردة الشياطين فهي نفوس شريرة مفسدة، وقد كانت متجسدة قبل وقتا من الزمان ففارقت أجسادها غير مستبصرة ولا متهذبة فبقيت عميا عن رؤية الحقائق صما عن استماع الصواب بكما عن النطق الفكري في المعاني اللطيفة، فهي سابحة في ظلمات بحر الهيولى، غائصة في قعر من الأجسام المظلمة ذي ثلاثة شعب تهوي في هاوية البرزخ كلما نضجت جلودهم بالبلاء بدلناهم جلودا غيرها بالكون، فذلك دأبهم ما دامت السماوات والأرض لابثين فيها أحقابا لا يجدون برد نسيم عالم الأرواح، ولا يذوقون لذة شراب المعارف، فهذه حالهم إلى يوم يبعثون.
وأما الظاهر من تأثيرات الرأس والذنب فهو كسوف النيرين، وذلك أنهما من أوكد الأسباب في كسوفهما، وإنما اقتضت الحكمة كسوف النيرين لكيما تزول التهمة والريبة من قلوب المرتابين بأنهما إلهان، فلو كانا إلهين ما انكسفا، وإنما صارت محنة الشخصين النيرين الجليلين بأمرين خفيين؛ ليكون دليلا على أن أعظم المحنة من الشيطان على الأنبياء - صلوات الله عليهم أجمعين - لأن الأنبياء هم شموس بني آدم وأقمارهم، فمن ذلك قصة إبليس مع آدم أبي البشر وإخراجه له من الجنة وقصة ركوبه مع نوح في السفينة وقصته مع إبراهيم خليل الرحمن يوم طرح في النار في إصلاح المنجنيق وقصته مع موسى - عليه السلام - حين وسوس إليه أن هذا الكلام الذي تسمع لعله ليس كلام رب العالمين، فعند ذلك قال موسى: @QUR07 رب أرني أنظر إليك قال لن تراني، وقصته مع المسيح وزكريا ويحيى - عليهم السلام - وغيرهم من الأنبياء معروفة يطول شرحها، وإنما ذكرنا هذه الأحرف في هذه الرسالة؛ لأن أكثر أهل زماننا الناظرين في علم النجوم شاكون في أمر الآخرة، متحيرون في أحكام الدين، جاهلون بأسرار النبوات، منكرون للحساب والبعث، فدللناهم على تحقيق ما أنكروه من صناعتهم؛ ليكون أقرب من فهمهم وأوضح لبيانهم، وكذلك فعلنا في سائر رسائلنا التي عملناها في فنون العلوم.
(10) فصل في علم أحكام النجوم
وإذ قد ذكرنا طرفا من علم الهيئة وتركيب الأفلاك شبه المدخل والمقدمات فنريد أن نذكر أيضا طرفا من علم «الأحكام» الذي يعرف بالاستدلال:
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن العلماء مختلفون في تصحيح علم الأحكام وحقيقته ، فمنهم من يرى ويعتقد أن للأشخاص الفلكية دلالات على الكائنات في هذا العالم قبل كونها، ومنهم من يرى ويعتقد أن لها أفعالا وتأثيرات أيضا مع دلالاتها، ومنهم من يرى ويعتقد أن ليس لها أفعال ولا تأثيرات ولا دلالات البتة بل ترى أن حكمها حكم الجمادات والموات بزعمهم، فأما الذين قالوا: إن لها دلالات فهم أصحاب الأحكام، وإنما عرفوا دلالاتها بكثرة العناية بالإرصاد لحركاتها وتأثيراتها والنظر فيها واعتبار أحوالها وشدة البحث عنها.
والناس لتصاريف أمورها على ممر الأيام والشهور والأعوام أمة بعد أمة وقرنا بعد قرن كلما أدركوا شيئا منها أثبتوه في الكتب كما ذكروها في كتبهم بشرح طويل، وأما الذين أنكروا ذلك فهم طائفة من أهل الجدل تركوا النظر في هذا العلم وأعرضوا عن اعتبار أحوال الفلك وأشخاصه وحركاته ودورانه، وأغفلوا البحث عنها والتأمل لتصاريف أمورها فجهلوا ذلك وأنكروه وعادوا أهلها وناصبوهم العداوة والبغضاء.
وأما الذين ذكروا أن لها مع دلالاتها أفعالا وتأثيرات في الكائنات التي تحت فلك القمر، فإنما عرفوا ذلك بطريق آخر غير طريق أصحاب الأحكام وبحث أشد من بحثهم واعتبار أكثر من اعتبارهم وهو طريق الفلسفة الروحانية والعلوم النفسانية وتأييد إلهي وعناية ربانية، ونريد أن نذكر من هذا الفن طرفا ليكون إرشادا للمحبين للفلسفة والراغبين فيها ودلالة لهم عليها ورغبة فيها؛ أعني: علم الفلسفة.
فاعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن كواكب الفلك هم ملائكة الله وملوك سماواته خلقهم الله تعالى لعمارة عالمه وتدبير خلائقه وسياسة بريته، وهم خلفاء الله في أفلاكه، كما أن ملوك الأرض هم خلفاء الله في أرضه، خلفهم وملكهم بلاده، وولاهم على عباده ليعمروا بلاده، ويسوسوا عباده، ويحفظوا شرائع أنبيائه بإنفاذ أحكامهم على عباده، وحفظ نظامهم على أحسن حالات ما يتأتى فيهم وأتم غايات ما يمكنهم من البلوغ إليها وأفضل نهايات ما يصلون إليها إما في الدنيا وإما في الآخرة.
فعلى هذا المثال والقياس تجري أحكام هذه الكواكب في هذه الكائنات التي تحت فلك القمر، ولها أفعال لطيفة وتأثيرات خفية تدق على أكثر الناس معرفتها وكيفيتها كما تدق على الصبيان والجهال معرفة كيفية سياسة الملوك وتدبيرهم في رعيتهم، وإنما يعرف ذلك منها العقلاء والبالغون المتأملون للأمور، فهكذا أيضا لا يعرف كيفية تأثيرات هذه الكواكب وأفعالها في هذه الكائنات إلا الراسخون في العلوم من الحكماء والفلاسفة، البالغون في المعارف الربانية، الناظرون في العلوم الإلهية، المؤيدون من السماء بتأييد الله وإلهامه لهم.
(11) فصل في كيفية وصول قوى أشخاص العالم العلوي إلى أشخاص العالم السفلي «الذي هو عالم الكون والفساد»
اعلم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن معنى قول الحكماء: «العالم» إنما هو إشارة إلى جميع الأجسام الموجودة وما يتعلق بها من الصفات، وهو عالم واحد كمدينة واحدة أو حيوان واحد، ولكن لما كانت الأجسام كلها تنقسم قسمين حسب، فمنها عالم الأفلاك ومنها عالم الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، ويسمى عالم الكون والفساد؛ فنقول: إن أول حد عالم الأفلاك هو من أعلى سطح الفلك المحيط إلى منتهى مقعر سطح فلك الأثير، وهو فلك القمر ثم مما يلي الهواء، وحد عالم الأركان هو من مقعر سطح فلك القمر إلى منتهى الأرض، ويسمى أحدهما العالم العلوي والآخر العالم السفلي؛ لأن العلوي هو مما يلي المحيط والسفلي مما يلي المركز، وأما الذي فوق الفلك فهو رتبة النفس الكلية التي هي سارية قواها في جميع الأجسام التي في العالمين جميعا من لدن الفلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض بإذن الباري - جل ثناؤه.
واعلم يا أخي أن أول قوة تسري في النفس الكلية نحو العالم فهي في الأشخاص الفاضلة النيرة التي هي الكواكب الثابتة، ثم بعد ذلك في الكواكب السيارة، ثم بعد ذلك فيما دونها من الأركان الأربعة وفي الأشخاص الكائنة منها من المعادن والنبات والحيوان.
واعلم بأن مثال سريان قوى النفس الكلية في الأجسام الكلية والجزئية جميعا؛ كمثال سريان نور الشمس والكواكب في الهواء، ومطارح شعاعاتها نحو مركز الأرض.
واعلم يا أخي بأن الكواكب السيارة ترتقي تارة بحركاتها إلى أعلى ذرى أفلاكها وأوجاتها ، وتقرب من تلك الأشخاص الفاضلة التي تسمى الكواكب الثابتة، وتستمد منها النور والفيض والقوى، وتارة تنحط إلى الحضيض وتقرب من عالم الكون والفساد وتوصل تلك الفيضات والقوى إلى هذه الأشخاص السفلية فتسري فيها كما تسري قوة النفس الحيوانية في الدماغ، ثم بتوسط الأعصاب تصل إلى سائر أطراف البدن كما بينا كيفيتها في رسالة الحاس والمحسوس، فإذا وصلت تلك القوى والفيضات مع شعاعاتها إلى هذا العالم فإنها تسري أولا في الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، ثم يكون ذلك سببا لكون الكائنات التي هي المعادن والنبات والحيوان ويكون اختلاف أجناسها وأنواعها بحسب اختلاف أشكال الفلك واختلاف الأماكن واختلاف الأزمان، لا يعلم أحد كثرتها وفنون أشخاصها وتفاوت أوصافها إلا الله - جل ثناؤه - الذي هو خالقها وبارئها ومنشئها ومصورها كيف شاء.
(12) فصل في بيان كيفية سعادات الكائنات ومناحسها
اعلم أن الفلك المحيط دائم الدوران كالدولاب من المشرق إلى المغرب ومن المغرب إلى المشرق، والكواكب أيضا هكذا دائمة، وأن الحركات على توالي البروج كما هو بين في الزيجات والتقاويم، وهكذا أيضا الكائنات دائمة في الكون والفساد متصلة لا تنقطع ليلا ولا نهارا ولا شتاء ولا صيفا، ولكن إذا اتفق في وقت من الزمان أن تكون الكواكب السيارة في أوجاتها أو إشرافها أو بيوتها أو حدودها أو يكون بعضها من بعض على النسبة الفضلى التي تسمى النسبة الموسيقية، وهي النصف والثلث والربع والثمن، سرت تلك القوى عند ذلك من النفس الكلية ووصلت بتوسط تلك الكواكب إلى هذا العالم السفلي الذي هو دون فلك القمر وحدث بذلك السبب الكائنات على أعدل مزاج وأصبح طبائع وأجود نظام ونشأت ونمت وتمت وكملت وبلغت إلى أقصى مدى غاياتها وتمام نهاياتها التي هي قاصدة نحوها، وتسمى تلك الأحوال والأوصاف وما يتكون عنها سعادة وخيرات، وإذا اتفق أن يكون شكل الفلك ومواضع الكواكب على ضد ذلك كان أمر الكائنات بالضد أيضا، وتناقصت من بلوغ غاياتها وتمام نهاياتها، وسميت تلك مناحس الفلك وسبب الشرور ولا يكون ذلك بالقصد الأول، ولكن بأسباب عارضة كما بينا في رسالة الآراء والمذاهب في باب علل الشرور وأسبابها، فاعرفها من هناك - إن شاء الله وحده.
(13) فصل في علة اختلاف تأثيرات الكواكب في الكائنات الفاسدات التي دون فلك القمر
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن إشراق الكواكب على الهواء ومطارح شعاعاتها على مركز الأرض على سنن واحد، ولكن قبول القابلات لها ليس بواحد، بل مختلف بحسب اختلاف جواهرها.
مثال ذلك أن الشمس إذا أشرقت من الأفق أضاءت الهواء من نورها، وسخن وجه الأرض من انعكاس شعاعاتها - كما بينا في رسالة الآثار العلوية - وجف الطين، وذاب الثلج، ولان الشمع، ونضج الثمر، ونتن اللحم، وابيضت ثياب القصارين، واسودت وجوههم، وانعكس الشعاع من السطوح الصقيلة الوجوه كوجه المرايا، وسرى الضوء في الأجسام الشفافة كالزجاج والبلور والمياه الصافية، وقويت أبصار أكثر الحيوانات، وضعفت أبصار بعضها كالبوم والخفافيش وبنات وردان وما شاكلها من الحيوانات، فيكون اختلاف تلك التأثيرات في هذه الأشياء بحسب اختلاف جواهرها وتركيبها ومزاجها وقبولها، وإلا فالإشراق واحد، وعلى هذا المثال اختلاف قبولها لتأثيرات سائر الكواكب في المواليد وتحاويل السنين.
ومثال آخر، إذا اتفق للفلك شكل محمود من سعادة أحوال الكواكب في وقت من أوقات الأزمان، ويولد في ذلك الوقت عدة مواليد من أجناس الحيوانات ومواليد الناس، ولكن يكون بعضهم من أولاد الملوك والرؤساء، وبعضهم من أولاد التجار والدهاقين وأرباب النعم، وبعضهم من أولاد الفقراء والمساكين والمكدين فلا يكون قبولهم لسعادة الفلك على سنن واحد، بل كل واحد منهم بحسب مرتبته، وذلك أن أولاد المكدين إذا حسنت أحوالهم من السعادة فهو أن يبلغوا مرتبة أولاد التجار وأرباب النعم وأوساط الناس، وإذا حسن أولاد التجار، فهو أن يبلغوا مرتبة أولاد الملوك، وأولاد الملوك إذا قبلوا سعادة الفلك ارتقوا وبلغوا سرير الملك والسلطان، وإن نحسوا قصر بهم عن ذلك، وكذلك كل واحد من أولئك الذين تقدم ذكرهم ينحط من درجة إلى ما دونها في المرتبة.
ومثال آخر، أنه اتفق عدة مواليد في طالع واحد ووقت واحد في بلدان مختلفة، وشكل الفلك يدل على أن يكونوا شعراء خطباء، غير أن بعضهم في بلاد العرب، وبعضهم في بلاد النبط، وبعضهم في بلاد الأرمن، فقبولهم يختلف لأن العربي أسرع قبولا لخاصية بلده، والنبطي دون ذلك، والأرمني دونه، وعلى هذا المثال والقياس تختلف تأثيرات الكواكب في الكائنات. وقد ذكرت علل ذلك في كتب الأحكام بشرح طويل، فاعرفه من هناك.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن لهذه الكواكب السيارة في أفلاكها المختصة بها حالات مختلفة.
فمن ذلك: السرعة في السير والإبطاء في الحركة والوقوف والاستقامة والرجوع والارتفاع في الأوجات والانحطاط إلى الحضيض والكون في الميل والذهاب في العرض والبلوغ إلى الجوزهر وما يشاكل ذلك من الأوصاف المختلفة، ولها أيضا في هذه البروج أقسام وأنصبة كالبيوت والوبال والشرف والهبوط والمثلثات والحدود والنوبهرات وما شاكل ذلك، ولها أيضا مناظرات بعضها إلى بعض، واتصالات ومقارنات وانصرافات واحترافات وتشريق وتغريب، والكون في الأوتاد أو ما يليها أو الزوال عنها وما شاكل هذه الأوصاف المذكورة في كتب الأحكام بشرح طويل، وقد ذكرنا طرفا من هذه الأوصاف فيما تقدم من هذه الرسالة.
واعلم يا أخي أن هذه الكواكب السيارة تسير في موازاة هذه البروج بحركاتها المختلفة، فربما اجتمع اثنان منها في برج واحد أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة أو كلها، وذلك في الندرة في الأزمان الطوال، وأما في أكثر الأوقات فتكون متفرقة في البروج ودرجاتها، وتعرف مواضعها من البروج والدرج والدقائق من التقاويم والزيجات في أي وقت وأي زمان شئت.
واعلم يا أخي أن الشمس من بين الكواكب كالملك، وسائرها كالأعوان والجنود في التمثيل، والقمر كالوزير وولي العهد، وعطارد كالكاتب، والمريخ كصاحب الجيش، والمشتري كالقاضي، وزحل كصاحب الخزائن، والزهرة كالجواري والخدم، والأفلاك لها كالأقاليم، والبروج كالبلدان والسوادات والحدود والوجوه كالمدن، والدرجات كالقرى، والدقائق كالمحال والأسواق في المدن والثواني في الدقائق كالمنازل في المحال والدكاكين في الأسواق، والكواكب في البروج كالأرواح في الأجساد، والكوكب في بيته كالرجل في بلده وعشيرته، والكوكب في شرفه كالرجل في عزه وسلطانه، والكوكب في مثلثه كالرجل في منزله أو دكانه أو ضيعته، والكوكب في وجهه كالرجل في زيه ولباسه، والكوكب في حده كالرجل في خلقه وسجيته، والكوكب في أوجه كالرجل في أعلى مرتبته، والكوكب في حيزه كالرجل في حاله اللائقة به وفي أصحابه ورفقائه.
والكوكب في وباله كالرجل المختلف المدبر، والكوكب في غير حيزه كالرجل في حال منكر، والكوكب في برج لا حظ له فيه كالرجل الغريب في بلدة غريبة، والكوكب في هبوطه كالرجل الذليل المهين، والكوكب في حضيضه كالرجل الوضيع الحال الساقط عن مرتبته، والكوكب تحت الشعاع كالبطل المحبوس، والمحترق كالمريض، والواقف كالمتحير في أمره، والراجع كالعاصي المخالف، والسريع السير كالمقبل الصحيح، والبطيء السير كالضعيف الذاهب القوة، والكوكب في التشريق كالرجل النشيط، والكوكب في التغريب كالهرم.
والناظر كالطالع الذاهب نحو حاجته، والمنصرف كقاضي وطره، والمقترنان من الكواكب كالقرينين من الناس، والكوكب في الوتد كالرجل الحاضر للشيء الحاصل فيه، ومائل الوتد كالجاني المنتظر، والزائل كالذاهب أو الفائت، والكوكب في الطالع كالمولود في الظهور أو الشيء في الكون، وفي الثاني كالمنتظر الذي سيكون، وفي الثالث كالذاهب إلى لقاء الإخوان، وفي الرابع كالرجل في دار آبائه أو الشيء في معدنه، وفي الخامس كالرجل المستعد للتجارة أو الفرحان بما يرجو، وفي السادس كالهارب المنهزم المتعوب، وفي السابع كالرجل المبارز المنازع المحارب، وفي الثامن كالرجل الخائف الوجل، وفي التاسع كالرجل المسافر البعيد من الوطن الزائل من سلطانه، وفي العاشر كالرجل في عمله وسلطانه المعروف المشهور به، وفي الحادي عشر كالرجل الواد الموافق المحب، وفي الثاني عشر كالمحبوس الكاره لموضعه المبغض لما هو فيه.
وإذا توارى كوكبان منها في درجة من الفلك فيقال: إنهما مقترنان، وإذا جاوز أحدهما الآخر فيقال: قد انصرف، وإذا لحق بالآخر فيقال: قد اتصل به، والاتصال قد يكون بالمقارنة وقد يكون بالنظر، وهو أن يكون بينهما ستون درجة سدس الفلك أو تسعون درجة ربع الفلك أو مائة وعشرون درجة ثلث الفلك، أو مائة وثمانون درجة نصف الفلك، فإذا تناظرا في التسديس فهما كالرجلين المتوادين بسبب من الأسباب، وإذا تناظرا في التثليث فهما كالرجلين المتفقين في الطبع والخلق، وإذا تناظرا في التربيع فكالرجلين المتعاملين اللذين يدعي كل واحد منهما الأمر لنفسه، وإذا تناظرا في المقابلة فهما كالرجلين المتنازعين أو كالشريكين المتغارمين، وهذا مثاله وصورته:
![](../Images/figure80.png)
فقد تبين بهذه الصورة أن مناظرة الكواكب بعضها إلى بعض من سبعة مواضع من درجات الفلك ومعنى مناظراتها ومطارح شعاعاتها.
واعلم أن الكواكب تطرح شعاعاتها إلى جميع درجات الفلك فتضيئها وتملأها نورا وضياء، كما أن السراج يضيء جميع أجزاء الدائرة وبسيطها، وإنما ذكر علماء النجوم سبعة مواضع منها لظهور أفعالها وبيان تأثيراتها في هذا العالم من تلك الدرجات المعلومة لمناسبات بعضها بعضا؛ لأن أفعال الكواكب وتأثيراتها في هذا العالم إنما هي بحسب مناسباتها من الأرض؛ أعني: نسب أجرامها إلى جرم الأرض وأبعادها من مركز الأرض، أو بحسب تناسب حركاتها بعضها إلى بعض، وقد بينا طرفا من علم هذا النسب في رسالة الموسيقى.
(14) فصل في أن المنجم لا يدعي علم الغيب فيما يخبر به من الكائنات
واعلم أن كثيرا من الناس يظنون أن علم أحكام النجوم هو ادعاء الغيب، وليس الأمر كما ظنوا؛ لأن علم الغيب هو أن يعلم ما يكون بلا استدلال ولا علل ولا سبب من الأسباب، وهذا لا يعلمه أحد من الخلق، كذلك لا منجم ولا كاهن ولا نبي من الأنبياء ولا ملك من الملائكة إلا الله - عز وجل.
واعلم يا أخي أن معلومات الإنسان ثلاثة أنواع، فمنها ما قد كان وانقضى ومضى مع الزمان الماضي، ومنها ما هو كائن موجود في الوقت الحاضر، ومنها ما سيكون في الزمان المستقبل، وله إلى هذه الأنواع الثلاثة من المعلومات ثلاثة طرق؛ أحدها السماع والإخبار لما كان ومضى، والآخر هو الإحساس لما هو حاضر موجود، والثالث الاستدلال على ما هو كائن في المستقبل، وهذا الطريق الثالث ألطف الطرقات وأدقها، وهو ينقسم إلى عدة أنواع؛ فمنها بالنجوم، ومنها بالزجر والفأل والكهانة، ومنها بالفكر والروية والاعتبار، ومنها بتأويل المنامات، ومنها بالخواطر والوحي والإلهام، وهذا أجلها وأشرفها، وليس ذلك باكتساب، ولكن موهبة من الله - عز اسمه - لمن شاء أن يجتبيه من عباده، فأما علم النجوم فهو اكتساب من الإنسان وتكلف وجهد واجتهاد في تعلم العلم وطلبه، وهكذا الزجر والفأل، والنظر في الكف وضرب الحصى والكهانة والقيافة والعرافة وتأويل المنامات وما شاكلها؛ كلها يحتاج الإنسان فيها إلى التعلم والنظر والفكر والروية والاعتبار، وهذا الفن من العلم يتفاضل فيه الناس بعضهم على بعض، وكل واحد يختص بشيء منه.
واعلم يا أخي أن الكائنات التي يستدل عليها المنجمون سبعة أنواع، فمنها الملل والدول التي يستدل عليها من القرانات الكبار التي تكون في كل ألف سنة بالتقريب مرة واحدة، ومنها أن تنتقل المملكة من أمير إلى أمير، ومن أمة إلى أمة، ومن بلد إلى بلد، ومن أهل بيت إلى أهل بيت آخر، وهي التي يستدل عليها وعلى حدوثها من القرانات التي تكون في كل مائتين وأربعين سنة مرة واحدة، ومنها تبدل الأشخاص على سرير الملك، وما يحدث بأسباب ذلك من الحروب والفتن التي يستدل عليها من القرانات التي تكون في كل عشرين سنة مرة واحدة، ومنها الحوادث والكائنات التي تحدث في كل سنة من الرخص والغلاء والجدب والخصب والحدثان والبلاء والوباء والموتان والقحط والأمراض والأعلال والسلامة منها، ويستدل على حدوثها من تحاويل سني العالم التي تؤرخ بها التقاويم، ومنها حوادث الأيام شهرا شهرا ويوما يوما التي يستدل عليها من الأوقات والاجتماعات والاستقبالات التي تؤرخ بها في التقاويم، ومنها أحكام المواليد لواحد واحد من الناس في تحاويل سنيهم بحسب ما يوجبه لهم تشكل الفلك ومواضع الكواكب في أصول مواليدهم وتحاويل سنيهم، ومنها الاستدلال على الخفيات من الأمور كالخبر والسرقة واستخراج الضمير والمسائل التي يستدل عليها من طالع وقت المسألة والسؤال عنها.
واعلم يا أخي أنه ليس في معرفة الكائنات قبل كونها صلاح لكل واحد من الناس؛ لأن في ذلك تنغيصا للعيش واستجلابا للهم واستشعارا للخوف والحزن والمصائب قبل حلولها، وإنما نظر الحكماء في هذا العلم وبحثهم عن هذه السرائر ليرضوا بذلك نفوسهم، ويستعينوا بهذا العلم على الترقي إلى ما هو أشرف منه وأجل؛ وذلك أن الإنسان العاقل المحصل المستيقظ القلب إذا نظر في هذا العلم وبحث عن هذا السر وعن أسبابه وعلله واعتبرها بقلب سليم من حب الدنيا انتبهت نفسه من نوم الغفلة، واستيقظت من رقدة الجهالة، وانتعشت وانبعثت من موت الخطيئة، وانفتحت لها عين البصيرة، فأبصرت عند ذلك تصاريف الأمور، وعرفت حقائق الموجودات، ورأت بعين اليقين الدار الآخرة، وتحققت أمر المعاد، وعلمت عند ذلك بها ومن أجلها وتشوفت إليها، وزهدت في الكون في الدنيا، فعند ذلك تهون عليها مصائب الدنيا، فلا تغتم ولا تجزع ولا تحزن إذا علمت موجبات أحكام الفلك من المخاوف والمصائب، كما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من زهد في الدنيا هانت عليه المصائب. وتصديق ذلك قول الله تعالى: @QUR010 لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم.
واعلم يا أخي أن في معرفة علم النجوم فوائد كثيرة، فمنها: أن الإنسان إذا علم ما يكون من حادث في المستقبل أو كائن بعد الأيام؛ أمكنه أن يدفع عن نفسه بعضها لا بأن يمنع ويدفع كونها ولكن يتحرز منها أو يستعد لها كما يفعل سائر الناس ويستعدون لدفع برد الشتاء بجمع الدثار ولحر الصيف بأخذ الكن ولسني الغلاء بالادخار ولمواضع الفتن بالهرب منها والبعد عنها وترك الأسفار عند المخاوف وما شاكل ذلك، مع علمهم بأنهم لا يصيبهم منها إلا ما كتب الله لهم وعليهم.
وخصلة أخرى أيضا، وهي أنه متى علم الناس الحوادث قبل كونها أمكنهم أن يدفعوها قبل نزولها بالدعاء والتضرع إلى الله تعالى والتوبة والإنابة إليه وبالصوم والصلاة والقربان والسؤال إياه أن يصرف ما يخافون نزوله ويرفع ويدفع عنهم ما يحذرون منه.
واعلم يا أخي أنك إن نظرت في أسرار النواميس، وتأملت سنن الشرائع وأحكام الديانات، علمت وتبين لك أن أجل أغراض واضعي النواميس كان هذا الذي ذكرت لك، وذلك أن موسى - عليه السلام - أوصى بني إسرائيل، فقال لهم: احفظوا شرائع التوراة التي أنزل الله علي واعملوا بوصاياها، فإن الله تعالى يسمع دعائكم، ويرخص أسعاركم، ويخصب بلادكم، ويكثر أموالكم وأولادكم، ويكف عنكم شر أعدائكم، ومتى خفتم حوادث الأيام ومصائب الزمان، فتوبوا إلى الله جميعا توبة نصوحا، واستغفروا، وصلوا له، وصوموا، وتصدقوا في السر والعلانية، وادعوه خوفا وتضرعا حتى يصرف عنكم شر ما تخافون، ويدفع عنكم ما تحذرون، ويكشف عنكم ما ينزل بكم من محن الدنيا ومصائبها وحوادث أيامها، وعلى هذا المثال كانت وصية المسيح - عليه السلام - لأصحابه الحواريين، ولا حاجة بنا أن نكرر وصية محمد صلى الله عليه وسلم لأمته.
•••
واعلم أن الفقهاء وأصحاب الحديث وأهل الورع والمتنسكين قد نهوا عن النظر في علم النجوم وإنما نهوا عنه؛ لأن علم النجوم جزء من علم الفلسفة، ويكره النظر في علوم الفلسفة للأحداث والصبيان وكل من لم يتعلم علم الدين ولا يعرف من أحكام الشريعة قدر ما يحتاج إليه وما هو فرض عليه ولا يسعه جهله وتركه، فأما من قد تعلم علم الشريعة وعرف أحكام الدين وتحقق أمر الناموس، فإن نظره في علم الفلسفة لا يضره بل يزيده في علم الدين تحققا، وفي أمر المعاد استبصارا وبثواب الآخرة وبالعقاب الشديد يقينا، وإليها اشتياقا وفي الآخرة رغبة وإلى الله تعالى قربة، وفقك الله وإيانا وجميع إخواننا طريق السداد وهداك وإيانا وجميع إخواننا سبيل الرشاد.
(تمت الرسالة الثالثة في الأسطرنوميا من رسائل إخوان الصفاء، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله الطيبين الطاهرين.)
الرسالة الرابعة في الجغرافيا
بسم الله الرحمن الرحيم
الرسالة الرابعة في جغرافيا يعني صورة الأرض والأقاليم من رسائل إخوان الصفاء - صان الله أقدارهم.
ما لله سر إلا وهو ظاهر على ألسنة خلقه، ولا له ستر أثخن من جهلهم به؛ لأنه لا يعلم ما هو إلا هو وإلى ربك المنتهى، منه بدأ وإليه يعود، ثم إليه ترجعون، فوجد الله عنده فوقاه حسابه الباري، وحده قبل كثرة كل إنسان، وحده بعد كل كثرة، وكل كثرة فعن الواحد بدأت وإليه تعود، وكل الموجودات فمن الباري بدأت وإليه تعود، يا ابن آدم أنا الله حي لا يموت، إن أطعتني وقبلت وصيتي جعلتك حيا لا تموت، يا ابن آدم أنا الله أقول للشيء: كن فيكون، أطعني أجعلك تقول للشيء: كن فيكون.
من أجل أن مذهب إخواننا، أيدهم الله وإيانا بروح منه، هو النظر في جميع الموجودات والبحث عن مبادئها وعن علة وجدانها وعن مراتب نظامها والكشف عن كيفية ارتباط معلولاتها بعللها بإذن باريها جل ثناؤه؛ احتجنا إلى أن نذكر حال الأرض وكيفية صورتها وسبب وقوفها في مركز العالم؛ وذلك أن المعرفة بحالها وبكيفية وقوفها في الهواء من العلوم الشريفة؛ لأن عليها وقوف أجسامنا ومنها بدأ كون أجسادنا ونشوئها ومادة بقائها، وإليها عودها عند مفارقتها نفوسها.
وأيضا فإن النظر في هذا العالم يكون سببا لترقي همم نفوسنا إلى عالم الأفلاك، مسكن العليين، ويكثر جولان أفكارنا في محل الروحانيين، وكثرة أفكارنا في عالم الأفلاك تكون سببا لانتباه نفوسنا من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، ويدعوها ذلك إلى الانبعاث من عالم الكون والفساد إلى عالم البقاء والدوام، ويرغبها في الرحلة من عالم الأجساد وجوار الشياطين إلى عالم الأرواح وجوار الملائكة المقربين، وقد ذكرنا في هذه الرسالة طرفا من كيفية صورة الأرض وصفة الربع المسكون منها، وما فيه من الأقاليم السبعة، ومن البحار والجبال والبراري والأنهار والمدن؛ ليكون طريقا للمبتدئين بالنظر في علم الهيئة وتركيب الأفلاك وطوالع البروج ودوران الكواكب، ويقرب تصورها في أفكار المتعلمين، ويسهل تأملها للمتفكرين في ملكوت السماوات والأرض الذين يقولون: @QUR09 ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار، وقال الله تعالى: @QUR04 وفي الأرض آيات للموقنين، وقال: @QUR09 وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين.
(1) فصل في صفة الأقاليم وما في الربع المسكون من الأرض مع ما فيها من الجبال والبحار والبراري والأنهار والمدن وما في البحار من الجزائر والمدن
وقبل وصفها نحتاج أن نذكر صفة الأرض وجهاتها الست وكيفية وقوفها في الهواء، أما الجهات فهي الشرق والغرب والجنوب والشمال والفوق والأسفل، فالشرق من حيث تطلع الشمس، والغرب من حيث تغرب الشمس، والجنوب من حيث مدار سهيل، والشمال من حيث مدار الجدي والفرقدين، والفوق مما يلي السماء، والأسفل مما يلي مركز الأرض.
والأرض جسم مدور مثل الكرة وهي واقفة في الهواء بأن الله يجمع جبالها وبحارها وبراريها وعماراتها وخرابها، والهواء محيط بها من جميع جهاتها شرقها وغربها وجنوبها وشمالها ومن ذا الجانب ومن ذلك الجانب، وبعد الأرض من السماء من جميع جهاتها متساو، وأعظم دائرة في بسيط الأرض 25455 ميلا 6855 فرسخا، وقطر هذه الدائرة هو قطر الأرض 6551 ميلا 2167 فرسخا بالتقريب، ومركزها هي نقطة متوهمة في عمقها على نصف القطر وبعدها من ظاهر سطح الأرض ومن سطح البحر من جميع الجهات متساو؛ لأن الأرض بجميع البحار التي على ظهرها كرة واحدة.
وليس شيء من ظاهر سطح الأرض من جميع جهاتها هو أسفل الأرض - كما يتوهم كثير من الناس ممن ليس له رياضة بالنظر في علم الهندسة والهيئة - وذلك أنهم يتوهمون ويظنون بأن سطح الأرض من الجانب المقابل لموضعنا هو أسفل الأرض، وأن الهواء المحيط بذلك الجانب هو أيضا أسفل من الأرض، وأن النصف من فلك القمر المحيط بالهواء هو أيضا أسفل من الهواء، وهكذا سائر طبقات الأفلاك كل واحد أسفل من الآخر حتى يلزم أن أسفل السافلين هو نصف الفلك المحيط الذي هو أعلى عليين في دائم الأوقات.
وليس الأمر كما توهموا؛ لأن هذا رأي يتعقله الإنسان من الصبا بالتوهم بغير روية ولا برهان، فإذا ارتاض الإنسان في علم الهيئة والهندسة تبين له أن الأمر بخلاف ما توهم قبل، وذلك أن أسفل الأرض بالحقيقة هو نقطة وهمية في عمق الأرض على نصف قطرها وهو الذي يسمى مركز العالم، وهو عمق باطنها مما يلي مركزها من أي جانب كان من الأرض؛ لأن مركز الأرض هو أسفل السافلين، فأما سطحها الظاهر المماس للهواء، وسطح البحار من جميع الجهات فهو فوق، والهواء المحيط أيضا من جميع الجهات.
وفلك القمر هو فوق فلك الهواء، وفلك عطارد هو فوق فلك القمر، وعلى هذا القياس سائر الأفلاك، واحد فوق الآخر إلى الفلك التاسع الذي هو فوق كل فوق، وهو أعلى عليين، ومقابله مركز الأرض أسفل السافلين.
واعلم يا أخي أن الإنسان أي موضع وقف على سطح الأرض، من شرقها أو غربها أو جنوبها أو شمالها، أو من هذا الجانب أومن ذلك الجانب، وقوفه حيث كان، فقدمه أبدا يكون فوق الأرض ورأسه إلى فوق مما يلي السماء، ورجلاه أسفل مما يلي مركز الأرض، وهو يرى من السماء نصفها، والنصف الآخر يستره عنه حدبة الأرض، فإذا انتقل الإنسان من ذلك الموضع إلى الموضع الآخر ظهر له من السماء مقدار ما خفي عنه من الجهة الأخرى، وذلك المقدار كل تسعة عشر فرسخا درجة، وكل فرسخ ثلاثة أميال، كل ميل أربعة آلاف ذراع، كل ذراع ست قبضات، كل قبضة أربع أصابع، كل إصبع ست شعيرات.
ذكر وقوف الأرض في وسط الهواء وسببه
وأما سبب وقوف الأرض في وسط الهواء ففيه أربعة أقاويل؛ منها ما قيل إن سبب وقوفها هو جذب القلب لها من جميع جهاتها بالسوية فوجب لها الوقوف في الوسط لما تساوت قوة الجذب من جميع الجهات.
ومنها ما قيل: إنه الدفع بمثل ذلك فوجب لها الوقوف في الوسط لما تساوت قوة الدفع من جميع الجهات، ومنها ما قيل: إن سبب وقوفها في الوسط هو جذب المركز لجميع أجزائها من جميع الجهات إلى الوسط؛ لأنه لما كان مركز الأرض مركز الفلك أيضا وهو مغناطيس الأثقال يعني مركز الأرض وأجزاء الأرض لما كانت كلها ثقيلة؛ انجذبت إلى المركز وسبق جزء واحد وحصل في المركز، ووقف باقي الأجزاء حولها يعني حول النقط؛ يطلب كل جزء منها المركز، فصارت الأرض بجميع أجزائها كرة واحدة بذلك السبب، ولما كانت أجزاء الماء أخف من أجزاء الأرض وقف الماء فوق الأرض، ولما كانت أجزاء الهواء أخف من أجزاء الماء صار الهواء فوق الماء، والنار لما كانت أجزاؤها أخف من أجزاء الهواء صارت في العلو مما يلي فلك القمر .
والوجه الرابع ما قيل في سبب وقوف الأرض في وسط الهواء هو خصوصية الموضع اللائق بها؛ وذلك أن الباري - عز وجل - جعل لكل جسم من الأجسام الكليات يعني: النار والهواء والماء والأرض موضعا مخصوصا هو أليق المواضع به، وهكذا القمر وعطارد والزهرة والشمس والمريخ والمشتري وزحل، جعل لكل واحد منها موضعا مخصوصا في فلكه هو ثابت فيه والفلك يديره معه.
وهذا القول أشبه الأقاويل بالحق؛ لأن هذه العلة مستمرة في ترتيب الأفلاك السبعة والكواكب الثابتة والسيارة والأركان الأربعة؛ أعني: النار والهواء والماء والأرض، وذلك أن الله - تبارك وتعالى - جعل لكل موجود من الموجودات موضعا يختص به دون سائر المواضع أو رتبة معلومة هي أليق به من سائر المراتب.
صفة الأرض وقسمة أرباعها
الأرض نصفها مغطى بالبحر الأعظم المحيط والنصف الآخر مكشوف؛ مثلها مثل بيضة غائصة نصفها في الماء والنصف الآخر ناتئ من الماء، وهذا النصف المكشوف نصف منه خراب مما يلي الجنوب من خط الاستواء، والنصف الآخر الذي هو الربع المسكون مما يلي الشمال من خط الاستواء، وخط الاستواء هو خط متوهم، ابتداؤه من المشرق إلى المغرب تحت مدار رأس برج الحمل، والليل والنهار أبدا على ذلك الخط متساويان، والقطبان هنالك ملازمان للأفق؛ أحدهما مما يلي مدار سهيل في الجنوب، والآخر في الشمال مما يلي الجدي، وهذا مثال ذلك:
![](../Images/figure81.png)
صفة الربع المسكون من الأرض
وفي هذا الربع الشمالي المسكون من الأرض سبعة أبحر كبار، وفي كل بحر منها عدة جزائر، تكسير كل جزيرة منها عشرون فرسخا إلى مائة فرسخ إلى ألف فرسخ، فمنها بحر الروم، وفيه نحو خمسين جزيرة، ومنها بحر الصقالبة وفيه نحو من ثلاثين جزيرة، ومنها بحر جرجان وفيه خمس جزائر، ومنها بحر القلزم وفيه نحو من خمس عشرة جزيرة، ومنها بحر فارس وفيه سبع جزائر، ومنها بحر السند والهند وفيه نحو من ألف جزيرة، ومنها بحر الصين وفيه نحو من مائتي جزيرة.
وفي هذا الربع أيضا خمس عشرة بحيرة صغارا، تكسير كل واحدة من عشرين فرسخا إلى مائة فرسخ إلى ألف فرسخ، منها مالح ومنها عذب، وأما بحر الغرب وبحر يأجوج ومأجوج وبحر الزنج وبحر الزانج والبحر الأخضر والبحر المحيط فخارج عن هذا الربع المسكون، وكل واحد من هذه الأبحر شعبة وخليج من البحر المحيط وكلها مالح، وفي هذا الربع أيضا مقدار مائتي جبل طوال، منها ما طوله من عشرين فرسخا إلى مائة فرسخ إلى ألف فرسخ، مختلف الألوان، ومنها ما يمتد طوله من المشرق إلى المغرب، أو من الجنوب إلى الشمال، ومنها ما يتنكب ما بين المشرق والجنوب، ومنها ما يتنكب ما بين المشرق والشمال، ومنها ما هو بين العمران والمدن والقرى، ومنها ما هو في البراري والقفار، ومنها ما هو في الجزائر والبحار.
وفي هذا الربع أيضا مقدار مائتين وأربعين نهرا؛ طول كل نهر منها من عشرين فرسخا إلى مائة فرسخ إلى ألف فرسخ، فمنها ما جريانه من المشرق إلى المغرب، ومنها ما جريانه من الغرب إلى الشرق، ومنها من الشمال إلى الجنوب، ومنها من الجنوب إلى الشمال، ومنها ما يتنكب من هذه الجهات.
وكل هذه الأنهار تبتدئ من الجبال وتنتهي إلى البحار في جريانها وإلى البطائح والبحيرات، وتسقي في ممرها المدن والقرى والسوادات، وما يفضل من مائها ينصب إلى البحار ويختلط بماء البحر ثم يصير بخارا ويصعد في الهواء وتتراكم منه الغيوم وتسوقه الرياح إلى رءوس الجبال والبراري، ويمطر هناك ويسقي البلاد وتجري الأودية والأنهار ويرجع إلى البحار من الرأس، وذلك دأبها في الشتاء والصيف، ذلك تقدير العزيز العليم.
وفي هذا الربع سبعة أقاليم، تحتوي على سبعة عشر ألف مدينة كبيرة، يملكها نحو من ألف ملك، كل هذه في ربع واحد من بسيط الأرض، وأما ثلاثة أرباعها الباقية فحكمها غير هذا.
صفة الأقاليم السبعة
الأقاليم هي سبعة أقسام، خطت في الربع المسكون من الأرض، كل إقليم منها كأنه بساط مفروش قد مد طوله من المشرق إلى المغرب، وعرضه من الجنوب إلى الشمال، وهي مختلفة الطول والعرض، فأطولها وأعرضها الإقليم الأول؛ وذلك أن طوله من المشرق إلى المغرب نحو من ثلاثة آلاف فرسخ، وعرضه من الجنوب إلى الشمال نحو مائة وخمسين فرسخا، وأقصرها طولا وعرضا الإقليم السابع؛ وذلك أن طوله من المشرق إلى المغرب نحو ألف وخمسمائة فرسخ، وعرضه من الجنوب نحو من سبعين فرسخا، وأما سائر الأقاليم ففيما بينهما من الطول والعرض، وهذا مثال ذلك، والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب:
![](../Images/figure82.png)
فصل
واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن هذه الأقاليم السبعة ليست هي أقساما طبيعية، وكأنها خطوط وهمية وضعتها الملوك الأولون الذين طافوا الربع المسكون من الأرض لتعلم حدود البلدان والممالك والمسالك؛ مثل: أفريذون النبطي وتبع الحميري وسليمان بن داود الإسرائيلي - عليهما السلام - والإسكندر اليوناني وأزدشير بن بابك الفارسي؛ ليعلموا بها حدود البلدان والمسالك والممالك، وأما ثلاثة أرباعها الباقية فمنعهم من سلوكها الجبال الشامخة والمسالك الوعرة والبحار الزاخرة والأهوية المتغيرة المفرطة التغير من الحر والبرد والظلمة؛ مثل ما في ناحية الشمال تحت مدار الجدي، فإن هناك بردا مفرطا جدا؛ لأنه ستة أشهر يكون الشتاء هناك ليلا كله، فيظلم الهواء ظلمة شديدة وتجمد المياه بشدة البرودة ويتلف الحيوان والنبات.
وفي مقابل هذا الموضع في ناحية الجنوب؛ حيث مدار سهيل يكون نهارا كله ستة أشهر صيفا فيحمى الهواء ويصير نارا سموما ويحترق الحيوان والنبات من شدة الحر، فلا يمكن السكنى ولا السلوك هناك.
وأما ناحية المغرب فيمنع السلوك فيها البحر المحيط؛ لتلاطم أمواجه وشدة ظلماته، وأما ناحية المشرق فيمنع السلوك هناك الجبال الشامخة، فإذا تأملت وجدت الناس محصورين في الربع المسكون من الأرض، وليس لهم علم بالثلاثة أرباع الباقية.
واعلم أن الأرض بجميع ما عليها من الجبال والبحار بالنسبة إلى سعة الأفلاك ما هي إلا كالنقطة في الدائرة، وذلك أن في الفلك ألفا وتسعة وعشرين كوكبا، أصغر كوكب منها مثل الأرض ثماني عشرة مرة، وأكبرها مائة وسبع مرات، فلشدة البعد وسعة الأفلاك تراها كأنها الدر المنثور على بساط أخضر، فإذا فكر الإنسان في هذه العظمة تبين له حكمة الصانع وجلالة عظمته ، فينتبه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، ويعلم أنه ما خلق هذه الأشياء إلا لأمر عظيم، وذلك قوله تعالى: @QUR08 وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق.
(2) فصل في الحث على النظر في الأرض للاعتبار
اعلم يا أخي بأن من دخل الدنيا وعاش فيها زمانا طويلا مشغولا بالأكل والشرب والنكاح؛ دائبا في طلب الشهوات والحرص على جمع المال والأثاث واتخاذ البنيان وعمارة الأرض والعقارات وطلب الرياسة، متمنيا الخلود فيها، تاركا لطلب العلم، غافلا عن معرفة حقائق الأشياء، مهملا لرياضة النفس، متوانيا في الاستعداد للرحلة إلى الدار الآخرة، حتى إذا فني العمر وقرب الأجل وجاءت سكرة الموت التي هي مفارقة النفس الجسد، ثم خرج من هذه الدار جاهلا لم يعرف صورتها ولم يفكر في الآيات التي في آفاقها، ولا اعتبر أحوال مجوداتها، ولا تأمل الأمور المحسوسة التي شاهد فيها؛ فمثلهم مثل قوم دخلوا إلى مدينة ملك عظيم حكيم عادل رحيم قد بناها بحكمته، وأعد فيها من طرائف صنعته ما يقصر الوصف عنها إلا بالمشاهدة لها، ووضع فيها مائدة قوتا للواردين إليها وزادا للراحلين عنها، ثم دعا عبادا له إلى حضرته ليمنحهم بالكرامة، وأمرهم بالورود إلى تلك المدينة في طريقهم؛ لينظروا إليها ويبصروا ما فيها، ويتفكروا في عجائب مصنوعاته ويعتبروا غرائب مصوراته؛ ليروض بها نفوسهم، فيصيرون برؤيتها ومعرفتها حكماء أخيارا فضلاء، فيصلون إلى حضرته ويستحقون كرامته.
فوردها قوم ليلا فباتوا طول ليلتهم مشغولين بالأكل والشرب واللعب واللهو، ثم خرجوا منها سحرا لا يدرون من أي باب دخلوا ولا من أيها خرجوا ولا رأوا مما فيها شيئا من آثار حكمته وغرائب صنعته، ولا انتفعوا بشيء منها أكثر من تمتعهم تلك الليلة بالأكل والشرب وحسب.
فهكذا حكم أبناء الدنيا الواردين إليها جاهلين، الماكثين فيها متحيرين مكرهين، المنكرين أمر الدار الآخرة، الراحلين عنها كما قال الله - جل ثناؤه: @QUR011 ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا، وقال ذما لهم: @QUR06 صم بكم عمي فهم لا يعقلون بأمر الآخرة، فأعيذك أيها الأخ البار الرحيم أن تكون منهم، بل كن من الذين مدحهم - عز وجل - فقال جل ثناؤه: @QUR014 تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين، وحكى قولهم لما تمنوا عرض الدنيا حين قال: @QUR011 يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم، وقال الذين أوتوا العلم بحقيقة أمر الآخرة: @QUR012 ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون، @QUR011 وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم، وفقك الله أيها الأخ البار الرحيم للسداد، وهداك للرشاد وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد.
وإذ قد فرغنا من ذكر الأرض ووصفنا الربع المسكون؛ نريد أن نذكر الأقاليم السبعة، ونبين حدودها طولا وعرضا وما في كل إقليممن المدن الكبار والجبال والأنهار الطوال.
فاعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن حدود الأقاليم معتبرة بساعات النهار وتفاوت الزيادة فيها؛ وبيان ذلك أنه إذا كانت الشمس في أول برج الحمل كان طول الليل والنهار وساعاتهما تتساوى في هذه الأقاليم كلها، فإذا سارت الشمس في درجات برج الحمل والثور والجوزاء اختلفت ساعات نهار كل إقليم؛ حتى إذا بلغت آخر الجوزاء الذي هو أول السرطان صار طول النهار في وسط الإقليم الأول ثلاث عشرة ساعة، وفي وسط الإقليم الثاني ثلاث عشرة ساعة ونصفا، وفي وسط الإقليم الثالث أربع عشرة ساعة، وفي وسط الإقليم الرابع أربع عشرة ساعة ونصفا، وفي وسط الإقليم الخامس خمس عشرة سواء، وفي وسط الإقليم السادس خمس عشرة ونصفا، وفي وسط الإقليم السابع ست عشرة سواء، وفي المواضع التي عرضها ست وستون درجة وما زاد إلى تسعين درجة يصير نهارا كله، وشرح كيفيتها طويل مذكور في المجسطي.
واعلم أن معنى كل طول بلدة ومدينة هو بعدها من أقصى المغرب، ومعنى عرضها هو بعدها من خط الاستواء، وخط الاستواء هو الموضع الذي يكون الليل والنهار هناك أبدا متساويين، فكل مدينة على ذلك الخط فلا عرض لها، وكل مدينة في أقصى المغرب فلا طول لها أيضا، ومن أقصى المغرب إلى أقصى المشرق مائة وثمانون درجة، مقدار كل درجة تسعة عشر فرسخا، وكل مدينة طولها تسعون درجة فهي في وسط من المشرق والمغرب، وما كان أكثر فهي إلى المشرق أقرب، وما كان أقل فهي إلى المغرب أقرب، وكل مدينتين إحداهما أكبر طولا وعرضا فهي إلى المشرق والشمال أقرب من الأخرى، والتفاوت الذي يكون بينهما في العرض كل درجة تسعة عشر فرسخا بالتقريب، وأما تفاوتهما في الطول فمختلف، فما كان منها على خط الاستواء، فكل درجة في الطول تسعة عشر فرسخا، وما كان في الإقليم الأول فكل درجة سبعة عشر فرسخا، وما كان في الثاني فكل درجة خمسة عشر فرسخا، وفي الثالث كل درجة ثلاثة عشر فرسخا، وفي الرابع كل درجة عشرة فراسخ، وفي الخامس كل درجة سبعة فراسخ، وفي السادس كل درجة خمسة فراسخ، وفي السابع كل درجة ثلاثة فراسخ.
«أسماء المدن الكبار» التي ليست في الأقاليم السبعة، وهي كل مدينة عرضها أقل من اثنتي عشرة درجة مما يلي خط الاستواء أولها مما يلي الشرق:
الإقليم الأول لزحل، وطوله من المشرق إلى المغرب 9555 ميلا، 3185 فرسخا، وعرضه من الجنوب إلى الشمال 445 ميلا، 146 فرسخا، وحده الأول مما يلي خط الاستواء؛ حيث يكون ارتفاع القطب الشمالي ثلاث عشرة درجة غير ربع، وساعات نهاره الأطول؛ اثنتا عشرة ساعة ونصف وربع، ووسطه حيث يكون ارتفاع القطب عن الأفق ست عشرة درجة وثلثي درجة، وساعات نهاره الأطول ثلاث عشرة ساعة، وحده الثاني حيث يكون ارتفاع القطب عشرين درجة ونصفا، وطول نهاره الأطول ثلاث عشرة ساعة وربع.
وفي هذا الإقليم من الجبال الطوال نحو من عشرين جبلا، منها ما طوله من عشرين فرسخا إلى مائة فرسخ إلى ألف فرسخ، وفيه أيضا مقدار ثلاثين نهرا طوالا، منها ما طوله من عشرين فرسخا إلى مائة فرسخ إلى ألف فرسخ، وفيه من المدن المعروفة الكبار نحو من خمسين مدينة، وابتداء هذا الإقليم من المشرق على شمال جزيرة الياقوت، فيمر على بلاد الصين مما يلي الجنوب.
ثم يمر على شمال بلد سرنديب، ثم يمر على وسط بلاد الهند، ثم يمر على وسط بلاد السند، ثم يقطع بحر فارس مما يلي الجنوب بلاد عمان، ثم يمر على وسط بلاد الشحر، ثم يمر على وسط بلاد اليمن، ثم يقطع بحر القلزم هناك، ويمر على وسط بلاد الحبشة، ويقطع نيل مصر هناك، ثم يمر على بلاد النوبة، ثم يمر على وسط بلاد البربر وبلاد البواي، ثم يمر على جنوب بلاد مرطانة، وينتهي إلى بحر المغرب، وعامة أهل هذه البلدان سود.
«أسماء المدن الكبار» التي في هذه الأقاليم، وهي كل مدينة عرضها من ثلاث عشرة درجة إلى عشرين درجة، فأولها ما يلي المشرق:
الإقليم الثاني للمشتري وطوله من المشرق إلى المغرب 7655 ميلا وعرضه من الجنوب إلى الشمال 600 ميل وحده الأول مما يلي إقليم زحل 40؛ حيث يكون ارتفاع القطب عشرين درجة ونصفا، فطول نهاره الأطول ثلاث عشرة ساعة وربع، ووسطه حيث يكون ارتفاع القطب أربعا وعشرين درجة وست دقائق، ونهاره الأطول ثلاث عشرة ساعة ونصف، وحده الثاني حيث يكون ارتفاع القطب من الأفق سبعا وعشرين درجة ونصفا ونهاره الأطول ثلاث عشرة ساعة ونصف وربع.
وفي هذا الإقليم من الجبال الطوال نحو من سبعة عشر ميلا، ومن الأنهار الطوال من ذلك، ومن المدن المعروفة الكبار نحو من خمسين مدينة، وابتداء هذا الإقليم من المشرق، ويمر على وسط بلاد الصين، ثم يمر على شمال بلاد سرنديب، ثم يمر على بلاد الهند مما يلي الشمال، ثم يمر على بلاد قندهار، ثم يمر على وسط كابل وشمال بلاد السند وجنوب بلاد مكران، ثم يقطع بحر فارس ويمر على بلاد عمان، ثم يمر على وسط بلاد العرب، ثم يقطع بحر القلزم، ويمر على شمال بلاد الحبشة وجنوب بلاد صعيد مصر، فيقطع نيل مصر هناك، ثم يمر على وسط بلاد الزقة وأفريقية، ثم يمر على شمال بلاد البربر وجنوب بلاد القيروان، ثم يمر على وسط بلاد مرطانة، وينتهي إلى بحر المغرب، وأكثر أهل هذه البلدان ألوانهم من بين السمرة إلى السواد.
فمن المدن الكبار التي في هذا الإقليم أولها مما يلي المشرق في أقصى بلاد الصين، وهو كل مدينة عرضها من ك إلى كرك وأولها مما يلي المشرق:
الإقليم الثالث للمريخ، وطوله من المشرق إلى المغرب 8255 ميلا، وعرضه من الجنوب إلى الشمال 355 ميلا، وحده من سبع وعشرين درجة ونصف إلى ثلاث وثلاثين درجة وثلاثين دقيقة، ووسطه حيث يكون ارتفاع القطب عن الأفق ثلاثين درجة ونصفا وخمسا، ونهاره الأطول أربع عشرة ساعة سواء، وفي هذا الإقليم من الجبال الطوال ثلاثة وثلاثون جبلا، ومن الأنهار الطوال اثنان وعشرون نهرا، ومن المدن المعروفة الكبار مائة وثمان وعشرون مدينة.
وابتداء هذا الإقليم من المشرق، فيمر على شمال بلاد الصين وجنوب بلاد يأجوج، ثم يمر على شمال بلاد الهند وجنوب بلاد الترك، ثم يمر على وسط كابل، ثم على بلاد قندهار، ثم على بلاد مكران، ثم على جنوب بلاد سجستان، ثم يمر على وسط بلاد كرمان، ثم يمر على بلاد فارس مما يلي البحر، ثم يمر على بلاد العراق مما يلي الجنوب، ثم يمر على جنوب بلاد ديار بكر وشمال بلاد العرب، ثم يمر على وسط الشام، ثم يمر على بلاد مصر، ويمر على بلاد الإسكندرية، ثم يمر على وسط بلاد مرماريق، ثم يمر على وسط بلاد القادسية وعلى وسط بلاد القيروان، ثم يمر عن بلاد طنجة، وينتهي إلى بحر المغرب؛ وأكثر أهل هذه البلدان سمر.
«أسماء المدن التي في الإقليم الثالث» وهي كل مدينة عرضها من «كرك إلى الحرم» أولها مما يلي المشرق:
الإقليم الرابع للشمس، طوله من المشرق إلى المغرب 7855 ميلا، وعرضه من الجنوب إلى الشمال 355 ميلا، وحده من ثلاث وثلاثين درجة وثلاثين دقيقة إلى تسع وثلاثين درجة، ووسطه حيث يكون ارتفاع القطب عن الأفق ستا وثلاثين درجة وخمسين دقيقة، ونهاره الأطول أربع عشرة ساعة ونصف، وفي هذا الإقليم من الجبال الطوال خمسة وعشرون جبلا، ومن الأنهار الطوال اثنان وعشرون نهرا، ومن المدن المعروفة الكبار نحو من مائتين واثنتي عشرة مدينة.
وابتداء هذا الإقليم من المشرق فيمر على شمال بلاد الصين وجنوب بلاد يأجوج ومأجوج، ثم يمر على الترك مما يلي الجنوب وشمال بلاد الهند وطخارستان ثم يمر على شمال بلاد بلخ باسيان، ثم يمر على شمال بلاد مكران، ثم يمر على وسط بلاد سجستان، ثم بلاد كرمان، ثم بلاد فارس، ثم بلاد خوزستان، ثم يمر على وسط بلاد العرق، ثم يمر على وسط ديار ربيعة وديار بكر، ثم يمر على جنوب بلاد الثغر وشمال بلاد الشام، ويمر على وسط بحر الروم وجزيرة قبرص، ويمر في البحر على شمال بلاد مصر والإسكندرية، ثم يمر على جزيرة صقلية وشمال بلاد مرماريقي وبلاد القادسية وبلاد القيروان وبلاد طنجة، وينتهي إلى بحر المغرب.
وأكثر أهل هذه البلدان ألوانهم ما بين السمرة والبياض، وهذا الإقليم هو إقليم الأنبياء والحكماء؛ لأنه وسط لأقاليم، ثلاثة منها جنوبية وثلاثة شمالية، وهو أيضا قسمة الشمس النير الأعظم، وأهل هذا الإقليم أعدل الناس طباعا وأخلاقا، ثم بعده الإقليمان اللذان عن جنبيه؛ أعني: الثالث والخامس، فأما الأقاليم الباقية فأهلها ناقصون عن طبيعة الأفضل؛ لأن صورهم سمجة وأخلاقهم وحشية مثل الزنج والحبشة، وأكثر الأمم الذين هم في الإقليم الأول والثاني وكذلك الأمم الذين هم في الإقليم السادس والسابع مثل يأجوج ومأجوج والبلغار والصقالبة وأمثالهم، وهي كل مدينة عرضها من لح م إلى لط:
الإقليم الخامس للزهرة وطوله من الشرق إلى الغرب 7455 ميلا وعرضه من الجنوب إلى الشمال 255 ميلا، وحده من تسع وثلاثين درجة إلى ثلاث وأربعين درجة ونصف، ووسطه من حيث يكون ارتفاع القطب إحدى وأربعين درجة وثلثا، ونهاره الأطول 15 ساعة سواء.
وفي هذا الإقليم من الجبال الطوال نحو من ثلاثين جبلا ومن الأنهار الطوال نحو من خمسة عشر نهرا، ومن المدن المعروفة الكبار نحو من مائتي مدينة، وابتداؤه من المشرق فيمر على وسط بلاد يأجوج ومأجوج، ويمر على وسط بلاد الترك وعلى بلاد فرغانة وبلاد أسبيجاب وعلى وسط بلاد ما وراء النهر ويقطع جيحون، وعلى وسط بلاد خراسان وعلى شمال سجستان وكرمان وعلى شمال بلاد فارس ووسط بلاد الري والمهان، وعلى شمال بلاد العراق وجنوب بلاد أذربيجان، وعلى وسط بلاد أرمينية وشمال بلاد الثغر، ويمر على وسط بلاد الروم ويقطع خليج قسطنطينية هناك، ويمر على شمال بحر الروم ووسط بلاد رومية ويمر على جنوب هيكل الزهرة، وعلى وسط بلاد الأندلس، وينتهي إلى بحر المغرب، وأكثر أهل هذه البلدان بيض، وهي كل مدينة عرضها من لط إلى مج ك:
الإقليم السادس لعطارد وطوله من المشرق إلى المغرب 7555 ميلا وعرضه من الجنوب إلى الشمال 255 ميلا، وحده من ثلاث وأربعين درجة ونصف إلى سبع وأربعين درجة وربع، ووسطه حيث يكون ارتفاع القطب خمسا وأربعين درجة وخمسين دقيقة، ونهاره الأطول خمس عشرة ساعة ونصف.
وفي هذا الإقليم من الجبال الطوال نحو من اثنين وعشرين جبلا، ومن الأنهار الطوال نحو اثنين وثلاثين نهرا، ومن المدن المعروفة الكبار نحو تسعين مدينة، وابتداؤه من المشرق فيمر على شمال بلاد يأجوج ومأجوج، ويمر على جنوب بلاد سجستان، وعلى جنوب بلاد الثغر، وعلى وسط بلاد خاقان وجنوب بلاد كيماك، وعلى شمال بلاد أسبيجاب، وعلى شمال بلاد السند وما وراء النهر، وعلى وسط بلاد خوارزم، وعلى شمال بلاد جرجان وطبرستان والديلم وكيلان ويقطع بحر طبرستان، وعلى وسط بلاد أذربيجان، وعلى وسط بلاد أرمينية وملطية على شمال بحر سطس وعلى شمال قسطنطينية، وعلى وسط بلاد مقدونية، وعلى وسط أفريقية مما يلي الشمال، ويمر على جنوب بحر الصقالبة، وعلى شمال هيكل الزهرة، وينتهي إلى بحر المغرب، وأكثر أهل هذه البلدان ألوانهم ما بين الشقرة والبياض، وكل مدينة عرضها من مح مد إلى مز به أولها مما يلي المشرق، والله أعلم.
الإقليم السابع للقمر، طوله من المشرق إلى المغرب 6655 ميلا، وعرضه من الجنوب إلى الشمال 185 ميلا، وحده من سبع وأربعين درجة وربع إلى خمسين درجة ونصف، ووسطه حيث يكون ارتفاع القطب عن الأفق ثمانيا وأربعين درجة وثلثين، وطول نهاره الأطول ست عشرة ساعة سواء.
وفي هذا الإقليم من الجبال الطوال نحو من عشرة جبال، ومن الأنهار الطوال نحو من أربعين نهرا، ومن المدن المعروفة الكبار نحو من اثنتين وعشرين مدينة، وابتداؤه من المشرق فيمر على جنوب بلاد يأجوج ومأجوج وبلاد سجستان وبلاد غرغر، وعلى بلاد كيماك، وعلى جنوب اللان، وعلى شمال بحر جرجان وبلاد خنخ، وعلى جبل باب الأبواب، وعلى وسط بحر سطس، وعلى جنوب بلاد جرجان وشمال بلاد مقدونية، وعلى جنوب بحر الصقالبة، وجنوب جزيرة الري، وينتهي إلى بحر المغرب، وأكثر أهل هذه البلدان ألوانهم مائلة إلى الشقرة، وهي كل مدينة عرضها من مزبه إلى مط، أولها مما يلي المشرق:
(3) فصل في خواص الأقاليم
واعلم يا أخي بأن في كل إقليم من هذه الأقاليم السبعة ألوفا من المدن تزيد وتنقص، وفي كل مدينة أمم من الناس مختلفة ألسنتهم وألوانهم وطباعهم وآدابهم ومذاهبهم وأعمالهم وصنائعهم وعاداتهم، لا يشبه بعضهم بعضا، وهكذا حكم حيوانها ومعادنها مختلفة الشكل والطعم واللون والرائحة، وسبب ذلك اختلاف أهوية البلاد وتربة البقاع وعذوبة المياه وملوحتها، ولك هذا الاختلاف بحسب طوالع البروج ودرجاتها على آفاق تلك البلاد بحسب ممرات الكواكب على مسامتات تلك البقاع ومطارح شعاعاتها من الآفاق على تلك المواضع، وهذه جملة يطول شرحها، وذكر أن ملكا من الأولين أمر وقتا من الزمان بأن تعد المدن المسكونة من الربع المسكون من الأرض، فوجد سبعة عشر ألف مدينة سوى القرى.
واعلم بأنه ربما يزيد عدد مدن الأرض وينقص، وذلك بحسب موجبات أحكام القرانات وأدوار الأفلاك الألوف، وذلك أن بالقرانات الدالة على قوة السعود واعتدال الزمان واستواء طبيعة الأركان ومجيء الأنبياء وتواتر الوحي وكثرة العلماء وعدل الملوك، وصلاح أحوال الناس، ونزول بركات السماء بالغيث؛ تزكو الأرض والنبات، ويكثر توالد الحيوان وتعمر البلاد ويكثر بنيان المدن، وبالقرانات الدالة على قوة النحوس وفساد الزمان وخروج المزاج عن الاعتدال، وانقطاع الوحي وقلة العلماء، وموت الأخيار، وجور الملوك، وفساد أخلاق الناس وسوء أعمالهم واختلاف آرائهم؛ يمنع نزول البركات من السماء بالغيث فلا تزكو الأرض، ويجف النبات ويهلك الحيوان وتخرب المدن في البلاد.
واعلم يا أخي بأن أمور هذه الدنيا دول ونوب، تدور بين أهلها قرنا بعد قرن، ومن أمة إلى أمة، ومن بلد إلى بلد.
فصل
واعلم بأن كل دولة لها وقت منه تبتدئ، وغاية إليها ترتقي، وحد إليه تنتهي، فإذا بلغت إلى أقصى غاياتها ومدى نهاياتها؛ تسارع إليها الانحطاط والنقصان، وبدا في أهلها الشؤم والخذلان، واستأنف في الآخرين من القوة والنشاط والظهور والانبساط، وجعل كل يوم يقوى هذا ويزيد، ويضعف ذاك وينقص إلى أن يضمحل الأول المقدم ويستمكن الآتي المتأخر.
والمثال في ذلك مجاري أحكام الزمان؛ وذلك أن الزمان كله نصفان؛ نصفه نهار مضيء، ونصفه ليل مظلم، وأيضا نصفه صيف حار ونصفه شتاء بارد، وهما يتداولان في مجيئهما وذهابهما، كلما ذهب هذا رجع هذا، وتارة يزيد هذا وينقص هذا، وكلما نقص من أحدهما زاد في الآخر بذلك المقدار حتى إذا تناهيا إلى غايتهما في الزيادة والنقصان، ابتدأ النقص في الذي تناهى في الزيادة، وابتدأت الزيادة في الذي تناهى في النقصان، فلا يزالان هكذا إلى أن يتساويا في مقداريهما، ثم يتجاوزان على حالتيهما إلى أن يتناهيا في غايتيهما من الزيادة والنقصان، وكلما تناهى أحدهما في الزيادة ظهرت قوته، وكثرت أفعاله في العالم، وخفيت قوة ضده، وقلت أفعاله.
فهكذا حكم الزمان في دولة أهل الخير ودولة أهل الشر؛ تارة تكون الدولة والقوة وظهور الأفعال في العالم لأهل الخير، وتارة الدولة والقوة وظهور الأفعال في العالم لأهل الشر، كما ذكر الله - عز وجل - وقال: @QUR05 وتلك الأيام نداولها بين الناس، @QUR04 وما يعقلها إلا العالمون.
فصل
وقد نرى أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه قد تناهت دولة أهل الشر وظهرت قوتهم وكثرت أفعالهم في العالم في هذا الزمان وليس بعد التناهي في الزيادة إلا الانحطاط والنقصان، واعلم بأن الدولة والملك ينتقلان في كل دهر وزمان ودور وقران من أمة إلى أمة ومن أهل بيت إلى أهل بيت ومن بلد إلى بلد.
واعلم يا أخي أن دولة أهل الخير يبدأ أولها من قوم علماء حكماء وخيار فضلاء، يجتمعون على رأي واحد، ويتفقون على مذهب واحد ودين واحد، ويعقدون بينهم عهدا وميثاقا أن لا يتجادلوا ولا يتقاعدوا عن نصرة بعضهم بعضا، ويكونون كرجل واحد في جميع أمورهم وكنفس واحدة في جميع تدبيرهم فيما يقصدون من نصرة الدين وطلب الآخرة لا يبتغون سوى وجه الله ورضوانه جزاء ولا شكورا، فهل لك أيها الأخ البار الحكيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن ترغب في صحبة إخوان لك نصحاء، وأصدقاء لك أخيار فضلاء، هذه صفتهم، بأن تقصد مقصدهم، وتتخلق بأخلاقهم، وتنظر في علومهم لتعرف مناهجهم، وتكون معهم وتنجو بمفازاتهم، لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون، وفقك الله أيها الأخ وجميع إخواننا للصواب بفضله ومنه، حسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه محمد وآله.
الرسالة الخامسة في الموسيقى
بسم الله الرحمن الرحيم
وإذ قد فرغنا من ذكر الصنائع العلمية الروحانية التي هي أجناس العلوم، ومن ذكر الصنائع العلمية الجسمانية التي هي أجناس الصنائع، وبينا ماهية كل واحد منهما وكمية أنواعهما وما الأغراض المطلوبة منهما في رسالتين لنا؛ فنريد أن نذكر في هذه الرسالة الملقبة بالموسيقى الصناعة المركبة من الجسمانية والروحانية التي هي صناعة التأليف في معرفة النسب، وليس غرضنا من هذه الرسالة تعليم الغناء وصنعة الملاهي، وإن كان لا بد من ذكرها، بل غرضنا هو معرفة النسب وكيفية التأليف اللذين بهما وبمعرفتهما يكون الحذق في الصنائع كلها.
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن كل صناعة تعمل باليدين، فإن الهيولى الموضوعة فيها إنما هي أجسام طبيعية ومصنوعاتها كلها أشكال جسمانية إلا الصناعة الموسيقية فإن الهيولى الموضوعة فيها كلها جواهر روحانية، وهي نفوس المستمعين وتأثيراتها فيها مظاهر كلها روحانية أيضا، وذلك أن ألحان الموسيقى أصوات ونغمات، ولها في النفوس تأثيرات كتأثيرات صناعات الصناع في الهيوليات الموضوعة في صناعتهم، فمن تلك النغمات والأصوات ما يحرك النفوس نحو الأعمال الشاقة والصنائع المتعبة وينشطها ويقوي عزماتها على الأفعال الصعبة المتعبة للأبدان التي تبذل فيها مهج النفوس وذخائر الأموال، وهي الألحان المشجعة التي تستعمل في الحروب، وعند القتال في الهيجاء، ولا سيما إذا غني معها بأبيات موزونة في وصف الحروب ومديح الشجعان مثل قول القائل:
لوكنت من مازن لم تستبح إبلي
بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
ومثل قول البسوس بنت منقذ:
لعمري لو أصبحت في دار منقذ
لما ضيم سعد وهو جار لأبياتي ولكنني أصبحت في دار غربة
متى يعد فيها الذئب يعد على شاتي فيا سعد لا تغرر بنفسك وارتحل
فإنك في قوم عن الجار أموات
فإن هذه الأبيات وأخواتها يقال إنها كانت سببا لإثارة أقوام إلى الحرب والقتال بين قبيلتين من قبائل العرب سنين متواترة، ومن الأبيات الموزونة أيضا ما يثير الأحقاد الكامنة ويحرك النفوس الساكنة ويلهب نيران الغضب؛ مثل قول القائل:
واذكروا مصرع الحسين وزيد
وقتيلا بجانب المهراس
فإن هذه الأبيات وأخواتها أيضا أثارت أحقادا بين أقوام وحركت نفوسهم وألهبت فيها نيران الغضب وحثتهم على قتل أبناء الأعمام والأقرباء والعشائر، حتى قتلوهم بذنوب آبائهم ووزر أجدادهم ولم يرحموا منهم أحدا.
ومن الألحان والنغمات أيضا ما يسكن سورة الغضب ويحل الأحقاد ويوقع الصلح ويكسب الألفة والمحبة، فمن ذلك ما يحكى أن في بعض مجالس الشراب اجتمع رجلان متغاضبان، وكان بينهما ضغن قديم وحقد كامن، فلما دار الشراب بينهما ثار الحقد والتهبت نيران الغضب وهم كل واحد منهما بقتل صاحبه، فلما أحس الموسيقار بذلك منهما وكان ماهرا في صناعته غير نغمات الأوتار، وضرب اللحن الملين المسكن وأسمعهما، وداوم حتى سكن سورة الغضب عنهما وقاما فتعانقا وتصالحا.
ومن الألحان والنغمات ما ينقل النفوس من حال إلى حال، ويغير أخلاقها من ضد إلى ضد. ومن ذلك ما يحكى أن جماعة كانت من أهل هذه الصناعة مجتمعة في دعوة رجل رئيس كبير فرتب مراتبهم في مجلسه، بحسب حذقهم في صناعتهم؛ إذ دخل عليهم إنسان رث الحال، عليه ثياب رثة، فرفعه صاحب المجلس عليهم كلهم وتبين إنكار ذلك في وجوههم، فأراد أن يبين فضله ويسكن عنهم غضبهم، فسأله أن يسمعهم شيئا من صناعته، فأخرج الرجل خشبات كانت معه فركبها ومد عليها أوتاره وحركها تحريكا، فأضحك كل من كان في المجلس من اللذة والفرح والسرور الذي حل داخل نفوسهم، ثم قلبها وحركها تحريكا آخر أبكاهم كلهم من رقة النغمة وحزن القلوب، ثم قلبها وحركها تحريكا نومهم كلهم، وقام وخرج فلم يعرف له خبر.
فقد تبين بما ذكرنا أن لصناعة الموسيقى تأثيرات في نفوس المستمعين مختلفة كاختلاف تأثيرات صناعات الصناع في الهيوليات الموضوعة في صناعاتهم، فمن أجلها يستعملها كل الأمم من بني آدم وكثير من الحيوانات أيضا، ومن الدليل على أن لها تأثيرات في النفوس استعمال الناس لها؛ تارة عند الفرح والسرور في الأعراس والولائم والدعوات، وتارة عند الحزن والغم والمصائب وفي المآتم، وتارة في بيوت العبادات وفي الأعياد، وتارة في الأسواق والمنازل، وفي الأسفار وفي الحضر، وعند الراحة والتعب، وفي مجالس الملوك ومنازل السوقة، ويستعملها الرجال والنساء والصبيان والمشايخ والعلماء والجهال والصناع والتجار وجميع طبقات الناس.
(1) فصل في أن أصل صناعة الموسيقى للحكماء
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الصنائع كلها استخرجتها الحكماء بحكمتها، ثم تعلمها الناس منهم وبعضهم من بعض، وصارت وراثة من الحكماء للعامة ومن العلماء للمتعلمين ومن الأساتذة للتلامذة، فصناعة الموسيقى استخرجتها الحكماء بحكمتها وتعلمها الناس منهم، واستعملوها كسائر الصنائع في أعمالهم ومتصرفاتهم بحسب أغراضهم المختلفة.
فأما استعمال أصحاب النواميس الإلهية لها في الهياكل وبيوت العبادات، وعند القراءة في الصلوات، وعند القرابين والدعاء والتضرع والبكاء، كما كان يفعل داود النبي - عليه السلام - عند قراءة مزاميره، وكما يفعل النصارى في كنائسهم، والمسلمون في مساجدهم من طيب النغمة ولحن القراءة؛ فإن كل ذلك لرقة القلوب ولخضوع النفوس ولخشوعها والانقياد لأوامر الله تعالى ونواهيه والتوبة إليه من الذنوب والرجوع إلى الله - سبحانه وتعالى - باستعمال سنن النواميس كما رسمت.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن أحد الأسباب التي دعت الحكماء إلى وضع النواميس واستعمال سننها هو ما قد لاح لهم من موجبات أحكام النجوم من السعادات والمناحس عند ابتداء القرانات وتحاويل السنين من الغلاء أو الرخص أو الجدب أو الخصب أو القحط أو الطاعون والوباء أو تسلط الأشرار والظالمين، وما شاكلها من تغيرات الزمان وحوادث الأيام، فلما تبين لهم ذلك طلبوا حيلة تنجيهم منها إن كانت شرا وتوفر حظهم فيها إن كانت خيرا، فلم يجدوا حيلة أنجى ولا شيئا أنفع من استعمال سنن النواميس الإلهية التي هي الصوم والصلاة والقرابين والدعاء عند ذلك بالتضرع إلى الله تعالى - جل ثناؤه - بالخضوع والخشوع والبكاء والسؤال إياه أن يصرف عنهم ذلك ويكشف ما قد أوجبته أحكام النجوم من المناحس والبلاء.
وكانوا لا يشكون أنهم إذا دعوا الله بالنية والإخلاص ورقة القلب والبكاء والتضرع والتوبة والإنابة أن يصرف عنهم ما يخافون ويكشف عنهم ما هم مبتلون به، ويتوب عليهم ويغفر لهم ويجيب دعاءهم ويعطيهم سؤلهم، وكانوا يستعملون عند الدعاء والتسبيح والقراءة ألحانا من الموسيقى تسمى «المحزن»، وهي التي ترقق القلوب إذا سمعت، وتبكي العيون، وتكسب النفوس الندامة على سالف الذنوب وإخلاص السرائر وإصلاح الضمائر، فهذا كان أحد أسباب استخراج الحكماء صناعة الموسيقى واستعمالها في الهياكل وعند القرابين والدعاء والصلوات.
وكانوا أيضا قد استخرجوا لحنا آخر يقال له: «المشجع» كانت تستعمله قادة الجيوش في الحروب والهيجاء يكسب النفس شجاعة وإقداما، واستخرجوا أيضا لحنا آخر كانوا يستعملونه في المارستانات، وقت الأسحار، يخفف ألم الأسقام والأمراض عن المريض ويكسر سورتها ويشفي من كثير من الأمراض والأعلال، واستخرجوا أيضا لحنا آخر يستعمل عند المصائب والأحزان والغموم في المآتم، يعزي النفوس، ويخفف ألم المصائب، ويسلي عن الاشتياق، ويسكن الحزن. واستخرجوا أيضا لحنا آخر يستعمل عند الأعمال الشاقة والصنائع المتعبة مثل ما يستعمله الحمالون والبناءون وملاح الزواريق وأصحاب المراكب؛ يخفف عنهم كد الأبدان وتعب النفوس.
واستخرجوا أيضا ألحانا أخر، تستعمل عند الفرح واللذة والسرور في الأعراس والولائم وهي المعروفة المستعملة في زماننا هذا.
وقد تستعمل هذه الصناعة للحيوانات أيضا مثل ما يستعمله الجمالون من الحداء في الأسفار وفي ظلم الليل؛ لينشط الجمال في السير، ويخفف عليها ثقل الأحمال، ويستعملها رعاة الغنم والبقر والخيل عند ورودها الماء من الصفير ترغيبا لها في شرب الماء، ويستعملون لها أيضا ألحانا أخر عند هيجانها للنزو والفساد، وألحانا أخر عند حلب ألبانها لتدر، ويستعمل صياد الغزلان والدراج والقطا وغيرها من الطيور ألحانا في ظلم الليل يوقعها بها حتى تؤخذ باليد، وتستعمل النساء للأطفال ألحانا تسكن البكاء وتجلب النوم.
فقد تبين بما ذكرنا أن صناعة الموسيقى يستعملها كل أحد من الأمم، ويستلذها جميع الحيوانات التي لها حاسة السمع، وأن للنغمات تأثيرات في النفوس الروحانية، كما أن لسائر الصنائع تأثيرات في الهيوليات الجسمانية، فنقول الآن: إن الموسيقى هي الغناء، والموسيقار هو المغني، والموسيقات هو آلة الغناء، والغناء هو ألحان مؤلفة، واللحن هو نغمات متواترة، والنغمات هي أصوات متزنة، والصوت هو قرع يحدث في الهواء من تصادم الأجسام بعضها ببعض كما بينا في رسالة «الحاس والمحسوس»، ولكن نحتاج أن نذكر من ذلك في هذه الرسالة ما لا بد منه.
(2) فصل في كيفية إدراك القوة السامعة للأصوات
فأما كيفية إدراك القوة السامعة للأصوات؛ فاعلم يا أخي أن الأصوات نوعان: حيوانية وغير حيوانية، وغير الحيوانية أيضا نوعان: طبيعية وآلية، فالطبيعية هي كصوت الحجر والحديد والخشب والرعد والريح، وسائر الأجسام التي لا روح فيها من الجمادات. والآلية كصوت الطبل والبوق والزمر والأوتاد وما شاكلها.
والحيوانية نوعان: منطقية وغير منطقية، فغير المنطقية هي أصوات سائر الحيوانات غير الناطقة، وأما المنطقية فهي أصوات الناس، وهي نوعان: دالة وغير دالة، فغير الدالة كالضحك والبكاء والصياح. وبالجملة كل صوت لا هجاء له، وأما الدالة فهي الكلام والأقاويل التي لها هجاء، وكل هذه الأصوات إنما هي قرع يحدث في الهواء من تصادم الأجرام؛ وذلك أن الهواء لشدة لطافته وخفة جوهره وسرعة حركة أجزائه يتخلل الأجسام كلها، فإذا صدم جسم جسما آخر انسل ذلك الهواء من بينهما وتدافع وتموج إلى جميع الجهات وحدث من حركته شكل كروي، واتسع كما تتسع القارورة من نفخ الزجاج فيها، وكلما اتسع ذلك الشكل ضعفت حركته وتموجه إلى أن يسكن ويضمحل.
فمن كان حاضرا من الناس وسائر الحيوانات الذي له أذن بالقرب من ذلك المكان، فبتموج ذلك الهواء بحركته يدخل في أذنيه إلى صماخيه في مؤخر الدماغ، ويتوج أيضا ذلك الهواء الذي هناك فتحس عند ذلك القوة السامعة بتلك الحركة وذلك التغيير.
واعلم أن كل صوت له نغمة وصفية وهيئة روحانية خلاف صوت آخر، وأن الهواء من شرف جوهره ولطافة عنصره يحمل كل صوت بهيأته وصفته ويحفظها لئلا يختلط بعضها ببعض، فيفسد هيئتها إلى أن يبلغها إلى أقصى مدى غاياتها عند القوة السامعة؛ لتؤديها إلى القوة المتخيلة التي مسكنها مقدم الدماغ، وذلك تقدير العزيز الحكيم الذي جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون ، وإذ قد فرغنا من ذكر ماهية الأصوات وكيفية حل الهواء وكيفية إدراك القوة السامعة لها، فنذكر الآن كيفية حدوث أنواعها من تصادم الأجسام بعضا ببعض، فنقول: إن كل جسمين تصادما برفق ولين لا تسمع لهما صوتا؛ لأن الهواء ينسل من بينهما قليلا قليلا فلا يحدث صوتا، وإنما يحدث الصوت من تصادم الأجسام متى كان صدمها بشدة وسرعة؛ لأن الهواء عند ذلك يندفع مفاجأة، ويتموج بحركته إلى الجهات الست بسرعة، فيحدث الصوت ويسمع - كما بينا في فصل قبل هذا.
والأجسام العظيمة إذا تصادمت كان صوتها أعظم؛ لأنها تموج هواء أكثر، وكل جسمين من جوهر واحد، مقدارهما واحد، وشكلهما واحد، نقرا نقرة واحدة معا؛ فإن صوتيهما يكونان متساويين، فإن كان أحدهما أجوف كان صوته أعظم؛ لأنه يصدم هواء كثيرا داخلا وخارجا، والأجسام الملس أصواتها ملساء؛ لأن السطوح المشتركة التي بينها وبين الهواء ملساء، والأجسام الخشنة تكون أصواتها خشنة؛ لأن السطوح المشتركة بينها وبين الهواء خشنة.
والأجسام الصلبة المجوفة كالأواني والطرجهارات والجرار إذا نقرت طنت زمانا طويلا؛ لأن الهواء في جوفها يتردد ويصدمها مرة بعد مرة، وتارة بعد أخرى إلى أن يسكن، فما كان منها أوسع كان صوتها أعظم؛ لأنه يصدم هواء كثيرا داخلا وخارجا، والبوقات الطوال كان صوتها أعظم؛ لأن الهواء المتموج فيها يصدمها في مروره مسافة بعيدة، والحيوانات الكبيرة الرئات الطويلة الحلاقيم الواسعة المناخر والأشداق، تكون جهيرة الأصوات؛ لأنها تستنشق هواء كثيرا وترسله بشدة.
فقد تبين بما ذكرنا أن علة عظم الصوت إنما هي بحسب عظم الأجسام المصوتة وشدة صدمها وكثرة تموج الهواء في الجهات عنها، فنقول: إن أعظم الأصوات صوت الرعد، وقد بينا علة حدوثه في رسالة الآثار العلوية، ولكن نذكر هنا ما لا بد منه.
أما علة حدوثه فهو أن البخارين الصاعدين في الجو من البحار والبراري إذا ارتفعا في الهواء واختلطا واحتوى البخار الرطب اليابس الذي هو الدخان، واحتوى الزمهرير على البخارين الرطب واليابس وحصرهما انضغط البخار اليابس في جوف البخار الرطب والتهب وطلب الخروج، فدفع البخار الرطب وخرقه، فيفرقع البخار الرطب من حرارة ذلك الدخان اليابس، كما تفرقع الأشياء الرطبة إذا احتوت عليها حرارة النار دفعة واحدة.
ويحدث من ذلك قرع في الهواء ويندفع إلى جميع الجهات، وينقدح من خروج ذلك الدخان اليابس في جوف السحاب ضوء يسمى البرق، كما يحدث من دخان السراج المنطفئ إذا أدني من سراج مشتعل، ثم ينطفئ.
وربما يذوب من ذلك البخار الرطب شيء من جوف السحاب ويصير ريحا ويدور في خلل السحاب وجوف الغيوم، ويطلب الخروج، ويسمع له دوي وتقرقر، كما يسمع الإنسان من جوفه إذا كان يعرض له ريح وانتفاخ، وربما ينشق السحاب دفعة واحدة مفاجأة، فتخرج تلك الريح ويكون منها صوت هائل يسمى صاعقة.
فهذه علة صوت الرعد وكيفية حدوثه، فأما أصوات الرياح وعلة حدوثها فهي: أن الرياح ليست شيئا سوى تموج الهواء شرقا وغربا وشمالا وجنوبا وفوقا وتحتا، فإذا صدم في حركته وجريانه الجبال والحيطان والأشجار والنبات وتخللها؛ حدث من ذلك فنون الأصوات والدوي والطنين مختلفة الأنواع، كل ذلك بحسب كبر الأجسام المصدومة وصغرها وأشكالها وتجويفها، ويطول شرحها.
وأما أصوات المياه في جريانها وتموجها وتصادمها مع الأجسام، فإن الهواء؛ للطافة جوهره وسيلان عنصره يتخللها كلها، ويكون حدوث تلك الأصوات وفنون أنواعها بحسب تلك الأسباب التي ذكرناها في أمر الرياح، وأما أصوات الحيوانات ذوات الرئة واختلاف أنواعها وفنون نغماتها فهي بحسب طول أعناقها وقصرها وسعة حلاقيمها وتركيب حناجرها وشدة استنشاقها الهواء وقوة إرسال أنفاسها من أفواهها ومناخرها، يطول شرحها.
وأما أصوات الحيوانات التي ليست لها رئة كالزنابير والجراد والصرصر وما شاكلها؛ فإنها تحرك الهواء بجناحين لهما سرعة وخفة، فيحدث من ذلك أصوات مختلفة كما يحدث من تحريك أوتار العيدان، وتكون فنونها واختلاف أنواعها بحسب لطافة أجنحتها وغلظها وطولها وقصرها وسرعة تحريكها لها.
وأما الحيوانات الخرس كالسمك والسرطان والسلاحف وما شاكلها فهي خرس؛ لأن ليس لها رئة ولا جناحان، وأن اختلاف تلك الأصوات يكون بحسب شدة يبسها وصلابتها وكمية مقاديرها من الكبر والصغر والطول والقصر والسعة والضيق وفنون أشكالها من التجويف والتقبيب والثقب وقوة الصدمة وما يعرض فيها من الأسباب - كما سنبين ذلك في موضعه.
وأما فنون أصوات الآلات المتخذة للتصويب كالطبول والبوقات والدبادب والدفوف والسرناي والمزامير والعيدان، وما شاكلها، فهي بحسب أشكالها وجواهرها التي هي متخذة منها وكبرها وصغرها وطولها وقصرها وسعة أجوافها وضيق ثقبها ورقة أوتارها وغلظها، وبحسب فنون تحريك المحركين لها.
ونحتاج أن نذكر من هذا الفن طرفا إذ كان أحد أغراضنا من هذه الرسالة تبيان ماهية الموسيقى الذي هو ألحان مؤتلفة ونغمات متزنة، وهو المسمى الغناء، ولما تبين بما ذكرنا أن الغناء إنما هو ألحان مؤتلفة، واللحن هو نغمات متزنة، والنغمات المتزنة لا تحدث إلا من حركات متواترة بينها سكنات متتالية؛ احتجنا أن نذكر أولا ما الحركة وما السكون، فنقول: إن الحركة هي النقلة من مكان إلى مكان في زمان ثان، وضدها السكون وهو الوقوف في المكان الأول في الزمان الثاني.
والحركة نوعان: سريعة وبطيئة، والحركة السريعة هي التي يقطع المتحرك بها مسافة بعيدة في زمان قصير، والبطيئة هي التي يقطع المتحرك بها مسافة أقل منها في ذلك الزمان بعينه، والحركتان لا يعدان اثنتين إلا أن يكون بينهما زمان سكون، والسكون هو وقوف المتحرك في مكانه الأول زمانا ما كان يمكنه أن يكون متحركا فيه حركة ما.
وإذ قد فرغنا من ذكر ما احتجنا أن نبينه فنقول الآن: إن الأصوات تنقسم من جهة الكيفية ثمانية أنواع، كل نوعين منها متقابلان من جنس المضاف، فمنها العظيم والصغير والسريع والبطيء والحاد والغليظ والجهير والخفيف، فأما العظيم والصغير من الأصوات فبإضافة بعضها إلى بعض، والمثال في ذلك أصوات الطبول؛ وذلك أن أصوات طبول المواكب إذا أضيفت إلى أصوات طبول المخانيث كانت عظيمة، وإذا أضيفت إلى أصوات الكوس كانت صغيرة، وأصوات الكوس إذا أضيفت إلى أصوات الرعد والصواعق كانت صغيرة.
والكوس هو طبل عظيم يضرب في ثغور خراسان عند النفير يسمع صوته من فراسخ، فعلى هذا المثال يعتبر عظم الأصوات وصغرها بإضافة بعضها إلى بعض، وأما السريع والبطيء من الأصوات بإضافة بعضها إلى بعض، فهي التي تكون أزمان سكونات ما بين نقراتها قصيرة بالإضافة إلى غيرها.
والمثال في ذلك أصوات كوذينات القصارين ومطارق الحدادين؛ فإنها مريعة بالإضافة إلى أصوات دق الرزازين والجصاصين، وهي بطيئة بالإضافة إليها، وأما بالإضافة إلى أصوات مجازيف الملاحين فهي سريعة، وعلى هذا المثال تعتبر سرعة الأصوات وبطؤها بإضافة بعضها إلى بعض، وأما الحاد والغليظ من الأصوات بإضافة بعضها إلى بعض؛ فهي كأصوات نقرات الزير وحدته، بالإضافة إلى نقرات المثنى والمثنى إلى المثلث والمثلث إلى البم؛ فإنها تكون حادة.
فأما بالعكس فإن صوت البم بالإضافة إلى المثلث والمثلث إلى المثنى والمثنى إلى الزير فغليظة، ومن وجه آخر أيضا، فإن صوت كل وتر مطلقا غليظ بالإضافة إلى مزمومه - أي مزموم كان - فعلى هذا القياس تعتبر حدة الأصوات وغلظها بإضافة بعضها إلى بعض.
وأما الخفيف والجهير من الأصوات فقد تقدمت إبانتهما عند ذكر علتهما في الفصل الأول، والأصوات تنقسم من جهة الكمية نوعين: متصلة ومنفصلة، فالمتصلة هي التي بين أزمان حركة نقراتها زمان سكون محسوس، مثل نقرات الأوتار وإيقاعات القضبان.
وأما المتصلة من الأصوات فهي مثل أصوات المزامير والنايات والدبادب والدواليب والنواعير وما شاكلها، والأصوات المتصلة تنقسم نوعين: حادة وغليظة، فما كان من النايات والمزامير أوسع تجويفا وثقبا كان صوته أغلظ، وما كان أضيق تجويفا وثقبا كان صوته أحد، ومن جهة أخرى أيضا ما كان من الثقب إلى موضع النفخ أقرب كانت نغمته أحد، وما كان أبعد كان أغلظ.
(3) فصل في امتزاج الأصوات وتنافرها
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن أصوات الأوتار المتساوية الغلظ والطول والخرق إذا نقرت نقرة واحدة كانت متساوية، وإن كانت متساوية في الطول، مختلفة في الغلظ؛ كانت أصوات الغليظ أغلظ وأصوات الدقيق أحد، وإن كانت متساوية في الطول والغلظ، مختلفة في الخرق، كانت أصوات المخروقة حادة، وأصوات المسترخية غليظة، وإن كانت متساوية في الغلظ والطول والخرق، مختلفة في النقر، كان أشدها نقرا أعلاها صوتا.
واعلم بأن الأصوات الحادة والغليظة متضادان، ولكن إذا كانت على نسبة تأليفية ائتلفت وامتزجت واتحدت، وصارت لحنا موزونا واستلذتها المسامع وفرحت بها الأرواح، وسرت بها النفوس، وإن كانت على غير النسبة تنافرت وتباينت ولم تأتلف ولم تستلذها المسامع، بل تنفر عنها وتشمئز منها النفوس وتكرهها الأرواح.
والأصوات الحادة حارة تسخن مزاج أخلاط الكيموسات الغليظة وتلطفها، والأصوات الغليظة باردة ترطب مزاج أخلاط الكيموسات الحارة اليابسة، والأصوات المعتدلة بين الحادة والغليظة تحفظ مزاج أخلاط الكيموسات المعتدل على حالته؛ كي لا يخرج عن الاعتدال، والأصوات العظيمة الهائلة غير المتناسبة إذا وردت على المسامع دفعة واحدة مفاجأة، أفسدت المزاج وأخرجته عن الاعتدال، وتحدث موت الفجأة ولها آلة صناعية كان اليونانيون يستعملوها عند الحروب ويفزعون بها نفوس الأعداء، ويسد النافخون فيها آذانهم عند استعمالها وتحريكها، والأصوات المعتدلة المتزنة المتناسبة تعدل مزاج الأخلاط وتفرح الطباع، وتستلذ بها الأرواح وتسر بها النفوس.
(4) فصل في تأثر الأمزجة بالأصوات
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن أمزجة الأبدان كثيرة الفنون وطباع الحيوانات كثيرة الأنواع، ولكل مزاج وكل طبيعة نغمة تشاكلها ولحن يلائمها لا يحصي عددها إلا الله - عز وجل.
والدليل على حقيقة ما قلنا وصحة ما وصفنا أنك تجد إذا تأملت لكل أمة من الناس ألحانا ونغمات يستلذونها ويفرحون بها، لا يستلذها غيرهم ولا يفرح بها سواهم، مثل غناء الديلم والأتراك والأعراب والأرمن والزنج والفرس والروم وغيرهم من الأمم المختلفة الألسن والطباع والأخلاق والعادات.
وهكذا أيضا أنك تجد في الأمة الواحدة من هذه أقواما يستلذون ألحانا ونغمات وتفرح نفوسهم بها، ولا يسر بها من سواهم، وهكذا أيضا ربما تجد إنسانا واحدا يستلذ وقتا ما لحنا ويسره، ووقتا آخر لا يستلذه بل ربما يكرهه ويتألم منه، وهكذا تجد حكمهم في مأكولاتهم ومشروباتهم وفي مشموماتهم وملبوساتهم وسائر الملاذ والزينة والمحاسن، كل ذلك بحسب تغيرات أمزجة الأخلاط واختلاف الطبائع وتركيب الأبدان والأماكن والأزمان كما بينا طرفا من ذلك في رسالة الأخلاق.
(5) فصل في أصول الألحان وقوانينها
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن لكل أمة من الناس ألحانا من الغناء وأصواتا ونغمات لا يشبه بعضها بعضا، ولا يحصي عددها كثرة إلا الله تعالى الذي خلقهم وصورهم وطبعهم على اختلاف أخلاقهم وألسنتهم وألوانهم، ولكن نريد أن نذكر أصول الغناء وقوانين الألحان التي منها يتركب سائرها، وذلك أن الغناء مركب من الألحان، واللحن مركب من النغمات، والنغمات مركبة من النقرات والإيقاعات، وأصلها كلها حركات وسكون، كما أن الأشعار مركبة من المصاريع، والمصاريع مركبة من المفاعيل، والمفاعيل مركبة من الأسباب والأوتاد والفواصل، وأصلها كلها حروف متحركات وسواكن، كما بينا ذلك في كتاب العروض.
وكذلك الأقاويل كلها مركبة من الكلمات، والكلمات من الأسماء والأفعال والأدوات. وكلها مركبة من الحروف المتحركات والسواكن - كما بينا في كتاب المنطق - ومن يريد أن ينظر في هذا العلم فيحتاج أن يرتاض أولا في علم النحو والعروض مما لا بد منه، وقد ذكرنا في رسالة المنطق ما يحتاج إليه المتعلم والمبتدئ، ونحتاج أن نذكر ها هنا أصل العروض وهو ميزان الشعر وقوانينه؛ إذ كانت قوانين الموسيقى مماثلة لقوانين العروض، فنقول:
إن العروض هو ميزان الشعر يعرف به المستوي والمنزحف، وهي ثمانية مقاطع في الأشعار العربية، وهي هذه: فعولن، مفاعيل، متفاعلن، مستفعلن، فاعلاتن، فاعلن، مفعولات، مفاعلتن، وهذه الثمانية مركبة من ثلاثة أصول، وهي: السبب، والوتد، والفاصلة، فالسبب حرفان: واحد متحرك وآخر ساكن أو متحرك، مثل قولك: هل لم، وما شاكلها، والوتد ثلاثة أحرف: اثنان متحركان، وواحد ساكن، مثل قولك: نعم وبلى وأجل وما شاكلها، والفاصلة أربعة أحرف: ثلاثة متحركة، وواحد ساكن، مثل قولك: غلبت فعلت وما شاكلها. وأصل هذه الثلاثة حرف ساكن وحرف متحرك، فهذه قوانين العروض وأصوله.
وأما قوانين الغناء والألحان فهي أيضا ثلاثة أصول، وهي السبب والوتد والفاصلة، فأما السبب فنقرة متحركة يتلوها سكون، مثل قولك: تن تن تن تن ويكرر دائما، والوتد نقرتان متحركتان يتلوهما سكون، مثل قولك: تنن تنن تنن تنن، يكرر دائما، والفاصلة ثلاث نقرات متحركة يتلوها سكون، مثل قولك: تننن تننن تننن تننن.
فهذه الثلاثة هي الأصل والقانون في جميع ما يركب منها من النغمات، وما يركب من النغمات في جميع اللغات من الألحان، وما يتركب منها من الغناء في جميع اللغات، فإذا ركبت من هذه الثلاثة الأصول اثنين اثنين كانت منها تسع نغمات ثنائية، وهي هكذا: نقرة ونقرتان مثل قولك: تن تنن، وتكرر دائما.
ومنها نقرتان ونقرة مثل قولك: تنن تن، وتكرر دائما، ومنها نقرة وثلاث نقرات مثل قولك: تن تننن، ويكرر دائما، ومنها نقرتان ونقرتان مثل قولك: تنن تنن، ويكرر دائما، ومنها ثلاث نقرات ثلاث نقرات مثل قولك: تننن تننن.
ومنها ثلاث نقرات ونقرتان مثل قولك: تننن تنن، ويكرر دائما، ومنها ثلاث نقرات ونقرة مثل قولك: تننن تن، ويكرر دائما، ومنها نقرة وسكون قدر نقرة، وهي الأصل والعمود مثل قولك: تن تن تن تن، ويكرر دائما، فهذه جملة النغمات الثنائية.
وأما الثلاثية فهي عشرة تركيبات: نقرة ونقرتان، وثلاث نقرات، ونقرتان ونقرة وثلاث نقرات، ونقرة وثلاث نقرات ونقرتان، وثلاث نقرات ونقرة ونقرتان، ونقرتان وثلاث نقرات ونقرة، وثلاث نقرات ونقرتان ونقرة، ونقرة وثلاث نقرات ونقرة، ونقرتان وثلاث نقرات ونقرتان، وثلاث نقرات ونقرة وثلاث نقرات، وثلاث نقرات ونقرتان وثلاث نقرات، فهذه جميع أنواع الإيقاع المركبة من النقرات، ثلاثة منها مفردة، وتسعة ثنائية، وعشرة ثلاثية، فذلك اثنان وعشرون تركيبا.
والذي تركب من هذه في غناء العربية ثمانية أنواع، وهي: الثقيل الأول وخفيفه، والثقيل الثاني وخفيفه، والرمل وخفيفه، والهزج وخفيفه، وهذه الثمانية الأجناس هي الأصل، ومنها يتفرع سائر أنواع الألحان، وإليها تنسب، كما أن من الثمانية مقاطع يتفرع سائر ما في دوائر العرض، فقد تبين بما ذكرنا أن كل صناعة من الرياضيات أربعة أصول، منها يتركب سائرها، وتلك الأربعة أصلها واحد. كما بينا في رسالة الأرثماطيقي كيفية تركيب العدد من الواحد الذي قبل الاثنين، وفي رسالة جومطريا بينا بأن النقطة في صناعة الهندسة مماثلة للواحد في صناعة العدد، وفي رسالة الأسطرنوميا بينا أن الشمس وأحوالها من بين الكواكب كالواحد في العدد والنقطة في صناعة الهندسة.
وفي رسالة النسب العددية بينا أن نسبة المساواة أصل وقانون في علم النسب كالواحد في صناعة العدد، وفي هذه الرسالة قد بينا أن الحركة كالواحد، والسبب كالاثنين، والوتد كالثلاثة، والفاصلة كالأربعة، وسائر نغمات الألحان والغناء مركبة منها، كما أن سائر الأعداد من الآحاد والعشرات والمئين والألوف مركبة من الأربعة والثلاثة والاثنين والواحد، وفي رسالة المنطق قد بينا أيضا أن الجوهر كالواحد والتسع المقولات الأخر كتسعة الآحاد، أربعة منها متقدمة على باقيها، وهي الجوهر والكم والكيف والمضاف وسائرها مركبة منها.
وفي رسالة الهيولى بينا أن الجسم مركب من الجوهر والطول والعرض والعمق، وسائر الأجسام مركبة من الجسم المطلق، وفي رسالة المبادئ بينا أن الباري - جل ثناؤه - نسبته من الموجودات كنسبة الواحد من العدد، والعقل كالاثنين، والنفس كالثلاثة، والهيولى كالأربعة، وسائر الخلائق مركبة من الهيولى والصورة المخترعين من النفس الكلية، والنفس الكلية منبعثة من العقل الكلي، والعقل مبدع بأمر الباري - جل ثناؤه - أبدعه الله لا من شيء، وصور فيه جميع الأشياء بالقوة والفعل.
وغرضنا من هذه الرسائل كلها أن نبين لأهل كل صناعة وحدانية الباري - جل ثناؤه - من صناعتهم؛ لتكون أقرب إلى فهمهم، وأبين لحجتهم، وأوضح لبرهانهم، وهكذا فعلنا في سائر الرسائل، ونبين أيضا كيفية حدوث الموجودات بعضها من بعض بإذن الله - جل ثناؤه - وحسن عنايته وإتقان حكمته ودقة صنعته، فتبارك الله رب العالمين وأحسن الخالقين وأرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
ونرجع الآن إلى ما كنا فيه فنقول: إن كل نقرتين من نقرات الأوتار وإيقاعات القضبان فلا بد من أن يكون بينهما زمان سكون - طويلا كان أو قصيرا - وأنه إذا تواترت نقرات تلك الأوتار وإيقاعات تلك القضبان؛ تواترت أيضا سكونات بينهما، ثم لا تخلو أزمان تلك السكونات من أن تكون مساوية لأزمان تلك الحركات، أو تكون أطول منها، وإذا كانت أقصر منها فالمتفق عليه بين أهل هذه الصناعة أن زمان الحركة لا يمكن أن يكون أطول من زمان السكون الذي هو من جنسه، فإن كانت أزمان السكونات مساوية لأزمان الحركات في الطول، ولا يمكن أن يقع في تلك الأزمان حركة أخرى؛ سميت تلك النغمات عند ذلك العمود الأول، وهو الخفيف الذي لا يمكن أن يكون أخف منه؛ لأنه إن وقعت في تلك الأزمان حركة أخرى صارت نغمتها متصلة بنغمة النقرة التي قبلها والتي بعدها، وصار الجميع صوتا متصلا.
وإن كانت أزمان السكونات طولها بمقدار ما يمكن أن يقع فيها حركة أخرى؛ سميت تلك النغمات العمود الثاني والخفيف الثاني، وإن كانت أزمان تلك السكونات أطول من هذه بمقدار ما يمكن أن يقع فيها حركتان، سميت تلك النغمات الثقيل الأول، وإن كانت تلك الأزمان أطول من هذه بمقدار ما يمكن أن يقع فيها ثلاث حركات سميت تلك النغمات الثقيل الثاني.
وهذا الذي ذكرناه ووصفناه على ما يوجبه القياس والقانون، فأما على ما يعرفه أهل هذا الزمان من المغنين وأصحاب الملاهي من الخفيف والثقيل؛ فهو غير هذا، وسنذكره بعد هذا الفصل.
واعلم يا أخي بأنه إذا زادت أزمان السكونات التي بين النقرات والإيقاعات على هذا المقدار من الطول خرج من الأصل والقانون والقياس؛ أعني: من أن تدركها وتميزها القوة الذائقة السمعية، والعلة في ذلك أن الأصوات لا تمكث في الهواء زمانا طويلا إلا ريثما تأخذ المسامع حظها من الطنين، ثم تضمحل تلك الأصوات من الهواء الحامل لها المؤدي إلى المسامع - كما بينا في فصل قبل هذا - وهكذا أيضا طنين الأصوات لا يمكث في المسامع زمانا إلا ريثما تأخذ القوة المتخيلة رسومها، ثم تضمحل من المسامع تلك الطنينات.
وإذا طالت أزمان السكونات بين النقرات والإيقاعات وزادت على المقدار الذي تقدم ذكره، اضمحلت النغمة الأولى وطنينها من المسامع قبل أن ترد النغمة الأخرى، فلا تقدر القوة المفكرة أن تعرف مقدار الزمان الذي بينهما، فتميزهما وتعرف التناسب الذي بينهما؛ لأن جودة الذوق في المسامع هي معرفة كمية الأزمان التي بين النغمتين، وما بين أزمان السكونات وبين أزمان الحركات من التناسب والمقدار، وعلى هذا المثال يجري حكم سائر المحسوسات والقوى الحاسة المدركة لها، وذلك أن القوة الباصرة أيضا لا تقدر أن تعرف مقدار أبعاد ما بين المرئيات إلا إذا كانت متقاربة في الأماكن، وأما إذا بعد ما بينها من الأماكن كما بعد ما بين المسموعات بالأزمان، فلا تقدر القوة الباصرة أن تدركها وتميز البعد ما بينها إلا بآلات هندسية كالذراع والأشل والباب والقبضة والأصابع، كما بينا في رسالة الجومطريا.
وهكذا إذا بعد ما بين أزمان الحركات بطول أزمان السكونات، فلا تقدر القوة الذائقة السامعة أن تدركها وتعرف بعد ما بينها إلا بآلات رصدية كالطرجهارات والشياهين والأصطرلاب، وما شاكلها من آلات الرصد، فأما إن كانت قريبة أدركها السمع وميزها الذوق - كما هو معروف في العروض - فقد تبين بما ذكرناه من العلة في أزمان السكونات التي بين النقرات، وأنه إذا زاد طولها على المقدار المذكور وخرج من الأصل والقانون.
وعلة أخرى أيضا وهي أن النغمة الواحدة إذا وردت على القوة السامعة لا يمكث فيها صوتها إلى أن يضمحل إلا بمقدار زمان ثلاث نقرات أخرى من أخواتها، بين كل واحدة زمان سكون أحدهما، فتكون جملتها ثمانية أزمان فحسب، مثل هذا الشكل: اه اه اه اه الألف علامة السكون، والهاء علامة المتحرك.
وإذ قد فرغنا من ذكر مقادير أزمان الحركات والسكونات وما بينهما من البعد والتناسب؛ فنريد أن نذكر أيضا طرفا من أمر الآلات المصوتة وكيفية صناعتها وإصلاحها، وما التام الكامل منها.
(6) فصل في كيفية صناعة الآلات وإصلاحها
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الحكماء قد صنعوا آلات وأدوات كثيرة لنغمات الموسيقى وألحان الغناء، مفننة الأشكال، كثيرة الأنواع؛ مثل الطبول والدفوف والنايات والصنوج والمزامير والسرنايات والصفارات والسلباب والشواشل والعيدان والطنابير والجنك والرباب والمعازف والأراغن والأرمونيقي وما شاكلها من الآلات والأدوات المصوتة، ولكن أتم آلة استخرجتها الحكماء وأحسن ما صنعوها الآلة المسماة بالعود.
ونحتاج أن نذكر من كيفية صنعها وإصلاحها واستعمالها، وكمية نسب ما بين نغمات أوتارها وطولها وعرضها وغلظها ورقتها ونقراتها طرفا شبه المدخل والمقدمات؛ ليكون تنبيها لنفوس الطالبين للعلوم الفلسفية والناظرين في الآداب الرياضية، ونبين لهم دقائق الحكمة وأسرار الصنائع التي هي كلها دلالة على الصانع الحكيم الذي هو الباري - تبارك وجل ثناؤه - وهو الذي خلق الصناع وألهمهم الصنائع الأول والحكم والعلوم والمعارف، والله أحسن الخالقين وأحكم الحاكمين.
ولكن نبدأ أولا بذكر ما قال أهل هذه الصناعة؛ فإنه قد قيل: استعينوا في كل صناعة بأهلها، فنقول: إن أهل هذه الصناعة قالوا: ينبغي أن تتخذ الآلة التي تسمى العود خشبا طوله وعرضه وعمقه يكون على النسبة الشريفة، وهي أن طوله مثل عرضه ومثل نصفه، ويكون عمقه مثل نصف العرض، وعنق العود مثل ربع الطول، وتكون ألواحه رقاقا متخذة من خشب خفيف، ويكون الوجه رقيقا من خشب صلب خفيف يطن إذا نقر.
ثم يتخذ أربعة أوتار بعضها أغلظ من بعض على النسبة الأفضل، وهو أن يكون غلظ البم مثل غلظ المثلث ومثل ثلثه، وغلظ المثلث مثل غلظ المثنى ومثل ثلثه، وغلظ المثنى مثل غلظ الزير ومثل ثلثه، وهو أن يكون البم أربعة وستين طاقة إبريسم، والمثلث ثمانيا وأربعين طاقة، والمثنى ستا وثلاثين طاقة، والزير سبعا وعشرين طاقة إبريسم، ثم تمد هذه الأوتار الأربعة على وجه العود مشدودة أسفالها في المشط، ورءوسها في الملاوي فوق عنق العود، فعند ذلك تكون أطوالها متساوية وهي في دقتها وغلظها مختلفة على هذه النسبة «سد مح لوكز».
ثم يقسم طول الوتر الواحد بأربعة أقسام متساوية ويشد دستان الخنصر عند الثلاثة الأرباع مما يلي عنق العود، ثم يقسم طول الوتر من الرأس بتسعة أقسام متساوية، ويشد دستان السبابة على التسع مما يلي عنق العود، ثم يقسم طول الوتر عند دستان السبابة إلى المشط بتسعة أقسام متساوية ويشد دستان البنصر على التسع منه، فإنه يقع فوق دستان الخنصر مما يلي دستان السبابة.
ثم يقسم طول الوتر عند دستان الخنصر مما يلي المشط بثمانية أقسام، ويزاد عليها هذا الدستان، أعني: دستان الوسطى يشد بحيال نقطة من الوتر بينها وبين دستان الخنصر ثمن ما بين الخنصر إلى المشط، فيصير نسبة نغمة الوسطى هذه إلى نغمة الخنصر مثلها، فما بقي من الوتر فوق، ويشد عند ذلك دستان الوسطى، فإنه يقع فيما بين دستان السبابة والبنصر، فهذا هو إصلاح العود ونسب الأوتار ومواضع الدساتين.
فأما كيفية إصلاح النغم ومعرفة ما يكون بينها من النسب، فهو أن يمد الزير ويحزق بحسب ما يحتمل أن لا ينقطع، ثم يمد المثنى فوق الزير ويحزق ثم يزم بالخنصر وينقر مع مطلق الزير، فإذا سمعت نغمتاهما متساويتين فقد استويا، وإلا يزاد في حزق المثنى وإرخائه حتى يستويا، ثم يمد المثلث ويحزق ويزم بالخنصر وينقر مع مطلق المثنى حتى تسمع نغمتاهما متساويتين، وإلا يزاد في الحزق والإرخاء حتى يستويا ويسمع نغمتاهما كأنهما نغمة واحدة. ثم يمد المثلث ويحزق ويزم بالخنصر، وينقر مع مطلق المثنى حتى يسمع نغمتاهما متساويتين كأنهما نغمة واحدة.
ثم يمد البم ويحزق ويزم بالخنصر، وينقر مع مطلق المثلث، فإذا سمعت نغمتاهما متساويتين كأنهما نغمة واحدة فقد استويا، وإذا استوت هذه الأوتار على هذا الوصف وجدت نغمة مطلق كل وتر بالإضافة إلى نغمة مزمومة بالخنصر مثله ومثل ثلثه في الغلظ والثقل، ويوجد أيضا نغمة كل وتر مزموم بالخنصر مثل نغمة الوتر الذي تحته مطبقا بالسواء، أيضا نغمة مطلق كل وتر مثل نغمة مزمومة بالسبابة ومثل ثلثه سواء.
ويوجد أيضا نغمة مطلق كل وتر ضعف نغمة الوتر الذي تحته وهو الثالث منه مزموما بالسبابة، ويوجد أيضا نغمة سبابة كل وتر منه مثل نغمة بنصره ومثل ثمنه سواء، ويوجد أيضا نغمة وسطى كل وتر مثل نغمة خنصره ومثل ثمنه سواء.
وبالجملة: ما من وتر ولا دستان من هذه الأوتار والدساتين إلا ولنغماتها نسبة بعضها إلى بعض، ولكن منها ما هي فاضلة شريفة، ومنها ما دون ذلك، فمن النسب الفاضلة الشريفة أن تكون النغمة مثل الأخرى سواء، وتكون النغمة الغليظة مثل الحادة ومثل ثلثها ومثل نصفها أو مثلها ومثل ربعها أو مثلها ومثل ثمنها.
فإذا استوت هذه الأوتار على هذه النسب الفاضلة وحركت حركات متواترة متناسبة؛ حدث عند ذلك منها نغمات متواترة متناسبة، حادات، خفيفات وثقيلات غليظات، فإذا ألفت ضروبا من التأليفات - كما تقدم ذكرها في فصل قبل هذا - وصارت النغمات الغليظات الثقال للنغمات الحادات الخفاف كالأجساد وهي لها كالأرواح، واتحد بعضها ببعض وامتزجت وصارت ألحانا وغناء؛ كانت نقرات تلك الأوتار عند ذلك بمنزلة الأقلام، والنغمات الحادات منها بمنزلة الحروف، والألحان بمنزلة الكلمات، والغناء بمنزلة الأقاويل، والهواء الحامل لها بمنزلة القراطيس، والمعاني المتضمنة في تلك النغمات والألحان بمنزلة الأرواح المستودعة في الأجساد.
فإذا وصلت المعاني المتضمنة في تلك النغمات والألحان إلى المسامع؛ استلذت بها الطباع، وفرحت فيها الأرواح وسرت بها النفوس؛ لأن تلك الحركات والسكونات التي تكون بينها تصير عند ذلك مكيالا للأزمان وأذرعا لها، ومحاكية لحركات الأشخاص الفلكية، كما أن حركات الكواكب والأفلاك المتصلات المتناسبات هي أيضا مكيال للدهور وأذرع لها، فإذا كيل بها الزمان كيلا متساويا متناسبا معتدلا؛ كانت نغماتها مماثلة لنغمات حركات الأفلاك والكواكب ومناسبة لها، فعند ذلك تذكرت النفوس الجزئية التي في عالم الكون والفساد سرور عالم الأفلاك ولذات النفوس التي هناك، وعلمت وتبين لها بأنها في أحسن الأحوال وأطيب اللذات وأدوم السرور؛ لأن تلك النغمات هي أصفى وتلك الألحان أطيب؛ لأن تلك الأجسام أحسن تركيبا وأجود هنداما وأصفى جوهرا، وحركاتها أحسن نظاما ومناسباتها أجود تأليفا.
فإذا علمت النفس الجزئية التي في عالم الكون والفساد أحوال عالم الأفلاك وتيقنت حقيقة ما وصفنا؛ تشوقت عند ذلك إلى الصعود إلى هناك واللحوق بأبناء جنسها من النفوس الناجية في الأزمان الماضية، من الأمم الخالية.
فإن قال قائل: إن الفلك طبيعة خامسة لا يجوز أن يكون لأجسامه نغمات وأصوات؛ فليعلم هذا القائل أن الفلك وإن كانت طبيعته خامسة فليس بمخالف لهذه الأجسام في كل الصفات؛ وذلك أن منها ما هو مضيء مثل النار وهي الكواكب، ومنها ما هو مشف كالبللور وهي الأفلاك، ومنها ما هو صقيل كوجه المرآة وهو جرم القمر، ومنها ما هو يقبل النور والظلمة مثل الهواء وهو فلك القمر وفلك عطارد.
وبيان ذلك: أن ظل الأرض يبلغ مخروطه إلى فلك عطارد، وهذه كلها أوصاف للأجسام الطبيعية، والأجسام الفلكية تشاركها فيها، فقد تبين أن الفلك وإن كانت طبيعته خامسة فليس بمخالف للأجسام الطبيعية في كل الصفات، بل في بعضها دون بعض؛ وذلك أنها ليست بحارة ولا باردة ولا رطبة بل يابسة صلبة أشد صلابة من الياقوت، وأصفى من الهواء، وأشف من البلور، وأصقل من وجه المرآة، وأنها يماس بعضها بعضا وتصطك وتحتك، وتطن كما يطن الحديد والنحاس، وتكون نغماتها متناسبات مؤتلفات وألحانها موزونات - كما بينا مثالها في نغمات أوتار العيدان ومناسباتها.
(7) فصل في أن لحركات الأفلاك نغمات كنغمات العيدان
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه لو لم يكن لحركات أشخاص الأفلاك أصوات ولا نغمات؛ لم يكن لأهلها فائدة من القوة السامعة الموجودة فيهم، فإن لم يكن لهم سمع فهم صم بكم عمي، وهذه حال الجمادات الجامدات الناقصات الوجود، وقد قام الدليل وصح البرهان بطريق المنطق الفلسفي أن أهل السماوات وسكان الأفلاك هم ملائكة الله وخالص عباده، يسمعون ويبصرون ويعقلون ويقرأون ويسبحون الليل والنهار لا يفترون، وتسبيحهم ألحان أطيب من قراءة داود للزبور في المحراب، ونغمات ألذ من نغمات أوتار العيدان الفصيحة في الإيوان العالي.
فإن قال قائل: فإنهم ينبغي أن يكون لهم أيضا شم وذوق ولمس؛ فليعلم هذا القائل بأن الشم والذوق واللمس إنما جعل للحيوان الآكل للطعام والشارب للشراب؛ ليميز بها النافع من الضار، ويحرز جثته عن الحر والبرد المفرطين المهلكين لجثته، فأما أهل السماوات وسكان الأفلاك فقد كفوا هذه الأشياء، وهم غير محتاجين إلى أكل الطعام والشراب بل غذاؤهم التسبيح، وشرابهم التهليل، وفاكهتهم الفكر والروية والعلم والشعور والمعرفة والإحساس واللذة والفرح والسرور والراحة.
فقد تبين بما ذكرنا أن لحركات الأفلاك والكواكب نغمات وألحانا طيبة لذيذة مفرحة لنفوس أهلها، وأن تلك النغمات والألحان تذكر النفوس البسيطة التي هناك سرور عالم الأرواح التي فوق الفلك التي جواهرها أشرف من جواهر عالم الأفلاك، وهو عالم النفوس ودار الحياة التي نعيمها كلها روح وريحان في درجات الجنان، كما ذكر الله تعالى في القرآن.
والدليل على صحة ما قلنا والبرهان على حقيقة ما وصفنا أن نغمات حركات الموسيقار تذكر النفوس الجزئية التي في عالم الكون والفساد سرور عالم الأفلاك، كما تذكر نغمات حركات الأفلاك والكواكب النفوس التي هي هناك سرور عالم الأرواح، وهي النتيجة التي أنتجت من المقدمات المقرر بها عند الحكماء، وهي قولهم: إن الموجودات المعلولات الثواني تحاكي أحوالها أحوال الموجودات الأولى التي هي علل لها، فهذه مقدمة واحدة.
والأخرى قولهم: إن الأشخاص الفلكية علل أوائل لهذه الأشخاص التي في عالم الكون والفساد، وأن حركاتها علة لحركات هذه، وحركات هذه تحاكي حركاتها، فوجب أن تكون نغمات هذه تحاكي نغماتها، والمثال في ذلك حركات الصبيان في لعبهم؛ فإنهم يحاكون أفعال الآباء والأمهات، وهكذا التلامذة والمتعلمون يحاكون في أفعالهم وصنائعهم أفعال الأستاذين والمعلمين وأحوالهم، وأن أكثر العقلاء يعلمون بأن الأشخاص الفلكية وحركاتها المنتظمة متقدمة الوجود على الحيوانات التي تحت فلك القمر، وحركاتها علة لحركات هذه، وعالم النفوس متقدم الوجود على عالم الأجسام - كما بينا في رسالة الهيولى ورسالة المبادئ العقلية.
فلما وجد في عالم الكون حركات منتظمة لها نغمات متناسبة؛ دلت على أن في عالم الأفلاك، لتلك الحركات المنتظمة المتصلة نغمات متناسبة مفرحة لنفوسها، ومشوقة لها إلى ما فوقها، كما يوجد في طباع الصبيان اشتياق إلى أحوال الآباء والأمهات، وفي طباع التلامذة والمتعلمين اشتياق إلى أحوال الأستاذين، وفي طباع العامة اشتياق إلى أحوال الملوك، وفي طباع العقلاء اشتياق إلى أحوال الملائكة والتشبه بهم، كما ذكر في حد الفلسفة أنها التشبه بالإله بحسب الطاقة الإنسية.
ويقال: إن فيثاغورس الحكيم سمع - بصفاء جوهر نفسه وذكاء قلبه - نغمات حركات الأفلاك والكواكب فاستخرج بجودة فطرته أصول الموسيقى ونغمات الألحان، وهو أول من تكلم في هذا العلم، وأخبر عن هذا السر من الحكماء، ثم بعده نيقوماخس وبطليموس وإقليدس وغيرهم من الحكماء، وهذا كان غرض الحكماء من استعمالهم الألحان الموسيقية ونغم الأوتار في الهياكل وبيوت العبادات، عند القرابين في سنن النواميس الإلهية، وخاصة الألحان المحزنة المرققة للقلوب القاسية، المذكرة للنفوس الساهية والأرواح اللاهية الغافلة عن سرور عالمها الروحاني ومحلها النوراني ودارها الحيوانية.
وكانوا يلحنون مع نقرات تلك الأوتار كلمات وأبياتا موزونة قد ألفت في هذا المعنى ووصف فيها نعيم عالم الأرواح ولذات أهله وسرورهم، كما يقرأ غزاة المسلمين عند النفير آيات من القرآن أنزلت في هذا المعنى لترقق القلوب، وتشوق النفوس إلى عالم الأرواح ونعيم الجنان؛ مثل قوله تعالى: @QUR033 إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وأخوات هذه الآيات من القرآن، وكما ينشد غزاة المسلمين عند اللقاء أيضا أو الحملة على الهيجاء ما قيل من أبيات الشعر في وصف الحور العين ونعيم الجنان مما يشوق النفوس إلى هناك، أو يشجع على الإقدام، بالعربية والفارسية، نحو قول الشاعر:
أبت لي عفتي وأبى بلائي
وأخذي الحمد بالثمن الربيح وإقدامي على المكروه نفسي
وضربي هامة البطل المشيح وقولي كلما جشأت وجاشت
مكانك تحمدي أوتستريحي لأدفع عن مآثر صالحات
وأحمي بعد عن عرض صحيح
وقول الشاعر الفارسي:
بيا تادل وجان بخد أوند سباريم
أندوه درم وغم دينارنه داريم جان رازبي دين وديانت بفروشيم
وأين عمر فنار أبره غزو كذاريم
فأما الأشعار التي كان الحكماء الإلهيون يلحنونها عند استعمالهم الموسيقى في الهياكل وبيوت العبادات؛ لترقيق القلوب القاسية وتنبيه النفوس الساهية من نومة الغفلة، والأرواح اللاهية في رقدة الجهالة، ولتشويقها إلى عالمها الروحاني ومحلها النوراني، ودارها الحيوانية؛ ولإخراجها من عالم الكون والفساد، ولتخليصها من غرق بحر الهيولى ونجاتها من أسر الطبيعة، فهي ما هذه معانيها: «يا أيتها النفوس الغائصة في بحر الأجسام المدلهمة، ويا أيتها الأرواح الغريقة في ظلمات الأجرام ذوات الثلاثة الأبعاد، الساهية عن ذكر المعاد، المنحرفة عن سبيل الرشاد؛ اذكروا عهد الميثاق؛ إذ قال لكم الحق ألست بربكم، قلتم: بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا: إنما أشرك آباؤنا الجسمانيون من قبل، وكنا ذرية من بعدهم جرمانيين في دار الغرور، وضنك القبور. اذكروا عالمكم الروحاني وداركم الحيوانية ومحلكم النوراني، وتشوقوا إلى آبائكم وأمهاتكم وإخوانكم الروحانيين الذين هم في أعلى عليين، الذين هم من أوساخ الأجرام مبرءون، وعن ملابسة الأجسام الطبيعية منزهون، بادروا وارحلوا من دار الفناء إلى دار البقاء قبل أن يبادر بكم إلى هناك مكرهين مجبورين، غير مستعدين نادمين خاسرين.»
ففي مثل هذه الأوصاف وما شاكل هذه المعاني كانت الحكماء تلحن مع نغمات الموسيقى في الهياكل وبيوت العبادات، فقد تبين إذن - بما ذكرنا - طرف من غرض الحكماء في استعمالهم الموسيقى واستخراجاتهم أصول ألحانه وتركيب نغماته، وأما علة تحريم الموسيقى في بعض شرائع الأنبياء - عليهم السلام - فهو من أجل استعمال الناس لها على غير السبيل التي استعملها الحكماء، بل على سبيل اللهو واللعب، والترغيب في شهوات لذات الدنيا والغرور بأمانيها، والأبيات التي تنشد مشاكلة لها مثل قول قائل:
خذوا بنصيب من نعيم ولذة
فكل وإن طال المدى يتصرم
وقول القائل:
ما جاءنا أحد يخبر أنه
في جنة مذمات أو في نار
واعلم بأن مثل هذه الأبيات إذا سمعها أكثر الناس ظنوا وتوهموا أنه ليست لذة ولا نعيم ولا فرح ولا سرور غير هذه المحسوسات التي يشاهدونها، وأن الذي أخبرت به الأنبياء - عليهم السلام - من نعيم الجنات ولذات أهلها باطل، والذي أخبرت به الحكماء من سرور عالم الأرواح وفضله وشرفه كذب وزور ليست له حقيقة، فيقعون في شكوك وحيرة.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنك إن لم تؤمن للأنبياء - عليهم السلام - بما أخبروك عنه من نعيم الجنان ولذات أهلها، ولم تصدق الحكماء بما عرفوك من سرور عالم الأرواح، ورضيت بما تخيل لك الأوهام الكاذبة والظنون الفاسدة؛ بقيت متحيرا شاكا ضالا مضلا.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن غرض الأنبياء - عليهم السلام - في وضعهم النواميس والشرائع، وغرض الحكماء في وضع السياسات ليس هو إصلاح أمور الدنيا فحسب، بل غرضهم جميعا في ذلك إصلاح الدين والدنيا جميعا، فأما غرضهم الأقصى فهو نجاة النفوس من محن الدنيا وشقاوة أهلها وإيصالها إلى سعادة الآخرة ونعيم أهلها.
ونرجع الآن إلى ما كنا فيه فنقول: إنه إذا وصلت معاني النغمات والألحان إلى أفكار النفوس بطريق السمع وتصورت فيها رسوم تلك المعاني التي كانت مستودعة في تلك الألحان والنغمات؛ استغني عن وجودها في الهواء كما يستغنى عن المكتوب في الألواح إذا فهم وحفظ ما كان فيها مكتوبا من المعاني.
وهكذا يكون حكم النفوس الجزئية إذا ما هي تمت وكملت، وبلغت إلى أقصى مدى غاياتها مع هذه الأجسام، فعند ذلك هدمت أجسامها إما بموت طبيعي أو عرضي، أو بقربان في سبيل الله تعالى، واستخرجت تلك النفوس من الأجسام كما يستخرج الدر من الصدف، والجنين من الرحم، والحب من الأكمام، والثمرة من القشرة، واستؤنف بها أمر آخر، كما يستأنف بالدر أمر آخر إذا رمي بالصدف وحصل الدر، وهكذا حكم الثمار والحب إذا أدركت ونضجت، فليس إلا الصرام والحصاد والرمي بقشورها وتحصيل لبها ويستأنف بها حكم آخر، وهذا حكم النفوس بعد مفارقة الأجسام يراد بها أمر آخر كما ذكر الله تعالى: @QUR027 أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون * نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين * على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون.
هكذا أيضا حكم نفوس الحيوانات بعد الذبح يستأنف بها أمر آخر، فلا تقدر يا أخي بأن غرض واضعي النواميس في تحليل ذبح البهائم في الهياكل عند القرابين إنما هو لأكل لحومها حسب، بل غرضهم تخليص نفوسها من دركات جهنم عالم الكون والفساد ونقلها من حال النقص إلى حال التمام والكمال في الصورة الإنسانية التي هي أتم وأكمل صورة تحت فلك القمر، وهذه الصورة هي آخر باب في جهنم عالم الكون والفساد، كما بينا في رسالة حكمة الموت.
فانظر الآن يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، وتفكر واعلم بأن جسمك صدف ونفسك درة ثمينة لا تغفل عنها، فإن لها قيمة عظيمة عند بارئها وخالقها، وقد بلغت آخر باب في جهنم، فإن بادرت وتزودت وسعيت وخرجت من هذا الباب الذي ظاهره من قبله العذاب، ودخلت من الباب الذي باطنه فيه الرحمة، ساجدا في صورة الملائكة؛ فقد أفلحت وفزت ونجوت.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن صورة الملائكة هي التي توفى نفسك عند مفارقة الجسد، كما ذكر الله تعالى بقوله: @QUR011 قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن ملك الموت هو قابلة الأرواح وداية النفوس، كما أن الداية للأجسام هي قابلة الأطفال.
واعلم يا أخي بأن لكل نفس من المؤمنين أبوين في عالم الأرواح، كما أن لأجسادهم أبوين في عالم الأجساد، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي - رضي الله عنه: أنا وأنت يا علي أبوا هذه الأمة، قال الله تعالى: @QUR06 ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين، وهذه الأبوة روحانية لا جسمانية.
فنرجع إلى ما كنا فيه فنقول: إن الحكماء الموسيقاريين إنما اقتصروا من أوتار العود على أربعة لا أقل ولا أكثر؛ لتكون مصنوعاتهم مماثلة للأمور الطبيعية التي دون فلك القمر؛ اقتداء بحكمة الباري - جل ثناؤه - كما بينا في رسالة الأرثماطيقي، فوتر الزير مماثل لركن النار ونغمته مناسبة لحرارتها وحدتها، والمثنى مماثل لركن الهواء ونغمته مناسبة لرطوبة الهواء ولينه، والمثلث مماثل لركن الماء ونغمته مناسبة لرطوبة الماء وبرودته، والبم مماثل لركن الأرض ونغمته مماثلة لثقل الأرض وغلظها.
وهذه الأوصاف لها بحسب مناسبة بعضها إلى بعض وبحسب تأثيرات نغماتها في أمزجة طباع المستمعين لها؛ وذلك أن نغمة الزير تقوي خلط الصفراء، وتزيد في قوتها وتأثيرها وتضاد خلط البلغم وتلطفه، ونغمة المثنى تقوي خلط الدم وتزيد في قوته وتأثيره وتضاد خلط السوداء وترققه وتلينه، ونغمة المثلث تقوي خلط البلغم وتزيد في قوته وتأثيره وتضاد خلط الصفراء، وتكسر حدتها، ونغمة البم تقوي خلط السوداء وتزيد في قوتها وتأثيرها وتضاد خلط الدم وتسكن فورانه.
فإذا ألفت هذه النغمات في الألحان المشاكلة لها، واستعملت تلك الألحان في أوقات الليل والنهار المضادة طبيعتها طبيعة الأمراض الغالبة والعلل العارضة، سكنتها وكسرت سورتها، وخففت على المرضى آلامها؛ لأن الأشياء المتشاكلة في الطباع إذا كثرت واجتمعت قويت أفعالها، وظهرت تأثيراتها، وغلبت أضدادها كما يعرف الناس مثل ذلك في الحروب والخصومات.
فقد تبين بما ذكرنا طرف من حكمة الحكماء الموسيقيين المستعملين لها في المارستانات في الأوقات المضادة لطبيعة الأمراض والأغراض والأعلال، وهم اقتصروا على أربعة أوتار لا أكثر ولا أقل، فأما العلة التي من أجلها جعلوا غلظ كل وتر مثل غلظ الذي تحته ومثل ثلثه؛ فذلك منهم أيضا اقتداء بحكمة الباري - جل ثناؤه - واتباع لآثار صنعه في المصنوعات الطبيعية.
وذلك أن الحكماء الطبيعيين ذكروا أن أقطار أكر الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، كل واحد منها مثل الذي تحته ومثل ثلثه في الكيفية؛ أعني: في اللطافة والغلظ، فقالوا: إن قطر كرة الأثير - أعني: كرة النار التي دون فلك القمر - مثل قطر كرة الزمهرير ومثل ثلثها، وقطر كرة الزمهرير مثل قطر كرة النسيم ومثل ثلثها، وقطر كرة النسيم مثل قطر كرة الماء ومثل ثلثها، وقطر كرة الماء مثل قطر كرة الأرض ومثل ثلثها.
ومعنى هذه النسبة أن جوهر النار في اللطافة مثل جوهر الهواء ومثل ثلثه، وجوهر الماء في اللطافة مثل جوهر الماء ومثل ثلثه، وجوهر الماء في اللطافة مثل جوهر الأرض ومثل ثلثها.
وأما علة شدهم الزير الذي هو مماثل لركن النار ونغمته مماثلة لحرارة النار وحدتها تحت الأوتار كلها، وشدهم البم المماثل لركن الأرض فوقها كلها، والمثنى مما يلي الزير، والمثلث مما يلي البم، فهي أيضا لعلتين اثنتين؛ إحداهما أن نغمة الزير حادة خفيفة تتحرك علوا، ونغمة البم غليظة ثقيلة تتحرك إلى أسفل، فيكون ذلك أمكن لمزاجهما واتحادهما، وكذلك حال المثنى والمثلث.
والعلة الأخرى: أن نسبة غلظ الزير إلى غلظ المثنى، والمثنى إلى المثلث، والمثلث إلى البم؛ كنسبة قطر الأرض إلى قطر كرة النسيم، وكرة النسيم إلى كرة الزمهرير، والزمهرير إلى الأثير، فهذا كان سبب شدهم لها على هذا الترتيب.
وأما استعمالهم نسبة الثمن في نغمة الأوتار دون الخمس والسدس والسبع وتفضيلهم إياها؛ فمن أجل أنها مشتقة من الثمانية، والثمانية هي أول عدد مكعب، وأيضا فإن الستة لما كانت أول عدد تام وكانت الأشكال ذوات السطوح الستة أفضلها، والمقدم عليها هو المكعب لما فيه من التساوي كما بينا في رسالة الجومطريا، وذلك أن طول هذا الشكل وعرضه وعمقه كلها متساوية، وله ستة سطوح مربعات كلها متساويات، وله ثماني زوايا مجسمة كلها متساوية، وله اثنا عشر ضلعا متوازية متساوية، وله أربع وعشرون زاوية قائمة متساوية، وهي من ضرب ثلاثة في ثمانية.
وقد قلنا: إن كل مصنوع كان التساوي فيه أكثر فهو أفضل، وليس بعد الشكل الكري شكل أكثر تساويا من الشكل المكعب، فمن أجل هذا قيل في كتاب إقليدس في المقالة الأخيرة: إن شكل الأرض بالمكعب أشبه، وشكل الفلك بذي اثنتي عشرة قاعدة مخمسات أشبه، وقد بينا في رسالة الأسطرنوميا فضيلة الشكل الكري والعدد الاثني عشر.
ومن فضيلة الثمانية ما ذكرته الحكماء الرياضيون بأن بين أقطار أكر الأفلاك وبين قطر الأرض والهواء نسبة موسيقية؛ وبيان ذلك أنه إذا كان نصف قطر الأرض ثمانية، وكان نصف قطر كرة الهواء تسعة؛ فإن قطر كرة فلك القمر اثنا عشر، وقطر فلك عطارد ثلاثة عشر، وقطر فلك الزهرة ستة عشر، وقطر فلك الشمس ثمانية عشر، وقطر فلك المريخ إحدى وعشرون ونصف، وقطر فلك المشتري أربعة وعشرون، وقطر فلك زحل سبعة وعشرون وأربعة أسباع، وقطر فلك الكواكب الثابتة اثنان وثلاثون.
فنسبة قطر فلك القمر من قطر الأرض مثله وثلث، ومن قطر الهواء المثل والربع، ونسبة قطر الزهرة من قطر الأرض نسبة الضعف، ومن قطر القمر المثل والثلث، ونسبة قطر الشمس من قطر الهواء الضعف، ومن قطر الأرض الضعفان والربع، ومن قطر القمر المثل والنصف، ونسبة قطر المشتري من قطر القمر الضعف، ومن قطر الأرض الثلاثة الأضعاف، ومن الزهرة المثل والنصف، ونسبة قطر فلك الكواكب الثابتة من قطر المشتري المثل والربع، ومن الزهرة الضعف، ومن الشمس المثل والثلاثة الأرباع، ومن القمر الضعفان والثلاثة الأرباع، ومن الأرض أربعة أضعاف.
وأما عطارد والمريخ وزحل فغير هذه النسبة ، فمن أجل هذا قيل: إنها نحوس، وذكر هؤلاء الحكماء أيضا أن بين عظم أجرام هذه الكواكب بعضها لبعض نسبا شتى، إما عددية وإما هندسية وإما موسيقية، وهكذا بينها وبين جرم الأرض هذه النسب أيضا موجودة، ولكن منها شريفة فاضلة ومنها دون ذلك، يطول شرحها.
فقد تبين بما ذكرنا أن جملة جسم العالم بجميع أفلاكه وأشخاص كواكبه وأركانها الأربعة وتركيب بعضها جوف بعض، مركبة ومؤلفة ومصنوعة وموضوعة بعضها من بعض على هذه النسب المذكورة المقدم ذكرها، وأن جملة جسم العالم يجري مجرى جسم حيوان واحد وإنسان واحد ومدينة واحدة، وأن مدبرها ومصورها ومركبها ومؤلفها ومبدعها ومخترعها واحد لا شريك له، وهذا كان أحد أغراضنا في هذه الرسالة.
ومن فضيلة الثمانية أيضا أنك إذا تأملت يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، وتصفحت الموجودات وعنصر الكائنات الفاسدات؛ وجدت موجودات كثيرة مثمنات كطبائع الأركان: الحار الرطب والبارد اليابس والبارد الرطب والحار اليابس ثمانية، وهي أصل الموجودات الطبيعية، وعنصر الكائنات الفاسدات.
وأيضا من فضيلة الثمانية أنك تجد مناظرات الكواكب إلى ثمانية مواضع في الفلك مخصوصة دون غيرها، وهي المركز والمقابلة والتثليثان والتربيعان والتسديسان، وهذه الثمانية هي أيضا أحد أسباب الكائنات الفاسدات التي دون فلك القمر، وإذا تأملت أيضا واعتبرت؛ وجدت الثمانية والعشرين حرفا التي في اللغة العربية المماثلة لثمان وعشرين منزلة من منازل القمر، هجاؤها ثمانية أحرف، وهي: «أ ل ف ي م ن د و». ومفاعيل أشعار العرب أيضا ثمانية أجزاء، وهي أجزاء العروض وأجناس ألحان غنائهم أيضا ثمانية - كما سنبين في فصل آخر.
وقد قيل: إن للجنان ثماني مراتب، وحملة العرش ثمانية والنيران سبعة أبواب، وقد بينا في رسالة البعث والقيامة حقيقتها، وعلى هذا القياس يا أخي إذا تأملت الموجودات وتصفحت أحوال الكائنات وجدت أشياء كثيرة ثنائيات وثلاثيات ورباعيات وخماسيات وسداسيات وسباعيات وثمانيات ومتسعات ومعشرات، وما زاد على ذلك بالغا ما بلغ.
وإنما أردنا بذكر المثمنات أن ننبهك من نوم الغفلة ورقدة الجهالة؛ ولتعلم أن المسبعة الذين قد شغفوا بذكر المسبعات وتفضيلها على غيرها إنما كان نظرهم جزئيا وكلامهم غير كلي.
وكذلك حكم الثنوية في المثنويات والنصارى في تثليثهم والطبيعيين في مربعاتهم والحزمية في مخمساتهم والهند في مسدساتهم، والكيالية في متسعاتهم، وليس هذا مذهب إخواننا الكرام أيدهم الله وإيانا بروح منه؛ حيث كانوا في البلاد، بل نظرهم كلي وبحثهم عمومي وعلمهم جامع ومعرفتهم شاملة.
ولنعد الآن إلى ما كنا فيه فنقول: قد تبين إذن بما ذكرنا طرف من صفة العود وكمية أوتاره وتناسب ما بين غلاظها ودقاقها وكمية دساتينها وكيفية شدها وما بينها من التناسب وكمية نغمات نقرات أوتاره مطلقا ومزموما وما بينها من التناسب، فإن أحكم المصنوعات وأتقن المركبات وأحسن المؤلفات ما كان تأليف أجزائه وهيئة تركيبه على النسبة الأفضل، ومن أجل هذا صارت الألحان تستلذها أكثر المسامع وتستحسن صفتها واستعمالها أكثر العقول، ويغنى بها في مجالس الملوك والرؤساء.
(8) فصل في أن إحكام الكلام صنعة من الصنائع
ومن المصنوعات المحكمة المتقنة أيضا صنعة الكلام والأقاويل، وذلك أن أحكم الكلام ما كان أبين وأبلغ، وأتقن البلاغات ما كان أفصح، وأحسن الفصاحة ما كان موزونا مقفى، وألذ الموزونات من الأشعار ما كان غير منزحف، والذي غير منزحف من الأشعار هو الذي حروفه الساكنة وأزمانها مناسبة لحروف متحركاتها وأزمانها، والمثال في ذلك: الطويل والمديد والبسيط؛ فإن كل واحد منها مركب من ثمانية مقاطع، وهي هذه: فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن.
وهذه الثمانية مركبة من اثني عشر سببا وثمانية أوتاد؛ جملتها ثمانية وأربعون حرفا، عشرون منها سواكن، وثمانية وعشرون حرفا متحركات، والمصراع منه أربعة وعشرون حرفا، عشرة سواكن وأربعة عشر متحركات، ونصف المصراع الذي هو ربع البيت اثنا عشر حرفا، خمسة منها سواكن وسبعة متحركات، ونسبة سواكن حروف ربعه إلى متحركاته كنسبة سواكن حروف نصفه إلى متحركاته وكنسبة سواكن حروفه كلها إلى متحركاته كلها.
وهكذا تجد حكم الوافر والكامل، فإن كل واحد منهما مركب من ستة مقاطع، وهي هذه: مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن ست مرات، ونسبة سواكن حروف ثلث البيت إلى حروف متحركاته كنسبة حروف سواكن نصفه إلى متحركاته، وكنسبة سواكن كله إلى متحركات كله، وعلى هذا المثال والحكم يوجد كل بيت من الأشعار إذا سلم من الزحاف منصفا كان أو مربعا أو مسدسا، وكذلك حكم الأزمان التي بينها، وهذه صورتها: فعولن مفاعيلن «ه ه ا ه ا ه ه ا ه اه ا» الهاءات علامة المتحركات والألفات علامة السواكن.
فقد تبين بهذا المثال أيضا أن أحكم المصنوعات وأتقن المركبات ما كان تأليف أجزائه وأساس بنيته على النسبة الأفضل، ومن أمثال ذلك أيضا صناعة الكتابة التي هي أشرف الصنائع، وبها يفتخر الوزراء والكتاب وأهل الأدب في مجالس الملوك، مع كثرة أنواعها وفنون فروعها، وذلك أن لكل أمة من الأمم كتابة غير ما للأخرى، كالعربية والفارسية والسريانية والقبطية والعبرانية واليونانية والهندية وما شاكلها، لا يحصي عددها إلا الله - عز وجل - الذي خلقهم مع اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأخلاقهم وطبائعهم وصناعاتهم وعلومهم ومعارفهم؛ كل ذلك لسعة علمه ونفاذ مشيئته وإتقان حكمته - سبحانه وتعالى.
ونريد أن نذكر في هذا الفصل أصل الحروف وكيفية ترتيبها وكمية مقاديرها ونسب تأليفها الفاضلة بينها، فنقول: إن أصل حروف الكتابات كلها في أي لغة وضعت، ولأي أمة كانت، وبأي أقلام كتبت وخطت، أو بأي نقش صورت، وإن كثرت فإن أصلها كلها هو الخط المستقيم الذي هو قطر الدائرة، والخط المقوس الذي هو محيط الدائرة، فأما سائر الحروف فمركبة منهما ومؤلفة، كما بينا في رسالة الجومطريا شبه المدخل إلى صناعة الهندسة، ونبين مثالا لما ذكرنا من الحروف التي في الكتابة العربية؛ ليكون دليلا على صحة ما قلنا وحقيقة ما وصفنا، من أن أصل الحروف كلها هو الخط المستقيم والخط المقوس اللذان أحدهما قطر الدائرة والآخر محيطها، وهي هذه: أ ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص ض ط ظ ع غ ف ق ك ل م ن ه و لا ي.
فانظر الآن واعتبر وتأمل يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه؛ فإنك تجد هذه الحروف بعضها خطا مستقيما مثل هذا: أ ب ت ث، وبعضها مقوسا مثل هذا: د ذ ر ز، وبعضها مركبا منهما مثل سائر الحروف، وعلى هذا المثال والقياس توجد حروف كتابات سائر الأمم مثل الهندية، فإنها هكذا: 1 2 3 4 5 6 7 8 9، وكذلك السريانية والعبرانية واليونانية والرومية، فإن لكل منها اصطلاحا في أشكال الحروف وصورها لا يخرج عما قلنا.
وإذ قد تبين بما ذكرنا أن أصل الحروف والكتابات كلها هو الخط المستقيم الذي هو قطر الدائرة، والخط المقوس الذي هو محيطها؛ فنريد أن نبين أيضا أن أجود الخطوط وأصح الكتابات وأحسن المؤلفات ما كان مقادير حروفها بعضها من بعض على النسبة الأفضل، فلنذكر أولا ما قاله أهل هذه الصناعة، أعني: صناعة الكتابة؛ ليكون أقوى وأصح للحجة وأوضح للبيان وأرشد إلى القياس والقانون.
قال المحرر الحاذق المهندس: ينبغي لمن يريد أن يكون خطه جيدا وكتابته صحيحة أن يجعل لها أصلا يبني عليه حروفه وقانونا يقيس عليه خطوطه، والمثال في ذلك في كتابة العربية هو أن يخط الألف أولا بأي قدر شاء ويجعل غلظه مناسبا لطوله، وهو الثمن وأسفله أدق من أعلاه، ثم يجعل الألف قطر الدائرة، ثم يبني سائر الحروف مناسبا لطول الألف ولمحيط الدائرة التي الألف مساو لقطرها، وهو أن يجعل الباء والتاء والثاء كل واحد منها طوله مساو لطول الألف، وتكون رءوسها إلى فوق الثمن مثل هذا: أ ب ت ث، ثم يجعل الجيم والحاء والخاء كل واحد منها مدته من فوق نصف الألف، وتقويسه إلى أسفل نصف محيط الدائرة التي الألف مساو لقطرها مثل هذا: ج ح خ.
ثم يجعل الدال والذال كل واحد منهما مثل طول الألف إذا قوس؛ مثل هذا: د ذ، ثم يجعل الراء والزاي كل واحد منهما كمثل ربع محيط الدائرة التي الألف قطرها، ثم يجعل السين والشين كل واحد منهما رءوسها إلى فوق ثمن الألف، ومدتها إلى أسفل نصف محيط الدائرة مثل هذا: س ش، ثم يجعل الصاد والضاد مدة طول كل واحد منهما إلى قدام مثل طول الألف وفتحتها مثل ثمن الألف ومدتها إلى أسفل مثل نصف الدائرة المقدم ذكرها مثل هذا: ص ض؛ ويجعل الطاء والظاء كل واحد منهما طوله مثل طول الألف وفتحتها مثل ثمن الألف، ورءوسها إلى فوق بطول الألف مثل هذا: ط ظ، ثم يجعل العين والغين كل واحد منهما تقويسه من فوق ربع محيط تلك الدائرة وتقويسه من أسفل نصف محيطها، مثل هذا: ع غ.
ثم يجعل مدة الفاء إلى قدام مثل طول الألف، وفتحته ثمن الألف وحلقته وحلقة القاف والواو والميم والهاء كلها متساوية مثل ثلث الألف إذا دور مثل هذا: ف ق و م ه، ويجعل مدة القاف إلى أسفل مثل نصف محيط تلك الدائرة مثل هذا: ق، ثم يجعل مدة الكاف إلى قدام مثل طول الألف، وفتحته مثل ثمن الألف، وكسرته إلى فوق ربع الألف مثل هذا: ك، ثم يجعل طول اللام مثل الألف، ومدته إلى قدام نصف الألف، مثل هذا: ل، ثم يجعل مدة الميم والواو كل واحد منهما إلى أسفل مثل تقويس الراء والزاي مثل هذا: م و.
ثم يجعل تقويس النون مثل نصف محيط تلك الدائرة التي الألف مساو لقطرها مثل هذا: ن، ثم يجعل الياء مثل الدال ومدته إلى خلف مثل طول الألف أو تقويسه إلى أسفل مثل نصف محيط الدائرة مثل هذا: ي، وهذا الذي ذكرناه من نسب هذه الحروف وكمية مقاديرها طولا وعرضا بعضها عند بعض، فهو شيء توجبه قوانين الهندسة والنسب الفاضلة.
وأما ما يتعارفه الناس ويستحسنه الكتاب فعلى غير ما ذكرنا من المقادير والنسب، وذلك بحسب موضوعاتهم ومرضياتهم واختياراتهم دون غيرها، وبحسب طول الدربة وجريان العادة فيها؛ وإذ قد تبين بما ذكرنا ماهية النسب الفاضلة ومقادير الحروف وكمية أطوالها؛ فنريد أن نذكر ها هنا أيضا طرفا من كيفية صورها وتخطيط أشكالها وكيفية تركيبها بعضها مع بعض على ما يوجبه القياس والقانون بطريق الهندسة.
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن صور حروف الكتابات كثيرة الفنون مختلفة الأنواع، كما تقدم ذكرها ، وهي بحسب موضوعات الحكماء من الكتاب واختياراتهم لها وتواطئهم عليها يطول ذكر علة ذلك وشرحه، ولكن نذكر قولا مجملا مختصرا في ثلاث كلمان بحسب ما توجبه قوانين الهندسة والقياسات الفلسفية، كما أوصى المحرر الحاذق المهندس، فقال: ينبغي أن تكون صور الحروف كلها لأي أمة كانت، في أي لغة كانت، وبأي أقلام خطت إلى التقويس والانحناء ما هو الألف التي في كتابة العربية وأن يكون غلظ الحروف إلى الانخراط ما هو وأن يكون عند التركيب الزوايا كلها حادة وإلى التدوير ما هو، فهذا ما قاله أهل الصناعة في تقدير هذه الحروف ومناسباتها مفردة مفردة، فأما عند التركيب والتأليف فربما تختلف وتتغير لعلل يطول شرحها، ولكن على المحرر يجب عند تعليمه للخط التوقيف عليها.
فقد تبين إذن بما ذكرنا أن أحكم المصنوعات وأتقن المركبات وأحسن المؤلفات ما كان تركيب بنيته وتأليف أجزائه على النسبة الأفضل، والنسب الفاضلة هي المثل، والمثل والنصف، والمثل والثلث، والمثل والربع، والمثل والثمن - كما قد بينا قبل - ومن أمثال ذلك أيضا صورة الإنسان وبنية هيكله، وذلك أن الباري - جل جلاله - جعل طول قامته مناسبا لعرض جثته، وعرض جثته مناسبا لعنق تجويفه، وطول ذراعيه مناسبا لطول ساقيه، وطول عضديه مناسبا لطول فخذيه، وطول رقبته مناسبا لطول عمود ظهره، وكبر رأسه مناسبا لكبر جثته، واستدارة وجهه مناسبة لسعة صدره، وشكل عينيه مناسبا لشكل فمه، وطول أنفه مناسبا لعرض جبينه، وقدر أذنيه مناسبا لمقدار خديه، وطول أصابع يديه مناسبا لأصابع رجليه، وطول أمعائه مناسبا لطول أوردته، وتجويف معدته مناسبا لكبر كبده، ومقدار قلبه مناسبا لكبر رئته.
وشكل طحاله مناسبا لشكل كبده، وسعة حلقومه مناسبة لكبر رئته، وطول أعضائه وغلظها مناسبا لكبر عظامه، وطول أضلاعه وتقويسها مناسبا لصندوق صدره، وطول عروقه وسعتها مناسبا لبعد مسافة أقطار جسده، وعلى هذا المثال إذا تأملت واعتبرت كل عضو من أعضاء بدن الإنسان؛ وجدته مناسبا لجملة جثته نسبة ما ومناسبا لعضو عضو من أعضاء الجسد نسبة أخرى، لا يعلم كنه معرفتها إلا الله - جل ثناؤه - الذي خلقها وصورها كما شاء كيف يشاء، كما ذكر بقوله - جل ثناؤه: @QUR06 لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، وقال: @QUR010 خلقك فسواك فعدلك * في أي صورة ما شاء ركبك.
(9) فصل في تناسب الأعضاء على الأصول الموسيقية
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن النطفة إذا سلمت في الرحم من الآفات العارضة هناك ومن فساد الأخلاط وتغير المزاج ومناحس أشكال الفلك عند مسقط النقطة وعند المبادئ شهرا بشهر وتمت بنية البدن، وكملت صورة الجسد، كما بينا في رسالة لنا، خرج الطفل من الرحم صحيح البنية تام الصورة، فكان طول قامته ثمانية أشبار بشبره سواء، فمن رأس ركبتيه إلى أسفل قدميه شبران، ومن رأس ركبتيه إلى حقويه شبران، ومن حقويه إلى رأس فؤاده شبران، ومن رأس فؤاده إلى مفرق رأسه شبران.
وإذا فتح يديه ومدهما يمنة ويسرة كما يفتح الطائر جناحيه وجد ما بين رأس أصابع يده اليمنى إلى رأس أصابع يده اليسرى ثمانية أشبار؛ النصف من ذلك عند ترقوته والربع عند مرفقيه، وإذا مد يديه إلى فوق رأسه ووضع رأس البركار على سرته وفتح إلى رءوس أصابع يديه، ثم أدبر إلى رءوس أصابع رجليه كان البعد بينهما مساويا عشرة أشبار بزيادة ربع طول قامته، ويوجد طول وجهه من رأس ذقنه إلى منبت الشعر فوق جبينه شبرا وثمنا، ويوجد البعد ما بين أذنه شبرا وربعا ويوجد طول أنفه ربع شبره، ويوجد طول شق عينيه كل واحد ربع ثمن شبره، وطول جبينه ثلث طول وجهه.
ويوجد شق فمه وشفتيه كل واحد مساويا لطول أنفه، وطول قدميه كل واحد شبر وربع شبر، وطول كفيه من رأس الكرسوع إلى رأس الإصبع الوسطى شبرا، ويوجد طول إبهامه وطول خنصره متساويين، ورأس البنصر زائدا على رأس الخنصر ثمن شبره، وكذلك زيادة الوسطى على البنصر وكذلك السبابة، ويوجد عرض صدره شبرا ونصفا وبعد ما بين ثدييه شبرا، وما بين سرته إلى عانته شبرا، ومن رأس فؤاده إلى رأس ترقوته شبرا، ويوجد البعد ما بين منكبيه شبرين .
وعلى هذا المثال والقياس يوجد إذا اعتبر طول أمعائه ومصارين جوفه وعروق جسده والعصبات الممسكات لعظامه وأوتار مفاصله متناسبات بعضها إلى بعض طولا وعرضا وعمقا مثل ما ذكرنا من مناسبات مقادير أعضائه الظاهرة، وعلى هذا القياس والمثال يوجد بنية أبدان سائر الحيوانات مناسبة أعضاء صورة كل نوع منها لجملة بدنه، أو بعضها إلى بعض مناسبة إما بالكيفية وإما بالكمية وإما بهما جميعا، لا تخل شيئا إذا سلمت من الآفات العارضة عند الابتداء وعند النشوء من فساد الأخلاط وتغيير المزاج ومناحس أشكال الفلك.
وعلى هذا المثال والقياس يعمل الصناع الحذاق مصنوعاتهم من الأشكال والتماثيل والصور مناسبات بعضها لبعض في التركيب والتأليف والهندام؛ كل ذلك اقتداء بصنعة الباري تعالت قدرته، وتشبه بحكمته، كما قيل في حد الفلسفة: إنها هي التشبه بالإله بحسب الطاقة الإنسانية.
(10) فصل في حقيقة نغمات الأفلاك
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن في اعتبار هذه المقالات التي تقدم ذكرها في هذه الفصول الدالة على أن أحكم المصنوعات وأتقن المركبات، وأحسن التأليفات هو ما كان تركيب بنيته على النسبة الأفضل، وتأليف أجزائه على مثل ذلك دليل وقياس لكل عاقل متفكر معتبر، على أن تركيب الأفلاك وكواكبها ومقادير أجرامها ومقادير الأركان ومولداتها موضوعة بعضها على بعض على النسبة الأفضل.
وهكذا أبعاد هذه الأفلاك وكواكبها وحركاتها؛ متناسبات على النسبة الأفضل، وأن لتلك الحركات المتناسبة نغمات متناسبات مطربات متوازنات لذيذات، كما بينا في حركات أوتار العيدان ونغماتها، فإذا تفكر ذو اللب واعتبر؛ تبين له عند ذلك وعلم بأن لها صانعا حكيما صنعها ومركبا حاذقا ركبها ومؤلفا لطيفا ألفها وتيقن بذلك، فتزول الشبهة المموهة التي دخلت على قلوب كثير من المرتابين وترتفع الشكوك ويتضح الحق ويعلم أيضا ويتبين له أن في حركات تلك الأشخاص ونغمات تلك الحركات لذة وسرورا لأهلها مثل ما في نغمات أوتار العيدان لذة وسرورا لأهلها في هذا العالم، فعند ذلك تشوقت نفسه إلى الصعود إلى هناك والاستماع لها والنظر إليها كما صعدت نفس هرمس الثالث بالحكمة لما صفت ورأت ذلك، وهو إدريس النبي - عليه السلام - وإليه أشار بقوله تعالى: @QUR03 ورفعناه مكانا عليا، وكما سمعته نفس فيثاغورس الحكيم لما صفت من درن الشهوات الجسمانية ولطفت بالأفكار الدائمة وبالرياضات العددية والهندسية والموسيقية.
فاجتهد يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، في تصفية نفسك وتخليصها من بحر الهيولى وأسر الطبيعة وعبودية الشهوات الجسمانية، وافعل كما فعلت الحكماء، ووضعت في كتبها، فإن جوهر نفسك من جوهر نفوسهم، واعمل كما وصفنا في كتاب الأنبياء - عليهم السلام - وصف نفسك من الأخلاق الرديئة والآراء الفاسدة والجهالات المتراكمة والأفعال السيئة؛ فإن هذه الخصال هي المانعة لها عن الصعود إلى هناك بعد الموت كما ذكر الله تعالى بقوله: @QUR014 لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن جوهر نفسك من الأفلاك نزل يوم مسقط النطفة - كما بينا في رسالة لنا - وإلى السماء يكون مصيرها بعد الموت الذي هو مفارقة الجسد، كما أن من التراب يكون جسدك، وإلى التراب يكون جسدك بعد الموت.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن هذه الحياة الدنيا للنفوس المتجسدة إلى وقت المفارقة التي هي الموت مماثلة لمدة كون الجنين في الرحم من يوم مسقط النطفة إلى يوم الولادة.
واعلم يا أخي أن الموت ليس شيئا سوى مفارقة النفس الجسد، كما أن الولادة ليست شيئا سوى مفارقة الجنين الرحم، وقال المسيح - عليه السلام: من لم يولد ولادتين لم يصعد إلى ملكوت السماء، وقال - جل ثناؤه - في صفة أهل الجنة: @QUR07 لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى، وهو مفارقة النفس الجسد مرة واحدة على الشريطة التي تقدم ذكرها، وهم السعداء الذين أشار إليهم بقوله: @QUR018 وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق، فأما الأشقياء فهم الذين يتمنون العود إلى الدنيا والتعلق بالأجساد مرة أخرى ويذوقون الموت مرة أخرى، كما ذكر الله تعالى حكاية عنهم: @QUR013 قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل أعاذك الله أيها الأخ من حال هذه الطائفة وإيانا وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد إنه لطيف بالعباد، فلنرجع إلى ما كنا فيه، وقد وعدنا به من ذكر قوانين الألحان العربية، فنقول:
إن اللغة العربية وألحانها ثمانية قوانين هي كالأجناس لها، ومنها يتفرع سائرها، وإليها ينسب باقيها، كما أن لأشعارها ثمانية مقاطع، منها يتركب سائر دوائر العروض وأنواعها، وإليها ينسب وعليها يقاس باقيها كما هو مذكور في كتب العروض بشرحها.
وأما الثمانية التي هي قوانين غناء العربية، فأولها الثقيل الأول ثم خفيف الثقيل ثم الثقيل الثاني ثم خفيفه، ثم الرمل ثم خفيف الرمل ثم خفيف الخفيف ثم الهزج، فهذه الثمانية هي كالأجناس وسائرها كالأنواع المتفرعة منها المنسوبة إليها، فأما الثقيل الأول فهو تسع نقرات، ثلاث منها متواليات وواحدة مفردة ثقيلة ساكنة، ثم خمس نقرات، واحدة مطوية في أولها مثل قولك: مفعولن مف مفاعيلن، مف تن تن تن تن تن تن تن تن، ثم يعود الإيقاع ويكرر دائما إلى أن يسكت الموسيقار.
وأما الثقيل الثاني فهو إحدى عشرة نقرة، ثلاث نقرات متواليات، ثم واحدة ساكنة، ثم واحدة ثقيلة، ثم ست نقرات في أولها واحدة مطوية، مثل قولك: مفعولن مفعو مفاعيلن مفعو تن تن تن تن تن تن تن تن تن تن، ثم يعود الإيقاع ثانيا دائما.
وأما خفيف الثقيل الأول فهو سبع نقرات، نقرتان منها متواليتان، لا يكون بينهما زمان، نقرة ثم نقرة مفردة ثقيلة، ثم أربع نقرات، واحدة مطوية في أولها، مثل قولك: مفاعل مفاعيلن تنن تن تنن تن، ثم يعود الإيقاع ويكرر إلى أن يسكت المغني، وأهل زماننا يسمون هذا اللحن الماخوري، وهو مثال صياح الفاختات ككو كو كككو كو.
وأما خفيف الثقيل الثاني فهو ثلاث نقرات متواليات لا يكون بينها زمان نقرة، ولكن بين كل ثلاث نقرات وثلاث نقرات زمان نقرة، مثل قولك: فعلن فعلن تكرر دائما تننن تننن إلى أن يسكت المغني.
وأما الرمل فهو عكس الماخوري ، وذلك أنه سبع نقرات مثله، ولكن أوله نقرة مفردة ثقيلة، ثم نقرتان متواليتان لا يكون بينهما زمان نقرة، ثم أربع نقرات كل اثنتين منها متواليتان، لا يكون بينهما زمان نقرة مثل قولك: فاعلن مفاعلن مثل صياح القباج تن تنن تنن كي ككي ككي ككي، وأما خفيف الرمل فهو ثلاث نقرات متواليات متحركات مثل قولك: متفاعلتن تننن تننن.
وأما خفيف الخفيف فهو نقرتان متواليتان لا يكون بينهما زمان نقرة، ولكن بين كل نقرتين ونقرتين زمان نقرة مثل قولك: مفاعلن مفاعلن تنن تنن تنن تنن، وأما الهزج فهو نقرة مسكنة ونقرة أخرى أخف منها، بينهما زمان نقرة، وبين كل اثنتين زمان نقرتين مثل قولك: فاعل فاعل.
فهذه الثمانية الأجناس التي قلنا: إنها أصل وقوانين لغناء العرب وألحانها، وأما غير العربية كالفارسية والرومية واليونانية فلألحانها وغنائها قوانين أخر غير هذه، ولكنها كلها مع كثرة أجناسها وفنون أنواعها؛ ليست تخرج من الأصل والقانون الذي ذكرناه قبل هذا الفصل، وإذا تأملت يا أخي، أيدك الله وإيانا؛ وجدت صحة ما قلنا وعرفت حقيقة ما وصفنا.
(11) فصل في ذكر المربعات
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الله تعالى جعل بواجب حكمته الأشياء الطبيعية التي تحت الكون والفساد وأسبابها وعللها الموجبة؛ لكونها أكثرها مربعات بعضها متضادات وبعضها متشاكلات، لما فيها من إحكام الصنعة وإتقان الحكمة، لا يعلم أحد من خلقه كنه معرفتها إلا هو الذي أبدعها واخترعها وأوجدها وركبها وألفها كما شاء كيف شاء.
ونريد أن نذكر طرفا من تلك الأشياء المربعات المتضادات والمتشاكلات؛ ليكون تنبيها لنفوس الغافلين عن النظر فيها، وحثا لهم على التفكر بها والاعتبار لها وتسهيلا لنفوس الباحثين عن معرفة عللها والطالبين ما الحكمة فيها.
فمن الأمور المربعات الظاهرات البينات: الأزمان الأربعة، التي هي فصول السنة، وهي الربيع والصيف والخريف والشتاء، والذي يشاكل الربيع من البروج من أول الحمل إلى آخر الجوزاء، والذي يشاكلها من أرباع الفلك الربع الشرقي الصاعد إلى وتد السماء، والذي يشاكلها من الشهر الرابع الأول، سبعة أيام من أول الشهر ، والذي يشاكلها من اتصالات الكواكب التربيع الأيسر، ومن الأركان الأربعة ركن الهواء.
ومن الطبائع الحرارة والرطوبة، ومن الجهات الجنوب، ومن الرياح التيمي، ومن أرباع اليوم الست ساعات الأولى، ومن أخلاط المزاج الدم، ومن أرباع العمر أيام الصبا، ومن القوى الطبيعية القوة الهاضمة، ومن القوى الحيوانية القوة المتخيلة.
ومن الأفعال الظاهرة الفرح والسرور والطرب، ومن الأخلاق الجود والكرم والعدل، ومن المحسوسات المشاكلات لهذه أيضا وتر المثنى ونغماته، ومن الألحان الترنم، ومن الكلام والأشعار المديح، ومن الطعوم الحلاوات، ومن الألوان ما اعتدلت أصباغه كالمنثور، ومن الروائح الغالية البنفسج والمرزنجوش وما شاكلها من الروائح الحارة اللينة، وبالجملة كل طعم ورائحة ولون معتدل.
والذي شاكل زمان الصيف من أرباع الفلك الربع الهابط من وتد السماء إلى وتد المغرب، ومن البروج من أول السرطان إلى آخر السنبلة، ومن أرباع الشهر الربع الثاني سبعة أيام، ومن الاتصالات ما جاوز التربيع الأيسر إلى المقابلة، ومن الأركان ركن النار، ومن الطبائع الحرارة واليبس، ومن الجهات الشرق، ومن الرياح الصبا، ومن أرباع اليوم ست ساعات إلى آخر النهار، ومن الأخلاط المرة الصفراء، ومن أرباع العمر أيام الشباب، ومن القوى الطبيعية القوة الجاذبة، ومن القوى الحيوانية القوة المفكرة، ومن الأخلاق الباطنة الشجاعة والسخاء، ومن الأفعال الظاهرة سرعة الحركة والقوة والجلد.
ومن المحسوسات المقوية لها مثل نغمات وتر الزير، ومن الألحان الماخوري وما شاكله، ومن الكلام الأشعار وما شاكلها من مديح الفرسان والشجعان، ومن الطعوم الحريفات، ومن الألوان الصفرة والحمرة، ومن الروائح المسك والياسمين وما شاكلهما، وبالجملة كل طعم ولون ورائحة حارة يابسة، والذي شاكل زمان الخريف من أرباع الفلك الربع الهابط من وتد المغرب إلى وتد الأرض، ومن البروج من أول الميزان إلى آخر القوس.
ومن أرباع الشهر الربع الثالث السبعة الأيام بعد النصف، ومن الاتصالات بعد المقابلة إلى التربيع الأيمن، ومن الأركان ركن الأرض، ومن الطبائع البرودة واليبوسة، ومن الجهات المغرب، ومن الرياح الدبور، ومن أرباع اليوم ست ساعات من أول الليل، ومن الأخلاط المرة السوداء، ومن أرباع العمر أيام الكهولة.
ومن القوى الطبيعية القوة الماسكة، ومن القوى الحيوانية القوة الحافظة، ومن الأخلاق العفة، ومن الأفعال الظاهرة التأني والتثبت، ومن المحسوسات المشاكلة لها نغمات المثلث، ومن الألحان الثقيل وما شاكله، ومن الكلام المديح وما كان في وصف العقل والرزانة والزكانة والحصافة، ومن الطعوم الحموضات، ومن الألوان السواد الغبرة وما شاكلهما، ومن الروائح رائحة الورد والعود وما شاكلهما من الروائح الباردة اليابسة.
والذي شاكل زمان الشتاء من أرباع الفلك الربع الصاعد من وتد الأرض إلى أفق المشرق، ومن البروج من أول الجدي إلى آخر الحوت، ومن أرباع الشهر الربع الأخير سبعة أيام، ومن الاتصالات التربيع الأيمن، ومن الأركان ركن الماء، ومن الطبائع البرودة والرطوبة، ومن الجهات الشمال، ومن الرياح الجرباء، ومن أرباع اليوم النصف الأخير من الليل، ومن أخلاط المزاج البلغم، ومن القوى الطبيعية القوة الدافعة، ومن القوى الحيوانية القوة المذكرة.
ومن الأخلاق الحلم والتجاوز، ومن الأفعال الظاهرة السهولة في المعاملة وحسن المعاشرة، ومن المحسوسات المشاكلة له أيضا نغمات وتر البم، ومن الألحان الهزج والرمل، ومن الكلام والأشعار ما كان مديحا في الجود والكرم والعدل وحسن الخلق، ومن الطعوم الدسومات والعذوبات، ومن الألوان الخضرة، ومن الروائح النرجس والنيلوفر وما شاكلهما. وبالجملة: كل لون أو طعم أو رائحة باردة رطبة.
وعلى هذا المثال والقياس إذا تصفحت يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أحوال الموجودات الطبيعيات واعتبرت أنواع الكائنات المحسوسات؛ وجدت كلها داخلة في هذه الأقسام الأربعة، مشاكلات بعضها لبعض، أو مضادات بعضها لبعض، كما ذكر الله بقوله جل ثناؤه: ومن كل شيء خلقنا زوجين اثنين، وقوله عز وجل: @QUR011 خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون.
واعلم يا أخي بأن هذه الأشياء المتشاكلة إذا جمع بينها على النسبة التأليفية ائتلفت وتضاعفت قواها، وظهرت أفعالها، وغلبت أضدادها، وقهرت ما يخالفها، وبمعرفتها استخرجت الحكماء الأدوية المبرئة من الأمراض، الشافية للأسقام مثل الترياقات والمراهم والشرابات المعروفة بين الأطباء، الموصوفة في كتبهم.
وعلى مثل ذلك عمل أصحاب الطلسمات بعد معرفتهم بطبائع الأشياء وخواصها ومشاكلتها وكيفية تركيبها ونسب تأليفها، والمثال في ذلك الشكل المتسع في تسهيل الولادة إذا كتب فيه الأعداد التسعة في الشهر التاسع من الحمل في الساعة التاسعة من الطلق، ويكون رب الطالع في التاسع، أو رب التاسع في الطالع، أو يكون القمر التاسع أو متصلا بكوكب منه في التاسع، وما شاكل ذلك من المتسعات.
(12) فصل في الانتقال من طبقات الألحان
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الله - جل جلاله - جعل بواجب حكمته لكل جنس من الموجودات حاسة مختصة بإدراكها، وقوة من قوى النفس تنالها بها وتعرفها بطريقها، لا تنال بطريقة أخرى، وجعل أيضا في جبلة كل حاسة دراكة أو قوة علامة أن تستلذ من إدراك محسوساتها، وتتشوق إليها إذا فقدتها وملت منها إذا دامت عليها وتستروح إلى غيرها من أبناء جنسها، مثل ما هو معروف بين الناس في مأكولاتهم ومشروباتهم وملبوساتهم ومشموماتهم ومبصراتهم ومسموعاتهم، فالموسيقار الحاذق الفاره هو الذي إذا علم بأن المستمعين قد ملوا من لحن غنى لهم لحنا آخر، إما مضادا له أو مشاكلا له.
واعلم يا أخي أن الخروج من لحن إلى لحن، والانتقال منه ليس له طريق إلا على أحد الوجهين، إما أن يقطع ويسكت ويصلح الدساتين والأوتار بالحزق والإرخاء ويبتدئ ويستأنف لحنا آخر أو يترك الأمر بحاله ويخرج من ذلك اللحن إلى لحن آخر قريب منه مشاكل له، وهو أن ينتقل من الثقيل إلى خفيفه، أو من الخفيف إلى ثقيله أو إلى ما قارب منه، والمثال في ذلك أنه إذا أراد أن ينتقل من خفيف الرمل إلى الماخوري أن يقف عند النقرتين الأخيرتين من ثقيل الرمل ثم يتلوهما بنقرة، ثم يقف وقفة خفيفة، ثم يبتدئ بالماخوري.
ومن حذق الموسيقار أيضا أن يكسو الأشعار المفرحة الألحان المشاكلة لها، مثل الأرمال والأهزاج، وما كان منها من المديح في معاني المجد والجود والكرم أن يكسوها من الألحان المشاكلة لها مثل الثقيل الأول والثاني، وما كان في المديح من معاني الشجاعة والإقدام والنشاط والحركة أن يكسوها من الألحان مثل الماخوري والخفيف وما يشاكلها.
ومن حذق الموسيقار أيضا أن يستعمل الألحان المشاكلة للأزمان في الأحوال المشاكلة بعضها لبعض، وهو أن يبتدئ في مجالس الدعوات والولائم والشرب بالألحان التي تقوم الأخلاق والجود والكرم والسخاء، مثل ثقيل الأول وما شاكلها، ثم يتبعها بالألحان المفرحة المطربة، مثل الهزج والرمل، وعند الرقص والدستبند الماخوري وما شاكله، وفي آخر المجلس إن خاف من السكارى الشغب والعربدة والخصومة أن يستعمل الألحان الملينة المنومة الحزينة.
(13) فصل في نوادر الفلاسفة في الموسيقى
يقال: إنه اجتمعت جماعة من الحكماء والفلاسفة في دعوة ملك من الملوك فأمر أن يكتب كل ما يتكلمون به من الحكمة، فلما غنى الموسيقار لحنا مطربا، قال أحد الحكماء: إن للغناء فضيلة يتعذر على المنطق إظهارها، ولم يقدر على إخراجها بالعبارة فأخرجها النفس لحنا موزونا، فلما سمعتها الطبيعة استلذتها وفرحت وسرت بها، فاسمعوا من النفس حديثها ومناجاتها ودعوا الطبيعة والتأمل لزينتها لا تغرنكم، وقال آخر: احذروا عند استماع الموسيقى أن تثور بكم شهوات النفس البهيمية نحو زينة الطبيعة فتميل بكم عن سنن الهدى وتصدكم عن مناجاة النفس العليا.
وقال آخر للموسيقار: حرك النفس نحو قواها الشريفة من الحلم والجود والشجاعة والعدل والكرم والرأفة، ودع الطبيعة لا تحرك شهواتها البهيمية.
وقال آخر: الموسيقار إذا كان حاذقا بصنعته حرك النفوس نحو الفضائل، ونفى عنها الرذائل.
وقال آخر: إنه سمع فيلسوف نغمة القينات، فقال لتلميذه: امض بنا نحو هذا الموسيقار؛ لعله يفيدنا صورة شريفة، فلما قرب منه سمع لحنا غير موزون ونغمة غير طيبة، فقال لتلميذه: زعم أهل الكهانة أن صوت البوم يدل على موت إنسان، فإن كان ما قالوا صدقا، فصوت هذا الموسيقار يدل على موت البوم.
وقال آخر: الموسيقار وإن كان ليس بحيوان فهو ناطق فصيح يخبر عن أسرار النفوس وضمائر القلوب، ولكن كل كلامه أعجمي يحتاج إلى الترجمان؛ لأن ألفاظه بسيطة ليس لها حروف معجمة، وقد أنشدت أبيات بالفارسية تدل على تصديق قول هذا الفيلسوف، وهي هذه:
وقت شب كيرنانك ناله زير
خوشتر أيد بكوشم أزتكير زاري زير وأين مدار شكفت
كرزوشت أندراورد نخجير تن أوتيرنه زمان بزمان
بدل اندرهمي كذازد شير كان كريان وكه تبالدزار
بامداد أن وروزتا شبكير إن زبان أوري زباتش نه
خبر عاشقان كند تفسير كان ديوانه راكند هشيار
كه بهشيار برنهد زنجير
وقال آخر: أصوات الموسيقار ونغماته - وإن كانت بسيطة - ليس لها حروف معجم، فإن النفوس إليها أشد ميلا ولها أسرع قبولا لمشاكلة ما بينهما؛ وذلك أن النفوس أيضا جواهر بسيطة روحانية غير مركبة ونغمات الموسيقار كذلك والأشياء إلى أشكالها أميل، وقال آخر: إن الموسيقار هو الترجمان عن الموسيقى والمعبر عنه، فإن كان جيد العبارة عن المعاني أفهم أسرار النفوس وأخبر عن ضمائر القلوب وإلا فالتقصير منه يكون.
وقال آخر: لا يفهم معاني الموسيقار، ولطيف عبارته عن أسرار الغيوب إلا النفوس الشريفة الصافية، والبريئة من الشوائب الطبيعية، والبريئة من الشهوات البهيمية.
وقال آخر: إن الباري - جل ثناؤه - لما ربط النفوس الجزئية بالأجساد الحيوانية ركب في جبلتها الشهوات الجسمية، ومكنها من تناول اللذات الجرمانية في أيام الصبا، ثم سلبها عنها في أيام الشيخوخة وزهدها فيها كما يدلها على الملاذ والسرور والنعيم الذي في عالمها الروحاني، ويرغبها فيها، فإذا سمعتم نغمات الموسيقار فتأملوا إشاراته نحو عالم النفوس.
وقال آخر: إن النفوس الناطقة إذا صفت عن الشهوات الجسمانية، وزهدت في الملاذ الطبيعية، وانجلت عنها الأصدية الهيولانية؛ ترنمت بالألحان الحزينة، وتذكرت عالمها الروحاني الشريف العالي، وتشوقت نحوه، فإذا سمعت الطبيعة ذلك اللحن تعرضت للنفس بزينة أشكالها ورونق أصباغها كيما ترد إليها، فاحذروا من مكر الطبيعة أن لا تقعوا في شبكتها، وقال آخر: إن السمع والبصر هما من أفضل الحواس الخمس وأشرفها التي وهب الباري - جل ثناؤه - للحيوان، ولكن أرى البصر أفضل؛ لأنه كالنهار والسمع كالليل، وقال آخر: لا بل السمع أفضل من البصر؛ لأن البصر يذهب في طلب محسوساته ويخدمها حتى يدركها مثل العبيد، والسمع يحمل إليه محسوساته حتى تخدمه مثل الملوك.
وقال آخر: إن البصر لا يدرك المحسوسات إلا على خطوط مستقيمة والسمع يدركها من محيط الدائرة، وقال آخر: محسوسات البصر أكثرها جسمانية ومحسوسات السمع كلها روحانية، وقال آخر: النفس بطريق السمع تنال خبر من هو غائب عنها بالمكان والزمان وبطريق البصر لا ينال إلا ما كان حاضرا في الوقت.
وقال آخر: السمع أدق تمييزا من البصر؛ إذ كان يعرف بجودة الذوق الكلام الموزون والنغمات المتناسبة والفرق بين الصحيح والمنزحف والخروج من الإيقاع واستواء اللحن، والبصر يخطئ في أكثر مدركاته، فإنه ربما يرى الكبير صغيرا والصغير كبيرا، والقريب بعيدا والبعيد قريبا، والمتحرك ساكنا والساكن متحركا، والمستوي معوجا والمعوج مستويا.
وقال آخر: إن جوهر النفس لما كان مجانسا ومشاكلا للأعداد التأليفية وكانت نغمات ألحان الموسيقار موزونة وأزمان حركات نقراتها وسكونات ما بينها متناسبة؛ استلذت بها الطباع، وفرحت بها الأرواح، وسرت بها النفوس؛ لما بينها من المشاكلة والتناسب والمجانسة، وهكذا حكمها في استحسان الوجوه وزينة الطبيعيات؛ لأن محاسن الموجودات الطبيعية هي من أجل تناسب صنعتها وحسن تأليف أجزائها.
وقال آخر: إنما تشخص أبصار الناظرين إلى الوجوه الحسان؛ لأنها أثر من عالم النفس؛ ولأن عامة المرئيات في هذا العالم غير حسان؛ لما يعرض لها من الآفات المشينة المشوهة، إما في أصل التركيب أو بعده، وبيان ذلك أن الصغار من المواليد يكونون ألطف بنية وأظرف شكلا وصورة؛ لقرب عهدها من فراغ الصانع منها، وهكذا حكم ما يرى من حسن الثياب ورونقها في مبدأ كونها قبل الآفات العارضة لها من الهوام والبلى والفساد.
وقال آخر: إنما تشخص أبصار النفوس الجزئية نحو المحاسن اشتياقا إليها؛ لما بينها من المجانسة؛ لأن محاسن هذا العالم من آثار النفس الكلية الفلكية.
وقال آخر: إن وزن نقرات وتر الموسيقار وتناسب ما بينها ولذيذ نغماتها؛ تنبئ النفوس الجزئية بأن لحركات الأفلاك والكواكب نغمات متناسبة مؤتلفة لذيذة.
وقال آخر: إذا تصورت رسوم المحسوسات الحسان في الأنفس الجزئية؛ صارت هذه مشاكلة ومناسبة للنفس الكلية ومشتاقة نحوها ومتمنية للحوق بها، فإذا فارقت الهيكل الجسداني ارتقت إلى ملكوت السماء ولحقت بالملأ الأعلى، وعند ذلك أيقنت بالبقاء، وأمنت من الفناء، ووجدت لذة العيش صفوا، فقال قائل منهم: وما الملأ الأعلى؟ فقال: أهل السماوات وسكان الأفلاك، فقال: أنى لهم السمع والبصر؟ فقال: إن لم يكن في عالم الأفلاك وسعة السماوات من يرى تلك الحركات المنظمة، وينظر إلى تلك الأشخاص الفاضلة، ويسمع تلك النغمات اللذيذة الموزونة، فقد فعلت الحكمة إذن شيئا باطلا، ومن المقدمات المتفق عليها بين الحكماء أن الطبيعة لم تفعل شيئا باطلا لا فائدة فيه.
وقال آخر: إن لم يكن في فضاء الأفلاك وسعة السماوات خلائق وسكان، فهي إذن قفر خاوية، وكيف يجوز في حكمة الباري - جل ثناؤه - أن يترك فضاء تلك الأفلاك مع شرف جواهرها فارغا خاويا قفرا بلا خلائق هناك، وهو لم يترك قعور البحار المالحة المرة المظلمة فارغا حتى خلق في قعرها أجناس الحيوانات من أنواع الأسماك والحيتان وغيرها؛ ولم يترك جو هذا الهواء الرقيق حتى خلق له أجناس الطيور تسبح فيه كما تسبح الأسماك والحيتان في المياه ولم يترك البراري اليابسة والآجام الوحلة والجبال الراسية حتى خلق فيها أجناس السباع والوحوش، ولم يترك ظلمات التراب وأجناس النبات والحب والثمر حتى خلق فيها أجناس الهوام والحشرات.
وقال آخر: إن أجناس هذه الحيوانات التي في هذا العالم إنما هي أشباح ومثالات لتلك الصور والخلائق التي في عالم الأفلاك وسعة السماوات، كما أن النقوش والصور التي على وجوه الحيطان والسقوف أشباح ومثالات لصور هذه الحيوانات اللحمية، وإن نسبة الخلائق اللحمية إلى تلك الخلائق التي جواهرها صافية كنسبة هذه الصور المنقشة المزخرفة إلى هذه الحيوانات اللحمية الدموية.
وقال آخر: إن كانت هناك خلائق وليس لهم سمع ولا بصر ولا عقل ولا فهم ولا نطق ولا تمييز؛ فهم إذن صم بكم عمي، وقال آخر: فإن كان لهم سمع وبصر، وليس هناك أصوات تسمع ولا نغمات تلذ؛ فسمعهم وبصرهم إذا باطل لا فائدة فيه، فإن لم يكن لهم سمع وبصر وهم يسمعون ويبصرون فهم إذن أشرف وأفضل مما ها هنا؛ لأن تلك الجواهر هي أصفى وأنور وأشف وأتم وأكمل، وقال آخر: إنما استخرجت هذه الألحان الموسيقية التي ها هنا مماثلة لما هناك كما عملت الآلات الرصدية مثل الأسطرلاب والرباب والبنكان وذوات الحلق مماثلة لما هناك.
وقال آخر: إن لم تكن تلك المحسوسات التي هناك أشرف وأفضل مما ها هنا، ولم يكن للنفوس إليها وصول فترغيب الفلاسفة في الرجوع إلى عالم الأرواح وترغيب الأنبياء - عليهم السلام - وتشويقهم إلى نعيم الجنان إذن باطل وزور وبهتان ومعاذ الله من ذلك! فإن توهم متوهم أو ظن ظان أو قال مجادل: إن الجنان هي من وراء هذه الأفلاك وخارجة من فسحة السماوات؛ قيل له: وكيف تطمع في الوصول إليها إن لم تصعد أولا إلى ملكوت السماوات وتجاوز سع الأفلاك؟ ويقال: إنه إذا هبت نسيم الجنان بالأسحار تحركت أشجارها، واهتزت أغصانها، وتخشخشت أوراقها، وتناثرت ثمارها، وتلألأت أزهارها، وفاحت روائحها، فلو عاين أهل الدنيا منها نظرة واحدة لما تلذذوا بالحياة في الدنيا بعد ذلك أبدا، فلمثل هذا فليعمل العاملون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، وبذلك فليفرحوا، هو خير مما يجمعون، والفلاسفة تسمي الجنة «عالم الأرواح».
(14) فصل في تلون تأثيرات الأنغام
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن تأثيرات نغمات الموسيقار في نفوس المستمعين مختلفة الأنواع، ولذة النفوس منها وسرورها بها متفننة متباينة؛ كل ذلك بحسب مراتبها في المعارف وبحسب معشوقاتها المألوفة من المحاسن، فكل نفس إذا سمعت من الأوصاف ما يشاكل معشوقاتها، ومن النغمات ما يلائم محبوبها؛ فرحت وسرت والتذت بحسب ما تصورت من رسوم معشوقها، واعتقدت في محبوبها حتى ربما وقع النكير من الآخرين إذا لم يعرفوا مذهبه ولا ما قصد نحوه، والمثال في ذلك ما يحكى أن رجلا من أهل الوجد من المتصوفة سمع قارئا يقرأ: @QUR010 يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية فاستعادها من القارئ مرارا وجعل يقول: كم أقول لها ارجعي فليس ترجع، وتواجد وزعق وصعق صعقة فخرجت روحه، وسمع آخر رجلا يقرأ: @QUR014 فما جزاؤه إن كنتم كاذبين * قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه ، فاستعادها وزعق وصعق فخرجت روحه، فقال أهل الوجد: إنما حمل معنى قوله جزاؤه من وجد في رحله أن المحبوب هو جزاء الحبيب؛ لأنه هو الموجود في رحله، يعنون أن صورة المحبوب مصورة في نفس الحبيب ورسوم شكله منقوشة في قلبه فذلك جزاؤه، ألا ترى يا أخي كيف حمل معنى القول على مذهبه ومقصده مع شهرة معنى الآية في الظاهر.
وآخر سمع قول القائل وهو يغني:
قال الرسول غدا تزو
ر فقلت تدري ما تقول
فاستفزه القول واللحن وتواجد وجعل يكرره ويجعل مكان التاء نونا ويقول: غدا نزور حتى غشي عليه من شدة الفرح واللذة والسرور، فلما أفاق سئل عن وجده مم كان؟ فقال: ذكرت قول الرسول صلى الله عليه وسلم: إن أهل الجنة يزورون ربهم في كل يوم جمعة مرة.
ويروى في الخبر أن ألذ نغمة يجدها أهل الجنة وأطيب نغمة يسمعونها مناجاة الباري - جل ثناؤه - وذلك قوله تعالى: تحيتهم يوم يلقونه سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين، ويقال: إن موسى عليه السلام لما سمع مناجاة ربه داخله من الفرح والسرور واللذة ما لم يتمالك نفسه حتى طرب وترنم وصغر عنده بعد ذلك كل النغمات والألحان والأصوات - وفقك الله أيها الأخ لفهم معاني هذه الإشارات اللطيفة والأسرار الخفية، وبلغك بلاغها وإيانا وجميع إخواننا حيث كانوا وأين كانوا من البلاد؛ إنه رءوف بالعباد.
(تمت الرسالة الخامسة في الموسيقى، والحمد لله حمد الشاكرين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.)
الرسالة السادسة في النسبة العددية والهندسية في تهذيب النفس وإصلاح الأخلاق
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
اعلم أيها الأخ، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنا قد فرغنا من الرسالة التي تقدم ذكرها، ونريد أن نذكر في هذه الرسالة نسبة العدد بعضها إلى بعض، فنقول:
اعلم بأن النسبة هي قدر أحد المقدارين عند الآخر، وكل عددين إذا أضيف أحدهما إلى الآخر فلا يخلو من أن يكونا متساويين أو مختلفين ، فإن كانا متساويين فيقال لإضافة أحدهما إلى الآخر: نسبة التساوي، وإن كانا مختلفين فلا بد من أن يكون أحدهما أكثر والآخر أقل، فإن أضيف الأقل إلى الأكثر يقال له: الاختلاف الأصغر، ويعبر عنه بأحد تسعة الألفاظ التي ذكرنا قبل، وهي النصف والثلث والربع والخمس والسدس والسبع والثمن والتسع والعشر وما تركب من هذه الألفاظ. ويضاف إليها مثل ما يقال: نصف السدس وثلث الخمس وما شاكل ذلك، وهذه النسبة معروفة بين الحساب مثل نسبة الستة إلى الستين وغيره من الأعداد، وأما إن أضيف العدد الأكثر إلى الأقل، فيقال له: الاختلاف الأعظم، والنظر والكلام في مثل هذه النسبة للمتفلسفين لا لحساب الدواوين.
وهذه النسبة معروفة تتنوع بخمسة أنواع، ويعبر عنها بخمسة ألفاظ، أولها نسبة النصف، والثاني نسبة المثل الزائد جزءا، والثالث نسبة المثل والزائد جزء، والرابع نسبة الضعف والزائد جزء، والخامس نسبة الضعف والزائد جزء، ولا يمكن أن يضاف عدد أكثر إلى عدد أقل، فيكون خارجا من هذه النسب الخمس.
أما نسبة الضعف فهو مثل إضافة سائر الأعداد المبتدأة من الاثنين على النظم الطبيعي، بالإضافة إلى الواحد بالغا ما بلغ، فإن الاثنين ضعف الواحد، والثلاثة ثلاثة أضعافه، والأربعة أربعة أضعافه، وكذلك الخمسة خمسة أضعافه، وعلى هذا القياس سائر الأعداد بالغا ما بلغ، وإذا أضيف إلى الواحد يقال له: نسبة ذي الأضعاف، وهذه صورتها:
1 2 3 4 5 6 7 8 9
وأما نسبة المثل والزائد جزء فهو مثل نسبة سائر الأعداد المبتدأة من الاثنين المنتظمة على النظم الطبيعي، كل واحدة إلى نظيرتها كالثلاثة إلى الاثنين والأربعة إلى الثلاثة والخمسة إلى الأربعة والستة إلى الخمسة، وعلى هذا القياس سائر الأعداد بالغا ما بلغ إذا أضيف إلى الذي قبله بواحد، فإنه لا يخرج من هذه النسبة التي هي مثل وجزء منه، وهذه صورتها:
وأما نسبة المثل والزائد أجزاء فهو مثل نسبة سائر الأعداد المبتدأة من الثلاثة المنتظمة على النظم الطبيعي إذا أضيف إليها سائر الأعداد المبتدأة من الخمسة، المنتظمة على نظم الأفراد دون الأزواج؛ كالخمسة إلى الثلاثة والسبعة إلى الأربعة والتسعة إلى الخمسة والأحد عشر إلى الستة والثلاثة عشر إلى السبعة، وعلى هذا القياس سائر الأعداد بالغا ما بلغ، وهذه صورتها:
وأما نسبة الضعف والزائد جزء فهو مثل سائر الأعداد المبتدأة من الاثنين المنتظمة على النظم الطبيعي إذا أضيف إليها سائر الأعداد المبتدأة من الخمسة على نظم الأفراد دون الأزواج؛ كالخمسة إلى الاثنين والسبعة إلى الثلاثة والتسعة إلى الأربعة والأحد عشر إلى الخمسة، وعلى هذا القياس سائر الأعداد بالغا ما بلغ، وهذه صورتها:
وأما نسبة الضعف والزائد أجزاء فهو مثل نسبة سائر الأعداد المبتدأة من الثلاثة على النظم الطبيعي إذا أضيف إليها سائر الأعداد المبتدأة من الثمانية بزيادة الثلاثة؛ كالثمانية إلى الثلاثة والأحد عشر إلى الأربعة والأربعة عشر إلى الخمسة والسبعة عشر إلى الستة، وعلى هذا القياس سائر الأعداد بالغا ما بلغ يتخطى ثلاثة ثلاثة على هذا المثال، وهذه صورتها:
فقد تبين أن كل عددين مختلفين إذا أضيف الأكثر إلى الأقل فلا يخلو من هذه الخمس النسب التي ذكرناها، وهي نسبة الضعف والمثل وجزء، والمثل وأجزاء والضعف وجزء والضعف وأجزاء، وأما إذا أضيف الأقل إلى الأكثر على هذا الترتيب الذي بيناه فيزاد في هذه الخمسة الألفاظ لفظة أخرى هي لفظة تحت، فيقال: إذا أضيف الواحد إلى سائر الأعداد فهي تحت ذي الأضعاف والاثنان إذا أضيفت للثلاثة، فيقال: تحت المثل والزائد جزءا، وكذلك إذا أضيف الثلاثة إلى الأربعة والأربعة إلى الخمسة، وعلى هذا القياس وبالعكس مما ذكرناه في الباب الأول من نسبة الأكثر إلى الأقل كل واحد بالنسبة إلى نظيره كالثلاثة إذا أضيف إلى الخمسة والأربعة إلى السبعة والخمسة إلى التسعة، فيقال: تحت المثل والزائد أجزاء، وأما الاثنان إلى الخمسة والثلاثة إلى السبعة والأربعة إلى التسعة؛ فيقال: تحت الضعف والزائد جزءا، وأما الثلاثة إلى الثمانية والأربعة إلى الأحد عشر والخمسة إلى الأربعة عشر والستة إلى سبعة عشر، فيقال: تحت الضعف والزائد أجزاء، فقد تبين أن نسبة الأقل إلى الأكثر لا تخلو من هذه الخمسة المعاني التي تحت ذي الأضعاف وتحت المثل والزائد جزءا ، وتحت المثل والزائد أجزاء، وتحت ذي الأضعاف والزائد جزءا، وتحت ذي الأضعاف والزائد أجزاء.
(1) فصل في النسب
اعلم أن النسبة على ثلاثة أنواع، إما بالكمية وإما بالكيفية وإما بهما جميعا، فالتي بالكمية يقال لها: نسبة عددية، والتي بالكيفية يقال لها: نسبة هندسية، والتي بهما جميعا يقال لها: نسبة تأليفية وموسيقية، وأما النسبة العددية فهي تفاوت ما بين عددين مختلفين بالتساوي؛ مثال ذلك واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة ثمانية تسعة عشرة، فإن تفاوت ما بين كل عددين من هذه الأعداد واحد واحد، وكذلك اثنان أربعة ستة ثمانية عشرة اثنا عشر أربعة عشر ستة عشر ثمانية عشر وما زاد، فإن التفاوت بين كل عددين من هذه الأعداد اثنان اثنان.
وكذلك: واحد ثلاثة خمسة سبعة تسعة أحد عشر وما زاد على ذلك، فإن التفاوت بين كل عددين منها اثنان اثنان، وعلى هذا القياس تبنى سائر النسب العددية، وإنما يعتبر مساواة تفاوت ما بينهما، ومن خاصية هذه النسبة أن كل عددين - أي عددين كانا - إذا أخذ نصف كل واحد منهما وجمع يكون منهما عدد آخر متوسط بين العددين، مثال ذلك ثلاثة وأربعة تفاوت ما بينهما واحد، فإن أخذ نصف الثلاثة وهو واحد ونصف الأربعة وهو اثنان، وجمع بينهما يكون ثلاثة ونصفا وثلاثة ونصف أكثر من ثلاثة بنصف، وينقص عن الأربعة بنصف، وعلى هذا القياس يعتبر سائر النسب العددية.
وأما النسبة الهندسية فهي قدر أحد العددين المختلفين عند العدد الآخر؛ مثال ذلك أربعة ستة تسعة، فإنما هي في نسبة هندسية، وذلك أن نسبة الأربعة إلى الستة كنسبة الستة إلى التسعة، وذلك أن الأربعة ثلثا الستة، والستة ثلثا التسعة، وكذلك بالعكس فإن نسبة التسعة إلى الستة كنسبة الستة إلى الأربعة، وذلك أن التسعة مثل الستة ومثل نصفها، والستة مثل الأربعة ومثل نصفها، وهكذا: ثمانية واثنا عشر وثمانية عشر وسبعة وعشرون، فإنها كلها في نسبة هندسية، وذلك أن الثمانية ثلثا الاثني عشر، والاثني عشر ثلثا الثمانية عشر، والثمانية عشر ثلثا السبعة والعشرين، وكذلك بالعكس سبعة وعشرون مثل ثمانية عشر ومثل نصفها، وثمانية عشر مثل اثني عشر ومثل نصفها، والاثنا عشر مثل الثمانية ومثل نصفها، وعلى هذا المثال يعتبر سائر النسب الهندسية.
وهي تنقسم نوعين: متصلة ومنفصلة، فالمتصلة مثل هذه التي قدمنا ذكرها، ومن خاصية هذه النسبة إذا كانت ثلاثة أعداد، فإن ضرب الأول في الثالث مثل ضرب الثاني في نفسه، مثال ذلك أن ضرب الأربعة في التسعة مثل ضرب الستة في نفسها، وإن كانت أربعة أعداد، فإن ضرب الأول في الرابع مثل ضرب الثاني في الثالث، مثال ذلك ثمانية واثنا عشر وثمانية عشر وسبعة وعشرون، وأما المنفصلة فهي مثل أربعة وستة وثمانية واثني عشر، فإن نسبة الأربعة إلى الستة كنسبة الثمانية إلى الاثني عشر؛ لأن الثمانية ثلثا الاثني عشر، وليست الستة ثلثي الثمانية، لكن الأربعة ثلثا الستة، فهذه النسبة وأمثالها يقال لها: منفصلة.
ومن خاصية هذه النسبة أن ضرب الأول في الرابع مثل ضرب الثاني في الثالث، ومن خاصية هذه النسبة المتصلة أن الحد الأوسط مشترك في النسبة، وأما المنفصلة فالحد الوسط غير مشترك في النسبة، وأما النسبة التأليفية فهي المركبة من الهندسية والعددية، مثال ذلك واحد واثنان وثلاثة وأربعة وخمسة وستة، فالستة تسمى الحد الأعظم، والثلاثة الحد الأصغر، والأربعة الحد الأوسط، وواحد واثنان هما التفاضل بين الحدود، وذلك أن فضل ما بين الستة والأربعة اثنان، وفضل ما بين الأربعة والثلاثة واحد، فنسبة الاثنين الذي هو التفاضل بين الستة والأربعة والثلاثة إلى الواحد الذي هو التفاضل بين الأربعة والثلاثة كنسبة الحد الأعظم الذي هو الستة إلى الحد الأصغر الذي هو الثلاثة.
وكذلك بالعكس نسبة الثلاثة الذي هو الحد الأصغر إلى الستة الذي هو الحد الأعظم، كنسبة الواحد إلى الاثنين الذي هو تفاوت ما بين الأربعة والستة.
ومن وجه آخر نسبة الواحد إلى الاثنين كنسبة الاثنين إلى الأربعة، وكنسبة الثلاثة إلى الستة، وعكس ذلك نسبة الستة إلى الثلاثة كنسبة الأربعة إلى الاثنين، ونسبة الاثنين إلى الواحد، ومن وجه آخر نسبة الستة إلى الأربعة كنسبة الثلاثة إلى الاثنين، وعكس ذلك نسبة الاثنين إلى الثلاثة كنسبة الأربعة إلى الستة؛ فإن هذه النسبة مؤلفة من العددية والهندسية، ومركبة منهما، ومن هذه النسبة استخراج تأليف النغم والألحان - كما بينا في رسالة الموسيقى.
(2) فصل في استخراج النسب المتصلة
كل عدد - أي عدد كان - أضيف إلى عدد آخر أكثر منه، فله إليه نسبة ما، وقد يوجد عدد آخر أقل منه في تلك النسبة، مثال ذلك عشرة إذا نسبت إلى مائة فإنها في نسبة العشر، ودونها الواحد في تلك النسبة؛ لأن الواحد عشر العشرة، كما أن العشرة عشر المائة، وكذلك نسبة العشرة إلى التسعين كنسبة الواحد والتسع إلى العشرة، وكذلك نسبة العشرة إلى الثمانين كنسبة الواحد والربع إلى العشرة، وكذلك نسبة العشرة إلى السبعين كنسبة الواحد وثلاثة أسباع إلى العشرة، وكذلك نسبة العشرة إلى الستين كنسبة الواحد والثلثين إلى العشرة، وكذلك نسبة العشرة من الخمسين كنسبة الاثنين من العشرة، ونسبة العشرة من الأربعين كنسبة الاثنين ونصف إلى العشرة، ونسبة العشرة من الثلاثين كنسبة الثلاثة والثلث من العشرة، ونسبة العشرة من العشرين كنسبة الخمسة من العشرة، وعلى هذا القياس تعتبر سائر النسب المتصلة.
والقياس في استخراج هذه النسبة أن يضرب ذلك العدد في نفسه، ويقسم العدد الحاصل منه على العدد الأكثر، فما خرج فهو العدد الأقل في تلك النسبة، وإن قسم المبلغ على العدد الأقل خرج العدد الأكثر في تلك النسبة، مثال ذلك إذا قيل لك: أوجدني عددا يكون نسبته إلى العشرة كنسبة العشرة إلى الأحد عشر، فبابه أن تضرب العشرة في نفسها ويقسم المبلغ على أحد عشر فيخرج تسعة وجزء من أحد عشر، فيكون نسبة التسعة وجزء من أحد عشر إلى العشرة كنسبة العشرة إلى الأحد عشر، وإن قسمت ذلك على تسعة خرج أحد عشر وتسع.
فنسبة العشرة إلى التسعة كنسبة الأحد عشر والتسع إلى العشرة، ومن خاصية هذه النسبة أنه متى كان اثنان منها معلومين والثالث مجهولا، يمكن أن يعلم ذلك المجهول من المعلومين، فبابه أن يضرب أحد المعلومين في نفسه، ويقسم المبلغ على الآخر، فما خرج فهو ذلك المجهول المطلوب، مثال ذلك إذا قيل لك: أوجدني عددا يكون نسبته إلى الاثنين كنسبة الأربعة إلى الستة، أو قال: نسبة الأربعة إليه كنسبة الستة إلى الأربعة، فالقياس فيهما واحد وهو أن تضرب الأربعة في نفسها فيكون ستة عشر، فنقسمها على الستة فيكون اثنين وثلثين، فتقول: نسبة الاثنين وثلثين إلى الأربعة كنسبة الأربعة إلى الستة، وعكس ذلك نسبة الأربعة إلى الاثنين والثلثين كنسبة الستة إلى الأربعة، فإن ذكر الستة فافعل بها مثل ما فعلت بالأربعة، فإن الباب فيهما واحد، وذلك أن الستة إذا ضربت في نفسها وقسم المبلغ على أربعة كانت تسعة، فنقول: نسبة التسعة إلى الستة كنسبة الستة إلى الأربعة.
وعكس ذلك نسبة الستة إلى التسعة كنسبة الأربعة إلى الستة، وعلى هذا المثال فقس نظائر ذلك، ومن هذه النسبة يستخرج المجهولات الهندسية بالمعلومات، وكذلك المجهولات التي في المعاملات إن كان ثمنا أو مثمنا، مثاله إذا قيل: عشرة نسبة إلى أربعة بكم، فاضرب الأربعة في ستة، واقسم المبلغ على العشرة فما خرج فهو المطلوب.
واعلم بأنه تارة يكون المجهول هو الثمن، وتارة هو المثمن، فاجتهد في القياس أن لا يضرب الثمن في الثمن والمثمن في المثمن، ولكن الثمن في المثمن والمثمن في الثمن.
(3) فصل في التناسب
اعلم أن التناسب هو اتفاق أقدار الأعداد بعضها من بعض، والعددان لا يتناسبان؛ أقل النسبة من ثلاثة أعداد وأقل الأعداد المتناسبة بثلاثة أعداد المتناسبة إذا كانت ثلاثة، فإن قدر أولها من ثانيها كقدر ثانيها من ثالثها، وكذلك بالعكس كل ثلاثة أعداد متناسبة، فإن مضروب أولها في ثالثها كمضروب ثانيها في نفسه، وهذا مثال ذلك 964، كل ثلاثة أعداد متناسبة إذا كانت حاشيتاها معلومتين والواسطة مجهولة؛ أعني: بالحاشيتين الأول والثالث، فإذا ضربت إحدى الحاشيتين في الأخرى، وأخذ جذر المجتمع كان ذلك هو الواسطة المجهولة؛ فإن كانت إحدى الحاشيتين معلومة والواسطة معلومة ضربت الواسطة في مثلها، وقسم المبلغ على الحاشية المعلومة، فما خرج من القسمة فهو الحاشية المجهولة الأعداد المتناسبة إذا كانت أربعة فإن نسبتها على نوعين، أحدهما نسبة التوالي والآخر غير التوالي.
فأما الأعداد المتناسبة المتوالية على نسبتها إذا كانت أربعة، فإن قدر أولها من ثانيها كقدر ثانيها من ثالثها، وثانيها من ثالثها كثالثها من رابعها، مثال ذلك: «ب د ح يو» إذا كانت أعدادا متناسبة غير متوالية كان قدر أولها من ثانيها كقدر ثالثها من رابعها، ولم يكن قدر ثانيها من ثالثها كقدر ثالثها من رابعها، مثل هذه الصورة: ح و ج يو، كل أربعة أعداد متناسبة متوالية كانت أو غير متوالية، فإن مضروب أولها في رابعها مثل مضروب ثانيها في ثالثها، وإذا ضربت إحدى الواسطتين في الأخرى وقسم المبلغ على الحاشية المعلومة، فما خرج فهو الحاشية المجهولة.
فإن كانت إحدى الواسطتين مجهولة وسائرها معلومة ضربت إحدى الحاشيتين في الأخرى وقسمت المبلغ على الواسطة المعلومة، فما خرج فهو الواسطة المجهولة الأعداد المتناسبة المتوالية على نسبتها إذا كانت أربعة وكان عددان منها معلومين والباقيان مجهولين أمكن إخراج المجهولين بالمعلومين، فإن كان الأول والثاني معلومين ضربت الثاني في مثله، وقسمت المبلغ على الأول، فما خرج فهو الثالث، فإن كان الأول والثالث معلومين ضربت الأول في الثالث، وأخذت جذر المبلغ، فما كان فهو الثاني، ثم ضربت الثالث في نفسه، وقسمت المبلغ على الثاني، فما خرج فهو الرابع، وكذلك العمل في سائر الأعداد.
فأما إذا كانت أربعة أعداد متناسبة غير متوالية، وكان المعلوم منها عددين لم يمكن استخراج المجهولين بالمعلومين، غير أنه إذا كان الأول والثاني معلومين، وكان الثاني أكثر من الأول، قسم الثاني على الأول فما خرج من أضعاف الأول ونسبته، فإن في الرابع مثل ذلك من أضعاف الثالث، وإذا كان الأول أكثر من الثاني قسم الأول على الثاني، فما خرج من القسمة ففي الثالث مثل ذلك من أضعاف الرابع.
وأما قلب النسبة فأن تجعل نسبة الأول إلى الثالث كنسبة الثاني إلى الرابع على الاستواء والعكس، وأما ترتيب النسبة فأن تجعل نسبة الأول إلى الأول والثاني معا كنسبة الثالث إلى الثالث والرابع معا، وكذلك هو في العكس والتبديل، وأما تفضيل النسبة فهو نسبة زيادة الأول على الثاني إلى الثاني، كذلك يكون نسبة زيادة الثالث على الرابع إلى الرابع، وأما تنقيص النسبة فأن تجعل نسبة ما بقي من الثاني بعد ما نقص منه الأول إلى الأول كنسبة الرابع بعد ما نقص منه الثالث، وكذلك في العكس وتبديل النسبة.
(4) فصل في فضيلة علم النسب العددية والهندسية والموسيقية
اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه قد اتفقت الأنبياء - صلوات الله عليهم - والفلاسفة بأن الله - عز وجل - الذي لا شريك له ولا شبه له، واحد بالحقيقة من جميع الوجوه وأن كل ما سواه من جميع الموجودات مثنوية مؤلفة ومركبة، وذلك أن الله لما أراد إيجاد العالم الجسماني اخترع أولا الأصلين وهما الهيولى والصورة، ثم خلق منهما الجسم المطلق وجعل بعض الأجسام يعني الأركان على الطبائع الأربع التي هي الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة، والأركان هي النار والهواء والماء والأرض، ثم خلق من هذه الأركان جميع ما على وجه الأرض من الحيوان والنبات والمعادن.
واعلم أن هذه الأركان متفاوتات القوى، متضادات الطبائع، مختلفات الصور، متباينات الأماكن، متعاديات متنافرات، لا تجتمع إلا بتأليف المؤلف لها، والتأليف متى لا يكون على النسبة لم يمتزج ولم يتحد، ومن أمثال ذلك أصوات النغم الموسيقية، وذلك أن نغمة الزير رقيق خفيف، ونغمة البم غليظ ثقيل، والرقيق ضد الغليظ والخفيف ضد الثقيل.
وهما متباينان متنافران لا يجتمعان ولا يلتقيان إلا بمركب ومؤلف يؤلفهما، ومتى لا يكون التأليف على النسبة لا يمتزجان ولا يتحدان ولا يستلذهما السمع، فمتى ألفا على النسبة ائتلفا وصارا كنغمة واحدة لا يميز السمع بينهما وتستلذهما الطبيعة وتسر بهما النفوس، وهكذا أيضا الكلام الموزون إذا كان على النسبة يكون في السمع ألذ من النثر الذي ليس بموزون؛ لما في الموزون من النسب.
ومن أمثال ذلك عروض الطويل، فإنه ثمانية وأربعون حرفا؛ ثمانية وعشرون حرفا متحركة وعشرون حرفا ساكنة، فنسبة سواكنه إلى متحركاته كنسبة خمسة أسباع ، وهكذا نسبة نصف البيت وهو أربعة عشر حرفا متحركة وعشرة أحرف ساكنة، وهكذا نسبة الربع سبعة أحرف متحركة وخمسة أحرف سواكن، وأيضا فهو مؤلف من اثني عشر سببا، والأسباب اثنا عشر حرفا متحركة واثنا عشر ساكنة وثمانية أوتاد ثمانية أحرف منها سواكن وستة عشر حرفا متحركة.
ومن أمثال ذلك أيضا حروف الكتابة، فإنها مختلفة الأشكال، متباينة الصور، وإذا جعل تقديرها ووضع بعضها من بعض على النسبة كان الخط جيدا، وإن كان على غير النسبة كان الخط رديئا، وقد بينا نسبة الحروف بعضها من بعض كيف ينبغي أن تكون في رسالة أخرى.
ومن أمثال ذلك أيضا أصباغ المصورين؛ فإنها مختلفة الألوان، متضادة الشعاع كالسواد والبياض والحمرة والخضرة والصفرة وما شاكلها من سائر الألوان، فمتى وضعت هذه الأصباغ بعضها من بعض على النسبة كانت تلك التصاوير براقة حسنة تلمع، ومتى كان وضعها على غير النسبة كانت مظلمة كدرة غير حسنة، وقد بينا في رسالة أخرى كيف ينبغي أن يكون وضع تلك الأصباغ على النسبة بعضها من بعض حتى تكون حسنة.
ومن أمثال ذلك أيضا أعضاء الصور ومفاصلها فإنها مختلفة الأشكال، متباينة المقادير، فمتى كانت مقادير بعضها من بعض على النسبة ووضع بعضها من بعض على النسبة؛ كانت الصورة صحيحة محققة مقبولة، ومتى كانت على غير ما وصفنا كانت سمجة مضطربة غير مقبولة في النفس، وقد بينا من ذلك طرفا كيف ينبغي تقدير الصور ووضع أعضائها بعضها من بعض في الرسالة المتقدم ذكرها.
ومن أمثال ذلك أيضا عقاقير الطب وأدويتها فإنها متضادات الطباع، مختلفات الطعوم والروائح والألوان، فإذا ركبت على النسبة صارت أدوية ذات منافع كثيرة؛ مثل الترياقات والمراهم وما شاكل ذلك، ومتى ركبت على غير نسبة في أوزانها ومقاديرها، صارت سموما ضارة قاتلة.
ومن أمثال ذلك أيضا حوائج الطبيخ، فإنها مختلفة الطعم واللون والروائح والمقادير فمتى جعلت مقاديرها في القدر عند الطبخ لها على النسبة كان الطبيخ طيب الرائحة، لذيذ الطعم، جيد الصنعة، ومتى كان على غير النسبة كان بخلاف ذلك، ومن أجل هذا ذكر في كتاب الطب وفي كتب الصنعة أن تلك العقاقير متى ركبت على النسبة، ودبرت على تلك النسبة صحت، ومتى كانت على غير ذلك فسدت ولم تصح.
وعلى هذا القياس تركيب جواهر المعادن كلها من الزئبق والكبريت، وذلك أن الزئبق والكبريت متى امتزجا، وكان مقدارهما على النسبة وطبختهما حرارة المعدن على ترتيب واعتدال؛ انعقد من ذلك على طول الزمان الذهب الإبريز، ومتى لم تكن أجزاؤهما على تلك النسبة وقصرت حرارة المعدن عن طبخهما صارت فضة بيضاء، ومتى كانت أجزاء الكبريت زائدة الحرارة نشفت رطوبة الزئبق، وغلب اليبس عليها وصارت نحاسا أحمر.
ومتى كان الزئبق والكبريت غليظين غير صافيين صار منهما الحديد، ومتى كان الزئبق أكثر والكبريت أقل والحرارة ناقصة؛ غلب البرد عليها وصارت أسربا، وعلى هذا القياس تختلف جواهر المعادن بحسب مقادير الزئبق والكبريت وامتزاجهما على النسبة والخروج إلى الزيادة والنقصان واعتدال طبخ الحرارة لها والخروج منها بالإفراط والتقصير.
وعلى هذا القياس تختلف أشكال الحيوان والنبات وهيئاتها وألوانها وطعومها وروائحها على حسب تركيب أجزاء الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض ونسبة مقادير أجزائها وقوى بعضها من بعض.
ومن أمثال ذلك أن المولودين من البشر متى كانت كمية الأخلاط التي ركبت منها أجسامهم؛ أعني: الدم والبلغم والمرتين في أصل تركيبهم على النسبة الأفضل، ولم يعرض لها عارض كانت أجسادهم صحيحة المزاج وبنية أبدانهم قوية وألوانهم صافية.
وهكذا متى كان تقدير أعضائهم ووضع بعضها من بعض على النسبة الأفضل؛ كانت صورهم حسنة وهيئاتهم مقبولة وأخلاقهم محمودة، ومتى كانت على خلاف ذلك كانت أجسادهم مضطربة وصورهم وحشة وأخلاقهم غير محمودة، والمثال في ذلك المولودون الذين غلبت على أمزجة أبدانهم الحرارة؛ فإن أجسادهم تكون نحيفة وألواهم سمرا ويكونون سريعي الحركة والغضب زائدين في الشجاعة إلى التهور ومن السخاء إلى التبذير، وأما الذين الغالب على أبدانهم البرودة، فإنهم يكونون بطيئي الحركة، عبلى الأجساد، بيض الألوان، قليلي الغضب، زائدين في الجبن والبخل.
وقد تبين هذا في كتب الطب وكتب الفراسة بشرح طويل ، وإنما أردنا نحن أن نذكر من كل جنس من الموجودات مثالا؛ ليكون دالا على شرف علم النسب الذي يعرف بالموسيقى، وأن هذا العلم محتاج إليه في الصنائع كلها، وإنما خص هذا العلم باسم الموسيقى الذي هو تآلف الألحان والنغم؛ لأن المثال فيه أبين؛ وذلك أن القدماء من الحكماء إنما استخرجوا أصول الألحان والنغم من المعرفة بالنسبة العددية والهندسية لما جمعوا بينهما خرجت النسبة الموسيقية كما بينا في الفصل الذي في استخراج النسب.
وذكر أصحاب النجوم والمتفلسفون بأن للسعود من الكواكب لأفلاكها ولأعظام أجرامها ولسرعة حركاتها إلى الأركان الأربعة؛ نسبة موسيقية، وأن لتلك الحركات نغمات لذيذة، وأن النحوس من الكواكب ليست لها تلك النسبة، وكذلك لبيوت الفلك التي يناظر بعضها بعضا نسبة شريفة.
وأن البيوت التي لا تتناظر ليست لها تلك النسبة، وأن لبيوت النحوس وأفلاكها بعضها إلى بعض نسبة، وأن لبيوت السعود وأفلاكها بعضها إلى بعض نسبة شريفة ليست بينها وبين النحوس تلك النسبة ولا بين النحوس بعضها من بعض، ومن أجل شرف علم النسبة ولطيف معانيها أفرد في كتاب إقليدس مقالتان في علم النسب بمثالات وبراهين، وبالجملة إن كل مصنوع من أشياء متضادة الطبائع، متعادية القوى، مختلفة الأشكال، فإن أحكمها وأتقنها ما كان تركيب أجزائه وتأليف أعضائه على النسبة الأفضل.
ومن عجائب خاصية النسبة ما يظهر في البعاد والأثقال من المنافع، من ذلك ما يظهر في القرسطون أعني القبان، وذلك أن أحد رأسي عمود القرسطون طويل بعيد من المعلاق، والآخر قصير قريب منه، فإذا علق على رأسه الطويل ثقل قليل، وعلى رأسه القصير ثقل كثير تساويا وتوازنا متى كانت نسبة الثقل القليل إلى الثقل الكثير كنسبة بعد رأس القصير إلى بعد رأس الطويل من المعلاق.
ومن أمثال ذلك ما يظهر في ظل الأشخاص من التناسب بينها، وذلك أن كل شخص مستوي القد منتصب القوام، فإن له ظلا ما وإن نسبة طول ظل ذلك الشخص إلى طول قامته في جميع الأوقات كنسبة جيب الارتفاع في ذلك الوقت إلى جيب تمام الارتفاع سواء ، وهذا لا يعرفه إلا المهندسون أو من يحل الزيج، وهكذا توجد هذه النسبة في جر الثقيل بالخفيف وفي تحريك المحرك زمانا طويلا بلا ثقل ثقيل.
ومن ذلك ما يظهر أيضا في الأجسام الطافية فوق الماء ما بين أثقالها ومقعر أجرامها في الماء من التناسب، وذلك أن كل جسم يطفو فوق الماء فإن مكانه المقعر يسع من الماء بمقدار وزنه سواء، فإن كان ذلك الجسم لا يسع مقعره بوزنه من الماء، فإن ذلك الجسم يرسب في الماء ولا يطفو، وإن كان ذلك المقعر يسع بوزنه من الماء سواء، فإن ذلك الجسم لا يرسب في الماء، ولا يبقى منه شيء ناتئ عن الماء، بل يبقى سطحه منطفحا مع سطح الماء سواء، وكل جسمين طافيين فوق الماء فإن نسبة سعة مقعر أحدهما إلى الآخر كنسبة ثقل أحدهما إلى الآخر سواء، وهذه الأشياء التي ذكرناها يعرفها من كان يتعاطى صناعة الحركات أو كان عالما بمراكز الأثقال والأفلاك والأجرام والأبعاد.
ومن الفوائد ما يظهر من المجهولات علمها بمعرفة النسب، من ذلك ما يتبين من التناسب بين الأشياء المثمنة وبين أثمانها المفروضة لها، وذلك أن كل شيء يقدر بقدر ما من الوزن والكيل والذرع والعدد، ثم يفرض له ثمن، فإن بين ذلك الشيء المقدر وبين ثمنه المفروض له نسبتين، إحداهما مستوية والأخرى معكوسة، مثال ذلك إذا قيل: عشرة بستة فالعشرة هي الشيء المقدر والستة هي الثمن المفروض وبينهما نسبتان؛ إحداهما مستوية والأخرى معكوسة، وذلك أن الستة نصف العشرة وعشرها، وعكس ذلك العشرة فإنها مثل الستة وثلثيها، وكل سائل إذا سأل عن ثمن شيء ما فلا بد له أن يلفظ بأربعة مقادير؛ ثلاثة منها معلومة وواحدة مجهولة، وبين كل قدرين منها نسبتان مستوية ومعكوسة.
مثال ذلك إذا قيل: عشرة بستة بأربعة كم؟ فقوله: عشرة هي قدر معلوم وكذا ستة وأربعة، وأما قوله: كم، فقدر مجهول، فنقول: إن بين الستة والعشرة نسبتين كما بينا، وكذلك بين الأربعة وبين الكم الذي هو القدر المجهول نسبتان، وكذلك بين العشرة وبين المجهول نسبتان، وكذلك بين الستة وبينه نسبتان، بيان ذلك أن القدر المجهول هو الستة وثلثان، فنقول: إن الكم ثلثا العشرة كما أن الأربعة ثلثا الستة، وإن العشرة مثل الكم ومثل نصفه كما أن الستة مثل الأربعة ومثل نصفها، وأيضا الكم مثل الأربعة ومثل ثلثيها كما أن العشرة مثل الستة ومثل ثلثيها، وعكس ذلك أن الأربعة نصف الكم وعشره كما أن الستة نصف العشرة وعشرها.
فإذا قيس على هذا المثال وجد بين كل مثمن وبين ثمنه نسبتان؛ مستوية ومعكوسة وعرف المجهول بالمعلوم، وإن ضرب أحد المعلومين في الآخر وقسم المبلغ على الثالث فما خرج فهو المجهول المطلوب، مثال ذلك إذا قيل: عشرة بستة كم بأربعة، فاضرب الأربعة في عشرة واقسمها على ستة فما خرج فهو المجهول المطلوب وهو ستة وثلثان.
وعلى هذا المثال فقد بان أن علم نسبة العدد علم شريف جليل وأن الحكماء جميع ما وضعوه من تأليف حكمتهم فعلى هذا الأصل أسسوه وأحكموه وقضوا لهذا العلم بالفضل على سائر العلوم؛ إذ كانت كلها محتاجة إلى أن تكون مبنية عليه، ولولا ذلك لم يصح عمل ولا صناعة ولا ثبت شيء من الموجودات على الحال الأفضل، فاعلم ذلك أيها الأخ وتفكر فيه غاية التفكر؛ فإنه علم يهدي إلى سواء الصراط، نفعك الله، وأرشدنا وإياك وجميع إخواننا بمنه ورحمته.
الرسالة السابعة في الصنائع العلمية والغرض منها
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
اعلم أيها الأخ، أيدك اله وإيانا بروح منه، أنا قد فرغنا من ذكر النسب العددية وأخبرنا بماهياتها وكمية أجناسها وأنواع تلك الأجناس ووصفنا كيفية إظهارها من القوة إلى الفعل، وبينا أن الموضوع فيها كلها أجسام طبيعية وأن مصنوعاتها كلها جواهر جسمانية، وأن أغراضها كلها عمارة الأرض لتتميم أمر معيشة الحياة الدنيا. فنريد أن نذكر في هذه الرسالة الصنائع العلمية التي هي الموضوع فيها جواهر روحانية التي هي أنفس المتعلمين، ونبين أن تأثيراتها في المتعلمين كلها روحانية، كما ذكرنا في رسالة المنطق ، ونبين أيضا ماهية العلوم ونذكر كمية أجناسها وأنواع تلك الأجناس ونصف أيضا كيفية إخراج ما في قوة النفس من العلوم إلى الفعل الذي هو الغرض الأقصى في التعاليم، وهو إصلاح جواهر النفوس وتهذيب أخلاقها وتتميمها وتكميلها للبقاء في دار الآخرة التي هي دار الحيوان لو كانوا يعلمون، والذين يريدون الخلود في الدنيا هم الغافلون عن أمر الآخرة.
(1) فصل في مثنوية الإنسان
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الإنسان لما كان هو جملة مجموعة من جسد جسماني ونفس روحانية، وهما جوهران متباينان في الصفات، متضادان في الأحوال ومشتركان في الأفعال العارضة والصفات الزائلة؛ صار الإنسان من أجل جسده الجسماني مريدا للبقاء في الدنيا، متمنيا للخلود فيها، ومن أجل نفسه الروحانية صار طالبا للدار الآخرة، متمنيا للبلوغ إليها.
وهكذا أكثر أمور الإنسان وتصرف أحواله مثنوية، متضادة كالحياة والممات والنوم واليقظة والعلم والجهالة والتذكر والغفلة والعقل والحماقة والمرض والصحة والفجور والعفة والبخل والسخاء والجبن والشجاعة والألم واللذة، وهو متردد بين الصداقة والعداوة والفقر والغنى والشبيبة والهرم والخوف والرجاء والصدق والكذب والحق والباطل والصواب والخطأ والخير والشر والقبح والحسن وما شاكلها من الأخلاق والأفعال والأقاويل المتضادة المتباينة التي تظهر من الإنسان الذي هو جملة مجموعة من جسد جسماني ونفس روحانية.
واعلم يا أخي بأن هذه الخصال التي عددنا لا تنسب إلى الجسد بمجرده ولا إلى النفس بمجردها، ولكن إلى الإنسان الذي هو جملتهما والمجموع منهما الذي هو حي ناطق مائت، فحياته ونطقه من قبل نفسه وموته من قبل جسده، وهكذا نومه من قبل جسده ويقظته من قبل نفسه، وعلى هذا القياس سائر أموره وأحواله المتباينات المتضادات؛ بعضها من قبل النفس، وبعضها من قبل الجسد، مثال ذلك عقله وعلمه وحلمه وتفكره وسخاؤه وشجاعته وعفته وعدله وحكمته وصدقه وصوابه وخيره وما شاكلها من الخصال المحمودة، فكلها من قبل نفسه وصفاء جوهرها وأضدادها من قبل أخلاط جسده ومزاج أخلاطه.
(2) فصل في الصفات المختصة بالجسد والنفس
واعلم يا أخي بأن الصفات المختصة بالجسد بمجرده هي أن الجسد جوهر جسماني طبيعي ذو طعم ولون ورائحة وثقل وخفة وسكون ولين وخشونة وصلابة ورخاوة، وهو متكون من الأخلاط الأربعة التي هي الدم والبلغم والمرتان المتولدة من الغذاء الكائن من الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض ذوات الطبائع الأربع التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، وهو منفسد؛ أعني الجسد ومتغير ومستحيل وراجع إلى هذه الأركان الأربعة بعد الموت الذي هو مفارقة النفس الجسد وتركها استعماله.
وأما الصفات المختصة بالنفس بمجردها فهي أنها جوهرة روحانية سماوية نورانية حية بذاتها علامة بالقوة، فعالة بالطبع، قابلة للتعاليم، فعالة في الأجسام، ومستعملة لها، ومتممة للأجسام الحيوانية والنباتية إلى وقت معلوم، ثم إنها تاركة لهذه الأجسام ومفارقة لها وراجعة إلى عنصرها ومعدنها ومبدئها كما كانت، إما بربح وغبطة أو ندامة وحزن وخسران، كما ذكر الله - عز وجل - بقوله: @QUR010 كما بدأكم تعودون * فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة، وقال - عز وجل: @QUR010 كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين، وقال تعالى: @QUR08 أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فكفى بهذا يا أخي زجرا ووعيدا وتهديدا وتوبيخا ومذكرا ونذيرا، إن كنت منتبها من نوم الغفلة ومستيقظا من رقدة الجهالة.
وأعيذك أيها الأخ البار الرحيم أن تكون من الذين ذمهم رب العالمين بقوله: @QUR023 لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون، أفترى ذمهم من أجل أنهم لم يكونوا يعقلون أمر معيشة الدنيا؟ إنما ذمهم لأنهم لم يكونوا يتفكرون في أمر الآخرة والمعاد ولا يفقهون ما يقال لهم من معاني أمر الآخرة وطريق المعاد، فقال: @QUR010 يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، وقال - عز وجل: @QUR08 فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون.
(3) فصل في مثنوية قنية الإنسان ومثنوية الأعمال
ولما تبين أن أكثر أمور الإنسان وتصرف أحواله مثنوية متضادة من أجل أنه جملة مجموعة من جوهرين متباينين؛ جسد جسماني ونفس روحانية، كما بينا قبل ، صارت قنيته أيضا نوعين؛ جسمانية كالمال ومتاع الدنيا وروحانية كالعلم والدين، وذلك أن العلم قنية للنفس كما أن المال قنية للجسد، وكما أن الإنسان يتمكن بالمال من تناول اللذات من الأكل والشرب في الحياة الدنيا، فهكذا بالعلم ينال الإنسان طريق الآخرة، وبالدين يصل إليها، وبالعلم تضيء النفس وتشرق وتصح، كما أن بالأكل والشرب ينمى الجسد ويزيد ويربو ويسمن.
فلما كان هكذا صارت المجالس أيضا اثنين؛ مجلس للأكل والشرب واللهو واللعب واللذات الجسمانية من لحوم الحيوان ونبات الأرض لصلاح هذا الجسد المستحيل الفاسد الفاني، ومجلس للعلم والحكمة وسماع روحاني من لذة النفوس التي لا تبيد جواهرها، ولا ينقطع سرورها في الدار الآخرة، كما ذكر الله - جل ثناؤه - بقوله: @QUR09 وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون، فلما كانت المجالس اثنين صار أيضا السائلون اثنين، واحد يسأل حاجة من عرض الدنيا، لصلاح هذا الجسد ولجر المنفعة إليه، أو لدفع المضرة عنه، وواحد يسأل مسألة من العلم لصلاح أمر النفس وخلاصها من ظلمات الجهالة أو للتفقه في الدين؛ طلبا لطريق الآخرة واجتهادا في الوصول إليها، وفرارا من نار جهنم ونجاة من عالم الكون والفساد وفوزا بالوصول إلى عالم الأفلاك وسعة السماوات والسيحان في درجات الجنان والتنفس من ذلك الروح والريحان المذكور في القرآن.
(4) فصل في العلم والمعلوم والتعلم والتعليم وأوجه السؤال
وينبغي لطالبي العلم والباحثين عن حقائق الأشياء أن يعرفوا أولا ما العلم وما المعلوم، وعلى كم وجه يكون السؤال وما جواب كل سؤال حتى يدروا ما الذي يسألون وما الذي يجيبون إذا سئلوا؛ لأن الذي يسأل ولا يدري أي شيء سأل فإذا أجيب لا يدري بأي شيء أجيب.
واعلم يا أخي بأن العلم إنما هو صورة المعلوم في نفس العالم، وضده الجهل وهو عدم تلك الصورة من النفس، واعلم بأن أنفس العلماء علامة بالفعل وأنفس المتعلمين علامة بالقوة، وأن التعلم والتعليم ليسا شيئا سوى إخراج ما في القوة؛ يعني: الإمكان، إلى الفعل؛ يعني الوجود، فإذا نسب ذلك إلى العالم سمي تعليما ، وإن نسب إلى المتعلم سمي تعلما.
واعلم بأن السؤالات الفلسفية تسعة أنواع مثل تسعة آحاد: أولها هل هو؟ والثاني ما هو؟ والثالث كم هو؟ والرابع كيف هو؟ والخامس أي شيء هو؟ والسادس أين هو؟ والسابع متى هو؟ والثامن لم هو؟ والتاسع من هو؟ تفسيرها: هل هو سؤال يبحث عن وجدان شيء أو عن عدمه؟ والجواب نعم أو لا. وقد بينا معنى الوجود والعدم في رسالة العقل والمعقول، وما هو سؤال يبحث عن حقيقة الشيء وحقيقة الشيء تعرف بالحد أو بالرسم، ذلك أن الأشياء كلها نوعان مركب وبسيط، فالمركب مثل الجسم، والبسيط مثل الهيولى والصورة، وقد بينا معناهما في رسالة الهيولى.
والأشياء المركبة تعرف حقيقتها إذا عرفت الأشياء التي هي مركبة منها، مثال ذلك إذا قيل: ما حقيقة الطين؟ فقال: تراب وماء مختلطان، وهكذا إذا قيل: ما حقيقة السكنجبين؟ فيقال: خل وعسل ممزوجان، وعلى هذا القياس كل مركب إذا سئل عنه، فيحتاج أن يذكر الأشياء التي هو مركب منها وموصوف بها، والحكماء يسمون مثل هذا الوصف الحد، ومن أجل هذا قالوا في حد الجسم: إنه الشيء الطويل العريض العميق، فقولهم: الشيء إشارة إلى الهيولى، وقولهم: الطويل والعريض والعميق إشارة إلى الصورة؛ لأن حقيقة الجسم ليست بشيء غير هذه التي ذكرت في حده، وهكذا قولهم في حد الإنسان: إنه حي ناطق مائت، فقولهم: حي ناطق يعنون به النفس، ومائت يعنون به الجسد؛ لأن الإنسان هو جملة مجموعة منهما؛ أعني: جسدا جسمانيا ونفسا روحانية، وعلى هذا القياس تعرف حقائق الأشياء المركبة من شيء.
وأما الأشياء التي ليست مركبة من شيء بل مخترعة مبدعة كما شاء باريها وخالقها تعالى فحقيقتها تعرف من الصفات المختصة بها، مثال ذلك إذا قيل: ما حقيقة الهيولى؟ فيقال: جوهر بسيط قابل للصورة لا كيفية فيه البتة، وإذا قيل: ما الصورة؟ فيقال: هي التي يكون الشيء بها ما هو، فمثل هذا الوصف تسميه الحكماء الرسم، والفرق بين الحد والرسم أن الحد مأخوذ من الأشياء التي المحدود مركب منها - كما بينا - والرسم مأخوذ من الصفات المختصة بالرسوم.
وفرق آخر: أن الحد يخبرك عن جوهر الشيء المحدود ويميزه عما سواه، والرسم يميز لك المرسوم عما سواه حسب، فينبغي لك أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، إذا سئلت عن حقيقة شيء من الأشياء أن لا تستعجل بالجواب بل تنظر هل ذلك الشيء المسئول عنه مركب أم بسيط حتى تجيب بحسب ذلك، وأما كم هو؟ فسؤال يبحث عن مقدار الشيء.
والأشياء ذوات المقادير نوعان متصل ومنفصل، فالمتصل خمسة أنواع: الخط والسطح والجسم والمكان والزمان، والمنفصل نوعان: العدد والحركة، وهذه الأشياء كلها يقال فيها: كم هو؟ وقد بينا ماهية العدد في رسالة الأرثماطيقي وماهية الحركة والزمان والمكان والجسم في رسالة الهيولى، وماهية الخط والسطح في رسالة الهندسة، وأما كيف هو؟ فسؤال يبحث عن صفة الشيء، والصفات كثيرة الأنواع، وقد بيناها في رسالة شرح المقولات العشر التي كل واحدة منها جنس الأجناس، وأما أي شيء هو؟ فسؤال يبحث عن واحد من الجملة أو عن بعض من الكل.
مثال ذلك إذا قيل: طلع الكوكب، فيقال: أي كوكب هو؟ لأن الكواكب كثيرة، وأما إذا قيل: طلعت الشمس، فلا يقال أي شمس هي؟ إذ ليس من جنسها كثرة وكذلك القمر، وأما أين هو؟ فسؤال يبحث عن مكان الشيء أو عن رتبته، والفرق بينهما أن المكان صفة لبعض الأجسام لا لكلها، مثال ذلك إذا قيل: أين زيد؟ فيقال: في البيت أو في المسجد أو في السوق أو في موضع آخر، وأما المحل فهو صفة للعرض، والعرض نوعان: جسماني وروحاني، فالأعراض الجسمانية حالة في الأجسام، مثال ذلك إذا قيل: أين السواد؟ فيقال: حال في الجسم الأسود وهكذا الألوان كلها والطعوم والروائح حالة في الأجسام ذات الطعم واللون والرائحة، وهكذا حكم جميع الأعراض الجسمانية.
وأما الأعراض الروحانية فحالة في الجواهر الروحانية، مثال ذلك إذا قيل: أين العلم؟ فيقال: حال في نفس العالم، وكذلك السخاء والشجاعة والعدل وما شاكلها من الصفات حالة في النفس وهكذا حكم أضدادها، وقد ظن كثير من أهل العلم ممن ليست له خبرة بأمر النفس ولا معرفة بجوهرها أن هذه الأعراض حالة في الجسم؛ كل واحد في محل مختص، مثال ذلك ما قالوا: إن العلم في القلب والشهوة في الكبد والعقل في الدماغ والشجاعة في المرارة والجبن في الطحال، وعلى هذا القياس سائر الأعراض، وقد بينا نحن أن هذه الأعضاء آلات وأدوات للنفس تظهر بها ومنها في الجسد هذه الأفعال والأخلاق في رسالة تركيب الجسد.
وأما الرتبة فهي من صفات الجواهر الروحانية، مثال ذلك إذا قيل: أين النفس؟ فيقال: هي دون العقل وفوق الطبيعة، وهكذا إذا قيل: أين الخمسة من العدد؟ فيقال: بعد الأربعة وقبل الستة، وعلى هذا القياس حكم الجواهر الروحانية التي لا توصف بالمكان ولا بالمحل، ولكن بالرتبة - كما بينا في رسالة المبادئ العقلية.
وأما متى هو؟ فسؤال يبحث عن زمان كون الشيء. والأزمان ثلاثة؛ ماض مثل أمس، ومستقبل مثل غد، وحاضر مثل اليوم، وهكذا حكم السنين والشهور والساعات، وقد بينا ماهية الزمان واختلاف أقاويل العلماء في ماهيته في رسالة الهيولى، وأما لم هو؟ فسؤال يبحث عن علة الشيء المعلول.
واعلم يا أخي بأن لكل معلول صناعي أربع علل؛ إحداها علة هيولانية، والثانية علة صورية، والثالثة علة فاعلية، والرابعة علة تمامية، مثال ذلك الكرسي والباب والسرير، فإن العلة الهيولانية فيها الخشب، والعلة الصورية الشكل والتربيع، والعلة الفاعلية النجار، والعلة التمامية للكرسي القعود عليه، وللسرير النوم عليه، وللباب ليغلق على الدار. وعلى هذا القياس كل معلول لا بد له من هذه الأربع العلل، فإذا سئلت عن علة شيء فاعرف أولا عن أيها تسأل؛ حتى يكون الجواب بحسب ذلك.
وأما من هو؟ فسؤال يبحث عن التعريف للشيء، ويقول علماء النحو: إن هذا السؤال لا يتوجه إلا إلى كل ذي عقل، ويقول قوم آخرون: إلى كل ذي علم وتمييز، والجواب فيه أن يعرف السؤال بأحد ثلاثة أشياء، إما أن ينسب إلى بلده، أو إلى أصله، أو إلى صناعته، مثال ذلك إذا قيل: من زيد؟ فيقال : البصري، ينسب إلى بلده، والهاشمي إلى أصله، والنجار إلى صناعته.
فهذه جملة مختصرة في كمية السؤالات وأجوبتها ومباحث العلوم والنظر في حقائق الأشياء شبه المدخل والمقدمات؛ ليقرب من فهم المتعلمين النظر في المنطق الفلسفي، وليوقفوا عليها قبل النظر في إيساغوجي الذي هو المدخل إلى المنطق الفلسفي.
(5) فصل في أجناس العلوم
وإذ قد فرغنا من ذكر ماهية العلوم وأنواع السؤالات وما يقتضي كل واحد من الأجوبة فنريد أن نذكر أجناس العلوم وأنواع تلك الأجناس؛ ليكون دليلا لطالبي العلم إلى أغراضهم وليهتدوا إلى مطلوباتهم؛ لأن رغبة النفوس في العلوم المختلفة وفنون الآداب كشهوات الأجسام للأطعمة المختلفة الطعم واللون والرائحة.
فاعلم يا أخي بأن العلوم التي يتعاطاها البشر ثلاثة أجناس، فمنها الرياضية، ومنها الشرعية الوضعية، ومنها الفلسفية الحقيقية. فالرياضية هي علم الآداب التي وضع أكثرها لطلب المعاش وصلاح أمر الحياة الدنيا، وهي تسعة أنواع، أولها علم الكتاب والقراءة، ومنها علم اللغة والنحو، ومنها علم الحساب والمعاملات، ومنها علم الشعر والعروض، ومنها علم الزجر والفأل وما يشاكله، ومنها علم السحر والعزائم والكيمياء والحيل وما شاكلها، ومنها علم الحرف والصنائع، ومنها علم البيع والشراء والتجارات والحرث والنسل، ومنها علم السير والأخبار.
فأما أنواع العلوم الشرعية التي وضعت لطب النفوس وطلب الآخرة فهي ستة أنواع؛ أولها علم التنزيل، وثانيها علم التأويل، والثالث علم الروايات والأخبار، والرابع علم الفقه والسنن والأحكام، والخامس علم التذكار والمواعظ والزهد والتصوف، والسادس علم تأويل المنامات، فعلماء التنزيل هم القراء والحفظة، وعلماء التأويل هم الأئمة وخلفاء الأنبياء، وعلماء الروايات هم أصحاب الحديث، وعلماء الأحكام والسنن هم الفقهاء، وعلماء التذكار والمواعظ هم العباد والزهاد والرهبان ومن شاكلهم، وعلماء تأويل المنامات هم المعبرون.
وأما العلوم الفلسفية فهي أربعة أنواع؛ منها الرياضيات ومنها المنطقيات ومنها الطبيعيات ومنها الإلهيات، فالرياضيات أربعة أنواع؛ أولها الأرثماطيقي وهو معرفة ماهية العدد وكمية أنواعه وخواص تلك الأنواع وكيفية نشوئها من الواحد الذي قبل الاثنين وما يعرض فيها من المعاني إذا أضيف بعضها إلى بعض.
والثاني الجومطريا وهو الهندسة وهي معرفة ماهية المقادير ذوات الأبعاد وكمية أنواعها وخواص تلك الأنواع وما يعرض فيها من المعاني إذا أضيف بعضها إلى بعض وكيفية مبدئها من النقطة التي هي رأس الخط، وهي في صناعة الهندسة كالواحد في صناعة العدد.
والثالث الأسطرنوميا وهي النجوم، وهي معرفة كمية الأفلاك والكواكب والبروج وكمية أبعادها ومقادير أجرامها وكيفية تركيبها وسرعة حركاتها وكيفية دورانها وماهية طبائعها وكيفية دلائلها على الكائنات قبل كونها، والرابع الموسيقى الذي هو علم التأليف، وهو معرفة ماهية النسب وكيفية تأليف الأشياء المختلفة الجواهر المتباينة الصور، المتضادة القوى، المتنافرة الطبائع كيف تجمع ويؤلف بينها؛ كيما لا تتنافر وتأتلف وتتحد وتصير شيئا واحدا، وتفعل فعلا واحدا أو عدة أفعال، وقد عملنا في كل صناعة من هذه الصناعات رسالة شبه المدخل والمقدمات.
والعلوم المنطقيات خمسة أنواع؛ أولها أنولوطيقيا وهي معرفة صناعة الشعر، والثاني ديطوريقيا وهي معرفة صناعة الخطب، والثالث طوسيقا وهي معرفة صناعة الجدل، والرابع يولوطيقا وهي معرفة صناعة البرهان، والخامس سوفسطيقا وهي معرفة صناعة المغالطين في المناظرة والجدل، وقد تكلم الحكماء الأولون والمتأخرون في هذه الصنائع والعلوم، وصنفوا فيها كتبا كثيرة، وهي موجودة في أيدي الناس.
وقد عمل أرسطاطاليس ثلاثة كتب أخر وجعلها مقدمات لكتاب البرهان؛ أولها قاطيغورياس والثاني باريميناس والثالث أنولوطيقيا الأولى، وإنما جعل عنايته أكثرها بكتاب البرهان؛ لأن البرهان ميزان الحكماء يعرفون به الصدق من الكذب في الأقوال والصواب من الخطأ في الآراء والحق من الباطل في الاعتقادات والخير من الشر في الأفعال، كما يعرف جمهور الناس بالموازين والمكاييل والأذرع؛ تقدير الأشياء الموزونة والمكيلة والمذروعة إذا اختلفوا في حزرها وتخمينها، فهكذا العلماء العارفون بصناعة البرهان يعرفون بها حقائق الأشياء إذا اختلف فيها حزر العقول وتخمين الرأي كما يعرف الشعراء العروضيون استواء القوافي وانزحافها إذا اختلف فيه بصناعة العروض الذي هو ميزان الشعر.
وقد عمل فرقوريوس الصوري كتابا وسماه إيساغوجي، وهو المدخل إلى صناعة المنطق الفلسفي، ولكن من أجل أنهم طولوا الخطب فيها ونقلها من لغة إلى لغة من لم يكن عارفا بها وبمعانيها انغلق على الناظرين في هذه الكتب فهم معانيها وعسر على المتعلمين أخذها، وقد عملنا في كل واحدة من هذه الصنائع رسالة ذكرنا فيها نكت ما يحتاج إليه وتركنا التطويل.
لكن نريد أن نذكر غرض ما في كل رسالة منها ها هنا؛ ليكون من ينظر فيها قد عرف غرض كل صناعة من هذه قبل النظر فيها، فنقول: أما غرض ما في إيساغوجي فهو معرفة معاني الستة الألفاظ التي تستعملها الفلاسفة في أقاويلها، وهو قولهم: الشخص والنوع والجنس والفصل والخاصة والعرض وماهية كل واحد منها وكيفية اشتراكاتها وماهية رسومها التي تميز بعضها من بعض وكيفية دلالاتها على المعاني التي في أفكار النفوس.
وأما غرض قاطيغورياس فهو معرفة معاني العشرة ألفاظ التي كل واحدة منها يقال لها: جنس الأجناس، وإن واحدا منها جوهر وتسعة أعراض وماهية كل واحد منها وكمية أنواعها ورسم كل واحد منها المميز لها بعضها من بعض، وكيفية دلالتها على جميع المعاني التي في أفكار النفوس.
وأما غرض ما في باريمنياس فهو معرفة تلك العشرة الألفاظ التي هي في قاطيغورياس، وما تدل عليه من المعاني عند التركيب حتى تصير كلمات وقضايا، ويكون منها الصدق والكذب، وأما غرض ما في أنولوطيقا الأولى فهو معرفة كيفية تركيب تلك الألفاظ مرة أخرى؛ حتى يكون منها مقدمات وكمية أنواعها وكيف تستعمل حتى يكون منها شيء محسوس واقتران القضايا ونتائجها. وأما غرض ما في أنولولطيقا الثانية فهو معرفة كيفية استعمال القياس الحق والبرهان الصحيح الذي لا خطأ فيه ولا زلل.
وأما العلوم الطبيعية فهي سبعة أنواع؛ أولها علم المبادئ الجسمانية وهي معرفة خمسة أشياء: الهيولى والصورة والزمان والمكان والحركة، وما يعرض فيها من المعاني إذا أضيف بعضها إلى بعض، والثاني علم السماء والعالم وهو معرفة جواهر الأفلاك والكواكب وكميتها وكيفية تركيبها وعلة دورانها وهل تقبل الكون والفساد كما تقبل الأركان الأربعة التي هي دون فلك القمر أم لا؟ وما علة حركات الكواكب واختلافها في السرعة والإبطاء؟ وما علة حركة الأفلاك؟ وما علة سكون الأرض في وسط الفلك في المركز ؟ وهل خارج العالم جسم آخر أم لا؟ وهل في العالم موضع فارغ لا شيء فيه؟ وما شاكل ذلك من المباحث.
والثالث علم الكون والفساد، وهو معرفة ماهية جواهر الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض وكيف يستحيل بعضها إلى بعض بتأثيرات الأشخاص العالية، ويكون منها الحوادث والكائنات من المعادن والنبات والحيوان، وكيف تستحيل إليها راجعة عند الفساد.
والرابع علم حوادث الجو، وهو معرفة كيفية تغييرات الهواء بتأثيرات الكواكب بحركاتها ومطارح شعاعاتها على هذه الأركان وانفعالاتها منها وخاصة الهواء؛ فإنه كثير التلون والتغير من النور والظلمة والحر والبرد وتصاريف الرياح والضباب والغيوم والأمطار والثلوج والبرد والبروق والرعود والشهب والصواعق وكواكب الأذناب وقوس قزح والزوابع والهالات وما شاكلها مما يحدث فوق رءوسنا من التغييرات والحوادث.
والخامس علم المعادن، وهو معرفة الجواهر المعدنية التي تنعقد من البخارات المحتقنة في باطن الأرض، والعصارات المنعقدة في الأهوية وكهوف الجبال، وقعور البحار من العقاقير والجواهر من الكباريت والزوابيق والشبوب والأملاح والنوشادر والذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والأسرب والكحل والزرنيخ والبلور والياقوت والبازهرات وما شاكلها، ومعرفة خواصها ومنافعها ومضارها.
والسادس علم النبات، وهو معرفة كل نبت يغرس أو يبذر أو ينبت على وجه الأرض أو في رءوس الجبال أو قعر المياه أو شطوط الأنهار من الأشجار والزروع والبقول والحشائش والعشب والكلاء ومعرفة كمية أنواعها وخواص تلك الأنواع ومواضع منابتها من البقاع وكيفية امتداد عروقها في الأرض وارتفاع فروعها وأصولها في الهواء؛ وانبساطها على وجه الأرض وتفرق فروعها في الجهات وأشكال أغصانها من الطول والقصر والدقة والغلظ والاستقامة والاعوجاج. وكيفية أشكال أوراقها من السعة والضيق واللين والخشونة وألوان أزهارها وأصباغ أنوارها وكيفية صور ثمارها وحبوبها وبذورها وصموغها وطعومها وروائحها وخواصها ومنافعها ومضارها واحدا واحدا.
والسابع علم الحيوان، وهو معرفة كل جسم يغتذي وينمى ويحس ويتحرك مما يمشي على وجه الأرض أو يطير في الهواء أو يسبح في الماء أو يدب في التراب أو يتحرك في جوف جسم آخر كالديدان في جوف الحيوان وفي لب النبات والثمر والحبوب وما شاكلها، ومعرفة كمية أجناسها وأنواع الأجناس وخواص تلك الأنواع ومعرفة كيفية تكونها في الأرحام أو في البيض أو في العفونات؛ ومعرفة كيفية تأليف أعضائها وتركيب أجسادها واختلاف صورها وائتلاف أزواجها وفنون أصواتها ومنافرة طباعها وتباين أخلاقها وتشاكل أفعالها ومعرفة أوقات هيجانها وسفادها واتخاذ أعشاشها ورفقها بتربية أولادها وتحننها على صغار نتاجها ومعرفتها بمنافعها ومضارها وأوطانها وأربابها وأعدائها ومعارفها، وما شاكل ذلك.
فالنظر في هذه كلها والبحث عنها ينسب إلى العلوم الطبيعيات، وكذلك علم الطب والبيطرة وسياسة الدواب والسباع والطيور والحرث والنسل وعلم الصنائع أجمع داخل في الطبيعيات.
(6) فصل في العلوم الإلهية
والعلوم الإلهية خمسة أنواع: أولها معرفة الباري - جل جلاله - وعم نواله وصفة وحدانيته وكيف هو علة الموجودات وخالق المخلوقات وفائض الجود ومعطي الوجود ومعدن الفضائل والخيرات وحافظ النظام ومبقي الدوام ومدبر الكل وعالم الغيب والشهادة لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وأول كل شيء ابتداء وآخر كل شيء انتهاء وظاهر كل شيء قدره وباطن كل شيء علما، وهو السميع العليم اللطيف الخبير الرءوف بالعباد، عز شأنه، وجلت قدرته، وتعالى جده، وجل ثناؤه، ولا إله غيره، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
والثاني علم الروحانيات وهو معرفة الجواهر البسيطة العقلية العلامة الفعالة التي هي ملائكة الله، وخالص عباده وهي الصور المجردة من الهيولى، المستعملة للأجسام المدبرة بها لها ومنها أفعالها ومعرفة كيفية ارتباط بعضها ببعض وفيض بعضها على بعض، وهي أفلاك روحانية محيطات بالأفلاك الجسمانية.
والثالث علم النفسانيات، وهي معرفة النفوس والأرواح السارية في الأجسام الفلكية والطبيعية من لدن الفلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض ومعرفة كيفية إداراتها للأفلاك وتحريكها للكواكب وتربيتها للحيوان والنبات وحلولها في جثث الحيوانات وكيفية انبعاثها بعد الممات.
والرابع علم السياسة وهي خمسة أنواع: أولها السياسة النبوية، والثاني السياسة الملوكية، والثالث السياسة العامية، والرابع السياسة الخاصية، والخامس السياسة الذاتية.
فأما السياسة النبوية فهي معرفة كيفية وضع النواميس المرضية والسنن الزكية بالأقاويل الفصيحة ومداواة النفوس المريضة من الديانات الفاسدة والآراء السخيفة والعادات الردية والأفعال الجائرة ومعرفة كيفية نقلها من تلك الأديان والعادات، ومحو تلك الآراء عن ضمائرها بذكر عيوبها ونشر تزييفها ومداواتها من سقام تلك الآراء وتلك العادات بالحمية لها من العود إليها وشفائها بالرأي المرضي والعادات الجميلة والأعمال الزكية والأخلاق المحمودة بالمدح لها والترغيب في جزيل الثواب يوم المآب.
وكيفية سياسة النفوس الشريرة بصدودها عن قصد سبيل الرشاد وسلوكها في وعور طرق الغي والتمادي بالقمع لها والزجر والوعيد والتوبيخ والتهديد؛ لترجع إلى سبل النجاة وترغب في جزيل الثواب ومعرفة كيفية تنبيه الأنفس اللاهية والأرواح الساهية من طول الرقاد ونسياها ذكر المعاد، والإذكار لها عهد يوم الميثاق؛ لئلا يقولوا ما جاءنا من رسول ولا كتاب، وهذه السياسة تختص بها الأنبياء والرسل - صلوات الله عليهم.
وأما السياسة الملوكية فهي معرفة حفظ الشريعة على الأمة، وإحياء السنة في الملة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بإقامة الحدود وإنفاذ الأحكام التي رسمها صاحب الشريعة، ورد المظالم وقمع الأعداء وكف الأشرار ونصرة الأخيار، وهذه السياسة يختص بها خلفاء الأنبياء - صلوات الله عليهم - والأئمة المهديون الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون.
وأما السياسة العامية التي هي الرياسة على الجماعات كرياسة الأمراء على البلدان والمدن، ورياسة الدهاقين على أهل القرى، ورياسة قادة الجوش على العساكر وما شاكلها؛ فهي معرفة طبقات المرءوسين وحالاتهم وأنسابهم وصنائعهم ومذاهبهم وأخلاقهم وترتيب مراتبهم ومراعاة أمورهم وتفقد أسبابهم وتأليف شملهم والتناصف بينهم وجمع شتاتهم واستخدامهم في ما يصلحون له من الأمور واستعمالهم في ما يشاكلهم من صنائعهم وأعمالهم اللائقة بواحد واحد منهم.
وأما السياسة الخاصية فهي معرفة كل إنسان كيفية تدبير منزله وأمر معيشته ومراعاة أمر خدمه وغلمانه وأولاده ومماليكه وأقربائه، وعشرته مع جيرانه وصحبته مع إخوانه وقضاء حقوقهم، وتفقد أسبابهم والنظر في مصالحهم من أمور دنياهم وآخرتهم.
وأما السياسة الذاتية فهي معرفة كل إنسان نفسه وأخلاقه وتفقد أفعاله وأقاويله في حال شهواته وغضبه ورضاه والنظر في جميع أموره.
والخامس علم المعاد وهو معرفة ماهية النشأة الأخرى وكيفية انبعاث الأرواح من ظلمة الأجساد وانتباه النفوس من طول الرقاد وحشرها يوم المعاد وقيامها على الصراط المستقيم وحشرها لحساب يوم الدين ومعرفة كيفية جزاء المحسنين وعقاب المسيئين.
وقد عملنا في كل فصل من هذه العلوم التي تقدم ذكرها رسالة، وذكرنا فيها طرفا من تلك المعاني وأتممناها بالجامعة؛ ليكون تنبيها للغافلين وإرشادا للمريدين وترغيبا للطالبين ومسلكا للمتعلمين، فكن به يا أخي سعيدا، واعرض هذه الرسالة على إخوانك وأصدقائك، ورغبهم في العلم، وزهدهم في الدنيا، ودلهم على طريق الآخرة؛ فإنك بذلك تنال الزلفى من الله تعالى، وتستوجب رضوانه، وتفوز بسعادة الآخرة، وتبلغ به المرتبة العليا كما دل عليه قول النبي - عليه السلام: «الدال على الخير كفاعله.»
واعلم يا أخي بأن هذه الطريقة هي التي سلكها الأنبياء - صلوات الله عليهم - واتبعهم عليها الأخيار الفضلاء من العلماء والحكماء، فاجتهد لعلك تحشر في زمرتهم كما وعد الله تعالى، فقال:@QUR019 فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا * ذلك الفضل من الله، @QUR09 والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين، وفقك الله وإيانا أيها الأخ للسداد، وهدانا وإياك سبيل الرشاد.
الرسالة الثامنة في الصنائع العملية والغرض منها
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
وإذ قد فرغنا من ذكر الجواهر الجسمانية ووصفنا هيولاتها وصورها وتركيبها وما يعرض للمركب من الأغراض، وبينا أيضا كيفية إدراكها بطريق الحواس بتوسط أعراضها في رسائلنا «الطبيعيات» نريد أن نذكر في العقليات الجواهر الروحانية؛ لأنه لما كانت الموجودات كلها معقولة أو محسوسة، جواهر أو أعراضا أو مجموعا منهما؛ صورا أو هيولى، أو مركبا منهما؛ جسمانيا أو روحانيا، أو مقرونا بينهما؛ وكانت الجواهر الجسمانية منفعلة كلها، مدركة بطريق الحواس، والجواهر الروحانية فاعلة، ولا تدرك بطريق الحواس، ولا تعرف إلا بالعقل وبما يصدر عنها من الأفعال العقلية، والصنائع العملية بعد العلمية في الجواهر الجسمانية؛ احتجنا أن نذكر الصنائع العملية في الهيوليات وماهياتها وكمياتها وكيفياتها وكيفية إظهار صناعاتها في الهيوليات الموضوعة لها؛ ليكون أوضح في الدليل على إثبات الذوات الروحانية الفاعلة، وأبين لمعرفة جواهرها وفنون حركاتها وعجائب قوتها وغرائب علومها وبدائع صنائعها واختلاف أفعالها.
فاعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الصنائع البشرية نوعان علمية وعملية، وتقدم القول في العلمية فيما تقدم، فنقول: أولا ما العلوم؟ العلوم هي صور المعلومات في نفس العالم.
واعلم يا أخي بأن العلم لا يكون إلا بعد التعليم والتعلم، والتعليم هو تنبيه النفس العلامة بالفعل للنفس العلامة بالقوة، والتعلم هو تصور النفس لصورة المعلوم.
واعلم يا أخي بأن النفس إنما تنال صور المعلومات من طرقات ثلاث؛ إحداها طريق الحواس والأخرى طريق البرهان، والأخيرة طريق الفكر والروية، وقد عملنا في كل واحدة منها رسالة، فنريد أن نذكر الآن الصنائع العملية؛ فنقول:
إن الصنعة العملية هي إخراج الصانع العالم الصورة التي في فكره ووضعها في الهيولى، والمصنوع هو جملة مصنوعة من الهيولى والصورة جميعا، وابتداء ذلك من تأثير النفس الكلية فيها بقوة تأييد العقل الكلي بأمر الله - جل ثناؤه.
واعلم بأن المصنوعات أربعة أجناس: بشرية وطبيعية ونفسانية وإلهية، فالبشرية مثل ما يعمل الصناع من الأشكال والنقوش والأصباغ في الأجسام الطبيعية في أسواق المدن وغيرها من المواضع. والمصنوعات الطبيعية هي صور هياكل الحيوانات، وفنون أشكال النبات وألوان جواهر المعادن، والمصنوعات النفسانية مثل نظام مراكز الأركان الأربعة التي هي تحت فلك القمر، وهي النار والهواء والماء والأرض، ومثل تركيب الأفلاك ونظام صورة العالم بالجملة، والمصنوعات الإلهية هي الصور المجردة من الهيوليات المخترعات من مبدع المبدعات تعالى وجودا من العدم، ليس من ليس، وشيء لا من شيء، دفعة واحدة بلا زمان ولا مكان ولا هيولى ولا صورة ولا حركة؛ لأنها كلها مبدعات الباري ومخترعاته ومصنوعاته - فتبارك الله أحسن الخالقين وأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين.
واعلم يا أخي بأن كل صانع من البشر محتاج في تتميم صنعته إلى ستة أشياء مختلفة وهو السابع، وإلى سبع حركات وإلى سبع جهات، فأما الأشياء المختلفة فهي الهيولى والمكان والزمان والأداة والآلة والحركة والسابع النفس، وكل صانع طبيعي فمحتاج إلى أربعة منها، وهي الهيولى والمكان والزمان والحركة، وكل صانع نفساني فمحتاج إلى اثنين منها، وهما الهيولى والحركة حسب، وكل صانع عقلي فمحتاج إلى صورة واحدة فقط، وهو العقل الأول أثر من مبدع البدائع الحق، لا من شيء إلى شيء.
وأما الباري - جل ثناؤه - فغير محتاج إلى شيء منها؛ لأنها كلها مخترعاته ومبدعاته؛ أعني: الهيولى والصورة والمكان والزمان والحركة والآلة والأدوات كلها.
(1) فصل في الصورة والهيولى والأداة
واعلم يا أخي أن الجسم الواحد يسمى تارة هيولى وتارة موضوعا وتارة صورة وتارة مصنوعا وتارة آلة وتارة أداة، وإنما يسمى الجسم هيولى للصورة التي يقبلها، وهي الأشكال والنقوش والأصباغ وما شاكلها، ويسمى موضوعا للصانع الذي يعمل منه وفيه صنعته من الأشكال والنقوش، وإذا قبل ذلك سمي مصنوعا، وإذا استعمله الصانع في صنعته أو في صنعة أخرى يسمى أداة، مثال ذلك قطعة حديد، فإنه يقال لها هيولى لكل صورة تقبلها، ويقال لها أيضا إنها موضوع للحداد الذي يعمل فيها صنعته، وإذا صنع الحداد منه سكينا أو فأسا أو منشارا أو مبردا أو غير ذلك سمي مصنوعا، وإذا استعمل السكين القصاب أو غيره تسمى أداة، وهكذا الفأس وغيرها.
واعلم يا أخي أن موضوعات الصناع البشريين في صناعاتهم نوعان فقط: بسيط ومركب، فالبسيط أربعة أنواع، وهي النار والهواء والماء والأرض، والمركب ثلاثة أنواع، وهي الأجسام المعدنية والأجسام النباتية والأجسام الحيوانية، وهي كلها مصنوعات الطبيعة، كما أن موضوعات الطبيعة كلها مصنوعات نفسانية، وأن الموضوعات النفسانية كلها مصنوعات إلهية.
واعلم أن كل صانع من البشر لا بد له من أداة أو أدوات أو آلة أو آلات، يستعملها في صنعته، والفرق بين الآلة والأداة: أن الآلة هي اليد والأصابع والرجل والرأس والعين، وبالجملة أعضاء الجسد. وأن الأداة ما كانت خارجة من ذات الصانع كفأس النجار ومطرقة الحداد وإبرة الخياط وقلم الكاتب وشفرة الإسكاف وموس المزين، وما شاكل هذه من الأدوات التي يستعملها الصناع في صنائعهم ولا تتم صناعاتهم إلا بها.
واعلم بأن كل صانع له في صنعته أدوات مختلفة الأشكال والهيئات، وهذا أحد أسبابه في اختلاف أفعاله، وهو يظهر بكل واحد منها في صنعته ضروبا من الحركات وفنونا من الأفعال.
مثال ذلك النجار، فإنه بالفأس ينحت وحركته من فوق إلى أسفل وبالمنشار ينشر وحركته من قدام إلى خلف وبالمثقب يثقب وحركته قوسية يمنة ويسرة وحركة مثقبه دورية، وعلى هذا القياس يوجد في كل صنعة لصانعها سبع حركات؛ واحدة دورية وست مستقيمة، وذلك بواجب الحكمة الإلهية؛ لأنه لما كانت حركات الأجرام العلوية الفلكية سبعة أنواع؛ واحدة دورية بالقصد الأول وست عرضية كما بينا في رسالة «السماء والعالم»؛ صارت حركات الأشخاص التي تحت فلك القمر أيضا مماثلة لها؛ لأن تلك علل وهذه معلولات ومن شأن المعلولات أن يوجد فيها علتها وتأثيراتها، ومن أجل هذا قالت الحكماء إن الثواني من الأمور تحكي أوائلها كما يحكي الصبيان في لعبهم صناعة الآباء والأمهات والأستاذين.
واعلم يا أخي بأنه لا بد لكل صانع من البشر من تحريك عضو من أعضائه في صناعته أو عدة أعضاء كاليد والرجل والظهر والكتف والركبة.
وبالجملة: ما من عضو في الجسد إلا وللنفس بذلك العضو فعل أو عدة أفعال خلاف ما يكون بعضو آخر؛ فإن أعضاء الجسد هي آلات للنفس وأدوات لها، وقد بينا طرفا من ذلك في رسالة تركيب الجسد وفي رسالة الحاس والمحسوس، وفي رسالة العقل والمعقول، وفي رسالة الإنسان عالم صغير.
(2) فصل في أن موضوع الصناع نوعان
واعلم يا أخي بأنه لا بد في كل صنعة من موضوع يعمل الصانع منه وفيه صنعته، فالموضوع في صناعة البشريين نوعان: روحاني وجسماني، فالروحاني هو الموضوع في الصناعة العلمية - كما بينا في رسالة المنطق - والجسماني هو الموضوع في الصناعة العملية، وهو نوعان بسيطة ومركبة، فالبسيطة هي النار والهواء والماء والأرض، والمركبة ثلاثة أنواع، وهي الأجسام المعدنية والأجسام النباتية والأجسام الحيوانية.
فمن الصنائع ما هي الموضوع فيها الماء حسب، كصناعة الملاحين والسقائين والروائين والشرابين والسباحين ومن شاكلهم، ومنها ما هي الموضوع فيها التراب حسب، كصناعة حفار الآباء والأنهار والقني والقبور والمعادن، وكل من ينقل التراب ويقلع الحجارة، ومنها ما هي الموضوع فيها النار حسب كصناعة النفاطين والوقادين والمشعلين، ومنها ما هي الموضوع فيها الهواء حسب كصناعة الزمارين والبواقين والنفاخين أجمع، ومنها ما هي الموضوع فيها الماء والتراب حسب كصناعة الفخارين والغضارين والقدوريين وضرابي اللبن وكل من يبل التراب، ومنها ما هي الموضوع فيها أحد الأجسام المعدنية كصناعة الحدادين والصفارين والرصاصين والزجاجيين والصواغين ومن شاكلهم.
ومنها ما هي الموضوع فيها أصول النبات من الأشجار والقضبان والأوراق كصناعة النجارين والخواصين والبوارين والحصريين والأقفاصيين ومن شاكلهم، ومنها ما هي فيها لحاء النبات حسب، كصناعة الكتانين، ومن يعمل القنب والكاغد ومن شاكلهم، ومنها ما هي الموضوع فيها ورق الأشجار والحشائش وزهر النبات ونورها وعروقها وقشورها، ومنها ما هي الموضوع فيها ثمر الأشجار وحب النبات؛ كصناعة الدقاقين والرزازين والنوائيين والعصارين والبزارين والشيرجيين، وكل من يخرج الأدهان من ثمر الشجر وحب النبات.
ومنها ما هي الموضوع فيها الحيوان كصناعة الصيادين ورعاة الغنم والبقر وساسة الدواب والبياطرة وأصحاب الطيور ومن شاكلهم، ومنها ما هي الموضوع فيها أحد الأجسام الحيوانية من اللحم والعظم والجلد والشعر والصوف والقز؛ كصناعة القصابين والشوائين والطباخين والدباغين والأساكفة والخرازين والسيوريين والدنانين والحذائين ومن شاكلهم، ومن الصنائع ما هي الموضوع فيها مقادير الأجسام كصناعة الوزانين والكيالين والذراعين ومن شاكلهم، ومن الصنائع ما هي الموضوع فيها قيمة الأشياء كصناعة الصيارفة والدلالين والمقومين ومن شاكلهم.
ومن الصنائع ما هي الموضوع فيها أجساد الناس؛ كصناعة الطب والمزينين ومن شاكلهم، ومن الصنائع ما هي الموضوع فيها نفوس الناس؛ كصناعة المعلمين أجمع، وهي نوعان: عملية وعلمية، فالعلمية مثل ما ذكرنا في رسالة أجناس العلوم وأنواعها، مما قد شرحناه في إحدى وخمسين رسالة من رسائلنا والعملية مثل ما ذكرنا في ما تقدم.
(3) فصل في الحاجة إلى الآلات والأدوات
واعلم يا أخي أن من الصناع من يحتاج في صنعته إلى استعمال عضو من جسده أو عضوين، وأداة من خارج أو أدوات كثيرة كالحراث والبناء والدباغ والحائك وأمثالهم، فإن كل واحد منهم يحتاج إلى أدوات من خارج وتحريك يديه ورجليه في صناعته، ومن الصنائع ما لا يحتاج فيها إلى أدوات من خارج، بل يكفيه عضو من جسده كالخطيب والشاعر والقاضي والقارئ ومن شاكلهم، فإن كل واحد منهم يكفيه لسانه حسب.
وكذلك الناطور والديدبان وأصحاب المراتب يكفيهم في صناعتهم العينان حسب، ومنهم من يستعمل في صنعته عضوين كالحاكي والنائحة باليد واللسان، ومنهم من يحتاج إلى استعمال جسده كله كالرقاص والسابح، ومن الصناع من يحتاج في صنعته إلى المشي كالساعي والماسح، ومنهم من يحتاج إلى القعود دائما كالرفاء والنداف.
ومن الصناع من لا يحتاج في صناعته إلا إلى أداة واحدة كالبواق والزمار والدفاف، ومنهم من يحتاج إلى أداتين كالخياط والكاتب؛ فإن الخياط يكفيه في صنعته الإبرة والمقص، والكاتب يكفيه القلم والدواة، وأما استعمال الكاتب السكين فليس من صناعة الكتابة، ولكن من صناعة النجارة.
ومن الصناع من يحتاج إلى القيام دائما في صناعته كالحلاج ودقاق الأرز والذي يدير الدولاب برجليه.
(4) فصل في أن النار من الأدوات المفيدة في الصناعة
واعلم يا أخي بأن أكثر الصنائع لا بد من استعمال النار فيها، وكل صانع استعمل النار في صناعته فلأحد أسباب ثلاثة، إما في موضوعه كالحدادين والصفارين والزجاجين، ومن يطبخ الجص والنورة وأمثالهم وغرضهم هو تليين الهيولى لقبول الصورة والأشكال، وذلك أنه لما كانت موضوعاتهم أحجارا صلبة لا تقبل الصورة والأشكال إلا بعد تليين بالنار، فإذا لانت أمكن الصانع أن يصنع الصنعة التي في فكره، فتصير الهيولى بعد قبولها تلك الصورة مصنوعة.
ومن الصناع من يستعمل النار كالجرارين والقدوريين والغضارين ومن يطبخ الآجر، وغرضهم في ذلك تقييد الصورة في الهيولى وثباتها فيها؛ لئلا تنسل منها الصورة بالعجلة؛ لأن من شأن الهيولى دفع الصورة عن ذاتها ورجوعها إلى حالها الأول جوهرا بسيطا لا تركيب فيه ولا كمية ولا كيفية.
ومن الصناع من يستعمل النار في موضوعه ومصنوعه كالطباخين والشوائين والخبازين وأمثالهم، وغرضهم تتميمها وتنضيجها ليتم الانتفاع بها.
(5) فصل في مراتب الصناعات
واعلم يا أخي بأن من هذه الصنائع ما هي بالقصد الأول دعت الضرورة إليها، ومنها ما هي تابعة لها وخادمة، ومنها ما هي متممة لها ومكملة، ومن الصنائع ما هي جمال وزينة، فأما التي بالقصد الأول فثلاثة، وهي الحراثة والحياكة والبناء، وأما سائرها فتابعة وخادمة ومتممة؛ وذلك أن الإنسان لما خلق رقيق الجلد عريانا من الشعر والصوف والوبر والصدف والريش، وما هو موجود لسائر الحيوان دعته الضرورة إلى اتخاذ اللباس بصناعة الحياكة، ولما كانت الحياكة لا تتم إلا بصناعة الغزل وصناعة الغزل لا تتم إلا بصناعة الحلج؛ فصارت هذه الثلاثة تابعة لها وخادمة.
وأيضا لما كان اللباس لا يتم إلا بالحياكة حسب صارت صناعة الخياطة والقصارة والرفو والطرز متممة لها ومكملة، وأيضا لما خلق الإنسان محتاجا إلى القوت والغذاء، والقوت والغذاء لا يكونان إلا من حب النبات وثمر الشجر دعت الضرورة إلى صناعة الحراثة والغرس، ولما كانت صناعة الحراثة والغرس محتاجة إلى إثارة الأرض وحفر الأنهار، ولا يتم هذا إلا بالمساحي والفدن وما شاكلها، والمساحي والفدن لا تكون إلا بصناعة النجارة والحدادة؛ دعت الضرورة إلى اتخاذهما، وصناعة الحديد محتاجة إلى صناعة المعدن وإلى صنائع أخرى، فصارت كلها تابعة وخادمة لصناعة الحراثة والغرس.
ولما كان حب الزرع وثمر الشجر يحتاج إلى الدق والطحن؛ دعت الضرورة إلى اتخاذ صناعة الطحن والعصر، ولما كان الطحن لا يتم الغذاء به إلا بعد الخبز دعت الضرورة إلى صناعة الخبز والطبخ، وكل واحد منهما محتاج إلى صناعة أخرى متممة له وخادمة، وأيضا لما كان الإنسان محتاجا إلى ما يكنه من الحر والبرد، والتحرز من السباع وتحصين القوت؛ دعته الضرورة إلى صناعة البناء، وصناعة البناء محتاجة أيضا إلى صناعة النجارة والحدادة، وكل واحدة منهما محتاجة إلى صناعة أخرى معينة أو متممة بعضها لبعض.
وأما صناعة الزينة والجمال فهي كصناعة الديباج والحرير وصناعة العطر وما شاكلها، والصنائع كلها الحذق فيها هو تحصيل الصور في الهيولى وتتميمها وتكميلها؛ لينال الانتفاع بها في الحياة الدنيا حسب.
واعلم يا أخي أن الناس كلهم صناع وتجار أغنياء وفقراء، فالصناع هم الذين يعملون بأبدانهم وأدواتهم في مصنوعاتهم الصور والنقوش والأصباغ والأشكال، وغرضهم طلب العوض عن مصنوعاتهم لصلاح معيشة الحياة الدنيا، والتجار هم الذين يتبايعون بالأخذ والإعطاء، وغرضهم طلب الزيادة فيما يأخذونه على ما يعطون، والأغنياء هم الذين يملكون هذه الأجسام المصنوعة الطبيعية والصناعية، وغرضهم في جمعها وحفظها مخافة الفقر، والفقراء هم المحتاجون إليها وطلبهم الغنى.
واعلم أن الغرض في كون الناس أكثرهم فقراء، وخوف الأغنياء من الفقر؛ هو الحث لهم على الاجتهاد في اتخاذ الصنائع والثبوت فيها والتجارات، والغرض فيها جميعا هو إصلاح الحاجات وإيصالها إلى المحتاجين، والغرض في ذلك متاع لهم إلى حين، والغرض في تمتعهم إلى حين هو أن تتمم النفس بالمعارف الحقيقية والأخلاق الجميلة والآراء الصحيحة والأعمال الزكية، والغرض في تتميم النفس التمكين لها من الصعود إلى ملكوت السماء، والغرض في صعودها إلى ملكوت السماء هو النجاة من بحر الهيولى وأسر الطبيعة والخروج من هاوية عالم الكون والفساد إلى فسحة عالم الأرواح والمكث هناك فرحا مسرورا ملتذا مخلدا أبدا.
(6) فصل في أن كل صناعة تحتاج إلى الفكر والتعقل
واعلم يا أخي أنا إنما ذكرنا هذه الصنائع والمهن ونسبنا هذه الرسالة إلى رسائل العقل والمعقول؛ لأن هذه الصنائع يعملها الإنسان بعقله وتمييزه ورويته وفكرته التي كلها قوى روحانية عقلية، وأيضا إن كل عاقل إذا فكر في هذه الصنائع والأفعال التي تظهر على أيدي البشر، فيعلم أن مع هذا الجسد جوهرا آخر هو مظهر هذه الأفعال المحكمة، وهذه الصنائع المتقنة من هذا الجسد؛ لأن الجسد قد يوجد بعد الممات برمته تاما لم ينقص منه شيء، وقد فقدت منه هذه كلها، فيعلم أن معه جوهرا آخر فارقه، فمن أجل ذلك فقدت هذه الفضائل كلها؛ لأنه هو الذي يحرك هذا الجسد وينقله من موضع إلى موضع في الجهات الست.
وكان يحرك أيضا بتوسطه أشياء خارجة من ذاته، وكان أيضا يحمل معه حملا على ظهره وكتفه، فلما فارقه احتاج هذا الجسد إلى أربعة نفر يحملونه على لوح مطروحا عليه لا يطيق قياما ولا قعودا ولا حركة ولا يحس بوجوده ولا ما يفعل به من غسل ودفن.
وقد زعم كثير من أهل العلم ممن ليست له خبرة بأمر النفس ولا معرفة بجوهرها؛ أن هذه الصنائع المحكمة والأفعال المتقنة التي تظهر على أيدي البشر الفاعل لها هو هذا الجسد المؤلف من اللحم والدم والشحم والعظام والعصب بأعراض تحله مثل الحياة والقدرة والعلم وما شاكلها، ولم يعرفوا أن هذه الأعراض ليس حلولها في الجسم، وإنما هي أعراض نفسانية تحل جوهر النفس، وذلك أن الإنسان لما كان مجموعا من جسم ميت ونفس حية، وجدت هذه الأعراض في حال حياته وفقدت في حال مماته وليست الحياة شيئا سوى استعمال النفس الجسد، ولا الممات شيئا سوى تركها استعماله، كما أنه ليست اليقظة سوى استعمالها الحواس الخمس ولا النوم شيئا سوى تركها استعمالها.
(7) فصل في شرف الصنائع
اعلم يا أخي بأن الصنائع يتفاضل بعضها على بعض من عدة وجوه؛ إحداها من جهة الهيولى التي هي الموضوع فيها، ومنها من جهة مصنوعاتها، ومنها من جهة الحاجة الضرورية الداعية إلى اتخاذها، ومنها من جهة منفعة العموم، ومنها من جهة الصناعة نفسها. فأما التي شرفها من جهة الحاجة الضرورية إليها فهي ثلاثة أجناس، وهي: الحياكة والحراثة والبناء كما ذكرنا قبل. وأما التي شرفها من جهة الهيولى الموضوع فيها فمثل صناعة الصاغة والعطارين وما شاكلها. وأما التي من جهة مصنوعاتها فمثل صناعة الذين يعملون آلات الرصد، مثل الأسطرلاب وذوات الحلق والأكر الممثلة بصورة الأفلاك وما شاكلها؛ فإن قطعة من الصفر قيمتها خمسة دراهم إذا عمل منها أسطرلاب يساوي مائة درهم، فإن تلك القيمة ليست للهيولى، ولكن لتلك الصورة التي جعلت فيها.
وأما الذهب والفضة اللذان هما الهيولى الموضوع في صناعة الصواغين أو الضرابين إذا ضرب منهما دراهم ودنانير أو صياغة ما، فليس مبلغ تفاوت القيمة ما بين الموضوع والمصنوع مثل ما يبلغ في صناعة أسطرلاب وغيرها.
وأما التي شرفها من جهة النفع منها للعموم فهي مثل صناعة الحمامين والسمادين والكناسين وغيرهم ، وذلك أن الحمام المنفعة منه للصغير والكبير والشريف والوضيع والمدني والغريب والقريب والبعيد كلهم بالسوية لا يتفاضلون في الانتفاع به.
وأما أكثر الصنائع فأهلها متفاوتون في منافعها كاختلافهم في الملبوسات والمأكولات والمشروبات والمسكونات وأمثالها من الأمتعة المصنوعة، حال الغني فيها خلاف حال الفقير إلا الحمام المزين وأمثالهما، وأما صناعة السمادين والزبالين فإن الضرر في تركها عظيم عام على أهل المدينة؛ وذلك أن العطارين الذين الموضوع في صناعاتهم مضاد للموضوع في صناعة السمادين لو أنهم أغلقوا دكاكينهم وأسواقهم شهرا واحدا لم يلحق من ذلك من الضرر لأهل المدينة مثل ما يلحق من الضرر من ترك السمادين صناعاتهم أسبوعا واحدا؛ فإن المدينة تمتلئ من السماد والسرقين والجيف والقاذورات وما يتنغص عيش أهلها من أجله.
وأما التي شرفها من الصناعة نفسها فهي مثل صناعة المشعبذين والمصورين والموسيقيين وأمثالهم، وذلك أن الشعبذة ليست شيئا سوى سرعة الحركة وإخفاء الأسباب التي يعملها الصانع فيها حتى إنه مع ضحك السفهاء منها يتعجب العقلاء أيضا من حذق صانعها. وأما صناعة المصورين فليست شيئا سوى محاكاتهم صور الموجودات المصنوعات الطبيعية أو البشرية أو النفسانية، حتى إنه يبلغ من حذقهم فيها أن تصرف أبصار الناظرين إليها عن النظر إلى الموجودات أنفسها بالتعجب من حسنها ورونق منظرها، ويبلغ أيضا التفاوت بين صناعها تفاوتا بعيدا، فإنه يحكى أن رجلا في بعض المواضع عمل صورا وتماثيل مصورة بأصباغ صافية وألوان حسنة براقة، وكان الناظرون إليها يتعجبون من حسنها ورونقها، ولكن كان في الصنعة نقص حتى مر بها صانع فاره حاذق، فتأملها فاستزرى بها وأخذ فحمة من الطريق ومثل بجانب تلك التصاوير صورة رجل زنجي كأنه يشير بيديه إلى الناظرين، فانصرفت أبصار الناظرين بعد ذلك عن النظر إلى تلك التصاوير والأصباغ بالنظر إليه والتعجب من عجيب صنعته وحسن إشارته وهيئة حركته.
وأما شرف صناعة الموسيقى فمن وجهين اثنين: أحدهما من جهة الصناعة نفسها، والآخر من جهة تأثيراتها في النفوس، وأيضا من جهة تفاوت ما بين صناعها؛ وذلك أن الواحد منهم يضرب لحنا فيطرب بعض المستمعين وآخر يضرب لحنا فيطرب كل المستمعين، وقد يحكى أن جماعة من أهل هذه الصناعة كانوا مجتمعين في دعوة رجل كبير رئيس؛ إذ دخل عليهم إنسان رث الحال عليه ثياب النساك، فرفعه صاحب المجلس عليهم كلهم، فتبين الإنكار في وجوههم فأراد أن يبين فضله، فسأله أن يسمعهم شيئا من صنعته، فأخرج خشبات وركبها تركيبا ومد عليها أوتارا كانت معه وحركها تحريكا، فأضحك كل من كان في المجلس من اللذة والفرح، ثم قلب وحرك تحريكا آخر، فأبكى كل من كان في المجلس من الحزن ورقة القلب، ثم قلب وحرك تحريكا فنوم كل من كان في المجلس، وقام وخرج فلم يعرف له خبر!
واعلم يا أخي بأن الحذق في كل صنعة هو التشبه بالصانع الحكيم الذي هو الباري - جل ثناؤه - ويقال إن الله تعالى يحب الصانع الفاره الحاذق، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله تعالى يحب الصانع المتقن في صنعته، ومن أجل هذا قيل في حد الفلسفة إنها التشبه بالإله بحسب طاقة الإنسان، وإنما أردنا بالتشبه التشبه في العلوم والصنائع وإفاضة الخير؛ وذلك أن الباري - جل ثناؤه - أعلم العلماء وأحكم الحكماء وأصنع الصناع وأفضل الأخيار، فكل من زاد في هذه الأشياء درجة ازداد من الله قربة، كما ذكر الله سبحانه في وصف الملائكة الذين هم خالص عباده؛ فقال: @QUR08 يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته.
واعلم يا أخي أن الوسيلة لا تكون إلا بعمل أو علم أو عبادة؛ لأن العباد لا يملكون شيئا سوى سعيهم كما ذكر الله - عز وجل - فقال: @QUR011 وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى.
(8) فصل في قابلية الإنسان الصنعة
واعلم أن قبول الصبيان تعلم الصنائع يختلف بحسب طباعهم المختلفة واختلاف طباعهم بحسب مواليدهم، وقد شرحنا ذلك في رسالة تأثيرات النجوم في المواليد، ولكن نريد أن نذكر ها هنا من ذلك طرفا، فاعلم أن من الناس من هو مطبوع على تعلم صناعة واحدة أو عدة صنائع بسهولة في قبولها حتى إن كثيرا من الناس من يتعلم صناعة بجودة قريحته، إذا رأى أهل تلك الصناعة في أعمالهم بأدنى تأمل كأنه قد وقف عليها، ومنهم من يحتاج إلى توقيف شديد وحث دائم وترغيب، وربما لا يفلح فيها إذا لم يكن فيها موافقا للطبيعة، وما أوجبه له مولده، ومن الناس من لا يتعلم الصناعة البتة، ويكون فارغا خلوا منها جميعا، والسبب في ذلك أن الصناعة لا تأتي للمولود إلا بدلالة كوكب متول لبرج العاشر من طالعه؛ وذلك أنه إذا استولى عليه من أحد الكواكب الثلاثة واحد فلا بد من صنعة يتعلمها، وهي المريخ والزهرة وعطارد؛ وذلك أن كل صنعة فلا بد لها من حركة ونشاط وحذق، فالحركة للمريخ والنشاط للزهرة والحذق لعطارد.
وأربعة منها إذا انفرد أحدها بالدلة فلا يعطي الصنعة ولكن يدل على ما يشاكله من الأعمال، وهي الشمس وزحل والمشتري والقمر؛ وذلك أن من استولى عليه في مولده على الدرجة العاشرة الشمس، فهو لا يتعلم الصناعة لكبر نفسه مثل أولاد الملوك، وأما من استولى عليه المشتري فهو لا يتعلم ولا يعمل لزهده وورعه ورضاه بقليل من أمور الدنيا وإقباله على طلب الآخرة مثل الأنبياء - عليهم السلام - ومن يقتدي بهم.
وأما من استولى عليه زحل فإنه لا يعمل ولا يتعلم لكسله وثقل طبيعته عن الحركة ويرضى بالذل والهوان في طلب معاشه كالمكدين والسؤال، وأما من استولى عليه القمر فإنه لا يعمل من أجل مهانته واسترخاء طبيعته وقلة فهمه مثل النساء وأمثالهن من الرجال.
ومن أجل هذا كان اليونانيون الذين كانوا في قديم الزمان إذا أرادوا تسليم الصبي إلى صناعة من الصنائع اختاروا له يوما من الأيام وأدخلوه إلى هيكل الصنائع وصور سائر الكواكب وقربوا قربانا لصنم ذلك الكوكب الذي دل على صناعته وسلموه إلى تلك الصناعة بعد ما عرفوا ذلك من مولده، وإن لم يكونوا عرفوه من مولده عرضوا عليه الصنائع المصورة في ذلك الهيكل، فإن رغب في واحدة منها بعد توقيفهم له على أحوال تلك الصنعة سلموه إليها.
واعلم يا أخي بأن صناعة الآباء والأجداد أنجع في الأولاد من صناعة الغرباء، وخاصة من دل مولده عليها، ويكونون فيها أحذق وأنجب. ومن أجل هذا أوجبوا في سياسة أزدشير بن بابكان على أهل كل طبقة من الناس لزوم صناعة آبائهم وأجدادهم قطعا وأن لا يتجاوزوها، وزعموا أن ذلك فرض من الله - عز وجل - في كتاب زرادشت.
واعلم بأن هذا كله صيانة للملك أن لا يرغب فيه من ليس من أهله؛ لأنه إذا كثر الطالبون للملك كثر التنازع بينهم، وإذا كثر التنازع كثر الشغب، واضطربت الأمور، وانفسد النظام، وفساد النظام يتبعه البوار والبطلان.
(9) فصل في الغرض من الملك
واعلم بأن الغرض من الملك هو حفظ الناموس على أهله أن لا يندرس بتركهم القيام بموجباته؛ لأن أكثر أهل الشرائع النبوية والفلسفية لولا خوف السلطان لتركوا الدخول تحت أحكام الناموس وحدوده وتأدية فرائضه واتباع سنته واجتناب محارمه واتباع أوامره ونواهيه.
واعلم بأن الغرض من حفظ الناموس هو طلب صلاح الدين والدنيا جميعا، فمتى ترك القيام بواجباته انفسدا جميعا وبطلت الحكمة، ولكن السياسة الإلهية والعناية الربانية لا تتركهما ينفسدان؛ لأنها هي العلة الموجبة لوجودهما وبقائهما ونظامهما وتمامهما وكمالهما، وكل صورة في المصنوع فإنها أولا تكون في فكر الصانع وعلمه.
(10) فصل في أن الجسم لا يتحرك من ذاته
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن موضوعات الصناع ومصنوعاتهم وآلاتهم وأدواتهم وأجسادهم كلها أجسام، والجسم من حيث الجسمية ليس بمتحرك والأفعال لا تكون إلا بالحركة، فالمحرك للأجسام جوهر آخر وهو الذي نسميه نفسا، والنفوس من حيث النفسية جوهر واحد، كما أن الأجسام من حيث الجسمية جوهر واحد، وإنما تختلف النفوس بحسب اختلاف قواها واختلاف قواها بحسب اختلاف أفعالها ومعارفها وأخلاقها، كما أن اختلاف الأجسام بحسب اختلاف أشكالها، واختلاف أشكالها بحسب اختلاف أعراضها.
واعلم بأن نفس العالم نفس واحدة، كما أن جسمه جسم واحد بجميع أفلاكه وكواكبه وأركانه ومولداته، ولكن لما كانت لنفس العالم أفعال كلية بقوى كلية، وأفعال جنسية بقوى جنسية، وأفعال نوعية بقوى نوعية، وأفعال شخصية بقوى شخصية، وهي حركتها من المشرق إلى المغرب وبالعكس، ومن الشمال إلى الجنوب وبالعكس، ومن فوق إلى أسفل وبالعكس؛ سميت هذه القوى بأفعالها نفوسا جنسية ونوعية وشخصية، فتكثرت النفوس بحسب قواها المختلفة، وتكثرت قواها بحسب أفعالها المفتنة، كما تكثر جسم العالم بحسب اختلاف أشكاله، وتكثر أشكاله بحسب اختلاف أعراضه، فأفعال نفس العالم الكلية هي إدارتها الأفلاك والكواكب من المشرق إلى المغرب بالقصد الأول وتسكينها مركزها الخاص بها، وأفعالها الجنسية ما يختص بكل فلك وكل كوكب من الحركات الست العارضة، كما بينا في رسالة السماء والعالم، وما يختص أيضا بالأركان الأربعة التي تحت فلك القمر من الحركات الطبيعية، كما بينا في رسالة الكون والفساد.
وأفعالها النوعية ما يختص بالكائنات المولدات التي هي الحيوان والنبات والمعادن وأفعالها الشخصية التي تظهر من أشخاص الحيوانات وما يجري على أيدي البشر من الصنائع التي تقدم ذكرها.
واعلم يا أخي بأن النفس جوهرة روحانية حية بذاتها، فإذا قارنت جسما من الأجسام صيرته حيا مثلها، كما أن النار جوهرة جسمانية حارة بذاتها، فإذا جاورت جسما من الأجسام صيرته حارا مثلها، واعلم بأن للنفس قوتين اثنتين؛ إحداهما علامة والأخرى فعالة، فهي بقوتها العلامة تنزع رسوم المعلومات من هيولاها وتصورها في ذاتها، فتكون ذات جواهرها لتلك الرسوم كالهيولى، وهي فيها كالصورة وبقوتها الفعالة تخرج الصور التي في فكرها، وتنقشها في الهيولى الجسماني، فيكون الجسم عند ذلك مصنوعا لها، وكل متعلم علما فإن صورة المعلوم في نفسه بالقوة، فإذا تعلمها صارت فيها بالفعل.
وهكذا كل متعلم صنعة فإن صور المصنوعات في نفسه بالقوة، فإذا تعلمها صارت فيها بالفعل، والتعلم ليس شيئا سوى الطريق من القوة إلى الفعل، والتعليم ليس شيئا سوى الدلالة على الطريق.
والأستاذون هم الأدلاء وتعليمهم هو الدلالة، والتعلم هو الطريق، والمعلوم هو المطلوب المدلول عليه، فنفوس الصبيان علامة بالقوة، ونفوس الأستاذين علامة بالفعل، وكل نفس علامة بالقوة لا بد لها من نفس علامة بالفعل تخرجها من القوة إلى الفعل.
واعلم يا أخي بأن كل صانع من البشر لا بد له من أستاذ يتعلم منه صنعته أو علمه، وذلك الأستاذ من أستاذ له قبل، وهكذا حتى ينتهي إلى واحد ليس علمه من أحد من البشر، فيكون عند ذلك أحد الأمرين، إما أن نقول: إنه استخرجه بقوة نفسه وفكره ورويته واجتهاده - كما يزعم المتفلسفون - وإما أن نقول: إنه أخذه عن موقف له ليس من البشر كما يقول الأنبياء - صلوات الله عليهم.
واعلم يا أخي علما يقينا أنه ليس من البشر أحد يحيط بعلم من العلوم لا الأنبياء ولا الفلاسفة ولا غيرهم إلا بما شاء الذي وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم؛ وذلك أن الذين زعموا أنهم استخرجوا العلوم والصنائع بقوة عقولهم وجودة فكرهم ورويتهم لولا أنهم رأوا وشاهدوا مصنوعات الطبيعة، فاعتبروها وقاسوا عليها، وكان ذلك لهم كالتعليم من الطبيعة؛ لما اهتدوا إلى شيء منها، والطبيعة أيضا لولا أنها مؤيدة بالنفس الكلية، والنفس الكلية لولا إنها مؤيدة بالعقل الكلي الذي هو أول الموجودات من الباري سبحانه، والباري سبحانه هو المؤيد للكل كيف شاء الذي هو صانع الأسباب، والمؤيد للب ذوي الألباب.
وإذ قد فرغنا من ذكر الصنائع البشرية وموضوعاتها وأغراضها وشرفها ومنافعها؛ فقد بينا أن خير صناعة تبلغ إليها طاقة البشر وضع الناموس الإلهي، وقد ذكرنا كيفيتها وشرائطها في رسالة الناموس الإلهي، فاجتهد يا أخي في معرفة أسراره؛ لعل نفسك تنتبه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة وتحيا بروح المعارف العقلية، فتعيش بعيش العلماء الربانيين وتنال نعيم عالم الروحانيين في جوار الملائكة المقربين مخلدا أبد الآبدين، فإن لم يستو لك ذلك فكن خادما في الناموس بحفظ أحكامه والقيام بحدوده، فلعلك تنجو بشفاعة أهله من بحر الهيولى وأسر الطبيعة وهاوية عالم الجسام بالكون والفساد ذوي الآلام، وفقك الله وإيانا أيها الأخ للرشاد وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد، إنه كريم جواد، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على رسوله وآله.
الرسالة التاسعة في بيان الأخلاق وأسباب اختلافها وأنواع عللها ونكت من آداب الأنبياء، وزبد من أخلاق الحكماء
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
وإذ قد فرغنا من ذكر الجواهر الجسمانية ووصفنا هيولاتها وصورها وتركيبها.
وإذ فرغنا من ذكر تصاريف الأحوال بالإنسان في الرحم من يوم مسقط النطفة إلى يوم ولادة الجسد، وبينا كيف ينضاف إلى خلقة الجنين قوى روحانيات الكواكب، وكيف تنطبع في جبلته الأخلاق المختلفة المركوزة في الطبيعة تسعة أشهر شهرا بعد شهر الذي هو المكث الطبيعي إلى يوم ولادة الطفل، واستئناف الإنسان العمر في الحياة الدنيا مائة وعشرين سنة الذي هو العمر الطبيعي في رسالة مسقط النطفة؛ فنريد أن نذكر في هذه الرسالة ما ينضاف إلى تلك الطباع المركوزة في الأخلاق المكتسبة بعد الولادة بالعادات الجارية والأسباب الداعية المولدة لها، إما زائدة عليها أو ناقصة عنها في تصاريف أيام الحياة الدنيا إلى يوم الممات الذي هو مفارقة النفس الجسد وولادتها الثانية التي هي النشأة الأخرى، كما ذكر الله - جل ثناؤه - بقوله: @QUR06 ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون يعني: النشأة الآخرة، وقال تعالى: @QUR05 وننشئكم في ما لا تعلمون وقال الله - عز وجل: @QUR011 ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير.
(1) فصل في قابلية الإنسان جميع الأخلاق
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الله - جل ثناؤه - لما أراد أن يجعل في الأرض خليفة له من البشر؛ ليكون العالم السفلي الذي هو دون فلك القمر عامرا بكون الناس فيه، مملوءا من المصنوعات العجيبة على أيديهم، محفوظا على النظام والترتيب بالسياسات الناموسية والملكوتية والفلسفية والعامية والخاصية جميعا؛ ليكون العالم باقيا على أتم حالاته وأكمل غاياته، كما ذكر في السفر الرابع من صحف هرمس وهو إدريس النبي - عليه السلام - وذكرناه في الرسالة الجامعة، وأشرنا إليه في رسائلنا، وكما سنبين في هذه الرسالة.
فبدأ أولا ربنا تعالى فبنى لخليفته هيكلا من التراب عجيب البنية، ظريف الخلقة، مختلف الأعضاء، كثير القوى، ثم ركبها وصورها في أحسن صورة من سائر الحيوانات؛ ليكون بها مفضلا عليها، مالكا لها، متصرفا فيها كيف يشاء، ثم نفخ فيه من روحه، فقرن ذلك الجسد الترابي بنفس روحانية من أفضل النفوس الحيوانية وأشرفها؛ ليكون بها متحركا حساسا دراكا علاما عاملا فاعلا ما يشاء.
ثم أيد نفسه بقوى روحانية سائر الكواكب في الفلك؛ ليكون متهيئا له بها، وممكنا له قبول جميع سائر الأخلاق، وتعلم جميع العلوم والآداب والرياضيات والمعارف والسياسات، كما مكنه وهيأ له بأعضاء بدنه المختلفة الأشكال والهيئات تعاطي جميع الصنائع البشرية والأفعال الإنسانية والأعمال الملكية.
وذلك أنه قد جمع في بنية هيكله جميع أخلاط الأركان الأربعة وكل المزاجات التسعة في غاية الاعتدال؛ ليكون بها متهيئا وقابلا لجميع أخلاق الحيوانات وخواص طباعها؛ كل ذلك كيما يسهل عليه ويتهيأ له إظهار جميع الأفعال والصنائع العجيبة والأعمال المتقنة المختلفة والسياسات المحكمة؛ إذ كان إظهارها كلها بعضو واحد وأداة واحدة وخلق واحد ومزاج واحد؛ يتعذر على الإنسان، كما بينا في رسالة الصنائع البشرية.
والغرض من هذه كلها هو أن يتمكن للإنسان ويتهيأ له التشبه بإلهه وباريه الذي هو خليفته في أرضه وعامر عالمه، ومالك ما فيه وسائس حيوانها ومربي نباتها ومستخرج معادنها ومتحكم ومتسلط على ما فيها، ليدبرها تدبيرات سياسية ويسوسها سياسة ربوبية، كما رسم له الوصايا الناموسية والرياضات الفلسفية؛ كل ذلك كيما تصير نفسه بهذه العناية والسياسة والتدبير ملكا من الملائكة المقربين، فينال بذلك الخلود في النعيم أبد الآبدين ودهر الداهرين، كما ذكر في بعض كتب أنبياء بني إسرائيل، قال الله تعالى: «يا ابن آدم خلقتك للأبد، وأنا حي لا أموت؛ أطعني فيما أمرتك به، وانته عما نهيتك عنه؛ أجعلك حيا لا تموت أبدا، يا ابن آدم أنا قادر على أن أقول للشيء: كن فيكون؛ أطعني فيما أمرتك به، وانته عما نهيتك عنه؛ أجعلك قادرا على أن تقول للشيء: كن فيكون.»
وإذ قد تبين بما ذكرنا ما الغرض وما المراد من وجود الأخلاق المختلفة في جبلة الإنسان وطبيعته؛ فنريد أن نذكر العلل والأسباب التي بها ومن أجلها تختلف أخلاق البشر وسجاياهم: كم هي، وما هي، وكيف هي؟ إذ قد تبين فيما تقدم: لم هي؟
(2) فصل في وجوه اختلاف الأخلاق
اعلم يا أخي أن أخلاق الناس وطبائعهم تختلف من أربعة وجوه؛ أحدها من جهة أخلاط أجسادهم ومزاج أخلاطها، والثاني من جهة تربة بلدانهم واختلاف أهويتها، والثالث من جهة نشوئهم على ديانات آبائهم ومعلميهم وأستاذيهم ومن يربيهم ويؤدبهم، والرابع من جهة موجبات أحكام النجوم في أصول مواليدهم ومساقط نطفهم، وهي الأصل وباقيها فروع عليه، ونحتاج إلى شرح هذا الباب؛ ليتبين صدق ما قلنا وحقيقة ما وصفنا، ونبدأ أولا بذكر العلل والأسباب التي تكون من جهة أخلاط الجسد وتغيرات أمزجتها من الاعتدال والزيادة والنقصان، وما يتبعها من الخلاق والسجايا المختلفة المتضادة.
(3) فصل في اختلاف الأخلاق من جهة الأخلاط
اعلم يا أخي بأن المحروري الطباع من الناس وخاصة مزاج القلب يكونون على الأمر الأكثر شجعان القلوب، أسخياء النفوس، متهورين في الأمور المخوفة، قليلي الثبات والتأني في الأمور، مستعجلي الحركة، شديدي الغضب، سريعي المراجعة، قليلي الحقد، أذكياء النفوس، حادي الخواطر، جيدي التصور. والمبرودين في الأمر الأكثر يكونون بليدي الذهن، غليظي الطباع، ثقيلي الأرواح، غير نضيجي الأخلاق، والمرطوبين يكونون في أكثر الأمر ذوي طباع بليدة وقلة ثبات في الأمور، ليني الجانب، سمحاء النفوس، طيبي الأخلاق، سهلي القبول، سريعي النسيان، مع كثرة تهور في الأمور الطبيعية. واليابسي المزاج يكونون في أكثر الأمور صابرين في الأعمال، ثابتي الرأي، عسري القبول، الغالب عليهم الصبر والحقد والبخل والإمساك والحفظ.
(4) فصل في خلق آدم عليه السلام - كما وجد في بعض كتب بني إسرائيل
وجد في بعض كتب أنبياء بني إسرائيل من صفة خلقة آدم وتكوين جسده أن الله - عز وجل - حين ابتدعه واخترعه قال: إني خلقت آدم وركبت بدنه من أربعة أشياء، ثم جعلتها وراثة في ولده وذريته تنشأ في أجسادهم، وينمون عليها إلى يوم القيامة، ركبت جسده من رطب ويابس وحار وبارد، وذلك أني خلقته من تراب وماء، ثم نفخت فيه نفسا وروحا فيبوسة جسده من قبل التراب، ورطوبته من قبل الماء، وحرارته من النفس، وبرودته من الروح . ثم جعلت في الجسد بعد هذا أربعة أنواع أخر، هن ملاك أمور الجسد لا يقوم الجسد إلا بهن، ولا تقوم واحدة منهن إلا بالأخرى، فمنهن المرة السوداء، والمرة الصفراء، والدم والبلغم، ثم أسكنت بعضها في بعض، فجعلت مسكن اليبوسة في المرة السوداء، والحرارة في المرة الصفراء، والرطوبة في الدم، والبرودة في البلغم، فأيما جسد اعتدلت فيه هذه الأربعة الأخلاط التي جعلتها ملاكه وقوامه، وكانت كل واحدة منهن ربعا لا تزيد ولا تنقص، كملت صحته، واعتدلت بنيته، وإن زادت واحدة منهن على أخواتها وقهرتهن ومالت بهن، دخل السقم على الجسد من ناحيتها بقدر ما زادت، وإذا كانت ناقصة ضعفت طاقتها عن مقاومتهن فغلبنها ودخل السقم على الجسد من نواحيهن بقدر قلتها عنهن وضعف طاقتها عن مقاومتهن.
ثم علمته الطب وكيفية الدواء وكيف يزيد في الناقص أو ينقص في الزائد حتى يعتدل ويستقيم أمر الجسد، فالطبيب الماهر العالم بالداء والدواء هو الذي يعرف من أين دخل السقم على الجسد من الزيادة والنقصان ويعلم الدواء الذي يعالج به، فيزيد في ناقصها وينقص من زائدها حتى يستقيم أمر الجسد على فطرته ويعتدل الشيء بأقرانه.
ثم صيرت هذه الأخلاط التي ركبت عليها الجسد فطرا وأصولا عليها تبنى أخلاق بني آدم وبها توصف، فمن التراب العزم، ومن الماء اللين، ومن الحرارة الحدة، ومن البرودة الأناة، فإن مالت به اليبوسة، وأفرطت كانت عزمته قساوة وفظاظة، وإن مالت به الرطوبة كان لينه توانيا ومهانة، وإن مالت به الحرارة كانت حدته طيشا وسفاهة، وإن مالت به البرودة كانت أناءته ريثا وبلادة، وإن اعتدلت وكن سواء اعتدلت أخلاقه، واستقام أمره، وكان عازما في أناته لينا في عزمه، هادئا في لينه، متأنيا في حدته، لا يغلبه خلق من أخلاقه، ولا تميل به طبيعة من أخلاطه عن المقدار المعتدل من أيها شاء استكثر، ومن أيها شاء قلل وكيف شاء عدل.
ثم نفخت فيه من روحي، وقرنت بجسده نفسا وروحا، فبالنفس يسمع ابن آدم ويبصر ويشم ويذوق ويلمس ويحس ويأكل ويشرب وينام ويقعد ويضحك ويبكي ويفرح ويحزن، وبالروح يعقل ويفهم ويدري ويتعلم ويستحي ويحلم ويحذر ويتقدم ويمنع ويتكرم ويقف ويهجم، فمن النفس تكون حدته وخفته وشهوته ولعبه ولهوه وضحكه وسفهه وخداعه ومكره وعنفه وخرقه، ومن الروح يكون حلمه ووقاره وعفافه وحياؤه وبهاؤه وفهمه وتكرمه وحذقه وصدقه ورفقه وصبره.
فإذا خاف ذو اللب أن يغلب عليه خلق من أخلاق النفس، قابله بضده من أخلاق الروح، وألزمه إياه فيعدله به ويقومه، فيقابل الحدة بالحلم والخفة بالوقار والشهوة بالعفاف واللعب بالحياء، واللهو بالبهاء، والضحك بالهم، والسفه بالكرم، والخداع بالشجاعة، والكذب بالصدق، والعنف بالرفق، والنزق بالصبر، والخرق بالأناة؛ إذ كل مرض يعالج بضده، ومن التراب تكون قساوته وبخله وفظاظته وشحه ويأسه وقنوطه وعزمه وإصراره، ومن الماء يكون لينه وسهولته واسترساله ومعروفه وتكرمه وسماحته وقوته وقربه وقبوله ورجاؤه واستبشاره.
فإذا خاف ذو اللب أن يغلب عليه خلق من أخلاقه الترابية؛ قابله بضده من الأخلاق المائية، وألزمه إياه ليعدله ويقومه، فيقابل القسوة باللين، والبخل بالعطاء، والفظاظة بالبشر، والشح بالكرم، واليأس بالرجاء، والقنوط بالاستبشار، والعزم بالقبول، والإصرار بالعدل.
واعلم يا أخي بأن لكل خلق من الأخلاق أخوات مشاكلات، ولهن أضداد مخالفات، ولهن كلهن أفعال متباينات متضادات تحتاج إلى شرح لتبين وتعرف؛ لأن هذا الباب من العلوم الشريفة والمعارف اللطيفة؛ إذ كان من هذا الفن تعرف أخلاق الكرام من بني آدم، وأخلاق الملائكة الذين هم سكان الجنان كما ذكر الله تعالى، فقال: @QUR02 كراما كاتبين و@QUR02 كرام بررة، ومن هذا الباب تعرف أيضا أخلاق الشياطين الذين هم أهل النيران كما ذكر الله تعالى بقوله: كلما دخلت أمة لعنت أختها وقالوا لا مرحبا بهم إنهم صالو النار؛ وإذ قد تبين بما ذكرنا طرف من الأسباب المؤدية إلى اختلاف أخلاق الإنسان من جهة مزاج أخلاط جسده؛ فنريد أيضا أن نذكر طرفا من الأسباب التي تكون من جهة اختلاف تربة البلاد وتغييرات أهويتها المؤدية إلى اختلاف الأخلاق.
(5) فصل في تأثير طبيعة البلدان في الأخلاق
واعلم يا أخي بأن ترب البلاد والمدن والقرى تختلف وأهويتها تتغير من جهات عدة، فمنها كونها في ناحية الجنوب أو الشمال أو الشرق أو الغرب أو على رءوس الجبال أو في بطون الأودية والأغوار أو على سواحل البحار، أو شطوط الأنهار أو في البراري والقفار أو في الآجام والدحال والأرض ذات الرملة والأرضين السباخ السهلة، أو في البقاع الصخرية والحجارة والحصى والرمال أو في الأرضين السهلة والتربة اللينة بين الأنهار والأشجار والزروع والبساتين والزهر والنور.
وأيضا فإن أهوية البلاد والبقاع تختلف بحسب اختلاف تصاريف الرياح الأربع ونكباواتها، وبحسب مطالع البروج عليها ومطارح شعاعات الكواكب عليها من آفاقها، وهذه كلها تؤدي إلى اختلاف أمزجة الأخلاط، واختلاف أمزجة الأخلاط يؤدي إلى اختلاف أخلاق أهلها وطباعهم وألوانهم ولغتهم وعاداتهم وآرائهم ومذاهبهم وأعمالهم وصنائعهم وتدابيرهم وسياساتهم، لا يشبه بعضها بعضا بل تنفرد كل أمة منها بأشياء من هذه التي تقدم ذكرها لا يشاركها فيها غيرها.
مثال ذلك: أن الذين يولدون في البلاد الحارة ويتربون هناك وينشأون على ذلك الهواء؛ فإن الغالب على باطن أمزجة أبدانهم البرودة، وهكذا أيضا الذين يولدون في البلدان الباردة ويتربون هناك، وينشأون على ذلك الهواء، يكون الغالب على باطن أمزجة أبدانهم الحرارة؛ لأن الحرارة والبرودة هما ضدان لا يجتمعان في حال واحدة، في موضع واحد، ولكن إذا ظهر أحدهما استبطن الآخر واستجن؛ ليكونا موجودين في دائم الأوقات؛ إذ كانت المكونات لا وجود لها ولا قوام إلا بهما، والدليل على ما قلنا أن مزاج أبدان أهل البلدان الجنوبية من الحبشة والزنج والتربة وأهل السند وأهل الهند، فإنه لما كان الغالب على أهوية بلادهم الحرارة بمرور الشمس على سمت تلك البلاد في السنة مرتين سخنت أهويتها، فحمي الجو فاحترقت ظواهر أبدانهم واسودت جلودهم وتجعدت شعورهم لذلك السبب وبردت بواطن أبدانهم، وابيضت عظامهم وأسنانهم، واتسعت عيونهم ومناخرهم وأفواههم بذلك السبب.
وبالعكس في هذا حال أهل البلدان الشمالية وعلتها أن الشمس لما بعدت من سمت تلك البلاد وصارت لا تمر عليها لا شتاء ولا صيفا، غلب على أهويتها البرد وابيضت لذلك جلودهم، وترطبت أبدانهم، واحمرت عظامهم، وأسنانهم، وكثرت الشجاعة والفروسة فيهم، وسبطت شعورهم، وضاقت عيونهم، واستجنت الحرارة في بواطن أبدانهم لذلك السبب، وعلى هذا القياس توجد صفات أهل البلدان المتضادة بالطباع والأهوية يكونون مختلفين في الطباع والأخلاق في أكثر الأمر وأعم الحالات.
وإذ قد تبين بما ذكرنا طرف من تغير أخلاق الناس من جهة اختلاف ترب البلاد وتغير أهويتها؛ فنريد أن نذكر طرفا من أسباب موجبات أحكام النجوم، فنقول: إن الذين يولدون بالبروج النارية في الأوقات التي يكون المستولي عليها الكواكب النارية مثل المريخ وقلب الأسد وما شاكلهما من الكواكب؛ فإن الغالب على أمزجة أبدانهم الحرارة وقوة الصفراء، والذين يولدون بالبروج المائية في الأوقات التي يكون المستولي عليها الكواكب المائية مثل الزهرة والشعرى اليمانية؛ فإن الغالب على أمزجة أبدانهم يكون الرطوبة والبلغم.
وهكذا الذين يولدون بالبروج الترابية في الأوقات التي يكون المستولي عليها زحل وما شاكله من الكواكب الثابتة، فإن الغالب على أمزجة أبدانهم اليبوسة والمرة السوداء.
وهكذا الذين يولدون بالبروج الهوائية في الأوقات التي يكون المستولي عليها المشتري وما شاكله من الكواكب الثابتة؛ فإن الغالب على أمزجة أبدانهم الدم والاعتدال. يعرف حقيقة ما قلنا وصحة ما وصفنا أهل الصناعات والتجارب.
وإذ قد تبين بما قلنا وذكرنا ما الأسباب والعلل الموجبة لوجود الأخلاق المركوزة في الجبلة؛ فنريد أن نبين ما الأخلاق المركوزة في الجبلة، وما المكتسبة بالعادة الجارية منها، وما الغرض في ذلك، وما الفرق بينهما، يعني: الأخلاق المكتسبة والمركوزة.
(6) فصل في ماهية الأخلاق
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الأخلاق المركوزة في الجبلة هي تهيؤ ما في كل عضو من أعضاء الجسد يسهل به على النفس إظهار فعل من الأفعال أو عمل من الأعمال أو صناعة من الصنائع أو تعلم علم من العلوم أو أدب من الآداب أو سياسة من غير فكر ولا روية، مثال ذلك أنه متى كان الإنسان مطبوعا على الشجاعة فإنه يسهل عليه الإقدام على الأمور المخوفة من غير فكر ولا روية، وهكذا متى كان مطبوعا على السخاء يسهل عليه بذل العطية من غير فكر ولا روية، وهكذا متى كان الإنسان مطبوعا على العفة سهل عليه اجتناب المحظورات المحرمات من غير فكر ولا روية.
وهكذا من كان مطبوعا على الاعتدال؛ سهل عليه الحكومة في الخصومات والعدل والنصفة في المعاملات، وعلى هذا المثال والقياس سائر الأخلاق والسجايا المطبوعة في الجبلة المركوزة فيها، إنما جعلت؛ لكي ما يسهل على النفس إظهار أفعالها وعلومها وصنائعها وسياساتها وتدبيرها بلا فكر ولا روية.
وأما من كان مطبوعا على الضد من ذلك فهو يحتاج عند استعمال هذه الخصال وإظهار هذه الأفعال إلى فكر وروية واجتهاد شديد وكلفة ولا يفعل الإنسان هذه الأمور إلا بعد أمر ونهي ووعد ووعيد ومدح وذم وترغيب وترهيب، وعلى هذا المثال يكون كل حكم في الطبع خلافه، يحتاج صاحبه إلى أمر ونهي وفكر واجتهاد ورغبة، وبهذه العلة وردت أكثر أوامر الناموس ونواهيه؛ ولهذا السبب كان وعده ووعيده وترغيبه وترهيبه، ولو كان الإنسان الواحد مطبوعا على جميع الأخلاق لما كان عليه كلفة في إظهار كل الأفعال وجميع الصنائع، ولكن الإنسان المطلق الكلي هو المطبوع على قبول جميع الأخلاق وإظهار جميع الصنائع والأعمال لا الإنسان الجزئي.
واعلم بأن كل الناس أشخاص لهذا الإنسان المطلق، وهو الذي أشرنا إليه أنه خليفة الله في أرضه منذ يوم خلق آدم أبو البشر إلى يوم القيامة الكبرى، وهي النفس الكلية الإنسانية الموجودة في كل أشخاص الناس، كما ذكر - جل ثناؤه - بقوله: @QUR07 ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة كما بينا في رسالة البعث.
واعلم يا أخي، أيدك الله بروح منه، بأن هذا الإنسان المطلق الذي قلنا هو خليفة الله في أرضه، وهو مطبوع على قبول جميع الأخلاق البشرية وجميع العلوم الإنسانية والصنائع الحكمية هو موجود في كل وقت وزمان، ومع كل شخص من أشخاص البشر تظهر منه أفعاله وعلومه وأخلاقه وصنائعه، ولكن من الأشخاص من هو أشد تهيؤا لقبول علم من العلوم أو صناعة من الصنائع أو خلق من الأخلاق، أو عمل من الأعمال ، والإظهار بحسب ذلك يكون.
مطلب في التربية
واعلم بأن العادات الجارية بالمداومة فيها تقوي الأخلاق المشاكلة لها، كما أن النظر في العلوم والمداومة على البحث عنها والدرس لها والمذاكرة فيها يقوي الحذق بها والرسوخ فيها، وهكذا المداومة على استعمال الصنائع والدءوب فيها يقوي الحذق والأستاذية فيها، وهكذا جميع الأخلاق والسجايا.
والمثال في ذلك أن كثيرا من الصبيان إذا نشئوا مع الشجعان والفرسان وأصحاب السلاح وتربوا معهم تطبعوا بأخلاقهم وصاروا مثلهم، وهكذا أيضا كثير من الصبيان إذا نشئوا مع النساء والمخانيث والمعيبين وتربوا معهم تطبعوا بأخلاقهم وصاروا مثلهم، إن لم يكن في كل الخلق ففي بعض.
وعلى هذا القياس يجري حكم سائر الأخلاق والسجايا التي يتطبع عليها الصبيان منذ الصغر، إما بأخلاق الآباء والأمهات أو الإخوة والأخوات والأتراب والأصدقاء والمعلمين والأستاذين المخالطين لهم في تصاريف أحوالهم، وعلى هذا القياس حكم الآراء والمذاهب والديانات جميعا.
فصل
واعلم يا أخي بأن من الناس من يكون اعتقاده تابعا لأخلاقه، ومنهم من تكون أخلاقه تابعة لاعتقاده؛ وذلك أن من يكون مطبوعا على طبيعة مريخية فإنه تميل نفسه إلى الآراء والمذاهب التي يكون فيها التعصب والجدال والخصومات أكثر، وهكذا أيضا من يكون مطبوعا على طبيعة مشترية، فإنه تكون نفسه مائلة إلى الآراء والمذاهب التي يكون فيها الزهد والورع واللين أكثر، وعلى هذا القياس توجد آراء الناس ومذاهبهم تابعة لأخلاقهم.
وأما الذي تكون أخلاقه تابعة لاعتقاده فهو الذي إذا اعتقد رأيا أو مذهبا وتصوره وتحقق به صارت أخلاقه وسجاياه مشاكلة لمذهبه واعتقاده؛ لأنه يصرف أكثر همه وعنايته إلى نصرة مذهبه وتحقيق اعتقاده في جميع متصرفاته، فيصير ذلك خلقا له وسجية وعادة يصعب إقلاعه عنها وتركه لها.
وعلى هذا الجنس من الأخلاق تقع المجازاة من المدح والذم والثواب والعقاب والوعد والوعيد والترغيب والترهيب؛ لأنه اكتساب من صاحبه وفعل له، والمثال في ذلك ما جاء في الخبر أن رجلين اصطحبا في بعض الأسفار، أحدهما مجوسي من أهل كرمان، والآخر يهودي من أهل أصفهان، وكان المجوسي راكبا على بغلة عليها كل ما يحتاج إليه المسافر في سفره من الزاد والنفقة والأثاث، فهو يسير مرفها، واليهودي كان ماشيا ليس معه زاد ولا نفقة، فبينما هما يتحدثان؛ إذ قال المجوسي لليهودي: ما مذهبك واعتقادك يا خوشاك؟ قال اليهودي: اعتقادي أن في هذه السماء إلها هو إله بني إسرائيل وأنا أعبده وأسأله وأطلب إليه، ومنه سعة الرزق وطول العمر وصحة البدن والسلامة من الآفات والنصرة على الأعداء؛ أريد منه الخير لنفسي ولمن يوافقني في ديني ومذهبي، ولا أفكر فيمن يخالفني في ديني ومذهبي، بل أرى وأعتقد أن من يخالفني في ديني ومذهبي فحلال لي دمه وماله، وحرام علي نصرته أو نصيحته أو معاونته أو الرحمة أو الشفقة عليه.
ثم قال للمجوسي: قد أخبرتك عن مذهبي واعتقادي لما سألتني عنه، فأخبرني يا مغا، أنت أيضا عن مذهبك واعتقادك، قال المجوسي: أما اعتقادي ورأيي فهو أني أريد الخير لنفسي ولأبناء جنسي كلهم ولا أريد لأحد من الخلق سوءا، لا لمن كان على ديني ويوافقني ولا لمن يخالفني ويضادني في مذهبي.
فقال اليهودي له: وإن ظلمك وتعدى عليك؟ قال نعم؛ لأني أعلم أن في هذه السماء إلها خبيرا فاضلا عادلا حكيما عليما لا تخفى عليه خافية في أمر خلقه، وهو يجازي المحسنين بإحسانهم ويكافئ المسيئين على إساءتهم.
فقال اليهودي للمجوسي: فلست أراك تنصر مذهبك وتحقق اعتقادك، فقال المجوسي وكيف ذلك؟ قال؛ لأني من أبناء جنسك وأنت تراني أمشي متعوبا جائعا، وأنت راكب شبعان مترفه، قال: صدقت، وماذا تريد؟ قال: أطعمني واحملني ساعة لأستريح فقد أعييت، فنزل المجوسي عن بغلته وفتح له سفرته، فأطعمه حتى أشبعه، ثم أركبه ومشى معه ساعة يتحدثان، فلما تمكن اليهودي من الركوب، وعلم أن المجوسي قد أعيا حرك البغلة وسبقه وجعل المجوسي يمشي فلا يلحقه، فناداه: يا خوشاك، قف لي وانزل فقد أعييت، فقال له اليهودي: أليس قد أخبرتك عن مذهبي يا مغا، وخبرتني عن مذهبك ونصرته وحققته، وأنا أريد أيضا أن أنصر مذهبي وأحقق اعتقادي.
وجعل يجري البغلة والمجوسي في أثره يعدو، ويقول : ويحك يا خوشاك، قف لي قليلا، واحملني معك، ولا تتركني في هذه البرية تأكلني السباع وأموت جوعا وعطشا وارحمني كما رحمتك، وجعل اليهودي لا يفكر في ندائه، ولا يلوي عليه حتى مضى وغاب عن بصره، فلما يئس المجوسي منه وأشرف على الهلاك تذكر تمام اعتقاده وما وصف له بأن في السماء إلها خبيرا فاضلا عالما عادلا لا يخفى عليه من أمر خلقه خافية، فرفع رأسه إلى السماء، فقال: يا إلهي، قد علمت أني قد اعتقدت مذهبا ونصرته وحققته ووصفتك بما سمعت وعلمت وتحققت، فحقق عند اليهودي خوشاك ما وصفتك به ليعلم حقيقة ما قلت.
فما مشى المجوسي إلا قليلا حتى رأى اليهودي، وقد رمت به البغلة فاندقت عنقه، وهي واقفة بالبعد منه تنتظر صاحبها، فلما لحق المجوسي بغلته ركبها ومضى لسبيله، وترك اليهودي يقاسي الجهد ويعالج كرب الموت، فناداه اليهودي: يا مغا، ارحمني واحملني ولا تتركني في هذه البرية تأكلني السباع وأموت جوعا وعطشا، وحقق مذهبك، وانصر اعتقادك، قال المجوسي: قد فعلت مرة، ولكن بعد لم تفهم ما قلت لك ولم تعقل ما وصفت لك، فقال اليهودي: وكيف ذلك؟ فقال: لأني وصفت لك مذهبي فلم تصدقني بقولي حتى حققته بفعلي، وأنت بعد لم تعقل ما قلت لك، وذلك أني قلت لك: إن في هذه السماء إلها خبيرا فاضلا عالما عادلا لا يخفى عليه خافية، وهو يجازي المحسنين بإحسانهم، ويكافئ المسيئين بإساءتهم، قال اليهودي: قد فهمت ما قلت وعلمت ما وصفت، فقال له المجوسي: فما الذي منعك أن تتعظ بما قلت لك يا خوشاك؟ فقال اليهودي: اعتقاد قد نشأت عليه ومذهب قد ألفته وصار عادة وجبلة بطول الدءوب فيه وكثرة الاستعمال له؛ اقتداء بالآباء والأمهات والأستاذين والمعلمين من أهل ديني ومذهبي، فقد صار جبلة وطبيعة ثابتة يصعب علي تركها والإقلاع عنها.
فرحمه المجوسي وحمله معه حتى جاء به إلى المدينة وسلمه إلى أهله مكسورا، وحدث الناس بقصته وحديثه معه فجعلوا يتعجبون، فقال بعض الناس للمجوسي: كيف حملته بعد شدة جفائه بك وقبيح مكافأته إحسانك إليه؟ قال المجوسي اعتذر إلي، وقال: مذهبي كيت وكيت، وقد صار جبلة وطبيعة ثابتة لطول الدءوب فيه وجريان العادة به، يصعب الإقلاع عنها والترك لها، وأنا أيضا قد اعتقدت رأيا، وسلكت مذهبا صار لي عادة وجبلة فيصعب الإقلاع عنها والترك لها.
وإذ قد تبين بما ذكرنا أن العلل الموجبة لاختلاف أخلاق النفوس والأسباب المؤدية إليها أربعة أنواع حسب، كما قلنا في أول الرسالة؛ فنقول الآن: إن الأخلاق كلها نوعان، إما مطبوعة في جبلة النفوس مركوزة فيها، وإما مكتسبة معتادة من جريان العادة وكثرة الاستعمال، ومن وجه آخر أيضا إن الأخلاق نوعان، منها ما هي أصول وقوانين، ومنها ما هي فروع وتابعة لها، فنحتاج أن نبينها ونفصلها ليعرف بعضها من بعض؛ إذ كان هذا الفن من المعرفة من العلوم الشريفة النافعة جدا، وخاصة لمن له عناية برياضة النفس وتهذيبها وإصلاح أخلاقها؛ إذ كانت أخلاق النفوس هي أحد الأسباب المنجية لها من الهلكة، المفصلة بعضها من بعض، كما بينا في رسالة الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
(7) فصل في مراتب الأنفس
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الباري - جل ثناؤه - لما أبدع النفوس واخترعها وأبرز المستكن والمستجن من الكائنات رتبها ونظمها كمراتب الأعداد المفردات - كما ذكر تعالى بقوله حكاية عن الملائكة قولهم: @QUR014 وما منا إلا له مقام معلوم * وإنا لنحن الصافون * وإنا لنحن المسبحون.
واعلم يا أخي بأن أعداد النفوس كثيرة لا يحصيها إلا الله - جل ثناؤه - كما قال: @QUR06 وما يعلم جنود ربك إلا هو، ولكن نحتاج أن نذكر طرفا من مراتبها ومقاماتها الجنسية؛ إذ كانت الأنواع والأشخاص لا يمكن تعديدها ولا يعلمها إلا هو.
واعلم يا أخي بأن مراتب النفوس ثلاثة أنواع، فمنها مرتبة الأنفس الإنسانية، ومنها ما هي فوقها، ومنها ما هي دونها، فالتي هي دونها سبع مراتب، والتي فوقها سبع أيضا، وجملتها خمس عشرة مرتبة.
والمعلوم من هذه المراتب التي ذكرناها عند العلماء، ويمكن لكل عاقل أن يعرفها ويحس بها؛ خمس، منها اثنتان فوق رتبة الإنسانية وهي رتبة الملكية والقدسية، ورتبة الملكية هي رتبة الحكمية، ورتبة القدسية هي رتبة النبوة والناموسية، واثنتان دونها وهي مرتبة النفس النباتية والحيوانية، ويعلم صحة ما قلنا وحقيقة ما وصفنا الناظرون في علم النفس من الحكماء والفلاسفة وكثير من الأطباء.
وأما الرتبتان اللتان فوق رتبة الإنسانية فهي مرتبة الحكمة وفوقها الناموسية، وأما مرتبة الإنسانية فهي التي ذكرها الله تعالى بقوله: @QUR06 لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، وأما التي فوق هذه فما أشار إليه بقوله: @QUR04 ولما بلغ أشده واستوى؛ يعني الإنسان @QUR03 آتيناه حكما وعلما، وقال أيضا: @QUR018 أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها؛ يعني الإنسان أحيينا نفسه بنور الهداية، وهذه هي مرتبة نفوس المؤمنين العارفين والعلماء الراسخين.
فأما التي فوقها فمرتبة النفوس النبوية الواضعين النواميس الإلهية، وإليها أشار بقوله - جل ثناؤه: @QUR09 يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات، وهذه المرتبة تلي مرتبة القدسية الملكية، فقد تبين بما ذكرنا المراتب الخمس التي يمكن الإنسان أن يعلمها ويحس بها، فأما المراتب التي دون النباتية وفوق القدسية فبعيدة معرفتها على المرتاضين بالعلوم الإلهية، فكيف على غيرهم؛ وإذ قد فرغنا من ذكر ما أردنا أن نقدمه فنقول الآن ونخبر بكل ما يخص كل نوع من هذه النفوس الخمس من المعونة والتأييد.
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الله - جل ثناؤه - لما ربط الأنفس الجزئية بالأجسام الجزئية للعلة التي ذكرناها في رسالة «الإنسان عالم صغير» أيدها وأعانها بضروب من المعاونة وفنون من التأييدات؛ كل ذلك جود منه ولطف بها، وإنعام منه عليها وإفضال وإحسان إليها وإكرام لها، وذلك أنه كلما بلغت نفس منها رتبة ما، أمدها بزيادة فضلا منه وجودا أو نقلها إلى ما فوقها وأرفع منها وأعز وأشرف وأجل وأكرم؛ كل ذلك ليبلغها إلى أقصى مدى غاياتها وتمام نهاياتها.
وإذ قد تبين بما ذكرنا مراتب النفوس الخمس وما الفائدة والحكمة في رباطها بالأجسام؛ فنريد أن نذكر ما يخص كل نوع منها من المعاونة والتأييد، وهي القوى الطبيعية والأخلاق المركوزة والهياكل الجسمانية والأدوات الجسدانية والشعورات الحسية والأوهام الفكرية والحركات المكانية والأفعال الإرادية والأعمال الاختيارية والصنائع الحكمية والأوضاع الناموسية والسياسات الملكوتية، ونبدأ أولا بذكر الشهوات المركوزة في الجبلة والقوى الطبيعية المعينة لها؛ إذ كانت هي الأصل والقانون في جميع القوى والأخلاق والخصال والأفعال والحركات والحس والشعور بها ومن أجلها - كما سنبين بعد.
فصل
واعلم يا أخي بأن من الأخلاق والقوى ما هي منسوبة إلى النفس النباتية الشهوانية، ومنها ما هي منسوبة إلى الحيوانية الغضبية، ومنها ما هي منسوبة إلى النفس الإنسانية الناطقة، ومنها ما هي منسوبة إلى النفس العاقلة الحكمية، ومنها ما هي منسوبة إلى النفس الناموسية الملكية.
فأما المنسوبة إلى النفس الشهوانية من الخصال والقوى التي تخصها، فأولها شهوة الغذاء وهي النزوع والشوق نحو المأكولات والمشروبات والمشتهيات والرغبة فيها والحرص في طلبها واحتمال المشقة والذل من أجلها والفرح والسرور بوجدانها والراحة واللذة في تناولها والملل والشبع عند الاستكفاء منها، والنفور من الضار منها والبغض له.
ومن القوى المختصة بها أيضا القوة الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمصورة، ومن الشعور والتمييز معرفة الجهات الست، ومن الأفعال إرسال العروق نحو الجهات الندية والتراب اللين، وتوجيه الفروع والقضبان إلى الجهات المتسعة والميل والانحراف عن الأمكنة الضيقة والأجسام المؤذية.
كل هذه الخصال مركوزة في الجبلة من غير فكر ولا روية، وكل ذلك معاونة من الطبيعة لنفوسها وتأييد لها بإذن باريها - جل ثناؤه - على طلب مشتهياتها والوصول إلى منافعها والفرار من المضرة منها؛ إذ كانت تلك المشتهيات هي غذاء لأجسامها ومادة لقوامها وسببا لبقائها كلها؛ إذ كان في بقائها كلها تتميم لمعارفها وتكميل لفضائلها، وفي تتميم معارفها وتكميل فضائلها ترق لها إلى أفضل حالاتها وأشرف نهاياتها.
وأما المنسوبة إلى النفس الحيوانية المختصة بها من الخصال المركوزة في الجبلة زيادة على ما تقدم فهي شهوة الجماع وشهوة الانتقام وشهوة الرياسة، ولها أيضا الهياكل اللحمية، والأعضاء المختلفة للأغراض العجيبة، والمفاصل اللينة للحركات المكانية والتنقل في الجهات الست لمآرب ومنافع كثيرة، ولها الشعور بالحواس المخصوصة والأصوات المختلفة لدلالات متباينة.
ولها أيضا الوهم والتخيل للمطالب والمنافع والحفظ والذكر لعرفان أبناء الجنس والمخالف، وإمكان الاحتراس من المضار، والنفور والفرار من العدو؛ كل هذه مركوزة في جبلة الحيوانات القريبة النسبة إلى الإنسان، فأما علة شهوة الجماع المركوزة في جبلتها فهي من أجل التناسل، والتناسل هو من أجل بقاء الصورة في الأشخاص المتواترة؛ إذ كانت الهيولى دائمة في السيلان لا تقف طرفة عين، وأما علة شهوة الانتقام المركوزة في جبلتها فهي من أجل دفع المضرات المفسدات لهياكلها المتشخصة.
واعلم يا أخي بأن دفع المضار تارة يكون بالقهر والغلبة، وتارة يكون بالهرب والفرار وتارة بالتحرز والتحصن، وتارة بالمكر والحيلة، كما قد شرحنا ذلك في رسالة الحيوانات، وأما شهوة الرياسة المركوزة في جبلتها فهي من أجل تأكيد السياسة؛ إذ كانت السياسة لا تتم إلا بعد وجدان الرياسة.
واعلم يا أخي بأن المراد من السياسة هو صلاح الموجودات وبقاؤها على أفضل الحالات وأتم الغايات - كما سنبين في فصل آخر.
وأما المنسوبة إلى النفس الناطقة المختصة بها زيادة على ما تقدم ذكره، فهي شهوة العلوم والمعارف والتبحر والاستكثار منها، وشهوة الصنائع والأعمال والحذق فيها والافتخار بها وشهوة العز والرفعة والترقي في غايات نهاياتها والشوق إليها والرغبة فيها، والحرص في طلبها، واحتمال الذل والمشقة من أجلها، والفرح والسرور من وجدانها واللذة والراحة عند الوصول إليها، والغم والحزن من فقدانها.
(8) فصل في اختلاف مناهج النفوس
واعلم يا أخي بأن هذه الخصال مركوزة في جبلة الإنسان، ولكن تختلف اختيارات كل واحد لها حسب ما تيسر له وتتأكد أسبابه، وذلك أن من الناس من تيسر له أسباب الصنائع والحرف، وآخر أسباب العلوم والآداب، وآخر تيسر له أسباب العمل والتصرف، وآخر أسباب التجارات والبيع والشراء، وآخر أسباب الملك والسلطان، وآخر أسباب البطالة والفراغ، وآخر أسباب الحكم والمعارف - كما سنبينه بعد هذا الفصل.
ومما أعطيت النفس الناطقة من نعم الله تعالى وخصت به من إحسانه من بين نفوس سائر الحيوانات ، وأعينت به على البلوغ إلى أقصى مدى غاياتها، وأيدت للوصول إلى تمام نهاياتها؛ هذا الهيكل العجيب البنية المحكم الصورة المتقن الصنعة، الذي قد عجزت الحكماء عن كنه معرفته وتركيب بنيته من غرائب الصنعة، مما قد وصف طرف منه في كتاب منافع الأعضاء وكتاب التشريح من كيفية انتصاب قامته من بين سائر الحيوانات، وما خص به أيضا من فصاحة لسانه وغرائب لغاته وفنون أقاويله وحسن بيانه من بين سائرها، وما خص به أيضا من طريف شكل يديه، وما يتأتى له بهما من الصنائع المحكمة والأعمال المتقنة من بين سائرها، وما خص به أيضا من طرائف أدوات حواسه وغرائب طرقات إدراكها للمحسوسات - كما وصفنا في رسالة الحاس والمحسوس.
ومما خصت به أيضا النفس الناطقة الإنسانية من نعم الله تعالى وإحسانه؛ العقل الغريزي وكثرة أعوانه وجنوده وخصاله المحمودة، كما سنبين بعد، وأما التي تنسب من الخصال المحمودة إلى النفس الحكمية فشهوة العلوم والمعارف وما أعينت به على طلبها وإدراكها والوصول إليها من الخصال المركوزة والقوى المجبولة؛ كالذهن الصافي والفهم الجيد وذكاء النفس وصفاء القلب وحدة الفؤاد، وسرعة الخاطر، وقوة التخيل وجودة التصور، والفكر والروية والتأمل والاعتبار، والنظر والاستبصار والحفظ والتذكار ومعرفة الروايات والأخبار ووضع القياسات واستخراج النتائج بالمقدمات والتكهن والقيافة والفراسة وقبول الوحي والإلهام، ورؤية المنامات والإنذار بالكائنات بعلم النجوم والزجر.
كل ذلك معاونة لها وتأييد إلى البلوغ إلى الغاية والوصول إليها، وأما التي تنسب إلى النفس الملكية القدسية فهي شهوة القرب إلى ربها والزلفى لديه، وقبول الفيض منه وإفاضة الجود على من دونها من أبناء جنسها، كما ذكر الله تعالى بقوله: @QUR06 يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب، وقوله سبحانه: @QUR04 ويستغفرون لمن في الأرض، وقوله: @QUR03 فاغفر للذين تابوا، وقال: @QUR02 كراما كاتبين الآية، فهذا تفصيل جملة ما ينسب إلى كل جنس من النفوس، والمخصوص بها من الشهوات المركوزة فيها، فأما التي تعمها كلها فشهوة البقاء على أتم الحالات وأكمل الغايات وكراهية الفناء والنقص عن الحال الأفضل والأكمل.
فصل
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأنك إن أنعمت النظر فيما وصفنا وتأملت ما ذكرنا، وجودت البحث عن مبادئ الكائنات وعلة الموجودات؛ علمت وتيقنت أن هاتين الحالتين؛ أعني: شهوة البقاء وكراهية الفناء أصل وقانون لجميع شهوات النفوس المركوزة في جبلتها، وأن تلك الشهوات المركوزة في جبلتها أصول وقوانين لجميع أخلاقها وسجاياها، وتلك الأخلاق أصول وقوانين لجميع أفعالها وصنائعها ومعارفها ومتصرفاتها - كما سنبين في هذه الفصول.
وإنما صارت هاتان الحالتان مركوزتين في جبلة كل الموجودات وجميع الكائنات من أجل أن الباري - جل ثناؤه - لما كان هو علة الموجودات وسبب الكائنات ومبدعها ومخترعها وموجدها ومبقيها ومتممها ومكملها ومبلغها إلى أقصى مدى غاياتها وأفضل حالاتها، وكان - جل ثناؤه - دائم البقاء لا يعرض له شيء من الفناء؛ صار من أجل هذا في جبلة الموجودات محبة البقاء وشهوته وكراهية الفناء وبغضه؛ لأن في جبلة المعلول يوجد بعض صفات العلة دلالة دائمة عليها، وإنما لا يعرض للباري - جل ثناؤه - شيء من النقص والفناء من أجل أنه علة الوجود لذاته وبقاؤه من نفسه، وأما سائر الموجودات وجميع الكائنات فلوجودها أسباب وعلل، ومتى عدم منها شيء أو نقص عرض لها الفناء والنقص والقصور عن البلوغ إلى الحال الأفضل والوجود الأكمل، والمثال في ذلك النبات والحيوان؛ فإنه متى عدم الغذاء الذي هو هيولى الأجساد، ومادة بقائها هلك وانفسد وتغير واضمحل.
وهكذا حكم نفوسها متى بطلت هياكلها بطل شعورها وإحساسها ولم يمكنها إظهار أفعالها وتأثيراتها، فتكون بتلك الحال النفوس موجودة ولكن على حال النقص، كما أن تراب أجسادها يكون موجودا لكن على حال النقص، وقد يعلم بأوائل العقول بأن الوجود على الحال الأفضل ألذ وأشرف وأفضل من الوجود على النقص. وقد قالت الحكماء والفلاسفة بأن كل شيء يراد فهو من أجل الخير، والخير يراد من أجل ذاته، والخير المحض السعادة، والسعادة تراد لنفسها لا لشيء آخر.
وقد قلنا وبينا في رسالة الإيمان بأن السعادة نوعان دنيوية وأخروية، فالسعادة الدنيوية هي أن يبقى كل موجود أطول ما يمكن على أفضل حالاته وأتم غاياته ، والسعادة الأخروية أن تبقى كل نفس إلى أبد الآبدين على أفضل حالاتها وأتم غاياتها.
واعلم يا أخي بأن النفوس الجزئية إنما ربطت بأجسادها التي هي أجسام جزئية كي ما تكمل فضائلها وتخرج كل ما في القوة والإمكان إلى الفعل والظهور من الفضائل والخيرات، ولم يمكن ذلك إلا بارتباطها بهذه الأجساد وتدبيراتها لها، كما أن الباري - جل ثناؤه - لم يكن إظهار جوده وفيض إحسانه وأفضاله وإنعامه إلا بإيجاد هذا الهيكل العظيم المبني بالحكمة، المصنوع بالقدرة، أعني: الفلك المحيط وما يحويه من سائر الأفلاك والكواكب والأركان والمولدات الكائنات وتدبيره لها وسياسته إياها.
وإذ قد تبين بما ذكرنا: ما الغرض وما الفائدة من الشهوات المركوزة في الجبلة، وما يتبعها من الأخلاق والخصال، وهي أن تدعو تلك الشهوات النفوس إلى طلب المنفعة لأجسادها ودفع المكروه والمضرة عنها وتعينها تلك الأخلاق والخصال عليها؛ فنريد أن نبين الآن ما الخير منها، وما الشر وما المذموم منها، وما المحمود، ومتى يكون الإنسان مثابا بها أو معاقبا؟
(9) فصل في ترتب الأخلاق على بعضها وكونها فضيلة أو رذيلة
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الإنسان لما كان جسده مركبا من الأخلاط الأربعة، وكان مزاجه من الطبائع الأربع جعل الباري - جل ثناؤه - بواجب الحكمة أكثر أموره وتصاريف أحواله مربعات مشاكلات مطابقات بعضها لبعض؛ ليكون أعون له على ما يراد منه وأدل، من ذلك أنك تجد أخلاقه وأفعاله بعضها طبيعية مركوزة في الجبلة، كما ذكرنا طرفا من ذلك، وبعضها نفسانية اختيارية، وبعضها عقلية فكرية، وبعضها ناموسية سياسية.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الطبيعة هي خادمة للنفس ومقدمة لها، وأن النفس خادمة للعقل ومقدمة له، وأن العقل خادم للناموس ومقدمة له؛ وذلك أن الطبيعة إذا أصلت خلقا وركزته في الجبلة جاءت النفس بالاختيار فأظهرته وبينته، ثم جاء العقل بالفكر والروية فتممه وكمله ثم جاء الناموس بالأمر والنهي فسواه وقومه وعدله.
وذلك أنه متى ظهرت من الطبيعة هذه الشهوات المركوزة في الجبلة، وكانت على ما ينبغي ، في الوقت الذي ينبغي، من أجل ما ينبغي؛ سميت خيرا. ومتى كانت بخلافه سميت شرا، ومتى فعل ذلك باختياره وإرادته على ما ينبغي بمقدار ما ينبغي من أجل ما ينبغي؛ كان صاحبه محمودا، ومتى كان بخلافه كان مذموما، ومتى كان اختياره وإرادته بفكر وروية على ما وصفنا كان صاحبه حكيما فيلسوفا فاضلا، ومتى كان بخلافه سمي سفيها جاهلا رذلا.
ومتى كان فعله وإرادته واختياره وفكره ورويته مأمورا بها ومنهيا عنها وفعل ما ينبغي كما ينبغي على ما ينبغي كان صاحبه مثابا بها ومجازى عليها، ومتى كان بخلاف ما ذكرناه كان مأخوذا بها ومعاقبا عليها، فقد تبين بما ذكرنا أن الشهوات المركوزة في الجبلة والأخلاق المنتشئة منها والأفعال التابعة لها وجميع المتصرفات من أجلها هي لأن تبقى النفوس على أفضل حالاتها، ويبلغ كل نوع منها إلى أقصى مدى غاياتها.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الباري - جل ثناؤه - لما رتب النفوس مراتبها كمراتب الأعداد المفردات على ما اقتضت حكمته؛ جعل أولها متصلا بآخرها، وآخرها متصلا بأولها، بوسائطها المرتبة بينهما؛ لترتقي بها ما دونها إلى المرتبة التي فوقها؛ ليبلغها إلى مدى غاياتها، وتمام نهاياتها، وذلك أنه رتب النفوس النباتية تحت الحيوانية وجعلها خادمة لها ورتب الحيوانية تحت الناطقة الإنسانية وجعلها خادمة لها، ورتب الناطقة الإنسانية تحت العاقلة الحكمية وجعلها خادمة لها، ورتب العاقلة تحت الناموسية وجعلها خادمة لها، ورتب الناموسية تحت الملكية وجعلها خادمة لها.
فأية نفس منها انقادت لرئيسها وامتثلت أمره في سياستها؛ نقلت إلى مرتبة رئيسها، وصارت مثلها في الفعل، والمثال في ذلك من المشاهد أن أي تلميذ أو متعلم في علم أو صناعة امتثل أمر أستاذه وانقاد لمعلمه ودام عليه، فإنه سيصير يوما ما إلى مرتبة أستاذه ويصير مثل معلمه؛ لا يخفى هذا على كل عاقل متأمل مثل ما وصفنا، فعلى هذا المثال يكون تنقل النفوس في مراتبها.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن أحق النفوس الحيوانية أن تنقل إلى رتبة الإنسانية التي هي الخادمة للإنسان، المستأنسة به، المنقادة لأمره، المتعوبة في طاعته، الشقية في خدمته، وخاصة المذبوحة منها في القرابين، وعلى هذا المثال والقياس حكم النفوس الإنسانية؛ فإن أحقها أن تنتقل إلى رتبة الملائكة التي هي الخادمة في أوامر الناموس ونواهيه، المنقادة لأحكامه، المتعوبة في حفظ أركانه، كما سنبين بعد هذا الفصل.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الناس أصناف وطبقات في متصرفاتهم في أمور الدنيا لا يحصي عددها إلا الله - جل ثناؤه - كما ذكر بقوله تعالى: @QUR03 وقد خلقكم أطوارا، ولكن يجمعهم كلهم هذه السبعة الأقسام؛ وذلك أن منهم أرباب الصنائع والحرف والأعمال، ومنهم أرباب التجارات والمعاملات والأموال، ومنهم أرباب البنايات والعمارات والأملاك، ومنهم الملوك والسلاطين والأجناد وأرباب السياسات، ومنهم المتصرفون والخدامون والمتعيشون يوما بيوم، ومنهم الزمنى والعطل وأهل البطالة والفراغ، ومنهم أهل العلم والدين والمستخدمون في الناموس، وكل طائفة من هذه السبعة تنقسم إلى أصناف كثيرة، ولكل صنف منها أخلاق وطباع وسجايا ومآرب، أكسبتهم إياها أعمالهم، وأوجبتها لهم متصرفاتهم، لا يشبه بعضها بعضا، ولا يحصي عددها إلا الله - عز وجل.
ولكن نريد أن نذكر منها ما يحتاج إليه من الأخلاق والسجايا والخصال والأعمال والآداب والعلوم؛ أهل الدين المتمسكون بأحكام الناموس الحافظون أركانه الذين يرجى لهم النجاة بها والفوز باستعمالها، كما ذكر الله - جل ثناؤه: @QUR011 قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني، وقوله: @QUR05 وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم، وقال تعالى: @QUR09 ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى إلى آخر الآية، وآيات كثيرة من القرآن في مثل هذه المعاني.
(10) فصل في مراتب الناس في الأخلاق حسب الأعمال
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الناس إذا اعتبرت أحوالهم وتبينت أمورهم وجدتهم كلهم كالآلات والأدوات لواضعي النواميس الإلهية في تأسيسهم بنياتهم، وتتميمهم أحكامها وتكميلهم شرائطها وحفظهم أركانهم، ثم تجدهم خدما وخولا للملوك الذين هم خلفاء الأنبياء من بعدهم في حفظها وحراستها على نظامها وترتيبها، كما رتبها واضعو النواميس وأمروا بمراعاتها، وهم في ذلك أصناف وطبقات ومراتب مرتبات كترتيب الأعداد المفردات؛ وذلك أن واضع الناموس في مبدئه كالواحد في العدد، وأصحابه وأنصاره الذين اتبعوه كالآحاد، ومن تبعهم على مناهجهم كالعشرات، ومن جاء من بعدهم كالمئات، ومن بعدهم كالألوف، ومن جاء من بعدهم كعشرات الألوف ومئات الألوف بالغا ما بلغ إلى يوم القيامة.
ثم يصيرون بذلك كلهم جملة واحدة، كما ذكر الله - جل ثناؤه - بقوله وأشار إلى هذا المعنى: @QUR07 يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون وقال: @QUR010 وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا * وعرضوا على ربك صفا.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأنك إذا أنعمت النظر في الأمور المعقولة وجودت التأمل لأحكام الناموس وحدوده واعتبرت أحوال صاحب الناموس ونفاذ أمره ونهيه في نفوس أتباعه وأنصاره، وامتثالهم أمره ونهيه وطاعتهم له؛ تبينت وعرفت بأن الناموس مملكة روحانية، وأن وجوده وقوامه في حفظ أركانه الثمانية، وتبينت بأن أركانه الذين هم أتباع صاحب الناموس وأنصاره، وهم ثمانية أصناف؛ كل صنف منهم كأنهم صف قيام، حاملون ركنا من أركان الناموس.
فأول الأصناف هم قراء تنزيله وكتبه وحفاظ ألفاظه على رسومها ومعلموها لمن بعدهم من ذراريهم؛ ليؤدوا إلى من بعدهم من أتباعهم ما أخذوا عمن قبلهم؛ كل ذلك لكي لا يجهلها من يجيء من بعدهم وتنسى فتندرس معالم الدين وتضمحل وتبطل أحكام الناموس، والصنف الثاني هم رواة أخباره وناقلو أحاديثه وحافظو سيره ومؤدوها إلى من بعدهم؛ ليبلغوها إلى آخرهم كي لا يجهل وينسى فتندرس آثاره وتموت أخباره فلا تعرف.
والصنف الثالث هم فقهاء أحكام الناموس وعلماء سننه وحفاظ حدوده؛ كي لا تجهل فلا تستعمل أو تنسى فتندرس معالم الدين وتضمحل ويبطل الناموس، والصنف الرابع هم المفسرون ألفاظ تنزيله الظاهرة وأقاويله المروية والمعبرون عن وجوه معانيه المختلفة لمن قصر فهمه عنها وقلت معرفته بها؛ كل ذلك كي لا يجهلها من يجيء من بعدهم من ذراريهم وأتباعهم في أحكام الناموس أو تنسى فتندرس معالم الدين وتضمحل وتبطل أحكام الناموس.
والصنف الخامس هم أنصاره المجاهدون وغزاة أعدائه، الحافظون ثغور بلاد أتباع صاحب الناموس وأنصاره؛ كي لا يغلب عليها أعداؤهم ويفسد أمر دينهم عليهم، كما فعل بخت نصر بإيلياء في هيكل بني إسرائيل، وهو ببيت المقدس، وكما فعلت الروم بثغور المسلمين.
والصنف السادس هم خلفاء صاحب الناموس في أمته ورؤساء الجماعات والحارسون شريعته على أمته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، المانعون لهم أن يسيروا بغير سيرة الناموس، الحافظون أطراف المملكة؛ كي لا يخرج خارجي سرا أو علانية، فيفسد أحكام الناموس بتمويهه وزوره على قلوب العامة والجهال كما فعل مزدك الخرمي في مملكة قباد ملك الفرس.
والصنف السابع هم الزهاد والعباد في المساجد، والرهبان والقوام في الهياكل، والخطباء على المنابر الواعظون الناس المحذرون لهم من ترك استعمال أحكام الناموس، الذامون أمور الدنيا، المحذرون لهم من الاغترار بأمانيها، المزهدون للمنهمكين في الشهوات، المذكرون أمر المعاد وأحوال القيامة للغافلين عنها، المشوقون إلى نعيم الآخرة المقرون بها.
كل ذلك كي لا يجهل أمر المعاد ولا ينسى ذكر الآخرة والاستعداد للرحلة إليها والتزود من الدنيا التقوى الذي هو خير الزاد؛ إذ كان هذا هو الغرض الأقصى في وضع الناموس الإلهي والغاية والمطلب من الرياضيات الفلسفية.
والصنف الثامن هم علماء تأويل تنزيله والراسخون في العلوم الإلهية والمعارف الربانية، العارفون خفيات أسرار الناموس الذين هم الأئمة المهديون والخلفاء الراشدون، الذين يقضون بالحق وبه يعدلون.
فصل
واعلم يا أخي بأنك إذا تأملت ونظرت إلى كل صنف من هذه الأصناف الثمانية واعتبرت أحوالهم وما هم عليه ومتعلقون به من حفظ هذه الأمور الثمانية وحرصهم على مراعاتها بشرائطها كما وصفنا، ثم نظرت بعين قلبك ونور بصيرتك وصفاء جوهرك إلى جملتهم وتخيلتها في وهمك وفكرت؛ رأيت الناموس مملكة روحانية ورأيت أتباع صاحب الناموس وأنصاره يسعون فيه ويعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل، ورأيت واضع الناموس قد استوى على عرشه نافذا فيهم أمره ونهيه، وهم حاملون عرشه يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به، ويستغفرون لمن في الأرض، وهم من بعدهم من أتباعهم؛ لأنهم كالسماء لمن بعدهم، ومن بعدهم كالأرض لهم، ولمن قبلهم من أسلافهم .
واعلم يا أخي بأن كل طائفة من هذه الأصناف الثمانية تحتاج في حفظها ركنا من أركان الناموس إلى شرائط معلومة وخصال محمودة وأخلاق جميلة؛ نحتاج أن نشرحها ونصفها: أما التي يحتاج إليها القراء والحفظة من الأخلاق الجميلة والخصال المحمودة والشرائط المعلومة، فأولها فصاحة الألفاظ وتقويم اللسان وطيب النغمة وجودة العبارة وسرعة الحفظ وجودة الفهم ودوام الدرس والنشاط في القراءة والتواضع لمن يتعلم منه والتعظيم له ومعرفة حقه وحرمته والرفق بمن يعلمه والشفقة عليه وقلة الضجر من إبطاء فهمه وحفظه وترك ضيق الصدر من تلقينه وقلة الطمع في أخذ العوض منه وقلة المنة عليه بما يعلمه.
وأما التي يحتاج إليها من هذه الخصال والأخلاق أصحاب الأخبار وحملة الأحاديث، فأولها جودة الاستماع واستيفاء الكلام وضبط الألفاظ على رسمها وتقييدها بالكتابة والتحرز والتحرج والحذر من الزيادة فيها والنقصان عن تمامها والصدق وحسن الأداء وتجنب الكذب ثم الحكاية عنها بهيئتها وبذلها ونشرها لمن سأل عنها أو يصلح له الإخبار عنها، وطيها وصولا عمن لا تصلح له ولا تليق به؛ كل ذلك نصيحة للإخوان ونصرة للدين ولواضع الناموس وابتغاء وجه الله وجزيل ثوابه في الآخرة.
وأما التي يحتاج إليها الفقهاء والقضاة والمفتون من هذه الخصال والأخلاق والشرائط المحمودة فيها والقيام منها بما هم بسبيله، فأولها: معرفة الرتب التي رتبها واضع الناموس من الأوامر والنواهي والفرائض والسنن والنوافل والحلال والحرام والحدود والأحكام.
ثم معرفة القياس وكيفية استخراج الفروع من الأصول في الفتاوى والمسائل الواردة التي ليس لها ذكر في الأصول، والتثبت والتأني في الفتيا والاستقصاء في استفهام السؤال بجميع شرائطه، ثم قلة الترخيص في الشبهات من المحذورات وترك التحريج في المشكلات ودرء الحدود بالشبهات وقلة الخلاف مع أبناء الجنس وترك الحسد للأقران وبذل النصيحة للإخوان والشفقة والتحنن على الجهال، وترك الافتخار في الإصابة في الأحكام، وقلة الشنعة على العلماء بزلاتهم، والاحتمال لأذية الجيران، وقلة الرغبة في حطام الدنيا، وعفة الفرج وترك الطمع والقيام بواجب أحكام الناموس، وأن لا يكون قوله مخالفا لعمله.
وأما التي يحتاج إليها من هذه الخصال والأخلاق والشرائط المفسرون لألفاظ التنزيل، فأولها معرفة غرض صاحب الناموس في إيراده التنزيل واستعماله الألفاظ المشتركة المعاني، ثم أن يكون له اتساع في معرفة تصاريف الكلام والأقاويل، وما يحتملها من المعاني مما يؤكد غرض واضع الناموس، ويكون له جودة بحث وبعد غور في استخراج المعاني ولطف العبارة عنها بحسب ما تحتمل عقول المستمعين، ويقرب من فهم المتعلمين، ويكون له من يقظة القلب ما لا يناقض أقاويله وعباراته ولا في المعاني التي يشير إليها في تفسيره لألفاظ تنزيل واضع الناموس وأقاويله وكلامه وبيانه.
واعلم يا أخي بأنه متى لم يكن المفسر عارفا بغرض واضع الناموس في إيراده الألفاظ المشتركة المعاني في تنزيله وأقاويله وعباراته وبيانه، تخيل له من تلك الألفاظ من المعاني غير ما أشار إليه واضع الناموس، وتوهم سوى ما أراد فيها، فأفهم المستمعين من تفسيره ما تخيل هو، وعلم المتعلمين ما علم به، فصار له ذلك دينا ومذهبا غير دين واضع الناموس وطريقته، وكان مخالفا له في اعتقاده في الشريعة وهو لا يشعر، ويكون بذلك مفسدا في أحكام الناموس، وهو يظن أنه من المصلحين ولا يدري، فاحذر يا أخي من هذا الباب؛ فإن فساد ديانات واضعي الناموس وأحكام شرائعهم أكثرها من هذا الباب يكون.
وأما التي يحتاج إليها من هذه الخصال والأخلاق والشرائط أنصار واضع الناموس وغزاة أعدائه والحافظون ثغور بلاد أتباعه وأنصاره أن يكون لهم تعصب للدين وغيرة على حرمة الناموس، وحمية من أجل فساد يدخل عليه، وحنق على الأعداء المجاهرين بالعداوة لواضع الناموس ودينه، المريدين فساد أحكامه وقلة الهيبة منهم، وشجاعة النفس عند البراز، وخفة الحركة عند الجولان، وتيقظ القلب من غدر العدو، وأخذ الحذر في أوقات الغفلة وقلة الاغترار بقلتهم وطلب الحيلة للظفر ما استوى من غير قتال، ومخادعة في الحروب، ومبادرة في البراز إلى الأقران والأكفاء وصبر عند اللقاء، وكثرة الذكر لله - عز وجل - والاستعانة به، والأنفة من الفرار وما يكون فيه من العار، وقلة الرغبة في النهب، والتقية من هتك الحريم عند الظفر ، وكثرة الشكر لله، وترك الإفساد عند هزيمة العدو، ورحمة الأسير، وقبول الصلح عند الهدنة، والوفاء بالعهد، وترك الإعجاب عند كثرة عدد الأعوان والأنصار.
وأما التي يحتاج إليها من هذه الخصال والأخلاق والشرائط الزهاد والعباد والمذكرون للناس أمر الآخرة وذكر المعاد؛ فأولها التي هي أساس الدين وملاك الأمر القناعة باليسير من حطام الدنيا، والرضا بالقليل من متاعها ولذاتها، وصيانة النفس عن الانهماك في شهواتها ولذاتها، وترك طلب المنزلة والجلالة والكرامة، وقلة الحرص في طلب الحاجات فيها، والاشتغال بطلب العلم، والعبادة بالصوم والصلاة مع أبناء الجنس، وترك الخلطة في الراغبين فيها من أبنائها، والتفرد في الخلوات، وكثرة ذكر الموت وفناء نعيم الدنيا وزوال ملكها، والنظر إلى آثار القرون الماضية، والاعتبار بها، والدور الخربة والمنازل الدارسة العافية للأمم الخالية، والنظر في كتب الحكماء وأخبار سير الملوك الماضية، والتفكر في الأمثال المضروبة على ألسنة الحكماء ذوي التجربة في وصفهم الدنيا واعتبارهم تصاريف الزمان ونوائب الحدثان، والتيقن بأمر المعاد، وشدة الاشتياق إلى نعيم الآخرة دار القرار مع الأبرار من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
وأما التي يحتاج إليها من هذه الخصال والأخلاق والشرائط خلفاء واضع الناموس، وهم طائفتان؛ إحداهما خلفاؤه في الملك والرياسة في أمور الدنيا والتدبير والسياسة في حفظ ظاهر أحكام الناموس على أهله؛ فقد أفردنا له رسالة؛ إذ كان هذا الباب يحتاج إلى خطب طويل وشرح كثير.
وأما خلفاؤه في أسرار أحكام الناموس الذين هم الأئمة المهديون والخلفاء الراشدون؛ فقد بينا أخلاقهم وخصالهم وشرائطهم وعلومهم ومعارفهم وطرائقهم في إحدى وخمسين رسالة عملناها ودوناها، وهذه الرسالة واحدة منها. فقم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، بالعمل بواجبها والقيام بحقها، وأخبر جميع إخواننا حيث كانوا في البلاد بما في هذه الرسالة والرسائل الأخر؛ إذ الدال على الخير كفاعله.
وقد بينا بما ذكرنا طرفا من خصال صاحب الناموس وحكم أتباعه معه في حفظهم أركان الناموس وتصاريف أحوالهم في الدنيا، فنريد أن نذكر طرفا من كيفية أحوالهم في الآخرة وتصاريف أحكامها؛ إذ كان هذا هو الغرض الأقصى في وضع النواميس الإلهية وسنن الديانات النبوية.
فاعلم يا أخي بأن لكل شيء من الموجودات في هذا العالم ظاهرا وباطنا، وظواهر الأمور قشور وعظام، وبواطنها لب ومخ، وأن الناموس هو أحد الأشياء الموجودة في هذا العالم منذ كان الناس، وله أحكام وحدود ظاهرة بينة، يعلمها أهل الشريعة وعلماء أحكامها من الخاص والعام، ولأحكامه وحدوده أسرار وبواطن لا يعرفها إلا الخواص منهم، والراسخون في العلم.
واعلم يا أخي بأن الناموس وضع لصلاح الدين والدنيا جميعا، وأن الدنيا والآخرة هما داران متقابلتان واسماهما مضادان، ومعناهما وحقيقتهما وصفتهما مختلفات متضادات؛ إحداهما كالقشرة وهي الدنيا، والأخرى كاللب وهي الآخرة، ولهما أهل وبنون ولأهلهما وبنيهما صفات وأخلاق وسجايا وأعمال متخالفات متضادات؛ نحتاج أن نشرحها ونفصلها ونذكر الفرق بينها وبين حقيقتها، ونميز بين أهلها؛ ليعلمها ويعرفها كل من أراد أن يفهم ويريد هذا العلم؛ إذ كان هو من أشرف العلوم وأجل المعارف التي يتعاطاها الناس من سائر العلوم.
فنقول: أما الدنيا فاسمها مشتق من الدنو والقرب، والآخرة من التأخر، وأما حقيقتهما فالدنيا هي تصاريف أمور تجري على الإنسان من يوم ولادة الجسد إلى يوم الممات الذي هو ولادة النفس ومفارقتها إياه، والآخرة هي تصاريف أمور تجري على الإنسان من يوم الممات ومفارقة النفس الجسد إلى ما بعدها أبد الآبدين ودهر الداهرين.
واعلم يا أخي بأن الله - جل ثناؤه - سمى الحياة الدنيا عرضا ومتاعا إلى حين؛ لأن كون الإنسان في الدنيا عارض عرض في طريق الآخرة، ولم يكن القصد والغرض المقام فيها، كما أن الغرض في الكون في الرحم لم يكن الغرض والقصد طول المكث والمقام هناك، ولكن طريقا وجوازا إلى الدنيا، فكذلك كون النفس في هذا الجسد هو سفينة ومركوب ومعبر إلى الدار الآخرة، وذلك أنه لم يكن الورود إلى الدنيا دون الكون هنالك زمانا لتتميم بنية الجسد، وتكميل صورته كما بينا في رسالة مسقط النطفة، فهكذا أيضا حكم المكث في الدنيا والكون فيها زمانا هو طريق وجواز إلى ما بعدها ؛ وذلك أنه لم يكن الورود إلى الدار الآخرة دون الجواز على الدنيا والكون فيها زمانا ما لكي ما تتم أحوال النفس، وتكمل فضائلها، كما بينا في رسالة الإنسان عالم صغير، ورسالة حكمة الموت.
ولهذا المعنى الذي ذكرناه ووصفناه قيل في الخطب على المنابر في الأعياد والجمعات: اعلموا أيها الناس أنكم إنما خلقتم للأبد، ولكن من دار إلى دار تنقلون، ومن الأصلاب إلى الأرحام، ومن الأرحام إلى الدنيا، ومن الدنيا إلى البرزخ، ومن البرزخ إلى الجنة أو إلى النار، كما ذكر الله - عز وجل - بقوله: @QUR08 أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون، وقوله: @QUR06 تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة، وقوله: @QUR012 تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا وآيات كثيرة في القرآن في التزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة، مثل قوله تعالى: @QUR08 وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون؛ يعني أبناء الدنيا لرغبوا فيها أكثر وحرصوا في طلبها أشد، ولكنهم عنها غافلون ساهون جاهلون، لا يدرون ما هناك من النعيم واللذات والسرور والفرح والراحة، كما ذكر الله - عز وجل - واختصر بقوله: @QUR09 فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون.
فلما جهل أبناء الدنيا أمور الآخرة، وغفلوا عنها اشتغلوا عند ذلك بطلب الدنيا ونعيمها ولذاتها وشهواتها، وتمنوا الخلود فيها؛ لأنها محسوسة لهم يشهدونها، وتلك غائبة عن إدراك الحواس، فتركوا البحث عنها، والرغبة فيها والطلب لها وإليهم أشار بقوله - جل ثناؤه: @QUR010 ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون.
واعلم يا أخي بأن الله - جل ثناؤه - سمى الدار الآخرة الحيوان؛ لأنها عالم الأرواح ومعدن النفوس، والدنيا عالم الأجسام، وجواهر الأجسام موات بطبائعها، وإنما تكسبها الحياة النفوس والأرواح بكونها فيها ومعها، كما تكسب الشمس الهواء النور والضياء بإشراقها عليه، وفيه الدليل على أن النفوس هي التي تكسب الأجساد الحياة بكونها معها، وما يرى من حال الأجساد قبل الموت من الحس والحركة والشعور والأصوات والتصاريف وكيفية فقدانها ذلك عند الموت الذي ليس هو شيئا سوى مفارقة النفس الجسد، مما لا خفاء به عند كل عاقل منصف بعقله في موجبات أحكامه.
واعلم يا أخي بأن أكثر الناس من أتباع واضعي الناموس وأنصارهم مقرون بالآخرة مؤمنون بها، ولكنهم لا يعرفون ماهيتها، ولا يدرون ما حقيقتها ولا كيفيتها ولا أبنيتها ولا متى وقت الوصول إليها، وهكذا أيضا كثير من المتفلسفين مقرون بعالم الأرواح وجواهر النفوس، ولكن أكثرهم أيضا لا يدرون كيف الطريق نحوها ولا كيف الوصول.
وقد بينا نحن في رسائلنا الناموسية والعقلية ما يحتاج إليه كلا الفريقين جميعا في هذا المعنى؛ وإذ قد تبين بما ذكرنا ما الدنيا وما الآخرة، فنقول الآن: إن الناس كلهم أبناء الآخرة وأهلها كما هم أبناء الدنيا وأهلها، ولكنهم ينقسمون في الآخرة قسمين اثنين، كما هم في الدنيا قسمان اثنان: سعداء وأشقياء، فأما سعداء بني الدنيا وأشقياؤهم فهم معروفون ولسنا نحتاج إلى ذكرهم؛ إذ كان هذا هو مشاهد، ولكن الذي نحتاج أن نذكره علامات سعداء أبناء الآخرة وأخلاقهم وأعمالهم؛ إذ كان هذا أمرا خفيا لا يعلم إلا بعد الوصف والشرح والدليل والعلامات.
(11) فصل في انقسام الناس في السعادة أربعة أقسام
اعلم يا أخي أن الناس ينقسمون في سعادة الدنيا والآخرة وشقائهما أربعة أقسام، فمنهم سعداء في الدنيا والآخرة جميعا، ومنهم أشقياء فيهما جميعا، ومنهم أشقياء في الدنيا سعداء في الآخرة، ومنهم سعداء في الدنيا أشقياء في الآخرة.
فأما السعداء في الدنيا والآخرة جميعا فهم الذين وفر حظهم في الدنيا من المال والمتاع والصحة، ومكنوا فيها فاقتصروا منها على البلغة، ورضوا بالقليل، وقنعوا به، وقدموا الفضل إلى الآخرة ذخيرة لأنفسهم، كما ذكر الله تعالى بقوله: @QUR08 وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله، وقال الله سبحانه: @QUR04 ووجدوا ما عملوا حاضرا وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى.
وأما سعداء أبناء الدنيا وأشقياء أبناء الآخرة فهم الذين وفر حظهم من متاعها ومكنوا منها وارتقوا فيها فتمتعوا وتلذذوا وتفاخروا وتكاثروا، ولم يتعظوا بزواجر الناموس، ولم ينقادوا له، ولم يأتمروا لأمره، وتعدوا حدوده، وتجاوزوا المقدار ، وطغوا وبغوا وأسرفوا، والله لا يحب المسرفين، وهم الذين أشار إليهم بقوله - جل ثناؤه: @QUR07 أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها إلى آخر الآية، وقال: @QUR013 ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب، وآيات كثيرة في القرآن في وصف هؤلاء.
وأما أشقياء الدنيا وسعداء الآخرة فهم الذين طالت أعمارهم فيها، وكثرت مصائبهم في تصاريف أيامها، واشتدت عنايتهم في طلبها، وفنيت أبدانهم في خدمة أهلها، وكثرت همومهم من أجلها، ولم يحظوا بشيء من نعيمها ولذاتها، وائتمروا بأوامر الناموس، ولم يتعدوا حدوده، وقد ذكر الله ذلك في آيات كثيرة من القرآن: @QUR06 إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.
وأما أشقياء الدنيا والآخرة فهم الذين بخسوا حظهم من الدنيا، ولم يمكنوا منها، وشقوا في طلبها، فعاشوا فيها طول أعمارهم بأبدان متعوبة ونفوس مهمومة، ولم ينالوا خيرا، ثم لم يأتمروا بأوامر الناموس، ولم ينقادوا لأحكامه، وتجاوزوا حدوده، ولم يتعظوا بزواجره، ولم يعملوا في عمارة بنيانه ولا في حفظ أركانه، فهم الذين خسروا الدنيا والآخرة جميعا، ذلك هو الخسران المبين.
فصل
وإذ قد تبين بما ذكرنا بأقسام عقلية أنه لا يخلو أحد من الناس من أن يكون داخلا في أحد تلك الأقسام الأربعة، فنريد أن نذكر أخلاق أبناء الدنيا وطباعهم، وأخلاق أبناء الآخرة وسجاياهم؛ ليعرف الفرق بينهم.
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن أخلاق بني الدنيا هي التي ركزتها الطبيعة في الجبلة من غير كسب منهم ولا اختيار ولا فكرة ولا روية ولا اجتهاد ولا كلفة، فهم يسعون فيها ويعملون عليها مثل البهائم في طلب منافع الأجساد ودفع المضرة عنها، كما قال الله تعالى ذكره: @QUR07 يأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم، وأما أخلاق أبناء الآخرة فهي التي اكتسبوها باجتهادهم، إما بموجب العقل والفكر والروية، وإما باتباع أوامر الناموس وتأديبه، كما سنبين، وتصير عند ذلك عادة لهم بطول الدءوب فيها، وكثرة الاستعمال لها، وعليها يجازون ويثابون، كما ذكر الله تعالى بقوله: @QUR016 وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى * ثم يجزاه الجزاء الأوفى.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأنك إذا أنعمت النظر بعقلك، وفكرت برويتك، وتأملت أوامر الناموس ونواهيه وأحكامه وحدوده وترغيبه وترهيبه ووعده وعيده وزجره وتهديده؛ عرفت وتبينت أن أكثر أوامره هي بخلاف ما في طباع الناس، ونواهيه عما هو في الجبلة مركوز من تركب الشهوات أو طلب الراحة والنعيم والتلذذ، وما هو مركوز في الجبلة.
وذلك أنه أمر بالصيام وترك الأكل والشرب عند شدة الجوع والعطش، وبالطهارة عند البرد، وبالقيام في الصلاة وترك النوم على الفراش الوطيء، وبالمواساة عند القلة وشدة الحاجة، وبالتعفف عند هيجان الشهوة، وبالحلم عند سورة الغضب، وبالشجاعة عند المخاوف، وبالعفو عند المقدرة، وبالعدل عند الحكومة، وبالصبر عند الشدائد، وبالرضا عند مر المقادير، وبحسن العزاء عند المصائب، وبالاجتهاد والتشمير عند الكسل، وبصدق القول عند شدة الخوف منه، وبالسخاء عند شدة الفقر، وبوفاء العهد عند المغيب، وبالزهد في الدنيا عند التمكن منها، وما شاكل هذه الأفعال والأعمال والأخلاق والسجايا التي في الجبلة خلافها وفي الطباع مركوز غيرها، ويروى في الخبر أنه سئل رسول الله - صلى الله عليه وآله - عن معنى قول الله - عز وجل: @QUR07 خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين، فقال: جمع في هذه الآية مكارم الأخلاق، وهي سبعة: عفوك عمن ظلمك، وإعطاؤك من حرمك، وصلتك لمن قطعك، وإحسانك إلى من أساء إليك، ونصيحتك لمن غشك، واستغفارك لمن اغتابك، وحلمك عمن أغضبك.
واعلم يا أخي بأن هذه هي أمهات أخلاق الكرام من أولياء الله الذين أشار إليهم بقوله: @QUR07 وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا إلى آخر الآية، وقوله: @QUR05 رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا وهي أخلاق الملائكة الذين أشار إليهم بقوله - جل ثناؤه: @QUR05 الذين يحملون العرش ومن حوله الآية، انظر الآن يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، إلى ما ذكرناه من أخلاق الكرام، وتفكر فيها إن كنت تريد أن تكون من أولياء الله وأهل جنته، ومن حزب ملائكته الكرام البررة، فاقتد بهم، وتخلق بأخلاقهم باجتهاد منك وروية وعناية شديدة وكثرة استعمال لها وطول دربة بها؛ لتصير لك عادة وطبيعة وجبلة مركوزة، وتبقى في نفسك مصورة عند المفارقة، ودع أخلاق إخوان الشياطين وجنود إبليس أجمعين.
واعلم علما يقينا بأن ليس يصحب الإنسان بعد الموت عند مفارقة النفس الجسد، ويبقى معه من كل ما يملك في الدنيا من المال والأهل والمتاع، إلا ما كسبت يداه من هذه الأخلاق والأعمال المشاكلة لها، والعلوم والمعارف والآراء التي اعتقدها وأضمرها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما هي أعمالكم ترد إليكم، وقال الله - جل ثناؤه: @QUR04 ووجدوا ما عملوا حاضرا.
واعلم يا أخي بأن أخلاق بني الدنيا وسجاياهم إنما جعلت طبيعة مركوزة في الجبلة؛ لأنهم وردوا إلى الدنيا جاهلين غير مستعدين لها، فأزيحت عللهم في ذلك، فأما أبناء الآخرة فصارت أخلاقهم مكتسبة معتادة؛ لأنهم أزيحت عللهم قبل ورودهم إلى الآخرة بما أعلموا بها، وأخبروا عنها، وبشروا بها، وأنذروا منها، وجدوا في طلبها.
وأوضح لهم طريقها، وأزيحت عللهم فيما يحتاجون إليه من البيان والاستطاعة والقدرة والهداية والأمر والنهي والوعد والوعيد والترغيب والترهيب وما شاكل ذلك مما هو بين واضح في أحكام النواميس وحدودها، وفي موجبات العقول وقضاياها؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل والعقول المركوزة.
وإذ قد تبين بما ذكرنا ما العلة وما السبب في كون أخلاق أبناء الدنيا مركوزة في الجبلة، وأخلاق أبناء الآخرة مكتسبة معتادة؛ فنريد أن نبين أن من الأخلاق المكتسبة ما هي مذمومة وما هي محمودة، وأن المحمودة منها ما هي بموجب العقل وقضاياه، ومنها ما هي بموجب أحكام الناموس وأوامره، وهكذا حكم المذمومة منها.
واعلم يا أخي بأن كل عاقل ذكي القلب إذا نظر بعقله وتفكر برويته في أحوال الناس، وميز بين طبقاتهم، واعتبر تصاريف أمورهم في دنياهم؛ عرف، وتبين له بأن منهم خاصا وعاما وملوكا وسوقة، ويعلم ويتبين له بأن أخلاق الملوك وسجاياهم وآداب أتباعهم ومن يصحبهم وينادمهم خلاف أخلاق العامة والسوقة، ويعلم بأنه لا يترك أحد من العامة والسوقة أن يدخل إلى مجالس الملوك إلا بعد أدب وعلم وسكون ووقار وهيبة وجلالة، فيكون في هذا دلالة له.
فيعلم أنه لا يمكن أحدا من الناس، ولا يليق به، ولا يثق أن يصعد إلى ملكوت السماوات وسعة الأفلاك والدخول في زمرة الملائكة إلا بعد عناية شديدة في تهذيب نفسه وإصلاح أخلاقه وصحة اعتقاده وحقيقة معلوماته، فيجتهد عند ذلك في إصلاح ما هو فاسد منها، ويتجنب ما هو مذموم بحسب ما توجبه قضية عقله، ويؤدي إليه اجتهاده كما هو مذكور في كتب السياسة الفلسفية.
واعلم يا أخي أنه لما لم يكن في مكنة كل عاقل أن يفعل ما وصفنا؛ إذ كان يحتاج فيه إلى عناية شديدة، وبحث دقيق، ونظر قوي؛ خفف الله تعالى ذلك عليهم، وبعث واضعي النواميس الإلهية مؤيدين مع الوصايا المرضية، وأمرهم بامتثال أمرهم ونهيهم، فبنوا لهم الهياكل والمساجد والبيع ومواضع الصلوات وبيوت العبادات، وأمروهم بالدخول إليها بعد طهارة ونظافة ولبس الزينة بسكينة ووقار وأدب وورع وخشوع وتسبيح واستغفار، وترك أشياء كانت مباحة لهم وجائزا أن يفعلوها في بيوتهم وأسواقهم ومجالسهم وطرقاتهم؛ كل ذلك ليكون دلالة لكل عاقل فهم أنه هكذا ينبغي أن تكون سيرة من يريد أن يدخل الجنة، ويعرج بروحه إلى ملكوت السماوات طول عمره وأيام حياته كلها؛ لتصير عادة له وجبلة وطبيعة ثابتة، فيستحق ويستاهل أن يعرج بروحه إلى هناك كما ذكر الله تعالى بقوله: @QUR07 إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه يعني روح المؤمن.
فإذا تفكر كل عاقل فيما يسمع من الخطب على المنابر في كل الديانات والملل في الأعياد والجمعات، تبين له حقيقة ما قلنا وصحة ما وصفنا.
واعلم يا أخي أن لواضعي النواميس وصايا كثيرة مفننة؛ لأن دعوتهم عموم للخاص والعام جميعا؛ وهم - أعني أتباعهم - مختلفو الأحوال، فبينوا لكل طبقة ما ينبغي ويصلح لها، ولكن الذي عمهم كلهم هي الدعوة إلى الإقرار بما جاءوا به، والتصديق لهم بما خبروا عنه من الأمور الغائبة، علم ذلك أتباعهم أو لم يعلموا.
هذا هو الإيمان كما قال تعالى: @QUR08 يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا فآمنوا بالله ورسوله، ثم أمرهم بعد هذا بأشياء ونهاهم عن أشياء كثيرة هي معروفة معلومة عند علماء أهل الشريعة وفقهائهم، ولكن آخر ما ختمها به قوله: @QUR015 واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون، ويروى في الخبر بأن هذا آخر ما نزل من القرآن.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن أوامر الله تعالى لعباده مماثلة لأوامر الملوك، وذلك أن من سنة الملوك والخلفاء وكثير من الرؤساء ومن آدابهم أنهم إذا تفرس أحدهم في أحد أولاده أو عبيده النجابة والفلاح؛ عني به أفضل عناية في تعليمه وتأديبه ورياضته، وحماه من اللعب واللهو والانهماك في الشهوات، ونهاه عن ترك الآداب وسوء الأخلاق وما لا يليق بأخلاق الرؤساء والعقلاء والأخيار؛ كل ذلك ليتخرج ويكون مهذبا متهيئا لقبول ما يراد منه أن يكون خليفة لمولاه ومكان أبيه في الرياسة والملك.
وهكذا كان تأديب الله تعالى لأنبيائه ورسله وأوليائه من المؤمنين فيما أمرهم به من اتباع رضوانه ونهاهم عنه من اتباع هوى أنفسهم - كما قال تعالى: @QUR014 وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى وهكذا أيضا إن كثيرا من أولاد الملوك وعبيدهم إذا أحس من أبيه أو مولاه ما ذكرنا أخذ نفسه بامتثال أمره ونهيه وترك شهواته واتباع هواه؛ كل ذلك لما يرجو من الأمر الجليل والخطب العظيم، فهكذا حكم أولياء الله من المؤمنين الذين يرجون لقاء الله.
وأما المتخلفون والمدابير من أولاد الملوك والرؤساء وعبيدهم الأشقياء الذين لا يرجون ما يوعدون؛ فهم لا يقبلون ما يؤمرون، ولا يسمعون ما يقال لهم، ولا يفكرون فيما يقال من الترغيب والترهيب، بل يسعون ليلهم ونهارهم في طلب شهواتهم وارتكاب هوى أنفسهم، فلا جرم أنهم يحرمون ما ينال إخوانهم من الرياسة والأمر والنهي والسلطان والعز والكرامات، فأما هؤلاء المدابير من أولاد الملوك فلا يصلحون لشيء غير أن يكونوا رهائن عند أعدائهم، أو معتقلين عند إخوتهم.
فهكذا يا أخي حكم الكافرين والمنافقين والفاسقين في الآخرة؛ يحرمون ما ينال المؤمنين من الكرامات والقرب والمراتب والدرجات والسرور واللذات؛ عقوبة لهم لما تركوا من وصية ربهم، وارتكبوا هوى أنفسهم، وضلوا عن الهدى، وحرموا الثواب والجزاء، كما قال الله تعالى: @QUR017 أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة الآية.
وإذ قد تبين بما ذكرنا أن تأديب الله للمؤمنين مماثل لتأديب الملوك لأولادهم، فنقول: اعلم يا أخي أن وعده ووعيده وعذابه للكافرين والمنافقين والفاسقين مماثل لوعيد الطبيب المشفق الحكيم لولده الجاهل العليل، كما بينا في رسالة الآلام واللذات، وقد ذكر الله وعده للمؤمنين ووعيده للكافرين والمنافقين في القرآن في نحو من ألف آية؛ مثل قوله تعالى: @QUR09 وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار الآية، وإنما جعل الله - جل ثناؤه - ثواب المؤمنين الجنان ونعيم الآخرة؛ لأن الإيمان خصلة تجمع فضائل كثيرة ملكية وشرائط كثيرة عقلية، فللمؤمنين علامات يعرفون بها ويتميزون على الكافرين والمنافقين، وقد بينا طرفا من هذا العلم في رسالة الإيمان وخصال المؤمنين، ولكن نحتاج أن نذكر في هذه الرسالة طرفا منها؛ ليكون تذكارا وموعظة للغافلين، كما أمر الله تعالى بقوله: @QUR05 وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين.
فصل
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن خواص عباده المؤمنين العارفين المستبصرين يعاملون الله - جل ثناؤه - بالصدق واليقين، ويحاسبون أنفسهم في ساعات الليل والنهار فيما يعملون، كأنهم يشاهدون الله ويرونه، فيجدون ثواب أعمالهم ساعة ساعة، لا يتأخر عنهم لحظة واحدة، وهي البشرى في الحياة الدنيا قبل بلوغهم إلى الآخرة، ويرون جزاء سيئاتهم أيضا يعقب أفعالهم، لا يخفى عليهم إلا قليل، وإليهم أشار بقوله - جل ثناؤه: @QUR012 إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون، وبقوله تعالى: @QUR06 إن عبادي ليس لك عليهم سلطان، وقال: @QUR04 إلا عبادك منهم المخلصين، وآيات كثيرة ذكرها بمدحهم وحسن الثناء عليهم، وهم أعرف الناس بالله وأحسنهم معاملة معه.
وذكروا أن واحدا منهم اجتاز يوما في بعض سياحته براهب في صومعة له على رأس تل، فوقف بإزائه فناداه: يا راهب، فأخرج رأسه إليه من صومعته، وقال: من هذا؟ قال: رجل من أبناء جنسك الآدميين، قال: فما تريد؟ قال: كيف الطريق إلى الله؟ قال الراهب: في خلاف الهوى، قال له: فما خير الزاد؟ قال: التقوى، قال: لم تباعدت عن الناس وتحصنت في هذه الصومعة؟ قال: مخافة على قلبي من فتنتهم وحذرا على عقلي الحيرة من سوء عشرتهم، فطلبت راحة نفسي من مقاساة مداراتهم وقبيح أفعالهم، وجعلت معاملتي مع ربي فاسترحت منهم.
قال: فأخبرني كيف وجدتهم؟ قال: أسوأ قوم وأشر أصحاب، ففارقتهم، قال: فكيف وجدتم يا معشر أتباع المسيح معاملتكم مع ربكم؟ فاصدقني القول ودع عنك تزويق الكلام وزخارف الألفاظ، فسكت الراهب متفكرا، ثم قال: أسوأ معاملة تكون، قال له: وكيف ذلك؟ قال: لأنه أمرنا بكد الأبدان وجهد النفوس وصيام النهار وقيام الليل وترك الشهوات المركوزة في الجبلة ومخالفة الهوى الغالب ومجاهدة العدو المتسلط والرضا بخشونة العيش والصبر على الشدائد والبلوى، ومع هذه كلها جعل الأجر نسيئه في الآخرة بعد الموت مع بعد الطريق وكثرة الشكوك والحيرة، فهذه حالتنا في معاملتنا مع ربنا، فخبرني عنكم يا معشر أتباع أحمد، كيف وجدتم معاملتكم مع ربكم؟ قال: خير معاملة تكون وأحسنها.
قال الراهب: صفها لي، قال له: إنه أعطانا سلفا كثيرة ومواهب جزيلة لا تحصى فنون أنواعها من النعم والإحسان والأفضال، فنحن ليلنا ونهارنا نتقلب في أنواع من نعمه وفنون من آلائه ما بين سالف معتاد وآنف مستفاد وخالف منقاد، قال الراهب: كيف خصصتم بهذه المعاملة دون غيركم والرب واحد؟ قال: أما النعمة والإحسان والأفضال فعموم للجميع، قد عمتنا كلنا، ولكن نحن خصصنا بحسن الاعتقاد وصحة الرأي والإقرار بالحق والإيمان والتسليم، فوفقنا لمعرفة الحقائق لما أعطينا بالانقياد والإيمان والتسليم وصدق المعاملة من محاسبة النفس وملازمة الطريق، وتفقد تصاريف الأحوال الطارئة من الغيب ومراعاة القلب بما يرد عليه من الخواطر والوحي والإلهام ساعة بساعة.
قال الراهب: زدني في البيان، قال: نعم، اسمع ما أقوله وافهمه، واعقل ما تفهم. إن الله - جل ثناؤه - لما خلق الإنسان من طين ولم يكن شيئا مذكورا وجعل نسله من سلالة ماء مهين، ثم جعله نطفة في قرار مكين، ثم قلبه حالا بعد حال تسعة أشهر إلى أن أخرجه من هناك خلق سويا بنية صحيحة وصورة تامة وقامة منتصبة وحواس سالمة، ثم زوده من هناك لبنا لذيذا خالصا سائغا لذة للشاربين حولين كاملين، ثم رباه وأنشأه وأنماه بفنون من لطفه وغرائب من حكمته إلى أن بلغه أشده واستوى ثم آتاه حكما وعلما وقلبا ذكيا وسمعا دقيقا وبصرا حادا وذوقا لذيذا وشما طيبا ولمسا لينا ولسانا ناطقا وعقلا صحيحا وفهما جيدا وذهنا صافيا وتمييزا وفكرا وروية ومشيئة واختيارا وجوارح طائعة ويدين صانعتين ورجلين ساعيتين.
ثم علمه الفصاحة والبيان والخط بالقلم والصنائع والحرف والزراعة والبيع والتجارة والتصرف في المعاش وطلب وجوه المنافع واتخاذ البنيان وطلب العز والسلطان والأمر والرياسة والتدبير والسياسة، وسخر له ما في الأرض جميعا من الحيوان والنبات والمعادن، فغدا متحكما عليها تحكم الأرباب ومتصرفا فيها تصرف الملاك، متمتعا بها إلى حين.
ثم أراد الله أن يزيده من إحسانه وفضله وجوده وإنعامه شيئا آخر أشرف وأجل مما عددنا وذكرنا، وهو ما أكرم الله به ملائكته وخالص عباده وأهل جنته من النعيم الذي لا يشوبه نقص ولا تنغيص؛ إذ كان نعيم الدنيا مشوبا بالبؤس ولذاتها بالآلام وسرورها بالحزن وراحتها بالنصب وعزتها بالذل وصفوها بالكدر وغناها بالفقر وصحتها بالسقم وأهلها فيها معذبون في صورة المنعمين، مغتمون في صورة المغبوطين، مغرورون في صورة الواثقين، مهانون في صورة المكرمين، وجلون غير مطمئنين، خائفون غير آمنين.
مترددون بين الأضداد من نور وظلمة، وليل ونهار وشتاء وصيف وحر وبرد ورطب ويابس ونوم ويقظة وجوع وشبع وعطش وري وراحة وتعب وشباب وهرم وقوة وضعف وحياة وموت، وما شاكل ذلك من الأمور التي أهل الدنيا وأبناؤها مترددون بينها، متحيرون فيها، مدفوعون إليها.
فأراد ربك أن يخلصهم من هذه الآلام المشوبة باللذات، وينقلهم منها إلى نعيم لا بؤس فيه ، ولذة لا يشوبها ألم، وسرور بلا حزن، وفرح بلا غم، وعز بلا ذل، وكرامة بلا هوان، وراحة بلا تعب، وصفو لا يخالطه كدر، وأمن بلا خوف، وغناء بلا فقر، وصحة بلا سقم، وحياة بلا موت، وشباب بلا هرم، ومودة لازمة، ونور لا يشوبه ظلام، ويقظة بلا نوم، وذكر بلا غفلة، وعلم بلا جهالة، وصداقة بلا عداوة بين أهلها، ولا حسد ولا غيبة، إخوانا على سرر متقابلين، آمنين مطمئنين أبد الآبدين ودهر الداهرين.
ولما لم يمكن أن يكون الإنسان هناك بهذا الجسد الفاني والجسم الثقيل المستحيل الطويل العريض العميق المظلم المركب من أجزاء الأركان المتضادة، المؤلفة من الأخلاط الأربعة؛ إذ كان لا يليق بمن هذه سبيله من تلك الأوصاف الصافية والأحوال الباقية اقتضت العناية بواجب حكمة الباري - جل ثناؤه - أن ينشأ نشوءا آخر، كما ذكر الله - جل ثناؤه - بقوله: @QUR06 ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون؛ يعني: النشأة الأخرى، وقال: @QUR05 وننشئكم في ما لا تعلمون، وقال: @QUR05 ثم الله ينشئ النشأة الآخرة فبعث بلطفه أنبياءه ورسله يرغبونهم فيها، ويدلونهم على طريقها؛ كي ما يطلبوها ويكونوا لها مستعدين قبل الورود إليها، ولكي يسهل عليهم مفارقة ما ألفوا من الدنيا من شهواتها ولذاتها، وتخفف عليهم شدائد الدنيا ومصائبها؛ إذ كانوا يرجون بعدها ما يغمرها ويمحو ما قبلها من نعيم الدنيا وبؤسها، ويحذرونهم أيضا التواني في طلبها؛ كي لا يفوتهم ما وعدوا به، فإنه من فاتته فقد خسر الدنيا والآخرة جميعا، وضل ضلالا بعيدا، وخسر خسرانا مبينا.
فهذا رأينا واعتقادنا يا راهب في معاملتنا مع ربنا، وبهذا الاعتقاد طاب عيشنا في الدنيا، وسهل علينا الزهد فيها وترك شهواتها، واشتدت رغبتنا في الآخرة، وزاد حرصنا في طلبها، وخف علينا كد العبادة، فلا نحس بها، بل نرى أن ذلك نعمة وكرامة وعز وشرف؛ إذ جعلنا أهلا أن نذكره؛ وإذ هدى قلوبنا وشرح صدورنا ونور أبصارنا لما عرفنا من كثرة إنعامه وفنون ألطافه وإحسانه.
قال الراهب: جزاك الله خيرا من واعظ ما أبلغه، ومن ذاكر أنعاما ما أحسنه، ومن هاد رشيد ما أبصره، وطبيب رفيق ما أحذقه، وأخ ناصح ما أشفقه.
فصل
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الأمور الطبيعية محيطة بنا ومحتوية على نفوسنا كإحاطة الرحم بالجنين، وكإحاطة قشرة البيضة بمحها؛ كل ذلك حرص من الطبيعة على تتميمها وتكميلها وصيانتها من الآفات العارضة إلى أجل معلوم، فإذا جاء وقت الخروج من هناك بعد تتميم البنية وتكميل الصورة، فالجنين حينئذ هو الذي يحرك أعضاءه، ويركض برجليه، ويضرب بيديه حتى يخرق المشيمة، وتتقطع تلك الأوتار والرباطات التي كانت تمسكه هناك، ويمكنه الخروج من الرحم، وكذلك أفعال الفرخ بالبيضة، فهذا قياس ودليل لكل نفس تريد فراق الدنيا والخروج من عالم الأجسام إلى عالم الأرواح، وتنبيه لها على أنه ينبغي لنا أن نتحرك ونجتهد حتى ندفع عن أنفسنا الأخلاق الطبيعية المركوزة في الجبلة المذمومة منها، المانعة للنفوس عن النهوض والخروج من عالم الكون والفساد إلى عالم الأفلاك وسعة السماوات ومعدن الأرواح ومقر النفوس.
فلما كان هذا كما ذكرناه، ولم يكن في منة إنسان أن يعقل هذا الأمر الجليل، ويفهم هذا الخطب الخطير؛ كان من فضل الله وإحسانه وإكرامه لعباده أن بعث إليهم النبيين والمرسلين مؤيدين؛ ليعلموا الناس هذه الأمور ويعرفوهم هذا الخطب وينبهوهم عليه ويدعوهم إليه ويرغبوهم فيه ويحثوهم على طلبه، ويكلفوهم الاجتهاد في نيله طوعا أو كرها، وهذه من جسيم نعم الله سبحانه على عباده وعظيم إحسانه إليهم، الذي عمهم كلهم، ولم يخص أحدهم دون الآخر؛ وإذ قد تبين بما ذكرنا بأن بعض نعم الله تعالى وإحسانه ما هي عموم لجميع خلقه لا يخص واحدا دون الآخر، فنريد أن نذكر ما يخص منها، ونبين كيف يكون ذلك، ومن يستحقها ويستأهلها.
فاعلم يا أخي أن من نعم الله وإحسانه وإكرامه ما يخص به خواص من عبيده بحسب اجتهادهم وسعيهم وحسن معاملتهم، ويحرمه قوما آخرين عقوبة لهم؛ إذ كان سعيهم واجتهادهم ومعاملتهم بخلاف سعي أولئك واجتهادهم، فهذا الباب من عدله وإنصافه بين خلقه؛ إذ كان الإحسان إليهم والنعم التي هي من قبله تفضلا عليهم تعمهم كلهم والتي يستحقونها بحسب سعيهم، ويستأهلونها باجتهادهم لا يساوي بينهم فيها؛ إذ لم يكونوا متساوين في العمل.
واعلم يا أخي بأن الله - جل ثناؤه - لما بعث أنبياءه ورسله إلى الأمم الجاهلة الغافلة عن هذا الأمر الجليل الخطير؛ لم يأمرهم ولا كلفهم شيئا شاقا سوى ما في وسع طاقتهم من القول والعمل والنية والإضمار، فأول شيء أمرهم الأنبياء وطالبوهم به هو الإيمان الذي هو إقرار اللسان لهم بما جاءوا به من الأنباء والأخبار عن أمور غائبة عن حواسهم وترك الجحود والإنكار لها، كما ذكر بقوله - جل ثناؤه: @QUR013 قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ... فآمنوا بالله ورسوله، فمن أعطاه الإقرار باللسان وثبت ولم يرجع؛ كان جزاؤه ومكافأته لإقراره في الدنيا عاجلا أن يهدي الله قلبه بنور اليقين، ويشرح صدره للتصديق بما أخبر به عن الغيب، وينجي قلبه من ألم الكرب والتكذيب، ويخلص نفسه من عذاب الشك والريبة والحيرة، كما وعد - جل ثناؤه - بقوله: @QUR05 ومن يؤمن بالله يهد قلبه؛ يعني: من يقر بلسانه يهد قلبه للتصديق واليقين والإخلاص، وقال: @QUR02 والذين اهتدوا؛ يعني: أقروا، @QUR02 زادهم هدى؛ يعني: يقينا واستبصارا @QUR02 وآتاهم تقواهم؛ يعني: أزال عنهم الشك والارتياب.
واعلم يا أخي بأن المقر بلسانه والمنكر بقلبه يكون شاكا مرتابا متحيرا دهشا، وهذه كلها آلام للقلوب وعذاب للنفوس، فأراد الله - جل ثناؤه - أن يخلص عباده المقرين لأنبيائه بما جاءوا به من هذه الآلام والعذاب، فأمر المقرين بأشياء يفعلونها ونهاهم عن أشياء ليتركوها؛ كل ذلك ليبلوهم، فمن قبل وصاياه وعمل بها وثبت عليها كان جزاؤه وثواب عمله في الدنيا عاجلا قبل وصوله إلى الآخرة؛ أن هدى قلوبهم بنور اليقين وشرح صدورهم من ضيق الشك والريبة والإنكار والحيرة والدهشة والنفاق وخلصهم من عذابها.
وأما من ترك الوصية ولم يعمل بها، بل خادع ومكر، وأضمر خلاف ما أظهر، وأسر غير ما أعلن، وأخلف الوعد، وأقام على هذه المساوئ والمخازي؛ كان جزاؤه وعقوبته أن يترك في ريبه مترددا في دينه، متحيرا شاكا مذبذبا معذبا قلبه ، متألمة نفسه، كما ذكر الله تعالى بقوله: @QUR015 فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون، وقوله تعالى: @QUR013 ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: @QUR07 هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون، فقد تبين بما ذكرنا طرف من كيفية اختصاص الله تعالى المؤمنين بأفضاله وأنعامه وإحسانه إلى قوم دون قوم مكافأة لهم بحسب معاملتهم مع ربهم في عاجل الحياة الدنيا قبل وصولهم إلى الآخرة، وكيف يحرم تلك النعم قوما آخرين عقوبة لهم وجزاء لما تركوا من وصاياه ولم يعملوا بها.
فصل
واعلم يا أخي، أيدك الله، بأنه - جل ثناؤه - قد فرض على المؤمنين المقرين به وبأنبيائه أشياء يفعلونها، ونهاهم عن أشياء ليتركوها؛ كل ذلك ليبتليهم بها، وجعلها عللا وأسبابا ليرقيهم فيها، وينقلهم بها حالا بعد حال إلى أن يبلغهم إلى أتم حالاتهم وأكمل غاياتهم.
واعلم يا أخي بأن من بلغه الله درجة ورتبة، فوقف عندها ولم يرجع القهقرى بعد بلوغها، ثم قام بحقها ووفى بشرائطها؛ جعل جزاءه وثوابه أن ينقله من تلك الرتبة والدرجة إلى ما فوقها، ويرفعه من تلك إلى ما هو أشرف وأجل منها، ومن جهل قدر النعمة في تلك الرتبة فلم يشكرها، ولا اجتهد في طلب ما فوقها، ولا رغب في الزيادة عليها؛ كان جزاؤه أن يترك مكانه ويوقف حيث انتهى به عمله، ويحرم المزيد، فيفوته ما وراء ذلك وفوقه من الدرجات والمراتب، وكان ذلك الفوت والحرمان هو عقوبته، والمثال في ذلك ما تقدم ذكره في أمر المؤمنين المقرين المخلصين الصادقين والمنافقين المخادعين المرتابين.
وقد ذكر الله تعالى علامات المؤمنين المخلصين الموقنين الصادقين وأعمالهم وأخلاقهم في آيات كثيرة من سور القرآن، وذكر أيضا علامات المنافقين المرتابين المرائين في آيات كثيرة، وخاصة ما في سورة الأنفال وسورة التوبة وسورة الأحزاب، بما فيه كفاية عن إعادته ها هنا، ويروى في الخبر أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يأمر الناس أيام إمارته بقراءة هذه السور، ويأمرهم بحفظها ودرسها، وأن يأخذوا أنفسهم بواجب ما ذكر فيها وبراءة ساحتهم مما وصف فيها من صفات المنافقين المرتابين الشاكين المرائين المخادعين.
فينبغي لك يا أخي أن تجعل هذا الذي ذكرنا دليلا وقياسا لك في كل ما تعامل به ربك طول عمرك وأيام حياتك، إن أردت أن يرقيك برحمته في المراتب، ويرفعك في الدرجات حتى يبلغك أقصاها وأشرفها في الدنيا والآخرة جميعا، كما وعد الله تعالى ذلك بقوله: @QUR09 يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات.
(12) فصل في فضل طلب العلم
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الله - جل ثناؤه - قد فرض على المؤمنين أشياء كثيرة يفعلونها، ونهاهم عن أشياء كثيرة يتركونها - كما قلنا آنفا - ولكن ليس من فريضة من جميع مفروضات الشريعة وأحكام الناموس أوجب ولا أفضل ولا أجل ولا أشرف ولا أنفع لعبد، ولا أقرب له إلى ربه بعد الإقرار به والتصديق لأنبيائه ورسله فيما جاءوا به وخبروا عنه من العلم وطلبه وتعليمه.
وبيان ذكر شرف العلم على ما ذكرناه من فضيلته وجلالته وفضل طلبه وتعلمه، ما روي عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: تعلموا العلم؛ فإن في تعلمه لله خشية وطلبه عبادة ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمونه صدقة، وبذله لأهله قربة؛ لأنه معالم الحلال والحرام ومنار سبيل الجنة والمؤنس في الوحدة والوحشة، والصاحب في الغربة، والدليل على السراء والضراء والسلاح على الأعداء والمقرب عند الغرباء، والزين عند الأخلاء، يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة يهتدى بهم، وأئمة في الخير تقتفى آثارهم، ويوثق بأعمالهم، وينتهى إلى آرائهم، وترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، وفي صلاتها تستغفر لهم، ويستغفر لهم كل رطب ويابس حتى الحيتان في البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه، والسماء ونجومها.
لأن العلم حياة القلب من الجهل، ومصابيح الأبصار من الظلم، وقوة الأبدان من الضعف، يبلغ به العبد منازل الأحرار ومجالس الملوك، والدرجات العلى في الدنيا والآخرة ، والفكر فيه يعدل بالصيام، ومدارسته بالقيام؛ به يطاع الله، وبه يعبد، وبه يعلم الخير، وبه يتورع، وبه يؤجر، وبه توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال والحرام، واعلم أن العلم إمام العمل، والعمل تابعه، ويلهمه الله السعداء، ويحرمه الأشقياء.
فصل
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن طالب العلم يحتاج إلى سبع خصال، أولها السؤال والصمت، ثم الاستماع، ثم التفكر، ثم العمل به، ثم طلب الصدق من نفسه، ثم كثرة الذكر أنه من نعم الله، ثم ترك الإعجاب بما يحسنه، والعلم يكسب صاحبه عشر خصال محمودة، أولها الشرف وإن كان دنيا، والعز وإن كان مهينا، والغناء وإن كان فقيرا، والقوة وإن كان ضعيفا، والنبل وإن كان حقيرا، والقرب وإن كان بعيدا، والقدر وإن كان ناقصا، والجود وإن كان بخيلا، والحياء وإن كان صلفا، والمهابة وإن كان وضيعا، والسلامة وإن كان سقيما، وقال الله - جل ذكره: @QUR011 هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب، وقال سبحانه: @QUR06 إنما يخشى الله من عباده العلماء، وقال: @QUR07 ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، وآيات كثيرة في القرآن في مدح العلماء وفضائلهم وحسن الثناء عليهم في مثل ذلك.
واعلم يا أخي بأن للعلماء - مع كثرة فضائل العلم - آفات وعيوبا وأخلاقا ردية، تحتاج أن تتجنبها وتتحذرها، فمنها الكبر والعجب والافتخار، وقد روي عن رسول الله أنه قال: من ازداد علما ولم يزدد لله تواضعا، وللجهال رحمة، وللعلماء مودة؛ لم يزدد من الله إلا بعدا. ومنها كثرة الخلاف والمنازعة فيه وطلب الرياسة به والتعصب والعداوة والبغضاء فيما بينهم، وقال لقمان الحكيم لابنه: يا بني جالس العلماء، وزاحمهم بركبتك، فإن الله يحيي القلوب الميتة بنور العلم، كما تحيى الأرض الميتة بوابل المطر، وإياك ومنازعة العلماء؛ فإن الحكمة نزلت من السماء صافية، فلما تعلمها الرجال صرفوها إلى أهواء أنفسهم.
ومن آفات العلماء الخوض في المشكلات والترخيص في الشبهات وترك العمل بموجبات العلم، ومن آفات العلماء أيضا كثرة الرغبة في الدنيا وشدة الحرص في طلبها، وقد قيل في المثل : إن حب الدنيا رأس كل خطيئة، والحرص في طلبها مرض للنفوس وسقام لها، وعلماء أحكام الناموس هم أطباء النفوس ومداووها، فمثل العالم الراغب في الدنيا الحريص على طلب شهواتها كمثل الطبيب المداوي غيره وهو مريض لا يرجى صلاحه، فكيف يشفي المريض بعلاجه؟ وقد قيل: إن عالما زاهدا في الدنيا، يكون عالما بدين الله وبصيرا بطريق الآخرة خير من ألف عالم راغب فيها، وقال المسيح - عليه السلام: أيها العلماء والفقهاء قعدتم على طريق الآخرة، فلا أنتم تسيرون إليها فتدخلون الجنة، ولا تتركون أحدا يجوزكم فيصل إليها، وإن الجاهل أعذر من العالم، وليس لواحد منهما عذر.
واعلم يا أخي بأن كل علم وأدب لا يؤدي صاحبه إلى طلب الآخرة ولا يعينه على الوصول إليها، فهو وبال على صاحبه وحجة عليه يوم القيامة؛ وذلك أن الملوك والجبابرة والفراعنة والقرون الماضية كانت لهم عقول رضية، وآداب بارعة، وسياسة وحكمة وصنائع عجيبة، وهكذا من كان يعاشرهم وينادمهم ويقرب إليهم من وزرائهم وكتابهم وعمالهم وقوادهم وعلمائهم وأدبائهم، ولكن هلكوا من أجل أنهم صرفوا تلك القوى والعقول والأفهام وأكثر أفكارهم وتمييزهم ورويتهم في طلب شهوات الدنيا والتمتع بلذاتها ونعيمها بالرغبة الشديدة والحرص والتمني للخلود فيها، وجعلوا أكثر كدهم وسعيهم في صلاح أمور الدنيا حتى عمروها وأهملوا الآخرة وذكر المعاد، ولم يستعدوا له وذكروا الدنيا وغفلوا عن الآخرة ولم يتزودوا من الدنيا، وتركوها لغيرهم، ورحلوا عنها كارهين، فصارت تلك النعم وبالا عليهم؛ إذ لم ينالوا بها الآخرة، فخسروا الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.
وإنما أكثر الله سبحانه في القرآن ذم هؤلاء وسوء الثناء عليهم؛ لكي ما يعتبر بهم المعتبرون ممن يجيء بعدهم ويتعظوا بحالهم، ولا يغتروا بالدنيا كاغترارهم، كما قال الله - جل ذكره: @QUR08 فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور، وقال: @QUR06 أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة إلى آخر الآية، وقال - تعالى ذكره: @QUR09 زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة الآية، وقال: @QUR037 واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا * المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا، وآيات كثيرة في القرآن في ذم الراغبين في الدنيا، والتحذير منها ومن غرورها وأمانيها.
كل ذلك نصح من الله سبحانه لعباده المؤمنين ولطف بهم ونظر ورحمة؛ لئلا تفوتهم الآخرة كما فاتت أولئك؛ ولئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من يحيى عن بينة، قال الله تعالى: @QUR014 تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين.
فصل
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن من الأخلاق المكتسبة ما هي محمودة منسوبة إلى الملائكة، كما سنبينها بعد، ومنها ما هي مذمومة منسوبة إلى الشيطان، وهي كثيرة نحتاج أن نبينها ونشرحها؛ ليظهر الفرق بينهما ويعرفها إخواننا الكرام، فيجتنبوا أخلاق الشياطين ويتركوها ويتخلقوا بأخلاق الملائكة الكرام ويؤثروها، ويجتهدوا في اكتسابها؛ إذ كانت أخلاق النفوس هي أحد الأربعة الأشياء التي لا تفارق النفس بعد مفارقتها الأجساد وعليها أيضا تجازى النفوس إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
وهذه الأربعة الأشياء التي ذكرنا أن النفس تجازى عليها بعد الفراق، أولها الأخلاق المكتسبة المعتادة، والثاني العلوم التعليمية، والثالث الآراء المعتقدة، والرابع الأعمال المكتسبة بالاختيار والإرادة، فمن أخلاق الشياطين أولها كبر إبليس وحرص آدم وحسد قابيل.
واعلم يا أخي بأن هذه الخصال الثلاث هي أمهات المعاصي وأصول الشرور، ولها أخوات مشاكلات لها، وفروع وأغصان متفننات منها نحتاج أن نذكر طرفا منها ليعلم صحة ما قلنا ويعرف حقيقة ما وصفنا.
فمن أخوات الكبر وأشكاله عجب المرء برأي نفسه، والأنفة عن قبول الحق، وترك الإقرار به، والانقياد لأمر الآمر والناهي الواجب الطاعة، والتعدي والخروج عن الحد الواجب والحق اللازم، والظلم والجور عند القدرة في الحكومات، وترك الإنصاف في المعاملة، والتهاون في الواجبات، والإعراض عن اللوازم من الحقوق، والقحة والصلابة في الوجه في دفع الحق والعيان والضرورات والفحش والسفاهة في الخطاب والجدال واللجاج في الخصومات والخرق والنزق في العشرة، والحدة والطيش في التصرف، والغش والمكر في المعاملة، والاستصغار والاحتقار لأبناء الجنس، والاستطالة عليهم والافتخار في الأمور بما خص من المواهب، والإنكار لفضل من فضل عليه، والبغي والعدوان وما شاكلها من الخصال المذمومة والأخلاق الرديئة والأفعال السيئة والأعمال القبيحة.
ومن أخوات الحرص وأشكاله الطمع الكاذب، وشدة الرغبة، والطلب الحثيث، والعجلة في السعي، وتعب البدن، وعناء النفس، وكد الروح في الجمع والادخار، والاستكثار والاحتكار من خوف الفقر، والبخل والمنع والشح واللؤم والنكد، وما يتبعها من الشؤم والخذلان وقلة الانتفاع بالموجود، والحرمان من المدخور، والمضايقة في المعاملة، والمناقشة في المحاسبة، وسوء الظن بالأمين، والتهمة للثقات والمؤتمنين، والخيانة في الأمانة، وطلب الحرام وهتك الحرم، وارتكاب الفحشاء، وإضمار القلب على الإضرار، وإظهار الكذب لكتمان السر، والحيل في أسباب الطلب من البيع والشراء، والغش في الأمتعة، وقلة النصيحة في الصنائع، والحلف واليمين الكاذبة عند الاعتذار في الحكومات، وأقاويل الزور في أسباب الخصومات، والعداوة والتعدي في الحدود، وما شاكلها من الخصال المذمومة والأخلاق الرديئة والأقاويل الباطلة والأفعال القبيحة والأعمال السيئة.
ومن أخوات الحسد وأشكاله الحقد والغل والدغل، ثم تدعو هذه الخصال إلى المكاشفة بالعداوة والبغضاء والبغي والغضب والحرد والتعدي والعدوان وقساوة القلب وقلة الرحمة والفظاظة والغلظة والطعن واللعن والفحشاء، وتكون سببا للخصومة والشر والحرب والقتال، إن أمكن ذلك جهارا وإعلانا، وإلا يدعو إلى المكر والحيلة والخداع والغدر والخيانة والسعاية والغيبة والنميمة والزور والبهتان والكذب والمداهنة والنفاق والرياء، ويصير ذلك سببا لتشتيت الشمل وتفريق الجميع وقطيعة الرحم والبعد من الإخوان ومفارقة الإلف وخراب الديار ووحشة الوحدة والحزن والغم وألم القلب وهموم النفس وعذاب الأرواح وتنغيص العيش وسوء المنقلب وخسران الدنيا والآخرة، نعوذ بالله من هذه الخصال والشرور والأخلاق والأفعال القبيحة والأعمال السيئة الدنية التي تنكرها العقول السليمة والنفوس المهذبة والأرواح الطاهرة.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن المتكبر عن قبول الحق عدو للطاعة، وقد قيل: إن الطاعة هي اسم الله الأعظم الذي به قامت السماوات والأرض بالعدل ، وضد الكبر التواضع للحق والقبول له، ويقال في المثل السائر: من تواضع لله رفعه الله، ومن تكبر وضعه الله، وقيل في بعض كتب بني إسرائيل: قال الله - سبحانه وتعالى: الكبر ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني فيهما كببته في نار جهنم على منخريه، قال الله - عز وجل - في القرآن: @QUR05 أليس في جهنم مثوى للمتكبرين، وقيل: إن الحرص الشديد ربما كان سبب الحرمان، والحاسد عدو لنعم الله، وليس للحاسد إلا ما حسد، وقال الله - جل ذكره: @QUR09 أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، فاحذر يا أخي من هذه الخصال والأخلاق والأعمال؛ فإنها من أخلاق الشياطين وجنود إبليس أجمعين الذين يبغض بعضهم بعضا، ويعادي بعضهم بعضا كما ذكر الله تعالى بقوله: @QUR05 كلما دخلت أمة لعنت أختها، وقال تعالى: @QUR06 لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار، وآيات كثيرة في القرآن في ذم هؤلاء وسوء الثناء عليهم.
فقد تبين بما ذكرنا أن الكبر والحرص والحسد أصول وأمهات لسائر الخصال المذمومة والأخلاق الرديئة المنتشئة منها الشرور والمعاصي كلها، فاحذر يا أخي منها، فإن قيل: ما الحكمة والفائدة في كون هذه الخصال الثلاث موجودة في الخليقة، مركوزة في الجبلة؟ فنقول: أما التكبر فهو من كبر النفس، وكبر النفس هو من علو همتها، وعلو الهمة جعل في جبلة النفس لطلب الرياسة، وطلب الرياسة من أجل السياسة، وذلك أن الناس محتاجون في تصاريف أمورهم إلى رئيس يسوسهم على شرائط معلومة، كما ذكر ذلك في كتب السياسات بشرح طويل، وقد ذكرنا طرفا منها في رسالة سياسة النبوة والملك، فإذا لم يكن الرئيس عالي الهمة كبير النفس؛ لم يصلح للرياسة، وكبر النفس يليق بالرؤساء، ويصلح للملوك وسياسة الجماعات، فأما الرعية والأعوان والأتباع والخدم والعبيد فلا يصلح لهم كبر النفس ولا يليق بهم.
وأقول بالجملة: إن كبر النفس في كل وقت وفي كل شيء ليس بأمر محمود، ولكن إذا استعمل كما ينبغي في الوقت الذي ينبغي بمقدار ما ينبغي من أجل ما ينبغي؛ سمي ذلك محمودا، فيكون عامل ذلك طلق النفس ذا مروءة ، عالي الهمة عفيفا كريما جميلا دينا، ويكون صاحبه محمودا معظما مبجلا مهيبا، وأما التكبر عن قبول الحق وترك الإقرار بالواجب والفسق عن أمر الرئيس وترك الانقياد والإذعان للطاعة المفروضة؛ فهو المذموم وهو هو الشر والمعصية والمنكر.
وأقول بالجملة: ينبغي لك يا أخي أن تعلم وتتيقن بأنك كما تريد وتحب وتشتهي من عبدك أن ينقاد لأمرك وكذلك خادمك وأجيرك وتابعك وزوجك وولدك ولا يتكبرون عليك ولا يخرجون عن أمرك، ولا يجاوزون نهيك؛ فهكذا ينبغي ويجب أن تكون لرئيسك ومن هو فوقك في الأمر والنهي حتى تكون عادلا منصفا محقا ممدوحا مثابا مجازا ملتذا فرحا مسرورا منعما مكرما؛ فقد تبين بما ذكرنا ما الحكمة والفائدة في وجود التكبر في طباع النفس المركوزة في جبلتها، ومتى يكون صاحبه مذموما معاقبا، ومتى يكون محمودا مثابا.
وأما كون الحرص في طلب المرغوب فيه الموجود في الخليقة، المركوز في الجبلة؛ فهو من أجل أن الإنسان لما خلق محتاجا إلى مواد لبقاء هيكله ودوام شخصه مدة ما وإبقاء صورته في نسله زمانا ما؛ جعل في طبعه وجبلته الرغبة فيها والحرص في طلبها والجمع لها والادخار والحفظ لوقت الحاجة إليها؛ إذ كان ليس في كل وقت وفي كل مكان موجودا ما يريده ويحتاج إليه، فإذا رغب الإنسان فيما يحتاج إليه وطلب ما ينبغي له وجمع مقدار الحاجة وحفظه إلى وقت الحاجة، ثم استعمل ما ينبغي كما ينبغي، وأنفق بقدر الحاجة؛ فهو يكون محمودا عادلا منصفا محقا مصيبا مأجورا ملتذا مثابا منعما فرحا مسرورا مكرما.
فقد بينا ما الحكمة والفائدة في كون الرغبة والحرص في الجبلة المركوزة، فإذا طلب ما لا يحتاج إليه كان مذموما، أو جمع أكثر مما يحتاج إليه كان متعوبا، أو جمع ولم ينفق ولم يستعمل في وقت الحاجة إليه كان مقترا محروما، فإن أنفق واستعمل فيما لا ينبغي كان مسرفا مخطئا جائرا معاقبا معذبا، وروي عن رسول الله - صلى الله عليه وآله - أنه قال: من طلب الدنيا تعففا عن المسألة، وتوسعا على عياله ، وتعطفا على جاره؛ لقي الله يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر، ومن طلب الدنيا مكاثرا مفاخرا مرائيا؛ جعل الله فقره بين عينيه، ولم يبال الله به بأي واد هلك.
فأما كون الحسد المركوز في الجبلة، الموجود في الخليقة، فهو من أجل التنافس في الرغائب من نعم الله، وذلك أن نعم الباري تعالى على خلقه كثيرة لا يحصي عددها إلا هو، ولم يمكن أن يجمع عددها كلها على شخص واحد، ففرقت في الأشخاص بالقسط كما شاء ربهم - عز وجل - وضعها، وفضل بعضهم على بعض كما اقتضت حكمته فلم يخل أحد من الخلق من نعم الله وآلائه، ولا استوفاها أحد من خلقه، فمن رأى على أحد من الخلق نعمة ليست عليه بعينها، فلينظر هل عليه نعمة ليست بعينها على ذلك الشخص، فيقابل هذه بتلك، ويشكر الله، ويسأله أن يديمها عليه، ومن رأى على أخيه نعمة ليس عليه مثلها، فليسأل الله تعالى من فضله، ولا يتمنى زوال تلك عن أخيه؛ فإن ذلك هو الحسد بعينه، وهو المذموم الذي يكون الحاسد به معذبة نفسه، مؤلما قلبه، عدوا لنعم الله على خلقه.
(13) فصل في الحرص والزهد ودرجات الناس
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأنك إن أنعمت النظر بعقلك، وجودت الفكر برويتك، وتأملت أمور الدنيا، واعتبرت تصاريف أحوال الناس؛ تبينت وعرفت أن أكثر الشرور التي تجري بين الناس إنما سببها شدة الرغبة في الدنيا والحرص على طلب شهواتها ولذاتها ورياستها، وتمني الخلود فيها. وإذا تأملت واعتبرت؛ وجدت أس كل خير وأصل كل فضيلة الزهد في الدنيا وقلة الرغبة في شهواتها ونعيمها ولذاتها والرغبة في الآخرة وكثرة ذكر المعاد في آناء الليل وأطراف النهار والاستعداد للرحلة إليها.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الخلق كلهم عبيد الله وأهل طاعته طوعا أو كرها، ولكن منهم خاص وعام وما بينهما طبقات متفاوتة الدرجات، فأول الخواص هم العقلاء الذين توجه نحوهم الخطاب بالأمر والنهي والوعد والوعيد والمدح والذم والترغيب والترهيب، ثم إن الله تعالى - بواجب حكمته - رفع قدر المؤمنين على سائر العقلاء وهم المقرون والقابلون أوامره ونواهيه، المنقادون لطاعته فيما رسم لهم في أحكام النواميس وموجبات العقول، التاركون لما نهوا عنه سرا وعلانية.
ثم إن الله سبحانه رفع من المؤمنين المقرين المخلصين، واصطفى منهم طائفة، وفضلهم على غيرهم، وهم العلماء والفقهاء الذين اجتهدوا في تعلم أوامر الناموس ونواهيه وأحكامه وحدوده وشرائطه بواجبها، كما ذكر الله تعالى بقوله: @QUR09 يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات.
ثم إن الله - جل اسمه - رفع من جملة العلماء طائفة، وهم التائبون العابدون الصالحون الورعون المتقون المحسنون بما استحقوا باجتهادهم من القيام بواجبات أحكام الناموس درجات، كما ذكر الله - عز وجل - بقوله: @QUR013 أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه الآية، وقال تعالى: @QUR012 قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب، وقال تعالى: @QUR04 تتجافى جنوبهم عن المضاجع الآية، وآيات كثيرة في القرآن في ذكر هؤلاء ومدحهم وحسن الثناء عليهم.
ثم إن الله - جل ثناؤه - رفع من هؤلاء طائفة في الدرجات وهم الزاهدون في الدنيا، العارفون عيوبها، الراغبون في الآخرة، المتحققون بها، الراسخون في علمها، وهم أولياء الله المخلصون، وعباده المؤمنون، وصفوته من خلقه أجمعين، الذين سماهم الباري تعالى: أولي الألباب وأولي الأبصار وأولي النهى، وأخلصهم بخالصة ذكرى الدار، التي هي الحيوان، وإليهم أشار بقوله سبحانه: @QUR05 وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار، وقوله: @QUR06 إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وآيات كثيرة في القرآن، في ذكرهم ومدحهم وحسن الثناء عليهم.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن للمؤمنين فضائل كثيرة من محاسن الأخلاق ومكارم الأفعال وفضائل الأعمال وجميل الفعال، لا يمكن أن تجمع كلها في شخص واحد، بل في عدة أشخاص فمقل ومكثر، ولكن ليس بعد العلم والإيمان خصلة للمؤمنين ولا خلق من أخلاق الكرام أشرف ولا أجل ولا أفضل من الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، وذلك أن الزهد في الدنيا إنما هو ترك فضول متاع الحياة الدنيا وترك طلب شهواتها والرضا بالقليل والقناعة باليسير من الذي لا بد منه، وهذه خصلة تتبعها خصال كثيرة من محاسن الأخلاق وفضائل الأعمال وجميل الأفعال.
وضد الزهد هو الرغبة في الدنيا والحرص في طلب شهواتها، وهي خصلة تتبعها أخلاق ردية وأفعال قبيحة وأعمال سيئة - كما تقدم ذكره - وذلك أن من خصال الزهاد وشعارهم قلة الأكل وترك الشهوات، وفي قلة الأكل وترك الشهوات خصال محمودة كثيرة، ومناقب حسنة جميلة، فمنها ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «أجيعوا أنفسكم تفرح بكم سكان السماء»، ومنها أن الإنسان يكون أصح جسما وأجود حفظا وأزكى فهما وأجلى قلبا وأقل نوما وأصدق رؤيا وأخف نفسا وأحد بصرا وألطف فكرا وأصغى سمعا وأصح حسا وأثبت رأيا وأقبل للعلم وأسرع حركة وأسلم طبيعة وأقل مؤنة وأوسع مواساة وأكرم خلقا وأثبت صحبة وأحلى في القلوب.
وقلة الأكل إذا ساعدته القناعة كان مزرعة الفكر وينبوع الحكمة وحياة الفطنة ومصباح القلب وطبيب البدن وقاتل الشهوات وهادم الوسواس ومنزل الإلهام، وعصمة من شر النفس وأمانا من شدة الحساب، والشكر له تابع، وكفر النعمة عنه زائل.
(14) فصل في آفات الشبع وكثرة الأكل وخصال الزهاد
يروى عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: أول بلاء حدث في هذه الأمة بعد ذهاب نبيها صلى الله عليه وسلم الشبع وكثرته؛ وذلك أن القوم إذا شبعت بطونهم سمنت أبدانهم، وقست قلوبهم، وجمحت نفوسهم، واشتدت شهواتهم.
ومن آفات الشبع وكثرة الأكل عفونة القلب، ومرض الأجساد، وذهاب البهاء، ونسيان الرب، وعمى القلوب، وهزال الروح، وسلاح الشياطين، وجراحة الدين، وذهاب اليقين، ونسيان العلم، ونقصان العقل، وعداوة الحكمة، وذهاب السخاء، وزيادة البخل، ومزرعة إبليس، وترك الأدب، وركوب المعاصي، واحتقار الفقراء، وثقل النفس، وإدرار الشهوات، وزيادة الجهل، وكثرة فضول القول، ويزيد في حب الدنيا، وينقص الخوف، ويكثر الضحك، ويحبب العيش، وينسي ذكر الموت، ويهدم العبادة، ويقل الإخلاص، ويذهب بالحياء، ويهيج عادة السوء، ويطيل النوم، ويكثر الغفلة، ويسبب تفريق الأصحاب، ويحرج الأعمال، ويكدر الصفو، ويذهب الحلاوة من القلوب، ويحبب الشيطان، ويبغض الرحمن، ويكثر الغم يوم الحساب، ويقرب من النيران، ويبعد من الجنان؛ لأنه سبب المعاصي، ويحرك الكبر، ويثبت الحسد، ويقل الشكر، ويذهب الصبر، فهذه خمسون خصلة تهيج من الشبع وكثرة الأكل.
ويقال: إن المعدة قدر الطعام، ونارها حرارة الكبد، فإذا لم ينطبخ كان سبب الأمراض المختلفة، فحسب ابن آدم أكلات تعمر بطنه، فإن غلبت الآدمي نفسه، فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس.
ومن خصال الزهاد وشعارهم العفة والتصون؛ فهذه خصلة يتبعها أخلاق جميلة وخصال محمودة وفضائل كثيرة، فمنها الكف والورع والحفظ والوقار والتقى والأمانة والمروءة والكرم واللين والسكون والمراقبة والتوقي والصحة والسلامة وحسن الثناء عليهم والتزكية لهم والغبطة والسرور ومحبة القلوب وبراءة الساحة وسكون الناس إليهم والثقة بهم والإجلال لهم والإكرام، ومن خصال الزهاد أيضا وشعارهم السخاء والكرم والجود والبذل والمواساة والإحسان والإيثار والإفضال والرأفة والرحمة والتودد والبر والمعروف والصدقة والهدية، ومن خصالهم أيضا وشعارهم الحلم والأناة والتثبت والرزانة والتؤدة والرفق والمداراة والسكينة والوقار والحياء والصفح والعفو والتغافل والشفقة والرحمة والعدل والنصفة والمحبة والقبول والإجابة والتواضع والاحتمال، ومن خصالهم أيضا الرضا والقناعة والتجمل والكفاف واليأس من الطمع والراحة من العناء والتسليم للقضاء والصبر في الشدائد والبلوى وحسن العزاء.
ومن خصالهم وشعارهم التوكل على الله والثقة به والطمأنينة إليه والإخلاص له في العمل والدعاء والصدق بالقول والتصديق في الضمير والنصح للإخوان والوفاء بالعهد والحزم والعزم في عمل الخير والإحسان والبر والمعروف والمسارعة في الخيرات رغبا ورهبا، وهم من خشية ربهم مشفقون، فهؤلاء هم أولياء الله وخالص عباده من المؤمنين الذين يحبون الله ويحبهم - كما ذكر بقوله: @QUR05 والذين آمنوا أشد حبا لله وهم الذين يتمنون لقاءه لما يرجون من التحية، قال الله تعالى: @QUR04 تحيتهم يوم يلقونه سلام، فهل لك يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن ترغب في صحبتهم وتقصد مناهجهم وتقفو أثرهم وتتخلق بأخلاقهم وتسير بسيرتهم، لعلك تفوز بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون.
واعلم يا أخي بأن الطريق إلى هذه الخصال التي وصفناها هو أن تبتدئ أولا بسنة الناموس فتعمل بوصايا صاحبه كما هي في كتب النواميس الإلهية يعرفها أكثر علماء أهل الشريعة قد استغنينا عن ذكرها، والذي نوصيك به نحن أن تنزع عن نفسك القشور التي تعلقت عليها من صحبة الجسد، وتخلع اللباس الذي أحاط بها من الأمور الطبيعية والصفات الجسمانية وتجلو عنها الصدأ الذي تركب عليها من أخلاط البدن وسوء الأخلاق وتراكم الجهالات وفساد الآراء، وتنحي عنها هذه الأشياء ليصفو لك اللب والمخ وهو جوهر نفسك النيرة الشفافة الروحانية النورانية التي هي كلمة من كلمات الله وروح منه نفخها في الجسد وأحياه بها، وهي التي مدحها الله تعالى بقوله: «ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء» الآية، وقال: @QUR07 إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه؛ يعني به روح المؤمن إذا فارقت الجسد صعد بها إلى سعة السماوات وفسحة الأفلاك فيكون سائحا هناك حيث شاء ذهب وجاء، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح بالنهار في الجنة على رءوس أشجارها وأنهارها وثمارها، وتأوي بالليل إلى قناديل معلقة تحت العرش.» فهذه حال أرواح المؤمنين الصالحين بعد الموت، وأما حال أرواح الكافرين والفاسقين والفاجرين والمنافقين فلا يصعد بها إلى هناك بل تحجب دون السماء وتهيم في هاوية البرزخ إلى يوم يبعثون، وإليهم أشار بقوله تعالى: @QUR08 لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة إلى قوله: @QUR03 وكذلك نجزي الظالمين؛ لأنه لا يليق بها ذلك المكان الشريف والمحل الأعلى، كما لا يليق بالأوساخ من الناس والأقذار منهم مجالس الملوك والسادة والكرام.
فإن أردت يا أخي أن تعرج بروحك إلى هناك بعد فراق الجسد؛ فاجتهد قبل ذلك، واغسلها من درن الأخلاق الرديئة ووسخ الآراء الفاسدة، وأخرجها من ظلمات الجهالات المتراكمة وجنبها الأعمال السيئة، وألبسها لباس التقوى، وزمها عن الانهماك في الشهوات الجرمانية والغرور باللذات الجسمانية، فأما الآراء الفاسدة فقد بيناها في رسالة لنا، وأما كيفية الخروج من الجهالات المتراكمة فقد بيناها في إحدى وخمسين رسالة عملناها في فنون العلوم وغرائب الحكم وطرائف الآداب، وأما تهذيب الأخلاق فقد وصفنا بعضها في هذه الرسالة وبعضها في رسالة عشرة إخوان الصفاء والأصدقاء الكرام، فاقرأهما واعمل بما ذكرنا فيهما وعلمهما إخوانك وأصدقاءك؛ فإنك بذلك تفوز وتنال الزلفى عند ربك أبد الآبدين ودهر الداهرين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
(15) فصل في بيان علامات أولياء الله عز وجل وعباده الصالحين
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن لأولياء الله صفات وعلامات كثيرة يعرفون بها، ويمتازون عمن سواهم، وهكذا أيضا لأعداء الله علامات وصفات يعرفون بها ويمتازون عن غيرهم؛ نحتاج أن نذكر طرفا منها ليعلم كل عاقل فهم مميز مستبصر إذا أراد أن يعرف من أي الفريقين هو لم يخف عليه ذلك.
واعلم يا أخي بأن العاقل الفهم المستبصر هو الذي يعرف الفرق بين الأشياء المتشابهة، ويميز بين الأمور المتجانسة، ويفضل بعضها على بعض بعلامات وصفات مختصة بواحد واحد منها.
فنقول الآن: إن من إحدى علامات أولياء الله الصالحين المختصين به ما ذكره الله تعالى بقوله لإبليس اللعين: @QUR06 إن عبادي ليس لك عليهم سلطان، وحكي أيضا قول إبليس مجاوبا له: @QUR08 فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين، وآيات كثيرة في القرآن في ذكر أولياء الله وصفاتهم وعلاماتهم وهي مثل قوله تعالى: @QUR011 وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون ... إلى آخر الآيات، وآيات كثيرة في القرآن في ذكر أولياء الله تعالى ومدحهم وصفاتهم وعلاماتهم وحسن الثناء عليهم.
ومن علاماتهم وصفاتهم أيضا حفظ الجوارح من كل ما لا يحل في الشريعة، ولا يجوز في السنة، ولا يحسن في المروءة، ومن علاماتهم وصفاتهم حفظ اللسان عن الكذب والغيبة والبهتان والزور والنميمة والفحش والسفاهة والطعن واللغو والوقيعة في أحد من الخليقة عدوا كان أو صديقا، مخالفا كان أو مؤالفا، ومن علاماتهم أيضا وصفاتهم وهي العمدة والأصل في جميع الخيرات والخصال المحمودة سلامة الصدر من الغل والغش والدغل والحسد والبغض والكبر والحرص والطمع والمكر والنفاق والرياء وما أشبهها من الخصال المذمومة، ومما هي مملوءة منها قلوب أبناء الدنيا الراغبين فيها، المكبين عليها، الطالبين لها، ومن علاماتهم أيضا وصفاتهم المختصة بهم الرحمة والتحنن ورقة القلب على كل ذي روح يحس بالآلام، ومن خصالهم أيضا النصيحة والشفقة والرفق والمداراة والتلطف والتودد لكل من يصحبهم ويعاشرهم.
ومن إحدى علامات أولياء الله وعباده المخلصين، ومن أخص صفاتهم التي يمتازون بها عن غيرهم هي معرفتهم بحقيقة الملائكة وكيفية إلهامها، وقد ذكرنا طرفا من هذا العلم في رسالة الإيمان وماهيته وخصال المؤمنين، ومن دقيق معرفتهم ولطيف علومهم معرفة حقيقة الشياطين وجنود إبليس اللعين وكيفية وسواسهم ومسهم كما ذكر الله سبحانه بقوله: @QUR020 إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون * وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون.
ومن علاماتهم وصفاتهم ودقيق علومهم ولطيف أسرارهم معرفة البعث والقيامة والنشر والحشر والحساب والميزان والصراط والجواز؛ وذلك أن أكثر علماء أهل الشرائع النبوية وفقهائهم المتعبدين فيها متحيرون في معنى الإبليسية وحقيقة إبليس المخاطب لرب العالمين بقوله: @QUR04 أنظرني إلى يوم يبعثون، وأكثر العلماء شاكون في وجود هذا القائل: @QUR02 لأغوينهم أجمعين، وأكثر المتفلسفة منكرون قصته مع آدم وعداوته له وخطابه لرب العالمين ومواجهته له بخشونة الخطاب، بما ذكر الله سبحانه في القرآن في نحو من خمسين آية مثل قوله: @QUR015 ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين، وآيات كثيرة في أمثال هذه الحكايات موجودة في التوراة والإنجيل وصحف الأنبياء - عليهم السلام - كثيرة، وقد بينا نحن معانيها في رسالة البعث والقيامة، ولكن نريد أن نذكر في هذا الفصل منها طرفا في كيفية عداوة أولياء الله تعالى مع إبليس، وكيفية محاربتهم مع الشياطين ومخالفتهم ومجاهدتهم معهم طول أعمارهم ليلا ونهارا وسرا وجهارا، وأنه لا يخفى عليهم مكائدهم، ولا يذهب عنهم غرورهم وأمانيهم.
(16) فصل فيما حكاه ولي من أولياء الله عن كيفية معرفة مكايد الشياطين ومحاربته معهم ومخالفته جنود إبليس أجمعين
قال العالم المستبصر لأخ له من أبناء جنسه فيما جرى بينهما من المذاكرة في أمر الشياطين وعداوتهم : كيف عرفت الشياطين ووساوسهم؟ قال: إني لما نشأت وتربيت وشدوت من الآداب طرفا، وأخذت من العلم نصيبا، وعقلت من أمر المعاش قسطا، وعرفت أمر المنافع والمضار؛ تبينت ما يجب علي من أحكام الناموس من الأوامر والنواهي والسنن والفرائض والأحكام والحدود والوعد والوعيد والذم والمدح على الأعمال والأفعال وعلى تركها، ثم قمت بواجبها جهدي وطاقتي بحسب ما وفقت له وقضي علي ويسر لي، ثم تفكرت في قول الله تعالى: @QUR06 إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا وقوله: @QUR06 إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى، وتفكرت في قول النبي - صلى الله عليه وآله: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.» يعني: مجاهدة النفس، وتصديقه قول الله تعالى: @QUR05 ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه وفكرت في قوله - عليه السلام: «لكل إنسان شيطانان يغويانه.» وقوله: «إن شيطاني أعانني الله عليه فأسلم.» وقوله: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم.» وتصديق ذلك قول الله تعالى: @QUR010 من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس إلى آخر السورة، وقوله تعالى: @QUR08 إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم وآيات كثيرة في القرآن في مثل هذا المعنى وأحاديث مروية أيضا في هذا المعنى كثيرة.
فلما سمعت ما ذكر الله تعالى وتفكرت فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى، نظرت عند ذلك بعقلي وفكرت بقلبي وتأملت برويتي، فلم أر أحدا في ظاهر الأمر يضادني في هذا المعنى ولا يخالفني ولا يعاديني من أبناء جنسي؛ وذلك لأني وجدت الخطاب متوجها عليهم كلهم مثل ما هو متوجه علي، ووجدت حكمهم في ذلك حكمي سواء لا فرق بيني وبينهم في هذا الأمر، فعلمت أن هذا أمر عموم يشمل جميع بني آدم ويعمهم، ثم تأملت وبحثت ودققت النظر؛ فوجدت حقيقة معنى الشياطين وكثرة جنود إبليس اللعين أجمعين ومخالفتهم بني آدم وعداوتهم لهم ووساوسهم إياهم؛ هي أمور باطنة وأسرار خفية مركوزة في الجبلة، مطبوعة في الخليقة، وهي الأخلاق الرديئة، والطباع المذمومة المنتشئة منذ الصبا مع الإنسان بالجهالات المتراكمة واعتقادات آراء فاسدة من غير معرفة ولا بصيرة، وما يتبعها من الأعمال السيئة والأفعال القبيحة المكتسبة بالعادات الجارية الخارجة من الاعتدال بالزيادة والنقصان، المنسوبة إلى النفس الشهوانية والنفس الغضبية.
ثم تأملت ونظرت فوجدت الخطاب في الأمر والنهي والوعد والوعيد والمدح والذم متوجها كله إلى النفس الناطقة العاقلة المميزة المستبصرة ووجدتها هي بما توصف من الأخلاق الجميلة والمعارف الحقيقة والآراء الصحيحة والأعمال الزكية ملكا من الملائكة بالإضافة إلى النفس الشهوانية والغضبية جميعا، ووجدت هاتين النفسين؛ أعني: الشهوانية والغضبية بما توصفان به من الجهالات المتراكمة والأخلاق المذمومة والطباع المركوزة والأفعال القبيحة التي لهما بلا فكر ولا روية كأنهما شيطانان بالإضافة إلى النفس الناطقة.
ثم تأملت وبحثت ودققت النظر فوجدت جميع الأعمال الزكية والأفعال الحسنة التي هي منسوبة إلى النفس الناطقة إنما هي لها بحسب آرائها الصحيحة واعتقاداتها الجميلة، ثم وجدت تلك الآراء والاعتقادات إنما هي لها بحسب أخلاقها المحمودة المكتسبة بالاجتهاد والروية والعادات الجارية العادلة، أو ما كانت مركوزة في الجبلة، فتبينت عند ذلك، وعرفت - بهذا الاعتبار - أن أصل جميع الخيرات وصلاح الإنسان كلها هي الأخلاق المحمودة المكتسبة بالاجتهاد والروية والمركوزة في الجبلة.
وتبين لي وعرفت أيضا أن أصل جميع الشرور وفساد أمور الإنسان كلها هي الأخلاق المذمومة المكتسبة بالعادات الجارية منذ الصبا من غير بصيرة، أو ما كانت مركوزة في الجبلة، فلما تبين لي ما قلت وعرفت حقيقة ما وصفت؛ تأملت قول النبي - صلى الله عليه وعلى آله أجمعين: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.» وقول الله تعالى: @QUR06 إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا؛ يعني: خالفوه وحاربوه كما تحاربون أعداءكم المشركين، فتبين لي بقول النبي صلى الله عليه وسلم وقول الله - عز وجل - أن العدو جنسان والعداوة نوعان والجهاد قسمان: أحدهما ظاهر جلي، وهو عداوة الكفار والمخالفين في الشريعة وحربهم وجهادهم، والآخر باطن خفي وهو عداوة الشياطين المخالفين في الجبلة المتضادين في الطبيعة، وتبين أن حربهم وعداوتهم وخلافهم هي الحقيقة، وعداوة الكفار، وحربهم هي العرضية.
وذلك أن عداوة الكفار هي من أجل أسباب دنيوية وعداوة الشياطين من أجل أسباب دينية وأن غلبتهم وظفرهم يعرض منها شقاوة الدنيا ويفوت العز والسلطان والتمتع باللذات الدنيوية ونعيمها وطيب عيشها، ثم تزول يوما ما، وأما عداوة الشياطين وغلبتهم وظفرهم فيعرض منها شقاوة الآخرة وعذابها ويفوت عزها وسلطانها ونعيمها ولذاتها وسرورها وفرحها وروحها وريحانها ودوامها، فبحسب التفاوت ما بين هذين الأمرين، قال النبي - صلى الله عليه وآله: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.» وما ذكر الله سبحانه في القرآن في عدة سور في آيات كثيرة من التحذير من مكر الشياطين والغرور بخطراتهم، والأمر بمخالفتهم وعداوتهم والجهاد لهم؛ إذ كان الخطب فيهم أجل والخطر أعظم، بحسب التفاوت ما بين السعادتين في الدنيا والآخرة والشقاوة فيهما.
فلما تبين لي ما ذكرت وعرفت حقيقة ما وصفت؛ تبين لي أعدائي وشياطيني ومخالفي ومن يريد أن يغويني عن رشدي ويضلني عن هداي الذي دعاني إليه ربي وإلهي وأوصاني به وما نصحني نبيي - عليه السلام - ببيانه لي، وعلمت أني إن لم أقبل وصية ربي ونصيحة نبيي وأني متى توانيت وتركت الاجتهاد في مخالفة أعدائي وعداوتهم غلبوني وظفروا بي وأسروني وملكوني واستخدموني في أهوائهم ومراداتهم المشاكلة لأفعالهم السيئة، وصارت تلك الأشياء عادة لي وجبلة في وطبيعة ثانية، فتصير نفسي الناطقة - التي هي جوهرة شريفة - شيطانة مثلهم، فأكون قد هلكت وبقيت في عالم الكون والفساد مع الشياطين معذبا كما قال الله سبحانه: @QUR06 كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها الآية، وكقوله تعالى: @QUR03 لابثين فيها أحقابا الآية.
ثم تفكرت وعرفت وتبين لي أني إذا قبلت وصية ربي ونصيحة نبيي واقتديت بهما، واستعنت بربي وشمرت واجتهدت وخالفت هوى نفسي الشهوانية وعاديت نفسي الغضبية وحاربت أعدائي المخالفين لنفسي الناطقة؛ فإني أظفر بهم وأغلبهم بقوة ربي وأملكهم بإذنه وأستعبدهم بحوله وقوته، وأكون ملكا عليهم وسلطانا، ويصيرون كلهم عبيدا لي وخدما وخولا، فأصرفهم تحت أمر نفسي الناطقة ونهيها، وتكون هي عند ذلك ملكا من الملائكة بإظهار أفعالها الحسنة وأعمالها الزكية وأخلاقها الجميلة وآرائها الصحيحة ومعارفها الحقيقية ، وتكون هاتان النفسان الباقيتان؛ أعني: الشهوانية والغضبية، عبدين مقهورين لها وتحت أمرها ونهيها، ويكون جميع أخلاقهما وسجاياهما كالجنود والأعوان والخدم والعبيد للنفس الناطقة، مسوسين بسياسة عادلة، جارية على هذا السداد، كما رسم في الشريعة الوضية أو في الموجبات العقلية، فأكون عند ذلك قد فعلت ما وصاني به ربي بقولي وفعلي بقوله: @QUR05 وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه الآية، وقال لنبيه - عليه السلام: @QUR06 قل هذه سبيلي أدعو إلى الله الآية.
فلما تبين لي ما ذكرت وعرفت حقيقة ما وصفت؛ نظرت عند ذلك في أحوالي، وتفكرت في تصاريف أموري؛ فوجدت بنية هيكلي مركبة من أخلاط ممتزجة، متضادة القوى، مركوزة فيها شهوات مختلفة، فتأملتها فإذا هي كأنها نيران كامنة في أحجار كبريتية، ووجدت وقودها هي المشتهيات من ملاذ الدنيا ونعيمها، ووجدت اشتعال تلك النيران عند الوقود كأنها حريق لا يطفأ، ولهب لا يخمد، أو كأمواج بحر متلاطمة، أو رياح عاصفة تدمر كل شيء، أو كعساكر أعداء حملت في غارة؛ وذلك أني وجدت حرارة شهوات المأكولات والمشروبات في نفسي عند هيجان نار الجوع والظمأ كأنها لهب النيران التي لا تطفأ.
ووجدت نفسي الشهوانية عند الأكل والشرب من الشره؛ كأنها كلاب وقعت على جيف تنهش، ووجدت حرارة الحرص في نفسي عند هيجان نار الطمع كأنها حريق تلهب الدنيا كلها، ووجدت نفسي عند ذلك كأنها وعاء لا يمتلئ من جميع ما في الدنيا من المتاع، ووجدت حرارة الغضب في نفسي الحيوانية عند هيجان نار الحركة كأنها حريق ترمي بشرر كالقصر، ورأيتها عند هيجان حرارة نار الافتخار والمباهاة كأنها خير خليقة الله وأشرفهم، ورأيتها عند هيجان نار حرارة شهوة الرياسة وتملكها لها كأن الناس كلهم عبيد لها وخول، ورأيتها عند هيجان حرارة نار شهوة الكرامة وطلبها لها كأنها دين لازم حال.
ورأيتها عند هيجان نار طلب خدمة خولها كأنها ترى الطاعة لها حتما فريضة كالطاعة لله، وكالحتم والفريضة، ورأيتها عند قضاء ما يجب عليها من حق من حقوق غيرها متوانية في تأديته كأنها ناقلة أجبال، وكأنها عليها أحمال ثقيلة، ورأيت حركتها عند اللهو واللعب كأنها مجنونة والهة سكرانة، ورأيتها عند محبة المدح والثناء عليها كأنها أعقل الناس وأفضلهم وأجلهم، ورأيتها عند هيجان نار الحسد كأنها عدو يريد خراب الدنيا وزوال النعم عن أهلها وحلول النقم بهم، وعلى هذا المثال وجدت ورأيت سائر أخلاقها الرديئة وخصالها المذمومة وأعمالها السيئة وأفعالها القبيحة وآرائها الفاسدة، فعلمت عند ذلك أن هذه كلها نيران لا تخمد، وحريق لا يطفأ، وأعداء لا يتصالحون، وحرب لا تهدأ، وقتال لا يسكن، وداء لا يبرأ، ومرض لا يشفى، وعناء طويل، وشغل لا يفرغ منه إلى الموت.
فشمرت عند ذلك بالعزم الصحيح والنية الصادقة، وشددت وسطي بإزار الحزم، وأخذت سلاح الاجتهاد، وارتديت براءة الورع، ولبست قميص الحياء وتسربلت سربال الجد، ووضعت على رأسي تاج الزهد في الدنيا، وأثبت قدمي على التقوى، وأسندت ظهري إلى الله بالتوكل عليه، وجعلت شعاري الخوف منه والرجاء، وزممت قوى نفسي بالنهي، وفتحت عيني بالنظر إلى إشارة المعلم، وجعلت دليلي حسن الظن بربي، وسلكت منهاج السنة، وقصدت الصراط المستقيم للقاء ربي، وناديته نداء الغريق، ودعوته دعوة المضطر، وأقررت بالعجز والتقصير، وطرحت نفسي بين يديه بلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وتضرعت إليه مثل الصبي إلى والده الشفيق الرفيق، فلما رآني ربي على تلك الحال سمع ندائي، وأجاب دعائي، ورحم ضعفي، وأعطاني سؤلي، وأمدني بجنوده، ودلني على مكايد أعدائي، فغزوتهم مع ملائكته، وأظفرني بهم، وأعانني عليهم، وحرسني من غرورهم، وأحرزني من خطواتهم، وسلمت من خطر كيدهم، وفزت بالغنيمة سالما غانما، @QUR016 ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا وجند الله كانوا هم الغالبين، وحزب الشيطان كانوا هم الخاسرين، وكل هذا @QUR018 من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم.
(17) فصل في حكاية أخرى
عن ولي من أولياء الله تعالى لما تفكر في معنى التكليف والبلوى، ولم يتجه له وجه الحكمة فيهما، قال في مناجاته : رب خلقتني ولم تستأمرني، وتوفيتني ولم تستشرني، وأمرتني ونهيتني ولم تخيرني، وسلطت علي هوى مؤذيا وشيطانا مغويا، وركبت في نفسي شهوات مركوزة، وجعلت في عيني دنيا مزينة، وخوفتني وزجرتني بوعيد وتهديد، وقلت لي: فاستقم كما أمرت، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيلي، واحذر الشيطان لا يغوينك، والدنيا لا تغرنك، وتجنب شهواتك لا تردك، وأمانيك وآمالك أن تلهيك، وأوصيك بأبناء جنسك فدارهم، ومعيشة الدنيا فاطلبها من وجه الحلال.
وأما الآخرة فلا تنسها، ولا تعرض عنها فتخسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين، فقد حصلت يا رب بين أمور متضادة، وقوى متجاذبة، وأحوال متغالبة، فلا أدري كيف أعمل، ولا أي شيء أصنع، وقد تحيرت في أموري، وضلت عني حيلتي، فأدركني يا رب وخذ بيدي، ودلني على سبيل نجاتي وإلا هلكت.
فأوحى الله سبحانه إليه وألقى في سره وألهمه وقال: يا عبدي ما أمرتك بشيء تعاونني فيه، ولا نهيتك عن شيء كان يضرني إن فعلته، بل إنما أمرتك لتعلم بأن لك ربا وإلها هو خالقك ومصورك ورازقك ومنشيك وحافظك وهاديك وناصرك ومعينك، ولتعلم بأنك محتاج في جميع ما أمرتك به إلى معاونتي وتوفيقي وهدايتي وتيسيري وعنايتي، ولتعلم أيضا بأنك محتاج في جميع ما نهيتك عنه إلى عصمتي وحفظي ورعايتي، وإنك محتاج في جميع متصرفاتك وأحوالك في جميع أوقاتك من أمر دنياك وآخرتك ليلا ونهارا إلى تأييدي لك، وأنه لا يخفى علي من أمرك صغيرة ولا كبيرة سرا وعلانية، وليتبين لك وتعرف أنك محتاج ومفتقر إلي وأنك لا بد لك مني، فعند ذلك لا تعرض عني ولا تنساني، بل تكون في دائم الأوقات في ذكري، وفي جميع أحوالك تدعوني، وفي جميع حوائجك تسألني، وفي جميع متصرفاتك تخاطبني، وفي جميع خلواتك تناجيني وتشاهدني وتراقبني، وتكون منقطعا إلي عن جميع خلقي ومتصلا بي دونهم، وتعلم أني معك حيث ما تكون أراك ولا تراني، فإذا عرفت هذه كلها وتيقنت وبان لك حقيقة ما قلت وصحة ما وصفت، تركت كل شيء وراءك وأقبلت علي وحدك، فعند ذلك أقربك مني وأوصلك إلي وأرفعك عندي وتكون من أوليائي وأصفيائي وأهل جنتي في جواري مع ملائكتي مكرما مفضلا فرحا مسرورا منعما ملتذا آمنا أبدا دائما سرمدا.
فلا تظن بي يا عبدي الظن السوء، ولا تتوهم علي غير الحق، واذكر سالف إنعامي عليك وقديم إحساني إليك وجميل آلائي لديك؛ إذ خلقتك ولم تكن شيئا مذكورا خلقا سويا، وجعلت لك سمعا لطيفا وبصرا حادا وحواس دراكة وقلبا ذكيا وفهما ثاقبا وذهنا صافيا وفكرا لطيفا ولسانا فصيحا وعقلا رصينا وبنية تامة وجنانا ثابتا وصورة حسنة وأعضاء صحيحة وأدوات كاملة وجوارح طائعة.
ثم ألهمتك الكلام والمقال وعرفتك المنافع والمضار وكيفية التصرف في الأحوال والصنائع والأعمال وكشفت الحجب عن بصرك، وفتحت عينيك لتنظر إلى ملكوتي، وترى عجائب فعلي وتقدير مجاري الليل والنهار والأفلاك الدوارة والكواكب السيارة، وعلمتك حساب الأوقات والأزمان والشهور والأعوام، وسخرت لك ما في البر والبحر من المعادن والنبات والحيوان تتصرف فيها تصرف الملاك، وتتحكم عليها تحكم الأرباب، فلما رأيتك متعديا وجائرا ظالما طاغيا باغيا متجاوزا للحدود والمقدار؛ عرفتك الحدود والأحكام والقياس والمقدار والعدل والإنصاف والحق والصواب والخير والمعروف والسيرة العادلة؛ ليدوم لك الفضل والنعم، وينصرف عنك العذاب والنقم، وعرضتك لما هو خير وأفضل وأجل وأشرف وأعز وأكرم وألذ وأنعم، ثم أنت تظن بي ظنون السوء وتتوهم غير الحق.
يا عبدي إذا تعذر عليك فعل شيء مما أمرتك به، فقل: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، كما قال حملة العرش لما ثقل عليهم حمله، وإذا أصابتك مصيبة، فقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، كما يقول صفوتي وأهل ولايتي، وإذا زلت بك القدمان في معصيتي، فقل كما قال صفيي آدم وزوجته: @QUR03 ربنا ظلمنا أنفسنا إلى آخر الآية، وإذا أشكل عليك أمر وأهمك رأي وأردت رشدا وقولا صوابا، فقل كما قال خليلي إبراهيم: @QUR014 الذي خلقني فهو يهدين * والذي هو يطعمني ويسقين * وإذا مرضت فهو يشفين إلى آخر الآيات إلى قوله: @QUR06 إلا من أتى الله بقلب سليم، وإذا أصابتك مصيبة أو غم أو حزن، فقل كما قال يعقوب إسرائيل: @QUR012 إنما أشكو بثي وحزني إلى الله واعلم من الله ما لا تعلمون وقال: @QUR010 يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن ... الآية، وإذا جرت منك خطيئة، فقل كما قال موسى نجيي: @QUR04 هذا من عمل الشيطان الآية، وإذا صرفت عنك معصية، فقل كما قال يوسف الصديق: @QUR03 وما أبرئ نفسي الآية، وإذا ابتليت بفتنة فافعل كما فعل داود خليفتي: @QUR05 فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب، وإذا رأيت العصاة من خلقي والخاطئين من عبادي ولا تدري ما حكمي فيهم فقل كما قال المسيح روحي: @QUR011 إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم وإذا استغفرتني وطلبت عفوي فقل كما قال محمد نبيي صلى الله عليه وآله وأنصاره: @QUR018 ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا إلى آخر السورة، وإذا خفت من عواقب الأمور ولا تدري بماذا يختم لك، فقل كما قال أصفيائي: @QUR015 ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
(18) فصل في فضل التوبة والاستغفار والدعاء
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الله - عز وجل - لم يذكر ذنوب أنبيائه وخطاياهم في القرآن شنعة عليهم ولا تقبيحا لآثارهم ولا لسوء الثناء عليهم، ولكن ليكون للباقين قدوة بهم في التوبة والندامة والرجوع عن الذنوب والاستغفار لله - عز وجل - والإنابة إليه، كما أمر الله بقوله: @QUR06 توبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون، وقال الله تعالى: @QUR06 إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين؛ يعني: الذين لم يذنبوا، وقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: @QUR05 قل يا عبادي الذين أسرفوا الآية، وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى.
ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لولا أن بني آدم إذا أذنبوا تابوا واستغفروا فيغفر الله لهم لخلق الله خلقا يذنبون فيتوبون ويستغفرون فيغفر لهم.» وإنما ذكرنا هذه الحكايات؛ لكي ما تتفكر فيها وتعتبر، وما ذكر الله من أخبار رسوله وقصص أوليائه . فلا تيأس من روح الله، ولا تقنط من رحمته إذا سمعت قول الذين لا يعلمون، وذلك أن قوما من أهل الحشوية والجدل يتعصبون في الورع من غير حقيقة، ولا معرفة بأحكام الدين، فيكفرون المؤمنين بالذنوب، ويفسقونهم ويحكمون لهم بالخلود في النار بغير علم ولا بيان، بل بقياسات لفقوها لهم، وسولوها بعقولهم الناقصة، وحكموا بها بزعمهم فلا جرم أنهم انقطعوا عن الله، ويئسوا من روحه، وقنطوا من رحمته.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن لكل طائفة من المؤمنين وجماعة من المتدينين صناعة ينفردون بها عن غيرهم أو حرفة يمتازون بها عمن سواهم، وأن من صنعة أولياء الله وعباده الصالحين الدعاء إلى الله بالتزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة على بصيرة ومعرفة ويقين وحقيقة - كما ذكر الله تعالى وأخبر عنهم واحدا واحدا.
من ذلك حكاية عن رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه قوله: @QUR011 أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم إلى قوله: @QUR010 فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب، ومن ذلك قوله: @QUR04 يا ليت قومي يعلمون الآية، وقوله حكاية عن نفر من الجن قولهم: @QUR09 يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم إلى آخر الآية، ومن ذلك قوله: @QUR04 إنهم فتية آمنوا بربهم الآية.
ومن ذلك قوله حكاية عن أحد الأخوين في الدنيا: @QUR011 أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا إلى قوله: @QUR04 فلن تستطيع له طلبا وقوله حكاية عن أخ مؤمن في الآخرة قوله لأهل الجنة: @QUR09 إني كان لي قرين * يقول أئنك لمن المصدقين إلى آخر الآية، ومن ذلك قوله حكاية عن لقمان: @QUR021 يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله الآية.
ومن ذلك قوله حكاية عن السحرة قولهم لفرعون: @QUR05 إنما تقضي هذه الحياة الدنيا إلى آخر الآيات، ومن ذلك قوله حكاية عن العلماء المستبصرين في أمر الآخرة؛ إذ قالوا لقومهم المريدين الحياة الدنيا : @QUR022 يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم * وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن إلى آخر الآية، ومن ذلك قول أصحاب طالوت: وقال الذين لا يعلمون لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين، ومن ذلك قول أتباع المسيح: إذ قال المسيح من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله، وقول أتباعه أيضا لما سمعوا القرآن: @QUR09 وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق الآية، ومن ذلك قول المؤمنين العارفين المستبصرين: @QUR015 ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب وآيات كثيرة في القرآن في صفات المؤمنين وعلامات أولياء الله وكلام عباد الله الصالحين.
فهذه الكلمات والأقاويل وأمثالها من كلام أولياء الله وعباده الصالحين المستبصرين؛ تدل على أنهم يعرفون حقيقة المعاد وحقيقة أمر الآخرة، وهؤلاء العلماء بأسرار النبوات والمتخرجون بالرياضات الفلسفية، وهم ورثة الأنبياء، وصناعتهم الدعاء إلى الله وإلى الدار الآخرة التي هي دار الحيوان لو كانوا يعلمون، يعني أبناء الدنيا.
ومن صناعتهم أيضا التزهيد في الدنيا، والترغيب في الآخرة بضروب الأمثال والوصف البليغ، والمواعظ الحسنة والحكمة البالغة والتذكار والبشارة والإنذار بمعرفة واستبصار ويقين ودراية بلا شك ولا ريبة، وقال الله تعالى في مدحهم: @QUR013 ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين.
ومن علامات أولياء الله أيضا وصفات عباده الصالحين أنهم لا يذكرون في مجالسهم وخلواتهم أحدا إلا الله ولا يتفكرون إلا في مصنوعاته ولا ينظرون إلا إلى فنون إحسانه وعظيم إنعامه وجميل آلائه، ولا يعلمون إلا لله، ولا يخدمون إلا إياه، ولا يرغبون إلا إليه، ولا يرجون إلا منه، ولا يسألون إلا هو، ولا يخافون غيره، وهم من خشيته مشفقون؛ كل ذلك لصحة آرائهم وتحقق اعتقادهم في ربهم وشدة استبصارهم أنه لا يقدر على ذلك بالحقيقة إلا الله تعالى، وهذا الاعتقاد الحق والرأي الصحيح الجميل ، ينتج لهم من صحة معرفتهم بربهم وتيقن علمهم به؛ وذلك أنهم يرونه رؤية الحق في جميع متصرفاتهم، ويشاهدونه في كل حالاتهم، لا يسمعون إلا منه، ولا ينظرون إلا إليه، ولا يرون غيره على الحقيقة، فمن أجل ذلك انقطعوا إليه عن الخلق، واشتغلوا بالخالق عن المخلوق، وبالرب عن المربوب، وبالصانع عن المصنوع، وبالمسبب عن السبب، وتساوت عندهم الأماكن والأزمان، وانمحقت الأغيار عند رؤيتهم حقيقته، فتركوا الشك وأخذوا باليقين، وباعوا الدنيا بالدين، وربحوا السلامة من التعب والعناء، وعاشوا في الدنيا آمنين، ورحلوا عنها سالمين، ووصلوا إلى الآخرة غانمين؛ لأنهم كانوا في الدنيا محسنين، وما على المحسنين من سبيل.
وقد ذكر الله تعالى نعت هؤلاء القوم في القرآن في آيات كثيرة وأثنى عليهم ومدحهم، ووردت عن النبي - عليه السلام - أخبار كثيرة في نعتهم وصفتهم ومدحهم وحسن الثناء عليهم، ومن ذلك ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يزال في هذه الأمة أربعون رجلا من الصالحين على ملة إبراهيم الخليل - عليه السلام - فقيل: يا رسول الله: خبرنا عن ملة إبراهيم عند ربه، فقال: إنه كان حنيفا مسلما سليم القلب، وذلك أنه لما هم به قومه يقذفونه في النار بكت الملائكة في السماء رحمة له، فأوحى الله سبحانه إلى جبرائيل أن الحقه وأعنه إن استعان بك، فجاء جبرائيل - عليه السلام - وهو في المنجنيق ليرمى به في النار، فقال له: يا إبراهيم هل لك من حاجة؟ فلشدة تعلق قلبه بربه وتوكله عليه وثقته بوعده ويقينه بتخليصه إياه واستغنائه عمن سواه، قال: أما إليك فلا، فعند ذلك قال الله تعالى: @QUR07 يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم، ويقال: إن من هؤلاء الأربعين رجلا أربعة منهم الأبدال، وإنما سموا الأبدال؛ لأنهم بدلوا خلقا بعد خلق، وصفوا تصفية بعد تصفية.
وذلك أن هؤلاء الأربعين منتقون من جملة أربعمائة من الزاهدين العارفين المحققين، وهؤلاء الأربعمائة منتقون من أربعة آلاف من المؤمنين التائبين المخلصين، وكلما مضى شخص من الأربعة قام في رتبته شخص من الأربعين، وإذا مضى شخص من الأربعين قام في رتبته شخص من الأربعمائة، وإذا مضى شخص من الأربعمائة ارتقى إلى منزلته شخص من الأربعة الآلاف، فبلغ مرتبته وقام مقامه، وكلما مضى شخص من الأربعة الآلاف ارتقى مكانه بدلا منه واحد من المؤمنين التائبين المخلصين، فبلغ درجته وقام مقامه.
وإليهم أشار أمير المؤمنين علي - عليه السلام - بقوله لكميل بن زياد: أولئك الأقلون عددا، الأعظمون عند الله قدرا، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فباشروا روح حقيقة اليقين إلى آخر كلامه، وفيهم يقول: صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالملأ الأعلى.
وإليهم أشار موسى - عليه السلام - بقوله في مناجاته: يا رب إني أجد في التوراة نعت رجال كادوا يكونون أنبياء من قوة التمييز والمعرفة والصلاح، من هم يا رب؟ اجعلهم من أمتي، فأوحى الله تعالى إليه وقال الله: تلك أمة أحمد، وإليهم أشار بقوله تعالى: @QUR017 ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله.
واعلم يا أخي بأن هؤلاء القوم الذين تقدم ذكرهم هم ورثة أنبياء الله وخلفاء رسله في الأرض، وأن الذي ورثوه منهم إنما هو العلم والإيمان والتعبد وقبول التأييد والإلهام والزهادة في الدنيا وترك طلبها والرغبة في الآخرة والاشتياق إليها، وذلك أنهم متشبهون بالملائكة في أفعالهم وأخلاقهم وسيرتهم من تركهم الشهوات الجسمانية، وإعراضهم عن اللذات الحسية المركوزة في الطبيعة، بالامتناع عنها بعد المقدرة عليها مع شدة مجاذبة الطبيعة لهم إليها.
وهم يتركونها باجتهاد منهم وعناية شديدة بعد الفكر والروية، ويختارون الشدة على الرخاء، والتعب على الراحة، ومخالفة الهوى وحمل ثقل التعبد على النفس؛ وكل ذلك لمرضاة الله والاقتداء بأنبيائه ورسله في سنة الدين، فلا جرم أنهم ملائكة بالقوة، فإذا فارقت نفوسهم أجسادهم كانت ملائكة بالفعل، فهذا الذي كان الغرض من رباط النفس بالجسد أن تصير النفس الناطقة ملكا من الملائكة بالفعل بعدما كانت بالقوة.
واعلم يا أخي بأنه لو لم يكن في قوة النفس الناطقة أن تصير ملكا بالفعل لما جاءت الوصية من الله تعالى لها بأمرها بالتشبه بالملائكة في أفعالها وأخلاقها وسيرتها، ولا كانت موعودة بملاقاتها ومخاطبتها مثل قوله - جل ثناؤه: @QUR012 تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون يعني: المؤمنين عند قبض أرواحهم، مثل قوله تعالى: @QUR012 الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون، ومثله قوله تعالى: @QUR014 والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى يطول تعدادها.
واعلم يا أخي أن هؤلاء الذين ذكرناهم من الصالحين هم الذين سماهم الله تعالى أولي الألباب وأولي النهى وأولي الأبصار وهم أولياء الله وأحباؤه، وإليهم أشار بقوله تعالى لإبليس: @QUR06 إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وهم المفلحون وهم الفائزون، وإليهم أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصيته لأبي هريرة بقوله: عليك يا أبا هريرة بطريق أقوام إذا فزع الناس لم يفزعوا، وإذ طلب الناس الأمان من النار لم يخافوا، قال: من هم يا رسول الله؟ عدهم لي وصفهم حتى أعرفهم، قال: قوم من أمتي في آخر الزمان يحشرون يوم القيامة محشر الأنبياء، إذا نظر إليهم الخلائق ظنوهم أنبياء مما يرون من حالهم؛ حتى أعرفهم أنا بسيماهم فأقول: أمتي أمتي؛ ليعرف الخلائق أنهم ليسوا بأنبياء، ويمرون مثل البرق والريح يغشى أبصار الجميع نورهم، قلت: يا رسول الله مرني بمثل عملهم لعلي ألحق هم، قال: يا أبا هريرة إن القوم ارتكبوا طريقا صعبا لحقوا بدرجة الأنبياء، آثروا الجوع بعدما أشبعهم الله، والعطش بعدما أرواهم الله، والعري بعدما كساهم الله، تركوا ذلك رجاء ما عند الله، تركوا الحلال مخافة حسابه، صحبوا الدنيا بأبدانهم من غير أن تعلق بشيء منها قلوبهم، تعجب الأنبياء والملائكة من طاعتهم لربهم، فطوبى لهم، وددت أن الله جمع بيني وبينهم، ثم بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقا إلى رؤيتهم، ثم قال: إذا أراد الله سبحانه بأهل الأرض عذابا، فنظر إليهم إن كان واحد منهم صرف العذاب عنهم، فعليك يا أبا هريرة بطريقتهم، فمن خالف طريقتهم وقع في شدة الحساب.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: طوبى لإخواني، قيل: يا رسول الله، أولسنا إخوانك؟ قال: أنتم أصحابي، وأولئك إخواني، قيل: من هم إخوانك يا رسول الله - صلى الله عليك؟ قال: قوم يكونون في آخر الزمان يؤمنون بي ولم يروني، يصدقونني ويتبعونني، هم إخواني وأنتم أصحابي طوبى لهم، وإليهم أشار بقوله في وصيته لأسامة بن زيد: عليك بطريق الجنة، وإياك أن تختلج بدونها، قال: يا رسول الله، ما أيسر ما يقطع به تلك الطريق؟ قال: الظمأ في الهواجر، وكسر النفوس عن لذة الدنيا، يا أسامة، عليك بالصوم؛ فإنه يقرب إلى الله، إنه ليس شيء أحب إلى الله من ريح فم الصائم وترك الطعام والشراب لله تعالى، فإنك إن استطعت أن يأتيك الموت وبطنك جائع وكبدك ظمآن فافعل، فإنك تدرك بذلك أشرف المنازل في الآخرة وتحل مع النبيين - عليهم السلام - وتفرح الأنبياء والملائكة بقدوم روحك عليهم، ويصلي عليك أهل الجنان.
إياك يا أسامة ودعاء كل كبد جائع قد أذابوا اللحوم، وأحرقوا الجلود في الرياح والسمائم، وأظمئوا الأكباد حتى غشيت أبصارهم، فإن الله سبحانه إذا نظر إليهم باهى كرام الملائكة بهم، بهم يصرف الله الزلازل والفتن حيث كانوا.
ثم بكى رسول الله شوقا إلى رؤيتهم حتى اشتد بكاؤه وعلا نحيبه وهاب الناس أن يتكلموا حتى ظنوا أنه أمر حدث من السماء، ثم قال: ويح لهذه الأمة ما يلقى منهم من أطاع الله فيهم، كيف يقتلونهم ويكذبونهم من أجل أنهم أطاعوا الله، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله والناس يومئذ على الإسلام؟ قال: نعم، قال: فيم يقتلون من أطاع الله؟ قال: يا عمر ترك القوم الطريق وركبوا فره الدواب، ولبسوا الحرير والديباج واللين من الثياب، وأكلوا الطيبات وشربوا بارد الشراب، وجلسوا على أرائكهم متكئين، وخدمهم أبناء فارس والروم، يتزين الرجل منهم زينة المرأة لزوجها، ويتبرج النساء بزي كسرى بن هرمز والملوك الجبابرة، ويسمنون أبدانهم، ويتباهون بالكساء واللباس، فإذا نظروا أولياء الله وعليهم العباء منحنية أصلاهم، قد ذبحوا أنفسهم من شدة العطش، وإن تكلم منهم متكلم كذب وأبعد وطرد، وقيل: قرين الشيطان ورأس ضلالة، يحرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، فأولوا كتاب الله بغير تأويله، واستذلوا أولياء الله وأخافوهم.
يا أسامة، إن أقرب الناس إلى الله يوم القيامة من طال حزنه وجوعه وعطشه في الدنيا، هم الأخيار الأبرار الذين إن شهدوا لم يعرفوا، وإن غابوا لم يفتقدوا، يعرفهم أهل السماء، ويخفون على أهل الأرض، تشتاق إليهم البقاع، وتحف بهم الملائكة، ينعم الناس بالدنيا، وينعمون بالجوع والعطش، لبس الناس لين الثياب، ولبسوا الخشن، افترش الناس الوطاء، وافترشوا هم الجباه والركب، ضحك الناس وبكوا هم.
يا أسامة ألا لهم الشرف الأعلى يوم القيامة، وددت أني رأيتهم، وبقاع الأرض لهم رحيبة، والجبار عنهم راض، والراغب إلى الله من رغب فيما رغبوا، والخاسر من خالفهم، تبكي الأرض إذا فقدتهم، ويسخط الجبار على بلد ليس فيه منهم أحد.
يا أسامة إذا رأيت أحدهم في قرية فاعلم أنه أمان لأهلها، لا يعذب الله قوما فيهم منهم أحد، اتخذهم يا أسامة لنفسك أصحابا، عساك تنجو معهم، وإياك أن تسلك غير طريقهم فتزل قدمك فتهوي في النار.
يا أسامة ترك القوم الحلال من الطعام والشراب، طلبوا الفضل في الآخرة، ولم يتكالبوا على الدنيا تكالب الكلاب على الجيف، أكلوا العلق ولبسوا الخلق، تراهم شعثا غبرا إذا رآهم الناس ظنوا أن بهم داء وما بهم داء، وظنوا أنهم خولطوا وما خولطوا، ولكن خالط القوم أمر عظيم، ظن الناس أن قد ذهبت عقولهم وما ذهبت، ولكن نظروا بقلوبهم إلى أمر إلهي، فهم في الدنيا عند أهلها يمشون بلا عقول.
يا أسامة عقلوا حين ذهبت عقول الناس، طوبى لهم وحسن مآب، ألا لهم الشرف الأعظم.
ويحكى عن بعضهم أنه كان يسمع في خلواته وهو يقول: يا رب ويحي، كيف أغفل ولست بمغفول عني، أم كيف يهنئني العيش، واليوم الثقيل أمامي، أم كيف لا يطول حزني، ولا أدري ما يكون من ذنبي، أم كيف أؤخر عملي، ولا أدري متى يأتي أجلي، أم كيف أسكن إلى الدنيا وليست بداري أم كيف أجمعها وفي غيرها مقامي ومأواي، أم كيف تعظم رغبتي فيها والقليل منها يكفيني، أم كيف آمن فيها وأنا لا يدوم فيها حالي، أم كيف يشتد حرصي عليها ولا ينفعني منها ما أخلفه لغيري، أم كيف أؤثرها، وقد طردت من آثرها قبلي، أم كيف لا أبادر بعملي من قبل أن يتصرم منها مدتي، أم كيف لا أعمل في فكاك نفسي، قبل أن يغلق ذهني، أم كيف يشتد عجبي بها وهي مفارقة لي ومنقطعة عني.
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: @QUR09 إن هذا لفي الصحف الأولى * صحف إبراهيم وموسى، قال: كان فيها مكتوبا عجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك، وعجبت لمن أيقن بالحساب كيف يعمل السيئات، وعجبت لمن أيقن بالقدر كيف ينصب بدنه، وعجبت لمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، وعجبت لمن أيقن بالجنة كيف لا يعمل الحسنات، لا إله إلا الله محمد رسول الله.
ويروى عن أبي ذر - رحمة الله عليه - أنه قال: قلت لرسول الله أوصني، قال: عليك بتقوى الله، فإنه رأس أمرك، فقلت: زدني يا رسول الله، قال: عليك بذكر الله، فإنه رأس كل خير، وقراءة القرآن فإنه نور لك في السماء وذكر لك في الأرض، قلت: زدني، قال: عليك بالجهاد فإنه رهبانية هذه الأمة، قلت: زدني، قال: انظر إلى من دونك، ولا تنظر إلى من هو فوقك، قلت: زدني، قال: أقل الكلام إلا من ذكر الله؛ فإنك بذلك تغلب الشيطان، قلت: زدني، قال: أحب المساكين وجالسهم، قلت: زدني، قال: كن في الدنيا كأنك غريب وعد نفسك في الموتى، قلت: زدني، قال: قل الحق ولو كان مرا، قلت: زدني، قال: لا يأخذك في الله لومة لائم، قلت: زدني، قال: ارض من الدنيا بكسرة تقيم بها جسدك وخرقة تواري بها عورتك وظل تسكن فيه، قلت: زدني، قال: اكظم الغيظ، وأحسن إلى من أساء إليك، قلت: زدني، قال: إياك وحب الدنيا فإنه رأس الخطايا، إن الدنيا تهلك صاحبها، وصاحب الدنيا لا يهلكها، قلت: زدني، قال: انصح للناس كما تنصح لنفسك، ولا تعب عليهم بما فيك مثله، يا أبا ذر إنه لا عقل كالتدبير ولا ورع كالكف، ولا حسب كحسن الخلق.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من اشتاق إلى الجنة سارع إلى الخيرات، ومن أشفق من النار سلا عن الشهوات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات، ويقال: إن الزهد في الدنيا مفتاح كل خير، والرغبة فيها مفتاح كل شر وخطيئة، وقيل في الحكمة: الدنيا قنطرة فاعبروها إلى الآخرة، ولا تعمروها، إنكم خلقتم للآخرة لا للدنيا، وإنما الدنيا دار العمل والآخرة دار الجزاء، وهي دار القرار ودار المقام ودار النعيم ودار الخلود.
(19) فصل في حسن التكليف
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الله تعالى كلم موسى بن عمران وناجاه باثني عشر ألف كلمة، يقول له في عقب كل كلمة: يا موسى ادن مني واعرف قدري، فأنا الله يا موسى، أتدري لم كلمتك من بين خلقي، واصطفيتك لرسالتي من بين بني إسرائيل؟ قال موسى: فمن علي يا رب، قال: لأني أطلعت على أسرار عبادي، فلم أر قلبا أصفى لمودتي من قلبك، قال موسى - عليه السلام: لم خلقتني يا رب بعد أن لم أكن شيئا؟ قال: أردت بك خيرا، قال: رب من علي، قال: أسكنك جنتي، وأدخلك دار كرامتي مع ملائكتي، فتخلد هناك منعما، ملتذا مسرورا.
قال فما الذي ينبغي لي أن أعمل؟ قال: لا يزل لسانك رطبا من ذكري، وقلبك وجلا من خشيتي، وبدنك مشغولا بخدمتي، ولا تأمن مكري إلى أن ترى رجلك في الجنة، قال: يا رب لم ابتليتني بفرعون؟ قال: إنما اصطنعتك على أن أخاطب بلسانك بني إسرائيل، فأسمعهم كلامي، وأعلمهم شريعة التوراة وسنة الدين وأدلهم على الآخرة، ومن اتبعك منهم ومن غيرهم كائنا من كان، يا موسى بلغ بني إسرائيل أني لما خلقت السماوات والأرض جعلت لهما أهلا وسكانا، فأهل سماواتي هم ملائكتي وخالص عبادي الذين لا يعصونني ويفعلون ما يؤمرون، يا موسى قل لبني إسرائيل وبلغهم عني أنه من قبل وصيتي ووفى بعهدي، ولم يعصني رقيته إلى رتبة ملائكتي، وأدخلته جنتي وجازيته بأحسن الذي كانوا يعملون.
يا موسى قل لبني إسرائيل وأبلغهم عني أني لما خلقت الجن والإنس والحيوانات أجمع، ألهمتهم مصالح الحياة الدنيا، وعرفتهم كيفية التصرف فيها لطلب منافعها والهرب من المضار منها؛ كل ذلك بما جعلت لهم من السمع والبصر والفؤاد والتمييز والشعور أجمع، وهكذا ألهمت أنبيائي ورسلي والخواص من عبادي وعرفتهم أمر المبدأ والمعاد والنشأة الآخرة، وبينت لهم الطريق وكيفية الوصول إليها.
يا موسى قل لبني إسرائيل يقبلون من أنبيائي وصيتي، ويعملون بها، واضمن لهم عني أني أكفيهم كل ما يحتاجون إليه من مصالح الدنيا والآخرة جميعا، ومن وفى بعهدي وفيت بعهده، كائنا من كان من بني آدم وألحقتهم بأنبيائي وملائكتي في الآخرة دار القرار، قال موسى: يا رب لو خلقتنا في الجنة وكفيتنا محن الدنيا ومصائبها وبلاءها، أليس كان خيرا لنا؟ قال: يا موسى قد فعلت بأبيكم آدم ما ذكرت، ولكن لم يعرف حقي وقدر نعمتي، ولم يحفظ وصيتي، ولم يوف بعهدي بل عصاني فأخرجته منها، فلما تاب وأناب وعدته أن أرده إليها وآليت على نفسي أن لا يدخلها أحد من ذريته إلا من قبل وصيتي وأوفى بعهدي، ولا ينال عهدي الظالمين، ولا يدخل جنتي المتكبرون؛ لأني جعلتها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين.
يا موسى ادع لعبادي وذكرهم آلائي؛ فإنهم لا يذكرون مني إلا كل خير سالفا وخالفا، عاجلا وآجلا، يا موسى ويل لمن تفوته جنتي، ويا حسرة عليه وندامة حين لا ينفعانه.
يا موسى خلقت الجنة يوم خلقت السماوات، وزينتها بألوان المحاسن، وجعلت نعيم أهلها وسرورها روحا وريحانا، فلو نظر أهل الدنيا إليها نظرة من بعيد لما تهنوا بالحياة في الدنيا بعدها.
يا موسى هي مدخرة لأوليائي والصالحين من عبادي تحيتهم يوم يلقونه سلام وطوبى لهم وحسن مآب.
قال موسى: يا رب قد شوقتني إليها ، فأرني يا رب لأنظر إليها، قال: يا موسى، لا يهنئك العيش في الدنيا بعد النظر إليها؛ لأنك من أبناء الدنيا إلى وقت معلوم، فإذا فارق الروح الجسد رأيتها، ووصلت إليها ودخلتها، وتكون فيها ما دامت السماوات والأرض، فلا تعجل يا موسى، واعمل كما أمرت، وبشر بني إسرائيل بالذي بشرتك به، وادعهم إليها، ورغبهم فيها، وزهدهم في الدنيا.
فصل
واعلم يا أخي بأن الرغبة في الدنيا مع طلب الآخرة لا يجتمعان، فمن زهد في الآخرة رغب في الدنيا ومن رغب في الآخرة زهد في الدنيا، وقال المسيح - عليه السلام - في بعض مواعظه لبني إسرائيل: اعلموا أن مثل دنياكم مع الآخرة كمثل مشرقكم ومغربكم، كلما أقبلتم إلى الغرب ازددتم من المشرق بعدا، وكلما أقبلتم إلى المشرق ازددتم من المغرب بعدا.
وقيل في بعض كتب بني إسرائيل: رغبناكم في الآخرة فلم ترغبوا، وزهدناكم في الدنيا فلم تزهدوا، وخوفناكم من النار فلم تخافوا، وشوقناكم إلى الجنة فلم تشتاقوا، ووبخناكم فلم تبكوا، بشر القائلين بأن لله سيفا لا ينام، وهو نار جهنم.
ويقول الله تعالى: يا ابن آدم خيري إليك نازل، وشرك إلي صاعد، أتحبب إليك بالغنى، وأنت تتبغض إلي بالمعاصي، لا يزال يأتيني كل يوم ملك كريم بقبيح أفعالك، يا ابن آدم، أما تراقبني؟ أما تعلم أنك بعيني؟ يا ابن آدم، اذكرني عند خلواتك وعند حضور الشهوات الحرام، واسألني أن أنزعها من قلبك وأعصمك عن معصيتي وأبغضها إليك وأيسر لك طاعتي وأحببها إليك وأزينها في عينيك، يا ابن آدم، إنما أمرتك ونهيتك؛ لتستعين بي وتعتصم بحبلي؛ لئلا تستغني وتتولى عني، فأعرض عنك، وأنا الغني عنك وأنت الفقير إلي، إنما خلقتك في الدنيا وسخرتها لك لتستعد للقائي وتتزود منها للقدوم علي؛ لئلا تعرض عني وتخلد إلى الأرض، واعلم يا ابن آدم بأن الدار الآخرة خير لك من الدنيا، فلا تختر غير ما اخترت لك ولا تكره لقائي، فإنه من كره لقائي كرهت لقاءه، ومن أحب لقائي أحببت لقاءه.
(20) فصل في عظات مختلفة
تأمل يا أخي ، أيدك الله وإيانا بروح منه، ما ترى من الأمور الدنيوية واعتبر بما تشاهد فيها من تصاريفها بأهلها حالا بعد حال، وتفكر فيما ذكرنا في هذه الرسالة من هذه الحكايات عن أنبياء الله وأوليائه وعباده الصالحين، وما وصفنا من أخلاقهم الحسنة وسيرتهم العادلة وأفعالهم الجميلة، فاجتهد أن تقتدي بهم وتسلك طريقهم، واستعن بالله واسأله التوفيق، وانظر إن استوى لك أن تكون في أعلى المراتب، فلا ترض لنفسك بأدونها، واحذر مخالفتهم وترك الاقتداء بهم، فإنهم أئمة الهدى ومصابيح الدجى والدعاة والهداة إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، وهم حجج الله على خلقه وصفوته من عباده، فالمفلح من اتبعهم، والخاسر من خالف طريقهم، هم صفوة الله وخيرته من خلقه.
واعلم يا أخي بأنه ليس بين الله - عز وجل - وبين أحد من خلقه من قرابة، وأن أكرم عباده عنده أتقاهم، وأحبهم إليه أطوعهم له، وأكثرهم له ذكرا، وأكيسهم في الأمور وأشدهم اجتهادا وأشدهم استعدادا للرحلة من الدنيا إلى الآخرة وأكثرهم زادا للمعاد.
واعلم أن أخفهم مؤنة في الدنيا وأروحهم قلبا من زهد فيها، فبادر يا أخي وتزود من الدنيا لطريق الآخرة، فإن خير الزاد التقوى، فسارع إلى الخيرات، ونافس في الدرجات قبل فناء العمر ونفاد الأجل وقرب الفوت.
واعلم يا أخي بأن خير مناقب الإنسان العقل، وأفضل خصاله العلم، ولكل شيء خاصية، وخاصية العقل صحة التمييز ومعرفة الحقائق والسيرة العادلة وحسن الاختيار، فانظر الآن إن كنت عاقلا، واختر من الأمور أفضلها ومن الأخلاق أجملها ومن الأعمال خيرها ومن المراتب أشرفها ومن المنافع أعمها وأدومها.
واعلم يا أخي بأن الآخرة أفضل من الدنيا، وأهلها أفضل من أهل الدنيا، وأخلاقهم أكرم من أخلاقهم، وسيرتهم أعدل من سيرهم، ومراتبهم أشرف ونعيمهم أدوم وسرورهم أبقى، ولذاتهم أخلص، فانظر الآن على ما يقع اختيارك وكيف يكون ولأيهما تعمل؟ ولا يكن إيثارك - إن كنت عاقلا - إلا للآخرة؛ فقد تبين لك الرشد من الغي، وعرفت الضلالة من الهدى، وميزت الصواب من الخطأ، وعلمت الحق من الباطل، وانزاحت العلة، وقد أعذر من أنذر ، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة؛ ولئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وما على الرسول إلا البلاغ المبين.
فانظر الآن يا أخي إن كان لم يتبين لك بعد ما قد شرحناه من هذه الأوصاف، ولم ينبهك من نوم الغفلة ورقدة الجهالة ما خولناك، ولم يشفك ما ذكرناه ولم ينفعك ما وصفناه، فأبيت إلا التغمد والغمرة في طغيان أبناء الدنيا المغرورين بها، الغافلين عن الآخرة الجاهلين لها، بأن تقول: لا بد لي من الاقتداء بهم ومداخلتهم فيما هم فيه من الغرور ومزاحمتهم على ما هم مزدحمون عليه، ورضيت لنفسك بالتشبه بهم في سوء أخلاقهم، وتراكم جهالاتهم وفساد آرائهم وسوء أعمالهم وقبيح أفعالهم وسيرتهم الجائرة وأمورهم المسيئة وأحوالهم المتغايرة وتصاريفهم المختلفة وأسبابهم المتضادة، من عداوة بعضهم بعضا وحسد بعضهم بعضا وبغي بعضهم على بعض، وتكبرهم وتكاثرهم وتفاخرهم فيما هم فيه من أمور هذه الدنيا الدنية والاغترار بها، وما يتكلفونه بينهم من زخرف القول غرورا، ويتمكنون به من الكلام خداعا وقلوبهم مملوءة غشا وغلا وحسدا وكبرا وحرصا وطمعا وبغضا وعداوة ومكرا وحيلا، مثل قوم دينهم التعصب واعتقادهم النفاق وأعمالهم الرياء، واختيارهم شهوات الدنيا، يتمنون الخلود فيها مع علمهم بأنه لا سبيل إليه، يجمعون ما لا يأكلون، ويبنون ما لا يسكنون، ويؤملون ما لا يدركون، ويكسبون من الحرام، وينفقون في المعاصي، ويمنعون من المعروف، ويركبون كل منكر سكارى متمردون في طغيانهم يعمهون، لا يسمعون النداء، ولا يبصرون الهدى، ولا ينجع فيهم الوعظ ولا الذكر ولا الأمر ولا النهي ولا الوعد ولا الوعيد ولا الترغيب ولا الترهيب ولا الزجر ولا التهديد، بل تراهم في غيهم يترددون، وفي طغيانهم يعمهون، مولون مدبرون عن الآخرة معرضون، على الدنيا يتكالبون تكالب الكلاب على الجيفة، منهمكين في الشهوات، تاركين للصلوات، لا يسمعون الموعظة، ولا تنفعهم التذكرة، فلا جرم أنهم يمهلون قليلا ويمتعون يسيرا، ثم تجيئهم سكرة الموت بالحق، إن شاءوا أو أبوا، فيفارقون محبوباتهم على رغم منهم، ويتركون ما جمعوا لغيرهم ، يتمتع بمال أحدهم حليل زوجه وامرأة ابنه وبعل ابنته وصاحب ميراثه، لهم المهنأة وعليه الوبال ثقيل ظهره بأوزاره، معذب النفس بما كسبت يداه، يا حسرة عليهم قامت القيامة على أهلها، وفقك الله أيها الأخ للسداد، وهداك للرشاد وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد، إنه رءوف بالعباد.
(تمت رسالة الأخلاق والحمد لله والصلاة على رسوله مستنبط ينابيع الحكمة بصفاء جوهره، والمقارع به أنوف الجاحدين لأوله ومصدره، والمفصح عن غرائبه وعلى آله وسلم، حسبنا الله ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.)
الرسالة العاشرة في إيساغوجي
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه لما كان الإنسان أفضل الموجودات التي تحت فلك القمر، وكان من فضيلته العلوم والصنائع، وكان النطق من أفضل الصنائع البشرية؛ أردنا أن نبين ماهية النطق وكميته وكيفيته؛ إذ كان به ينفصل الإنسان عن سائر الحيوانات، كما يقال في حده: إنه حي مناطق مائت؛ لأن سائر الحيوانات كلها أحياء مائتون غير ناطقين، وأيضا فإن النطق من سائر الصنائع البشرية إلى الروحانية ما هو أقرب، وذلك أن سائر الصنائع الموضوع فيها الأجسام الطبيعية موضوعاتها كلها جواهر جسمانية - كما بينا في رسالة الصنائع.
فأما النطق فإن الموضوع فيه جواهر النفس الجزئية الحية وتأثيراته فيها روحانية؛ مثل الوعد والوعيد والترغيب والترهيب والمديح والهجاء، والدليل على ذلك ما يتبين لنا من تأثيرات الكلام في النفوس؛ مثل ما يرى من تأثيرات الأجسام بعضها في بعض.
وذلك أن تأثيرات الأجسام بعضها في بعض نوعان: مفسد ومصلح، فالمصلح مثل الطعام والشراب المصلحين لأجساد الحيوانات، ومثل العقاقير والأدوية المصلحة لأجساد المرضى، والمفسد مثل النار المهلكة لأجساد الحيوانات وأجساد النبات، ومثل الضرب بالسيف والسكين وما شاكله من الأجساد المفسدة المهلكة لأجسام الحيوانات، فكذا حكم الكلام والأقاويل في النفوس نوعان: مصلح ومفسد، فالمصلح كالمديح والثناء الجميل الباعثين للنفوس على مكارم الأخلاق، ومثل المواعظ والمواعيد الزاجرين للنفوس عن الأفعال القبيحة وعن مساوئ الأخلاق، والمفسد من الكلام للنفوس كالشتيمة والتهديد والقبيح من الأقاويل الجالبة إلى النفوس العداوة والبغضاء، كما يقال: رب كلمة جلبت فتنة وحروبا، كما قيل في المثل: إن سبب العداوة بين الغربان والبوم كلمة تكلم بها الغراب يوم اجتماع الطير على تمليك البوم، ورب كلمة أطفأت نيران الحروب - كما قيل في قصيدة:
لفظ يثبت في النفوس مهابة
يكفي كفاية قائد القواد لا تبلغ الأسياف باستهلاكها
ما تبلغ الأقلام بالإيعاد
ومن فضيلة النطق أيضا أنه كاد أن يكون مطابقا للموجودات كلها كمطابقة العدد للمعدودات، والدليل على ذلك كثرة اللغات واختلاف الأقاويل وفنون تصاريف الكلام، مما لا يبلغ أحد كنه معرفتها إلا الله - عز وجل - فنريد أن نذكر من ذلك طرفا شبه المدخل ليقرب على المتعلمين، وليسهل على الناظرين في علم المنطق فهم معانيها.
(1) فصل في اشتقاق المنطق وانقسام النطق إلى قسمين
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن المنطق مشتق من نطق ينطق نطقا، والنطق فعل من أفعال النفس الإنسانية، وهذا الفعل نوعان: فكري ولفظي، فالنطق اللفظي هو أمر جسماني محسوس، والنطق الفكري أمر روحاني معقول، وذلك أن النطق اللفظي إنما هو أصوات مسموعة لها هجاء وهي تظهر من اللسان الذي هو عضو من الجسد، وتمر إلى المسامع من الآذان التي هي أعضاء من أجساد أخر، وأن النظر في هذا المنطق والبحث عنه والكلام على كيفية تصاريفه وما يدل عليه من المعاني يسمى علم المنطق اللغوي، وأما النطق الفكري الذي هو أمر روحاني معقول، فهو تصور النفس معاني الأشياء في ذاتها، ورؤيتها لرسوم المحسوسات في جوهرها، وتمييزها لها في فكرها، وبهذا النطق يحد الإنسان، فيقال: إنه حي ناطق مائت، فنطق الإنسان وحياته من قبل النفس، وموته من قبل الجسد؛ لأن اسم الإنسان إنما هو واقع على النفس والجسد جميعا.
واعلم أن النظر في هذا النطق والبحث عنه ومعرفة كيفية إدراك النفس معاني الموجودات في ذاتها بطريق الحواس، وكيفية انقداح المعاني في فكرها من جهة العقل الذي يسمى الوحي والإلهام، وعبارتها عنها بألفاظ بأي لغة كانت، يسمى علم المنطق الفلسفي.
ولما كان النطق اللفظي أمرا جسمانيا ظاهرا جليا محسوسا وضع بين الناس لكي ما يعبر به كل إنسان عما في نفسه من المعاني لغيره من الناس السائلين عنه والمخاطبين له؛ احتجنا إلى أن نذكر من هذا المنطق طرفا شبه المدخل ليقرب على المتعلمين فهم علم المنطق الفلسفي، ويسهل تأمله على الناظرين، فنقول أيضا: إنه لما كان النطق اللفظي هو ألفاظ مؤلفة من الحروف المعجمة؛ احتجنا أن نذكر الحروف أولا، فنقول: إن الحروف ثلاثة أنواع: فكرية ولفظية وخطية، فالفكرية هي صورة روحانية في أفكار النفوس مصورة في جواهرها قبل إخراجها معانيها بالألفاظ، والحروف اللفظية هي أصوات محمولة في الهواء، فمدركة بطرق الأذنين بالقوة السامعة، كما بينا في رسالة الحاس والمحسوس، والخطية هي نقوش خطت بالأقلام في وجوه الألواح وبطون الطوامير مدركة بالقوة الباصرة بطريق العينين.
واعلم أن الحروف الخطية إنما وضعت سمات ليستدل بها على الحروف اللفظية، والحروف اللفظية وضعت سمات ليستدل بها على الحروف الفكرية، والحروف الفكرية هي الأصل.
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
جعل اللسان على الفؤاد دليلا
وسنبين ماهيتها في فصل آخر.
واعلم أن الحروف اللفظية إنما هي أصوات تحدث في الحلقوم والحنك، وبين اللسان والشفتين عند خروج النفس من الرئة بعد ترويحها الحرارة الغريزية التي هي في القلب وهي ثمانية وعشرون حرفا في اللغة العربية، وأما سائر اللغات فربما تزيد وتنقص، وقد بينا علة ذلك في رسالة اختلاف اللغات، واعلم أن الحروف إذا ألفت صارت ألفاظا، والألفاظ إذا ضمنت المعاني صارت أسماء، والأسماء إذا ترادفت صارت كلاما، والكلمات إذا اتسقت صارت أقاويل والأقاويل نوعان: موزون ونثر، فالموزون كالشعر والرجز والقوافي، والنثر نوعان، فمنه فصاحة وبلاغة، ومنه مخاطبات ومحاورات، والخطاب نوعان، فمنه ما يتكلم به جمهور الناس فيما بينهم في طلب حاجاتهم بلا احتجاج ولا خصومة، ومنه ما يتكلمون به في دعاويهم وخصوماتهم باحتجاج وبراهين، والدعاوى والخصومات نوعان: إما في أمور الدنيا، وإما في أمور الديانات والمذاهب والعلوم.
ولما كانت البراهين على صحة الدعاوى التي في أمور الدنيا لا تكون إلا بالشهود والعقود والصكوك، صارت البراهين أيضا على صحة الدعاوى في أمور الديانات والمذاهب والعلوم لا تكون إلا باستشهاد ما في الكتب الإلهية والإخبار عن أصحاب الشرائع أو إجماع الخصوم، أو شهادة العقول بالقياس الصحيح الذي هو ميزان الحق.
ولما كان اختلاف الناس بالحزر والتخمين في مقادير الأشياء الموزونة والمكيلة دعتهم إلى وضع الموازين والمكاييل ليرفع الخلف بها عند الحزر، وكذلك اختلاف العلماء في الحكم بالحزر والتخمين على الأمور الغائبة عن الحواس، دعتهم إلى وضع القياسات ليرفع الخلف بها عند النظر، ولما كان في صحة الوزن والكيل يحتاج إلى شرائط من عيار الصنجات، وصحة المكيال والميزان، وتقويم الكيل والوزن بها، كذلك حكم القياسات التي يعرف بها الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، والخير من الشر؛ يحتاج إلى شرائط ليصح بها الحكم، وقد ذكر ذلك في كتب المنطق الفلسفي بشرح طويل، ولكن نريد أن نذكر في هذه الرسالة طرفا؛ ليقرب على المتعلمين فهمها، ونرجع الآن إلى ذكر الألفاظ الدالة على المعاني التي في أفكار النفوس؛ فنقول:
(2) فصل في الألفاظ الدالة على المعاني
* **أولا: **ما الاسم وما المسمى وما التسمية وما المسمى؟ ونقول أيضا: من الواصف وما الوصف وما الموصوف وما الصفة؟ وأيضا: من الناعت؟ وما المنعوت؟ وما النعت؟
(3) فصل في الألفاظ الستة
واعلم أن الألفاظ التي تستعملها الفلاسفة في أقاويلها وإشاراتها إلى المعاني التي في أفكار الناس ستة أنواع؛ ثلاثة منها دالات على الأعيان التي هي موصوفات، وثلاثة منها دالات على المعاني التي هي الصفات، فالألفاظ الثلاثة الدالة على الموصوفات قولهم: الشخص والنوع والجنس، والثلاثة الدالة على الصفات هي قولهم: الفصل والخاصة والعرض.
وأما شرح معانيها فنقول: الشخص كل لفظة يشار بها إلى موجود مفرد عن غيره من الموجودات، مدرك بإحدى الحواس، مثل قولك: هذا الرجل وهذه الدابة وهذه الشجرة وذا الحائط وذاك الحجر، وما شاكل هذه الألفاظ المشار بها إلى شيء واحد بعينه.
والنوع كل لفظة يشار بها إلى كثرة تعمها صورة واحدة، مثل قولك: الإنسان والفرس والجمل والغنم والبقر والسمك، وبالجملة كل لفظة تعم عدة أشخاص متفقة الصور.
وأما الجنس فهو كل لفظة يشار بها إلى كثرة مختلفة الصور، تعمها كلها صورة أخرى كالحيوان والنبات والثمار والحب وما شاكلها من الألفاظ، فإن كل لفظة منها تعم جماعات مختلفة الصور، وذلك أن قولك: الحيوان يعم الناس كلهم والسباع والطيور والسمك وحيوان الماء أجمع، وهي كلها صور مختلفة يعمها الحيوان، وهي صورة روحانية متممة للجسم.
وأما قولهم: الفصل والخاصة والعرض، فهي ألفاظ دالة على الصفات التي يوصف بها الأجناس والأنواع والأشخاص. واعلم أن الصفات ثلاثة، فمنها صفات إذا بطلت بطل وجدان الموصوف معه، فتسمى فصولا ذاتية جوهرية مثل حرارة النار ورطوبة الماء ويبوسة الحجر وما شاكلها، وذلك أن حرارة النار إذا بطلت بطل وجدان النار، وكذلك حكم رطوبة الماء ويبوسة الحجر وكل صفة لموصوف هكذا حكمه سميت فصلا ذاتيا جوهريا.
ومنها صفات إذا بطلت لم يبطل وجدان الموصوف ولكنها بطيئة الزوال؛ مثل سواد القير وبياض الثلج وحلاوة العسل ورائحة المسك والكافور وما شاكلها من الصفات البطيئة الزوال، ولكن ليس من الضرورة أنه إذا بطل سواد القير أو بياض الثلج أن يبطل وجدان أعيانها، فمثل هذه الصفات تسمى خاصية.
ومنها صفات سريعة الزوال تسمى عرضا؛ مثل حمرة الخجل وصفرة الوجل ومثل القيام والقعود والنوم واليقظة وما شاكل هذه من الصفات يسمى عرضا؛ لأنها تعرض لشيء وتزول عنه من غير زواله، وسميت الصفات البطيئة الزوال خاصية؛ لأنها صفات تختص بنوع دون سائر الأنواع.
وتسمى الصفات الذاتية الجوهرية فصولا؛ لأنها تفصل الجنس فتجعله أنواعا.
واعلم أن الصفات التي تسمى خاصية أربعة أنواع، فمنها ما يكون خاصية لنوع ويشاركه فيها نوع آخر، مثل خاصية الإنسان أنه ذو رجلين من بين سائر الحيوانات، ولكن يشاركه فيه الطير، ومنها ما هي خاصية لنوع ولا يشاركه فيها غيره، ولكن لا يوجد في جميع أشخاصه تلك الخاصية مثل الكتابة والتجارة وأكثر الصنائع، فإنها خاصية لنوع الناس، ولكن لا توجد في كل إنسان، ومنها خاصية قد توجد لكل أشخاص النوع، ولكن لا توجد في كل وقت، مثل المشيب فإنه خاصية للإنسان دون سائر الحيوانات، ولكن لا يوجد إلا في آخر العمر.
ومنها خاصية لنوع دون غيره وتوجد في كل أشخاصه وفي كل وقت وتسمى خاص الخاص، مثل الضحك والبكاء، فإنهما من خاصية الإنسان دون سائر الحيوانات، ولكل أشخاصه وفي كل وقت، وذلك أن الضحك والبكاء يوجدان للإنسان من وقت ولادته إلى وقت موته، وكذلك الصهيل للفرس والنهيق للحمار والنباح للكلاب، وبالجملة ما من نوع من أنواع الحيوان إلا وله خاصية تختص به دون غيره، وهكذا حكم كل موجود من الموجودات له خاصية تميزه عما سواه تسمى رسوما، علم ذلك أو لم يعلم.
واعلم أن بالفصول تنقسم الأجناس فتصير أنواعا، وبها تحد الأنواع؛ لأنها مركبة منها، وبالرسوم تختلف الأنواع ويخالف بعضها بعضا؛ يعني: خاص الخاص، وبالخواص التي هي أعراض بطيئة الزوال تختلف الأشخاص التي تحت نوع واحد، مثل الزرقة والشهلة والغطشة والقنوة والنحافة والسمرة والطول والقصر، وما شاكلها من الصفات التي تختلف بها أشخاص الناس ويمتاز بعضهم عن بعض، وكل هذه الصفات بطيئة الزوال، وبالأعراض تختلف أحوال الأشخاص مثل القيام والقعود والغضب والرضا وما شاكلها من الصفات التي لا تدوم ويتعاقبها ضدها.
واعلم بأن كل صفة للجنس فهي في جميع أنواعه، وكل صفة للنوع فهي في جميع أشخاصه ضرورة، وليس من الضرورة أن كل صفة للشخص لجميع نوعه، ولا صفة النوع لجميع جنسه.
(4) فصل في أن الأشياء كلها صور وأعيان
وإذ قد ذكرنا طرفا من المنطق اللفظي شبه المدخل، فنريد أن نذكر طرفا من المنطق الفكري؛ إذ كان هو الأصل وهذا فرع عليه، كما ذكرنا قبل، فإن الألفاظ إنما هي سمات دالات على المعاني التي في أفكار النفوس، وضعت بين الناس ليعبر كل إنسان عما في نفسه من المعاني لغيره من الناس عند الخطاب والسؤال، فنقول: إن الأشياء كلها بأجمعها صور وأعيان غيريات؛ أفاضها الباري تعالى على العقل الفعال الذي هو جوهر بسيط مدرك حقائق الأشياء، كما بينا في رسالة المبادئ العقلية، ومن العقل على النفس الكلية الفلكية التي هي نفس العالم بأسره، كما بينا في الرسالة التي فسرنا فيها معنى قول الحكماء: إن الإنسان عالم صغير، وإن العالم إنسان كبير، ومن النفس الكلية فاضت على الهيولى الأولى التي بينا ماهيتها في رسالة الهيولى والصورة، ومن الهيولى على النفس الجزئية البشرية التي بينا كيفية نشوئها في رسالة لنا ترجمتها «الإنسان عالم صغير» وهي ما يتصور الناس في أفكارهم من المعلومات بعد مشاهدتهم لها في الهيولى بطريق الحواس.
فمن أراد أن يعرف كيف كانت صور الأشياء في النفس الكلية قبل فيضها على الهيولى، فليعتبر صور مصنوعات البشر كيف تكونها في نفوسهم قبل إظهارهم لها في الهيوليات الموضوعة لهم في صناعتهم كما بينا في رسالة الصنائع، ومن أراد أن يعرف أيضا كيف كانت صور الأشياء في العقل الفعال قبل فيضه على النفس الكلية، وكيف كان قبولها تلك الرسوم والصور، فليعتبر حال رسوم المعلومات التي في أنفس العلماء، وكيف إفادتهم للمتعلمين، وكيف قبولهم لها، كما بينا في رسالة التعليم، ومن أراد أيضا أن يعرف كيف حال المعلومات في علم الباري - عز وجل - قبل فيضه على العقل، فليعتبر حال العدد كيف كان في الواحد الذي قبل الاثنين، وكيف نشأ منه كما بينا في رسالة خواص العدد.
(5) فصل في العلم والتعلم والتعليم
واعلم أن العلم ليس بشيء سوى صورة المعلوم في نفس العالم، وأن الصنعة ليست شيئا سوى إخراج تلك الصورة التي في نفس الصانع العالم ووضعها في الهيولى.
واعلم يا أخي أن أنفس العلماء علامة بالفعل، وأنفس المتعلمين علامة بالقوة، والتعليم ليس شيئا سوى إخراج ما في القوة إلى الفعل، والتعلم هو الخروج من القوة إليه، وأن كل شيء بالقوة لا يخرج إلى الفعل إلا لشيء هو بالفعل يخرجه إليه، وأن النفس الكلية الفلكية هي علامة بالفعل، والأنفس الجزئية علامة بالقوة، فكل نفس جزئية تكون أكثر معلومات وأحكم مصنوعات؛ فهي أقرب إلى النفس الكلية؛ لقرب نسبتها إليها وشدة شبهها بها كما قيل في حد الفلسفة: إنها التشبه بالإله بحسب الطاقة الإنسانية. فاجتهد أن تكتسب معلومات كثيرة تكن أفعالك كلها حكمية زكية، فإنها القنية الروحانية، كما تجتهد أبناء الدنيا في اكتساب المال الذي هو القنية الجسدية.
واعلم أنه كما أن المال يتمكن الإنسان به مما يريده من اللذات في الدنيا وطيب العيش، فهكذا بالعلم تتمكن النفس من اللذات في الدار الآخرة، وبالعلم يتقرب إلى الله أبناء الآخرة، وبه يتفاضل بعضهم على بعض، كما قال الله تعالى: @QUR08 قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون الآية.
واعلم أن بالعلم تحيا النفوس من موت الجهالة، وبه تنتبه من نوم الغفلة، كما قال الله: @QUR09 أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به الآية، فالعلم يهديك إلى طريق ملكوت السماء، ويعينك على الصعود إلى هناك؛ كقوله تعالى: @QUR08 إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، وأخبر عن أهل الجهالة فقال تعالى: @QUR014 لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، وهذا وعيد لهم بالإياس عن الصعود إلى ملكوت السماء، فأعيذك أيها الأخ أن ترضى بأن تكون منهم أو معهم، وقيل: إن المرء مع من أحب، بل كن من الذين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كن عالما أو متعلما أو تجالس العلماء أو تحب العلماء، وإياك والخامس إلا أن تكون من الطوائف.
(6) فصل في اشتراك الألفاظ وأخواتها
وإذ قد فرغنا من ذكر المعاني، وأخبرنا بأنها صور كلها ورسوم في أفكار النفوس الجزئية، وأنها تناولتها من الهيولى بطريق الحواس، وقلنا أيضا : إن الصور التي في الهيولى فاضت عليها من النفس الكلية الفلكية، وإن التي في النفس أيضا فاضت عليها من العقل الفعال، وإن التي في العقل أيضا أفاضها عليه الباري - عز وجل - وذكرنا أيضا الألفاظ بمجردها، وأخبرنا أن الحروف التي هي أصوات مفردة إذا ألفت صارت ألفاظا، وأن الألفاظ إذا ضمنت المعاني صارت أسماء، وأن الأسماء إذا ترادفت صارت كلاما، وأن الكلام إذا ألصق صار أقاويل.
واعلم أن المعاني هي الأرواح، والألفاظ كالأجساد لها، وذلك أن كل لفظة لا معنى لها فهي بمنزلة جسد لا روح فيه، وكل معنى في فكر النفس لا لفظ له فهو بمنزلة روح لا جسد له، واعلم أن الكلمات إذا اتسقت صارت أقاويل، وأن الأقاويل تختلف تارة من جهة اللفظ، وتارة من جهة المعنى، وتارة منهما جميعا، وهي خمسة أنواع، فمنها المشتركة في اللفظ، المختلفة في المعنى، كقولك: عين الإنسان، وعين الماء، ومقابلتها هي المترادفة التي هي المختلفة في اللفظ المتفقة في المعنى، كقولك: البر والحنطة، ومنها المتباينة في اللفظ والمعنى جميعا، كقولك: حجر وشجر، ومقابلتها المتواطئة وهي المتفقة في اللفظ والمعنى جميعا، كقولك: هذا إنسان اسمه زيد، وهذا اسمه عمر، ومنها المشتق أسماؤها وهي كقولك: الضارب والمضروب وما شاكلها من الأسماء المشتقة من الأفعال.
(7) فصل في أن الأشياء كلها جواهر وأعراض
واعلم يا أخي أن العلماء قالوا: إن الأشياء كلها نوعان؛ جواهر وأعراض، وإن الجواهر كلها جنس واحد قائمة بأنفسها، وإن الأعراض تسعة أجناس، وهي حالة في الجواهر وهي صفات لها، وإن الباري - عز وجل - ليس يوصف بأنه عرض ولا جوهر بل هو خالقهما وعلتهما الفاعلة. ونحن نقول: إن الأشياء كلها صور وأعيان غيريات؛ مرتب بعضها تحت بعض كترتيب العدد ومتعلق وجود بعضها ببعض كوجود العدد من الواحد الذي قبل الاثنين، كما بينا في رسالة العدد، وإن الباري - جل جلاله - هو علتها وهو موجدها كما بينا في رسالة المبادئ العقلية.
واعلم أن الصورة نوعان: مقومة ومتممة، وقد سمت العلماء الصور المقومة جواهر، وسمت الصور المتممة أعراضا، وقد بينا الفرق بين الصورة المقومة والصورة المتممة في رسالة الهيولى والصورة، وفي رسالة الكون والفساد، فاعرفهما من هناك إن شاء الله.
(8) فصل في حاجة الإنسان إلى المنطق
واعلم أيها الأخ أنه لو أمكن الناس أن يفهم بعضهم من بعض المعاني التي في أفكار نفوسهم من غير عبارة اللسان لما احتاجوا إلى الأقاويل التي هي أصوات مسموعة؛ لأن في استماعها واستفهامها كلفة على النفوس من تعليم اللغات وتقويم اللسان والإفصاح والبيان، ولكن لما كانت نفس كل واحد من البشر مغمورة في الجسد، مغطاة بظلمات الجسم، حتى لا ترى واحدة منهما الأخرى إلا الهياكل الظاهرة التي هي الأجسام الطويلة العريضة العميقة، ولا يدري ما عند كل واحد منها من العلوم إلا ما عبر كل إنسان عما في نفسه لغيره من أبناء جنسه، ولا يمكنه ذلك إلا بأدوات وآلات مثل اللسان والشفتين واستنشاق الهواء وما شاكلها من الشرائط التي يحتاج الإنسان إليها في إفهامه غيره من العلوم واستفهامه منه، فمن أجل هذا احتيج إلى المنطق اللفظي وتعليمه والنظر في شرائطه التي يطول الخطاب فيها.
فأما النفوس الصافية غير المتجسدة فهي غير محتاجة إلى الكلام والأقاويل في إفهام بعضها بعضا من العلوم والمعاني التي في الأفكار، وهي النفوس الفلكية؛ لأنها قد صفت من درن الشهوات الجسمانية، ونجت من بحر الهيولى وأسر الطبيعة، واستغنت عن الكون مع الأجساد المظلمة التي هي أسفل السافلين وعالم الكون والفساد، وارتفعت إلى أعلى أفق العالم العلوي، وسرت في الجواهر النيرة والشفافة التي هي الكواكب والأفلاك، وذلك كما توجب الحكمة الإلهية والعناية الربانية؛ إذ لم تقرن بالأجسام الساترة، ولم تحتج إلى كتمان أسرارها ولا إلى إخفاء ما في ضمائرها؛ إذ كانت صافية من الخبث والدغل وبريئة من الإضمار للشر، فقرنت بالجواهر النيرة والأكر الشفافة التي يتراءى الجزء منها في الكل، والكل يتراءى في الجزء، كما تتراءى وجوه المرايا المجلاة بعضها في بعض، وكما تتراءى وجوه الجماعة المتقابلين في عين الواحد منهم، ووجه الواحد في أعين الجميع، فهم غير محتاجين إلى الإخبار عن الإضمار ولا السؤال عن كتمان الأسرار؛ لأنهم في الإشراق والأنوار التي هي معدن الأخيار والأبرار.
فاجتهد يا أخي فلعل نفسك تصفو وهمتك تعلو من الرغبة في هذه الدنيا الدنية التي ذمها رب العالمين، فقال - عز وجل: @QUR07 أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر إلى قوله: @QUR06 وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور، وقال تعالى: @QUR06 زين للناس حب الشهوات من النساء الآية، وقال تعالى: @QUR010 قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات الآية، وقال تعالى: @QUR014 تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين.
واعلم بأنه إذا عدم الجنس عدم جميع أنواعه معه، وإذا عدم النوع عدم جميع أشخاصه معه، وليس من الضروري إذا وجد الشخص وجد النوع كله، ولا إذا وجد النوع وجد الجنس كله، واعلم بأن الأجناس أربعة أنواع؛ ثلاثة يستعملها صاحب اللغة في أقاويله، وواحد يستعمله صاحب الفلسفة في أقاويله، فالذي يستعمله صاحب اللغة من هذه الثلاثة؛ أحدها جنس البلدي والآخر جنس الصناعي والآخر جنس النسبي، فالجنس البلدي كقولك لجماعة تشير إليهم فتقول: البغداديون والبصريون والخراسانيون وما شاكله، والصناعي كقولك لجماعة تشير إليهم فتقول: نجارون حدادون خبازون وما شاكله، والنسبي كقولك لجماعة: هاشميون علويون ربعيون، وأما الذي يستعمله الفيلسوف في أقاويله فهو عشرة ألفاظ بيناها في قاطيغورياس.
الرسالة الحادية عشرة في المقولات العشر التي هي قاطيغورياس
بسم الله الرحمن الرحيم
وإذ قد فرغنا من ذكر الستة الألفاظ التي في إيساغوجي وبينا ماهية المعاني التي تدل عليها واحدا واحدا؛ فنريد أن نذكر العشرة الألفاظ التي في قاطيغورياس ونبين معانيها ونصف كيف هي، وأن كل لفظة منها اسم لجنس من الأجناس الموجودة، وأن المعاني كلها كيف هي داخلة تحت هذه العشرة الألفاظ.
اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الحكماء الأولين لما نظروا إلى الأشياء الظاهرة بأبصار عيونهم، وشاهدوا الأمور الجليلة بحواسهم؛ تفكروا عند ذلك في معاني بواطنها بعقولهم، وبحثوا عن خفيات الأمور برويتهم، وأدركوا حقائق الموجودات بتمييزهم ، وبان لهم أن الأشياء كلها أعيان غيريات مرتبة في الوجود كترتيب العدد ومتعلقة مرتبطة بعضها ببعض في البقاء والدوام عن العلة الأولى الذي هو الباري سبحانه كتعلق الأعداد ورباط بعضها ببعض من الواحد الذي قبل الاثنين - كما بينا في رسالة العدد.
ولما تبين لهم هذه الأشياء - كما ذكرنا - لقبوا وسموا الأشياء المتقدمة في الوجود الهيولى، وسموا الأشياء المتأخرة في الوجود الصورة، ولما بان لهم أن الصورة نوعان مقومة ومتممة كما بينا في رسالة «الكون والفساد» سموا الصور المقومة جواهر، وسموا الصور المتممة أعراضا، ولما بان لهم أيضا أن الصور المقومة حكمها حكم واحد، قالوا: إن الجواهر كلها جنس واحد، وكذلك لما تبينوا أن الصور المتممة أحكامها مختلفة قالوا: إن الأعراض مختلفة الأجناس، وهي تسعة أجناس مثل تسعة آحاد، فالجوهر في الموجودات كالواحد في العدد، والأعراض التسعة كالتسعة الآحاد التي بعد الواحد، فصارت الموجودات كلها عشرة أجناس مطابقة لعشرة آحاد، وصارت الأعراض مرتبة بعضها تحت بعض كترتيب العدد وتعلقه في الوجود عن الواحد الذي قبل الاثنين.
فأما الألفاظ العشرة التي تتضمن معاني الموجودات كلها؛ فهي قولهم: الجوهر والكم والكيف والمضاف والأين ومتى والنصبة «الوضع» والملكة ويفعل وينفعل.
(1) فصل في أن كل لفظة من هذه الألفاظ اسم لجنس من الأشياء الموجودة
واعلم يا أخي بأن كل لفظة من هذه الألفاظ اسم لجنس من الأشياء الموجودة، وكل جنس ينقسم إلى عدة أنواع، وكل نوع إلى أنواع أخر، وهكذا دائما إلى أن تنتهي القسمة إلى الأشخاص - كما سنبين بعد.
واعلم يا أخي بأن الحكماء لما نظروا إلى الموجودات؛ فأول ما رأوا الأشخاص مثل زيد وعمرو وخالد، ثم تفكروا فيمن لم يروه من الناس الماضين والغابرين جميعا؛ فعلموا أن كلهم تشملهم الصورة الإنسانية وإن اختلفوا في صفاتهم من الطول والقصر والسواد والبياض والسمرة والزرقة والشهلة والفطسة والقنوة وما شاكلها من الصفات التي يمتاز بها بعضهم من بعض، فقالوا كلهم: إنسان وسموا الإنسان نوعا؛ لأنه جملة الأشخاص المتفقة في الصور المختلفة بالأعراض.
ثم رأوا شخصا آخر مثل حمار زيد وأتان عمرو وجحش خالد؛ فعلموا أن الصورة الحمارية تشملها كلها فسموها أيضا نوعا، ثم رأوا فرس زيد وحصان عمر ومهر خالد فعلموا أن صورة الفرسية تشملها كلها فسموها أيضا نوعا، وعلى هذا القياس سائر أشخاص الحيوانات من الأنعام والسباع والطير وحيوان الماء ودواب البر، كل جماعة منها تشملها صورة واحدة سموها نوعا.
ثم تفكروا في جميعها فعلموا أن الحياة تشملها كلها فسموها الحيوان، ولقبوها الجنس الشامل لجماعات مختلفة الصور وهي أنواع له، ثم نظروا إلى أشخاص أخر كالنبات والشجر وأنواعها، فعلموا أن النمو والغذاء يشملها كلها، فسموها النامي، فقالوا: هي جنس، والحيوان والنبات نوعان له.
ثم رأوا أشياء أخر مثل الحجر والماء والنار والهواء والكواكب، وعلموا بأنها كلها أجسام فسموها جنسا، وعلموا بأن الجسم من حيث هو جسم لا يتحرك ولا يعقل ولا يحس ولا يعلم شيئا، ثم وجدوه متحركا منفعلا ومصنوعا فيه الأشكال والصور والنقوش والأصباغ فعلموا أن مع كل الجسم جوهرا آخر هو الفاعل في الأجسام هذه الأفعال والآثار فسموه روحانيا.
ثم جمعوا هذه كلها في لفظة واحدة وهي قولهم: جوهر، فصار الجوهر جنسا والروحاني والجسماني نوعان له، والجسم جنس لما تحته من النامي والجماد، وهما نوعان له، والنامي جنس لما تحته من الحيوان والنبات، وهما نوعان له، والحيوان جنس لما تحته من الناس، والطير التي هي سكان الهواء، والسابح التي هي سكان الماء، والمشاء التي هي سكان البر، والهوام التي هي سكان التراب، وهي كلها أنواع الحيوان وهو جنس لها.
فالإنسان نوع الأنواع والجوهر جنس الأجناس، والجسم والنامي والحيوان نوع من جنس المضاف؛ لأنها إذا أضيفت إلى ما تحتها سميت أجناسا لها، وإذا أضيفت إلى ما فوقها سميت أنواعا لها، فهذا وجيز من القول في معاني أحد المقولات العشر التي هي الجوهر وأقسامه وأنواعه وأشخاصه وليس له حد، ولكن رسمه أنه القائم بنفسه القابل للأعراض المتضادة.
ولما رأوا من الجوهر ما يقال له: ثلاث أذرع وأربعة أرطال وخمسة مكاييل وما شاكلها؛ جمعوا هذه وسموها جنس الكم، وهي كلها أعراض في الجوهر.
ولما رأوا أشياء أخر ليست بالجوهر ولا يقال لها: كم، مثل البياض والسواد والحلاوة والمرارة والرائحة وما شاكلها؛ جمعوها كلها وسموها جنس الكيف، وهذه الأعراض هي صفات للجوهر، وهو موصوف بها وهي قائمة به، وكلها صور متممة له - كما بينا في رسالة الكون والفساد.
ثم إنهم وجدوا أشياء شتى تقع على شيء واحد لم يتغير في ذاته، بل من أجل إضافته إلى أشياء شتى، فسموها جنس المضاف؛ مثال ذلك رجل يسمى أبا وابنا وأخا وزوجا وجارا وصديقا وشريكا وما شاكلها من الأسماء التي لا تقع إلا بين اثنين يشتركان في معنى من المعاني، وذلك المعنى لا يكون موجودا في ذاتيهما، ولكن في نفس المفكر سموها جنس المضاف، وأصحاب الصفات يسمون هذه المعاني أحوالا.
ثم إنهم وجدوا أسماء أخر معانيها غير معاني ما تقدم ذكرها، مثل فوق وتحت وها هنا، وما شاكلها من الأسماء، فجمعوها كلها وسموها جنس الأين، ثم وجدوا أسماء أخر معانيها غير معاني ما ذكرنا، مثل يوم وشهر وسنة وحين ومدة، وما شاكلها من الأسماء، فجمعوها كلها وسموها جنس المتى، ثم وجدوا أسماء معانيها غير ذلك؛ مثل قائم وقاعد ونائم ومنحن ومتكئ ومستند ومستلق، وما شاكل ذلك من الأسماء فجمعوها كلها وسموها جنس النصبة يعني الوضع.
ثم وجدوا أسماء أخر مثل قولك: له وبه ومنه وعليه وعنده وما شاكلها من الأسماء فجمعوها كلها وسموها جنس الملكة، ثم وجدوا أسماء أخر مثل قولك: ضرب وفعل وصنع وما شاكلها من الألفاظ التي تدل على تأثير الفاعل فجمعوها كلها وسموها جنس يفعل، ثم وجدوا أسماء أخر مثل قولك: انقطع انكسر انبعث انبجس وما شاكلها من الألفاظ وجمعوها كلها وسموها جنس ينفعل.
ثم تأملوا الأشياء كلها فلم يجدوا معنى خارجا عن هذه التي ذكرنا، فاجتمعت لهم معاني الأشياء كلها في عشرة ألفاظ حسب، كما وجدوا لمراتب الآحاد عشرة ألفاظ حسب.
واعلم يا أخي بأنه قد جمعت هذه الأجناس كل موجود من الجواهر والأعراض ، وما كان وما يكون ولا يقدر أحد أن يتوهم شيئا خارجا عن هذه الأجناس وما تحتويه من الأنواع والأشخاص.
واعلم بأنه ربما اجتمعت هذه المعاني في شخص واحد؛ مثال ذلك زيد، فإنه جوهر وفيه كمية؛ لأنه طويل، وفيه كيفية لأنه أسود، وفيه مضاف لأنه ابن، وأين لأنه في مكان، ومتى لأنه في زمان، ونصبة لأنه قائم أو قاعد، وملكة لأنه ذو مال، ويفعل إذا ضرب، وينفعل إذا ضرب.
وإذ قد فرغنا من ذكر الأجناس العشرة بقول وجيز فإنا نذكر الآن طرفا من كيفية تقسيمها إلى الأنواع؛ ليكون إرشادا للمتعلمين إلى أحد طرق التعاليم؛ إذ كانت طرق التعاليم أربعة أنواع، أحدها طريق الحدود، والآخر طريق البرهان، والآخر طريق التحليل، والآخر طريق التقسيم، وهي هذه: الجوهر نوعان جسماني وروحاني، فالجسماني نوعان: فلكي وطبيعي، فالطبيعي نوعان بسيط ومركب، فالبسيط أربعة أنواع: نار وهواء وماء وأرض.
والمركب نوعان جماد ونام، فالجماد هو الأجسام المعدنية، والنامي نوعان نبات وحيوان، والنبات ثلاثة أنواع، منه ما يكون بالغرس كالأشجار، ومنه ما يتكون بالبذر كالزرع، ومنه ما يكون بنفسه كالحشائش والكلأ.
والحيوان نوعان ناطق كالإنسان وغير ناطق كسائرها، وهو ثلاثة أنواع، منه ما يتكون في الرحم، ومنه ما يتكون في البيض، ومنه ما يتكون في العفونات كالدبيب، وتحت كل نوع من هذه أنواع وتحت تلك الأنواع أنواع أخر إلى أن ينتهي إلى الأشخاص.
وأما الجواهر الروحانية فتنقسم قسمين: الهيولى والصورة، فالصورة نوعان: مفارقة كالنفس والعقل، وغير مفارقة كالأشكال والأصباغ، والكم ينقسم نوعين: متصل ومنفصل، فالمتصل خمسة أنواع: الخط والسطح والجسم والمكان والزمان، والمنفصل نوعان: العدد والحركة، والخط ثلاثة أنواع: مستقيم ومقوس ومنحن، والسطوح ثلاثة أنواع: بسيط ومقبب ومقعر، والجسم قد تقدم ذكر أقسامه، والمكان سبعة أنواع: فوق وتحت وقدام وخلف ويمنة ويسرة ووسط، والزمان ثلاثة: ماض ومستقبل وحاضر، وكل واحد ينقسم أربعة أنواع: السنون والشهور والأيام والساعات، والعدد نوعان: أزواج وأفراد، ووجه آخر صحيح وكسور، ووجه آخر آحاد وعشرات ومئون وألوف.
والحركة ستة أنواع: الكون والفساد والزيادة والنقصان والتغير والنقلة ، وخاصة هذا الجنس مساو وغير مساو، والكيف نوعان: جسماني وروحاني، فالجسماني ما يدرك بالحواس، والروحاني ما يعرف بالعقول كالعلم والقدرة والشجاعة والاعتقادات، والجسماني نوعان: مفردة ومركبة، فالمفردة نوعان: فاعلة وهي الحرارة والبرودة ومنفعلة وهي اليبوسة والرطوبة، والمركبة نوعان: ملازمة ومزايلة، فالملازمة كالطعوم والألوان والروائح وزرقة الأزرق وفطسة الأفطس، والمزايلة كالقيام والقعود وصفوة الوجل وحمرة الخجل.
والكيفية الروحانية أربعة أنواع: الأخلاق والعلوم والآراء والأعمال، وخاصية هذا الجنس الشبيه وغير الشبيه، والمضاف نوعان: النظير وغير النظير، فالنظير ما كان المضافان في الأسماء سواء، كالأخ والجار والصديق، وغير النظير ما كان المضافان في الأسماء مختلفين، كالأب والابن والعبد والمولى والعلة والمعلول والأول والآخر والنصف والضعف والأصغر والأكبر وكلها في الإضافة معا.
فأما ذواتها في الوجوه فعلى وجهين، الوجه الأول أن يكون أحدهما قبل الآخر كالأب والابن والعلة والمعلول، والآخر أن يكونا موجودين قبل الإضافة مثل العبد والمولى والجار والصديق، وجنس المضاف إذا أضيفت إدارته دخل باقي الأجناس كلها فيه بالعرض لا بالذات؛ وذلك أن الجوهر موصوف بالأعراض، والأعراض صفات له، والصفة صفة الموصوف، والموصوف موصوف بالصفة، كما أن الأب أب للابن، والابن ابن للأب.
وخاصية هذا الجنس أن المضافين يدوران أحدهما على الآخر ولا يتنافيان، وهما في الإضافة معا، فهذه الأربعة الأجناس يقال لها: البسيطة.
وأما الستة الباقية فيقال لها: مركبة أولها الأين وهو من تركيب جوهر مع المكان، والأماكن سبعة أنواع كما بينا في جنس الكمية التي هي من تركيب جوهر مع الزمان، وقد بينا أنواع الزمان في جنس الكم، والنصبة تركيب جوهر مع جوهر آخر، فإن المتكئ متكئ على المتكأ، والمستند مستند على المستند، والملكة من تركيب جوهر مع جوهر آخر.
وهو ينقسم نوعين: إما داخل وإما خارج، فالداخل إما في النفس كما يقال له: علم وعقل وحلم، وإما في الجسم كما يقال له: حسن وجمال ورونق، والذي من خارج نوعان: حيوان وجماد كما يقال له: عبيد ودواب ودراهم وعقارات وتجارات، وجنس يفعل نوعان، إما أن يكون أثر الفاعل يبقى في المصنوع؛ كالكتابة والبناء وما شاكلهما من الصنائع، ومنها ما لا يبقى للفاعل أثر كالرقص والغناء، وجنس ينفعل نوعان إما في الأجسام كما بينا في رسالة الصنائع العملية، وإما في النفوس كما بينا في رسالة الصنائع العلمية.
وإذ قد فرغنا من ذكر الأجناس العشرة وبينا كيفية انقسامها إلى الأنواع، فنحتاج أن نذكر الأشياء التي لا بد من ذكرها، وذلك أن هذه الأشياء إذا قابل بعضها بعضا فلا يخلو أن يكون تقابلها في القول أو في ذواتها، فالذي في القول هو الإيجاب والسلب، فالإيجاب هو إثبات صفة لموصوف، والسلب هو نفي صفة عن موصوف، والذي يخص هذا التقابل الصدق والكذب.
وأما الذي في ذوات الأشياء فهو ثلاثة أنواع، أحدها في الأشياء المتضادة، والآخر في الأشياء التي في جنس المضاف، والآخر في القنية والعدم، والمتضادان هما الشيئان اللذان ينافي كل واحد منهما صاحبه ولا يدور عليه، والمتضادان نوعان: ذو وسط وغير ذي وسط، فالذي هو ذو وسط مثل السواد والبياض اللذين هما ضدان وبينهما وسائط من الألوان كالحمرة والصفرة والخضرة وغيرها، ومثل الحلو والمر فإنهما ضدان وبينهما طعوم أخر، كالحموضة والملوحة والعذوبة وغيرها من الطعوم، وغير ذي الوسط كالصحة والمرض.
ومن خاصية هذين الضدين أن أحدهما إذا كان في الجسم فالآخر أيضا يكون في الجسم، فإن كان أحدهما في النفس فالآخر أيضا يكون في النفس، وخاصية أخرى أن إدراك أحدهما إذا كان بحاسة فالآخر أيضا يدرك بتلك الحاسة.
مثال ذلك أن السواد لا يكون إلا في الجسم ولا يدرك إلا في البصر، كذلك حكم البياض، والعلم لا يكون إلا في النفس ولا يدرك إلا بالعقل، والجهل كذلك حكمه، وأما المضافان فإنهما متقابلان ولا يتنافيان ويدور أحدهما على الآخر كما بينا قبل، وأما القنية والعدم فشبيه الضد والمضاف جميعا، وذلك أن العدم يضاف إلى القنية، والقنية لا تضاف إلى العدم، فيقال: عمى البصر ولا يقال: بصر العمى، والقنية والعدم لا يجتمعان، كما أن الضدين لا يجتمعان، فإذا كانت القنية جسمانية كان العدم أيضا جسمانيا ، وإن كانت روحانية فكذلك العدم أيضا روحاني، ولا يقال: العادم للقنية إلا إذا حان وقت وجوده، مثال ذلك لا يقال للطفل: إنه أدرد إلا إذا حان خروج أسنانه، ولا تاركا للفعل إلا حين إمكانه الفعل.
(2) فصل في معنى قدم الأشياء
واعلم بأن تقدم الأشياء بعضها على بعض من خمسة أوجه، أحدها بالزمان والكون كما يقال: إن موسى أقدم من عيسى، والآخر بالطبع كما يقال: إن الحيوان أقدم من الإنسان، والثالث بالشرف كما يقال: الشمس أقدم من القمر، والرابع بالمرتبة كما يقال في العدد: إن الخمسة أقدم من الستة، والوجه الخامس بالذات كالعلة والمعلول، والشيء في الشيء على عدة أوجه، الشيء في المكان وفي الزمان وفي الوعاء، والعرض في الجوهر، والجوهر في العرض، والشخص في النوع، والنوع في الجنس، وعكس هذا، والسائس في السياسة، والسياسة في السائس والشيء في التمام، والأجزاء في الكل وما شاكلها، والشيء مع الشيء يقال على ثلاثة أوجه: مع الزمان مثل الفيء مع الضوء، ومثل المضافين كما بينا، ومثل الأنواع التي كلها معا تحت جنس واحد.
واعلم يا أخي بأن مثل هذه العشرة الألفاظ وما يتضمنها من المعاني التي هي عشرة أجناس، المحتوية على جميع معاني الأشياء وما تحت كل واحد من الأنواع، وما تحت تلك الأنواع من الأشخاص، كمثل بستان فيه عشر أشجار، على كل شجرة عدة فروع وأغصان، وعلى كل غصن عدة قضبان، وعلى كل قضيب عدة أوراق، وتحت كل ورقة عدة أنوار وثمار، وكل ثمرة لها طعم ولون ورائحة لا تشبه الأخرى.
وأن مثل النفس إذا هي عرفت معاني هذه العشرة الأجناس وتصورتها في ذاتها، وتأملت فنون تصاريفها، وما تحتوي عليه من المعلومات المختلفة الصور، المفننة الهيئات، المتلونة الأصباغ، كمثل صاحب ذلك البستان، إذا فتح بابه ونظر إلى ما فيه من الألوان والأزهار، واشتم من روائح تلك الأنوار، وتناول من تلك الثمار، وتطعم من تلك الطعوم، وتمتع بنتائج ذلك البستان.
فاجتهد يا أخي في طلب العلوم وفنون الآداب، فإن العلوم بساتين النفوس ، وفنون معانيها وفوائدها وألوان الثمار، والعلوم غذاء النفس كما أن الطعام غذاء الجسد، وبها تكون حياها ولذة عيشها وسرورها ونعيمها بعد مفارقة الجسد كما بينا في رسالة المعاد.
وفقك الله أيها الأخ البار الرحيم للسداد والرشاد وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد.
(تمت الرسالة الحادية عشرة في المنطق الفلسفي، والحمد لله رب العالمين، والصلاة على نبيه محمد وآله أجمعين.)
الرسالة الثانية عشرة في معنى بارامانياس «وهي الرسالة الثالثة من المنطقيات»
وإذ قد فرغنا من ذكر العشرة الألفاظ التي يسميها الحكماء المنطقيون «المقولات العشرة»، ووصفنا كمية ما يتضمن كل واحد منها جنسا من المعاني، وهي الصور المنتزعة من الهيولى، ورسومها المصورة في أفكار النفوس الإنسانية، مثالها في رسالة قاطيغورياس، وقبل ذلك قد ذكرنا في فصل آخر الستة الألفاظ التي تستعملها الفلاسفة في أقاويلها، وفي فصل آخر قبله وصفنا أن الحروف المفردة إذا ألفت صارت ألفاظا، وأن الألفاظ إذا ضمنت المعاني صارت سمات، وأن السمات إذا ترادفت صارت كلاما مفيدا، فنقول في هذا الفصل:
إن الكلام كله ثلاثة أنواع، فمنها ما هي سمات دالات على الأعيان يسميها المنطقيون والنحويون الأسماء، ومنها ما هي سمات دالات على تأثيرات الأعيان بعضها في بعض، ويسميها النحويون الأفعال ويسميها المنطقيون الكلمات، ومنها ما هي سمات دالات على معان كأنها أدوات للمتكلمين تربط بعضها ببعض، كالأسماء بالأفعال، والأفعال بالأسماء، يسميها النحويون الحروف، ويسميها المنطقيون الرباطات.
فالأسماء هي كل لفظة دالة على معنى بلا زمان، كقولك: زيد وعمرو وحجر وخشب وما شاكلها من الألفاظ، والفعل مثل ضرب يضرب وعقل يعقل، وهو كل لفظة دالة على معنى في زمان، والحروف مثل قولك: من وفي وعلى وما شاكلها من ألفاظ مذكور شرحها في كتب النحو. وبالجملة: ينبغي لمن يريد أن ينظر في المنطق الفلسفي أن يكون قد ارتاض أولا في علم النحو قبل ذلك.
واعلم يا أخي أن الكلمات والأسماء إذا اتسقت صارت أقاويل، والأقاويل نوعان فمنها ما يقع فيه الصدق والكذب ومنها ما لا يقع فيه لا الصدق ولا الكذب، وهذه أربعة أنواع: الأمر والسؤال والنداء والتمني، والذي يقع الصدق والكذب فيه يسمى الأخبار، والأخبار نوعان إما إيجاب صفة لموصوف، وإما سلبها عنه كقولك: النار حارة وليست بحارة، فقولك: ليست بحارة سلب، فالإيجاب إما أن يكون صدقا وإما أن يكون كذبا، وكذلك السلب مثل قولك: إذا قلت النار حارة فصدق، وإذا قلت: باردة فكذب، وإذا قلت: النار ليست بباردة فصدق، وإذا قلت: ليست بحارة فكذب، فقد تبين لك كيف يكون السلب والإيجاب تارة صدقا وتارة كذبا.
واعلم بأن الإيجاب والسلب تارة يكون حكما حتما، وتارة شرطا واستثناء، فالإيجاب الحتم مثل قولك: الشمس فوق الأرض وهو نهار، والشرط مثل قولك: إن كانت الشمس فوق الأرض فهو نهار، وكذلك حكم السلب مثله، مثال ذلك ليست الشمس فوق الأرض ولا هو نهار، والشرط والاستثناء مثل قولك: إن كانت الشمس ليست فوق الأرض فليس هو نهارا.
واعلم بان الحكم نوعان: تارة يكون الصدق والكذب فيه ظاهرين، وتارة يكونان فيه خفيين، بيان ذلك أنه متى كان قول القائل محتملا للتأويل؛ لم يتبين فيه الصدق والكذب، ومتى كان غير محتمل للتأويل بان فيه الصدق والكذب.
واعلم بأن القول يكون غير محتمل للتأويل متى كان محصورا، والمحصور من الأقاويل ما كان عليه سور، وسور الأقاويل نوعان كلي وجزئي، فالسور الكلي مثل قولك: كل إنسان حيوان، فهذه صدق وظاهر بين؛ لأن عليه سورا كليا، والكذب الظاهر البين مثل قول القائل ليس واحد من الناس حيوانا فكذب ظاهر؛ لأن عليه سورا كليا، وأما السور الجزئي فمثل قولك: بعض الناس كاتب، وبعض الناس ليس بكاتب، والصدق فيهما ظاهر بين؛ لأن عليهما سورا جزئيا.
وأما ما كان من الأقاويل غير المحصورة فهو الذي ليس عليه سور، وهو نوعان مهمل ومخصوص، فالمهمل مثل قولك: الإنسان كاتب، والإنسان ليس بكاتب، فلا يتبين فيه الصدق والكذب؛ لأنه لا يمكن للقائل أن يقول: أردت بعض الناس، وأما المخصوص فمثل قول القائل: زيد كاتب، وزيد ليس بكاتب، فلا يتبين فيهما الصدق والكذب؛ لأنه يمكنه أن يقول: أردت بزيد الفلاني، وأما إذا جعل على كل قول قائل سور كلي كما وصفنا، فيتبين الصدق عند ذلك؛ لأنه لا يمكنه أن يقول: أردت غير ما أوجبه الحكم.
واعلم أنه يجب على المستمع أن يلزم القائل ما يوجبه قوله ويطالبه به لا بما في ضميره؛ لأن الضمائر لا يطلع عليها أحد إلا الله تعالى، فقد تبين بهذا المثال أن الكلام إذا لم يكن محصورا بسور لا يتبين فيه الصدق ولا الكذب ظاهرا.
واعلم بأن الأسوار إنما تحصل الصفات للموصوفات وتحتاج أيضا أن يكون الموصوف محصلا بصفات معلومة معروفة، وذلك أن الموصوف إذا لم يكن معروفا باسم فلا يتبين فيه الصدق والكذب في القول؛ مثل قولك: غير الإنسان حيوان وغير زيد كاتب وما سوى الحيوان جواهر ميتة، وما شاكل هذه الألفاظ التي هي سمات لأعيان غير معروفة، بل مشتركة لكل شيء سوى ذلك المستثنى منه.
واعلم يا أخي بأن السلب والإيجاب هما حكمان متناقضان في اللفظ والمعنى جميعا، لا يجتمعان في الصدق والكذب في صفة واحدة في زمان واحد من جهة واحدة في إضافة واحدة؛ لأنه رفع الشيء الذي أوجب من الشيء الذي أوجبته له على النحو الذي أوجبته له، في الوقت الذي أوجبته له، من الوجه الذي أوجبته له، ومتى نقصت من هذه الشرائط واحدة جاز اجتماعها على الصدق والكذب جميعا، مثال ذلك قولك: بعض الناس كاتب، وبعض الناس ليس بكاتب، وفي الصبي: إنه كاتب بالقوة ليس بكاتب بالفعل، وإليه أشار بقوله - عليه السلام: «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين.» عنى كنت نبيا بالقوة لا بالفعل، وفي الرجل الواحد أنه عالم بشيء ليس بعالم بشيء آخر، وصائم في رمضان بالنهار ليس بصائم بالليل، وكبير بالإضافة إلى ما هو أصغر منه وليس بكبير بالإضافة إلى ما هو أكبر منه، والكلب ليس يتحرك؛ لأن الكلب اسم مشترك، وكذلك يتحرك اسم يقع فيه الحركات الست.
واعلم يا أخي بأنه إذا حكم بالقول على موصوف بصفة سميت تلك الصفة قضية ثنائية مثل قولك : زيد كاتب ؛ لأنه يجوز أن يكون كاتبا وغير كاتب، فإذا قطعت على أحد الخبرين كان قولا جازما وقضية جازمة، وإذا قرن بهذه القضية أحد الأزمان الثلاثة سميت قضية ثلاثية مثل قولك: زيد كتب أمس أو يكتب غدا أو هو كاتب اليوم، وإن زدت على إحدى القضايا الثلاثية أحد العناصر الثلاثة الذي هو من الممكن والممتنع والواجب سميت رباعية مثل قولك: يمكن أن يكون هذا الصبي يوما ما رجلا جلدا وممتنع أن يحمل يوما ما ألف رطل، وواجب أن يموت يوما ما.
واعلم بأن السلب والإيجاب نوعان كلية وجزئية، فالكلية الموجبة مثل قولك: كل نار حارة، وسالبتها ليس شيء من النيران حارة، فإذا تقابلتا سميتا أضدادا كبرى، والموجبة الجزئية مثل قولك: بعض الناس كاتب، وسالبتها ليس واحد من الناس بكاتب، وإذا تقابلتا سميتا أضدادا صغرى، وإذا تقابلت قضيتان موجبتان أوسالبتان سميتا متتاليتين مثل قولك: بعض الناس حيوان، بل كل الناس حيوان، وإن بعض الناس لا يطير، بل كل الناس لا يطيرون، والقضيتان المتلائمتان هما اللتان تتفقان في المعنى وتختلفان في اللفظ، مثال ذلك كل نار حارة، وليست شيء من النيران باردة، وبعض الناس كاتب ليس بعض الناس أميا.
واعلم أن الصفة تسمى محمولا، والموصوف يسمى موضوعا لحمله، فإذا كثرت الموصوفات والصفة واحدة؛ فالقضايا تكون كثيرة مثل قولك: زيد كاتب وخالد كاتب وعمرو كاتب، وإذا كثرت الصفات والموصوف واحد، فالقضايا كثيرة مثل قولك: زيد كاتب وحداد ونجار، فإذا كثرت الصفات في اللفظ والمعنى واحد؛ فالقضية واحدة مثل قولك: زيد فهم فقيه عالم.
واعلم أن القضايا تختلف تارة بالسلب والإيجاب، وتارة بالكل والجزء، والاختلاف بالسلب والإيجاب يسمى كيفية وبالكلية والجزئية يسمى كمية، فإذا اختلفت القضايا بالكيفية والكمية سميتا متناقضتين، وإذا اختلفت بالكيفية سميتا متضادتين، والمتناقضان أشد عنادا من المتضادين، والمتضادان مثل قولك كل إنسان كاتب، كل إنسان ليس بكاتب، والمتناقضان مثل قولك: كل إنسان كاتب ليس كل من الناس بكاتب.
واعلم بأن الواجب في الكون أقدم في الطبع من الممكن، والممكن أقدم من الممتنع؛ لأنه لو لم يكن الواجب في الكون لما عرف الممكن، ولو لم يكن الممكن لما عرف الممتنع.
واعلم أيها الأخ، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن كل قضية كلية أو جزئية، موجبة كانت أو سالبة، فهي مركبة من حدين، يسمى أحدهما الموضوع والآخر المحمول، مثال ذلك قولك: النار حارة، فالنار هي الموضوعة، والحرارة هي المحمولة.
واعلم بأنه ربما جعل الموضوع محمولا، والمحمول موضوعا، مثال ذلك إذا قيل: النار حارة ثم قيل: الحارة نار ويسمى هذا عكس القضية.
واعلم بأنه ربما تكون القضية قبل العكس صادقة وبعده كاذبة مثل قولك: كل حيوان إنسان، وكل إنسان حيوان، وربما تكون صادقة قبل العكس وبعده مثل قولك: كل إنسان ضحاك، وكل ضحاك إنسان، وربما تكون كاذبة في الحالتين جميعا مثل قولك: كل إنسان طائر وكل طائر إنسان.
(هذه آخر رسالة بارامانياس وتليها رسالة أنولوطيقا الأولى، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.)
الرسالة الثالثة عشرة في معنى أنولوطيقا
(1) فصل في أنولوطيقا الأولى
اعلم يا أخي بأن كل قضيتين إذا قرنتا ووجب عنهما حكم آخر، سميت القضيتان مقدمتين، وسمي ذلك الحكم نتيجتهما، مثال ذلك إذا قيل: كل إنسان حيوان، وكل حيوان نام، فينتج من هاتين أن كل إنسان نام.
واعلم بأن المقدمتين لا تقترنان إلا أن تشتركا في كل حد واحد، وتتباينان بحدين آخرين، وذلك الحد لا يخلو من أن يكون موضوعا في إحداهما ومحمولا في الأخرى، أو يكون محمولا في كلتيهما أو يكون موضوعا فيهما جميعا، فإن كان موضوعا في إحداهما، محمولا في الأخرى يسمى ذلك الشكل الأول، وهو مثل قولك: كل إنسان حيوان وكل حيوان متحرك، فالحيوان هو الحد المشترك في المقدمتين جميعا، محمولا في الأولى، موضوعا في الأخرى، وإن كان محمولا فيهما جميعا سمي ذلك الشكل الثاني، وهو قولك: كل إنسان حيوان وكل طير حيوان، فالحد المشترك الذي هو الحيوان محمول فيهما جميعا، وإن كان موضوعا فيهما سمي ذلك الشكل الثالث، وهو مثل قولك: كل إنسان حيوان وكل إنسان ضحاك .
واعلم يا أخي بأنه إذا اقترنت هذه المقدمات على هذه الشرائط واستخرج بها حكم ما؛ سمي جميع ذلك الشكل «سلوجيموس» يعني القياس المنتج.
واعلم يا أخي بأن من المقدمات ما هو منتج ومنها ما هو غير منتج، فالمنتج ما تقدم ذكره، وغير المنتج هو ما ليس له حد مشترك مثل قولك: كل إنسان حيوان وكل حجر يابس، فإن هاتين المقدمتين، وإن كانتا صادقتين فليستا تنتجان شيئا؛ لأنه ليس لهما حد مشترك.
واعلم يا أخي أنه إنما احتيج في المقدمات إلى الحد المشترك ليقع الازدواج بينهما، وإنما يراد الازدواج لتخرج النتيجة التي هي الغرض من تقديم المقدمات، كما أن الغرض من تزويج الحيوان الذكور مع الإناث هو أن ينتج منها أولاد مثلها، فهكذا أيضا حكم المقدمتين واقترانهما هو لأن ينتج منهما حكم على شيء ليس بظاهر للعقول، فمن أجل هذا احتيج إلى اقتران المقدمات.
واعلم يا أخي بأنه ليس كل اقتران منتجا، كما أنه ليس من كل تزويج يكون الولادة، وذلك أنه إذا قيل: كل إنسان حيوان وكل طائر حيوان، فإن هاتين المقدمتين وإن كانتا قد اشتركتا في حد فليس ينتج من اقترانهما نتيجة؛ لأنهما من الشكل الثاني، وهكذا إذا قيل: ليس واحد من الناس طائرا ولا واحد من الناس حجرا، فإن هاتين المقدمتين وإن كانتا قد اشتركتا، فليس ينتج من اقترانهما شيء؛ لأنهما من الشكل الثالث، وهذان الشكلان ليس يوثق بنتيجتهما دون أن يعتبر بالشكل الأول كما بين ذلك في كتب المنطق بشرح طويل.
واعلم يا أخي بأن مقدمات الشكل الأول منتجة كلها، كلية كانت أو جزئية، سالبة كانت أو موجبة؛ مثال ذلك إذا قيل: كل إنسان حيوان، كلية موجبة صادقة؛ وكل حيوان متحرك، كلية موجبة صادقة، ينتجان كل إنسان متحرك، كلية موجبة صادقة، وإذا قيل: ليس واحد من الناس حجرا كلية سالبة صادقة، ولا واحد من الأحجار طائرا، كلية سالبة صادقة، نتيجتهما ليس واحد من الناس طائرا، كلية سالبة صادقة، وبعض الناس كاتب جزئية موجبة صادقة، وبعض الكتاب حاسب جزئية موجبة صادقة، نتيجتهما بعض الناس حاسب جزئية موجبة صادقة وبعض الناس ليس بكاتب، جزئية سالبة صادقة، وبعض الكتاب ليس بحاسب، جزئية سالبة صادقة، نتيجتهما بعض الناس ليس بحاسب، جزئية سالبة صادقة، فقد بان أن هذا الشكل ومقدماته ينبغي أن يتحفظ بها ويعرف استعمالها في القياسات وكيفية استخراج نتائجها، ويتحرز من السهو والغلط فيها، فإنه يدخل عليها الآفات العارضة، كما يدخل في سائر الموازين والقياسات، إما بقصد من المستعملين لها، أو بسهو يدخل عليهم فيها، وذلك أنه ربما تكون المقدمات صادقة، ونتائجها كاذبة، وربما كانت المقدمات كاذبة، ونتائجها صادقة، وربما تكون المقدمات والنتيجة كاذبة كلها أو صادقة كلها.
واعلم يا أخي بأن هذا الباب ينبغي أن يتفحص وينظر موضع المغالطة فيه ويتحرز منه، فإن الذين راموا إبطال القياس المنطقي من هذا الباب أتوا، وذلك أن أرسطاطاليس لما عمل كتاب القياس وبين فيه القياس الصحيح الذي لا يدخله الخطأ والزلل، وذكر أنه ميزان يعرف به الصدق من الكذب في الأقاويل، والصواب من الخطأ في الآراء، والحق من الباطل في الاعتقادات، والشر من الخير في الأفعال، فكثر الراغبون فيه في ذلك الزمان والطالبون له وتركوا ما سواه من كتب الجدل وزال الاختلاف الذي كان بينهم لرجوعهم إلى الميزان الذي يريهم الحق ووثقوا به وأيقنوا أنه لا يجوز غيره. كقوم اختلفوا في وزن شيء من الأشياء، فلما اعتبروه بالميزان عرفوه يقينا، ورجعوا إليه، وتركوا الجدل والمراء، فلما زال الاختلاف فيما بينهم حسده جماعة من أبناء جنسه من المتفلسفة وراموا إبطال ذلك عليه من هذا الطريق، وهو أن أتوا بمقدمات صادقة نتائجها كاذبة، وبمقدمات كاذبة نتائجها صادقة، وبمقدمات كاذبة نتائجها كاذبة، وعارضوا بها تلامذة أرسطاطاليس؛ لكي ما ينفروهم عنها ويزهدوهم فيها وهي هذه: ليس واحد من الناس بحجر، سالبة صادقة. و: لا واحد من الأحجار بحيوان، سالبة صادقة، نتيجتهما: لا واحد من الناس بحيوان، سالبة كاذبة، والآخر: كل إنسان طائر، موجبة كاذبة. وكل طائر ناطق، موجبة كاذبة، نتيجتهما كل إنسان ناطق موجبة صادقة، وكل إنسان طائر موجبة كاذبة وكل طائر حجر موجبة كاذبة نتيجتهما كل إنسان حجر موجبة كاذبة وكل إنسان حيوان موجبة صادقة.
واعلم يا أخي بأن مثل هذه المغالطة تدخل في الصناعة من وجهين؛ أحدهما أن يكون المتعاطي جاهلا بصناعة القياس أو ناقصا فيها، فيغالط ولا يدري من أين وكيف ولم، كما يغلط من يحسب ولا يدري الحساب، أو يزن أو يكيل ولا يدري كيف الوزن والكيل، أو يكون عارفا بالصناعة، ولكن يقصد عمدا وعنادا لغرض من الأغراض كما يفعل الحاسب والوزان والكيال دغلا وغشا وحيلة، فمن أجل هذه المغالطة التي أتى بها القوم أوصى أرسطاطاليس تلاميذه بسبع شرائط أن لا يستعمل قياس برهاني من مقدمتين سالبتين لا كليتين ولا جزئيتين أصلا، ولا مهملتين ولا جزئية ولا خاصة البتة؛ إذ كان منها تكون هذه المقدمات التي أتى بها القوم لمغالطتهم، بل يقتصر على استعمال المقدمات الصادقة التي نتائجها صادقة، وهي التي تغافل القوم عن ذكرها، والمقدمات التي تصدق هي ونتائجها في كل مادة، وفي كل زمان قبل العكس وبعد العكس، تبين ذلك كله في أنولوطيقا الثانية.
(2) فصل في بيان العلة الداعية إلى تصنيف القياسات المنطقية
اعلم يا أخي بأن الحكماء الأولين لما نظروا في فنون العلوم وأحكموها واستخرجوا الصنائع العجيبة وأتقنوها واستنبطوا عند ذلك لكل علم وصناعة أصلا، منه تتفرع أنواعه، ووضعوا له قياسا يعرف به فروعها وميزانا يتبين به الزائد والناقص والمستوي منها، مثل صناعة العروض التي هي ميزان الشعر يعرف بها الصحيح والمنزحف من الأبيات، ومثل صناعة النحو التي هي ميزان الإعراب يعرف بها اللحن والصواب في الكلام، ومثل الأسطرلاب الذي هو ميزان يعرف به الأوقات في صناعة النجوم، ومثل المسطرة والبركار والكونيا التي هي موازين في أكثر الصنائع يعرف بها الاستواء من الاعوجاج، ومثل المكيال والذراع والشاهين والقبان التي هي موازين يعرف بها الزائد والناقص والمستوي في البيع والشراء في معاملات التجار، ومثل الحساب الذي هو ميزان العمال وأصحاب الدواوين.
واعلم يا أخي بأن هذه المقاييس والموازين هي أحكام بين الناس؛ نصبها الله الباري - جل ثناؤه - بين خلقه قضاة وعدولا تحكم بالحق فيما يختلف الناس فيه من الحكم بالحزر والتخمين؛ لكي ما إذا تحاكموا إلى الموازين والمكاييل والمقاييس حكمت بينهم بالحق، وقضي الأمر، وانفصل الخطاب، وارتفع الخلف، فلما رأى الحكماء المنطقيون اختلاف العلماء في الأقاويل والحكم على المعلومات بالحزر والتخمين بالأوهام الكاذبة ومنازعتهم فيها وتكذيب بعضهم بعضا وادعاء كل واحد أن حكمه الحق وخصمه المبطل، ولم يجدوا لهم قاضيا من البشر يرضون بحكمه؛ لأن ذلك القاضي أيضا يكون أحد الخصوم فرأوا من الرأي الصواب والحكمة البالغة أن يستخرجوا بقرائح عقولهم ميزانا مستويا وقياسا صحيحا؛ ليكون قاضيا بينهم فيما يختلفون فيه لا يدخله الخلل، وإذا تحاكموا إليه قضى بالحق وحكم بالعدل، لا يحابي أحدا وهو القياس الذي يسمى البرهان المنطقي المماثل للبرهان الهندسي الذي يشبه البرهان العددي.
(3) فصل في القياس المنطقي
واعلم بأنه لما كان مقياس كل صناعة وميزان كل بضاعة متخذا من الأشياء التي تشاكلها من موضوعاتها؛ كالموازين التي يعرف بها الأثقال بصنجات لها ثقل وميزان المساحة الذي تعرف به أبعاد أشياء لها أبعاد، وهي الذراع والباب والأشل، ومثل المسطرة التي تعرف بها الأشياء المستوية؛ فهكذا قاس الذين استخرجوا البرهان المنطقي وقالوا: إن اختلاف العلماء فيما يدعون من الحق والباطل والصواب والخطأ الذي في ضمائرهم لا يتبين لنا إلا في أقاويلهم من الصدق والكذب، وإن الأقاويل الصادقة والكاذبة لا تعرف إلا بميزان وقياس يقاس بها ويوزن.
ولما كان الميزان أيضا لا يكون إلا من أشياء تجمع وتركب ضربا من التأليف حتى تصير ميزانا يمكن أن يوزن به ويقاس عليه، مثال ذلك الميزان الذي تعرف به الأثقال، فإنه مجموع من كفتين وعمود وخيوط وصنجات، فهكذا سلكوا في اتخاذ الميزان المنطقي الذي يسمى البرهان وبدءوا أولا فذكروا الأشياء التي منها يكون الميزان والموزون جميعا في قاطيغورياس، ثم ذكروا في بارامانياس كيف تركب وتؤلف تلك الأشياء حتى يكون منها ميزان ومقياس، ثم ذكروا في أنولوطيقا الأولى كيف يعتبر ذلك الميزان حتى لا يكون فيه الغبن والاعوجاج، ثم ذكروا كيفية الوزن به حتى يصح ولا يدخل الخلل في أنولوطيقا الثانية.
(4) فصل في أن الحكم على الأشياء بالعقل والحث على تحري الصواب
واعلم يا أخي بأن الإنسان قادر على أن يقول خلاف ما يعلم، ولكن لا يقدر أن يعلم خلاف ما يعقل؛ وذلك أنه يمكنه أن يقول: زيد قائم قاعد في حال واحدة، ولكن لا يمكنه أن يعلم ذلك؛ لأن عقله ينكره عليه، فلما كان هذا هكذا فلا ينبغي أن ينزل بالحكم على قول القائلين، ولكن على حكم العقول.
واعلم يا أخي بأن أهل كل صناعة يحرصون على حفظ أنفسهم من الخطأ والزلل في صناعتهم، وذلك أن أهل كل علم يتجنبون الخطأ ويتحرون الصواب والحق، ويجتهدون في ذلك، فينبغي لإخواننا، أيدهم الله وإيانا بروح منه، ومن يتعاطى منهم المنطق الفلسفي أن يحفظ أقاويله من التناقض من أولها إلى آخرها؛ فإن من المتكلمين من يحفظ أقاويله من التناقض في مجلس واحد أو عدة مجالس، ولكن قل من يحفظ كل أقاويله من أوائلها إلى أواخرها حتى لا يناقض بعضها بعضا.
مثال ذلك من قال في كتاب له: إن من شأن النفس أن تتبع مزاج البدن، ثم قال في كتاب آخر: إن النفس مزاج البدن، ثم قال في كتاب آخر لا أدري ما النفس، أو مثل من يعتقد بأن الله - عز وجل - خلق الخلق لينفعهم، ثم يقول ويعتقد بأنه لا يغفر لهم ولا يخرجهم من النار. ومثل من يعتقد بأن المكان جسم أو عرض حال في الجسم، ثم يعتقد أنه يبطل الجسم ويبقى المكان فارغا، ومثل من يقول: إن الجزء لا يتجزأ، ثم يعتقد بأن له ست جهات، وهو يشغل الحيز، وما شاكل ذلك من الأقاويل المتناقضة والآراء الفاسدة يعتقدها إنسان واحد في نفسه ثم يتعاطى مع هذا المنطق الفلسفي والبرهان الحقيقي.
واعلم يا أخي علما يقينا بأن أهل كل صناعة وعلم إذا لم يكن لهم أصل صحيح في صناعتهم منه يتفرع علمهم، وقياس مستو عليه يقاس ما يعملونه، مثل صناعة العدد كما بينا قبل؛ فإنه لا يمكنه أن يتحرز فيه من الخطأ، ولا أن يتجنب فيه من الباطل؛ لأن الأصل إذا كان خطأ فالفروع عليه تدور.
واعلم بأن من لا يحس بالتناقض في أقاويله، فكيف يوثق به في آرائه واعتقاده، وكيف يؤمن عليه أنه غير معتقد آراء متناقضة، ويكون فيها مخالفا لنفسه ولا يدري، وكيف يرجى منه الوفاق مع غيره وهو مخالف لنفسه ومناقض لاعتقاده وجاهل في معلوماته؟
(5) فصل أن المنطق أداة الفيلسوف
واعلم يا أخي بأن الحكماء المنطقيين إنما وضعوا القياس المنطقي واستخرجوا البرهان الصحيح؛ ليكون المتعاطي للمنطق يبتدئ أولا ويقيم البرهان من عند نفسه على اعتقاداته، فإذا صحت في نفسه تلك رام أن يصححها عند غيره، وقبل كل شيء تحتاج يا أخي أن تعلم كيف تحفظ أقاويلك من التناقض؛ فإنك إذا فعلت ذلك فقد أحكمت صناعة المنطق الفلسفي.
واعلم بأن المنطق ميزان الفلسفة، وقد قيل: إنه أداة الفيلسوف، وذلك أنه لما كانت الفلسفة أشرف الصنائع البشرية بعد النبوة صار من الواجب أن يكون ميزان الفلسفة أصح الموازين وأداة الفيلسوف أشرف الأدوات؛ لأنه قيل في حد الفلسفة: إنها التشبه بالإله بحسب الطاقة الإنسانية.
واعلم بأن معنى قولهم: طاقة الإنسان هو أن يجتهد الإنسان ويتحرز من الكذب في كلامه وأقاويله، ويتجنب من الباطل في اعتقاده، ومن الخطأ في معلوماته، ومن الرداءة في أخلاقه، ومن الشر في أفعاله، ومن الزلل في أعماله، ومن النقص في صناعته، هذا هو معنى قولهم: التشبه بالإله بحسب طاقة الإنسان؛ لأن الله - عز وجل - لا يقول إلا الصدق، ولا يفعل إلا الخير، فاجتهد يا أخي في التشبه به في هذه الأشياء؛ فلعلك توفق لذلك فتصلح أن تلقاه فإنه لا يصلح للقائه إلا المهذبون بالتأديب الشرعي والرياضات الفلسفية.
وإذ قد فرغنا من ذكر ما احتجنا أن نقدمه من هذه الرسالة بلفظ وجيز، عمدنا إلى الرسالة التي هي موضوعة للبرهان.
الرسالة الرابعة عشرة في معنى أنولوطيقا الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
وإذ قد فرغنا من ذكر المقولات العشرة وكمية أنواعها وكيفية اقتراناتها وفنون نتائجها فيما تقدم؛ فنريد الآن أن نبين ما القياس البرهاني وكمية أنواعه وكيفية تأليفه واستعماله واستخراج نتائجه، ولكن نحتاج قبل ذلك كله أن نخبر أولا ما غرض الفلاسفة في استعمال القياس البرهاني.
واعلم يا أخي بأنه لما كانت طرق العلوم والمعارف والاستشعار والإحساس كثيرة، كما بينا بعضها في رسالة الحاس والمحسوس، وبعضها في رسالة العقل والمعقول، وبعضها في رسالة أجناس العلوم، وكانت الطرق التي سلكها الفلاسفة منها في التعاليم وطلبهم معرفة حقائق الأشياء أربعة أنواع، وهي التقسيم والتحليل والحدود والبرهان؛ احتجنا أن نذكر واحدا واحدا منها، ونبين كيفية المسلك فيها، وأن المعلومات كيف تعرف بها، ولم هي أربع طرق لا أقل ولا أكثر.
أما علة ذلك فإنه لما استبان واتضح في قاطيغورياس بطريق القسمة أن الموجودات كلها ليست تخلو أن تكون أجناسا وأنواعا وفصولا وأشخاصا؛ وجب ضرورة أن تكون طريق المعرفة بكل واحد منها غير الأخرى؛ بيان ذلك أنه بالقسمة تعرف حقيقة الأجناس من الأنواع، والأنواع من الأشخاص، وبالتحليل تعرف حقيقة الأشخاص؛ أعني: كل واحد منها من ماذا هو مركب، ومن أي الأشياء هو مؤلف، وإلى ماذا ينحل.
وبالحدود تعرف حقيقة الأنواع من أي الأجناس كل واحد منها، وبكم فصل يمتاز عن غيره، وبالبرهان تعرف حقيقة الأجناس التي هي أعيان كليات معقولات، كما سنبين بعد هذا الفصل، فنريد أن نشرح أولا طريق التحليل في هذا الفصل؛ إذ قد فرغنا من طريق القسمة في قاطيغورياس، ولعلة أخرى أيضا أن طريق التحليل أقرب إلى أفهام المتعلمين؛ لأنها طريق يعرف بها حقيقة الأشخاص، والأشخاص هي أمور جزئية محسوسة، كما سنبين بعد هذا الفصل.
وأما طريق الحدود وطريق البرهان فهما أدق وألطف وإنما يعرف بهما الأشياء المعقولة وهي الأنواع والأجناس.
(1) فصل في طريق التحليل والحدود والبرهان
واعلم بأن معنى قولنا: الشخص إنما هو إشارة إلى جملة مجموعة من أشياء شتى أو مؤلفة من أجزاء عدة منفردة متميزة عن غيرها من الموجودات، والأشخاص نوعان ، فمنها مجموع من أجزاء متشابهة مثل هذه السبيكة وهذا الحجر وهذه الخشبة وما شاكل ذلك من الأشخاص التي أجزاؤها كلها من جوهر واحد، ومنها أشخاص مجموعة من أجزاء مختلفة الجواهر، متغايرة الأعراض مثل هذا الجسد وهذه الشجرة وهذه المدينة وما شاكل ذلك من المجموعات من أشياء شتى، فإذا أردنا أن نعرف حقيقة شخص من هذه الأشخاص نظرنا أولا إلى الأشياء التي هي مركبة منها، ما هي، وبحثنا عن الأجزاء التي هي مؤلفة منها: كم هي.
واعلم يا أخي بأن الأشياء المركبة كثيرة الأنواع، لا يحصي عددها إلا الله - عز وجل - ولكن يجمعها كلها ثلاثة أجناس، إما أن تكون جسمانية طبيعية، أو جرمانية صناعية، أو نفسانية روحانية، فنريد أن نذكر من كل جنس منها مثالا واحدا؛ لكي ما يقاس عليه سائرها.
فمن الأشخاص الجسمانية الطبيعية جسد الإنسان، فإنه جملة مجموعة مؤلفة من أعضاء مختلفة الأشكال كالرأس واليدين والرجلين والرقبة والصدر وما شاكلها، وكل عضو منها أيضا مركب من أجزاء مختلفة الجواهر والأعراض كالعظم والعصب والعروق واللحم والجلد وما شاكلها، وكل واحد منها مكون من الأخلاط الأربعة، وكل واحد من الأخلاط له مزاج من الكيموس، والكيموس من صفو الغذاء، والغذاء من لب النبات، والنبات من لطائف الأركان، والأركان من الجسم المطلق بما يخصها من الأوصاف، والجسم مؤلف من الهيولى والصورة، وهما البسيطان الأولان والجسد هو المركب الأخير. وأما سائرها فبسائط ومركبات بالإضافة.
ومثال آخر من الجرمانية الصناعية، وهو قولنا: المدينة، فإنا نشير به إلى جملة من أسواق ومحال، وكل واحد منها جملة من منازل ودور وحوانيت، وكل واحد منها مؤلف ومركب من حيطان وسقوف، وكل واحد منها أيضا مركب من الجص والآجر والخشب وما شاكل ذلك، وكلها من الأركان، والأركان من الجسم والجسم من الهيولى والصورة.
ومثال آخر من الروحاني والنفساني، وهو قولنا: الغناء؛ إشارة إلى ألحان مؤتلفة، واللحن مؤلف من نغمات متناسبة وأبيات متزنة، والأبيات مؤلفة من المفاعيل، والمفاعيل من الأوتاد والأسباب، وكل واحد منهما أيضا مؤلف من حروف متحركات وسواكن ، وإنما يعرف هذه الأشياء صاحب العروض ومن ينظر في النسب الموسيقية، وعلى هذه المثالات يعتبر طريق التحليل حتى يتضح أن الأشياء المركبة من ماذا هي مركبة ومؤلفة، فعند ذلك يعرف حقيقتها.
وأما طريق الحدود فالغرض منها حقيقة الأنواع وكيفية المسلك فيه هو أن يشار إلى نوع من الأنواع ثم يبحث عن جنسه وكمية فصوله وتجمع كلها في أوجز الألفاظ ويعبر عنها عند السؤال؛ مثال ذلك: ما حد الإنسان؟ فيقال: حيوان ناطق مائت، فإن قيل: ما حد الحيوان؟ فيقال: جسم متحرك حساس، فإن قيل: ما حد الجسم؟ فيقال: جوهر مركب طويل عريض عميق، فإن قيل: ما حد الجوهر؟ فيقال: لا حد له، ولكن له رسم، وهو أن تقول: هو الموجود القائم بنفسه، القابل للصفات المتضادة، فإن قيل: ما الصفات المتضادة؟ فيقال: أعراض حالة في الجواهر لا كالجزء منها. فعلى هذا القياس يعتبر طريق الحدود، وقد أفردنا لها رسالة.
وأما طريق البرهان والغرض المطلوب فيه فهو معرفة الصور المقومة التي هي ذوات أعيان موجودة، والفرق بينها وبين الصور المتممة لها التي هي كلها صفات لها ونعوت وأحوال ترادفت عليها، وهي موصوفة بها، ولكن الحواس لا تميزها؛ لأنها مغمورة تحت هذه الأوصاف مغطاة بها، فمن أجل هذا احتيج إلى النظر الدقيق والبحث الشافي في معرفتها والتمييز بينها وبين ما يليق بها ويترادف عليها بطريق القياس والبرهان.
(2) فصل في ماهية القياس
واعلم يا أخي أنه لما كان أكثر معلومات الإنسان مكتسبا بطريق القياس، وكان القياس حكمه تارة يكون صوابا وتارة يكون خطأ؛ احتجنا أن نبين ما علة ذلك؛ لكي ما يتحرز من الخطأ عند استعمال القياس، فنقول:
القياس هو تأليف المقدمات، واستعماله هو استخراج نتائجها، ومقدمات القياس مأخوذة من المعلومات التي في أوائل العقول، وتلك المعلومات أيضا مأخوذة أوائلها من طرق الحواس - كما بينا في رسالة الحاس والمحسوس كيفيتها.
(3) فصل في بيان حاجة الإنسان إلى استعمال القياس
اعلم يا أخي بأنه لما كانت الحواس تدرك أن الأشخاص مركبة من جواهر بسيطة في أماكن متباينة ، وأعراض جزئية ، في محال متميزة؛ عرفت بأنها أعيان غيريات موجودة فحسب، وأما كمياتها وكيفياتها فلم تعلم على الاستقصاء إلا بالقياسات الموضوعة المركبة، مثال ذلك أنه إذا علم الإنسان بالحواس أن بعض الأجسام ثقيلة أو كثيرة أو عظيمة؛ فإنه لا يمكنه أن يعلم كمية أثقالها إلا بالميزان ولا كثرتها إلا بالكيل ولا عظمها إلا بالذراع وما شاكل هذه، وهي كلها موازين ومقاييس يعلم الإنسان بها ما لا يمكنه أن يعلمه بالحزر والتخمين.
(4) فصل في وجوه الخطأ في القياس
واعلم يا أخي بأن الخطأ يدخل في القياس من وجوه ثلاثة؛ أحدها أن يكون المقياس معوجا ناقصا أو زائدا، والثاني أن يكون المستعمل للقياس جاهلا بكيفية استعماله، والثالث أن يكون القياس صحيحا والمستعمل عارفا ولكن يقصد فيغالط دغلا وغشا لمأرب له.
(5) فصل في كيفية دخول الخطأ من جهة المستعمل الجاهل
واعلم يا أخي بأن الإنسان مطبوع على استعمال القياس منذ الصبا كما هو مجبول على استعمال الحواس، وذلك أن الطفل إذا ترعرع واستوى وأخذ يتأمل المحسوسات ونظر إلى والديه وعرفهما حسا وميز بينهما وبين نفسه؛ أخذ عند ذلك باستعمال الظنون والتوهم والتخمين، فإذا رأى صبيا مثله وتأمله علم عند ذلك أن له والدين وإن لم يرهما حسا قياسا على نفسه، وهذا قياس صحيح لا خطأ فيه؛ لأنه استدلال بمشاهدة المعلول على إثبات العلة.
فإن كان له إخوة - وقد عرفهم بالحس - أخذ عند ذلك أيضا بالتوهم والظن والتخمين، بأن لذلك الصبي أيضا إخوة قياسا على نفسه، وهذا القياس يدخله الخطأ والصواب؛ لأنه استدلال بمشاهدة المعلول على إثبات أبناء جنسه، لا على إثبات علته.
وهكذا أيضا كلما رأى هذا الصبي امرأة ورجلا ظن وتوهم أن لهما ولدا وإن لم ير ولدهما قياسا على حكم والديه، وربما صدق هذا القياس حكمه وربما كذب؛ لأنه استدلال بمشاهدة أبناء جنس العلة على إثبات معلولاتها، وعلى هذا المثال يقيس الإنسان من الصبا كلما وجد حالا أو سببا لنفسه أو لأبويه أو لإخوته، ظن مثل ذلك وتوهم لسائر الصبيان ولآبائهم وإخوتهم قياسا على نفسه وأبويه وإخوته، حتى إنه كلما أصابه جوع أو عطش أو عري أو وجد حرا أو بردا أو أكل طعاما فاستلذه أو شرب شرابا فاستطابه، أو لبس لباسا فاستحسنه أو حزن على شيء فاته أو فرح بشيء وجده؛ ظن عندما يصيبه من هذه الأحوال شيء أن قد أصاب سائر الصبيان - الذين هم أبناء جنسه - مثل ذلك.
وعلى هذا المثال تجري سائر ظنونه وتوهمه في أحكام المحسوسات حتى ربما كان في دار والديه دابة أو متاع أو أثاث أو بئر ماؤها مالح؛ ظن وتوهم أن سائر دور الصبيان مثل ذلك حتى إذا بلغ وعقل وتفحص الأمور المحسوسة واعتبر أحوال الأشخاص الموجودة؛ عرف عند ذلك حقائق ما كان يظن ويتوهم في أيام الصبى، واستبان له شيء بعد شيء صوابا كان ظنه أو خطأ.
(6) فصل في بيان طريق الخطأ عند العقلاء وخطأ القياس عند الفلاسفة
واعلم يا أخي بأن على هذا المثال يجري سائر أحكام العقلاء وظنونهم وتوهمهم في الأشياء قبل البحث والكشف؛ وذلك أن أكثر الناس إذا رأوا في بلدهم ريحا أو مطرا أو حرا أو بردا أو ليلا أو نهارا أو شتاء أو صيفا؛ ظنوا وتوهموا بأن ذلك موجود في سائر البلدان قياسا على ما يجدون في بلدهم كما كانوا يظنون وهم صبيان في سائر بيوت الناس مثل ما كانوا يجدون في بيوت آبائهم حتى استبان لهم بعد التجربة حقيقة ما كانوا يتوهمون كما بينا قبل، فهكذا يجري حكم العقلاء من الناس في ظنونهم وتوهمهم في مثل هذه الأشياء التي تقدم ذكرها حتى إذا نظروا في العلوم الرياضية، وخاصة علم الهيئة استبان لهم عند ذلك حقيقة ما كانوا يظنون ويتوهمون صوابا كان أو خطأ.
واعلم يا أخي بأن الإنسان لا ينفك من هذه الظنون والأوهام، لا العقلاء المتيقنون ولا العلماء المرتاضون، ولا الحكماء المتفلسفون أيضا؛ وذلك أنا نجد كثيرا ممن يتعاطى الفلسفة والمعقولات والبراهين يظنون ويتوهمون أن الأرض في موضعها الخاص بها هي ثقيلة أيضا قياسا على ما وجدوا من ثقل أجزائها، أي جزء كان، فإذا كان هذا هكذا، فغير مأمون أن تكون سائر القياسات تجري هذا المجرى، وفي هذا ما يدل على ضعف القياس وفساده ودلالته، وهكذا يظن كثير منهم من يكون في مقابلة بلدهم من جانب الأرض أن قيامهم يكون منكوسا؛ قياسا على ما يجدون من حال من يكون واقفا تحت سطح وآخر هو قائم فوقه رجلاه في مقابلة رجليه.
وهكذا يظن كثير منهم أن خارج العالم فضاء بلا نهاية إما ملاء وإما خلاء؛ قياسا على ما يجدون من خارج دورهم من أماكن أخر وخارج بلدهم بلدانا أخر، وخارج عالمهم عالم الأفلاك، وهكذا يظنون أن الباري - عز وجل - خلق العالم في مكان وزمان قياسا على ما يجدون من أفعالهم وصنائعهم في مكان وزمان، ولهذه العلة ظن كثير منهم أن الباري - جل جلاله - جسم قياسا على ما شاهدوا؛ إذ لم يجدوا فاعلا إلا جسما ووجدوا الباري فاعلا وإذا ارتاضوا في العلوم الإلهية استبان لهم أن الأمر بخلاف ذلك - كما بينا في الرسالة الإلهية.
واعلم يا أخي بأن الإنسان لا يرتقي في درجات العلوم والمعارف رتبة إلا وتسنح له أمور يكون علمه بها قبل البيان والكشف كظنونه بالأشياء المحسوسات قبل معرفة حقائقها وهو طفل - كما بينا قبل.
(7) فصل في معقولات الحواس ونتائجها
واعلم يا أخي بأن نسبة المعلومات التي يدركها الإنسان بالحواس الخمس بالإضافة إلى ما ينتج عنها في أوائل العقول؛ كثيرة كنسبة الحروف المعجمة بالإضافة إلى ما يتركب عنها من الأسماء، ونسبة المعلومات التي هي في أوائل العقول بالإضافة إلى ما ينتج عنها بالبراهين والقياسات من العلوم؛ كثيرة كنسبة الأسماء إلى ما يتألف عنها في المقالات والخطب والمحاورات من الكلام واللغات. والدليل على صحة ما قلنا بأن المعلومات القياسية أكثر عددا من المعلومات التي هي في أوائل العقول ما ذكر في كتاب إقليدس، وذلك أنه يذكر في صدر كل مقالة مقدار عشر معلومات أقل أو أكثر مما هي في أوائل العقول، ثم يستخرج من نتائجها مائتي مسألة معلومات برهانية ، وهكذا حكم كتاب المجسطي، وأكثر كتب الفلسفة هكذا حكمها.
وإذ قد فرغنا من ذكر كيفية دخول الخطأ في القياس من جهة جهل المتعلمين؛ فنريد أن نذكر كيفية دخول الخطأ من جهة القياس واعوجاجه.
(8) فصل في كيفية اعوجاج القياس وكيف التحرز منه
واعلم يا أخي بأن الخطأ الذي يدخل في القياس من جهة اعوجاجه كثير الفنون كثرة يطول شرحها، ذكر ذلك في كتب المنطق، إلا أنا نريد أن نذكر في هذا الفصل شرائط القياس المستوي حسب؛ ليتحفظ بها ويقتصر على استعمال ما في البراهين، ويترك ما سواه من القياسات التي لا يؤمن فيها من الخطأ والزلل، فمن القياسات التي تخطئ وتصيب القياس على مجرى العادة بالأنموذج، وهو قياس الجزء على الكل.
واعلم يا أخي أن القياس الذي لا يدخله الخطأ والزلل هو الذي حفظ في تركيبه واستعماله الشرائط التي أوصى بها أرسطاطاليس تلاميذه، وهي هذه: ينبغي أن يؤخذ في كل علم وتعلم قياسي معنيان معلومان، مما هو في أوائل العقول وهي: هل هو، وما هو، وإنما أوصى هذا من أجل أنه لا يمكن أن يعلم مجهول بمجهول، ولا أن يقاس على شيء مجهول وشيء معلوم، فلا بد أن يؤخذ شيء معلوم مما هو في أوائل العقول، ثم يقاس عليه سائر ما يطلب بالبرهان.
والذي في أوائل العقول شيئان اثنان هويات الأشياء وماهياتها، وذلك أن هويات الأشياء تحصل في النفوس بطريق الحواس، وماهياتها بطريق الفكر والروية والتمييز، كما بينا في رسالة الحاس والمحسوس، وإذا حصلت هويات المحسوسات في النفس بطريق الحواس، وماهياتها بطريق الفكر والروية والتمييز، سميت النفوس عند ذلك عاقلة، وإذا تأملت وأردت يا أخي أن تعرف ما العقل الإنساني، فليس هو شيئا سوى النفس الإنسانية التي صارت علامة بالفعل بعدما كانت علامة بالقوة، وإنما صارت علامة بالفعل بعدما حصل فيها صور هوية الأشياء بطريق الحواس وصور ماهيتها بطريق الفكر والروية.
(9) فصل في أساس القياس البرهاني
واعلم يا أخي بأن على هذين العلمين يبنى سائر القياسات البرهانية؛ أعني: هل هو، وما هو، مثال ذلك ما ذكر في كتاب إقليدس في أول المقالة الأولى تسع معلومات مما هو في أوائل العقول، ثم بتوسطها يبرهن على سائر المسائل، وهي قوله: إذا كانت أشياء متساوية لشيء واحد، فهي أيضا متساوية، وإن زيد على أشياء متساوية أشياء متساوية صارت كلها متساوية، وإن نقص منها متساوية كانت الباقية متساوية، وإن زيد على أشياء غير متساوية أشياء متساوية كانت كلها غير متساوية، وإن نقص منها أشياء متساوية كانت الباقية غير متساوية، وإن كان كل واحد مثلين لشيء واحد فهي متساوية، وإن كان كل واحد نصف الشيء، فهي أيضا متساوية، وإذا انطبقت مقاديرها ولم يفضل بعضها على بعض، فهي أيضا متساوية، والكل أكثر من جزء، فهذه الحكومات كلها مأخوذة من العلوم التي هي في أوائل العقول بالسوية لا يختلف العقلاء في شيء منها، ثم يقاس عليها ما هم مختلفون فيه.
(10) فصل في أوائل العقول وأوائل المعلومات
واعلم يا أخي بأن هذه الأشياء وأمثالها تسمى أوائل في العقول؛ لأن كل العقلاء يعلمونها ولا يختلفون فيها إذا تأملوها وأنعموا النظر فيها، وإنما اختلافاتهم تكون في الأشياء التي تعلم بطريق الاستدلال والمقاييس، وسبب اختلافهم فيها كثرة الطرق وفنون المقاييس وكيفية استعمالها، وشرح ذلك طويل قد ذكر في كتب المنطق وكتب الجدل، ونريد أن نبين كيف تحصل حقائق هذه المعلومات في أنفس العقلاء.
واعلم يا أخي بأن هذه المعلومات التي تسمى أوائل في العقول إنما تحصل في نفوس العقلاء باستقراء الأمور المحسوسة شيئا بعد شيء، وتصفحها جزءا بعد جزء، وتأملها شخصا بعد شخص، فإذا وجدوا منها أشخاصا كثيرة تشملها صفة واحدة حصلت في نفوسهم بهذا الاعتبار أن كل ما كان من جنس ذلك الشخص ومن جنس ذلك الجزء؛ هذا حكمه، وإن لم يكونوا يشاهدون جميع أجزاء ذلك الجنس، وأشخاص ذلك النوع، مثال ذلك أن الصبي إذا ترعرع واستوى وأخذ يتأمل أشخاص الحيوانات واحدا بعد واحد، فيجدها كلها تحس وتتحرك، فيعلم عند ذلك أن كل ما كان من جنسها هذا حكمه ، وهكذا إذا تأمل كل جزء من الماء أي جزء كان، فوجده رطبا سيالا، وكل جزء من النار فوجده حارا محرقا، وكل جزء من الأحجار فوجده صلبا يابسا؛ علم عند ذلك أن كل ما كان من ذلك الجنس فهذا حكمه، فبمثل هذا الاعتبار تحصل المعلومات في أوائل العقول بطريق الحواس.
واعلم يا أخي بأن مراتب العقلاء في مثل هذه الأشياء التي تحصل في النفوس بطريق الحواس متفاوتة في الدرجات؛ وذلك أن كل من كان منهم أنعم نظرا وأحسن تأملا وأجود تفكرا وألطف روية وأكثر اعتبارا؛ كانت الأشياء التي تعلم ببدائة العقول في نفوسهم أكثر مما في نفوس من يكون طول عمره ساهيا لاهيا مشغولا بالأكل والشرب واللهو واللذات والأمور الجسمانية.
واعلم يا أخي بأن أكثر ما يدخل الخطأ على المتأملين في حقائق الأشياء المحسوسة إذا حكموا على حقيقتها بحاسة واحدة، مثال ذلك من يرى السراب ويتأمله فيظن أنه غدران وأنهار، وإنما دخل الخطأ عليه؛ لأنه حكم على حقيقته بحاسة واحدة وليس كل الأشياء تعرف حقائقها بحاسة واحدة، ذلك أن بحاسة البصر لا يدرك إلا الألوان والأشكال وحقيقة الماء لا تعرف باللون واللمس والشكل بل بالذوق، وذلك أن كثيرا من الأجساد السيالة تشبه لون الماء مثل الخل المصعد والنفط الأبيض وما شاكلهما.
واعلم بأن لكل جنس من المحسوسات حاسة تعرف بها حقيقة ذلك الجنس، والأجسام السيالة يعرف فرق ما بينها وبين غيرها باللمس، وبعضها يعرف الفرق بينها بالذوق، وألوانها تعرف بالبصر فلا ينبغي للمتأمل أن يحكم على حقيقة شيء من المحسوسات إلا بتلك الحاسة المختصة بمعرفة حقيقة ذلك الجنس من المحسوسات، كما بينا في رسالة الحاس والمحسوس، ونرجع الآن إلى ما كنا فيه؛ فنقول:
وأما قوله: ينبغي أن يوضع في القياس البرهاني أولا شيء معلوم: هل هو، وما هو؛ ليعلم به شيء آخر، كما يفعل المهندس فيضع خط ![](../Images/figure83.png) ثم يعمل عليه مثلثا متساوي الأضلاع أو يقسمه بقسمين، أو يقيم عليه خطا آخر أو يعمل عليه زاوية وما شاكل ذلك، مما قد ذكر في كتاب إقليدس وغيره من كتب الهندسة، والمعلوم هل هو، وما هو، خط ![](../Images/figure84.png) أو المطلوب المجهول؛ ليعلم أو يعمل هو المثلث، فهكذا ينبغي أيضا أن يعمل في القياس البرهاني أن تؤخذ أولا أشياء مما هي معلومة في أوائل العقول، ويركب التأليف ضربا من التركيب، ثم يطلب بها أشياء مجهولة، ليس تعلم بأوائل العقول ولا تدرك بالحواس، وأما قوله: ولا ينبغي في البرهان أن يكون الشيء علة نفسه، فهذا بين في أوائل العقول؛ أي أن الشيء المعلول لا يكون علة نفسه، ولكن من أجل أن كثيرا ممن يتعاطى البرهان ربما جعل المعلول علة لنفسه وهو لا يشعر لطول الخطاب.
مثال ذلك من يتعاطى علم الطبيعيات إذا سئل ما علة كثرة الأمطار في بعض السنين، فيقول: كثرة الغيوم، فإن سئل: ما علة كثرة الغيوم، فيقول: كثرة البخارات المتصاعدة من البحار والآجام في الهواء، فإن سئل: ما علة كثرة البخارات المتصاعدة، فيقول - أو يظن - كثرة المدود وانصباب مياه الأنهار والأودية والسيول إلى البحار، فإن سئل: ما علة كثرة المياه والمدود والسيول إلى البحار، فيقول: كثرة الأمطار، فعلى هذا القياس يلزمه أن علة كثرة الأمطار هي كثرة الأمطار، فمن أجل هذا يحتاج صاحب البرهان أن يقول: إحدى العلل كيت وكيت، والثانية والثالثة والرابعة، ليسلم من الاعتراض؛ إذ قد تكون الغيوم كثيرة والأمطار قليلة؛ لأن لكل شيء معلول أربع علل - كما بينا في رسالة العلل والمعلولات.
(11) فصل في أن المعلول لا يوجد قبل العلة
وقوله: أن لا يكون المعلول قبل العلة، فهذا أيضا بين في أوائل العقول؛ لأن المعلول لا يكون قبل العلة، ولكن من أجل أنهما من جنس المضاف إنما يوجدان معا في الحس، وإن كانت العلة قبل المعلول بالعقل حتى ربما يشكل، فلا تتبين العلة من المعلول؛ مثال ذلك إذا سئل من يتعاطى علم الهيئة ما علة طول النهار في بلد دون بلد، فيقول: كون الشمس فوق الأرض هناك زمانا أطول، وإذا عكس هذه القضية وقيل: كل بلد يكون فيه مكث الشمس فوق الأرض أكثر ، فنهاره أطول؛ فتصدق فيخفى على كثير ممن ليست له رياضة بالتعاليم أيهما علة للآخر، أكون الشمس فوق الأرض لطول النهار أو طول النهار لكون الشمس فوق الأرض؟ وهكذا النار والدخان ربما يوجدان معا، وربما يوجد أحدهما قبل الآخر، وربما يستدل بالدخان على النار، وربما تجعل النار سببا لوجود الدخان فلا يدرى أيهما علة للآخر.
واعلم يا أخي بأن النار والدخان ليس أحدهما علة للآخر، بل علتهما الهيولانية هي الأجسام المستحيلة، وعلتهما الفاعلية هي الحرارة، وهما يختلفان في الصورة، وذلك أن الحرارة إذا فعلت في الأجسام المستحيلة فعلا تاما صارت نارا، وإن قصرت عن فعلها لرطوبة غالبة صارت دخانا وبخارا.
(12) فصل في قوله: وأن لا يستعمل في البرهان الأعراض الملازمة وأن علة الشيء من ذاتياته وكون المقدمة كلية
قوله: أن لا يستعمل في البرهان الأعراض الملازمة إنما هو؛ لأن الأعراض الملازمة لا تفارق الأشياء التي هي لازمة لها، كما أن العلة لا تفارق معلولها، وذلك أنه متى حكم على شيء بأنه معلول، فقد وجب أن له علة فاعلة له، والأعراض الملازمة، وإن كانت لا تفارق فليست هي فاعلة له، مثال ذلك أن الموت وإن كان لا يفارق القتل، فإنه ليس له بعلة، ولا القتل أيضا علة للموت ذاتية؛ إذ قد يكون موت كثير بلا قتل فلا يكون معلول بلا علة.
وأما قوله: وأن تكون العلة ذاتية للشيء فإنما قال هذا من أجل أنه قد يكون للشيء الواحد علل عرضية، ولكنها لا تكون مستمرة في جميع أنواع ذلك الجنس، ولا جميع أشخاص النوع؛ كالقتل الذي هو علة عرضية للموت غير مستمرة في جميع أنواعه، ولكن تحتاج أن تكون العلة ذاتية، حتى تكون القضية صادقة قبل العكس وبعده، كقولك: كل ذي لون فهو جسم، فإذا عكسته وقلت: وكل جسم فهو ذو لون؛ لأنه لا يوجد شيء ذو لون إلا وهو جسم، فإذن الجسم علة ذاتية لذي اللون.
وأما قوله: وأن تكون المقدمة كلية، فمن أجل أن المقدمات الجزئية لا تكون نتائجها ضرورية، ولكن ممكنة، كقولك: زيد كاتب وبعض الكتاب وزير، فيمكن أن يكون زيد وزيرا، وأما إذا قيل: كل كاتب فهو يقرأ وزيد كاتب، فإذن زيد بالضرورة قارئ.
(13) فصل في أن الحكم بالصفات الذاتية
وأما قوله: وأن يكون كون المحمول في الموضوع كونا أوليا فمن أجل أن المحمولات في الموضوعات على نوعين منها أوليات، ومنها ثوان، مثال ذلك كون ثلاث زوايا في كل مثلث كونا أولا؛ لأنها هي الصورة المقومة له، فأما أن تكون حادة أو قائمة أو منفرجة، فهو كون ثان، فقد استبان أنه لا يستعمل في القياس البرهاني إلا الصفات الذاتية الجوهرية، وهي الصورة المقومة للشيء، وبها يكون ذلك الحكم المطلوب الذي يخرج في النتيجة الصادقة.
واعلم يا أخي أن الصفات الذاتية الجوهرية ثلاثة أقسام جنسية ونوعية وشخصية، كما بينا في رسالة إيساغوجي، فأقول: واحكم حكما حتما كما تعلمه ولا تشك فيه بأن كل صفة جنسية فهي تصدق عند الوصف على جميع أنواع ذلك الجنس ضرورة، وهكذا أيضا كل صفة نوعية فهي تصدق على جميع أشخاص ذلك النوع عند الوصف لها، فهذه الصفات هي التي تخرج في النتيجة صادقة، فاستعملها في البرهان، واحكم بها.
وأما الصفات الشخصية فإنها ليس من الضرورة أن تصدق على جميع النوع، ولا كل صفة نوعية تصدق على جميع الجنس، فلا تستعملها في البرهان، ولا تحكم بها حكما حتما؛ فإنك لست منها على حكم يقين، فقد عرفت واستبان لك أن الحكماء والمتفلسفين ما وضعوا القياس البرهاني إلا ليعلموا به الأشياء التي لا تعلم إلا بالقياس، وهي الأشياء التي لا يمكن أن تعلم بالحس ولا بأوائل العقول، بل بطريق الاستدلال، وهو المسمى البرهان.
واعلم يا أخي بأن لكل صناعة أهلا، ولأهل كل صناعة أصولا في صناعتهم، هم متفقون عليها، وأوائل في علومهم لا يختلفون فيها؛ لأن أوائل كل صناعة مأخوذة من صناعة أخرى قبلها في الترتيب.
(14) فصل في أن صناعة البرهان نوعان
واعلم بأن أوائل صناعة البرهان مأخوذة مما في بداية العقول، وأن التي في بداية العقول مأخوذة أوائلها من طريق الحواس - كما بينا قبل.
واعلم أن صناعة البرهان نوعان هندسية ومنطقية، فالأوائل التي في صناعة الهندسة مأخوذة من صناعة أخرى قبلها مثل قول إقليدس: النقطة هي شيء لا جزء له، والخط طول بلا عرض، والسطح ما له طول وعرض، وما شاكل هذه من المصادرات المذكورة في أوائل المقالات، فهكذا أيضا حكم البراهين المنطقية؛ فإن أوائلها مأخوذة من صناعة قبلها، ولا بد للمتعلمين أن يصادروا عليها قبل البرهان، فمن ذلك قول صاحب المنطق: إن كل شيء موجود سوى الباري - جل جلاله - فهو إما جوهر وإما عرض، ومثل قوله: إن الجوهر هو القائم بنفسه، القابل للمتضادات، وإن العرض هو الذي يكون في الشيء لا كجزء منه، يبطل من غير بطلان ذلك الشيء.
ومثل قوله: إن الجوهر منه ما هو بسيط كالهيولى والصورة، ومنه ما هو مركب كالجسم، ومثل قوله: إن كل جوهر فهو إما علة فاعلة أو معلول منفعل، ومثل قوله: كل علة فاعلة فهي أشرف من معلولها المنفعل، ومثل قوله: ليس بين السلب والإيجاب منزلة، ولا بين العدم والوجود رتبة، وإن العرض لا فعل له، وما شاكل هذه المقدمات التي يصادر عليها المتعلمون قبل البراهين.
وينبغي لمن يريد النظر في البراهين المنطقية أن يكون قد ارتاض في البراهين الهندسية أولا، وقد أخذ منها طرفا؛ لأنها أقرب من فهم المتعلمين وأسهل على المتأملين؛ لأن مثالاتها محسوسة مرئية بالبصر، وإن كانت معانيها مسموعة ومعقولة؛ لأن الأمور المحسوسة أقرب إلى فهم المتعلمين.
واعلم بأن البراهين سواء كانت هندسية أو منطقية فلا تكون إلا من نتائج صادقة، والنتيجة الواحدة لا بد لها من مقدمتين صادقتين أو ما زاد على ذلك، بالغا ما بلغ، مثال ذلك ما بين في كتاب إقليدس في البرهان على أن ثلاث زوايا من كل مثلث مساوية لزاويتين قائمتين، لم يكن ذلك إلا بعد اثنين وثلاثين شكلا، وعلى هذا المثال سائر الأشكال تحتاج إلى براهين أخر، وأن مربع وتر الزاوية القائمة مساو لمربعي الضلعين لم يكن البرهان عليه إلا بعد ستة وأربعين شكلا، ويسمى هذا الشكل بشكل العروس، وعلى هذا المثال سائر المبرهنات، وهكذا أيضا حكم البراهين المنطقية، وربما تكفيه مقدمتان، وربما يحتاج إلى عدة مقدمات.
مثال ذلك في البرهان على وجود النفس مع الجسم تكفي ثلاث مقدمات، وهي هذه: كل جسم فهو ذو جهات، وهذه مقدمة كلية موجبة صادقة في أولية العقل، والمقدمة الأخرى وليس يمكن الجسم أن يتحرك إلى جميع جهاته دفعة واحدة، وهذه مقدمة كلية سالبة صادقة في أولية العقل، والمقدمة الثالثة وكل جسم يتحرك إلى جهة دون جهة فلعلة ما تحرك له مقدمة كلية صادقة في أولية العقل، فينتج من هذه المقدمات وجود النفس، والذي ينبغي ليبرهن بأنها جوهر لا عرض أن يضاف إلى هذه المقدمات التي تقدمت هذه الأخرى وكل علة محركة للجسم لا تخلو أن تكون حركتها على وتيرة واحدة في جهة واحدة، مثل حركة الثقيل إلى أسفل، والخفيف إلى فوق، فتسمى هذه علة طبيعية، وأما أن تكون حركتها إلى جهات مختلفة، وعلى فنون شتى بإرادة واختيار مثل حركة الحيوان، فتسمى نفسانية، وهذه قسمة عقلية مدركة حسا، وكل علة محركة للجسم بإرادة واختيار فهي جوهر، فالنفس إذن جوهر؛ لأن العرض لا فعل له، وهذه مقدمات مقبولة في أوائل العقول، فينتج من هذه أن النفس جوهر.
(15) فصل في كيفية البرهان على أنه ليس في العالم خلاء
ومعنى الخلاء هو المكان الفارغ الذي لا متمكن فيه وليس يعقل في العالم مكان لا مضيء ولا مظلم، مقدمة كلية سالبة صادقة في أولية العقل، مقدمة أخرى: وليس يخلو النور والظلمة أن يكونا جوهرين أو عرضين، أو أحدهما جوهرا والآخر عرضا، وهذه أقسام عقلية صحيحة، مقدمة أخرى فإن يكونا جوهرين فإذن الخلاء ليس بموجود، أو عرضين فالعرض لا يقوم إلا في الجوهر، فالخلاء إذن ليس موجودا، وإن يكن أحدهما جوهرا والآخر عرضا فهكذا الحكم.
(16) فصل في البرهان على أنه ليس في العالم لا خلاء ولا ملاء
اعلم يا أخي بأن الخلاء والملاء صفتان للمكان، والمكان صفة من صفات الأجسام، فإن كان خارج الفلك جسم آخر، فقولنا: العالم، نعني به ذلك الجسم مع الفلك جميعا، فمن أين خارج العالم شيء آخر.
(17) فصل في معنى قول الحكماء: هل العالم قديم أو محدث؟
فإن كان المراد بالقديم أنه قد أتى عليه زمان طويل فالقول صحيح، وإن كان المراد به أنه لم يزل ثابت العين على ما هو عليه الآن فلا؛ لأن العالم ليس بثابت العين على حالة واحدة طرفة عين، فضلا عن أن يكون لم يزل على ما هو عليه الآن، وذلك أن قول الحكماء في تسميتهم العالم إنما يعنون به عالم الأجسام، وهو نوعان فلكي وطبيعي، فأما الأجسام الطبيعية التي دون فلك القمر، فهي نوعان الأركان الكليات والمولدات الجزئيات، فالمولدات دائما في الكون والفساد، وأما الأركان الكليات فهي دائما في التغير والاستحالة لا يخفى هذا على الناظرين في الأمور الطبيعية، وأما الأجسام الفلكية فهي دائما في الحركة والنقلة والتبدل في المحاذيات، فأين ثباتها على حالة واحدة.
وأما أن يكون يراد بالثبات الصورة والشكل الكري الذي هو عليه في دائم الأوقات، فليعلم بأن الشكل الكري والحركة الدورية ليسا للجسم من حيث هو جسم، ولا مقومين لذاته، بل هما صورتان متممتان بقصد قاصد كما بينا في رسالة الهيولى والصورة، وكل صورة من المصور بقصد قاصد لا تكون ثابتة العين أبدية الوجود، وإنما يكون الشيء ثابت العين أبدي الوجود بالصورة المقومة.
واعلم يا أخي بأن الحافظ للعالم على هذه الصورة، هو سرعة حركة الفلك المحيط، والمحرك للفلك هو غير الفلك، وأن تسكين الفلك عن الحركة بطلان العالم، وإنما يكون طرفة عين كما قال - عز وجل: @QUR09 وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب.
واعلم بأنه إن وقف الفلك عن الدوران وقفت الكواكب عن مسيرها والبروج عن طلوعها وغروبها، وعند ذلك تبطل صورة العالم وقوامه وتقوم القيامة الكبرى، وهذا لا محالة كائن؛ لأن كل شيء في الإمكان إذا فرض له زمان بلا نهاية، فلا بد أن يخرج إلى الفعل، ووقوف الفلك عن الدوران من الممكن؛ لأن الذي يحركه يمكنه أن يسكنه، وهو أهون عليه وله المثل الأعلى، وقد بينا في رسالة المبادئ ما العلة في حدوث عالم الأجسام، وفي رسالة البعث والقيامة ما علة فناء عالم الأجسام.
(18) فصل في أن الإنسان إذا ارتقى نفسا صار ملكا
واعلم يا أخي أن الإنسان إذا سلك في مذهب نفسه، وتصرف في أحوالها مثل ما سلك به في خلق جسده وصورة بدنه؛ فإنه سيبلغ أقصى نهاية الإنسانية مما يلي رتبة الملائكة، ويقرب من باريه - عز وجل - ويجازى بأحسن الجزاء، مما يقصر الوصف عنه، كما وصف الله - عز وجل - فقال: @QUR013 فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون، وأما ما سلك به في خلقه فهو أنه ابتدئ من نطفة من ماء مهين، ثم كان علقة جامدة في قرار مكين، ثم كان مضغة ثم كان جنينا مصورا تاما، ثم كان طفلا متحركا حساسا، ثم كان صبيا ذكيا فهما، ثم كان شابا متصرفا قويا نشيطا، ثم كان كهلا مجربا عالما عارفا، ثم كان شيخا حكيما فيلسوفا ربانيا، ثم بعد الموت تكون نفسه ملكا سماويا روحانيا أبدي الوجود ملتذا مسرورا فرحا باقيا سرمدا أبدا.
واعلم يا أخي بأنك لم تنقل رتبة من هذه المراتب إلا وقد خلع عنك أعراض وأوصاف ناقصة، وألبست ما هو أجود منها وأشرف، فهكذا ينبغي أن لا ترتقي في درجة العلوم والمعارف إلا وتخلع عن نفسك أخلاقا وعادات وآراء ومذاهب وأعمالا مما كنت معتادا لها منذ الصبا من غير بصيرة ولا روية، حتى يمكنك أن تفارق الصورة الإنسانية وتلبس الصورة الملكية، ويمكنك الصعود إلى ملكوت السماوات وسعة عالم الأفلاك، وتجازى هناك بأحسن الجزاء وأوفر الثواب، وتعيش بألذ عيش مع أبناء جنسك الذين سبقوك إليها من الحكماء والأخيار المؤمنين الأبرار، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
واعلم يا أخي بأن الإنسان مطبوع على استعمال القياس منذ الصبا، كما هو مجبول على استعمال الحواس بلا فكر ولا روية، كما بينا قبل، ولكن قوانين القياسات مختلفة، كما قد تبين في كتب المنطق وشرائط الجدل بشرح طويل، ولكن نذكر منها طرفا ليكون مثالا على سائرها، فمن ذلك أن الصبيان يجعلون قوانين القياسات مختلفة، كما يجعلون قياساتهم أحوال أنفسهم وآبائهم وإخوانهم وتصرفهم في الأمور وما يجدون في منازلهم من الأشياء أصولا على سائر أحوال الصبيان وتصرف آبائهم، وما يكون في منازلهم وإن لم يروهم ولم يشاهدوا أحوالهم قياسا على ما عرفوا من أحوال أنفسهم.
وأما العقلاء البالغون من الناس فإنهم يجعلون قوانين قياساتهم ما عرفوه من الأمور في متصرفاتهم وما قد جربوه من الأحوال أصولا يقيسون بها سائر الأشياء مما لم يشاهدوه ولا جربوه، بل قياسا إلى ما عرفوه حسب، وأما العلماء الذين يتعاطون الجدل ودقيق النظر؛ فإنهم يجعلون قوانين قياساتهم ما قد اتفقوا عليه هم وخصماؤهم أصولا ومقدمات يقيسون عليها ما هم فيه مختلفون، سواء كان ما اتفقوا عليه حقا أو باطلا، صوابا أو خطأ، وأما المرتاضون بالبراهين الهندسية أو المنطقية فإنهم يجعلون قوانين قياساتهم الأشياء التي هي في أوائل العقول أصولا ومقدمات، ويستخرجون من نتائجها معلومات أخرى ليست بمحسوسات ولا معلومات بأوائل العقول، بل مكتسبة بالبراهين الضرورية ثم يجعلون تلك المعلومات المكتسبة مقدمات وقياسات، ويستخرجون من نتائجها معلومات أخرى هي ألطف وأدق مما قبلها، وهكذا يفعلون دائما طول أعمارهم، ولو عاش الإنسان عمر الدنيا لكان له في ذلك متسع.
(19) فصل في أن الحيوانات تتفاوت في الحواس ومعلوماتها
واعلم يا أخي بأن من الحيوان ما له حاسة واحدة، ومنه ما له حاستان، ومنه ما له ثلاث حواس، ومنه ما له أربع، ومنه ما له خمس حواس - كما بينا في رسالة الحيوان.
واعلم يا أخي بأن كل حيوان كان أكثر حواس فإنه يكون أكثر محسوسات، فأما الإنسان فله هذه الخمس بكمالها، ولكن كل من كان من الناس أكثر تأملا لمحسوساته وأكثر اعتبارا لأحوالها كانت المعلومات التي في أولية العقل في نفسه أكثر، ومن كان بهذا الوصف وجعل هذه المعلومات الأولية مقدمات وقياسات، واستخرج نتائجها؛ كانت المعلومات البرهانية في نفسه أكثر، وكل من كان أكثر معلومات حقيقة كان بالملائكة أشبه وإلى ربه أقرب.
(20) فصل في المعلومات البرهانية والأمور الروحية
واعلم يا أخي بأن الإنسان العاقل اللبيب إذا أكثر التأمل والنظر إلى الأمور المحسوسة، واعتبر أحوالها بفكرته وميزها برويته؛ كثرت المعلومات العقلية في نفسه، وإذا استعمل هذه المعلومات بالقياسات واستخرج نتائجها؛ كثرت المعلومات البرهانية في نفسه، وكل نفس كثرت معلوماتها البرهانية، كانت قوتها على تصور الأمور الروحانية التي هي صورة مجردة عن الهيولى بحسب ذلك، وعند ذلك تشبهت بها، وصارت مثلها بالقوة، فإذا فارقت الجسد عند الممات صارت مثلها بالفعل، واستقلت بذاتها، ونجت من جهنم عالم الكون والفساد، وفازت بالدخول إلى الجنة عالم الأرواح التي هي دار الحيوان لو كانوا يعلمون أبناء الدنيا الذين يريدون الحياة الدنيا، ويتمنون الخلود فيها: @QUR013 يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر، فأعيذك أيها الأخ أن تكون منهم، بل كن من أبناء الآخرة وأولياء الله الذين مدحهم بقوله تعالى توبيخا لمن زعم أنه منهم، فقال - جل جلاله: @QUR018 قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين فبادر يا أخي واجتهد في طلب المعارف الربانية واكتساب الأخلاق الملكية، وسارع إلى الخيرات من الأعمال الزكية قبل فناء العمر وتقارب الأجل، واغتنم خمسا قبل خمس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغتنم فراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وصحتك قبل سقمك، وشبابك قبل هرمك، وحياتك قبل موتك، وتزود فإن خير الزاد التقوى، فلعلك توفق للصعود إلى ملكوت السماء وسعة الأفلاك، وتدخل إلى الجنة عالم الأرواح بنفسك الزكية الروحانية، لا بجسدك الجثة الجرمانية، وفقك الله أيها الأخ للسداد، وهدانا وإياك للرشاد وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد إنه رءوف بالعباد.
PARATEXT|
***
(تمت الرسالة بعون الله - سبحانه وتعالى - والحمد لله وحده، وصلى الله على رسوله سيدنا محمد وآله الطاهرين وسلم تسليما، وبها تم القسم الأول في الرياضيات من كتاب «إخوان الصفا وخلان الوفا»، ويتلوه القسم الثاني في الطبيعيات الجسمانية، أوله رسالة الهيولى والصورة.)
الجسمانيات الطبيعيات
الرسالة الأولى في بيان الهيولى والصورة والحركة والزمان والمكان، وما فيها من المعاني إذا أضيف بعضها إلى بعض
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
اعلم أيها الأخ - أيدك الله وإيانا بروح منه - أنا قد فرغنا من الرسائل الرياضية بجملتها حسب ما وعدنا في صدر الكتاب، واستوفينا الكلام في ذلك حسب ما يليق بنا، فعلينا أن نشتغل بذكر القسم الثاني وهو في «الجسمانيات الطبيعيات»، فلنبدأ بالرسالة الأولى منها في «الهيولى والصورة» فنقول: لما كان النظر في علم الطبيعيات جزءا من أجزاء صناعة إخواننا - أيدهم الله - والأصل في هذا العلم هو معرفة خمسة أشياء؛ وهي: الهيولى والصورة والحركة والزمان والمكان، وما فيها من المعاني إذا أضيف بعضها إلى بعض، احتجنا أن نذكر في هذه الرسالة طرفا من معاني الهيولى والصورة؛ شبه المدخل والمقدمات؛ ليكون أقرب من فهم المبتدئين عند النظر في الطبيعيات، وأسهل على تعليمهم، فنقول: اعلم - وفقك الله - أن معنى قول الحكماء: «الهيولى» إنما يعنون به كل جوهر قابل للصورة، وقولهم: «الصورة» يعنون به كل شكل ونقش يقبله الجوهر.
واعلم أن اختلاف الموجودات إنما هو بالصورة لا بالهيولى؛ وذلك أنا نجد أشياء كثيرة جوهرها واحد وصورها مختلفة؛ مثال ذلك: السكين والسيف والفأس والمنشار، وكل ما يعمل من الحديد من الآلات والأدوات والأواني، فإن اختلاف أسمائها من أجل اختلاف صورها لا من أجل اختلاف جواهرها؛ لأن كلها بالحديد واحد، وكذلك الباب والكرسي والسرير والسفينة، وكل ما يعمل من الخشب، فإن اختلاف أسمائها إنما هو بحسب اختلاف صورها، فأما هيولاها التي هي الخشب فواحدة، وعلى هذا المثال يعتبر حال الهيولى والصورة في المصنوعات كلها؛ لأن كل مصنوع لا بد له من هيولى وصورة يركب منهما.
واعلم أن الهيولى على أربعة أنواع؛ منها: هيولى الصناعة، وهيولى الطبيعة، وهيولى الكل، والهيولى الأولى، فهيولى الصناعة: هي كل جسم يعمل منه وفيه الصانع صنعته كالخشب للنجارين، والحديد للحدادين، والتراب والماء للبنائين، والغزل للحاكة، والدقيق للخبازين، وعلى هذا القياس كل صانع لا بد له من جسم يعمل صنعته منه وفيه، فذلك الجسم هو هيولى الصناعة، أما الأشكال والنقوش التي يعملها فيها فهي الصورة، فهذا هو معنى الهيولى والصورة في الصنائع، وأما الهيولى الطبيعية فهي الأركان الأربعة؛ وذلك أن كل ما تحت فلك القمر من الكائنات، أعني النبات والحيوان والمعادن، فمنها تتكون، وإليها تستحيل عند الفساد، أما الطبيعة الفاعلة لهذا فهي قوة من قوى النفس الكلية الفلكية، وقد بينا كيفية فعلها في هذه الهيولى في رسالة أخرى، وأما هيولى الكل فهي الجسم المطلق الذي منه جملة العالم، وأعني الأفلاك والكواكب والأركان والكائنات أجمع؛ لأنها كلها أجسام، وإنما اختلافها من أجل صورها المختلفة، وأما الهيولى الأولى فهي جوهر بسيط معقول لا يدركه الحس؛ وذلك أنه صورة الوجود حسب، وهو الهوية، ولما قبلت الهوية الكمية صارت بذلك جسما مطلقا مشارا إليه أنه ذو ثلاثة أبعاد، التي هي الطول والعرض والعمق، ولما قبل الجسم الكيفية وهي الشكل كالتدوير والتثليث والتربيع وغيرها من الأشكال صار بذلك جسما مخصوصا مشارا إليه أي شكل هو، فالكيفية هي كالثلاثة، والكمية كالاثنين والهوية كالواحد، وكما أن الثلاثة متأخرة الوجود عن الاثنين كذلك الكيفية متأخرة الوجود عن الكمية، وكما أن الاثنين متأخرة الوجود عن الواحد، كذلك الكمية متأخرة الوجود عن الهوية، والهوية هي متقدمة الوجود على الكمية والكيفية وغيرهما، كتقدم الواحد على الاثنين، والثلاثة، وجميع العدد.
ثم اعلم أن الهوية والكمية والكيفية كلها صور بسيطة معقولة غير محسوسة، فإذا تركت بعضها على بعض صار بعضها كالهيولى وبعضها كالصورة، فالكيفية هي صورة في الكمية، والكمية هيولى لها، والكمية هي صورة في الهوية، والهوية هيولى لها، والمثال في ذلك من المحسوسات أن القميص صورة في الثوب، والثوب هيولى له، والثوب صورة في الغزل، والغزل هيولى له، والغزل صورة في القطن، والقطن هيولى له، والقطن صورة في النبات، والنبات هيولى له، والنبات صورة في الأركان، وهي هيولى له، والأركان صورة في الجسم، والجسم هيولى لها، والجسم صورة في الجوهر، والجوهر هيولى له، وكذلك الخبز صورة في العجين، والعجين هيولى له، والعجين صورة في الدقيق، والدقيق هيولى له، والدقيق صورة في الحب، والحب هيولى له، والحب صورة في النبات، والنبات هيولى له، والنبات صورة في الأركان، وهي هيولى له، وهي صورة في الجسم، والجسم هيولى لها، والجسم صورة في الجوهر، والجوهر هيولى له.
وعلى هذا المثال يعتبر حال الصورة عند الهيولى، وحال الهيولى عند الصورة، إلى أن تنتهي الأشياء كلها إلى الهيولى الأولى التي هي صورة الوجود حسب، لا كيفية فيها ولا كمية، وهي جوهر بسيط لا تركيب فيه بوجه من الوجوه، قابل للصور كلها، ولكن على الترتيب كما بينا، لا أي صورة كانت تأخرت أو تقدمت، بل الأول فالأول، مثال ذلك أن القطن لا يقبل صورة الثوب إلا بعد قبوله صورة الغزل، والغزل لا يقبل صورة القميص إلا بعد قبوله صورة الثوب، وكذلك الحب لا يقبل صورة العجين إلا بعد قبوله صورة الدقيق، والدقيق لا يقبل صورة الخبز إلا بعد قبوله صورة العجين، وعلى هذا المثال يكون قبول الهيولى للصور واحدة بعد أخرى.
ثم اعلم أن الأجسام كلها جنس واحد من جوهر واحد وهيولى واحدة، وإنما اختلافها بحسب اختلاف صورها، ومن أجلها صار بعضها أصفى من بعض وأشرف، وذلك أن عالم الأفلاك أصفى وأشرف من عالم الأركان، وعالم الأركان بعضها أشرف من بعض، وذلك أن النار أصفى من الهواء وأشرف منه، والهواء أصفى من الماء وألطف منه، والماء أصفى من التراب وأشرف منه، وكلها أجسام طبيعية يستحيل بعضها إلى بعض؛ وذلك أن النار إذا أطفئت صارت هواء، والهواء إذا غلظ صار ماء، والماء إذا غلظ وجمد صار أرضا، وليس للنار أن تلطف، أو للأرض أن تغلظ فتصير شيئا آخر، بل إذا تكونت أجزاؤها يكون منها المولدات، أعني المعادن والنبات والحيوان، لكن يكون بعضها أشرف تركيبا من بعض؛ وذلك أن الياقوت أصفى من البلور وأشرف منه، وأن البلور أصفى من الزجاج وأشرف منه، والزجاج أصفى من الخزف وأشرف منه، وكذلك الذهب أشرف من الفضة وأصفى منها، والفضة أصفى من النحاس وأشرف منه، والنحاس أصفى من الحديد وأشرف منه، والحديد أشرف من الأسرب، وكلها أحجار معدنية أصلها كلها الزئبق والكبريت، والزئبق والكبريت أصلهما التراب والماء والهواء والنار، فهيولاها واحد وصورها مختلفة، وصفاؤها وشرفها بحسب تركيبها واختلاف صورها، وكذلك حكم الحيوان والنبات فإنها بالهيولى واحد، وإن اختلافها وشرف بعضها على بعض بحسب اختلاف صورها.
(1) فصل في الأجسام الجزئية
اعلم أن الأجسام الجزئية منها ما يقبل صورة الكلي إذا صور فيه، فيصير بقبوله تلك الصورة أفضل وأشرف من سائر الأجسام الجزئية الساذجة، والمثال في ذلك قطعة من النحاس إذا صور فيها الفلك مثل الأصطرلاب وذات الحلق والكرة المصورة، فإنها عند ذلك تكون أشرف وأفضل وأحسن من أن تكون ساذجة، وكذلك كل جسم قبل صورة ما فإنه عند ذلك يكون أفضل وأشرف وأحسن من كونه ساذجا، فهكذا الحكم في جواهر النفوس؛ وذلك أنها كلها جنس واحد وجوهر واحد وأن اختلافها بحسب معارفها وأخلاقها آرائها وأعمالها؛ لأن هذه الحالات هي صور في جواهرها وهي كالهيولى، وكذلك النفس الجزئية إذا قبلت علما من العلوم تكون أفضل وأشرف من سائر النفوس التي هي أبناء جنسها.
ثم اعلم أن العلوم في النفس ليست بشيء سوى صور المعلومات انتزعتها النفس وصورتها في فكرها، فيكون عند ذلك جوهر النفس لصور تلك المعلومات كالهيولى، وهي فيها كالصورة.
واعلم أن من الأنفس الجزئية ما يتصور بصورة النفس الكلية، ومنها ما يقاربها، وذلك بحسب قبولها ما يفيض عليها من العلوم والمعارف والأخلاق الجميلة، وكلما كانت أكثر قبولا كانت أفضل وأشرف من سائر أبناء جنسها، مثل نفوس الأنبياء - عليهم السلام - فإنها لما قبلت بصفاء جوهرها الفيض من النفس الكلية أتت بالكتب الإلهية التي فيها عجائب العلوم الخفية والمعاني اللطيفة والأسرار المكنونة التي لا يمسها إلا المطهرون من أدناس الطبيعة، وما وضعت من الشرائع العلمية النافعة للكل والسنن العادلة الزكية ، فاستنقذوا بها نفوسا كثيرة غريقة في بحر الهيولى وأسر الطبيعة، ومثل نفوس المحققين من الحكماء التي استنبطت علوما كثيرة حقيقية، واستخرجت صنائع بديعة، وبنت هياكل حكيمة، ونصبت طلسمات عجيبة، ومثل نفوس الكهنة المخبرة بالكائنات قبل كونها بدلائل فلكية وعلامات زجرية، وإلى مثل هذه النفوس أشاروا بقولهم: «الفلسفة هي التشبه بالآلة بحسب الطاقة الإنسانية.» وإليها أشاروا بقولهم: «من خاصية العقل المنفعل أن يقبل الجزء منه صورة الكل.» وإليها أشار القائل بقوله:
كل الهياكل صورة مذمومة
إلا التي في صورة الأفلاك وأتمها بين الذوات لأنها
قبلت تماما صورة الإدراك كم بين نفس شامخ في ذروة
أو ما يكون حجارة الحكاك
وإليها أشار القائل بقوله:
وما كان إلا كوكبا كان بيننا
فودعنا جادت معاهده رهم وأصبح روحا لم يقيده منزل
وأضحى بسيطا ليس يدركه وهم رأى المسكن العلوي أولى بمثله
ففاز وأضحى بين أشكاله نجم
واعلم يا أخي أن فضائل النفس الكلية فائضة على الأنفس الجزئية دفعة واحدة مبذولة لها دائم الأوقات، لكن الأنفس الجزئية لا تطيق قبولها إلا شيئا بعد شيء في ممر الزمان، والمثال في ذلك فيض الأنفس الجزئية بعضها على بعض؛ وذلك أن الأب الشفيق والمعلم الحريص على تعليم تلميذه يود أن يعلم كل ما يحسنه ويعلمه لتلميذه دفعة واحدة، ولكن نفس المتعلم لا تقبل إلا شيئا بعد الشيء على التدريج.
ثم إن المانع للأنفس الجزئية قبول فيض النفس الكلية دفعة واحدة هو لأجل استغراقها في بحر الهيولى وتراكم ظلمات الأجسام على بصرها؛ لشدة ميلها إلى الشهوات الجسمانية وغرورها باللذات الجرمانية، فمتى انتبهت من نوم الغفلة، واستيقظت من رقدة الجهالة، وصحت من سكرة عمايتها، وأفاقت من غمرة غشيتها، وأخذت ترتقي في العلوم والمعارف، ودامت على تلك الحال لحقت بالنفس الكلية، وشاهدت تلك الأنوار العقلية والأضواء البهية، ونالت تلك الملاذ الروحانية والسرورات الديمومية الأبدية التي كلها أشرف وأعلى منزلة مما كان فوق ما تقدم قبله ودون ما يأتي بعده، ومتى هي أعرضت عما وصفنا وأقبلت على طلب الشهوات الجسمانية والزينة الطبيعية بعدت من هناك، وانحطت إلى أسفل السافلين، وغرقت في بحر الهيولى، وغشيتها أمواجها، وتراكمت على بصرها ظلماتها، وإلى هاتين الحالتين أشار - عز اسمه - بقوله تعالى: @QUR016 الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري ... الآية، ثم قال تعالى: @QUR017 أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض ... الآية.
(2) فصل في أقاويل الحكماء في ماهية المكان
أما المكان عند الجمهور فهو الوعاء الذي يكون فيه المتمكن، فيقال إن الماء مكانه الكوز الذي هو فيه، وإن الخل مكانه الزق الذي هو فيه، وعلى هذا القياس مكان كل شيء هو الوعاء الذي هو فيه، وكما يقال إن مكان السمك هو الماء، ومكان الطير هو الهواء، وبالجملة مكان كل متمكن هو الجسم المحيط به، وقيل أيضا إن المكان هو سطح الجسم الحاوي الذي يلي المحوي، وقيل لا، بل المكان هو سطح الجسم المحوي الذي يلي الحاوي، وعلى كلا الرأيين والقولين يجب أن يكون المكان جوهرا، وقيل إن المكان هو الفصل المشترك بين سطح الجسم الحاوي وسطح المحوي، وعلى هذا الرأي يجب أن يكون المكان عرضا، وقيل أيضا إن المكان هو الفضاء الذي يكون فيه الجسم ذاهبا طولا وعرضا وعمقا، وإن مكان كل جسم مثله سواء، فإن كان الجسم مدور الشكل، أو مربعا أو مثلثا أو غيرها من الأشكال فإن مكانه مثله سواء لا أصغر ولا أكبر، حتى قيل في المثل: إن المكان مكيال الجسم، وعلى هذا الرأي يجب أن يكون المكان جوهرا، واعلم أن الذين قالوا إن المكان هو الفضاء إنما نظروا إلى صورة الجسم ثم انتزعوها من الهيولى بالقوة الفكرية وصوروها في نفوسهم وسموها الفضاء، وإذا نظروا إليها وهي في الهيولى سموها المكان، وهذا يدل على قلة معرفتهم أيضا بجوهر النفس وكيفية معارفها ومعانيها.
واعلم أن من شرف جوهر النفس وعجائب قواها وظرائف معارفها أنها تنتزع صورة المحسوسات من هيولاها، وتصورها في ذاتها، وتنظر إليها خلوا من الهيولى ، وتفرق بين الهيولى والصورة، وانظر إلى كل واحد منهما تارة مفردة وتارة مركبة، وإن من شدة قوتها الوهمية أنها تارة تنظر إلى العالم وكأنها خارجة منه، وتارة تنظر إليه وكأنها داخلة فيه، وربما ترفع العالم من الوجود أصلا، وربما تقدمت الزمان الماضي، ونظرت إلى بدء كون العالم، وبحثت عن علة كونه بعد أن لم يكن شيئا، وربما سبقت الزمان المستقبل، ونظرت إلى فناء العالم قبل حينه، وتصور كيف يكون ذلك، وإن من شدة قوتها أيضا أنها تضاعف العدد إلى ما لا نهاية له، وتجري المقادير إلى ما لا نهاية لها، وتتوهم أيضا أن خارج العالم فضاء إلى ما لا نهاية له، وما يشاكل هذا من أفعالها العجيبة، وما يتصور بقوتها الوهمية، فمن ظن أن الفضاء هو جوهر قائم بنفسه وأن خارج العالم فضاء لا نهاية له، وأن المدة جوهر أسبق من نشوء العالم، وأن الجزء من الهيولى يتجزأ أبدا وما شاكل هذه المسائل، فكل هذه الأقاويل قالوها لقلة معرفتهم بجوهر النفس وعجائب قواها وكيفية تصرفها في المعارف والعلوم.
(3) فصل في أقاويل الحكماء في ماهية الحركة
الحركة - يقال - على ستة أوجه: الكون والفساد والزيادة والنقصان والتغير والنقلة، فالكون هو خروج الشيء من العدم إلى الوجود، أو من القوة إلى الفعل، والفساد عكس ذلك، والزيادة هي تباعد نهايات الجسم عن مركزه، والنقصان عكس ذلك، والتغير هو تبدل الصفات على الموصوف من الألوان والطعوم والروائح وغيرها من الصفات، وأما الحركة التي تسمى النقلة فهي عند جمهور الناس الخروج من مكان إلى مكان آخر، وقد يقال إن النقلة هي الكون في محاذاة ناحية أخرى في زمان ثان، وكلا القولين يصح في الحركة التي هي على سبيل الاستقامة، فأما التي على الاستدارة فلا يصح؛ لأن المتحرك على الاستدارة ينتقل من مكان إلى مكان، ولا يصير في محاذاة أخرى في زمان ثان، فإن قيل إن المتحرك على الاستدارة أجزاؤه كلها تتبدل أماكنها، وتصير في محاذاة أخرى في زمان ثان إلا الجزء الذي هو ساكن في المركز ، فإنه ساكن فيه لا يتحرك، فليعلم من يقول هذا القول ويظن هذا الظن، أو يقدر أن هذا الرأي صحيح أن المركز، إنما هو نقطة متوهمة وهي رأس الخط، ورأس الخط لا يكون مكان الجزء من الجسم، وليعلم أيضا أن المتحرك على الاستدارة بجميع أجزائه متحرك، وهو لا ينتقل من مكان إلى مكان، ولا يصير محاذيا بالشيء آخر في زمان ثان، فأما الحركة على الاستقامة فلا يمكن أن تكون إلا بالانتقال من مكان إلى مكان، والمرور بمحاذيات في زمان ثان، فإذا قيل إنه يمكن ذلك فإن الإنسان مثلا قد يحرك يده أو بعض أجزائه وهو لا ينتقل من مكان إلى مكان فماذا ترى كيف يكون حال اليد؟ هل يجوز أن تتحرك ولا تخرج من مكان إلى مكان؟! وكذلك حكم الإصبع هل يجوز أن يتحرك ولا ينتقل من مكان إلى مكان، ولا يمر بمحاذاة أخرى في زمان ثان؟!
واعلم أنه متى تحركت الأجزاء من جسم فقد تحركت تلك الجملة، ومتى تحركت تلك الجملة فقد تحركت تلك الأجزاء؛ لأن تلك الأجزاء ليست غير تلك الجملة، وذلك أنه إذا تحرك الإنسان فقد تحركت جملة أعضائه، وإذا تحركت أعضاؤه فقد تحرك هو، وإن تحركت يده وحدها فقد تحركت أجزاء اليد كلها؛ لأن اليد ليست شيئا غير تلك الأجزاء، وكذلك إن تحرك إصبع واحد فقد تحركت أجزاء الإصبع كلها؛ لأن الإصبع ليست غير تلك الأجزاء، فمن ظن أنه يجوز أن تتحرك الأجزاء ولا تتحرك الجملة، أو تتحرك الجملة ولا تتحرك بعض الأجزاء فقد أخطأ.
واعلم أنه قد ظن كثير من أهل العلم أن المتحرك على الاستقامة يتحرك حركات كثيرة؛ لأنه يمر في حركته بمحاذيات كثيرة في حال حركته، ولا ينبغي أن تعتبر كثرة الحركات لكثرة المحاذيات، فإن السهم في مروره إلى أن يقع حركة واحدة يمر بمحاذيات كثيرة، وكذلك المتحرك على الاستدارة فحركته واحدة إلى أن يقف، وإن كان يدور أدوارا كثيرة.
ثم اعلم أنه لا تنفصل حركة عن حركة إلا بسكون بينهما، وهذا يعرفه - ولا يشك فيه - أهل صناعة الموسيقى؛ وذلك أن صناعتهم معرفة تأليف النغم، والنغم لا يكون إلا بالأصوات، والأصوات لا تحدث إلا من تصادم الأجسام، وتصادم الأجسام لا يكون إلا بالحركات، والحركات لا تنفصل بعضها عن بعض إلا بسكونات تكون بينها، فمن أجل هذا قال الذين نظروا في تأليف النغم إن بين زمان كل نقرتين زمان سكون، وقد بينا طرفا من هذا العلم في رسالتنا تأليف اللحون ما هي؟ وكم هي؟ وكيف هي؟ فاعرفها من هناك.
واعلم أنه ينبغي لمن ينظر في حقائق الأشياء ويبحث عن ماهيتها أن يبتدئ أولا وينظر ويبحث هل الشيء جوهر أو عرض أو هيولى أو صورة جسمانية أو روحانية، فإن كان جوهرا فأي جوهر هو؟ وإن كان عرضا فأي عرض هو؟ وإن كان هيولى فأي هيولى هو؟ وإن كان صورة فأي صورة هي؟ وكيف هي؟
واعلم أن الحركة في بعض الأجسام جوهرية كحركة النار، فإنها متى سكنت حركتها طفئت وبطلت وبطل وجودها، وفي بعض الأجسام عرضية لها الحركة كحركة الماء والهواء والأرض؛ لأنها إن سكنت حركتها لا يبطل وجدانها.
واعلم أن الحركة هي صورة جعلتها النفس في الجسم بعد الشكل، وأن السكون هو عدم تلك الصورة، والسكون بالجسم أولى من الحركة؛ لأن الجسم ذو جهات لا يمكنه أن يتحرك إلى جميع جهاته دفعة واحدة وليست حركته إلى جهة أولى به من جهة؛ فالسكون به إذن أولى من الحركة.
واعلم أن الحركة وإن كانت صورة فهي صورة روحانية متممة تسري في جميع أجزاء الجسم، وتنسل عنه بلا زمان، كما يسري الضوء في جميع أجزاء الجسم الشفاف، وينسل عنه بلا زمان، فإنك ترى السراج إذا دخل البيت أضاء البيت من أوله إلى آخره دفعة واحدة، وإذا خرج أظلم الهواء في البيت دفعة واحدة بلا زمان، وكذلك الشمس إذا طلعت بالمشرق أضاء الهواء من المشرق إلى المغرب دفعة واحدة، فإذا غابت بالمغرب أظلم الهواء دفعة واحدة، فالحرارة إذا بدت تدب أولا فأولا يحمى الجو بزمان، وكذلك إذا طلعت الشمس يحمى الجو أولا فأولا بزمان، وكذلك إذا غابت الشمس برد الهواء أولا فأولا بزمان.
واعلم أن الحركة حكمها كحكم الضوء، وذلك لو أن خشبة طولها من المشرق إلى المغرب نصبت ثم جذبت إلى المشرق أو إلى المغرب عقدا واحدا لتحركت جميع أجزائها دفعة واحدة.
واعلم أن بعض أفعال النفس في الجسم بزمان، وبعض أفعالها بلا زمان، دلالة على أن جوهرها فوق الزمان؛ لأن الزمان مقرون بحركة الجسم، والجسم مفعول النفس، وأن النفس لما جعلت الجسم الكلي كري الشكل الذي هو أفضل الأشكال؛ جعلت حركته أيضا الحركة المستديرة التي هي أفضل الحركات.
(4) فصل في ماهية الزمان من أقاويل العلماء
أما الزمان عند جمهور الناس فهو مرور السنين والشهور والأيام والساعات، وقد قيل إن عدد حركات الفلك بالتكرر، وقد قيل إنه مدة يعدها حركات الفلك، وقد يظن كثير من الناس أن الزمان ليس بموجود أصلا إذا اعتبر بهذا الوجه، وذلك أن أطول أجزاء الزمان السنون، والسنون منها ما قد مضى ومنها ما لم يجئ بعد، وليس الموجود منها إلا سنة واحدة، وهذه السنة أيضا شهور منها ما قد مضى، ومنها ما لم يجئ بعد، وليس الموجود منها إلا شهرا واحدا، وهذا الشهر منه أيام قد مضت، وأيام لم تجئ بعد، وليس الموجود منها إلا يوما واحدا، وهذا اليوم ساعات، منها ما قد مضت، ومنها ما لم تجئ بعد، وليس الموجود منها إلا ساعة واحدة وهذه الساعة أجزاء، منها ما قد مضى، وآخر ما جاء بعد، فبهذا الاعتبار ليس للزمان وجود أصلا.
فأما الوجه الآخر إذا اعتبر؛ فالزمان موجود أبدا، وذلك أن الزمان كله يوم وليلة أربع وعشرون ساعة، وهي موجودة في أربع وعشرين بقعة من استدارة الأرض تكون حولها دائما، بيان ذلك أنه إذا كان نصف النهار في يوم الأحد مثلا في البلد الذي طوله تسعون درجة، فإن الساعة الأولى من هذا اليوم موجودة في البلدان التي طولها من درجة إلى خمس عشرة درجة، والساعة الثانية موجودة في البلدان التي طولها من ست عشرة درجة إلى ثلاثين درجة، والساعة الثالثة موجودة في البلد الذي طوله من إحدى وثلاثين درجة إلى خمس وأربعين درجة، والساعة الرابعة موجودة في البلدان التي طولها من ست وأربعين درجة إلى ستين درجة، والساعة الخامسة موجودة في البلدان التي طولها من إحدى وستين درجة إلى خمس وسبعين درجة، والساعة السادسة موجودة في البلدان التي طولها من ست وسبعين درجة إلى تسعين درجة، والساعة السابعة موجودة في البلدان التي طولها من إحدى وتسعين درجة إلى مائة وخمس درجات، والساعة الثامنة موجودة في البلدان التي طولها مائة وست درجات تمام مائة وعشرين درجة، والساعة التاسعة موجودة في البلدان التي طولها مائة وخمس وثلاثون درجة، والساعة العاشرة موجودة في البلدان التي طولها إلى تمام مائة وخمسين درجة، والساعة الحادية عشرة موجودة في البلدان التي طولها إلى تمام مائة وخمس وستين درجة، والساعة الثانية عشرة موجودة في البلدان التي طولها إلى تمام مائة وثمانين درجة.
وفي مقابلة كل بقعة من هذه البقاع من استدارة الأرض ساعات الليل موجودة كل واحدة كنظيرتها، ولكل موضع من الأرض أقدار مختلفة من الليل والنهار، والشمس تضيء في نصف الأرض أبدا حيث كانت، ويستر قطر الأرض عن نصفها الآخر الذي كان أشرق على نصفها الذي يلي الشمس، فيكون ما طلعت عليه الشمس نهارا، وما سترت بقطرها عن نصفها من ضوء الشمس ليلا، وكلما دار النهار دار الليل معه كل واحد منهما ضد صاحبه، وكلما زال أحدهما زال الآخر معه، فالليل والنهار يبتديان الإقبال من مشرق الأرض ثم يسيران على مسير الشمس فيسبق طلوع الشمس على أول الأرض طلوعها على آخرها باثنتي عشرة ساعة، وكذلك الليل، فإن شككت فيما قلنا فاسأل أهل الصناعة الناظرين في علم المجسطي يخبروك بصحة ما قلناه، فإنه قد قيل استعينوا على كل صناعة بأهلها.
ثم اعلم أن من كرور الليل والنهار حول الأرض دائما يحصل في نفس من يتأملها صورة الزمان كلها، يحصل فيها صورة العدد من تكرار الواحد؛ وذلك أن العدد كله أفراده وأزواجه، صحيحه وكسوره، آحاده وعشراته ومئاته وألوفه ليست بشيء غير جملة الآحاد تحصل في نفس من يتأملها كما بينا في رسالة العدد، وهكذا الزمان ليس هو بشيء سوى جملة السنين والشهور والأيام والساعات تحصل صورتها في نفس من يتأمل تكرار كرور الليل والنهار حول الأرض دائما، فهذه الخمسة الأشياء التي أتينا على شرحها وهي: الهيولى والصورة والمكان والزمان والحركة محتوية على كل جسم، فمن لم يكن مرتاضا بالنظر في هذه الأشياء فلا يسعه النظر في أمور الطبيعة؛ لأنه لا يمكن له أن يعرفها كنه معرفتها البتة، ولو لم يكن مرتاضا في الأمور الطبيعية فلا يسعه الكلام في الأمور الإلهية؛ لأنه لا يمكنه أن يعرفها كنه معرفتها.
فتفكر فيما ذكرنا يا أخي في هذه الرسالة من أقاويل العلماء لتفهم ما قالوه، وتصور ما وضعوه من معاني هذه الأشياء، فإن كان عندك زيادة عليها أفدناها، وإن أنكرت شيئا مما قالوه فبينه لنا، وإن اشتبه عليك شيء مما حكيناه فلا تتهمنا بأننا قصرنا في البيان أو قلنا ما ليس بالحق.
ثم اعلم أن لكل صناعة أهلا، ولكل أهل علم وصناعة أصولا هم فيها متفقون، وفي فروعها يتكلمون، وعلى تلك الأصول يقيسون فيما يختلفون.
واعلم بأن النظر في الأمور الطبيعية جزء من صناعة إخواننا الكرام، أيدهم الله تعالى، والأمور الطبيعية هي الأجسام وما يعرض لها من الأعراض اللازمة والمزايلة، وقد عملنا في هذه العلوم سبع رسائل أولها هذه الرسالة التي ذكرنا فيها الهيولى والصورة والحركة والمكان والزمان؛ إذ كانت هذه الأشياء الخمسة محتوية على كل جسم، وقد ذكرنا في رسالة الحاس والمحسوس الأشياء العارضة للأجسام بقول وجيز، ثم يتلو هذه الرسالة التي ذكرنا فيها السماء والعالم، ووصفنا فيها تركيب الأفلاك وكميتها وسعة أقطارها وسرعة دورانها وعظم الكواكب وفنون حركاتها وأوصاف البروج وتخصيصها، ثم يتلوها الرسالة التي ذكرنا فيها الكون والفساد وماهية الأركان الأربعة التي تحت فلك القمر، وهي النار والهواء والماء والأرض وصفنا فيها كيفية استحالة بعضها إلى بعض وحدوث الكائنات منها ، ثم يتلوها الرسالة الرابعة التي فيها حوادث الجو والتغييرات التي تحدث في الهواء، ثم يتلوها الرسالة الخامسة التي ذكرنا فيها جواهر المعادن، ووصفنا كيفية تكونها في باطن الأرض وجوف الجبال وقعر البحار، ثم يتلوها الرسالة السادسة التي ذكرنا فيها أمر النبات ووصفنا أجناسه وأنواعه وخواصه ومنافعه ومضاره، ثم يتلوها الرسالة السابعة التي ذكرنا فيها أجناس الحيوانات وأنواعها واختلاف طباعها بقول وجيز.
وقد عملنا خمس رسائل أخر قبل هذه الرسالة في الرياضيات؛ أولها رسالة العدد وخواصه وكيفية نشوئه من الواحد الذي قبل الاثنين، ثم يتلوها الرسالة الثانية التي ذكرنا فيها أصول الهندسة وأنواع المقادير وكيفية نشوئها من النقطة التي هي في صناعة الهندسة كالواحد في العدد، ثم يتلوها الرسالة الثالثة التي ذكرنا فيها النجوم، ووصفنا الأفلاك والكواكب وبينا أن نسبتها إلى الشمس كنسبة العدد من الواحد ومنشأ مقادير الهندسة من النقطة، ثم يتلوها الرسالة التي ذكرنا فيها النسبة العددية والهندسية والتأليفية وأن منشأها كلها من نسبة المساواة كمنشأ العدد من الواحد وكمنشأ مقادير الهندسة من النقطة، ثم يتلوها الرسالة التي ذكرنا فيها المنطق ووصفنا فيها المقولات العشرة التي كل واحد منها جنس الأجناس وبينا كمية أنواعها وخواصها وأن الواحد منها هو الجوهر والتسعة الباقية هي الأعراض وتعلقها في وجودها بالجوهر كتعلق العدد بالواحد الذي قبل الاثنين، وقد تكلم في هذه الأشياء من قبلنا من الحكماء الأولين ودونوها في الكتب، وهي موجودة في أيدي الناس، ولكن من أجل أنهم طولوا فيها الخطب، ونقلوها من لغة إلى لغة أغلق على الناظرين في تلك الكتب فهم معانيها، وضاعت في الباحثين معرفة حقائقها، من أجل هذا عملنا هذه الرسائل وأوجزنا القول فيها شبه المدخل والمقدمات؛ لكيما يقرب على المتعلمين فهمها ويسهل على المبتدئين النظر فيها.
فصل
واعلم - إن كنت محبا لأهل العلم والحكمة - أنك تحتاج أن تسلك طريق أهلها، وهو أن تقتصر من أمور الدنيا على ما لا بد منه وتترك الفضول وتجعل أكثر همتك وعنايتك في طلب العلوم ولقاء أهلها ومجالستهم بالمذاكرة والبحث، وأن تروض نفسك بالسيرة العادلة التي وصفت في كتب الأنبياء عليهم السلام، وبالنظر في هذه العلوم التي تقدم ذكرها، وهي التي كانوا يروضون أولاد الحكماء بها، ويخرجون بها تلامذتهم ليقوى فهمهم على النظر في الأمور الإلهية التي هي الغرض الأقصى في المعارف.
ثم اعلم أن الأمور الإلهية هي الصور المجردة من الهيولى، وهي جواهر باقية خالدة لا يعرض لها الفساد والآفات كما يعرض للأمور الجسمانية، واعلم أن نفسك هي إحدى تلك الصور، فاجتهد في معرفتها لعلك تخلصها من بحر الهيولى وهاوية الأجسام وأسر الطبيعة التي وقعنا فيها بجناية كانت من أبينا آدم - عليه السلام - حين عصى ربه فأخرج هو وذريته من الجنة التي هي عالم الأرواح، وقيل لهم: «اهبطوا منها بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين فيها تموتون ومنها تخرجون» فقد قيل في المثل: إن أول أناس إذا نفخ في الصور وشق عليهم القبور يوم البعث والنشور وقيل: انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب هو عالم الأجسام ذو الطول والعرض والعمق، فاجتهد يا أخي في معرفة هذه المرامي والرموز التي ظهرت في كتب الأنبياء - عليهم السلام - لعل نفسك تنتبه من نوم الغفلة، ورقدة الجهالة، وتحيا بروح المعارف الربانية، وتعيش بحياة العلوم الإلهية، وتسلم من الآفات الطبيعية.
واعلم أن النفس بمجردها لا تلحقها الآلام والأمراض والأسقام والجوع والعطش والحر والبرد والغموم والهموم والأحزان ونوائب الحدثان؛ لأن هذه كلها تعرض لها من أجل مقارنتها للجسد؛ لأن الجسد جسم قابل للآفات والفساد والاستحالة والتغير، فأما النفس فإنها جوهرة روحانية، فليس لها من هذه الآفات شيء.
واعلم أنه قد ذهب على أكثر أهل العلم معرفة أنفسهم لتركهم النظر في علم النفس والبحث عن معرفة جواهرها والسؤال من العلماء العارفين بعلمها، ولقلة اهتمامهم بأمر أنفسهم وطلب خلاصها من بحر الهيولى وهاوية الأجسام، والنجاة من أسر الطبيعة، والخروج من ظلمة الأجسام لشدة ميلهم في الخلود إلى الدنيا، واستغراقهم في الشهوات الجسمانية، والغرور باللذات الحيوانية، والأنس بالمحسوسات الطبيعية، ولغفلتهم عما وصف في الكتب الإلهية والنواميس الشرعية النبوية من نعيم الجنان، وما في عالم الأرواح من الروح والريحان والنعيم والسرور واللذة والكرامة وبقاء الأبد التي وعد المتقون: «فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات والنخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يؤمنون ...» الآية.
وإنما قلة رغبتهم فيها لقلة تصديقهم بما أخبرت به الأنبياء - عليهم السلام - وما أشارت إليه الفلاسفة والحكماء مما يقصر الوصف عنه من لطيف المعاني، ودقائق الأسرار، فانصرفت همم نفوسهم كلها إلى أمر هذا الجسد المستحيل، وجعلوا سعيهم كله لصلاح معيشة الدنيا من جمع الأموال والمآكل والمشارب والملابس والمناكح والمراكب، وصيروا نفوسهم عبيدا لأجسادهم وأجسادهم مالكة لنفوسهم، وسلطوا الناسوت على اللاهوت، والظلمة والشياطين على النور والملائكة، وصاروا من حزب إبليس وأعداء الرحمن.
فهل لك يا أخي بأن تنظر لنفسك، وتسعى في صلاحها، وتطلب نجاتها، وتفك أسرها، وتخلصها من الغرق في بحر الهيولى وأسر الطبيعة وظلمة الأجسام، وتخفف عنها أوزارها، وهي الأسباب المانعة لها عن الترقي إلى ملكوت السماء والدخول في زمر الملائكة والسيحان في فسحة عالم الأفلاك، والارتفاع في درجات الجنان، والتشمم من ذلك الروح والريحان المذكور في القرآن، وأن ترغب في صحبة أصدقاء لك نصحاء، وإخوان لك فضلاء، وادين لك كرماء، حريصين معاونين لك على صلاحك ونجاتك مع أنفسهم، قد خلعوا أنفسهم من خدمة أبناء الدنيا، وجعلوا عنايتهم وكدهم في طلب نعيم الآخرة، بأن تسلك مسلكهم، وتقصد مقصدهم، وتخلص سرك معهم، وتتخلق بأخلاقهم، وتسمع أقاويلهم لتعرف اعتقادهم، وتنظر في علومهم لتفهم أسرارهم وما يخبرونك به من العلوم النفسية والمعارف الحقيقية والمعقولات الروحانية والمحسوسات النفسانية، إذا دخلت مدينتنا الروحانية، وسرت بسيرتنا الملكية، وعملت بسنتنا الزكية، وتفقهت في شريعتنا العقلية، فلعلك تؤيد بروح الحياة لتنظر إلى الملأ الأعلى، وتعيش عيش السعداء مخلدا مسرورا أبدا بنفسك الباقية الشريفة الشفافة الفاضلة، لا بجسدك المظلم الثقيل المتغير المستحيل الفاسد الفاني، وفقك الله وإيانا وجميع إخواننا للسداد، وهداك وإيانا وجميع إخواننا للرشاد، حيث كانوا في البلاد، إنه رءوف رحيم بالعباد.
(تمت رسالة الهيولى والصورة وتتلوها رسالة السماء والعالم.)
الرسالة الثانية من الجسمانيات الطبيعيات الموسومة بالسماء والعالم في إصلاح النفس وتهذيب الأخلاق
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
اعلم أيها الأخ البار الرحيم - أيدك الله وإيانا بروح منه - أنه لما فرغنا من ذكر الجسم المطلق وما يخصه من الصفات المقومة لذاته من الهيولى والصورة وما يتبعها من سائر الصفات اللازمة مثل الحركة والسكون وما شاكلهما أردنا أن نذكر في هذه الرسالة الملقبة بالسماء والعالم والأجسام الكليات البسيطات التي هي الأفلاك والكواكب والأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض؛ إذ كان الجسم المطلق أول ما ينقسم إليها ثم من بعدها الأجسام الجزئيات المولدات التي هي الحيوان والمعادن والنبات.
(1) فصل في بيان معرفة قول الحكماء: إن العالم إنسان كبير
اعلم أيها الأخ أن معنى قول الحكماء: العالم إنما يعنون به السموات السبع والأرضين وما بينهما من الخلائق أجمعين، وسموه أيضا إنسانا كبيرا؛ لأنهم يرون أنه جسم واحد بجميع أفلاكه وأطباق سمواته وأركان أمهاته ومولداتها، ويرون أيضا أن له نفسا واحدة سارية قواها في جميع أجزاء جسمها كسريان نفس الإنسان الواحد في جميع أجزاء جسده، فنريد أن نذكر في هذه الرسالة صورة العالم، ونصف كيفية تركيب جسمه كما وصف في كتاب التشريح تركيب جسد الإنسان، ثم نصف في رسالة أخرى ماهية نفس العالم وكيفية سريان قواها في الأجسام التي في العالم من أعلى الفلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض، ثم نبين فنون حركاتها وإظهار أفعالها في أجسام العالم بعضها في بعض.
فنرجع الآن إلى وصف جسم العالم فنقول: الجسم هو أحد الموجودات بطريق الحواس بتوسط أعراضه كما بينا في رسالة الحاس والمحسوس.
والموجودات كلها جواهر وأعراض وصور وهيوليات مركب منها كما بينا في رسالة الهيولى والصورة.
والصورة نوعان مقومة ومتممة، كما بينا في رسالة العقل والمعقول.
والصورة المقومة لذات الجسم هي الطول والعرض والعمق إذا وجدت في الهيولى التي هي جوهر بسيط قابل للصورة.
والصورة المتممة للجسم المبلغة له إلى أفضل حالاته كثيرة لا يحصي عددها إلا الله - عز وجل، ولكن نذكر منها طرفا لتفهم معانيها، فمن الصورة المتممة للجسم الشكل.
والأشكال كثيرة كالتثليث والتربيع والتخميس والتدوير وما شاكلها، ومن الصورة المتممة أيضا الحركة، والحركات ستة أنواع أحدها النقلة وهي نوعان دورية ومستقيمة، ومن الصور المتممة أيضا النور وهي نوعان ذاتي وعرضي، ومن الصور المتممة للجسم الصفاء، وأفضل الأشكال الشكل الكري كما بينا في رسالة الهندسة.
وأتم الحركات الدورية كما بينا في رسالة الحركات، وأبهى الأنوار الذاتية وأصفى النعوت الشفاف كما بينا في رسالة الصفات والموصوفات، فجسم العالم بأسره كري الشكل وحركات أفلاكه كلها دورية، ونور الكواكب السماوية كلها ذاتي إلا القمر، وأجرام الكرة كلها شفافة إلا الأرض، فقد بينا ما العلة في أمر الأرض والقمر في رسالة العلل والمعلولات.
(2) فصل في أن السموات هي الأفلاك
واعلم يا أخي أن السموات هي الأفلاك، وإنما سميت السماء سماء لسموها والفلك لاستدارته، واعلم بأن الأفلاك تسعة؛ سبعة منها هي السموات السبع، وأدناها وأقربها إلينا فلك القمر وهي السماء الأولى، ثم من ورائه فلك عطارد وهي السماء الثانية، ومن ورائه فلك الزهرة وهي السماء الثالثة، ثم من ورائه فلك الشمس وهي السماء الرابعة، ومن ورائه فلك المريخ وهي السماء الخامسة، ومن ورائه فلك المشتري وهي السماء السادسة، ثم من ورائه فلك زحل وهي السماء السابعة، وزحل النجم الثاقب، وإنما سمي الثاقب؛ لأن نوره يثقب سمك سبع سموات حتى يبلغ أبصارنا، هكذا روي في الخبر عن عبد الله بن عباس ترجمان القرآن، وأما الفلك الثامن وهو فلك الكواكب الثابتة الواسع المحيط بهذه الأفلاك السبعة، فهو الكرسي الذي وسع السموات والأرض، وأما الفلك الشاسع المحيط بهذه الأفلاك الثمانية فهو العرش العظيم الذي يحمله فوقهم يومئذ ثمانية، كما قال الله عز وجل.
واعلم يا أخي أن كل واحد من هذه السبعة المقدم ذكرها سماء لما تحته وأرض لما فوقه، ففلك القمر سماء الأرض التي نحن عليها وأرض لفلك عطارد، وكذلك فلك عطارد سماء لفلك القمر وأرض لفلك الزهرة، وعلى هذا القياس حكم سائر الأفلاك كل واحد منها سماء لما تحته وأرض لما فوقه، إلى فلك زحل الذي هو السماء السابعة.
(3) فصل في تركيب الأفلاك وأطباق السموات
اعلم يا أخي أن الأرض التي نحن عليها هي كرة واحدة بجميع ما عليها من الجبال والبحار والبراري والأنهار والعمران والخراب، وهي واقفة في مركز العالم في وسط الهواء بجميع ما عليها بإذن الله - عز وجل - والهواء محيط بها من جميع جهاته كإحاطة بياض البيضة بمحها، وفلك القمر محيط بالهواء من جميع جهاته كإحاطة القشرة ببياض البيضة، وفلك عطارد محيط بفلك القمر على مثل ذلك.
وعلى هذا القياس سائر الأفلاك إلى أن تنتهي إلى الفلك المحيط بالكل كما ذكره الله - جل ثناؤه: @QUR04 وكل في فلك يسبحون.
وهذا مثال تركيب الأفلاك وصورة سموك السموات، ومن فوقها فلك البروج، ومن فوقه الفلك المحيط:
![](../Images/figure1.png)
فقد بان بهذا المثال أن جملة العالم إحدى عشرة كرة اثنتان في جوف فلك القمر وهما الأرض والهواء؛ لأن الأرض والماء كرة واحدة والهواء والأثير كرة واحدة، وتسع من ورائه محيطات بعضها ببعض.
(4) فصل في أنه ليس للعالم فراغ
اعلم يا أخي أن هذه الأكر محيطات بعضها ببعض كإحاطة طبقات البصل، مماس سطح الحاوي بسطح المحوي، وليس بينهما فراغ ولا خلاء إلا فصل مشترك وهمي، وقد ظن قوم من أهل العلم أن بين فضاء الأفلاك وأطباق السموات وأجزاء الأمهات مواضع فارغة، وليس الأمر كما ظنوا؛ لأن معنى الخلاء هو المكان الفارغ الذي لا متمكن فيه، والمكان صفة من صفات الأجسام لا يقوم إلا بالجسم ولا يوجد إلا معه.
واعلم أن النور والظلمة هما أيضا صفتان من صفات الأجسام، ولا يمكن أن يعقل أن موضعا في العالم لا مظلما ولا مضيئا البتة فأين وجود الخلاء إذن؟!
واعلم أنه إنما ظن من قال بوجود الخلاء أنه لما رأى بعض الأجسام تنتقل من موضع إلى موضع آخر توهم أنه لولا الخلاء لكان الملء يمنعه من الحركة والنقلة.
واعلم بأنه لو كانت الأجسام كلها صلبة متماسكة الأجزاء كالحجر والحديد لكان الأمر كما ظنوا، ولكن لما كان بعض الأجسام رخوا لطيفا سيالا كالماء والهواء لم يمتنع أن تتحرك بعض الأجسام بين أجزائه، كما يتحرك السمك في الماء، والطير في الهواء، وسائر الحيوانات على وجه الأرض.
(5) فصل في أنه ليس خارج العالم لا خلاء ولا ملاء
اعلم أن الشمس لما كانت في الفلكاعلم يا أخي أن هذه الإحدى عشرة كرة هي جملة العالم ومساكن الخلائق أجمعين، وقد ظن كثير بالأوهام أن وراء الفلك المحيط جسم آخر وخلاء بلا نهاية، وكلا الحكمين خطأ لا حقيقة له؛ لأنه قد قام بالبرهان العقلي أن الخلاء غير موجود أصلا لا خارج العالم ولا داخله؛ لأن معنى الخلاء هو المكان الفارغ الذي لا متمكن فيه كما وصفنا، والمكان صفة من صفات الأجسام وهو عرض ولا يقوم إلا بالجسم ولا يوجد إلا معه، فمن ادعى أن خارج العالم جسم آخر من أجل الوهم الذي يتخيله فهو المطالب بالدليل على دعواه.
واعلم أن الوهم قوة من قوى النفس، وهي تتخيل ما لا حقيقة له، وما له حقيقة، فليس ينبغي أن يحكم على متخيلاتها أنها حق وباطل دون أن تشهد لها إحدى القوى الحساسة، ويقوم عليها برهان ضروري، أو يقضي لها العقل.
واعلم أن حكم العقل هو الذي يتساوى فيه العقلاء، وكلهم لم يتفقوا على أن خارج العالم جسم آخر؛ لأن الحس لم يدركه، والعقل لم يقض به، والبرهان لم يقم عليه، فأي قضية تحكم أن هناك جسما آخر غير تخيل الأوهام الكاذبة، فإن كان هناك جسم آخر كما ادعى المدعي فلا يمكن أن يكون من ورائه شيء آخر؛ لأن الجسم ذو نهاية، والخلاء ليس بموجود ببراهين قد قامت كما ذكرنا، فأما الدليل على أن كل جسم ذو نهاية فقد اتفقت عليه الآراء النبوية والفلسفية جميعا، وذلك أن من الرأي النبوي أن كل جسم مخلوق، وكل مخلوق ذو نهاية في أولية العقل، ومن الرأي الفلسفي أن كل جسم مركب من هيولى وصورة، وكل مركب ذو نهاية في أولية العقل.
(6) فصل في أن موضع الشمس وسط العالم
اعلم أن الشمس لما كانت في الفلك كالملك في الأرض والكواكب لها كالجنود والأعوان والرعية للملك، والأفلاك كالأقاليم، والبروج كالبلدان، والدرجات والدقائق كالقرى صار مركزها بواجب الحكمة الإلهية وسط العالم، كما أن دار الملك وسط المدينة ومدينته وسط البلدان من مملكته، وذلك أن مركز الشمس وسط فلكها وفلكها في وسط الأفلاك؛ لأنه لما كانت جملة العالم إحدى عشرة كرة كما بينا قبل، وكان خمس منها من وراء فلكها محيطات بعضها ببعض، وهي كرة المريخ وكرة المشتري وكرة زحل وكرة الكواكب الثابتة وكرة المحيط وخمس دونها، وهي في جوف كرتها محيطات بعضها ببعض، أولها فلك الزهرة، ودونها كرة عطارد، ودونها كرة القمر، ودونها كرة الهواء، ودونها كرة الأرض، فصار موضعها في وسط العالم بهذا الاعتبار، كما أن موضع الأرض في مركز العالم.
(7) فصل في ماهية البروج
اعلم يا أخي أن البروج هي اثنا عشر، قسمة وهمية في سطح فلك المحيط يفصلها اثنا عشر خطا وهميا، وهي تبتدئ من نقطة وتنتهي إلى نقطة أخرى في مقابلتها، فيقسم سطح كرة باثنتي عشرة قسمة، كل واحدة منها كأنها جزء البطيخة تسمى البرج، والنقطتان تسميان قطبي الكرة، وأن الشمس ترسم على سطح كرتها بحركتها في كل ثلاثمائة وخمسة وستين يوما دائرة وهمية كما سنبين بعد، والدائرة تقسم الكرة نصفين، وكل برج بقسمين متساويين، حصة كل برج من تلك الدائرة قطعة قوس قدرها ثلاثون جزءا من ثلاثمائة وستين، وبهذه الدائرة ودرجتها يقاس دوران سائر الأفلاك والكواكب، وبحركات الشمس تعتبر سائر حركات الكواكب في الزيجات، وبأحوال الشمس تعتبر أحوال الكواكب في المواليد.
(8) فصل في أقطار الأفلاك وسموك السموات
واعلم يا أخي أن لكل كرة من هذه الأكر قطرا وسمكا، وسمك كل واحد منها أقل من قطرها إلا الأرض، فإن سمكها مثل قطرها ؛ لأنها كرة غير مجوفة، وأما سائر الأكر فإنها لما كانت مجوفة صارت سموكها أقل من أقطارها، فقطر الأرض ألفان ومائة وسبعة وستون فرسخا، وأعظم دائرة على بسيطها ستة آلاف وثمانمائة فرسخ، وأما سمك كرة الهواء فإنه سبع عشرة مرة ونصف مثل قطر الأرض، فيكون ذلك سبعة وثلاثين ألفا وتسعمائة واثنين وعشرين فرسخا ونصف فرسخ، وقطر هذه الكرة مثل سمكها مرتين وزيادة قطر الأرض عليه مرة واحدة، وأما سمك كرة القمر فمثل سمك كرة الهواء سواء، وقطره مثل سمكه مرتين، وزيادة قطر الهواء عليها مرة واحدة، وأما سمك كرة عطارد فإنه مثل قطر الأرض مائة مرة وخمس، قطرها مثل سمكها مرتين وزيادة قطر فلك القمر عليها مرة واحدة، وأما سمك الزهرة فمثل قطر الأرض تسعمائة وخمس عشرة مرة، وقطرها مثل سمكها مرتين وزيادة قطر فلك عطارد عليه مرة واحدة، وأما سمك كرة الشمس فمائة مرة مثل قطر الأرض، وقطرها مثل سمكها مرتين وزيادة قطر فلك الزهرة عليه مرة واحدة.
أما سمك كرة المريخ فمثل قطر الأرض سبعة آلاف مرة وستمائة وست وخمسين مرة، وقطرها مثل سمكها مرتين، وزيادة قطر الشمس عليه مرة واحدة، وأما سمك فلك المشتري فمثل قطر الأرض خمسة آلاف مرة وخمسمائة وسبع وعشرين مرة، وقطرها مثل سمكها مرتين وزيادة قطر فلك المريخ عليه مرة واحدة، وأما سمك فلك زحل فمثل قطر الأرض سبعة آلاف وستمائة وخمس مرات، وقطرها مثل سمكها مرتين وزيادة قطر فلك المشتري عليه مرة واحدة، وأما سمك كرة فلك الكواكب الثابتة فإنه مثل قطر الأرض اثني عشر ألف مرة بالتقريب، وقطرها مثل سمكها مرتين وزيادة قطر زحل عليه مرة واحدة.
(9) فصل في كمية عدد الكواكب الثابتة والسيارة
وهي ألف وتسعة وعشرون كوكبا، الذي أدرك بالرصد منها السبعة السيارة وهي: زحل والمشتري والمريخ والشمس والزهرة وعطارد والقمر، لكل واحد منها فلك يختص به، وهي محيطات بعضها ببعض كما بينا من قبل، وأما سائر الكواكب وهي ألف واثنان وعشرون كوكبا فكلها في فلك واحد وهو الفلك الثامن المحيط بفلك الكواكب أي زحل وسائر الأفلاك هي في جوفه.
(10) فصل في مقادير أقطارها في رأي العين
وقطر جرم الشمس في رأي العين مساو لإحدى وثلاثين دقيقة من درجة على أن الدرجة ستون دقيقة، وقطر جرم القمر إذا كان في أبعد أبعاده مساو لقطر الشمس، وقطر جرم عطارد إذا كان في بعده الأوسط جزء من خمسة وعشرين جزءا من قطر الشمس، وقطر جرم الزهرة جزء من اثني عشر جزءا من قطر الشمس، وقطر جرم المريخ جزء من عشرين جزءا من قطر الشمس، وقطر جرم المشتري جزء من اثني عشر جزءا من قطر الشمس، وقطر جرم زحل جزء من ثمانية وعشرين جزءا من قطر الشمس.
(11) فصل في نسبة أقطارها من قطر الأرض
فقطر جرم عطارد جزء من ثمانية عشر جزءا من قطر الأرض، وقطر جرم الزهرة جزء وربع من ثلاثة أجزاء من قطر الأرض، وقطر جرم القمر جزآن وخمس من ثلاثة أجزاء من قطر الأرض، وقطر جرم الشمس مثل قطر الأرض خمس مرات ونصف، وقطر جرم المريخ مثل قطر الأرض مرة وسدس، وقطر جرم المشتري أربع مرات ونصف وثمن مثل قطر الأرض، وقطر زحل أربع مرات ونصف مثل قطر الأرض.
(12) فصل في مقادير أجرام هذه الكواكب من جرم الأرض
القمر جزء من تسعة وثلاثين جزءا من الأرض، وعطارد جزء من اثنين وعشرين جزءا من الأرض، والزهرة جزء من سبعة وأربعين جزءا من الأرض، والشمس مثل الأرض مائة وستين مرة وكسر، والمريخ مثل الأرض مرة ونصف وثمن، والمشتري مثل الأرض خمسا وتسعين مرة، وزحل مثل الأرض إحدى وتسعين مرة.
(13) فصل في مقادير الكواكب الثابتة
وهي ألف واثنان وعشرون كوكبا، خمسة عشر منها كل واحد مثل الأرض مائة مرة وثمان مرات، وقطر كل واحد منها مثل قطر الأرض أربع مرات ونصف وربع، وفي رأي العين جزء من عشرين جزءا من قطر جرم الشمس، ومنها خمسة وأربعون كوكبا كل واحد منها مثل الأرض تسعين مرة، ومنها مائتا كوكب وثمانية كواكب كل واحد مثل الأرض اثنتين وسبعين مرة، ومنها أربعمائة وأربعة وسبعون كوكبا كل واحد منها مثل الأرض أربعا وخمسين مرة، ومنها مائتان وسبعة وعشرون كوكبا كل واحد منها مثل الأرض ستا وثلاثين مرة، ومنها ثلاثة وثلاثون كوكبا كل واحد منها مثل الأرض ثماني عشرة مرة.
(14) فصل في اختلاف دوران الأفلاك حول الأرض
واعلم يا أخي أن الفلك المحيط الذي هو المحرك الأول عن الحركة الأولى التي هي النفس الكلية يدور حول الأرض في كل أربع وعشرين ساعة سواء دورة واحدة، ولما كان الكوكب في جوفه مماسا له من داخله صار يديره معه نحو الجهة التي يدور إليها، ولكن تقصر حركته عن سرعة حركة محركه بشيء يسير، فيختلف عن موازاة أجزائه في كل مائة سنة درجة واحدة، ولما كان أيضا فلك زحل في جوف هذا الفلك مماسا له في داخله صار يديره معه نحو الجهة التي يدور إليها، ويتبعه فلك زحل، ولكن يقصر أيضا حركته عن سرعة محركه بشيء يسير، فيختلف في كل يوم عن موازاة أجزاء الفلك المحيط دقيقتين، وهكذا يجري حكم فلك المشتري في جوف ذلك زحل كل يوم خمس دقائق يتأخر عن موازاة أجزاء الفلك المحيط، وكذلك حكم فلك المريخ في جوف فلك المشتري يتأخر عن موازاة أجزاء الفلك المحيط في دورة في كل يوم إحدى وثلاثين دقيقة، وهكذا حكم الشمس في جوف فلك المريخ وفلك الزهرة في جوف فلك الشمس، وفلك عطارد في جوف فلك الزهرة يتأخر كل واحد منها عن موازاة أجزاء الفلك المحيط في كل يوم تسعا وخمسين دقيقة، وأما فلك القمر فيتأخر كل يوم عن موازاة الدرجة التي كان موازيا لها ثلاث عشرة درجة وكسرا، فقد بان بهذا الشرح أن كل واحدة من هذه الأكر متحركة بما فوقها ومحركة لما تحتها إلى أن تنتهي إلى فلك القمر، وأن كل واحدة تنقص حركتها عن سرعة حركة محركها، وأن فلك القمر أبطؤها حركة من أجل بعده من المحركة الأولى التي هي فلك المحيط لكثرة المتوسطات بينهما، فلهذا السبب صار دوران هذه الاكر حول الأرض مختلف الأزمان.
فصل
وأما تفاوت أزمان أدوارها فذلك أن الفلك المحيط يدور حول الأرض في كل أربع وعشرين ساعة سواء دورة واحدة، وفلك الكواكب في أكثر من هذه المدة بشيء يسير، وفلك زحل في أكثر من ذلك بما يكون مقداره جزءا من أربعمائة وخمسين جزءا من ساعة، وهكذا فلك المشتري يدور حول الأرض في كل أربع وعشرين ساعة وجزءا من مائة وثمانين جزءا من ساعة دورة واحدة، وأما فلك المريخ فيدور حول الأرض في كل أربع وعشرين ساعة وسدسا وخمس ساعة من ساعة دورة واحدة، وأما فلك الشمس والزهرة وعطارد فإن كل واحد منها يدور حول الأرض في كل أربع وعشرين ساعة وخمس وثلث ساعة من ساعة دورة واحدة، وأما القمر فإنه لما كان أبطأها حركة صار يدور حول الأرض في كل أربع وعشرين ساعة وزيادة ستة أسباع ساعة دورة واحدة.
(15) فصل فيما يعرض للكواكب من الدوران في فلك البروج
فلهذا السبب عرض للكواكب دورانها في فلك البروج في أزمان مختلفة، بيان ذلك أنه إذا سامتت الشمس بقعة من الأرض مع أول درجة من الحمل فإن تلك تعود إلى سمت تلك القبعة بعد أربع وعشرين ساعة وهكذا دأبها دائما، أما الشمس فإنها تعود إلى سمت تلك البقعة مع الدرجة الثانية منه وهكذا دأبها دائما، وأما القمر فإنه يعود إلى سمت تلك البقعة مع الدرجة الثالثة عشرة من برج الحمل بعد أربع وعشرين ساعة بزيادة ستة أسباع ساعة بالتقريب، وفي اليوم الثالث يعود في الدرجة السادسة والعشرين من برج الحمل بعد ساعة وخمسة أسباع ساعة، وفي اليوم الرابع يعود مع الدرجة التاسعة من برج الثور بعد ساعتين وأربعة أسباع ساعة، وعلى هذا القياس تتأخر مسامتته في كل يوم لتلك البقعة مع درجة أخرى، إلى أن يحصل هذا التأخر عن فلك البروج في كل سبعة وعشرين يوما وتسع ساعات وخمس وسدس ساعة دورة واحدة، ويحصل له أيضا في هذه المدة حول الأرض سبع وعشرون دورة وكسر، ويحصل أيضا لتلك الدرجة في هذه المدة حول الأرض ثمان وعشرون دورة وكسر، وأما الشمس فهكذا حكمها وذلك بأنها إذا سامتت بقعة من الأرض مع أول دقيقة من برج الحمل فإنها تعود إلى مسامتة تلك البقعة مع الدقيقة التاسعة والخمسين من تلك الدرجة بعد أربع وعشرين ساعة وخمس دقيقة من ساعة، وفي اليوم الثاني تعود مع آخر الدرجة الثانية من الحمل، وهكذا تتأخر مسامتتها في كل يوم مع درجة أخرى إلى أن يحصل لها في فلك البروج ثلاثمائة وخمسة وستون يوما وست ساعات دورة واحدة، ويحصل أيضا حول الأرض في هذه المدة ثلاثمائة وخمس وستون دورة وكسر، ويحصل لتلك الدقيقة في هذه المدة حول الأرض ثلاثمائة وست وستون دورة وكسر، وكذلك يجري حكم عطارد والزهرة، وأما المريخ فإنه إذا سامت بقعة من الأرض مع دقيقة من درجة فإنه يعود في اليوم الثاني مع الدقيقة الحادية والثلاثين من تلك الدرجة، وفي اليوم الثالث مع الدقيقة من الدرجة التي تتلوها إلى أن يحصل له في فلك البروج سنة فارسية وعشرة أشهر واثنان وعشرون يوما دورة واحدة، وفي هذه المدة أيضا يحصل له حول الأرض سبع وثمانون وستمائة دورة، ولتلك الدقيقة 688 وهي زيادة دورة واحدة.
وأما المشتري إذا سامت بقعة مع دقيقة من درجة فإنه يعود إلى سمت تلك البقعة مع الدقيقة الخامسة من تلك الدرجة، وفي اليوم الثاني مع الدقيقة العاشرة وهكذا دأبه إلى أن يحصل في فلك البروج في كل إحدى عشرة سنة وعشرة أشهر وستة وعشرين يوما دورة واحدة، ويحصل له في هذه المدة حول الأرض 4435 دورة، ولتلك الدقيقة 4336 دورة.
وأما زحل فإنه إذا سامت بقعة فإنه يعود في اليوم الثاني مع أول دقيقة ثالثة، وفي اليوم الثالث مع الدقيقة الخامسة وحصة كل يوم دقيقتان، إلى أن يحصل له في فلك البروج في كل تسع وعشرين سنة وخمسة أشهر وستة أيام دورة واحدة، ويحصل له حول الأرض في هذه المدة 9111 دورة، ولتلك الدورة 9112 دورة.
وأما الكواكب الثابتة فإنه إذا سامت واحد منها بقعة من الأرض، فإنه يعود إلى تلك البقعة مسامتا لها مع ثالثة من ثانية من دقيقة من درجة فيحصل له في فلك البروج في ست وثلاثين ألف سنة دورة واحدة، ويحصل له حول الأرض دورات كثيرة.
ولما بان لأصحاب الرصد دوران الفلك المحيط من المشرق إلى المغرب فوق الأرض، ومن المغرب إلى المشرق تحت الأرض ودوران باقي الأفلاك تابعة له بكواكبها ووجدوها مقصرة عنه عن سرعة حركته متأخرة عنه في كل يوم بقدر ما لكل دور دون الآخر كما بينا عملوا لها حسابا ودونوه في الزيجات، ليعرفوا أي وقت أرادوا مواضعها وموازاتها من فلك البروج معرفة حقيقته.
ولما تبين أصحاب الزيجات أيضا ما يعرض للكواكب من الدوران في فلك البروج بسبب إبطاء حركة أكرها عن سرعة حركة فلك المحيط سموا ما يعرض لها في فلك البروج من الدوران حركة من المغرب إلى المشرق، ليكون فرق بالتسمية بين دورانها حول الأرض ودورانها في فلك البروج.
(16) فصل في بطلان قول من يقول إنها تتحرك من المغرب إلى المشرق
وقد ظن كثير من الناظرين في علم النجوم ممن ليس له رياضة بالنظر في علم الهندسة والطبيعيات أن هذه الكواكب السيارة تتحرك من المشرق إلى المغرب مخالفة لدوران الفلك المحيط، وليس الأمر كما ظنوا وتوهموا؛ لأنه لو كان كما ظنوا لكان سبيلها أن تطلع من المغرب وتغيب بالمشرق، كما أن الفلك المحيط تطلع درجاته من المشرق وتغيب في المغرب، وقد شهدوا دورانها في فلك البروج مخالفا لدوران الفلك فسموها حركة من المشرق إلى المغرب، وشبهوها بحركات نملات تتحرك على وجه الرحى مستقلة بحركتها معاندة مخالفة لها في حركاتها والرحى بسرعة حركتها ترد تلك النملات إلى دورانها، فلو كان كما قالوا حقيقة لكانت حركتها سبعة فقط؛ لأنها سبعة كواكب، والأمر بخلاف ذلك؛ لأن أصحاب سيارة الرصد ذكروا أنها خمس وأربعون حركة كما سنبين بعد، وقالوا: إن القمر أسرع الكواكب حركة فلو كان كما ذكروا لدار حول الأرض في أقل من أربع وعشرين ساعة، وقد بينا أنه يدور في أكثر من ذلك، ولو كانت حركاتها بالقصد معاندة لحركات الفلك المحيط لوجب أن تكون طباعها مخالفة لطباع الفلك المضادة لها، وكان يجب أن يكون لها خمس وأربعون طبيعة؛ لأنها خمس وأربعون حركة، وليس الأمر كما ظنوا وتوهموا، بل طبيعة الأفلاك والكواكب كلها طبيعة واحدة في الحركة الدورية وقصدها قصد واحد، وإنما اختلفت حركاتها في السرعة والإبطاء من أجل أنها في الأفلاك محركات ومتحركات كما بينا قبل، ومن أجل اختلاف حركاتها في السرعة والإبطاء اختلفت أزمان أدوارها حول الأرض، ومن أجل اختلافها حول الأرض اختلفت أدوارها في فلك البروج كما بينا، وأما مثل اختلاف دورانها حول الأرض كدوران الطائفين حول البيت الحرام.
(17) فصل في أن مثال دورانها حول الأرض كدوران الطائفين حول البيت الحرام
وذلك أن مثل البيت وسط المسجد الحرام، والمسجد وسط الحرم، والحرم وسط الحجاز، والحجاز وسط بلدان الإسلام كمثل الأرض وسط كرة الهواء، وكرة الهواء في وسط كرة القمر، وفلك القمر في وسط الأفلاك، وكمثل المصلين من الآفاق المتوجهين نحو البيت كمثل الكواكب في الأفلاك ومطارح شعاعاتها نحو مركز الأرض، ومثل دوران الأفلاك بكواكبها حول الأرض كمثل دوران الطائفين حول البيت، ومثل اختلاف أدوارها حول الأرض كمثل اختلاف أشواط الطائفين حول البيت؛ وذلك أنا نرى الطائفين حول البيت منهم من يمشي الهوينى، ومنهم من يستعجل، ومنهم من يهرول، ومنهم من يسعى، فتختلف بحسب ذلك أشواطهم، وكلهم متوجهون في طوافهم نحوا واحدا وقصدا واحدا، ولكن إذا بلغ الماشي الركن العراقي فقد بلغ المستعجل الركن الشامي، والمهرول الركن اليماني، والساعي الحجر الأسود، فبهذا السبب إذا طاف الماشي شوطا واحدا فقد طاف الساعي أشواطا، فهؤلاء الطائفون وإن اختلفت أشواطهم من أجل سرعة حركاتهم وإبطائها فليس قصدهم إلا قصدا واحدا إلى جهة واحدة، فهكذا حكم الأفلاك وكواكبها في دورانها حول الأرض، وكما أن الطائفين حول البيت يبتدئون من عند باب البيت، ويجتمعون عنده سبعة أشواط يدورونها حول البيت، فهكذا يقال إن الكواكب كلها ابتدأت بحركاتها من موازاة أول دقيقة من برج الحمل الذي كأنه باب الفلك، ثم دارت حول الأرض، ثم اختلفت موازاتها بعد ذلك في درجات البروج بحسب سرعتها وإبطائها كما قيل، وإذا اجتمعت هذه كلها بعد دورات كثيرة في موازاة تلك الدقيقة التي ابتدأت منها قامت القومة الكبرى واستأنفت الدور.
(18) فصل في مثال أدوارها
واعلم يا أخي أن حكماء الهند ضربوا مثلا لدوران هذه الكواكب حول الأرض ليقرب على المتعلمين فهمه ويسهل على المتأملين تصوره: ذكروا أن ملكا من الملوك بنى مدينة دورها ستون فرسخا، وأرسل سبعة نفر يدورون حولها بسير مختلف؛ أحدهم كل يوم فرسخا، والآخر كل يوم فرسخين، والثالث كل يوم ثلاثة فراسخ، والرابع كل يوم أربعة فراسخ، والخامس كل يوم خمسة فراسخ، والسادس كل يوم ستة فراسخ، والسابع كل يوم سبعة فراسخ، فقال: دوروا حول هذه المدينة، وليكن ابتداؤكم من عند الباب، فإذا اجتمعتم عند الباب بعد دوراتكم فتعالوا فعرفوني كم دار كل واحد منكم.
فمن فهم حساب دوران هؤلاء النفر حول تلك المدينة وتصوره يمكنه أن يفهم دوران هذه الكواكب حول الأرض بعد كم دورة يجتمعون في أول برج الحمل كما كان ابتداؤهم، فأما حساب أولئك النفر فإنهم بعد ستين يوما يجتمع ستة نفر عند باب المدينة وقد دار واحد منهم دورة والآخر دورتين والثالث ثلاث دورات والرابع أربع دورات والخامس خمس دورات والسادس ست دورات، فأما الذي يدور كل يوم سبعا فقد دار ثمانية أدوار وزاد أربعة أسباع فرسخ دور، فيحتاج هؤلاء النفر أن يستأنفوا الدور فبعد مائة وعشرين يوما يجتمعون مرة أخرى عند الباب وقد دار كل واحد حسابه الأول مرة أخرى، ولكن السابع قد دار سبع عشرة مرة وزاد فرسخا واحدا، فيجتاحون أن يستأنفوا الدور، فبعد مائة وثمانين يوما يجتمع الستة مرة ثانية وقد دار واحد حسابه الأول مرة ثالثة، ولكن صاحب السابع قد دار خمسا وعشرين دورة وزاد خمسة أسباع فيحتاجون أن يستأنفوا الدور فبعد مائتين وأربعين يوما يجتمعون مرة رابعة وقد دار كل واحد منهم حسابه الأول، ولكن صاحب السبعة قد دار أربعا وثلاثين دورة وزاد سبعين، فيحتاجون أن يستأنفوا الدور فبعد ثلاثمائة يوم يجتمعون مرة خامسة وقد دار كل واحد منهم حسابه الأول مرة خامسة، ولكن صاحب السبعة قد دار اثنتين وأربعين دورة وزاد ستة أسباع فيحتاجون أن يستأنفوا الدور فبعد ثلاثمائة وستين يوما يجتمعون مرة سادسة وقد دار كل واحد منهم لحسابه الأول مرة سادسة، ولكن صاحب السبعة دار إحدى وخمسين دورة وزاد ثلاثة فراسخ، فيحتاجون أن يستأنفوا الدور فبعد أربعمائة وعشرين يوما يجتمعون كلهم عند باب المدينة وقد دار الأول سبعة أدوار والثاني أربع عشرة دورة، والثالث إحدى وعشرين دورة، والرابع ثماني وعشرين دورة، والخامس خمسا وثلاثين دورة، والسادس اثنتين وأربعين دورة، والسابع قد دار ستين دورة.
فهذا مثل ضربه حكماء الهند لدوران الأفلاك والكواكب حول الأرض، وذلك أن مثل الأرض كمثل تلك المدينة المبنية التي دورها ستون فرسخا، ومثل الكواكب السبعة السيارة ودورانها حول الأرض كمثل أولئك النفر السبعة، واختلاف حركاتهم في السرعة والإبطاء كاختلاف سير أولئك النفر، والملك هو الله الباري المصور، تبارك الله رب العالمين.
(19) فصل فيما يرى لها من الرجوع والاستقامة والوقوف
اعلم يا أخي أن الذي يوصف من هذه الكواكب السبعة السيارة خمسة منها، وهي: زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد، تارة بالرجوع، وتارة بالوقوف، وليس بالحقيقة ذلك، وإنما هو عارض في رأي العين، وذلك أن كل كوكب جرمه على كرة صغيرة تسمى أفلاك التداوير، وهي مركبة كل واحدة على فلك من الأفلاك الكبار التي تقدم ذكرها، وغائصة في غلظ سموكها، ويكون جانب منها مما يلي سطوحها العلوي، وجانب منها مما يلي سطوحها السفلي، كل واحدة منها أيضا دائمة الدوران في مواضعها من أفلاكها الحاملة لها، ويعرض لكل كوكب إذا كان مركبا عليها تارة الصعود إلى أعلى سطح فلك فيبعد عن الأرض، وتارة النزول من هناك، فيقرب من الأرض، فإذا كان في أعلى ذراها ترى له حركة على توالي البروج من أولها إلى آخرها، وإذا كان في أسفل فلكه ترى له حركة من آخر البروج إلى أولها، وإذا كان صاعدا أو نازلا يرى كأنه واقف وليس بواقف ولا راجع، ولكن دأبه الدوران، وإنما جعل أصحاب الرصد هذه الأسماء ألقابا له.
(20) فصل في تفصيل الحركات الخمس والأربعين
اعلم يا أخي أنه يعرض لكل كوكب من هذه السبعة ست جهات مختلفات؛ إحداها: من المشرق إلى المغرب، وأخرى: من المغرب إلى المشرق، وأخرى: من الشمال إلى الجنوب، وأخرى: من الجنوب إلى الشمال، وأخرى: من فوق إلى أسفل، وأخرى: من أسفل إلى فوق، فتكون جملتها اثنتين وأربعين حركة، ويعرض للكواكب الثابتة حركتان وللفلك المحيط حركة واحدة، فتلك هي خمس وأربعون حركة، فأما حركتها من المشرق إلى المغرب فهي بالقصد الأول الحقيقي، وأما سائرها فبالعرض لا بالقصد، وأما الذي يعرض من المغرب إلى المشرق فقد بينا معناه فيما تقدم، وأما الذي يعرض من فوق إلى أسفل ومن أسفل إلى فوق فهو من جهة أفلاك التداوير، ومن جهة الأفلاك الخارجة عن المراكز، وأما التي تعرض من الشمال إلى الجنوب ومن الجنوب إلى الشمال فمن جهة ميل فلك البروج عن فلك معدل النهار وشرحها يطول، فمن أراد هذا العلم مستقصى فلينظره في كتاب المجسطي، أو بعض المختصرات في تركيب الأفلاك.
(21) فصل في بيان الظلمتين الموجودتين في العالم
اعلم يا أخي أن العالم بأسره مضيء بنور الشمس والكواكب، وليس فيه إلا ظلمتان: إحداهما ظل الأرض، والأخرى ظل القمر، وإنما صار لهذين الجسمين الظل من أجل أنهما غير نيرين ولا مشفين، وأما النور الذي يرى على وجه القمر فإن ذلك من إشراق الشمس على سطح جرمه ولانعكاس شعاعاتها كما يرى مثل ذلك في وجه المرآة إذا قابلت الشمس، وأما سائر الأجسام التي في العالم فبعضها نير ونورها ذاتي لها، وهي: الشمس والكواكب والنار التي عندنا، وأما باقي الأجسام فكلها مشفات وهي الأفلاك والهواء والماء وبعض الأجسام الأرضية كالزجاج والبلور وما شاكلها، والأجسام النيرة: هي التي نورها ذاتي، والأجسام المشفة هي التي ليس لها نور ذاتي ولا لون طبيعي، ولكن إذا قابلها جسم نير سرى نوره في جميع أجزائها مرة واحدة؛ لأن النور صورة روحانية، ومن خاصية الصور الروحانية أن تسري في الأجسام دفعة واحدة، وتنسل منها دفعة واحدة بلا زمان، فإذا حال بين الأجسام النيرة وبين الأجسام المشفة حائل غير مشف منع نور النير أن يسري في الجسم المشف، والنور في جرم الشمس والكواكب والنار ذاتي لها، وأما في أجرام الأفلاك والهواء والماء فعرضي، وأما جرم الأرض والقمر فلما كانا غير نيرين ولا مشفين صار لهما الظل؛ لأن النور لا يسري فيهما كما يسري في الأجسام المشفة، غير أن جرم القمر صقيل يرد النور كما يرد وجه المرآة، وسطح جرم الأرض غير صقيل، فهذا هو الفرق بينهما.
(22) فصل في علة الكسوفين
واعلم يا أخي أنه لما كان جرم الأرض وجرم القمر كل واحد منهما أصغر من جرم الشمس صار شكل ظليهما مخروطا، وشكل المخروط هو الذي أوله غليظ وآخره دقيق، حتى ينقطع من دقته، فظل الأرض يبتدئ من سطحها، ويمتد في الهواء منخرطا، حتى يبلغ إلى فلك القمر، ويمتد في سمكه حتى يبلغ إلى فلك عطارد، ويمتد في سمكه أيضا إلى أن ينقطع هناك، فطوله من سطح الأرض إلى حيث ينقطع في فلك عطارد مثل قطر الأرض مائة مرة وثلاثون مرة، فيكون في سمك الهواء منه ستة عشر جزءا ونصف، وفي سمك فلك القمر مثل ذلك، وسبعة وستون جزءا منه في سمك فلك عطارد إلى حيث ينقطع، ويكون قطر هذا الظل حيث يمر القمر في وقت مقابلة الشمس مثل قطر جرم القمر مرتين وثلاثة أخماس، فإذا اتفق أن تكون الشمس عند إحدى العقدتين اللتين تسميان الرأس والذنب، فيكون مرور القمر في سمك الظل كله ممنوعا عنه نور الشمس، فينكسف ثم يخرج من الجانب الآخر وينجلي.
وأما ظل جرم القمر فيبتدئ من سطح جرمه ويمتد منخرطا في سمك بعضه، والباقي في سمك الهواء، ويقطعه حتى يصل إلى وجه الأرض، فيكون قطر استدارته على وجه الأرض هناك مقدار مائة وخمسين فرسخا، يزيد وينقص بقدر بعد القمر عن الأرض وقربه منها، وهذا في وقت اجتماعه مع الشمس، فإن اتفق اجتماعهما عند إحدى العقدتين نرى القمر محاذيا لأبصارنا ولجرم الشمس فيمنع عنا نورها، فنراها منكسفة، وإذا كان القمر في غير هذين الموضعين - أعني الاجتماع والاستقبال - يكون إلى أحد الموضعين أقرب، فإن كان قربه إلى الاجتماع أكثر كان رأس مخروط ظله في سمك الهواء، وإن كان إلى الاستقبال أقرب كان رأس مخروط ظله في سمك فلكه أو في سمك فلك عطارد، وأما رأس مخروط ظل الأرض فإلى الدرجة المقابلة لدرجة الشمس في أي برج كانت، ويدور أبدا في مقابلة الشمس إذا كانت من فوق الأرض فظل الأرض تحتها، وإن كانت تحت الأرض فظل الأرض فوقها، وإن كانت بالمشرق فظل الأرض إلى ناحية المغرب، وإذا صارت بالمغرب صار الظل إلى ناحية المشرق، وهذا دأبهما دائما يكونان حول الأرض وهما الليل والنهار.
(23) فصل في أن الفلك طبيعة خامسة
واعلم يا أخي أن معنى قول الحكماء: إن الفلك طبيعة خامسة، إنما يعنون أن الأجسام الفلكية لا تقبل الكون والفساد والتغيير والاستحالة والزيادة والنقصان، كما تقبلها الأجسام التي تحت فلك القمر، وأن حركاتها كلها دورية.
واعلم أن للأجسام صفات كثيرة، فمنها ما تشترك الأجسام كلها فيها، ومنها ما يختص ببعضها دون بعض، فالصفات التي تشترك فيها الأجسام كلها الطول والعرض والعمق فحسب.
واعلم أن الصفات إنما هي صور تحصل في الهيولى، فيكون الهيولى بها موصوفا، فمن هذه الصورة التي تسمى الصفات مهايا ذاتية للجسم مقومة لوجدانه، كالطول والعرض والعمق؛ لأنها متى بطلت عن الجسم بطل وجدان الجسم، ومن الصورة ما هي متممة للجسم مبلغة إلى أفضل حالاته، وهذه الصورة تختص ببعض الأجسام دون بعض، وربما يشترك فيها عدة أجسام فمن الصور المتممة ما يشترك فيها الأجسام الفلكية والطبيعية، وهي الشكل والحركة والنور والشفافة واليبس الذي هو تماسك الأجزاء، ومما يختص بالأجسام الطبيعية الحرارة والبرودة والثقل والتغيير والخفة والاستحالة والحركة على الاستقامة وما شاكلها، والذي يختص بالأجسام الفلكية سلب هذه الصفات كلها ، فمن أجل هذا قيل إنها طبيعة خامسة؛ لأنها ليست حارة ولا باردة، ولا رطبة ولا ثقيلة ولا خفيفة، ولا يستحيل بعضها إلى بعض، فيكون منها شيء آخر، ولا يزيد في مقاديرها ولا ينقص؛ لأن الباري - جل ثناؤه - أبدعها كلها، واخترعها تامة كاملة، فهي باقية بحالاتها إلى وقت ما يريد باريها - عز وجل - أن يفنيها كيف شاء، كما أبدعها وصورها واخترعها وركبها وحركها ودبرها، فتبارك الله أحسن الخالقين!
(24) فصل في إبطال قول المتوهمين غير الحق
واعلم يا أخي أن كثيرا من أهل العلم ظنوا أن معنى قول الحكماء إن الفلك طبيعة خامسة أنه مخالف لهذه الأجسام الطبيعية في كل الصفات، وليس الأمر كما ظنوا؛ لأن العيان يكذبهم، وذلك أن القمر أحد الأجسام الفلكية، وقد يرى فيه اختلاف قبول النور والظلمة كما يرى في الأجسام الأرضية وله ظل كظلالها، وهو غير مشف مثل الأرض، والأفلاك كلها تشارك الهواء والماء والبلور والزجاج في الإشفاف، والشمس والكواكب تشارك النار في النور، وكلها يشارك الأرض في اليبس، فقد بان بهذا أنهم لم يريدوا بقولهم طبيعة خامسة إلا الحركة الدورية، وأنها لا تقبل الكون والفساد والزيادة والنقصان، كما تقبله الأجسام الطبيعية.
(25) فصل في أنها ليست ثقيلة ولا خفيفة
واعلم يا أخي أنما قيل إن الأجسام الفلكية ليست خفيفة ولا ثقيلة؛ لأنها ملازمة لأماكنها الخاصة بها، وذلك أن الباري - عز وجل - لما خلق الجسم المطلق وفصل أبعاضه بالصور المتممة، ورتبها محيطات بعضها ببعض كما بينا أولا، جعل لكل واحد منها مكانا هو أليق الأماكن به، وكل جسم في مكانه الخاص ليس بثقيل ولا خفيف؛ لأن الثقل والخفة يعرضان لبعض الأجسام بسبب خروجها من أماكنها الخاصة بها إلى مكان غريب.
واعلم يا أخي أن الأرض في مكانها، وهو مركز العالم ليست بثقيلة، ولا الماء فوقها بثقيل، ولا الهواء أيضا ثقيل فوق الماء، ولا النار فوق الهواء أيضا بثقيلة؛ لأنها في أماكنها الخاصة بها، وإنما يعرض الثقل والخفة لأجزائها إذا صارت في أماكن غريبة؛ وذلك أن أجزاء الأرض في جوف الماء والهواء غريبة، تريد اللحاق بمركزها وجنسها، فإذا منعها مانع وقع التنازع والتدافع، فيسمى ذلك ثقلا، وهكذا حكم الماء وأجزائه في جوف الهواء، وحكم أجزاء الهواء في الماء، وأجزاء النار في جوف الهواء، وكل واحد يريد اللحاق بعالمه ومركزه وأبناء جنسه، ولكن ما كان متوجها نحو مركز العالم يسمى ثقيلا، وما كان متوجها نحو المحيط يسمى خفيفا، والدليل على أن كل جسم في موضعه ومكانه الخاص به لا خفيف ولا ثقيل هو كون أجزائه في جوف كليته لا ثقيلة ولا خفيفة، وبيان ذلك بالتجربة والاعتبار، وطريق تجربته أن تملأ قربتين، إحداهما من الماء والأخرى من الريح الذي هو الهواء، ثم تطرحهما في بركة ماء، فإنك ترى القربة التي هي مملوءة من الماء تغوص في جوف الماء، والتي فيها الريح تطفو فوق الماء، فإذا شيلت القربة التي هي مملوءة من الماء لا يوجد لها ثقل ما دامت في الماء؛ لأن الماء في الماء ليس بثقيل، وإذا صارت إلى فوق الماء أحس بثقلها، وأما القربة التي هي مملوءة من الهواء، فإنها إذا غوصت في الماء وجد لها تمانع شديد؛ لأن الهواء في جوف الماء خفيف، فإذا شيلت إلى الهواء لا يوجد ذلك التمانع؛ لأن الهواء في الهواء ليس بخفيف.
واعلم أنه إذا أخذ من بركة ملئت ماء قدر من الماء، ثم رد إليها وقف ذلك الماء المردود حيث رد، كما أن التراب إذا أخذ من الأرض ثم رد إليها وقف حيث رد، وكذلك إذا استنشق الحيوان من الهواء ما يروح الحرارة الغريزية ثم رده بالتنفس وقف ذلك الهواء المردود حيث رد، إن لم يعرض له دافع.
(26) فصل في أن الأجسام الفلكية ليست بحارة ولا باردة ولا رطبة
واعلم يا أخي بأنه إنما قيل إنها ليست بحارة ولا باردة ولا رطبة من أجل أن الحرارة إنما تعرض للأجسام السيالة المتحللة عند الحركة؛ لأن أجزاءها تفارق مجاوراتها بعضها بعضا وتتبدل بالغليان الذي هو الحرارة، ولما كانت الأجسام الفلكية متماسكة الأجزاء من شدة اليبس لم تفارق مجاورة أجزائها بعضها بعضا، فلا يعرض لها الغليان الذي هو الحرارة، وأما البرودة فإنها تعرض للأجسام عند سكونها، والأجسام الفلكية دائمة الحركات والدوران فلا تسكن فتبرد، وأما الرطوبة فإنها تعرض للأجسام إذا تحرك بعض أجزائها وسكن البعض، وليس للأجسام الفلكية سكون.
واعلم أنه إنما صارت الأجسام الفلكية شديدة التماسك من شدة اليبس، وشدة اليبس من شدة الحركة والدوران؛ لأن الحركة تولد الحرارة، والحرارة تولد اليبوسة، واليبوسة إذا تناهت انطفأت الحرارة.
واعلم يا أخي أن الأجسام الفلكية محفوظة نظامها وباقية أشخاصها ما دامت ثابتة على دورانها، فإذا وقفت عن دورانها وسكنت حركاتها ولد السكون البرودة، وولدت الرطوبة التفشي والتبدد، والتفشي والتبدد يفسدان النظام، ومن فساد النظام يكون البوار والبطلان.
(27) فصل في معنى القيامة
إنما يدوم دوران الفلك مادامت النفس الكلية مربوطة معه، فإذا فارقته قامت القيامة الكبرى؛ لأن معنى القيامة مشتق من القيام، فإذا فارقت النفس قامت قيامتها، قال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله: «من مات فقد قامت قيامته.» وإنما أراد قيام النفس لا الجسد؛ لأن الجسد لا يقوم عند الموت بل يقع وقوعا لا يقوم بعده إلى أن ترد النفس إليه ثانية، فانتبه يا أخي من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، وتزود للرحلة، واستعد للقيامة قبل أن تقوم قيامتك، بأن يؤخذ منك هذا الهيكل المبني مملوءا من آثار الحكمة قهرا وأنت كاره، فتبقى نفسك بلا سمع ولا بصر ولا شم ولا ذوق ولا لمس، فارغة خاوية تهوي في هاوية البرزخ إلى يوم القيامة، إلى يوم يبعثون، فبادر وشمر واجتهد بأن تكتسب بتوسط هذا الهيكل الجسماني هيكلا روحانيا، وبتوسط هذه الحواس الجسدانية حواس عقلية، ليكون بعد حين، فترجع نفسك من عالم الأجسام إلى عالم الأرواح بربح لا بخسران.
واعلم بأن النفس إذا فارقت هذا الهيكل فلا يبقى معها ولا يصحبها من آثار هذا الجسد إلا ما استفادت من المعارف الربانية والأخلاق الجميلة الملكية والآراء الصحيحة المنجية والأعمال الصالحة الزكية المرضية المربحة، وذلك أن تبقى هذه الأشياء في النفس مصورة في ذاتها إذا كانت معتادة لها صورة روحانية نيرة بهية، كلما لاحظت النفس ذاتها ورأت تلك الصورة فرحت بها وامتلأت سرورا في ذاتها وفرحا ولذة، وذلك ثوابها ونعيمها بما أسلفت في الأيام الخالية، وأما إذا كانت أخلاقها رديئة سيئة بشعة، وآراؤها فاسدة وأعمالها موبقة، وجهالاتها متراكمة بقيت عمياء عن رؤية الحقائق، وتبقى هذه الأشياء في ذاتها مصورة صورة قبيحة سمجة، فكلما لاحظت ذاتها ونظرت إلى جوهرها رأت ما يسوءها وتريد الفرار منه، وأين المفر لها من ذاتها؟!
فاعتبر يا أخي ما ذكرت لك، ولا تغتر بما أنت فيه من رغد العيش وصحة البدن وعشرة إخوان لك جسدانيين وأصدقاء جسمانيين، يريدونك لمعاونتهم على إصلاح أحوال أجسامهم، فإن قصرت عن معاونتهم أبغضوك، وإن تجلدت عليهم جحدوك، وإن علوتهم حسدوك، وإن قصر حالك شمتوا بك، ولا يريدونك إلا لصلاح ونجاح أمورهم وحوائجهم، فهلم يا أخي إلى صحبة إخوان لك نفسانيين، وأقران لك روحانيين يريدونك، ولا يأخذون منك، ويخلصونك مما وقعت فيه بأن تدخل في صحبتهم وتسمع أقاويلهم لتفهم مذاهبهم، وتنظر في كتبهم وتعرف طريقتهم وعلومهم، وتعمل بسنتهم، وتسير بسيرتهم؛ لعلك تنجو بصحبتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون.
(تمت رسالة السماء والعالم، ويتلوها رسالة الكون والفساد.)
الرسالة الثالثة من الجسمانيات الطبيعيات في بيان الكون والفساد
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
(1) فصل في بيان الكون والفساد
اعلم أيها الأخ البار الرحيم - أيدك الله وإيانا بروح منه - أنه لما فرغنا من ذكر الأجسام الفلكية وبينا كمية أكرها وكيفية نظامها ومقادير أبعادها واختلاف دورانها وسرعة حركاتها وماهية طبائع جواهرها في الرسالة الملقبة بالسماء والعالم ، نريد أن نذكر في هذه الرسالة الملقبة بالكون والفساد الأجسام الطبيعية التي دون فلك القمر، وكمية عددها، وكيفية نظامها، واختلاف طبائعها، وكيفية استحالة بعضها إلى بعض بتأثيرات الأجسام الفلكية فيها، وكمية الأجناس الكائنات المتولدة منها.
واعلم أيها الأخ - أيدك الله وإيانا بروح منه - أن الأجسام التي تحت فلك القمر سبعة أجناس؛ أربعة منها هي الأمهات الكليات، وهي: النار والهواء والماء والأرض، وثلاثة هي المولدات الجزئيات، وهي: الحيوان والنبات والمعادن، فلنبدأ أولا بوصف الأمهات الكليات، فنقول: إن الأمهات كل واحدة منها مركبة من هيولى وصورة، فهيولاها كلها هو الجسم، وصورها هي التي بها تنفصل كل واحدة منها عن الأخرى، وهي الصورة المقومة لذات كل واحدة منها، ولما كانت الصورة نوعين مقومة ومتممة احتجنا أن نصفهما ليعرف الفرق بينهما، فنقول إن الصورة المقومة لذات الشيء هي التي إذا فارقت هيولاها بطل وجدان ذلك الشيء، والصورة المتممة هي التي تبلغ الشيء إلى أفضل حالاته التي يمكنه البلوغ إليها، وإذا فارقت هيولاها لم يبطل وجدان الهيولى، مثال ذلك: السكون والحركة فإنهما إذا فارقا الجسم لا يبطل وجدان الجسم، وأما الطول والعرض والعمق فإذا فارقت الهيولى يبطل وجدان الجسم.
واعلم يا أخي أن كل صورة مقومة لذات الشيء تتلوها أخرى متممة، وكل صورة مقومة فاعلة لأخرى تابعة لها يتلو بعضها بعضا، كما يتلو العدد أزواجه أفراده، وأفراده أزواجه بالغا ما بلغ، مثال ذلك: الصورة المشاكلة في جرم النار المقومة لذاتها فهي حركة الغليان، والصورة المتممة التابعة لها هي الحرارة، وتتلوها اليبوسة، ويتلوها تماسك الأجزاء، فلولا رطوبة الهواء المحيطة بالنيران التي تمنعها أن تفرط في اليبوسة، لتماسكت أجزاؤها، وجفت كما تجف نار الصاعقة، ولكن لو أصابها اليبس والجفاف لقل الانتفاع بها، وهو الغرض الأقصى منها.
واعلم يا أخي أن الهواء جوهر شريف، فيه فضائل كثيرة وخواص عجيبة، من ذلك أنه يمنع النيران برطوبته أن تيبس وتجف، كما يمنع الأصوات بسيلانه أن تثبت زمانا طويلا، فيقل الانتفاع بها، ويكثر الضرر منها، وذلك أن الأصوات ليست تمكث في الهواء إلا ريثما تأخذ المسامع حظها ثم تضمحل، ولو ثبتت الأصوات في الهواء زمانا طويلا لامتلأ الهواء من الأصوات، ولعظم الضرر منها حتى لا يمكن أن يسمع ما يحتاج إليه من الكلام والأقاويل، وهكذا لو يبست النيران وجفت لما سرت في الأجسام ولم تنضجها، وبقيت الأشياء التي يراد نضجها فجة غليظة.
فانظر يا أخي وتفكر في حكمة الباري - سبحانه - إذ جعل ثبات النيران بحسب مراد المستعمل لها، فإذا استغنى عنها ردها إلى العدم بأسهل السعي، فلو بقيت بحالها لعظم الضرر منها، وقل الانتفاع بها، ومن الصور المتممة لذات النار اللطافة التي تولدها الحرارة وتتلوها سرعة النفوذ في الأجسام، ومن الصور المتممة لذات النار أيضا النور، ويتلوه الإشراق، فقد اجتمعت في جرم النار عدة صور كلها متممة لها، وهي الحركة والحرارة واليبوسة واللطافة والنور، وهي بكل صورة تفعل فعلا غير ما تفعل بالأخرى، وذلك أنها بالحركة تغلي الأجساد، وبالحرارة تسخن، وباليبوسة تنشف، وباللطافة تنفذ في الأجسام، وبالنور تضيء ما حولها، وبالحرارة والحركة تحيل الأجسام إلى ذاتها، وأما الصورة المقومة لذات الأرض فهي السكون الذي هو ضد الغليان، والتالية المتممة لها البرودة، والتالية للبرودة اليبوسة، والتالية لها تماسك أجزائها، ومن الصور المتممة لها أيضا غلظة جوهرها، ومن غلظة جوهرها تماسك أجزائها، ومن تماسك أجزائها نشأت الكائنات على ظهورها من الحيوان والنبات والمعادن.
واعلم يا أخي بأن اليبوسة نوعان؛ إحداهما: تابعة للحرارة وهي فاضلة، والأخرى: تابعة للبرودة وهي رذلة، وذلك أن اليبوسة التابعة للحرارة هضمة نضجة، والتي تتبع البرودة فجة غير نضجة، ومثال ذلك: يبوسة الياقوت والبلور وأشباهها فإنها قد نضجتها بالطبخ حرارة المعدن، فهي لا تستحيل ولا تتغير، وأما التي تابعة للبرودة مثال يبوسة الثلج والجليد والملح وغيرها، فإنها لما كانت فجة غير نضجة صارت رذلة مستحيلة متغيرة، ومن أجل هذا صارت الأجرام الفلكية لا تقبل الكون والفساد والتغيير والاستحالة؛ لأن تماسك أجزائها من شدة يبوستها، ويبوستها تولدت من حرارة حركتها، ثم غلبت عليها اليبوسة فطفئت حرارتها، كما بينا في رسالة السماء والعالم.
وأما الأجسام الأرضية فلما كان تماسك أجزائها من اليبوسة الرذلة الغير النضجة المتولدة من البرودة والمتولدة من السكون صارت تستحيل وتتغير وتفسد.
فصل
واعلم يا أخي بأن الصورة المقومة لذات الماء والهواء كليهما الرطوبة المتولدة من امتزاج الأجزاء المتحركة والساكنة جميعا؛ وذلك أن اليبوسة لما كانت متولدة من شدة حركة أجزاء الهيولى كلها، أو من شدة سكونها كلها، كما بينا قبل، وكانت الرطوبة ضدا لها دلت على أنها متولدة من مزاج الأجزاء المتحركة والساكنة، وأما الصورة المتممة لذات الماء فهي كثيرة الأجزاء الساكنة الغليظة وقليلة الأجزاء المتحركة اللطيفة، ولما كانت الصورة المتممة لذات الماء كثيرة الأجزاء الساكنة الغليظة وقليلة الأجزاء المتحركة اللطيفة صارت مشاكلة للأرض في البرودة، وصار مركزها مما يلي مركز الأرض، وأما الصورة المتممة لذات الهواء فهي كثيرة الأجزاء اللطيفة المتحركة، وقليلة الأجزاء الغليظة الساكنة، ولما كانت الصورة المتممة لذات الهواء كثيرة الأجزاء اللطيفة المتحركة صارت مشاكلة للنار في الحرارة، وصار مركزها مما يلي مركز النار.
واعلم يا أخي بأنه لما كانت الصورة المقومة للأجسام الفلكية هي شدة اليبوسة المتولدة من شدة الحرارة المتولدة من شدة سرعة الحركة، وكانت الصورة المقومة للأجسام الأرضية اليبوسة المتولدة من شدة البرودة المتولدة من شدة السكون الذي هو ضد حركة الغليان، صارت الأجسام الأرضية مشاكلة للفلكية في اليبوسة ومضادة لها في الحركة، ولما كانت حركتها حول المركز صار سكون هذه في المركز؛ لأن المضاد يفر من ضده إلى أبعد الأماكن، وأبعد الأماكن من المحيط هو المركز.
ولما كانت الصورة المقومة للماء والهواء هي الرطوبة المتولدة من امتزاج الأجزاء المتحركة والساكنة، وكانت الرطوبة مضادة لليبوسة صار موضعها ما بين المحيط والمركز، ولما كانت الصورة المتممة لذات الماء هي كثيرة الأجزاء الغليظة الساكنة فيه صار الماء مشاكلا للأرض في البرودة، وصار مركزه مما يلي مركزها، ولما كانت الصورة المتممة لذات الهواء كثيرة الأجزاء اللطيفة المتحركة صارت مشاكلة للنار في الحرارة، وصار مركزها مما يلي مركزها، فقد بان يا أخي بهذا الشرح أن الأجسام بعضها مشاكل لبعض في طبيعة ما، مضاد في طبيعة أخرى، ومن أجل مضادة طباعها تباينت مراكزها، ومن أجل مشاكلتها تجاورت مراكزها، ولما ترتبت هذه الأجسام مراتبها صار كل واحد في مركزه الخاص به واقفا بلا مماسك ولا عمد لا ثقيلا ولا خفيفا، ولا تخرج من مواضعها إلا بعارض قاهر لها، فإذا خلت رجعت إلى موضعها الخاص بها، فإن منعها مانع وقع التنازع بينهما، فإن كان النزوع إلى ناحية المحيط يسمى خفيفا، وإن كان إلى ناحية مركز العالم يسمى ثقيلا، ولما ترتبت الأكر وقف كل واحد من هذه الأركان في موضعه الخاص به محيطات بعضها ببعض مستديرات إلا الماء، فقد منعته العناية الإلهية والحكمة الربانية من الإحاطة بالأرض من جميع الجهات؛ لأنه لو أحاطت كرة الماء بكرة الأرض من جميع الجهات لمنع كون الحيوان والنبات على وجه الأرض، ولكن جعلت للمياه مستنقعات في الأرض وهي البحار والآبار، وقد ذكرنا في رسالة جغرافيا صورة الأرض وكمية الجبال والبحار والأنهار والأقاليم والبلدان، ولكن لا بد أن نذكر منها ما يحتاج إلى ذكره ها هنا.
فصل
اعلم يا أخي بأن الأرض كرة واحدة بجميع ما عليها من الجبال والبحار والأنهار والعمران والخراب، وهي واقفة في الهواء في مركز العالم، والهواء محيط بها ملتف عليها من جميع جهاتها، وأن البحر الأعظم موضعه تحت مدار برج الحمل ممتد من المشرق إلى المغرب، وأما سائر البحار فشعب وخلجان تأخذ من البحر الأعظم وتمتد إلى ناحية الشمال، وهي سبعة أبحر؛ فمنها: بحر الروم وبحر القلزم وبحر فارس وبحر الصين وبحر الهند وبحر يأجوج ومأجوج وبحر جرجان، وبين كل بحر منها وبين الآخر جزائر وبراري وعمران وجبال وآجام وأنهار تبتدئ من الجبال وتنتهي إلى البحار، وأن الجبال أصولها راسية في الأرض ورءوسها شامخة في الهواء شاهقة، وبين هذه الجبال أودية غائرة، وفي جوف الجبال مغارات وأهوية، وأن الأرض باطنها كثير التخلخل وظاهرها مختلف التربة، ومنها طينية وسبخة ورملة وحصى وأحجار صلبة وبقاع مختلفة، وسبب اختلاف هذه كلها بحسب مسامتات الكواكب ومطارح شعاعاتها عليها من الآفاق وممرات درجات الفلك على سمت تلك البقاع، ومنها يكون الكون والفساد في هذه الأجسام التي تحت فلك القمر.
واعلم يا أخي بأن هذه الأركان الأربعة يستحيل بعضها إلى بعض، فيصير الماء تارة هواء وتارة أرضا، وهكذا أيضا حكم الهواء فإنه يصير تارة ماء وتارة نارا، وكذلك النار، وذلك أن النار إذا أطفئت وخمدت صارت هواء، والهواء إذا غلظ صار ماء، والماء إذا جمد صار أرضا، وعكس ذلك أن الأرض إذا تحللت ولطفت صارت ماء، والماء إذا ذاب صار هواء، والهواء إذا حمي صار نارا، وليس للنار أن تلطف فتصير شيئا آخر، ولا للأرض أن تغلظ فتصير شيئا آخر، ولكن إذا اختلطت أجزاء هذه الأركان بعضها ببعض كان منها المتولدات الكائنات الفاسدات التي هي المعادن والنبات والحيوان، وأصل هذه كلها البخارات والعصارات إذا امتزج بعضها ببعضها، فالبخار ما يصعد من لطائف البحار والأنهار والآجام في الهواء من إسخان الشمس والكواكب لها بمطارح شعاعاتها على سطوح البحار والأنهار والآجام والعصارات مما ينجلب في باطن الأرض من مياه الأمطار، وتخلط بالأجزاء الأرضية وتغلظ فتنضجها الحرارة المستبطنة في عمق الأرض.
واعلم يا أخي بأن أول ما يستحيل هي الأربعة الأركان إلى هذين الخليطين، أعني البخار والعصارات، ويكون هذان الخليطان هيولى ومادة لسائر الكائنات الفاسدات التي تحت فلك القمر، وذلك أن الشمس والكواكب إذا سخنت المياه بإشراقها على سطح الأرض والبحار والآجام والأنهار قللت المياه ولطفت أجزاء الأرض، وصارت بخارا ودخانا، والبخار والدخان يصيران سحابا، والسحاب يصير أمطارا، والأمطار إذا بللت التراب واختلطت الأجزاء الأرضية بالأجزاء المائية تتكون منها العصارات، والعصارات تكون مادة وهيولى للكائنات التي هي المعادن والنبات والحيوان، وقد أفردنا لكل نوع منها رسالة مفردة، وبينا فيها كيفية تكونها منها وتركيبها ونشوئها ونمائها وبلوغها إلى أقصى مدى غاياتها، ثم كيفية فسادها وبلاها واستحالتها وبدئها ورجوعها إلى هذه الأركان الأربعة التي تتكون منها.
واعلم يا أخي بأن الكون والفساد هما ضدان لا يجتمعان في شيء واحد في زمان واحد؛ لأن الكون هو حصول الصور في الهيولى، والفساد هو انخلاعها منها، فإذا فسد شيء منها فلا بد أن يتكون شيء آخر؛ لأن الهيولى إذا انتزعت منها صورة ألبست أخرى، فإن كانت التي ألبست أشرف سمي كونا، وإن كانت أدون سمي فسادا، مثال ذلك: أن يصير التراب والماء نباتا، ويصير النبات حبا وثمارا، والثمار والحب يصيران غذاء، والغذاء يصير دما ولحما وعظما، فيكون من ذلك حيوان، والفساد أن يحترق النبات فيصير رمادا، ويموت الحيوان فيصير ترابا.
واعلم يا أخي أن جسدك الذي تختص به نفسك أحد الكائنات الفاسدات، وما هو بالنسبة إلى نفسك إلا كدار سكنت أو كلباس ألبس فلا تكونن كل همتك وأكثر عنايتك بتزويق هذه الدار وتطرية هذا اللباس، فإنك تعلم بأن كل مسكن يخرب وكل لباس لا بد أن يبلى، ولكن اجعل بعض أوقاتك للنظر في أمر نفسك وطلب معرفة جوهرها ومبدئها ومعادها، فإنها جوهرة خالدة أبدية الوجود، ولكن تنتقل لها حال بعد حال كما قيل:
اجهد على النفس واستكمل فضائلها
فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
كما روي في الخبر أن ابن أبي طالب - صلوات الله عليه - قال في خطبة له: «إنما خلقتم للأبد، ولكن من دار إلى دار تنقلون من الأصلاب إلى الأرحام، ومن الأرحام إلى الدنيا، ومن الدنيا إلى البرزخ، ومن البرزخ إلى الجنة أو إلى النار.»
فصل
واعلم يا أخي بأن الجنة إنما هي عالم الأرواح، وكله صورة روحانية لا هيولى جرمانية، بل حياة محضة، وراحة ولذة، وسرور وغبطة، لا يعرض لها الكون والفساد، ولا التغيير والبلى؛ لأنها هي دار الحيوان لو كانوا يعلمون، فإذا كانت الدار هي الحيوان، فما ظنك يا أخي بأهل الدار كيف حالهم؟! فإنه يقصر الوصف عنهم إلا بالاختصار كما ذكر الله - تعالى - في كتابه على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فقال: @QUR09 فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون.
واعلم يا أخي أن النار وجهنم هي عالم الأجسام التي تحت فلك القمر الذي هو دائم في الكون والفساد والتغيير والاستحالة والبلى، وأن أهلها @QUR08 كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب، فازهد يا أخي في غرور هذه الدار كما زهد أنبياء الله - عز وجل - وأولياؤه والفلاسفة الحكماء، فقد علمت أنها ليست بدار المقام، فاستعد للرحلة والانتقال باختيار منك لا مكرها ولا مجبرا قبل فناء العمر وتقارب الأجل.
واعلم أنه لا يستوي لك هذا إلا بعد أن تعرف فضل الآخرة على الدنيا معرفة صحيحة بلا شك ولا تقليد؛ لأن جبلة الإنسان أن لا يزهد في الحاضر العاجل ولا يرغب في الغائب الآجل إلا بعد معرفة فضل الآجل الغائب على العاجل الحاضر.
واجتهد يا أخي في معرفة طلب ما أشار إليه أنبياء الله - تعالى - في الكتب المنزلة على ألسنتهم المأخوذة عن الملائكة معانيها في وصف نعيم الجنان وسعادة أهلها وصفة النيران وشقاوة أهلها، وما أشار إليه أيضا الفلاسفة والحكماء في رموزهم من وصف عالم الأرواح ومدح أهلها، وذمهم عالم الأجسام وسوء ثنائهم على أهلها، ولعلك تتصور بعقلك ما تصوروا، وتشاهد بصفاء جوهر نفسك ما شاهدوا بصفاء جوهر نفوسهم، فتنتبه نفسك من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، وتعيش عيش السعداء العلماء، وترتقي في المعارف، وتعلو همتك نحو ملكوت السماء، وتكون في الآخرة من السعداء، وفقك الله أيها الأخ وإيانا وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد للرشاد، إنه رءوف رحيم بالعباد.
وإذ قد فرغنا من ذكر الأركان الأربعة التي هي دون فلك القمر وهي: النار والهواء والماء والأرض، ووصفنا ما يخص كل واحدة من الصور المقومة المبلغة له إلى أفضل حالاته، وبينا كيفية استحالات بعضها إلى بعض، وأخبرنا أن أول ما يتحلل من البخارات، ومن البخارات تنعقد العصارات، ومن العصارات تتكون الكائنات التي هي المعادن والنباتات والحيوانات، فنختم هذه الرسالة ونبدأ بعدها برسالة أخرى نذكر فيها البخارات الصاعدة في الهواء، ونصف كيفية حوادث الجو منها في رسالة أخرى، وهي الملقبة برسالة الآثار العلوية وحوادث الجو.
(تمت رسالة الكون والفساد، ويتلوها رسالة الآثار العلوية.)
الرسالة الرابعة من الجسمانيات الطبيعيات في الآثار العلوية
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
(1) فصل
اعلم أيها الأخ البار الرحيم - أيدك الله وإيانا بروح منه - أنه لما فرغنا من ذكر الأركان الأربعة، أردنا أن نذكر في هذه الرسالة الملقبة بالآثار العلوية حوادث الجو وتغييرات الهواء وكيفية حدوثها بتأثيرات الأشخاص الفلكية فيها، ولكن من أجل أن كثيرا من الناس العقلاء يظنون أن المطر ينزل من السماء من بحر هناك، وأن البرد يقع من جبال، ثم يستشهدون على صحة ظنونهم بقوله - عز وجل: @QUR05 وأنزلنا من السماء ماء طهورا، وقوله تعالى: @QUR08 وينزل من السماء من جبال فيها من برد، ولا يعرفون معاني قوله - سبحانه - ولا تفسير آيات كتابه - جل ثناؤه - احتجنا أن نذكر فيها طرفا لنزول الشكوك والشبهة.
واعلم يا أخي بأن معنى السماء في لغة العرب هو: كل ما على الرءوس، وأن المطر إنما ينزل من السحاب، والسحاب يسمى سماء لارتفاعها في الجو، ويسمى أيضا السحاب جبالا لتراكمه بعضه فوق بعض كتراكم أركان الجبال، وركود أطوادها بعضها فوق بعض، كما يرى ذلك في أيام الربيع والخريف كأنها جبال من قطن مندوف متراكم بعضه فوق بعض.
(2) فصل في ماهية الطبيعة
كان الذين يتكلمون في الحوادث الكائنات التي دون فلك القمر من الحكماء، والفلاسفة ينسبون هذه الآثار والأفعال كلها إلى الطبيعة، وكما أن أقواما من العلماء ينكرون أفعالها وينكرون الطبيعة أيضا أصلا احتجنا أن نذكر معنى قولهم الطبيعة، ونبين أن الذين أنكروا أفعالها ذهب عليهم معنى الطبيعة ولم يعرفوها، فمن ذلك أنكروا أفعالها.
واعلم يا أخي - أيدك الله وإيانا بروح منه - أن الطبيعة إنما هي قوة من قوى النفس الكلية منبثة منها في جميع الأقسام التي دون فلك القمر، سارية في جميع أجزائها كلها، تسمى باللفظ الشرعي الملائكة الموكلين بحفظ العالم وتدبير الخليقة بإذن الله، وتسمى باللفظ الفلسفي قوى طبيعية، وهي فاعلة في هذه الأجسام بإذن الباري - جل ثناؤه - والذين أنكروا فعل الطبيعة إنما ذهب عليهم معنى هذه التسمية، وظنوا أنها متوجهة نحو الجسم، والجسم من حيث هو جسم لا فعل له البتة بالإجماع من الفريقين، بدلائل قد صحت وبراهين قد قامت.
واعلم يا أخي بأن الذين أنكروا فعل الطبيعة يقولون إنه لا يصح الفعل إلا من حي قادر - وهو قول صحيح - ولكن يظنون أن الحي القادر لا يكون إلا بجسم إذا كان على هيئة مخصوصة بأعراض تحله بزعمهم مثل الحياة والقدرة والعلم وما شاكلها، ولا يدرون أن مع هذا الجسم جوهرا آخر روحانيا غير مرئي، وهي النفس، وأن هذه التي وصفوها من الأعراض بأنها حالة في الجسم هي التي تظهرها فيه، أعني النفس بفعلها في الجسم.
واعلم يا أخي أنما ذهب على الذين أنكروا فعل الطبيعة علم النفس، وخفي عليهم معرفتها من أجل أنهم طلبوا إدراكها بالحواس فلم يجدوها، فأنكروا وجودها، وأما الذين أقروا بالنفس وأدركوا وجودها فإنما عرفوا ذلك بالأفعال الصادرة عنها في الأجسام، وذلك أنهم اعتبروا أحوال الجسم فوجدوه لمجرده لا فعل له البتة ولا للأعراض الحالة فيه، وإنما الأفعال كلها للنفس، وأما الجسم وأعراضه فإنها للنفس بمنزلة أدوات وآلات لصانع يظهر بها ومنها أفعاله كما يرى ذلك من الصناع البشريين، فإنهم بأدوات جسمانية يظهرون صناعاتهم في الأشياء، مثال ذلك: النجار؛ فإنه يظهر أفعاله في الخشب الذي هو جسم طبيعي بآلات وأدوات جسمانية كالفأس والمنشار والمثقب وما شاكلها، وكلها أجسام صناعية، وأجسام الصناع هي أيضا من الأجسام الطبيعية، وهي آلات لنفوسهم وأدوات لها يظهرون بها صناعتهم وأفعالهم، كما بينا في رسالة تركيب الجسد ورسالة الصنائع العملية.
وإذ قد بان ما الطبيعة وأنها قوة من قوى النفس الكلية الفلكية، وأنه لا فعل إلا للنفس، وأنها تفعل أفعالها بقوتها في الأجسام، وأن الأجسام كلها آلات وأدوات ومفعولات لها، كما أن الفكر والعلم آلات للنفس في إدراك المعلومات والمعقولات، وإخراجها من القوة إلى الفعل، فنرجع الآن إلى ذكر الأجسام البسيطة التي دون فلك القمر، ونقول إنها الهيولى الموضوع للطبيعة، وهي فاعلة فيها الأشكال والصور، صانعة منها الحيوان والنبات والمعادن، وإن الأشخاص الفلكية لها كالأدوات للصانع ، وذلك أن الفلك يدوم دورانه حول الأرض في كل أربع وعشرين ساعة دورة واحدة وبحركات كواكبه ومطارح شعاعاته في سمك الهواء على سطح الأرض والبحار، وإسخانها لها يحلل المياه فيصيرها بخارا، ويلطف أجزاء التراب فيصيرها دخانا، وتختلطان ويكون منهما المزاجات كما يكون من أصباغ المصورين.
ثم إن قوى النفس الكلية الفلكية السارية في جميع الأجسام المسماة الطبيعة تنقش وتصور وتصوغ من تلك المزاجات والأخلاط أجناس الكائنات التي هي الحيوان والنبات والمعادن بإذن الله - عز وجل، ولما كان أول اختلاط ومزاج يحدث في هيئة هذه الأركان هو تغييرات الهواء وحوادث الجو لسهولة انفعاله وسرعة استحالته، احتجنا أن نذكر حال الهواء أولا، ثم حال المياه، ثم حال بقاع الأرض، فنقول: إنا قد بينا في رسالة السماء والعالم أن كرة الهواء محيطة بكرة الأرض من جميع جهاتها، وأن سمكها من ظاهر سطح الأرض إلى أدنى فلك القمر مثل قطر الأرض ست عشرة مرة ونصفها، وذلك أن قطر الأرض ألفان ومائة وسبعة وستون فرسخا، فيكون سمك الهواء 35758 فرسخا.
واعلم يا أخي بأن سمك الهواء ينفصل بثلاث طبائع متباينات، إحداها مما يلي سطح الأرض، والأخرى هي الوسط بينهما، وذلك أن الهواء الذي يلي فلك القمر هو نار سموم في غاية الحرارة يسمى الأثير، والذي في الوسط بارد في غاية البرودة يسمى الزمهرير، والذي يلي سطح الأرض معتدل المزاج في موضع دون موضع يسمى النسيم، والعلة في اختلاف هذه الطبائع الثلاث هو أن الهواء المماس لفلك القمر لدوام دورانه معه وسرعة حركته قد حمي حميا شديدا حتى صار نارا سموما، ثم إنه لما كان منهبطا إلى أسفل كان أبطأ لحركته وأقل لحرارته، وكلما قلت الحرارة غلبت البرودة، فلا يزال كذلك إلى أن يصير في غاية البرودة التي تسمى زمهريرا، والذي يلي سطح الأرض معتدل المزاج في موضع غير موضع، ولا يكون سمك كرة الأثير بالإضافة إلى كرة الزمهرير إلا شيئا يسيرا، ولولا مطارح شعاعات الشمس والقمر والكواكب على سطح الأرض وانعكاسها في الهواء وإسخانها له لكان المماس لظاهر سطح الأرض أشد بردا مما سواه، كما يعرض ذلك تحت قطب الشمال، وذلك أنه يصير هناك ستة أشهر ليلا كله فيبرد الهواء بردا شديدا وتجمد المياه ويظلم الجو ويغلظ ويهلك الحيوان والنبات، وأما في مقابلة هذا الموضع مما يلي قطب الجنوب يكون في هذه الأشهر الستة نهارا كله، فيدوم إشراق الشمس على تلك البقاع، ويتصل انعكاس شعاعاتها في الهواء، فيحمى ويسخن إسخانا شديدا، حتى يصير نارا سموما محرقة للحيوان والنبات، وعلة أخرى هي أن الشمس في وقت مسامتتها لهذه البقاع تكون قريبة من الأرض؛ لأن حضيضها في آخر القوس، وأما إذا كانت في البروج الشمالية فإن تحت قطب الشمال يكون أيضا ستة أشهر نهارا كله، ولكن لا تسخن تلك البقاع كإسخانها البقاع التي تحت قطب الجنوب؛ لأنها تكون بعيدة من الأرض مرتفعة في الفلك؛ لأن أوجها في آخر الجوزاء.
ثم اعلم يا أخي بأن بين بعدها في الأوج وبين قربها في الحضيض مقدار قطر الأرض مائة مرة، وهذا مقداره 216755 فرسخا، ومن أجل هذا صار العامر من الأرض في الربع الشمالي من خط الاستواء إلى نيف وست وستين درجة، وهو بين ممر رأس الحمل على سمت الرأس إلى حيث ممر الكف الخضيب على سمت الرأس، وفي هذا الربع الأقاليم السبعة، كما بينا في رسالة جغرافيا، ووصفنا فيها ما في كل إقليم من المدن والجبال والبحار والأنهار.
واعلم يا أخي أن على سمت هذه الأقاليم يخترق من الهواء النسيم أكثر، وفي هذه البلدان تعتدل الطبائع، ونريد أن نذكر سمك كرة الغيم والنسيم وأكثر ما ترتفع، وذلك تارة يزيد في سمكه وارتفاعه، وتارة ينقص من ذلك بحسب زوايا شعاعات الشمس والكواكب المنعكسة في طرفي النهار وأنصافه وأيام الشتاء والصيف، وذلك أيضا بحسب ارتفاعات الشمس والكواكب من الآفاق وممراتها على سمت البقاع.
فصل
واعلم يا أخي بأن الزوايا التي تحدث من انعكاس شعاعات الكواكب والشمس من وجه الأرض ثلاثة أنواع: حادة وقائمة ومنفرجة، وهذه الزوايا كلها مسخنة للمياه والأرض والهواء محركة لها ، ولكن أشدها إسخانا الزوايا الحادة، ثم القائمة، ثم المنفرجة، ولما كانت الزوايا المنفرجة بعضها أشد انفراجا من بعض، والحادة بعضها أحد من بعض، والزوايا القائمة كلها متساوية احتجنا أن نبين متى تكون الزوايا منفرجة، ومتى تكون قائمة، ومتى تكون حادة.
فنقول: إنه إذا ابتدأت الشمس من الأفق أو القمر أو أي كوكب كان، وأشرقت على سطح الأرض والبحار، فإن زوايا شعاعاتها كلها تنعكس منفرجة في غاية الانفراج، ثم لا تزال كلما ارتفعت قل انفراجها وتضايقت، حتى إذا صار الارتفاع خمسا وأربعين درجة صارت زوايا انعكاس الشعاع كلها قائمة في تلك البقعة حسب، فإذا زاد الارتفاع نقصت الزوايا وضاقت وصارت حادة، وكلما ارتفعت وزاد ارتفاعها زادت الزوايا حدة، إلى أن تسامت الكواكب البقعة فتنطبق الزوايا وتلتقي الأضلاع، فإذا زالت إلى ناحية المغرب انفصلت الأضلاع وانفتحت الزوايا الحادة في غاية الحدة، وكلما انحطت الشمس أو أي كوكب كان ازدادت الزوايا انفراجا إلى أن يصير الارتفاع من جهة المغرب خمسا وأربعين درجة مرة ثانية، وتصير الزوايا كلها قائمة مرة أخرى، فإذا نقص الارتفاع عن خمس وأربعين درجة صارت الزوايا كلها منفرجة، وكلما انحطت الكواكب إلى المغرب انفرجت الزوايا إلى وقت المغرب، فتصير كلها في غاية الانفراج كما كانت غدوة، فمن أجل هذا صارت أنصاف النهار أشد حرارة من طرفيه؛ لأن الزوايا بالغدوات والعشيات تكون منفرجة، وفي أنصاف النهار حادة، وفيما بين الوقتين قائمة، ويكون الجو متوسطا ما بين الحر والبرد، ولا تكون أنصاف نهار الشتاء شديدة الحر كما تكون أنصاف نهار الصيف؛ لأن ارتفاع الشمس في الشتاء لا يبلغ خمسا وأربعين درجة.
وإذ قد فرغنا من ذكر ما احتجنا إلى ذكره فإنا نقول: إن أكثر ما يكون سمك كرة النسيم ستة عشر ألف ذراع ارتفاعا في الهواء، وأقله ما يطابق سطح الأرض، ومن الدليل على أن أكثر ما يكون سمك كرة النسيم هذا المقدار هو أن أعلى جبل يوجد في الأرض لا يجاوز ارتفاع رأسه في الهواء هذا المقدار، وأن أعلى هذه الجبال لا يبلغ ارتفاع الغيوم رءوسها وإنما يمنعها شدة البرد المفرط هناك؛ لأن الرافع للغيوم في الهواء هي حرارة الجو من إسخان الكواكب له بمطارح شعاعاتها وانعكاس تلك الشعاعات من سطح الأرض والبحار على زوايا حادة كما بينا قبل، وأنه أحد ما يتكون الزوايا على سطح الأرض، فأما في الهواء فإنه كلما ارتفع فإن أضلاع تلك الزوايا تنفرج وتتسع وتقبل التسخين هناك ويضعف فعلها ويضمحل تأثيرها في العلو فيغلب البرد هناك.
واعلم يا أخي أن أول ما يقبل الهواء من التغييرات والاستحالات هو النور والظلمة والحر والبرد ثم ما يحدث فيه من اختلاف الرياح من كثرة البخارات المتصاعدة والدخانات الساطعة المطبقة وتتبعها الزوابع والهالات والضباب والغيوم والرعود والبروق والصواعق والهزات، ثم الأمطار والطل والندى والصقيع والثلوج والبرد وقوس قزح والشهب وكواكب الأذناب، وما يتبع هذه من هيجان البحار والمد والجزر في البحار والأنهار.
واعلم يا أخي أن هذه التغييرات التي تكون في الجو لما كان يحدث بعضها في سمك كرة النسيم وبعضها في سمك كرة الزمهرير وبعضها في سمك كرة الأثير وبعضها في السطوح المشتركة بينها تحتاج إلى تفصيلها واحدة واحدة، ونبدأ أولا بشرح حال السطوح. وذلك أن السطوح نوعان مشتركة ومتداخلة فالمشتركة مثل سطح الماء والهواء والسطح الذي بين الدهن والماء فإنه ليس بين الجسمين إلا فاصل مشترك يفصل أحدهما عن الآخر فصلا وهميا فقط، وأما السطح المتداخل فمثل سطح الماء الواقف في الطين والرمل فإن الأجزاء الأرضية متداخلة لأجزاء الماء، وأجزاء الماء متداخلة لأجزاء التراب، فلا يكون بينهما فاصل مشترك يفصل بينهما.
واعلم يا أخي أن من السطوح ما يقارب طبيعة الجسمين المتماسين، ومنها ما لا يقارب مثل سطح الهواء من أسفل مما يلي الهواء فإن تلك الأجزاء ألطف من سائر الأجزاء التي تلي أسفل مما يلي الأرض، وكذلك سطح الهواء المحيط بالنيران التي عندنا فإنه يكون أسخن من سائر أجزائه البعيدة عن النار، وكذلك سطح النار مما يلي الهواء المحيط به أقل حرارة من سائر أجزائه الباقية، وأما سطوح الأجسام الصلبة مثل الحديد والخشب والحجر وما شاكلها إذا تجاورت فلا يعرض لها هذا الوصف.
وإذ قد فرغنا من ذكر ما احتجنا إلى ذكره فإنا نقول إن سطح كرة الأثير الذي يلي فلك القمر مشترك غير متداخل الأجزاء، وكذلك سطوح أكر الأفلاك والكواكب كلها، وقد ظن كثير من الطبيعيين أن بين كرة الزمهرير والأثير سطحا متداخلا غير مشترك، وليس الأمر كما ظنوا؛ بل هو كما نبين بعد. فأما بين سطح كرة النسيم وبين كرة الزمهرير فنبين أنه غير مشترك؛ بل متداخل كسطح النار والهواء والأرض، وأما سطح كرة النسيم مما يلي الأرض فتبين أنه متداخل الأجزاء أيضا إلى عمق الأرض بحسب تخلخل الأجزاء الأرضية إلى نهاية ما، ثم يقف ولا يدخل إلى أكثر من ذلك، ومن الدليل على ذلك ما يعرض لحافري المعادن إلى أسفل، حتى إنهم ربما يحتاجون لترويح النسيم هناك بالمنافخ والأنابيب ليستنشقوا النسيم ويضيء سرجهم هناك، فمتى انقطع النسيم لعارض طفئت سرجهم واختنق من كان في المعادن فمات، ولا يمكن أن يكون في المواضع التي لا يخترقها النسيم حيوانات، كما بينا في رسالة الحيوان.
واعلم يا أخي أن الهواء بحر واقف لطيف الأجزاء خفيف الحركة سريع السيلان سهل القبول للتغييرات والحوادث، وقد بينا في رسالة الحاس والمحسوس كيفية قبوله للنور والظلمة والأصوات والروائح، وكيفية قبوله البرد والحر في رسالة الكون والفساد، ونريد أن نصف في هذا الفصل كيفية حدوث الرياح وكمية أنواعها وجهاتها واختلاف تصاريفها، وما العلة المحركة لها في وقت دون وقت وفي بلد دون بلد، ونبين أيضا كيفية سياقة الغيوم من البحار إلى البراري والقفار ورءوس الجبال، وكيف تهز السحاب حتى يهطل القطر، ولكن نحتاج قبل ذلك أن نذكر حالات القمر ومنازله واتصالاته بالكواكب التي هي الموجبة لإثارة البخارات والدخانات والتسخين الموجبة لكون الرياح فنقول: إن للقمر في الفلك ثمانية وعشرين منزلا كما ذكر الله تعالى: @QUR07 والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم.
واعلم يا أخي أن لهذه المنازل خواص يظهر تأثيرها في هذه الأركان الأربعة، وفي المكنونات عند نزوله يوما بيوم وليلة بليلة، وللشمس والكواكب أيضا اتصالات بالكواكب بعضها ببعض يقوي فعلها، وتأثيرها فيها يطول شرحه، وهي مذكورة في كتب النجوم، ولكن نذكر منها ما لا بد من ذكره في هذا الفصل، وذلك أن من تلك المنازل ما يقوى أفعاله في إثارة البخار من البحار والبطائح والآجام، ومنها ما يقوى أفعاله في إثارة الدخانات من وجه الأرض والبراري، ومنها ما يقوى فعله في تبريد الهواء وزيادة الماء، ومنها ما يقوى فعله في إسخان الهواء ونقصان المياه، وخاصة إذا اتفق نزول القمر بمنزل واتصاله بكوكب مشاكل فعله لخاصية المنزل.
واعلم أن الريح ليست شيئا سوى تموج الهواء بحركته إلى الجهات الست، كما أن أمواج البحر ليست شيئا سوى حركة الماء وتدافع أجزائه إلى الجهات الأربع، وذلك أن الماء والهواء بحران واقفان، غير أن أجزاء الماء غليظة ثقيلة الحركة، وأجزاء الهواء لطيفة خفيفة الحركة.
واعلم يا أخي أن أحد أسباب حركة الهواء هو أن صعود البخار من البحار والبراري والقفار أثار من البحار بخارا رطبا، ومن البراري والقفار دخانا يابسا أصعدتها بحرارتها في الهواء، فيدفع الهواء بعضه بعضا إلى الجهات، فيتسع المكان للبخارين الصاعدين، فإن كان الدخان اليابس أكثر كانت منه الرياح؛ لأن تلك الأجزاء إذا صعدت إلى أعلى كرة النسيم وبردت ومنعها برد الزمهرير عن الصعود إلى فوق عطفت عند ذلك راجعة إلى أسفل ودافعت الهواء إلى الجهات الأربع، فكانت منها الرياح المختلفة.
واعلم أن الرياح كثيرة التصاريف في الجهات الست، ولكن جملتها أربعة عشر نوعا، المعروف منها عند جمهور الناس أربع، وهي: الصبا والدبور والجنوب والشمال، وذلك أن الهواء إذا تموج من المشرق إلى المغرب يسمى ذلك التموج ريح الصبا، وإذا تموج من الجنوب إلى الشمال يسمى التيمن، وإذا تموج من المغرب إلى المشرق يسمى دبورا، وإذا تموج من الشمال إلى الجنوب يسمى الجربيا، فأما ما كان تدافعه إلى بين هذه الجهات فيسمى النكباء، وهذه ثمانية أنواع.
وأما التي تهب من أسفل إلى فوق، فمنها تكون الزوابع، وهما ريحان تلتقيان وتصعدان كما يلتقي الماء في الكرادات، وعند نزوله في البلاليع والثقب.
وأما التي تهب من فوق إلى أسفل فمنها الريح الصرصر التي أهلكت عادا، وذلك أنها نفخت عليهم غربي ديارهم من خلل الغيم من كرة الزمهرير التي فوق كرة النسيم ثمانية أيام ولياليها كما ذكر الله تعالى، وإذ ذكرنا ماهية الريح وكمية أنواعها وجهات هبوبها، فإنا نريد أن نذكر علة تصاريفها في الجهات، وما الغرض منها، وذلك أن أحد الأغراض من تصاريفها هو أن تسوق الغيم من سواحل البحار إلى البلدان البعيدة والبراري المقصودة بها، وأيضا فإن أحد الأغراض من الجبال الشامخة الطوال المسطوحة على بسيط الأرض شرقا وغربا وجنوبا وشمالا هو أن تمنع الرياح من سوق السحاب إلى غير البلدان والبراري المقصودة بها، وذلك أن هذه الجبال الراسيات تقوم لمنع الرياح أن تنصرف إلى كل الجهات، إلا الجهة المقصودة بها مقام المسنات والبريدات للأنهار والسواقي المانعة لها أن تفيض المياه، إلا إلى المزارع والمواضع المقصودة بها، وذلك أن كثيرا من البلدان والبراري بعيدة من سواحل البحر، ولو لم تكن هذه الجبال الطوال الشامخة المانعة للرياح السائقة للغيوم لما وصلت السحاب والأمطار إلى تلك البلدان والبراري، كما أن الأنهار والسواقي إذا لم تكن لها مسنات وبريدات فاضت إلى الآجام والغدران والبطائح حيث يقل الانتفاع بها فلا تبلغ إلى البلدان البعيدة إلا بأنهار تحفر وبريدات تعمل، ولهذه الجبال الشامخة غرض آخر: وذلك أن في أجوافها مغارات وأهوية واسعة، فإذا هطلت في الشتاء في رءوسها الأمطار والثلوج وذابت غاضت المياه في تلك المغارات والأهوية، وصارت فيها كالمخزونة، وفي أسفل تلك الجبال منافذ ضيقة تخرج منها المياه المخزونة في تلك المغارات والأهوية، وهي العيون، وتجري منها جداول وتجتمع بعضها إلى بعض وتسيل منها أودية وأنهار تجري بين المدن والقرى والسوادات فتسقي وهي راجعة إلى البحار والآجام والغدران في ممرها الزروع والأشجار ومواضع العشب والكلأ، وما يفضل منها ينصب إلى البحار والآجام والغدران وتلطفها الشمس وتصعدها بخارا من الرأس وتكون منها الغيوم والسحاب وتسوقها الرياح إلى المواضع المقصودة بها كما كان عام أول، وذلك دأبها أبدا، ذلك تقدير العزيز العليم.
فصل
فانظر يا أخي إلى هذه العناية الإلهية الكلية، والسياسة الربانية الحكمية، وتفكر فيها، واعتبرها، لعل نفسك تنتبه من نوم الغفلة، ورقدة الجهالة، وتنفتح لها عين البصيرة، فتنظر بنور العقل إلى هذا الصانع الحكيم المدبر لهذه الأمور، كما نظرت بعين الجسد إلى هذه المصنوعات التي نحن في ذكرها، فتكون من الشاهدين الذين مدحهم الله - تعالى - فقال: @QUR06 إلا من شهد بالحق وهم يعلمون وقال: @QUR08 وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ثم قال: @QUR018 شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم وإذ قد فرغنا من ذكر الرياح، فسنذكر الغيوم والأمطار والندى والجليد والضباب والطل والسحاب والرعود والبروق والبرد، إذ كانت موادها البخارات الصاعدة كما ذكرنا قبل.
واعلم يا أخي أنه إذا ارتفعت البخارات في الهواء، وتدافع الهواء إلى الجهات، ويكون تدافعه إلى جهة أكثر من جهة، ويكون من قدام له جبال شامخة مانعة، ومن فوق له برد الزمهرير مانع، ومن أسفل مادة البخارين متصلة، فلا يزال البخاران يكثران ويغلظان في الهواء، وتتداخل أجزاء البخارين بعضها في بعض، حيث يسخن ويكون منها سحاب مؤلف متراكم، وكلما ارتفع السحاب بردت أجزاء البخارين، وانضمت أجزاء البخار الرطب بعضها إلى بعض، وصار ما كان دخانا يابسا ريحا، وما كان بخارا رطبا ماء وأنداء، ثم تلتئم تلك الأجزاء المائية بعضها إلى بعض وتصير قطرا بردا وتثقل فتهوي راجعة من العلو إلى السفل، فتسمى حينئذ مطرا، فإن كان صعود ذلك البخار الرطب بالليل والهواء شديد البرد منع أن تصعد البخارات في الهواء، بل جمدها أولا فأولا، وقربها من وجه الأرض فيصير من ذلك ندى وصقيع وطل، وإن ارتفعت تلك البخارات في الهواء قليلا وعرض لها البرد صارت سحابا رقيقا، وإن كان البرد مفرطا جمد القطر الصغار في حلل الغيم فكان من ذلك الجليد أو الثلج، ذلك أن البرد يجمد الأجزاء المائية ويختلط بالأجزاء الهوائية فينزل بالرفق، فمن أجل ذلك لا يكون لها على وجه الأرض وقع شديد كما يكون للبرد والمطر، فإن كان الهواء دفيئا ارتفع البخار في العلو وتراكم السحاب طبقات بعضها فوق بعض، كما يرى في أيام الربيع والخريف كأنها جبال من قطن مندوف متراكمة بعضها فوق بعض، فإذا عرض لها برد الزمهرير من فوق غلظ البخار وصار ماء، وانضمت الأجزاء بعضها إلى بعض وصارت قطرا، وعرض لها الثقل أخذت تهوي من أعلى سمك السحاب، ثم تتراكم وتلتئم تلك القطر الصغار بعضها إلى بعض، حتى إذا خرجت من أسفلها صارت مطرا كبيرا، فإن عرض لها برد مفرط في طريقها جمدت وصارت بردا قبل أن تبلغ إلى الأرض، فما كان منها من أعلى السحاب هو الذي يصير بردا، وما كان من أسفل السحاب كان مطرا مختلطا مع البرد.
ومن أحب أن يعلم صدق قولنا، ويتصور كيفية وصفنا صعود البخارين، وكيفية تأليف السحاب منها، ونزول القطر فلينظر إلى تصعيدات المياه وتقطيرها، وكيف يعمل منها أصحابها مثل تصعيد ماء الورد والخل المصعد وما شاكلها، ومثل البخارات الصاعدة في بيوت الحمامات وكيفية تقطير الماء من سقوفها، وذلك أن سطح كرة الزمهرير الذي يلي كرة النسيم والجبال الشامخة حوالي البحار تقوم لمنع البخارين الصاعدين الذين يتكون منهما السحاب والأمطار أن يتبددا، ويتغشيا حيطان الحمامات وسقوفها لمنع البخار الصاعد فيها أن يتبدد ويتغشى، وأيضا فإنها تقوم مقام القرع والأنبيق في تصعيد رطوباتها وتقطيرها، وبمثل هذين يدبر أصحاب الصنعة عقاقيرهم في تصعيد رطوباتها وتقطير مياهها.
وأما البروق والرعود فإنهما يحدثان في وقت واحد، ولكن البرق يسبق إلى الأبصار قبل الصوت إلى المسامع؛ لأن أحدهما روحاني الصورة وهو الضوء، والآخر جسماني وهو الصوت، كما بيناه في رسالة الحاس والمحسوس، وأما علة حدوثهما فهي البخاران الصاعدان إذا اختلطا في الهواء والتف البخار الرطب على البخار اليابس، الذي هو الدخان، واحتوى برد الزمهرير على البخار الرطب وضغطهما، فانحصر البخار اليابس في جوف البخار الرطب، والتهب في جوف البخار الرطب وطلب الخروج دفعة، وانخرق البخار الرطب وتفرقع من حرارة الدخان اليابس كما تتفرقع الأشياء الرطبة إذا احتوت عليها النار دفعة واحدة، وحدث من ذلك قرع في الهواء واندفع إلى جميع الجهات، كما بينا في رسالة الحاس والمحسوس كيفية الصوت وانقدح من خروج ذلك البخار اليابس الدخاني ضوء يسمى البرق، كما يحدث من دخان السراج المطفأ إذا أدني من سراج مشتعل ثم ينطفئ، وربما يذوب ذلك البخار ويصير ريحا، ويدور في جوف السحاب ويطلب الخروج، فيسمع له دوي وتقرقر، كما تسمع من الجوف المنتفخ ريحا، وربما ينشق السحاب دفعة واحدة بشدة فيكون من ذلك صوت هائل يسمى صوت الصاعقة، كما يحدث من الزق المنفوخ إذا وقع عليه حجر ثقيل فيشقه.
فصل
واعلم يا أخي أنه لولا العناية الإلهية ورحمة الباري - جل جلاله - بأن جعل سمك كرة النسيم عاليا، ومركز السحاب مرتفعا بعيدا عن الأرض بمقدار الحاجة إليه، وجعل من شأن السحاب إذا انخرق أن يطلب البخار الصعود إلى فوق، وجعل من شأن قرع الهواء إذا حدث أن تكون حركته إلى فوق، لكانت أصوات الرعد أضرت بأسماع الحيوانات الضعيفة وقتلتها، كما يكون ذلك في بعض الأحايين؛ وذلك أن السحب إذا تراكمت وتكابست يضغط بعضها بعضا إلى أسفل حتى تقرب من الأرض وتحدث الرعود ويخرق السحاب من أسفل ويقرع الهواء ويندفع إلى وجه الأرض، فيكون من ذلك صوت هائل هو الصاعقة، فإنها تقتل كثيرا من الحيوانات القريبة منها، ومن الناس أيضا، كما فعل بقوم شعيب وصالح - عليهما السلام - وكذلك حكم البروق أيضا، وذلك أن من شأن النار أن تتحرك إلى فوق، فإذا منعها السحاب المتراكم رجعت منحطة إلى الأرض، فأحرقت ما أتت عليه من الحيوان والنبات، ولكن قل ما تحرق الأجسام الرخوة؛ لأنها نار لطيفة تنفذ في مسامها، وأما الأجسام الصلبة فلتكابس أجزائها وتمانعها تتغلب عليها وتذوبها وتحرقها، وأما الهالة التي تكون حول الشمس والقمر، فإنها تدل على المطر ورطوبة الهواء، وذلك أنها تحدث في أعلى سطح كرة النسيم وقت ما يرتفع البخار إلى هناك ويأخذ يتألف منه الغيم؛ وعلتها أن النيرين إذا أشرقتا على ذلك السطح انعكس شعاعها من هناك إلى فوق، وحدث من ذلك الانعكاس دائرة كما يحدث من إشراقها على سطح الماء، ويشف رسم تلك الدائرة من تحت ذلك الغيم الرقيق كما يشف من وراء البلور والزجاج، ويكون مركز تلك الدائرة مسامتا للبقعة التي يمر بها مسقط الحجر الخارج من مركز النيرين إلى مركز الأرض، فكل من كان من الناظرين ممن يمر ذلك النير على سمت رأسه سواء، فإنه يرى مركز تلك الدائرة من فوق رأسه، ومن كان خارجا من تحته إلى إحدى الجهات، فإنه يرى مركزها في الجهة المقابلة لموضعها، ويكون قطر هذه الدائرة أبدا مثل سمك كرة البخار مرتين، قل ذلك السمك أو كثر، وتقديرها أكثر ما يكون اثنين وثلاثين ألف ذراع؛ لأن سمك كرة النسيم أكثر ما يكون ستة عشر ألف ذراع كما بينا قبل.
وأما قوس قزح فإنه يحدث في سمك كرة النسيم عند ترطيب الهواء مشبعا، ولا يكون وضعه إلا منتصبا قائما، وحدبته إلى فوق مما يلي سطح كرة الزمهرير، وطرفاه إلى أسفل مما يلي وجه الأرض، ولا يكاد يحدث إلا في طرفي النهار في الجهة المقابلة لموضع الشمس مشرقا أو مغربا، ولا يرى منها إلا أقل من نصف محيط الدائرة، إلا أن تكون الشمس في الأفق سواء فإنها عند ذلك ترى في نصف محيط الدائرة سواء؛ لأن الخط الخارج من مركز جرم الشمس يمر مماسا يلي وجه الأرض ومركز هذه الدائرة، فيرى القوس قائما منتصبا مستويا، وإذا كانت الشمس مرتفعة فإنها ترى أقل من نصف محيط الدائرة كلما كان الارتفاع أكثر كان القوس أقل وأصغر؛ لأن القوس يكون مائلا منحطا إلى الجهة المقابلة لموضع الشمس.
واعلم يا أخي أن بين وتر هذا القوس وبين قطر دائرة الهالة التي تقدم ذكرها نسبة متساوية، وأما علة حدوث هذا القوس فهي أيضا إشراق الشمس على أجزاء ذلك البخار الرطب الواقف في الهواء وانعكاس شعاعها منه إلى ناحية الشمس، وأما أصباغه التي ترى فهي أربعة مطابقة للكيفيات الأربع، التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، ولخاصية الأربعة الأركان التي هي: النار والهواء والماء والأرض، ولفصول الزمان الأربعة وهي: الصيف والخريف والشتاء والربيع، ولمشابهة الأخلاط الأربعة وهي: الصفراء والسوداء والدم والبلغم، ولمشاكلة ألوان زهر النبات والشجر؛ لأن هذه القوس إذا حدثت وكانت أصباغها مشبعة تدل على ترطيب الهواء، وكثرة العشب والكلأ، وزكاء ثمر الشجر وحب الزرع، فيكون ظهورها ورؤيتها كالبشارة قدمتها الطبيعة للحيوان والناس منذرة بريف الزمان وخصبه.
وأما ما يقوله العامة وهو أن حمرتها تدل على إهراق الدماء في تلك السنة وصفرتها تدل على الأمراض، وزرقتها تدل على الجدب، وخضرتها تدل على الخصب، وعلى حسب كثرتها وقلتها تكون دلالتها، فإن هذا يكون دليلا عند الزاجر على أصله وفرعه، وقد بينا ذلك في رسالة الزجر والفراسة.
وأما ترتيب ألوانها فإن الحمرة أبدا تكون فوق الصفرة، والصفرة دونها، والزرقة دون الخضرة، فإن وجدت قوسا أخرى دونها ترتبت هذه الألوان في القوس السفلي عكس ذلك، وشرح العلة في ذلك يطول؛ لأنه لا يفهمه إلا المرتاضون بالأشكال الهندسية والأمور الطبيعية والنسب التأليفية.
وقد بينا فيما تقدم أن السحاب لا يرتفع من وجه الأرض في الجو أكثر من ستة عشر ألف ذراع، وأن أقربه ما كان مماسا لوجه الأرض، ولكن ذلك في الندرة في وقت من الأوقات، وبلد دون بلد؛ لأنه لو كان السحاب في كل وقت وفي كل بلد مارا مماسا لوجه الأرض لأضر ذلك بالحيوان والنبات، ولمنع الناس من التصرف كما يرى ذلك يوم الضباب، وفي البلدان القريبة من سواحل البحار مثل البصرة والأنطاكية وطبرستان لقربها من البحار يرى أغفل ما يكون الإنسان، حتى إذا جاء الطل والمطر والضباب مقدار ما يضيق الصدر، ويأخذ النفس، وتبتل الثياب والأمتعة، وأيضا لو كان السحاب كله قريبا من وجه الأرض لأضر الرعد والبرق بأبصار الحيوان وأسماعها، ولو كان بعيدا شديد الارتفاع في الهواء، بحيث لم يكن يرى لكانت الأمطار والثلوج تجيء مفاجأة، والناس والحيوان عنها غافلون غير مستعدين للتحرز منها، فكان يكون في ذلك ضرر عظيم عام.
فلا تنظر يا أخي إلى فعل الطبيعة وتفكر في هذه الحكمة الإلهية والعناية الربانية؟ كيف رفعت هذه الأشياء في الهواء بمقدار الحاجة إليها؟ فلا بعيد مفرط ولا قريب جدا، إذا كان في كلا الأمرين ضرر على الناس والحيوان والنبات.
فصل
فأما علة كثرة الأمطار في الشتاء وقلتها في الصيف؛ فهو لأن صعود البخارين متصل أبدا في العراق، وما يليه من الأقاليم الشمالية في الصيف أكثر منهما في الشتاء.
واعلم يا أخي أن لكل كائن تحت فلك القمر أربع علل لا يتكون شيء من الكائنات إلا بها كلها؛ إحداها: علة هيولانية، والأخرى: علة صورية، والأخرى: علة فاعلية، والأخرى: علة تمامية.
فأما العلة الهيولانية للسحاب والأمطار وما يتبعهما؛ فهما البخاران الصاعدان كما وصفنا قبل، العلة الفاعلية لها هي الشمس والكواكب بمطارح شعاعاتها كما تقدم ذكرها، والعلة الصورية عقد البخارين وجمودهما، والعلة الفاعلية لذلك برد الجو، والعلة التمامية تكون الأمطار؛ لكيما تبتل الأرض وينبت النبات، ويتغذى منه الحيوان.
ولما كانت الشمس تقضي ستة أشهر في البروج الشمالية وتقرب من سمت رأس هذه البلاد فيسخن جو الهواء إسخانا شديدا، فتتحرك البخارات وتتغشى وتدفعها الرياح الشمالية إلى ناحية الجنوب، وبما أن الشمس تكون بعيدة من سمت تلك البلاد يبرد الجو، ويكون الشتاء هناك والأمطار والغيوم وما يتبعهما من حوادث الجو.
فإذا صارت الشمس بعد ستة أشهر إلى البروج الجنوبية قريبة من سمت تلك البلاد وبعدت من البلاد الشمالية صار الشتاء ها هنا والصيف هناك، وذلك دأبها ودأب الشتاء والصيف والغيوم والأمطار وما يتبعها من الحوادث التي تقدم ذكرها، وكل هذه الحوادث تكون في سمك كرة النسيم دون كرة الزمهرير.
فصل
وأما الحوادث التي في سمك كرة الزمهرير فهي الشهب، وانقضاض الكواكب التي ترى في الليالي فربما كثر ذلك، وربما قل.
وأما هيولاها ومادتها فهو الدخان اليابس اللطيف الصاعد من الجبال والبراري، فإذا بلغت تلك المادة في صعودها إلى الفصل المشترك بين كرة الزمهرير وبين كرة الأثير استدارت هناك وتشكلت واشتعلت فيها نار الأثير كما يشتعل نار السراج في دخان السراج المنطفئ، وكما تشتعل نار البرق في الدخان اليابس الدهني الذي في السحاب، وكما تشتعل النار في النفط الأبيض ثم تفنيه بسرعة فينطفئ، ومما يدل على أن مادتها دخان يابس كثرة ما يرى منها في سني الجدب.
وأما كيفية تشكل هذه الدخانات إذا صعدت إلى هناك واشتعلت فيها النار، فإنها إذا اعتبرت بالفكر وجدت تارة كأنها أعمدة مخروطة قائمة قاعدتها مما يلي كرة النار، ومخروطها مما يلي وجه الأرض، ودليل ذلك أنه إذا اشتعلت النار فيها ترى عظيمة الاشتعال، ثم لا تزال تصغر وتنخرط وتقل حتى تنطفئ فيتخيل للناظرين أنها نار هوائية تنزل من السماء في حركتها.
وإذا اعتبرنا هذا المثال يظن أن بين كرة الزمهرير وكرة الأثير سطحا متداخل الأجزاء غير مشترك، وتارة ترى حركتها عند انقضاضها كأنها كرة صغيرة هو ذي متدحرج على سطح كرة كبيرة، وذلك أنا نراها أحيانا عند انقضاضها واشتعالها تبتدئ حركتها من المشرق، فتمر على سمت رءوسنا إلى المغرب وتارة من المغرب إلى المشرق، وتارة تبتدئ من الجنوب وتمر على سمت رءوسنا إلى الشمال وتارة من الشمال إلى الجنوب، وتارة تتنكب هذه الجهات، فيتخيل للناظرين كأنها كرة من قطن اشتعل فيها النار ثم رميت في الهواء، وكلما أكلتها النار تناثر شررها وصغرت حتى تفنى وتنطفئ، ومثالها الكرة التي يلعب بها أصحاب الخيالات بالليل، وذلك أنهم يتخذون كرة معجونة من سندروس وأجزاء عقاقير، ويشعلون فيها النار، ويأخذونها في أفواههم، فإذا رقصوا أو تنفسوا رئيت النار تخرج من أفواههم ومناخرهم، ولا يزال ذلك دأبهم حتى تفنى تلك المادة وتنطفئ تلك النار.
فصل
وقد يظن كثير من الناس أن انقضاض هذه الشهب هي كواكب تسقط ويرمى بها من السماء في الهواء إلى الأرض، ويستدلون على صحة ظنونهم الكاذبة بقوله تعالى: @QUR08 ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين.
وليس في هذه الآية دلالة على أن الكواكب هي ترمي بأنفسها؛ لأنك إذا قلت: اتخذت هذه القوس لأرمي بها العدو والكفار، فليس في قولك دلالة على أنك ترمي بنفس القوس، بل ترمي عنها بالنشاب، فهكذا قوله تعالى: @QUR03 وجعلناها رجوما للشياطين؛ أي يرمون عنها بالشهب؛ لأن هذه الشهب لا تحدث في الهواء إلا بإشراق هذه الكواكب وشعاعاتها في الهواء كما بينا من قبل، وقد فسرنا معنى هذه الآية وأخواتها في رسائل لنا.
واعلم أن أهل صناعة النجوم متفقون على أن هذه الكواكب الثابتة في الفلك الثامن هي من وراء فلك زحل الذي هو الكرسي الواسع كما بينا في رسالة السماء والعالم، وإنما ذكر الله - تعالى - أنها زينة السماء الدنيا؛ لأن أهل الأرض لا يرونها إلا دون فلك القمر الذي هو سماء الدنيا.
ومما يدل على أن هذه الشهب تحدث قريبة من الأرض بعيدة من فلك القمر سرعة حركتها، فإنها في لحظة تمر من المشرق إلى المغرب أو من المغرب إلى المشرق، فلو كانت قريبة من فلك القمر لما رأيت حركتها بهذه السرعة.
واعلم يا أخي أنها إذا حدث فمرت مقبلة على الناظرين، وجازت على سمت رءوسهم إلى الجانب الآخر ذاهبة إلى الأفق بسيرها على الرؤية يتخيل للناظرين أنها وقعت إلى الأرض، وليس الأمر كذلك؛ لأنها مادة خفيفة تطلب العلو، ولا يزيدها اشتعالها إلا خفة، فأما التي تقع منها إلى الأرض فهي التي تحدث في كرة النسيم فيضغطها السحاب ويردها إلى أسفل كنار البرق التي يضغطها السحاب من فوق إلى أسفل.
وأما علة استدارة تلك المادة فهي أن الأجسام السيالة من شأنها أن تتشكل ما لم يمنعها مانع أشكالا كروية، كما يستدير القطر في الهواء؛ لأن الشكل الكروي أفضل الأشكال كما بينا في رسالة الهندسة.
وأما علة حركتها إلى جهة دون جهة فبحسب الدافع لها من جهة المقابل، وليست هي الريح؛ لأنها أسرع حركة من الريح، وقد بينا علة حركتها في رسالة الحركات.
فانظر يا أخي وتفكر في هذه الحكمة الإلهية والعناية الربانية كيف جعلت ورتبت كرة الأثير دون فلك القمر، وجعلتها نارا بلا ضياء كيما تحترق بحرارتها الدخانات الغليظة الصاعدة في الهواء، وتلطف البخارات العفنة الكثيفة ليكون الجو أبدا صافيا شفافا ولم تجعل تلك النار مضيئة؛ لأنها لو كانت مضيئة كالنيران التي عندنا لمنعت أبصار الحيوان عن رؤية عالم الأفلاك والكواكب، وخاصة الإنسان؛ لأنه لما منع الكون هناك لم يمنع الرؤية والنظر إليه، لكيما تشتاق النفوس إلى الصعود نحوها هناك كما قال جل ثناؤه: @QUR07 إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه. يعني به روح المؤمنين، وقال في منع روح الكافر: @QUR014 لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، وقد جعلت الحكمة الإلهية أيضا الزمهرير حجابا بين كرة النسيم وبين كرة الأثير لتمنع ببردها وهج الأثير عن الحيوان والنبات أن يتلفها، ولتبرد البخار وتعقده غيوما ليكون أمطارا تحيا بها البلاد، وجعلت كرة النسيم معتدلة المزاج، ولما كان سببها انعكاس شعاعات الكواكب كما بينا قبل وأكثرها وأوكدها هي الشمس، جعلت تارة تغيب لبرد الجو وتارة تطلع لسخن الهواء، ولو دامت بطلوعها لدام الإسخان ولأفرط الحر، وكان ذلك فسادا كليا، وكذلك لو دام مغيبها لبرد الجو وجمدت المياه والرطوبات وهلك النبات والحيوان من البرد، وكذلك جعل لها أن تميل إلى ناحية الجنوب ليكون الصيف هناك والشتاء في الشمال: @QUR04 ذلك تقدير العزيز العليم، وهذه من عظيم نعم الله على خلقه، وذلك معنى قوله تعالى: @QUR017 قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء ... الآية. قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون، ومن رحمته أن جعل لكم الليل والنهار، إلى قوله: @QUR02 ولعلكم تشكرون.
وعلى هذا القياس لو دام الشتاء والصيف لكان بوارا وفسادا للنظام، وكذلك إذا دام مدارها على سمت واحد، قال الله تعالى: @QUR05 والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، تارة غاربة وتارة طالعة وتارة مائلة إلى الشمال وتارة مائلة إلى الجنوب وتارة مرتفعة في الأوج، وتارة منحطة إلى الحضيض، وتارة فوق الأرض، وتارة تحتها، وتارة موازية للبروج النارية، وتارة للترابية، وتارة للهوائية، وتارة للمائية، وتارة للبروج المتقلبة، وتارة في الثابتة، وتارة في ذوات الأجساد، وتارة مجتمعة، وتارة متفرقة، وتارة ناظرة ينظر بعضها إلى بعض، وتارة ساقطة، وتارة منفصلة، وتارة منصرفة، وتارة كالواقفة، وتارة راجعة، وتارة مستقيمة، وتارة شرقية، وتارة غربية، وتارة محترقة بنورها، وتارة في بيوتها، وتارة في غربة، وتارة في الشرف، وتارة في الهبوط.
هذه كلها من أوصافها وأحوالها لأغراض موصوفة وآجال معدودة لا يعلمها إلا هو: @QUR06 ما خلق الله ذلك إلا بالحق، ولا يحيط أهل صناعة النجوم والخلق أجمع بشيء من علمه إلا بما شاء، وسع كرسيه السموات والأرض، وقد ذكرنا طرفا من هذا العلم في رسالة الأدوار شبه النموذج والإشارة، فانظر فيها وتفكر فيما ذكرنا؛ لعل نفسك تنتبه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، فتحيا حياة العلماء، وتعيش عيش السعداء مع الأبرار في دار القرار منعمة ملذذة فرحانة مسرورة أبد الآبدين، ولا تكن من الغافلين في أسفل السافلين في عالم الكون والفساد، واستعد للرحيل قبل انقطاع المدة، وتزود؛ فإن خير الزاد التقوى.
فصل
وأما الكواكب ذوات الأذناب التي تظهر في بعض الأحايين قبل طلوع الشمس أو بعد غروبها، فإنها لا تحدث إلا في كرة الأثير قريبا من فلك القمر، والدليل على ذلك دورانها مع فلك القمر، تارة بالتقدم على توالي البروج كمسير الكواكب السيارة، وتارة بالتأخر كرجوعها.
وأما مادتها التي تتكون منها فهي دخان وبخار لطيفان يصعدان إلى هناك فينعقدان بقوة زحل وعطارد، وتكون شفافة كشف البلور، إذا أشرقت عليها الشمس شفت من الجانب الآخر، فلا تزال تدور مع الفلك، وتطلع وتغيب إلى أن تضمحل وتتلاشى، وكل هذه الحوادث التي ترى في ضوء الهواء إما بشارات من الله - تعالى - بالرخص والخصب والسلامة للناس والحيوان والصلاح، وإما إنذارات وتخويفات من الحدثان والجدب والقحط والغلاء والزلازل والوباء والموت والخسوف والحروب والفتن؛ وذلك ليجعل العباد المكلفين يعتبرون بها، ويرتدعون عن معصية الله، وينقادون إلى طاعة الله، ويظهرون الدعاء والتضرع والتوبة والندم والتطوع بالصوم والصلاة والصدقة والقرابين في الهياكل والمساجد والبيع والصلاة؛ ليكون ذلك تلقينا من الآباء للأولاد، ومن العلماء للجهال وتنبيها للغافلين عن معرفة الله - عز وجل - وهداية لهم كما قال الله تعالى: @QUR06 ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون.
فانظر يا أخي وتفكر في ملكوت السموات والأرض، وما في الآفاق والأنفس من الآيات وقل: @QUR09 ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار، واشهد معهم كما ذكر الله - تعالى - فقال: @QUR012 شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط، ولا تكن من الذين يمرون عليها وهم عن آياتها معرضون غافلون، وهم الذين قال الله فيهم: @QUR013 ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا، وقال تعالى: @QUR06 صم بكم عمي فهم لا يعقلون. أعاذك الله وإيانا من هذه الجهالة والعمى، ووفقنا لما هو أرشد وأهدى برحمته، إنه قريب مجيب.
(تمت رسالة الآثار العلوية، وهي الرسالة الرابعة في الطبيعيات والسابعة عشرة من رسائل إخوان الصفا، وتتلوها رسالة تكوين المعادن.)
الرسالة الخامسة من الجسمانيات الطبيعيات في بيان تكوين المعادن
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
(1) فصل
واعلم أيها الأخ البار الرحيم - أيدك الله وإيانا بروح منه - أنا قد بينا في رسالة الآراء والمذاهب بأن العالم محدث مبدع مخترع كائن بعد أن لم يكن، وأن مبدعه ومخترعه ومحدثه وخالقه ومصوره هو الباري - جل جلاله - أبدعه كما شاء وكيف شاء بقوله تعالى: @QUR01 كن فكان، كما بينا في رسالة المبادئ العقلية، فنزيد أن نذكر في هذه الرسالة طرفا من الحوادث والكائنات التي تتكون وتفسد تحت فلك القمر بطول الأزمان والدهور والأدوار، كما بينا أيضا كيفية فناء العالم وكيفية نشء الآخرة والحشر والحساب والميزان والجواز على الصراط والنجاة من النيران والوصول إلى الجنان، وكيفية مجاورة الرحمن في رسالة البعث والقيامة؛ إذ قد تبين ببراهين منطقية ودلائل عقلية بأن عالم الأفلاك وجواهر أشخاصها لا تمتزج بعضها ببعض ، ولا تختلط أجزاؤها، ولا يتكون منها شيء غيرها، بل هي باقية بما هي عليه الآن بطول الأزمان والدهور، وأنها أيضا لا تتغير ولا تفسد ولا تستحيل ما دامت لها هذه الحركة الدورية والأشكال الكروية، إلا أن يشاء باريها ومبدعها وخالقها أن يبطلها دفعة واحدة أو على التدريج أو يوقفها عن الدوران وهو أهون عليه: @QUR09 وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم.
واعلم أن وقوف الأفلاك عن الدوران هو موت العالم وبطلان حياة الكل ومفارقة النفس الكلية الفلكية عن الأجسام كلها دفعة واحدة، وتلك هي القيامة الكبرى والبوار الكلي وبطلان الجملة؛ لأن موت كل شخص من أشخاص الحيوانات هو مفارقة نفسه جسده، وهي قيامته كما قال رسول الله - صلى الله عليه وآله: «من مات فقد قامت قيامته.» وقد بينا في رسالة لنا أن العالم إنسان كبير ذو جسم ونفس وحياة وعلم، فاعرف حقيقة ما ذكرناه من هناك.
ثم اعلم يا أخي أن استحالة الكائنات الفاسدات التي تحت فلك القمر هي خمسة أنواع، فمنها: استحالة الأركان الأربعة بعضها إلى بعض، كما بينا طرفا من كيفية ذلك في رسالة الكون والفساد، ومنها حوادث الجو وتغييرات الهواء، كما بينا طرفا منها في رسالة الآثار العلوية، ومنها استحالة الكائنات الفاسدات التي تتكون وتنعقد في باطن الأرض وعمق البحار وجوف الجبال، وهي الجواهر المعدنية كما سنبين طرفا من كيفيتها في هذه الرسالة، ومنها استحالة النبات والأشجار، وهو كل جسم يتغذى وينمو كما بينا طرفا منها في رسالة النبات، ومنها استحالة الحيوان، وهو كل جسم متحرك حساس كما بينا طرفا منها في رسالة الحيوانات بعد ذكر النبات.
واعلم أن هذه الأشياء التي ذكرنا أنها تتكون وتحدث وتتغير وتفسد بطول الزمان والدهور وتناوب الليل والنهار وتعاقب الشتاء والصيف على الأركان الأربعة التي هي الأرض والماء والهواء والنار، إنما يكون باختلاف أحوالها بحسب موجبات أحكام النجوم في القرانات والألوف والأدوار، وبحسب أشكال الفلك ومسيرات الكواكب ومطارح شعاعاتها من الأوتاد والآفاق، ونريد أن نبين كيفية تكوين المعادن وأسرار اختلاف جواهرها وأنواعها وخواصها ومنافعها ومضارها.
وإذ قد فرغنا من ذكر أدوار الأفلاك وحركات الكواكب وقرانها في السنين والدهور، وكم هي، وكيف هي، وكيف يكون ذلك في رسالة لنا، فاعلم أن لكل كائن وحادث تحت فلك القمر أربع علل: علة فاعلية، وعلة هيولانية، وعلة صورية، وعلة تمامية.
فالعلة الفاعلية للجواهر المعدنية بإذن باريها - جل جلاله - هي الطبيعة، وقد بينا ماهية الطبيعة وكيفية أفعالها في رسالة لنا.
وأما العلة الهيولانية للجواهر المعدنية فهي الزئبق والكبريت كما سنبين في هذه الرسالة.
والعلة الصورية: هي دوران الأفلاك وحركات الكواكب حول الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض.
وأما العلة التمامية: فهي المنافع التي ينالها الإنسان والحيوانات جميعا من هذه الجواهر المعدنية بإذن الله جل جلاله.
فصل
اعلم يا أخي أن الجواهر المعدنية مختلفة في طباعها وطعومها وألوانها وروائحها، كل ذلك بحسب اختلاف ترب بقاع معادنها ومياهها، وتغييرات أهويتها؛ وذلك أن كرة الأرض بجملتها وجميع أجزائها، عمقها وظاهرها وباطنها طبقات ساف فوق ساف متلبدة منعقدة مختلفة التركيب والخلقة؛ فمنها صخور وجبال صلبة وأحجار وجلامد صلدة وحصاة ملس ورمال جريشة وطين رخو وتراب لين وسباخ وشورج بعضها مختلط ببعض أو متجاورة كما وصفها الله - تعالى - بقوله: @QUR04 وفي الأرض قطع متجاورات، وهي مختلفة الألوان والطعوم والروائح، فمن ترابها وطينها وأحجارها حمر وبيض وسود وخضر وزرق وصفر، كما ذكر الله - تعالى - بقوله: @QUR09 ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، ومن ترابها وطينها ما هو عذب مذاقه ومر طعمه أو مالح أو عفص أو حامض أو حلو، ومنه ما هو طيب شمه ومنتن رائحته، فإن الأرض بجملتها كثيرة التخلخل والثقب والتجاويف والعروق والجداول والأنهار داخلها وخارجها كثيرة الأهوية والمغارات والكهوف، وكل هذه مملوءة من المياه والبخارات، وتكون طعوم تلك المياه وروائحها وغلظها ولطافتها وثقلها وخفتها بحسب تربة بقاعها وطين مكانها وأجوافها وقرارات مستنقعاتها.
فصل
واعلم بأن الجواهر المعدنية ثلاثة أنواع؛ فمنها ما يتكون في التراب والطين والأرض السبخة، ويتم نضجه في السنة أو أقل منها كالكبريت والأملاح والشبوب والزاجات وما شاكلها، ومنها ما يتكون في قعر البحار وقرار المياه ولا يتم نضجه إلا في سنة أو أكثر منها كالدر والمرجان، فإن أحدهما نباتي وهو المرجان، والآخر حيواني وهو الدر، ومنها ما يتكون في كهوف الجبال وجوف الأحجار وخلل الرمال، ولا يتم نضجه إلا في سنين كالذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص وما شاكلها، ومنها ما لا يتم نضجه إلا في عدد سنين كالياقوت والزبرجد والعقيق وما شاكلها، ونريد أن نبين ونصف طرقا من كيفية تكوين كل نوع من هذه ليكون دلالة على سائرها، ولكن نحتاج قبل وصفنا هذه الأشياء أن نذكر صورة الأرض وكيفية قسمة أرباعها وصفات تلك الأرباع كيف تتغير أحوالها، وكيف تتبدل صفاتها في الدهور والأزمان الطوال فنقول: إن الأرض بجميع ما عليها من البحار والجبال والبراري والأنهار والعمران والخراب هي كرة واحدة معلقة في الهواء في مركز العالم بإذن الله - جل جلاله - كما بينا في رسالة الجغرافيا، فنقول إن الأرض بجملتها نصفان؛ نصف شمالي ونصف جنوبي، وظاهر كل قسم منها ينقسم إلى نصفين؛ فتكون جملته أربعة أرباع، كل ربع منها موصوف بأربعة أنواع، فمنها مواضع براري وقفار وفلوات وخراب، ومنها مواضع البحار والأنهار والآجام والغدران، ومنها مواضع الجبال والتلال والارتفاع والانخفاض، ومنها مواضع المراعي والقرى والمدن والعمران.
واعلم يا أخي أن هذه المواضع تتغير وتتبدل على طول الدهور والأزمان، وتصير مواضع الجبال براري وفلوات، وتصير مواضع البراري بحارا وغدرانا وأنهارا، ويصير مواضع البحار جبالا وتلالا وسباخا وآجاما ورمالا، وتصير مواضع العمران خرابا، ومواضع الخراب عمرانا، فوجب أن نذكر طرفا من هذه الأوصاف؛ إذ كان هذا الفن من العلوم الغريبة البعيدة عن أفكار كثير من أهل العلم المرتاضين فضلا عن غيرهم.
واعلم بأن في كل ثلاثة آلاف سنة تنتقل الكواكب الثابتة وأوجات الكواكب السيارة وجو زهرانها في البروج ودرجاتها، وفي كل تسعة آلاف سنة تنتقل إلى ربع من أرباع الفلك، وفي كل ستة وثلاثين ألف سنة تدور في البروج الاثني عشر دورة واحدة، فبهذا السبب تختلف مسامتات الكواكب ومطارح شعاعاتها على بقاع الأرض وأهوية البلاد، ويختلف تعاقب الليل والنهار والشتاء والصيف عليها، إما باعتدال واستواء أو بزيادة ونقص وإفراط من الحرارات والبرودات واعتدال منهما، وتكون هذه أسبابا وعللا لاختلاف أحوال الأرباع من الأرض وتغييرات أهوية البلاد والبقاع وتبديلها بالصفات من حال إلى حال.
ويعرف حقيقة ما قلنا الناظرون في علم المجسطي وعلوم الطبيعيات، فتصير بهذه العلل والأسباب مواضع العمران خرابا، ومواضع الخراب عمرانا، ومواضع البراري بحارا، ومواضع البحار براري وجبالا، ويعرف حقيقة ما قلناه وصحة ما ذكرناه الناظرون في علم الطبيعيات والإلهيات، الباحثون عن علل الكائنات الفاسدات التي تحت مقعد فلك القمر وكيفية تغييراتها، ولكن نريد أن نصف طرفا من كيفية تكوين الجبال في البحار، وكيف يصير الطين اللين أحجارا، وكيف تنكسر الأحجار فتصير منها حصى ورملا، وكيف تحملها سيول الأمطار إلى البحار في جريان الأودية والأنهار، وكيف ينعقد من ذلك الطين والرمال في قعور البحار حجارة وجبالا.
واعلم يا أخي أن البحار هي كالمستنقعات على وجه الأرض، فإن الجبال منها كالمسنات والبريدات لها، لتفصل البحار بعضها عن بعض، ولئلا يكون وجه الأرض كله مغطى بالماء، وذلك أنه لو لم تكن الجبال على وجه الأرض وكان وجهها مستديرا ملسا لكانت مياه البحار تنبسط على وجهها، وتغطيها من جميع جهاتها، وتحيط بها كإحاطة كرة الهواء بالأرض كلها، وكان وجه الأرض كله بحرا واحدا، ولكن العناية الإلهية والحكمة الربانية قد قضت أن يكون وجه الأرض بعضه مكشوفا ليكون مسكنا لحيوان البر، وبعضه لمنابت العشب والأشجار والزروع، إذ كانت هذه غذاء الحيوانات ومادة لأجسادها: @QUR04 ذلك تقدير العزيز العليم.
واعلم يا أخي أن الأودية والأنهار كلها تبتدئ من الجبال والتلال وتمر في مسيلها وجريانها نحو البحار والآجام والغدران، وأن الجبال من شدة إشراق الشمس والقمر والكواكب عليها بطول الأزمان والدهور، تنشف رطوباتها وتزداد جفافا ويبسا، وتنقطع وتنكسر، وخاصة عند انقضاض الصواعق، وتصير أحجارا وصخورا أو حصى ورمالا، ثم إن الأمطار والسيول تحط تلك الصخور والرمال إلى بطون الأودية والأنهار، ويحمل ذلك شدة جريانها إلى البحار والغدران والآجام، وإن البحار لشدة أمواجها وشدة اضطرابها وفورانها تبسط تلك الرمال والطين والحصى في قعرها سافا على ساف بطول الزمان والدهور، ويتلبد بعضها فوق بعض، وينعقد وينبت في قعور البحار جبالا وتلالا، كما تتلبد من هبوب الرياح دعاص الرمال في البراري والقفار.
واعلم يا أخي أنه كلما انطمت قعور البحار من هذه الجبال والتلال التي ذكرنا أنها تنبت، فإن الماء يرتفع ويطلب الاتساع وينبسط على سواحلها نحو البراري والقفار، ويغطيها الماء، فلا يزال ذلك دأبه بطول الزمان حتى تصير مواضع البراري بحارا ومواضع البحار يبسا وقفارا، وهكذا لا تزال الجبال تنكسر وتصير أحجارا وحصى ورمالا تحطها سيول الأمطار، وتحملها إلى الأودية والأنهار بجريانها حتى البحار، وتنعقد هناك كما وصفنا، وتنخفض الجبال الشامخة وتنقص وتقصر حتى تستوي مع وجه الأرض، وهكذا لا يزال ذلك الطين والرمال تنبسط في قعر البحار وتتلبد وتنبت عنها التلال والروابي والجبال، وينصب من ذلك المكان الماء حتى تظهر تلك الجبال وتنكشف هذه التلال، وتصير جزائر وبراري، ويصير ما يبقى من الماء في وهادها وقعورها بحيرات أو آجاما أو غدرانا، وينبت فيها القصب والوحال، فلا تزول السيول تحمل إلى هناك الطين والرمال والوحول حتى تجف تلك المواضع، وتنبت هناك الأشجار والعكرش والعشب، وتصير مواضع للسباع والوحوش، ثم يقصدها الناس لطلب المنافع والمرافق من الحطب والصيد وغيرها، وتصير مواضع الزروع والغروس والنبات بلدانا وقرى ومدنا يسكنها الناس.
واعلم يا أخي أن هذه البحار التي ذكرنا أنها كالمستنقعات على وجه الأرض وبينها جبال شامخة، وهي كالمسنيات لها، وهي متصلة بعضها ببعض، إما بخلجان بينها على ظاهر الأرض، وإما بمنافذ لها وعروق في باطن الأرض، وإن في وسط هذه البحار جزائر كثيرة صغارا وكبارا وأنهارا، ومنها عامرة بالناس فيها مزارع وقرى ومدن وممالك، ومنها براري وقفار فيها جبال وآجام تسكنها سباع ووحوش وأنعام وأنواع من الحيوانات لا يعلم كثرتها إلا الله، وفي وسط تلك الجزائر بحيرات صغار وكبار، وأنهار وغدران وآجام، ومنها ما مياهها عذبة ومنها مالحة شديدة الملوحة، ومنها دون ذلك مختلفة أحوالها وأوصافها، فلنذكر طرفا من عللها ليعلم حقيقة ما قلنا وصحة ما وصفنا.
أما علة هيجان البحار وارتفاع مياهها وبروزها على سواحلها وشدة تلاطم أمواجها وهبوب الرياح في وقت هيجانها إلى الجهات الخمس في أوقات مختلفة من الشتاء والصيف والربيع والخريف، أوائل الشهور وأواخرها، وساعات الليل والنهار، فهي من أجل أن مياهها إذا حميت في قرارها، وسخنت لطفت وتحللت وطلبت مكانا أوسع مما كانت فيه قبل، فيتدافع فيه بعض أجزائها إلى الجهات الخمس فوقا وشرقا وجنوبا وشمالا وغربا للاتساع، فيكون في الوقت الواحد على سواحلها رياح مختلفة في جهات مختلفة، وأما علة هيجانها في وقت دون وقت فهو بحسب شكل الفلك ومطارح شعاعاته على سطوح تلك البحار من الآفاق والأوتاد الأربعة واتصالات القمر بها عند حلوله في منازله الثمانية والعشرين، كما هو مذكور في كتب أحكام النجوم، وأما علة مدود بعض البحار في وقت طلوعات القمر ومغيبه دون غيرها من البحار فهي من أجل أن تلك البحار في قرارها صخور صلبة، فإذا أشرق القمر على سطح ذلك البحر وصلت مطارح شعاعاته إلى تلك الصخور والأحجار التي في قرارها، ثم انعكست من هناك راجعة فسخنت تلك المياه وحميت ولطفت وطلبت مكانا أوسع وارتفعت إلى فوق ودفع بعضها بعضا إلى فوق، وتموجت إلى سواحله وفاضت على سطوحها، وأرجعت مياه تلك الأنهار التي كانت تنصب إليها إلى خلف، فلا يزال ذلك دأبها ما دام القمر مرتفعا إلى وتد سمائه، فإذا انتهى إلى هناك وأخذ ينحط سكن عند ذلك غليان تلك المياه، وبردت وانضمت تلك الأجزاء، وغلظت ورجعت إلى قرارها وجرت الأنهار على عاداتها، فلا يزال ذلك دأبها إلى أن يبلغ القمر إلى أفق تلك البحار الغربي منها، ثم يبتدئ المد على مثل عادته، وهو في الأفق الشرقي، ولا يزال ذلك دأبه حتى يبلغ القمر إلى وتد الأرض، فينتهي المد من الرأس، ثم إذا زال القمر من وتد الأرض أخذ المد راجعا إلى أن يبلغ القمر إلى أفقه الشرقي من الرأس و@QUR04 ذلك تقدير العزيز العليم، فإن قيل: لم لا يكون المد والجزر عند طلوع الشمس وإشراقها على سطوح هذه البحار؟ فقد بينا علة ذلك في رسالة العلل والمعلول، فاطلبها من هناك إن شاء الله تعالى.
وأما علة اختلاف تصاريف الرياح من الجهات الست في أوقات الليل والنهار والشتاء والصيف، فقد ذكرناها في رسالة الآثار العلوية.
وأما الجبال التي ذكرناها بأنها كالمسنيات للبحار والبريدات لها، فهي راسية في الأرض أصولها، شامخة في الجو رءوسها، شاهق في الهواء ارتفاعها ممتد على وجه الأرض بأطوال ما بين مائتي فرسخ إلى ألف، فمنها ما هو من المشرق إلى المغرب، ومنها ما هو من الشمال إلى الجنوب، ومنها ما هو نكباوات بين هذه الجهات، مذكورة في جغرافيا بعض أوصافها.
واعلم أن الجبال التي ذكرناها منها ما هو صخور صلدة وحجارة صلبة وصفوان أملس، فلا ينبت عليه النبات إلا شيء يسير، مثل جبال تهامة، ومنها ما هي صخور رخوة وطين لين وتراب ورمل وحصاة مختلقة متلبدة ساف فوق ساف، متماسك الأجزاء وهي مع ذلك كثيرة الكهوف والمغارات والأودية والأهوية والعيون والجداول والأنهار والأشجار، كثيرة النباتات والحشائش والأشجار مثل جبال فلسطين، وجبال لكام، وطبرستان، وغيرها، وأما الكهوف والمغارات والأهوية التي في جوف الأرض والجبال إذا لم يكن لها منافذ تخرج منها المياه بقيت تلك المياه هناك محبوسة زمانا، وإذا حمي باطن الأرض وجوف تلك الجبال سخنت تلك المياه ولطفت وتحللت وخرجت وصارت بخارا، وارتفعت وطلبت مكانا أوسع، فإن كانت الأرض كثيرة التخلخل تحللت وخرجت تلك البخارات من تلك المنافذ، وإن كان ظاهر الأرض شديد التكاثف حصيفا منعها من الخروج، وبقيت محتبسة تتموج في تلك الأهوية لطلب الخروج، وربما انشقت الأرض في موضع منها، وخرجت تلك الرياح مفاجأة، وانخسف مكانها، ويسمع لها دوي وهدة وزلزلة، وإن لم تجد لها مخرجا بقيت هناك محتبسة وتدوم تلك الزلزلة إلى أن يبرد جو تلك المغارات والأهوية، ويغلظ، ومتى تكاثفت تلك البخارات واجتمعت أجزاؤها وصارت ماء خرت راجعة إلى قرار تلك الكهوف والمغارات والأهوية ومكثت زمانا، وكلما طال وقوفها ازدادت صفاء وغلظا حتى تصير زئبقا رجراجا وتختلط بتربة تلك المعادن وتتحد بحرارة المعدن دائما في إنضاجها وطبخها، فتكون منها ضروب من الجواهر المعدنية المختلفة الطبائع كما سنبين.
وأما علة اختلاف مياه العيون والينابيع التي في جوف الأرض وكهوف الجبال من العذوبة والملوحة والحموضة والعفوصة الكبريتية منها والنفطية والدهنية، وعلة حرارتها في الشتاء وبردها في الصيف، وما كان على حالة واحدة في جميع الأوقات، فهي بحسب اختلاف ترب بقاعها وتغييرات أهوية مكانها والعوارض التي تعرض لها، ونحتاج إلى أن نذكر طرفا من عللها ليكون قياسا على البقية الباقية فنقول: أما علة حرارة مياه أكثر العيون في الشتاء وبردها في الصيف فهي من أجل كون الحرارة والبرودة ضدان لا يجتمعان في مكان واحد، فإذا جاء الشتاء وبرد الجو، فرت الحرارة فاستجنت باطن الأرض، فسخنت تلك المياه التي في باطنها وعمقها، فإذا جاء الصيف وحمي الجو فرت البرودة واستجنت في باطن الأرض، وبردت تلك المياه التي في باطنها وعمقها، وأما علة حرارة بعض العيون في الشتاء والصيف على حالة واحدة، فهي أن في باطن الأرض وكهوف الجبال مواضع، تربتها كبريتية فتصير تلك الرطوبات التي تنصب هناك دهنية، وتكون الحرارة فيها راسية دائمة بينها أو فوقها مياه في جداول وعروق نافذة، فتسخن تلك المياه بمرورها هناك وجوازها عليها، ثم تخرج وتجري على وجه الأرض وهي حارة حامية، فإذا أصابها نسيم الهواء وبرد الجو بردت، وربما جمدت، إذا كانت غليظة، وانعقدت وصارت زئبقا، أو رصاصا أو قيرا أو نفطا أو ملحا أو كبريتا، أو بورقا، أو شيئا، أو ما شاكل ذلك بحسب اختلاف ترب البقاع وتغييرات الأهوية، وأما علة ملوحة مياه عامة البحار، فهي بعناية من الباري - جل ثناؤه - وحكمة إلهية لما فيه من الصلاح الكلي والنفع العام؛ وذلك أن البخارات المتصاعدة منها في الجو، إذا اختلطت أجزاؤها مع الهواء وتموجت إلى الجهات دبغتها وملحتها ومنعتها من العفن والتغيير والفساد، فلولا ذلك لهلكت الحيوان المستنشقة للهواء دفعة واحدة، وهكذا أيضا تمتنع ملوحة مياه البحار من أن تأسن أو تتغير فيكون ذلك هلاك حيوان البحر جملة واحدة، ولهذه العلة أيضا شدة أمواج البحار في أكثر الأوقات يختلط أعلاها بأسفلها وأسفلها بأعلاها، لئلا تغلظ بطول الوقوف غلظا شديدا أو تجمد فتكون أرضا كلها، ولهذه العلة أيضا إشراق الشمس والكواكب عليها وتسخينها لها، ومنعها من أن تغلظ وتجمد، وكذلك تفعل بالهواء والجو أيضا؛ وذلك أنه لولا مطارح شعاعات الكواكب بالليل لجمد الهواء في المواضع التي لا يطلع عليها الشمس والقمر زمانا، كالتي تحت قطب الشمال والجنوب جميعا، وأما عفوصة مياه بعض العيون فلأنها تجري إليها من مواضع تربها زاجية، وهكذا حكم ما كان طعمه كبريتيا أو نفطيا.
واعلم أن في بعض المواضع يرى من بعيد على رءوس الجبال وبطون الأودية نيران وضياء بالليل والنهار ودخان معتكر ساطع في الهواء ومرتفع في الجو، وعلته أن في جوف الجبال كهوفا ومغارات وأهوية حارة ملتهبة تجري إليها مياه كبريتية أو نفطية دهنية، فتكون مادة لها دائمة، وهي مثل التي بجزيرة صقلية وبجبل مزمهر من خوزستان، وفي بعض المواضع جبال تهب عليها رياح لينة دائما، وجبال تهب عليها رياح باردة في أوقات مختلفة، وهي الجبال التي تكون عليها الثلوج عند ذوبانها، وذلك أنه يتحلل من تلك الرطوبات أجزاء لطيفة تصير بخارا، وترتفع في الهواء فيدفعها إلى الجهات الخمس أو إلى جهة دون جهة مثل ما يهب من جبل الثلج الذي بدمشق، والذي ببلاد داور من جبال غور وجبل دوماند وما شاكلها من الجبال.
فأما الجبال التي تهب منها رياح لينة في دائم الأوقات، فمثل التي ببلاد باميان، وذلك أن هذا الجبل تخرج من أسفله عيون كثيرة وحوله مروج كثيرة، وتجري إلى تلك المروج أنهار وجداول من غير أن ترى عليه ثلوج وأمطار، بل تهب منها أبدا أرياح لينة، فهذا دليل على أن في جوف هذا الجبل مغارات وكهوفا وأهوية باردة مفرطة البرد، تجمد الهواء فيصير ماء ، ثم ينصب إلى أسفله وينزل من مسام ضيقة تجري منها تلك العيون والجداول إلى تلك المروج والبراري والقرى، وبها ينتفع الناس وسائر الحيوان من الوحوش والسباع والأنعام والطير الذي هناك؛ إذ كان هذا الجبل بعيدا من البحار، ولعل الغيوم قل ما تصل إلى هناك لطول المسافة، وإذا تأملت الذي ذكرناه تبينت عناية الباري - جل جلاله - بتقدير خلقه وحسن سياسته لهم، وشفقته عليهم، وكثرة ما أزاح من العلل في مرافقهم وجر المنافع إليهم من كل الوجوه الممكنة من الهيولى المتأني فيها أفعاله.
فصل
واعلم أن الأودية والأنهار أكثرها تبتدئ من الجبال والتلال، وتمر في جريانها نحو البحار والآجام والغدران والبطائح والبحيرات، فمنها ما هو أنهار طوال جريانها من المشرق إلى المغرب كنهر مأوند من سجستان، فإنه يبتدئ من جبال باميان وجبال غور، ويمر نحو المغرب إلى تربة كرمان ثم إلى بحر هرمز، ومنها ما يمر في جريانه نحو المشرق كالأرس والكرس، وهما نهران ببلاد أذربيجان ابتداؤهما من جبال الروم، ويمران متوجهين نحو المشرق إلى بحر طبرستان، فينصبان فيه، ومنها ما جريانه من الجنوب إلى الشمال نحو نيل مصر، فإنه يبتدئ من جبال القمر من وراء خط الاستواء، ويمر في جريانه متوجها نحو الشمال إلى أن ينصب في بحر الروم، ومنها ما يكون جريانه من الشمال إلى الجنوب مثل دجلة، فإنها تبتدئ من جبال نصيبين وتمر في جريانها إلى الجنوب، ثم تنصب إلى بحر فارس بعبادان، ومنها ما يكون جريانه متوجها في إحدى نكباوات مثل جيحون خراسان والفرات؛ وذلك أن جيحون يبتدئ من جبال صنعانيان ويمر متنكبا للغرب والشمال، وينصب إلى بحر جرجان بشمال بلاد خوارزم، والفرات يبتدئ من جبال الروم ويمر متنكبا للمشرق والجنوب، وينصب إلى بحر فارس من عبادان، وعلى هذا المثال سائر الأنهار في الجريان.
وأما علة مدود أكثر الأنهار التي جريانها من الشمال إلى الجنوب في أيام الربيع، فهي من أجل أن الثلوج إذا كثرت في الشتاء على رءوس الجبال الشمالية ثم حمي الجو بقرب الشمس من سمتها ، ذابت تلك الثلوج وسالت منها الأودية والأنهار.
وأما علة مد نيل مصر في أيام الصيف، فهو من أجل أن هذا النهر يجري من الجنوب إلى الشمال، ومبدأ جريانه من وراء خط الاستواء حيث يكون الشتاء عندنا يكون صيفا هناك، وفي الصيف عندنا يكون الشتاء هناك، فتكون في ذلك الوقت كثرة الأمطار هناك، ولهذه الأنهار عطفات وعراقيل يطول شرحها وشرح علتها، وهي تسقي في جريانها السوادات والمزارع والمدن والقرى وما يفضل من مياهها ينصب إلى البحار والآجام والبطائح والبحيرات، ويمتزج بمياهها عذبة كانت أو مالحة، فإذا أشرقت عليها الشمس والكواكب سخنتها وحميت ولطفت وتحللت وصارت بخارا فارتفعت في الهواء وتموجت إلى الجهات، ويكون منها الرياح والغيوم والضباب والطل والندى والصقيع والأنداء والثلوج والبرد على رءوس الجبال والبراري والعمران والخراب.
وأما الأمطار التي تكون على رءوس الجبال فإنها تغيض في شقوق تلك الجبال وخللها، وتنصب إلى مغارات وكهوف وأهوية هناك، وتمتلئ وتكون كالمخزونة ويكون في أسفل تلك الجبال منافذ ضيقة تمر منها تلك المياه، وتجري وتجتمع وتصير أودية وأنهارا، وتذوب تلك الثلوج على رءوس تلك الجبال وتجري إلى تلك الأودية وتمر في جريانها راجعة نحو البحار، ثم تكون منها البخارات والرياح والغيوم والأمطار كما كان في العام الأول و@QUR04 ذلك تقدير العزيز العليم.
فصل
وإذ قد فرغنا من ذكر صورة الأرض ووصف البحار والبراري والجبال واختلاف ترب البلاد ومياهها، فنريد أن نذكر ها هنا طرفا من أسرار المعادن فنقول إنه ليس من جبل من الجبال ولا بحر ولا تربة ولا جزيرة ولا نهر ولا بقعة ولا بلد من بقاع الأرض ولا صغيرة ولا كبيرة لا ظاهرها ولا باطنها إلا ولها خاصية ليست لأخرى أو عدة خواص، فمن خاصية بلد بلد أو بقعة بقعة أنه تتكون هناك ضروب من الجواهر المعدنية أو عدة ضروب أو ينبت نوع من النبات أو يتولد جنس من الحيوان لا يتكون في بلد آخر، ولا ينبت في بقعة أخرى، ولا يتولد إلا هناك، مثال ذلك: أنه لا تتولد الفيلة إلا في جزائر البحار الجنوبية تحت مدار برج الحمل، وكذلك الزرافة لا تولد إلا في بلدان الحبشة، والسمور والسنجاب وغزال المسك لا يتولد إلا في البراري الشرقية الشمالية، وأما الصقور والبزاة والنسور وما شاكلها من أنواع الطيور، فإنها لا تفرخ إلا في رءوس الجبال الشاهقة، والقطا والنعام لا يفرخ إلا في البراري والفلوات، والبطوط والطيطوى وأمثالهما لا تفرخ إلا على الشطوط وسواحل البحار والبطايح والآجام، والعصافير والفواخت والقماري وأمثالها من الطيور لا تفرخ إلا بين الأشجار والدغال والقرى والبساتين، وعلى هذا المثال حكم النبات؛ فإن النخل والموز لا ينبتان إلا في البلاد الحارة والأراضي اللينة، والجوز واللوز والفستق والبندق وأمثالها لا تنبت إلا في البلاد الباردة، والحلبة والدلب وأم غيلان في البراري والقفار، والقصب والصفصاف على شطوط الأنهار، وعلى هذا حكم سائر النبات، وهكذا أيضا حكم الجواهر المعدنية لكل نوع منها بقعة مخصوصة وتربة معروفة لا تتكون إلا هناك كالذهب، فإنه لا تتكون إلا في البراري الرملية والجبال والأحجار الرخوة، والفضة والنحاس والحديد وأمثالها لا يتكون إلا في جوف الجبال والأحجار المختلطة بالتربة اللينة، والكبريت لا يتكون إلا في الأراضي الندية والترب اللينة والرطوبات الدهنية، والقلقطار والأكحال لا ينعقد إلا في الأرض السبخة والبقاع المشروجة، والجص والإسفيذاج لا يتكونان إلا في الأرض الرملية المختلطة ترابها بالحصى، والزاجات والشبوب لا تتكون إلا في الترب العفصة القشفة، وعلى هذا القياس حكم سائر أنواع الجواهر المعدنية.
فصل
واعلم أن الجواهر المعدنية كثيرة الأنواع لا يحصي عددها إلا الله تعالى، ولكن منها ما يعرفه الناس، ومنها ما لا يعرفونه، وقد ذكر بعض الحكماء ممن كانت له عناية بالنظر في هذا العلم والبحث عن هذه الأشياء، وأنه قد عرف وعد منها نحو تسعمائة نوع، كلها مختلفة الطباع والشكل واللون والطعم والرائحة والثقل والخفة والمضرة والنفع، ونريد أن نذكر منها طرفا ليكون دلالة على الباقية وقياسا عليها فنقول: إن من الجواهر المعدنية ما هو حجري صلب، لكن يذوب بالنار ويجمد إذا برد مثل الذهب والفضة والنحاس والحديد والأسرب والرصاص والزجاج وما شاكلها، ومنها ما هي صلبة حجرية لا تذوب إلا بالنار الشديدة، ولا تنكسر إلا بالماس كالياقوت والعقيق، ومنها ترابي رخو لا يذوب، ولكن ينفرك كالأملاح والزاجات والطلق، ومنها مائية رطبة تفر من النار كالزئبق، ومنها هوائي دهني تأكله النا كالكباريت والزرانيخ، ومنها نباتي كالمرجان الأبيض والأحمر، ومنها حيواني كالدر، ومنها طل منعقد كالعنبر والبازهرات، وذلك أن العنبر إنما هو طل يقع على سطح ماء البحر فينعقد في مواضع مخصوصة في زمان معلوم، وكذلك البازهرات أيضا، فإنه طل يقع على بعض الأحجار، ثم يرسخ في خللها وينعقد هناك في بقاع مخصوصة في زمان معلوم، كما أن الزنجبيل إنما هو طل يقع على نوع من الشوك بخراسان، وهكذا اللك إنما هو طل يقع على نبت مخصوص في زمان معلوم وينعقد عليه، وكذلك الدر، فإنه طل يرسخ في أصداف نوع من الحيوان البحري، ثم يغلظ ويجمد وينعقد فيه، وكذلك الموميأ طل يرشح في خلل صخور ثم يغلظ هناك ثم يصير ماء ثم يبرز من مسام ضيقة ويجمد وينعقد، والطل هو رطوبة هوائية تجمد من برد الليل، وتقع على النبات والحجر والشجر والصخور، وعلى هذا القياس حكم جميع الجواهر المعدنية؛ فإن مادتها إنما هي رطوبات ومياه وأندية وبخارات تنعقد بطول الوقوف وممر الزمان في البقاع المخصوصة لها، فقد تبين بما ذكرنا أن الجواهر المعدنية مركبة كلها مع اختلاف أنواعها وطبائعها وألوانها وطعومها وروائحها وثقلها وخفتها وصلابتها ورخاوتها ولينها وخشونتها وخواصها ومنافعها ومضارها، مركبة كلها ومؤلفة من أجزاء ترابية صلبة ثقيلة مظلمة مشفة، ومن أجزاء مائية رطبة سيالة صافية بين الثقل والخفة، ومن أجزاء هوائية خفيفة لينة دهنية صافية نيرة، ومن حرارة قوية أو ضعيفة منضجة أو مقصرة، ومن تأليف على نسبة فاضلة أو دون ذلك من النسب التأليفية، وهي اثنتا عشرة مرتبة مضروبة في أربع طبائع، وهي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، جملتها ثمان وأربعون مرتبة، هذا هو الطول مضروبا في نفسه، يكون ألفين وثلاثمائة وأربعة، هذا هو العرض مضروبا في جذره 111072، هذا هو المكعب آحاد، ونحتاج أن نشرح هذا الباب؛ لأنه أصل في معرفة كيفية تكوين المعادن.
فصل
اعلم يا أخي أن تلك الرطوبات المختنقة في باطن الأرض والبخارات المحتبسة هناك إذا احتوت عليها حرارة المعدن تحللت ولطفت وخفت وتصاعدت علوا إلى سقوف تلك الأهوية والمغارات، ومكثت هناك زمانا.
وإذا برد باطن الأرض في الصيف جمدت وغلظت وتقاطرت راجعة إلى أسفل تلك الأهوية والمغارات، واختلطت بتربة تلك البقاع وطينها، ومكثت هناك زمانا، وحرارة المعدن دائما في نضجها وطبخها وهي تصفو بطول وقوفها وتزداد ثقلا وغلظا، وتصير تلك الرطوبات بما يخالطها من الأجزاء الترابية، وما يأخذ من ثقلها وغلظها وإنضاج الحرارة وطبخها إياه زئبقا رجراجا، وتصير تلك الأجزاء الهوائية الدهنية وما يتعلق بها من الأجزاء الترابية بطبخ الحرارة لها بطول الزمان كبريتا محترقا.
فإذا اختلطت أجزاء الكبريت والزئبق مرة ثانية تمازجت واختلطت واتحدت، والحرارة دائمة في نضجها وطبخها، فتنعقد عند ذلك ضروب الجواهر المعدنية المختلفة، وذلك أنه إذا كان الزئبق صافيا والكبريت نقيا، واختلطت أجزاؤهما، وكانت مقاديرهما على النسبة الأفضل، واتحدت وامتصت الكبريتية رطوبة الزئبق ونشفت نداوته، وكانت حرارة المعدن على الاعتدال في طبخها ونضجها، ولم يعرض لها عارض من البرد واليبس قبل إنضاجها انعقد من ذلك على طول الزمان الذهب الإبريز، وإن عرض لها البرد قبل النضج انعقدت وصارت فضة بيضاء، وإن عرض لها اليبس من فرط الحرارة وزيادة الأجزاء الأرضية انعقدت فصارت نحاسا أحمر يابسا، وإن عرض لها البرد قبل أن تتحد أجزاء الكبريت والزئبق قبل النضج انعقد منها رصاص قلعي، وإن عرض لها البرد قبل النضج وكانت الأجزاء الترابية أكثر صارت حديدا أسود، وإن كان الزئبق أكثر والكبريت أقل والحرارة ضعيفة انعقد منها الأسرب، وإن انفرطت الحرارة فأحرقته صار كحلا، وعلى هذا القياس تختلف الجواهر المعدنية بأسباب عارضة خارجة عن الاعتدال وعن النسبة الأفضل من زيادة الكبريت والزئبق ونقصانهما وإفراط الحرارة أو نقصانها أو برد المعدن قبل نضجها أو خروجها عن الاعتدال، فعلى هذا القياس حكم الجواهر المعدنية الترابية.
وأما الجواهر الحجرية مثل البلور والياقوت والزبرجد والعقيق وما شاكلها من التي لا تذوب بالنار، فإنها تنعقد من مياه الأمطار والأنداء التي ترشح في تلك المغارات والكهوف والأودية التي من الجبال الصلدة والأحجار الصلبة، ولا يخالطها شيء من الأجزاء الترابية والطين، بل بطول الزمان، كلما طال وقوفها هناك ازدادت المياه بقاء وثقلا وغلظا وحرارة المعدن دائما في نضجها وطبخها حتى تنعقد وتصير حجارة صلبة صافية، وتكون ألوانها وصفاؤها ورزانتها بحسب أنوار تلك الكواكب المتولية لذلك الجنس من الجواهر ومطارح شعاعاتها على تلك البقاع المختصة كما سنبين في رسالة النبات؛ وذلك أن لون الياقوت الأصفر والذهب الإبريز ولون الزعفران وما شاكلها من النبات منسوبة إلى نور الشمس وبريق شعاعاتها، وكذلك بياض الفضة والملح والبلور والقطن والثلوج وما شاكلها من ألوان النبات منسوب إلى نور القمر وبريق شعاعه، وعلى هذا القياس سائر الألوان كل نوع منسوبة إلى كوكب من الكواكب السيارة والثابتة، مذكور ذلك في كتب أحكام النجوم، كما قيل إن السواد لزحل، والحمرة للمريخ، والخضرة للمشتري، والزرقة للزهرة، والصفرة للشمس، والبياض للقمر، والمتلون الألوان لعطارد.
وأما حكم الجواهر الترابية في كيفية تكوينها، فهي أن تلك المياه إذا اختلطت بتربة البقاع وعملت فيها حرارة المعدن تحل أكثر تلك الرطوبات وتصير بخارا يرتفع في الهواء كما ذكرنا قبل، وما بقي منه يكون محبوسا ملازما للأجزاء الأرضية متحدا بها عملت فيها الحرارة ونضجتها وطبختها، حتى تغلظ وتنعقد فإن تكن تربة تلك البقاع مشورجة سبخة تكونت منها ضروب الأملاح والبوارق والشبوب، وإن تكن تربة البقاع عفصة انعقدت منها ضروب الزاجات الخضر والصفر والقلقطار، وهو جنس من الزاج وما شاكلها، وإن تكن تربة البقاع حصاة وترابا ورمالا مختلطة انعقد منها الجص والإسفيذاج وما شاكلها، وإن تكن تربة البقاع تربة لينة وطينا حرا انعقدت منها الكمأة، ونبتت منها ضروب العشب والحشائش والكلأ والأشجار والزروع.
فصل
واعلم يا أخي أن النار هي كالقاضي بين الجواهر المعدنية المتحكم فيها كلها والمفرق بينها وبين ما كان من غير جنسها ، فأشرفها هي التي لا تقدر النار على أن تفرق بين أجزائها مثل الذهب والياقوت، وذلك لشدة اتحاد أجزائها بعضها ببعض، فإنه ليس بين خلل أجزائها رطوبة، وأما احتراق بعض الجواهر المعدنية وأكل النار لها وسرعة اشتعالها فيها كالكبريت والزرنيخ والقير والنفط وما شاكلها من المعدنيات فهي من الأجزاء الهوائية الدهنية المتعلقة بالأجزاء الترابية غير متحدة بها، والأجزاء المائية قليلة معها، وهي غير نضجة أيضا ولا متحدة بها، فإذا أصابتها حرارة النار ذابت بسرعة وتحللت وصارت دخانا وبخارا، وفارقت الأجزاء الترابية، وارتفعت في الهواء واختلطت به، وتفرقت بين أجزاء الهواء، وأما إذا قيل ما العلة في أن الذهب يذوب ولا يحترق، والياقوت لا يذوب ولا يحترق؟ فنقول إن علة ذوبان الذهب هي من الرطوبة الدهنية المتحدة بالأجزاء الترابية، فإذا أصابتها حرارة النار ذابت، ولانت الأجزاء الأرضية التي معها، وأما ما لم يحترق فمن أجل الأجزاء المائية المتحدة بالأجزاء الترابية والهوائية، فإنها تقابل النار وتدفع عن جسدها الترابي وهج النار ببردها ورطوبتها، فإذا خرجت من النار جمدت تلك الأجزاء الهوائية، الدهنية وغلظت الأجزاء المائية، وانعقدت وصارت الأجزاء الأرضية كما كانت، وعلى هذا القياس سائر الأجسام الترابية.
وأما الياقوت فلأنه أجزاء مائية غلظت وصفت بطول الوقوف بين الصخور وأنضجت بدوام طبخ حرارة المعدن لها، واتحدت أجزاؤها ويبست، فصارت لا تذوب بالنار؛ لأنه ليس فيها رطوبة دهنية، وأما علة صفائه فمن أجل أنه ليس فيه أجزاء ترابية مظلمة، بل كلها أجزاء مائية قد غلظت وصفت ونضجت وجمدت ويبست، فلا تقدر النار على تفريق أجزائها لشدة اتحادها ويبسها، وأما سرعة ذوبان بعض الأجسام واحتراقها مثل الرصاص والأسرب، فهو من أجل أن الأجزاء المائية والهوائية غير متحدة بالأجزاء الترابية، وأما سوادها فمن أجل أنها غير نضجة وثقلها من أجل كثرة الأجزاء الأرضية فيها، والله أعلم.
فصل
واعلم يا أخي أن لهذه الجواهر خواص كثيرة وطباعها مختلفة؛ فمنها متضادة متنافرة، ومنها متشاكلة متآلفة، ولها تأثيرات بعضها في بعض إما جذبا أو إمساكا أو دفعا أو نفورا، ولها أيضا شعور خفي وحس لطيف، كما للنبات والحيوان، إما شوقا ومحبة وإما بغضا وعداوة، لا يعلم كنه عللها إلا الله تعالى، والدليل على صحة ما قلنا وحقيقة ما وصفنا قول الحكماء في كتاب الأحجار ونعتهم لها أن طبيعة تألف طبيعة، وطبيعة تناسب طبيعة أخرى، وطبيعة تلصق بطبيعة، وطبيعة تأنس بطبيعة، وطبيعة تقهر طبيعة، وطبيعة تقوى على طبيعة، وطبيعة تضعف عن طبيعة، وطبيعة تلهب طبيعة، وطبيعة تحب طبيعة، وطبيعة تطيب مع طبيعة، وطبيعة تفسد مع طبيعة، وطبيعة تبيض طبيعة، وطبيعة تحمر طبيعة، وطبيعة تهرب من طبيعة، وطبيعة تبغض طبيعة، وطبيعة تمازج طبيعة.
فأما الطبيعة التي تألف طبيعة أخرى فمثل الألماس والذهب، فإنه إذا قرب من الذهب التصق به وأمسكه، ويقال إن الألماس لا يوجد إلا في معدن الذهب، وفي واد من ناحية المشرق، ومثل طبيعة حجر المغناطيس في جذب الحديد، فإن هذين الحجرين يابسين صلبين بين طبيعتهما ألفة واشتياق، فإنه إذا قرب الحديد من هذا الحجر حتى يشم رائحته ذهب إليه والتصق به وجذبه الحجر إلى نفسه ومسكه كما يفعل العاشق بالمعشوق، وهكذا يفعل الحجر الجاذب للحم، والحجر الجاذب للشعر، والحجر الجاذب للظفر، والحجر الجاذب للتبن، وعلى هذا القياس ما من حجر من الأحجار المعدنية إلا وبين طبيعته وبين طبيعة شيء آخر ألفة واشتياق، عرف الناس ذلك أم لم يعرفوه.
واعلم أن مثل مقابلة أفعال هذه الأحجار بعضها في بعض يكون مثل تأثيرات الدواء في العضو العليل، وذلك أن من خاصية كل عضو عليل اشتياقا إلى طبيعة الدواء المضاد لطبيعة العلة التي به، فإذا حصل الدواء بالقرب من العضو العليل أحس به وجذبته القوة الجاذبة إلى ذلك العضو، وأمسكته الماسكة، واستعان بالقوة المدبرة بطبيعة الدواء على دفع طبيعة العلة المؤلمة، وقويت عليها وغلبتها ودفعتها عن العضو العليل، كما يستعين ويدفع المحارب والمخاصم بقوة من يعينه على خصمه وعدوه في دفعه عن نفسه، وهذه من إتقان حكمة الله - جل جلاله - وعجيب صنعه ولطيف تدبيره بخلقه من الحيوان، وحسن سياسته له ؛ إذ جعل لكل داء وعارض دواء شافيا، ثم ألهمه إياه، كما ذكر الله - تعالى - حكاية عن موسى - عليه السلام - لما قال له فرعون ولأخيه هارون: «من ربكما يا موسى؟» قال: @QUR08 ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى؛ يعني خلقه وصوره وعرفه منافعه ومضاره وقواه وأعانه وحفظه ورعاه ودبره وساسه كما شاء، وكيف شاء، فتبارك الله أحسن الخالقين!
وأما الطبيعة التي تقهر طبيعة أخرى فمثل طبيعة السنباذج التي تأكل الأحجار عند الحك أكلا، وتلينها وتجعلها ملسا، ومثل طبيعة الأسرب الوسخ الذي يفتت الماس القاهر لسائر الأحجار الصلبة، وذلك أن الماس لا يقهره شيء من الأحجار، وهو قاهر لها كلها، لو أنه ترك على السندان وطرق بالمطرقة لدخل في أحدهما ولم ينكسر، وإن جعل بين صفحتين من أسرب وضغط عليها تفتت.
ومثل طبيعة الزئبق، التيار الرطب القليل الصبر على حرارة النار إذا طليت به الأحجار المعدنية الصلبة مثل الذهب والنحاس والفضة أوهنها وأرخاها، حتى يمكن أن يكسر بأسهل سعي، ويفتت قطعا قطعا، ومثل الكبريت المنتن الرائحة المسود للأحجار النيرة البراقة المذهب لألوانها وأصباغها يمكن النار منها حتى تحترق في أسرع مدة، والعلة في ذلك أن في الكبريت رطوبة دهنية لزجة جامدة، فإذا أصابته حرارة النار ذاب والتصق بأجساد الأحجار ومازجها، فإذا تمكنت النار فيه احترق وأحرق معه تلك الأجساد ياقوتا كانت أم ذهبا أم غيرهما.
وأما الطبيعة التي تزين طبيعة أخرى وتنورها، فمثل النوشادر الذي يغوص في قعر الأحجار ويغسلها من الوسخ.
وأما الطبيعة التي تعين طبيعة أخرى، فمثل البورق الذي يعين النار على سرعة سبك هذه الأحجار المعدنية الترابية، ومثل الزاجات والشبوب التي تجلوها وتنورها وتصبغها ومثل المنيسا والقلى المعينان على سبك الرمل وتصفيته حتى يكون زجاجا شفافا، وعلى هذا القياس والمثال حكم سائر الأحجار المعدنية في تأثيرات بعضها في بعض، فأما تأثيراتها في أجسام الحيوان، فقد ذكر ذلك في كتب الأدوية والطب والعقاقير.
فصل
واعلم أن لهذه الجواهر المعدنية خواص غريبة، وخلقها وتكوينها عجيب جدا، فإذا فكر العاقل في لطيف صنع الباري - جل جلاله - وإتقان حكمته فيها يبقى متعجبا باهتا، ويزداد بربه معرفة ويقينا، وخاصة إذا فكر في خلقة الدرة وتكوينها، وذلك أن هذه الجوهرة إنما هي ماء ورطوبة هوائية عذبة ودهنية جامدة منعقدة بين صدفين كأنهما خزفتان منطبقتان ظاهرهما خشن وسخ وباطنهما أملس نقي أبيض، في جوفها حيوان كأنه قطعة لحم خلقته خلقة الرحم، مسكنه في قعر البحر المالح، وهو قد ضم ذينك الصدفين على نفسه من جانبيه كما يضم الطائر جناحيه عند السكون عن الطيران، مخافة أن يدخل فيه ماء البحر المالح، حتى إذا أحس بسكون البحر عن الاضطراب في أمواجه ارتقى من قعره إلى أعلى سطحه بالليل في وقت من الزمان معلوم مخصوص عنده، وفتح تلك الصدفتين كما تفتح فراخ الطير أفواهها عند زق الطائر لها، وكما يفتح فم الرحم عند الجماع فيرشح في جوفه من ندى الهواء ورطوبة الجو، وتجتمع فيه قطرات من الماء العذب من ذلك والصقيع الذي يقع بالليل على النبت والحشيش، فإذا اكتفى ضم تينك الصدفتين على نفسه ضما شديدا مخافة أن يرشح فيه ماء البحر المالح، فتفسد تلك الرطوبة العذبة بما يخالطها من ملوحته، وينزل برفق إلى قرار البحر فيسكن هناك زمانا، فإذا طال الزمان على تلك الرطوبة العذبة غلظت وثقلت وصارت في قوام الزئبق، وتدحرجت في جوفه بحركته، فيصير حبات مستديرات كما يصير الزئبق إذا تبدد وتدحرج، ثم على ممر الزمان تجمد وتنعقد وتصير درا صغارا وكبارا. @QUR04 ذلك تقدير العزيز العليم.
فصل
واعلم يا أخي إذا تأملت المحسوسات وتصفحت الموجودات وبحثت عن الكائنات التي دون فلك القمر، وجدت أصغرها جسدا وأضعفها خلقة أشرفها جوهرا وأجلها قدرا وأعمها نفعا.
وانظر إلى هذه الثلاثة التي هي الدرة والديباج والعسل، وتأملها تجدها عند الناس أجل الأشياء قدرا وأنعمها لبسا وأطيبها ذوقا، أعني هذه الثلاثة، فإذا تأملت ما ذكر من خلقة هذا الحيوان تبينت أنه أحقر حيوانات البحر وأضعفها، وكما ترى النحل أضعف الطيور بنية وأصغرها جثة، وهكذا دود القز تراه أصغر الحيوان جثة .
فصل
واعلم أن الله - جل ثناؤه - خلق هذه الأشياء المعدنية منافع للحيوان، وخاصة للناس، وجعلهم محتاجين إليها متصرفين فيها متنعمين بها إلى حين، لكيما يتفكر العقلاء في كونها وخلقها وصنعها، فتكون قياسا لهم، فيعلمون أن العالم أيضا محدث مصنوع كائن بعد أن لم يكن، وإن كان كبير الجثة عظيم الخلقة طويل العمر كبير القباء لا يدري العلماء الحكماء على التحقيق أنه متى كان ولا متى يفسد، ويعلمون أن له خالقا خلقه وأوجده وصوره وركب أفلاكه وأدارها وأجرى كواكبه وسيرها ومد شعاعها نحو المركز، ومزج الأركان وزوج الطبائع وأولد منها الكائنات الفاسدات التي هي الحيوان والنبات والمعادن، وسخرها للإنسان وملكه عليها يتصرف فيها كيف يشاء ويحكم عليها بما يريد بالانتفاع منها أو دفع المضار بها، وإنما احتاج العلماء والعقلاء إلى الاستدلال بالشاهد على الغائب، وقياس الجزء على الكل، على أن العالم محدث عند حيرة عقولهم، فإذا فكروا في حدوثه وكونه بعد أن لم يكن، وبحثوا عن تلك العلة الداعية للصانع إلى الفعل إن لم يكن فعل، وهي العلة التي تسمى العلة التمامية التي من أجلها يفعل الفاعل فعله.
ولما فكر كثير من العقلاء في هذه العلة وبحثوا عنها لم يعرفوها، وهكذا أيضا لما فكروا في أمر الفاعل متى فعل، وفي أي زمان عمل، وفي أي مكان لم يعرفوها ولم يتصوروا ذلك، وأيضا لما فكروا وطلبوا أنه من أي شيء عمله وكيف صوره، وأين كانت رجل البركار لما شكل أكر الأفلاك ودور الكواكب وما شاكل هذه المباحث والتفكر في أشياء ليس في طاقة الإنسان معرفتها، ولا في قوة نفسه تصورها، فعند ذلك دعاهم جهلهم وحيرتهم وشكوكهم إلى القول بقدم العالم وأزليته بغير علم ولا بيان إلا أوهام كاذبة وتخييلات باطلة وتمويهات مموهة، وقد علم الله - تعالى - قبل أن خلقهم أنه تعرض لهم هذه الشكوك والحيرة، فأزاح عللهم بأن أراهم أشياء لا يشكون فيها، ولا في كونها، ولا في حقيقتها؛ لتكون مثالا لهم وقياسا على ما لا يشهدونه ويتصورونه في حدوث العالم وصفته ، وهي هذه الكائنات الفاسدات من النبات والمعادن والحيوان، وجعل أيضا مركوزا في جبلة العقول أن الصنعة المتقنة لا تكون إلا من صانع قدير، وجعل أيضا أثر الصنعة باقيا في المصنوع يشاهدونها ليلهم ونهارهم من دوران هذه الأفلاك حول المركز وسير الكواكب فيها وتعاقب الليل والنهار والشتاء والصيف على الأركان الأربعة والتغييرات والاستحالة وتكوين الكائنات الفاسدات، كل هذه دلالة للعقول وشواهد للنفوس على حدوث العالم وتكوينه بعد أن لم يكن إذ لم يوجد في جميع هذه الكائنات الجزئية شيء خال من علة فاعلية وعلة هيولانية وعلة صورية وعلة تمامية، ونحن قد بينا في رسالة المبادئ العقلية ما هذه العلل في حدوث العالم وكونه، فاعرفها من هناك.
وإذ قد ذكرنا طرفا من كيفية تكوين المعادن، فنذكر الآن طرفا من أنواع جوهرها وخواص أنواعها وما ذكره الحكماء، فنبدأ بذكر أشرفها الذي هو الذهب والياقوت، ثم سائر ما يتلوهما نوعا فنوعا؛ فأما الذهب فهو جوهر معتدل الطبائع صحيح المزاج نفسه متحدة بروحه وروحه متحدة بجسده، ونعني بالنفس الأجزاء الهوائية وبالروح الأجزاء المائية وبالجسد الأجزاء الترابية، ولكن لشدة اتحاد أجزائه وممازجتها لا يحترق بالنار؛ لأن النار لا تقدر على تفريق أجزائه، وهو لا يبلى في التراب ولا يصدى على طول الزمان ولا تغيره الآفات العارضة، وهو جسم لين المغمز أصفر اللون حلو الطعم طيب الرائحة ثقيل رزين، صفرة لونه ناريته وصفاؤه وبريقه من هوائيته ولينه من دهنيته ورطوبته وثقله ورزانته من ترابيته؛ لأن كبريته كان نقيا وزيبقه كان صافيا ومزاجه كان معتدلا، وحرارة المعدن طبخته على طول الزمان برفق واعتدال، فإذا أصابته حرارة النار ذابت رطوبته ودارت حول جسده ورطوبته تقابل حرارة النار، وتدفع عن جسده إحراقها، وإذا خرجت من النار جمدت تلك الرطوبة، وإذا طرق امتد تحت المطارق حارا أو باردا، واتسع في الجهات ورق وامتد، ويفتل منه كالخيوط، ويقبل جميع الأشكال من الأواني والحلي وهو يخالط الفضة والنحاس في السبك وينفصل عنهما إذا طرح عليه المرقيشا الذهبي؛ لأنه جنس من الكبريت يحرق غيره ولا يحترق ، وإذا سحق منه وأدخل في أدوية العين نفع، وإذا كوي به موضع لم ينفط، وكان أسرع إلى البرء، وينفع من المرة السوداء وداء الحية وداء الثعلب وأمراض القلب، وهي قسمة الشمس من بين الكواكب، فمن أجل هذه الخصال والفضائل تجمعه الملوك وتدخره في الخزائن، ومن أجل ذلك يقل وجوده في أيدي الناس ويعز وتكثر أثمانه لا لقلة وجوده، ولكن كل من ظفر بشيء كثير منه دفنه في الأرض أو صانه وخباه، فلا يرى منه ظاهرا إلا القليل.
وأما اليواقيت فأحجار صلبة حارة يابسة شديدة اليبس رزينة صافية شفافة مختلفة الألوان بين أحمر وأصفر وأخضر وأزرق، وأصلها كلها ماء عذب وقف في معادنها بين الأحجار الصلدة والصخور والصفوان زمانا طويلا، فغلظ وصفا وثقل وأنضجته حرارة المعدن لطول وقوفه، فاتحدت أجزاؤه وصارت صلبة لا تذوب في النار البتة لقلة دهنيته، ولا تفرغ لغلظ رطوبته، بل يزداد حسن لونه، وخاصة الأحمر منه لا تعمل فيه المبارد لشدة صلابته ويبسه إلا الماس والسباذج بالحك في الماء ومعدنه في البلاد الجنوبية تحت خط الاستواء وهو قليل الوجود عزيز كثير الثمن لقلة وجوده.
ومن منافعه أن من تختم بشيء منه وكان في بلدة قد أصاب أهلها الوباء والطاعون سلم منها بإذن الله - تعالى - ونبل في أعين الناس، وسهل عليه قضاء حوائجه وأمور معائشه.
وأمر الزمرد والزبرجد فهما حجران يابسان باردان جنسهما واحد موجودان في معادن الذهب وخيرهما وأجودهما أشدهما خضرة وصفاء وشفافا، ومن أكثر النظر إلى الزبرجد ذهب عن بصره الكلال، ومن تقلد منه أو تختم به سلم من الصرع، والدهنج عدو للزبرجد، ويشبهه في النظر، وإذا وضع معه في موضع واحد كسره وكدر لونه وذهب بنضارته.
وأما الدر فقد تقدم ذكره وهيئة تكوينه، وأما خاصيته فإنه ينفع في خفقان القلب من الخوف والجزع الذي يكون من مرة السوداء؛ لأنه يطري دم القلب ويدخل في أدوية العين ويشد أعصاب العين، وإن حك وطلي به بياض البرص أذهبه، وإن سقي ذلك الماء من كان به صرع أسكنه .
وأما الفضة فإنها أقرب الجواهر الذائبة إلى الذهب، وهي باردة لينة معتدلة حتى تكاد تكون ذهبا، لولا أنه غلب عليها البرد في معدنها قبل النضج، وهي في قسمة القمر، فإذا طرح عليها المس أو الرصاص عند السبك امتزجت بهما، وإذا خلصت منهما تخلصت ويسودها الكبريت ويكسرها الزئبق، ويحسن لونها البورق ويعين على سبكها، ويدفع عنها إحراق النار، وإذا سحقت وأدخلت في الأدوية المشروبة نفعت من الرطوبات اللزجة، وهي تحترق بالنار إذا ألحت عليها وتبلى في التراب بطول الزمان.
وأما النحاس فهو جرم حار يابس مفرط فيه، وهو قريب من الفضة، ليس بينهما تباين إلا في الحمرة واليبس؛ وذلك أن الفضة بيضاء لينة والنحاس أحمر يابس كثير الوسخ، فحمرته من شدة حرارة كبريته ويبسه ووسخه لغلظه، فمن قدر على تبييضه وتليينه أو تصغير الفضة وتليينها، فقد ظفر بحاجته، والنحاس إذا أدني من الحموضات أخرج زنجارا، والزنجار سم، وإن طلي النحاس بالزئبق أرخاه وكسره، وإن سبك النحاس وطرح عليه زجاج شامي وطرح بحرارته في الماء خرج لونه مثل لون الذهب، وإذا أدني من النار اسود؛ لأن النار هي كالقاضي بين الجواهر المعدنية يفصل بينها بالحق، ومن أدمن الأكل والشرب في أواني النحاس أفسد مزاجه وعرضت له أعراض كثيرة شديدة، فإذا أدنيت أواني النحاس من السمك شم لها رائحة منتنة، وإن كبت آنية النحاس على سمك مشوي أو مطبوخ بحرارتها صار سما قاتلا.
وأما الطاليقوني فهو جنس من النحاس طرحت عليه أدوية حتى صار صلبا، فإن اتخذ منه سكين أو سلاح وجرح به حيوان أضر به مضرة مفرطة، وإن اتخذ منه شص لصيد السمك وتعلق به لم يمكنه الخلاص، وإن صغر الشص وعظم الحوت، ومن أصابه وجع اللقوة فدخل بيتا لا يرى فيه الضوء ونظر إلى مرآة طاليقون برأ من اللقوة بإذن الله - تعالى - وإن أحمي الطاليقون وغمس في الماء لم يقرب ذلك الماء ذباب، وإن عمل منه منقاش ونتف به الشعر من الجسد ودهن الموضع لم ينبت الشعر بعد ذلك ، وإن شرب الشراب من إناء طاليقوني لم يسكر.
وأما القلعي فهو قريب من الفضة في لونه، ولكن يباينها بثلاث صفات؛ الرائحة والرخاوة والصرير، وهذه الآفات دخلت عليه وهو في معدنه كما تدخل الآفات على الجنين وهو في بطن أمه، فرخاوته لكثر هوائيته، وصريره لغلظ كبريته وقلة مزاجه بزئبقه، وهو ساف فوق ساف، فلذلك يصر وتنتن رائحته لقلة نضجه، وإن مزج بقضيب الريحانة المسمى آسا والمرقيشا والملح والزرانيخ على ما ينبغي برئ من هذه الآفات، وإذا حرق القلعي وجعل في المراهم برئ الجرح والقروح التي تكون في عيون الناس.
وأما الأسرب فهو جنس من الرصاص، ولكنه كثير الكبريت غير نضج، ومنافعه معروفه بين الناس.
وأما الحديد فهو أجناس؛ فمنه لين رخو، ومنه ما إذا أسقي الماء ازداد صلابة وحدة، ولا يستغني عنه الصانع، ومنافعه بينة ظاهرة لا يستغني الناس عنه كما لا يستغنى عن الماء والنار والملح، ومنه ما إذا طرحت عليه أدوية ازداد قوة وصلابة، ومن الجواهر المعمولة أيضا الشبة، وهو نحاس طرحت عليه أدوية فازداد صفرة ولينا.
وأما الإسفندري فهو نحاس مزج بالقلعي، والمفرغ نحاس وأسرب، والمرداسج من الأسرب إذا أحرق الزنجار مع النحاس، والإسفيذاج من الأسرب والحموضة، والإسريخ منه ومن الكبريت، والزنجفر من الزئبق والكبريت، والمرتك من الأسرب، وأما منافعها - أعني هذه الأحجار - ومضارها فهي معروفة بين الناس، وقد ذكرت في كتب الطب بشرحها، ومن الجواهر المعدنية الزئبق والكبريت.
فأما الكبريت فهو حجر دهني لزج يلصق بالأحجار المعدنية عند ذوبانها، ويحترق بالنار ويحرق الأحجار معه؛ لأنه دهن كله.
وأما الزئبق فهو جسم رطب سيال، يطير إذا أصابته حرارة النار، لا صبر له على حر النار، وهو يخالط الأجسام المعدنية بالتدبير ويرخيها ويكسرها ويوهنها، فإذا أصابت تلك الأجسام حرارة النار طار الزئبق ورجع إلى حالته الأولى صلبا كما كانت، ومثله مع هذه الأحجار كمثل الماء مع الطين اليابس إذا غلبه الماء استرخى وتفتت، فإذا أصابته حرارة النار أو حرارة الشمس جف وعاد كما كان أولا.
واعلم أن الكبريت والزئبق أصلان للجواهر المعدنية الذائبة، كما أن التراب والماء أصلان للأجسام الصناعية كاللبن والآجر والكيزان والغضاير والقدور، وكل ما يعمل من الطين، وقد تقدم ذكر كيفية تكوين الجواهر المعدنية الذائبة وعلل اختلاف طبائعها وصفاتها في فصل قبل هذا، ومن الجواهر المعدنية أيضا أنواع الأملاح والشبوب والبوارق والزاجات؛ فمنها عذب كملح الطعام والملح الأندراني، ومنها مر كملح الصاغة، ومنها حاد كالنوشادر، ومنها قابض كالشبوب والزاجات، ومنها دواء كالنفطي والهندي، ومنها بوارق الخبز، ومنها شوارج تصلح للدباغة، ومنها ملح القلى والنورة والرماد والبول يستعمله أصحاب الكيميا، وكل هذه رطوبات ومياه تختلط بتراب بقاع الأرض تحرقها حرارة الشمس أو النار أو حرارة المعدن، فتنعقد وتصير أملاحا وشبوبا وبوارق وفنون الزاجات، ومن الجواهر المعدنية أنواع الزرانيخ والمرقشيشا والمغنيسا والشادنج والكحل والتوتيا، ومنها الزجاج والبلور والمينا والطلق والشنج والعقيق والفيروزج والسنبادج والجزع واللازورد والعنبر والدهنج، ومنها القير والنفط والجص والإسفيذاج وما شاكلها.
واعلم يا أخي أن لكل نوع من الجواهر خواص ومنافع ومضار تركنا ذكرها مخافة التطويل؛ إذ قد ذكرها الحكماء في كتبهم وهي موجودة في أيدي الناس، ولكن نذكر من خواص بعضها طرفا، ليكون دليلا على الباقي الذي لم نذكره منها، فأما الدهنج فهو حجر يتكون من معدن النحاس وطبيعته باردة لينة؛ لأنه دخان مرتفع من الكبريت المتولد من معدن النحاس، وهو أخضر مثل الزنجار، فإذا صار في موضع من جبال المعدن تكاثف وتلبدت أجزاؤه بعضها على بعض، وتجسد وتحجر فهو مختلف الألوان أخضر كدر حسن اللون، وفيه خاصية سم؛ من سقي من سحالته تقطع[1] أمعاه وأمرضه وألهب معدته، وإن شرب وهو صحيح أضر، وهو يصفو مع الهواء ويتكدر معه، ويذهب تكسير الذهب وتشقيقه عند الطرق، ومع التناكر يكون أقوى فعلا، وإن ذوب ذلك وجعل مع الذباب على لسع الزنابير سكنها، وإن سحق وأذيب بالخل وطلي على القوباء أذهبها وينفع في السعفة التي في الرأس.
ومن الجواهر المعدنية البازهر:[2] وهو جوهر لين أملس مختلف الألوان، وأصله كان رطوبة هوائية دهنية جمدت في معدنه بطول الزمان ، وهو حجر شريف تظهر منه أفعال كريمة؛ وذلك أنه ينفع من السموم القاتلة حارة كانت أو باردة، حيوانية كانت أو نباتية أو معدنية تلك السموم، ونحتاج أن نزيد في شرح هذا الباب؛ إذ كانت عقول الناس قد تحيرت في كيفية أفعال السمومات والترياقات والبازهرات[3] في الأجسام الطبيعية؛ لأنها أجسام جامدات، وقد قام البرهان على أن الجسم لا فعل له من حيث هو جسم، ولا العرض له فعل أيضا؛ لأنه أعجز من الجسم بكثير، فيجب أن نذكر أولا كيفية الأفعال التي تظهر من هذه الأجسام بعضها من بعض، ثم نبين من الفاعل بالحقيقة لها، وفيها ومنها وبها، أما السموم فنوعان حارة وباردة، فالباردة منها تجمد الدم والرطوبات الروحانية اللطيفة التي في أعضاء الحيوان التي بها صحة المزاج وقوام الحياة، والحارة منها تذوب الدم، وتلك الرطوبات وتطيرها، فتفنى ويذوب بدن الحيوان مع ذوبانها فيهلك، فأما دبيب السموم الحارة في أبدان الحيوانات، فمثل دبيب لون الزعفران إذا وقع في الماء صبغه في لحظة، وأما الباردة منها فهي مثل فعل الإنفحة إذا وقعت في اللبن الحليب جمدته في أقرب مدة، وأما دبيب البازهرات والترياقات المضادة أفعالها لأفعال تلك السموم فهو مثل فعل الحموضات إذا وقعت على صبغ الزعفران غسلته من ساعتها، ومنعته أن يذوب إذا بودر بها، وأما ما الفاعل المحرك لهذه الأجسام فهو قوة روحانية من قوى النفس الكلية الفلكية السارية في جميع الأجسام من لدن فلك القمر إلى منتهى مركز الأرض، وهي المسماة الطبيعة، فهذه الأجسام الجزئيات من الحيوان والنبات والمعادن هي للطبيعة كالآلات والأدوات للصانع الفاعل، يفعل بها وفيها ومنها أفعالا مختلفة وأعمالا مقننة بعضها ببعض، كالنجار الذي يفعل النشر بالمنشار ويعمل النحت بالفأس والثقب بالمثقب والكشاء بالإرتدج ويبرد بالمبرد، والفاعل واحد والأفعال مختلفة بحسب الآلات والأدوات والأغراض المقصودة، وهذه القوة الفاعلة المتقدم ذكرها هي التي يسميها الأطباء والفلاسفة الطبيعة، ويسميها الناموس ملائكة، والطبيب هو خادم الطبيعة، يناولها ما تحتاج إليه في وقت الحاجة كما يناول التلميذ الأستاذ أدواته وقت حاجته ويخدمه بها .
فصل
واعلم يا أخي أن هذه النفوس الجزئية المتجسدة الخادمة للنفس الكلية إذا أحسنت في خدمتها للنفس الكلية وطلبت الأجر والجزاء من الله فلها منزلة جليلة عند الله وكرامة ومكافأة بعد مفارقتها هياكلها، سواء كانت خدمتها في إصلاح أمر الدين أو الدنيا، فإنه لا يذهب لها عند الله شيء إذا كانت محتسبة لوجه الله - تعالى - وطالبة لما عنده من الوجه المقصود منه إليه، فلا يفوتها نصيبها من الدنيا كما ذكر برزويه الطبيب في كتاب كليلة ودمنة: إن الزراع لم يزرع طلبا للعشب، بل للحب، ولا بد للعشب أن ينبت، إن شاء الزراع أو لم يشأ، كذلك طالب الأجر والجزاء من الله - تعالى - لا يفوته نصيبه من الدنيا وما قسم له، ما أراده أو لم يرد، كره أو رضي، زهد أو رغب، طلب أو لم يطلب، وتصديق هذا الرأي قول الله تعالى: @QUR024 وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون * إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين.
واعلم يا أخي أن عبادة الله ليست كلها صلاة وصوما، بل عمارة الدين والدنيا جميعا؛ لأنه يريد أن يكونا عامرين، فمن يسعى في صلاح أحدهما أو كلاهما فأجره على الله؛ لأنه مالكهما جميعا والناس كلهم عبيده، وأحب عباده إليه من سعى في صلاح عباده وعمارة عالميه جميعا، وأبغض عباده من سعى في فسادهما جميعا أو في فساد أحدهما، كما ذكر الله جل جلاله: @QUR024 إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ... الآية، وقال تعالى: @QUR06 وأن ليس للإنسان إلا ما سعى.
ومن الجواهر المعدنية الماس، وطبيعته البرودة واليبوسة في الدرجة الرابعة، وقل ما تجتمع هاتان الطبيعتان في شيء من الأحجار المعدنية، فبهذه الخاصية صار لا يحتك بجسم من الأحجار المعدنية إلا أثر فيه أو كسره أو هشمه إلا جنسا من الأسرب، فإنه يؤثر فيه ويكسره ويفتته مع رخاوته ولينه ونتن رائحته.
واعلم أن مثل تأثير هذا الحجر الضعيف المهين في هذا الجوهر الشريف القوي كمثل تأثير البقة الضعيفة الصغيرة المهينة في الفيل العظيم الجثة الشديد القوة الذي يقهر الحيوانات بعظيم جثته وشدة قوته، وهذا يغلبه ويؤذيه ويضر به بصغر جثته وخفة حركته، فإن في ذلك عبرة لأولي الأبصار، ودلالة لأولي الألباب على أن المسلط للصغير على الكبير هو خالقهما ومصورهما سبحانه.
وأما السباذج فهو قريب من هاتين الطبيعتين من الماس، ولكن تأثيره دون تأثيره.
وأما حجر المغناطيس فهو أيضا عبرة لأولي الأبصار والتفكر في الأمور الطبيعية وخواص أفعال بعضها في بعض.
وذلك أن بين هذا الحجر والحديد مناسبة ومشاكلة في الطبيعة كالمناسبة والمشاكلة التي بين العاشق والمعشوق، وذلك أن الحديد مع شدة يبسه وصلابة جسمه وقهره للأجسام المعدنية والنباتية والحيوانية يتحرك نحو هذا الحجر ويلتصق به ويلتزمه كالتزام العاشق المحب المعشوق المحبوب المشتاق، فإذا فكر العاقل اللبيب في فعل هذين الحجرين وغيرهما من الأحجار المعدنية والأجسام النباتية علم وتبين له بأن الفاعل المحرك لهما هو غيرهما؛ لأن الجسم لا فعل له من حيث هو جسم ببراهين قد قامت ودلائل قد وضحت، وأن هذه الأجسام كلها مع اختلافها واختلاف طبائعها وفنون أشكالها وخواص طبائعها هي كالأدوات والآلات للفاعل الصانع المحرك، وهو النفس الكلية الفلكية التي هذه التأثيرات كلها من أفعالها، وهي المسماة طبيعة، تظهر وتعمل بإذن باريها - جل ثناؤه - وقد تبين بدلائل عقلية أن الباري - جل ثناؤه - لا يباشر الأجسام بذاته ولا يتولى من الأفعال بنفسه إلا الاختراع والإبداع حسب، وأما التأليف والتركيب والصنائع والأفعال والحركات التي تكون بالآلات والأدوات في الأماكن والأزمان، إنما يأمر ملائكته الموكلين وعباده المؤيدين بأن يفعلوا ما يؤمرون مثل أمر الملوك والرؤساء لعبيدهم وخدمهم وجنودهم.
فصل
وقد تبين مما ذكرنا أن الجواهر المعدنية مع كثرة أنواعها واختلاف طبائعها وفنون خواصها أصلها كلها وهيولاها هي الأركان الأربعة التي تسمى الأمهات، وهي النار والهواء والماء والأرض، وتبين أيضا أن الفاعل فيها والمؤلف لأجزائها والمركب لها هي الطبيعة بإذن الله تعالى ، وتبين بأن الغرض من هذه الجواهر المعدنية هو منافع الناس والحيوان وإصلاح أمر الحياة الدنيا ومعيشة الحيوان إلى وقت معلوم.
واعلم يا أخي بأن الجواهر المعدنية مع اختلاف طبائعها وأنواع أشكالها وفنون جواهرها وخواصها كالأدوات للطبيعة الفاعلة والآلات لها، تفعل بها وفيها ومنها في الأماكن المتباينة والأزمان المختلفة هذه الأفعال والصنائع والأعمال من التركيب والتأليف والجمع والتفريق لأجزاء هذه الأركان الأربعة من الكون والفساد والنشوء والبلى حسب دوران الأفلاك وحركات الكواكب وطوالع البروج على آفاق البلد من البر والبحر والسهل والجبل والعمران والخراب، كل ذلك بإذن الله - تعالى - الذي خلقها ووكلها بالأركان وأيدها بالقوة الإلهية على هذه الأفعال والصنائع من تكوين المعادن والنبات والحيوان.
واعلم أن الطبيعة إنما هي ملك من ملائكة الله المؤيدين وعباده الطائعين، يفعلون ما يؤمرون، لا يعصون الله ما أمرهم وهم من خشيته مشفقون.
واعلم أن الله - تعالى - غير محتاج في أفعاله إلى الأدوات والآلات والأماكن والأزمان والهيولى والحركات، بل فعله الخاص هو الإبداع والاختراع، إذ الاختراع هو الإخراج من العدم إلى الوجود بحسب ما بينا في رسالة المبادئ العقلية والأفعال الروحانية.
واعلم أن طائفة من المجادلة أنكرت أفعال الطبيعة لما جهلت ماهية الطبيعة نفسها، ولم تدر أنها ملك من ملائكة الله - تعالى - الموكلين بتدبير عالمه وإصلاح خلائقه، فنسبت كل أفعال الطبيعة إلى الباري - جل ثناؤه - حسنة كانت أو سيئة، خيرا كانت أو شرا، وفيهم من نسب ما كان حسنا إلى الباري، وما كان قبيحا نسبه إلى غيره، ثم اختلفوا في الغير من هو، فمنهم من نسب تلك الأفعال إلى الطبيعة وإلى التولد، ومنهم من نسبها إلى النجوم، ومنهم من نسبها إلى البخت والاتفاق، ومنهم من نسبها إلى جريان العادة، ومنهم من نسبها إلى الشياطين، ولا يدري ما الشياطين، وكل هذه الأقاويل قالوها لجهلهم ماهية الطبيعة وقلة معرفتهم بأفعالها وأفعال ملائكة الله الموكلين بحفظ عالمه وإدارة أفلاكه وتسيير كواكبه وتوليد حيواناته وتربية نبات أرضه وتكوين معادنها.
واعلم يا أخي أن الباري - جل ثناؤه - لا يباشر الأجسام بنفسه ولا يتولى الأفعال بذاته، بل يأمر ملائكته الموكلين وعباده المؤيدين فيفعلون ما يؤمرون كما يأمر الملوك الذين هم خلفاء الله في أرضه عبيدهم وخدمهم ورعيتهم لا يتولون الأفعال بأنفسهم شرفا وإجلالا، كذلك يأمر - سبحانه - أو يريد أو يشاء أو يقول: كن، فيكون ما أراد بأمره وإرادته ومشيئته واختراعه وإبداعه وإنشائه وإيجاده وإحداثه الهيولى الأولى والخلق الأول، كما ذكر بقوله تعالى: @QUR010 إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون، وقوله تعالى: @QUR06 وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر، وقوله تعالى: @QUR07 ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة.
واعلم يا أخي أن هذه الصنائع والأفعال التي تجري على أيدي عباده إذا نسبت إلى الباري - جل جلاله - فإن نسبتها على مثل نسبة أفعال الملوك إذا قيل: بنى فلان الملك مدينة كذا، وحفر نهر كذا، وعمر بلد كذا، كما يقال: بنى الإسكندر الرومي سد يأجوج ومأجوج، وبنى سليمان بن داود - عليه السلام - مسجد إيليا، وبنى إبراهيم[4] الخليل - عليه السلام - البيت الحرام، وبنى المنصور مدينة السلام؛ إذ كان ذلك بأمرهم وإرادتهم ومشيئتهم، وإلقائهم وعنايتهم، لا أنهم تولوا الأفعال بأنفسهم أو باشروا الأعمال بأجسامهم، وكذلك حكم إضافة أعمال ملائكة الله وأنبيائه وعباده طبيعية كانت أو اختيارية، فنسبتها إلى الله - تعالى - على هذا المثال تكون كما ذكر الله - تعالى - لنبيه عليه السلام: @QUR07 وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى، وقوله تعالى: @QUR05 فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم، وقوله تعالى: @QUR09 أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون، وقوله تعالى: @QUR09 أفرأيتم ما تحرثون * أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون، وما شاكل هذه الإضافات من الأفعال والأعمال والصنائع والتأليف والتركيب والجمع والتفريق والكون والفساد والنشوء والبلاء إذا نسب إلى الله - تعالى - فعلى هذا السبيل تكون تلك النسبة؛ لأن الله - تعالى - خلق الفاعلين والصناع والعمال وأفعال البشر كانت أو الجن والشياطين والملائكة أو الطبيعة، فحكمها كلها بالإضافة إلى الله حكم واحد؛ لأنهم جميعا عبيده وجنوده وخدمه، خلقهم ورباهم وأنشأهم وقواهم وعلمهم وهداهم وأمرهم ونهاهم، فمطيع وعاص، وخير وشرير ، وفاضل وناقص ، ومعذب ومنعم، ومحسن ومسيء، ومبتلى ومعافى، خلقهم الله أطوارا لسعة علمه ونفاذ مشيئته وإجراء أحكامه وعز سلطانه، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
فصل
إن طائفة من المجادلة لما لم يعرفوا ما الطبيعة نسبت أفعالها كلها إلى الباري - جل جلاله - ووقعت بذلك في شبهة عظيمة وحيرة وشكوك، وذلك لما تبين لهم بأن الفعل لا يكون إلا من فاعل، وشاهدوا أفعالا لم يروا فاعليها نسبوها إلى الباري - جل ثناؤه - ونظروا فيها وبحثوا عنها فوجدوا بعضها شرورا وفسادا مثل موت الأطفال ومصائب الأخيار وتسليط الأشرار وتلف الحيوانات وما يلحقها من الأمراض والأوجاع والجهل والبلوى، كرهوا أن ينسبوا ذلك إلى الباري - عز وجل - فنسبوها إلى التولد بزعمهم، ومنهم من نسبها إلى البخت والاتفاق، ومنهم من نسبها إلى النجوم، ومنهم من نسبها إلى الباري - تعالى - وقال بالمكافأة والمجازاة، ومنهم من قال بالعرض وسابق النظر، ومنهم من قال بالأصلح واللطف، وأقاويل أخرى يطول شرحها من التعديل والتجويز، فطولوا الخطب فيها، وقد بينا طرفا من أقاويلهم في رسالة الآراء والمذاهب والديانات، فاعرفه من هناك إن شاء الله تعالى، ونحن قد بينا أن هذه كلها أفعال الأنفس الجزئية التي هي كلها قوى النفس الكلية الفلكية كما أنشأها باريها - عز وجل - كما ذكر بقوله تعالى: @QUR07 ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة، فما كان من هذه الأفعال خيرا نسب إلى النفس الجزئية الخيرية، وما كان منها شرا نسب إلى الأنفس الشريرة، وعليها تقع المجازاة والمكافأة عن الثواب والعقاب.
واعلم يا أخي أن نفسك هي إحدى النفوس الجزئية، وهي قوة من قوى النفس الكلية والفلكية، لا هي بعينها ولا منفصلة منها، كما أن جسدك جزء من أجزاء جسم العالم، لا هو كله ولا منفصل منه، فانظر الآن كيف أعمالك وأفعالك وأخلاقك وآراؤك ومعارفك، فبحسب ذلك يكون جزاؤك ومكافأتك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما هي أعمالكم ترد إليكم.» وقال الله - تعالى - تصديقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: @QUR011 وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى ... الآية، وفقك الله أيها الأخ للرشاد، وهداك للسداد، إنه رءوف بالعباد، وحسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، اللهم صل على محمد وآله أجمعين.
(تمت رسالة تكوين المعادن، ويتلوها رسالة ماهية الطبيعة.)
الرسالة السادسة من الجسمانيات الطبيعيات في ماهية الطبيعة
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
(1) فصل
اعلم أيها الأخ البار الرحيم - أيدك الله وإيانا بروح منه - أنه لما فرغنا من ذكر الصنائع البشرية في الرسالة الملقبة بالصنائع العملية نريد أن نذكر في هذه الرسالة الصنائع الطبيعية، وكيفية أفعالها في الأركان الأربعة وكيفية مواليدها التي هي الحيوان والنبات والمعادن، والغرض منها تنبيه لنا عن أفعال النفس وماهية جوهرها والبيان عن أخبار الملائكة، ويسميها الفلاسفة روحانيات الكواكب، فنقول أولا: «ما الطبيعة؟»
واعلم يا أخي أن الطبيعة إنما هي قوة النفس الكلية الفلكية، وهي سارية في جميع الأجسام التي دون فلك القمر من لدن كرة الأثير إلى منتهى مركز الأثير.
واعلم أن الأجسام التي دون فلك القمر نوعان؛ بسيطة ومركبة، فالبسيطة أربعة أنواع: وهي النار والهواء والماء والأرض، والمركبة ثلاثة أنواع: وهي المعادن والنبات والحيوانات، وهذه القوة - أعني الطبيعة - سارية فيها كلها، ومحركة ومسكنة ومدبرة لها، ومتممة ومبلغة لكل واحدة منها إلى أقصى مدى غاياتها بحسب ما يليق بواحدة واحدة منها، كما شاء باريها وكما بينا في الرسائل الخمس، وهي رسالة الكون والفساد، ورسالة الآثار العلوية، ورسالة المعادن، ورسالة النبات، ورسالة الحيوان.
واعلم أن النفس الكلية هي روح العالم كما بينا في الرسالة التي ذكرنا فيها أن العالم إنسان كبير، والطبيعة هي فعلها والأركان هي النار والهواء والماء والأرض، هي الهيولى الموضوعة لها والأفلاك والكواكب كالأدوات لها، والمعادن والنبات والحيوانات كلها مصنوعاتها.
واعلم يا أخي أن الصناع البشريين يعلمون أعمالهم بأبدانهم وأيديهم وأرجلهم، وهي كلها مصنوعات للطبيعة كالخشب والحديد والقطن والحب وما شاكلها - كما بينا في رسالة الصنائع العملية - ويظهرون صنائعهم بأدوات اتخذوها من مصنوعات الطبيعة أيضا كالفأس والمنشار والإبرة والقلم وما شاكلها، فهيولاهم وأدواتهم خارجة من ذواتهم، وأما الطبيعة فهيولاها من ذاتها التي هي الأركان الأربعة وهي لها بمنزلة الأربعة الأخلاط في بدن إنسان واحد، وهي سارية فيها كلها وصانعة منها وفيها مصنوعاتها، ومصنوعاتها أيضا ليست بخارجة من ذاتها، وهي كلها كالأعضاء في جسد حيوان واحد، وهي ثلاثة أجناس: معادن ونبات وحيوان، وكل جنس منها تحته أنواع، وكل نوع تحته أنواع، إلى أن تنتهي أنواع تحتها أشخاص، فأما الأنواع والأجناس فهي محفوظة معلومة صورها في الهيولى، وأما الأشخاص فهي غير معلومة ولا محفوظة فيها، والعلة في حفظ صور الأجناس والأنواع في الهيولى هي ثبات عللها الفلكية، وأما تغيير الأشخاص وسيلانها، فمن أجل تغييرات نظامها، وذلك أن العلة الفاعلة لهذه المصنوعات هي النفس الكلية الفلكية بإذن باريها، وكانت الأركان هيولى لها، والطبيعة فعلها، والفلك والكواكب كالأدوات لها، وكان الموضوع في أحكام النجوم ثلاثة أنواع: وهي الأفلاك والكواكب والبروج، وكانت تأثيراتها في هذه الأركان بحسب المناسبات الثلاث، كما بينا في رسالة الموسيقى، وهي مناسبة أعظام أجرامها ومناسبة أبعاد مراكزها ومناسبة حركات بعضها من بعض، ولما كانت المناسبات التي بين فلك الكواكب الثابتة وبين هذه الأركان الأربعة محفوظة أبعادها وأعظامها وحركاتها صارت الأجناس الثلاث محفوظة صورها في الهيولى، ولما كانت أيضا المناسبات التي بين مراكز الأفلاك الحاملة وبين هذه الأركان محفوظة أبعادها وحركاتها وأعظامها صارت صور أنواع هذه الأجناس أيضا محفوظة في الهيولى، ولما كانت المناسبات من أجرام الكواكب السيارة وأفلاك تداويرها وبين هذه الأركان غير محفوظة صارت من أجل ذلك أشخاص هذه الأنواع وصورها غير محفوظة في الهيولى.
واعلم يا أخي أن العالم جملته إحدى عشرة كرة - كما بينا في رسالة السماء والعالم - وأن الشمس مركز جرمها في أوسط الأكر؛ وذلك أن خمس أكر فوقها وخمس أكر دونها، فالتي فوقها كرة المريخ وكرة المشتري وكرة زحل وكرة الكواكب الثابتة وكرة المحيط، والتي دونها كرة الزهرة وكرة عطارد وكرة القمر وكرة النار والهواء وكرة الماء والأرض، وأن حكم الكرتين اللتين فوق كرة زحل غير حكم الأكر الباقية، كما أن حكم الكرتين اللتين دون فلك القمر غير حكم الآخرين، وذلك أن كرة الأشخاص بين الكرتين في الطرفين وهي كرة الكواكب الثابتة وكرة الهواء، لكن تلك الكرة ثابتة صورها وهيولاها جميعا، وهذه الكرة ثابتة بصورها، وهيولاها سيالة، فقد جعلت الحكمة الإلهية والعناية الربانية الكواكب السيارة واسطة بين الطرفين اللذين هما المركز والمحيط؛ لكيما إذا صعدت الكواكب في أوجاتها قربت من تلك الأشخاص الفاضلة واستمدت منها الفيض، وإذا انحطت في الحضيض أوصلت تلك الفيوضات إلى هذه الأركان، فتكونت منها هذه الكائنات المتولدات التي هي المعادن والحيوان والنبات.
واعلم يا أخي أنه إذا سرت تلك الفيوضات من هناك نحو مركز العالم نزلت البركات من السماء إلى الأرض، وهي الأرزاق والرحمة والوحي والتأييد والنصر، فأول ما تسري تلك القوى في الأركان فتكون منها المزاجات الكائنات في باطن الأرض لتكوين المعادن المختلفة الجواهر الكثيرة المنافع، وعلى ظاهر وجهها يكون النبات الكثير الفوائد، وفي الهواء الحيوانات الكثيرة الصور العجيبة الأغراض باختلاف أنواعها وفنون أشخاصها، حتى إذا بلغ كل شيء منها إلى أقصى مدى غاياتها في أدوار الألوف عطفت تلك القوة راجعة نحو المحيط كما بدأ أول مرة، فيكون منها البعث والنشور والمعراج والقيامة، كما ذكر الله تعالى: @QUR011 تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.
واعلم أن تأثيرات الكواكب في هذه الأركان ومولداتها تكون بحسب مناسباتها، ومناسباتها تكون بحسب أعظام أجرامها وأبعاد مراكزها وحركات أجرامها، كما أن تأثيرات نغم الموسيقى تؤثر في النفوس بحسب مناسباتها وبحسب دقة أوتارها وغلظها وخرقها واسترخائها وثقل تحريكها وخفتها، كما بينا في رسالة الموسيقى.
واعلم يا أخي أن المناسبات التي هي بين الأركان ومولداتها وبين الكواكب السيارة ومركز أفلاكها مختلفة تارة تكون على نسبة الأفضل وتارة تكون على نسبة الأدون وتارة بين ذلك، فإذا اتفق أن تكون الكواكب عند استئناف الأدوار على نسبة الأفضل تكون الكائنات على أفضل حالها في تلك الأدوار، ويكون البشر أكثرهم أخيارا وفضلا مثل الملائكة الذين كانوا قبل آدم أبي البشر، وإذا كانت على نسبة الأدون كانت بالضد من ذلك ويكون البشر أكثرهم أشرارا مثل الذين يكونون في أواخر الزمان عند خراب العالم، وإذا كانت متوسطة فبحسب ذلك تكون الكائنات، وأفضل حالات الكواكب أن تكون في صعودها أو إشرافها أو في أوجاتها، وأدونها أن تكون في مقابلة هذه المواضع أو وسطا بين ذلك.
واعلم يا أخي أن كل كائن تحت فلك القمر وكل حادث في هذا العالم له وقت معلوم يحدث فيه لا يكون قبل ولا بعد، وله سبب موجب لكونه لا يكون إلا به، وله بقعة مخصوصة لا يوجد إلا هناك، لا يعلم تفصيلها إلا الله - عز وجل - ولكن نذكر منها طرفا مجملا ليكون على صحة ما قلنا ويتصور المتفكرون حقيقة ما وصفنا، وذلك أن الله - جل ثناؤه - جعل الفلك محيطا بالأرض من جميع الجهات كما بينا في رسالة جغرافيا، ولما كان الفلك مقسوما أربعة أقسام، وكل ربع منه مسامتا لربع من الأرض، وكل كوكب يدور من المشرق إلى المغرب فوق الأرض ومن المغرب إلى المشرق تحت الأرض، فإنه يكون موازيا الدائرة على بسيط الأرض، وتكون مطارح شعاعاته على بسيط الأرض ويكون لتلك الشعاعات زوايا ثلاث قائمة وحادة ومنفرجة، ولكل زاوية منها تأثيرات مختلفات كما بينا في رسالة الآثار العلوية.
واعلم يا أخي بأن الباري - جل ثناؤه - جعل حركات تلك الأشخاص في دورانها سببا موجبا لكون الحوادث في هذا العالم.
وعلة فاعلة للكائنات تحت فلك القمر وجعل الأوقات المعلومة بحسب اجتماعاتها ومناظراتها واتصالاتها في درجات البروج، وجعل البقاع المسامتة لها ولمطارح شعاعاتها مختصة لكونها وحدوثها، وذلك أن الأقاليم السبعة التي في الأرض كالأفلاك السبعة، والبلدان في الأقاليم كالبروج في الأفلاك، والمدن والقرى في البلدان كالوجود والحدود في البروج، والأسواق والمحال في المدن والقرى كالدرجات والدقائق في الحدود، والدور والمنازل والبيوت والدكاكين كالثواني والثوالث في الدقائق، واجتماعات الكواكب في درجات البروج بسبب اجتماعات الحيوانات والجواهر المعدنية والنبات في البلدان والمدن والقرى.
فحدود زحل في البروج سبب وعلة لحدوث الأنهار والجبال والبراري والآجام والغدران والشوارع والطرقات وما شاكلها من حدود البقاع.
وحدود المشتري في البروج سبب لحدوث المساجد والهياكل والبيع ومواضع الصلوات وبقاع القرابين، واجتماعات الكواكب في حدوده علة لاجتماعات الناس في الجمعات والأعياد وتعلم أحكام النواميس وقراءة الكتب النبوية والتفقه في الدين والحكومة عند القضاة والحكام وما شاكل ذلك.
وحدود المريخ في البروج سبب وعلة لحدوث مواقد النيران ومذابح الحيوان ومعسكر الجيوش وأماكن السباع ومواضع الحروب والخصومات وما شاكل ذلك، واجتماعات الكواكب واتصالاتها في حدود المريخ علة لاجتماعات الناس والنبات والجواهر المعدنية في هذه المواضع والأماكن.
وحدود الزهرة في البروج سبب لحدوث البساتين ومواضع النزهة ومجالس اللهو والأكل والشرب والفرح والسرور واللذة والمناظر الحسان، واجتماعات الكواكب ومطارح شعاعاتها في حدودها علة لاجتماعات الناس والنبات والحيوان في هذه المواضع.
وحدود عطارد في البروج سبب لحدوث الأسواق ومواضع الصناع ومجالس الكلام والعلوم ودواوين الكتاب وجموع القصاص ومناظرات العلماء، ودرجات أشرافها سبب لمنازل الملوك وسادات الناس، ودرجات هبوطها سبب لمواضع المحق والسقوط والحبوس وما شاكل ذلك.
(2) فصل
في كيفية وصول تأثير الأشخاص الفلكية الثابتة الوجود الدائمة الدوران إلى هذه الأشخاص السفلية الكائنة عن حركاتها الفلكية القليلة الثبات الدائمة السيلان.
واعلم يا أخي - أيدك الله وإيانا بروح منه - أنه قد قامت البراهين الهندسية على أن الأرض هي مركز العالم، وأن الهواء والأفلاك محيطة محدقة بها من جميع جهاتها.
واعلم أن مثال الأرض في وسط العالم كمثل بيت الله الحرام في وسط الحرم، وأن مثل الفلك المحيط وسائر مراكز الأفلاك في دورانها حول الأركان الأربعة كمثل الطائفين حول البيت.
وأن مثل الكواكب الثابتة مع مطارح شعاعاتها من المحيط نحو مركز الأرض كمثل المصلين المتوجهين من آفاق البلاد شطر البيت.
وأن مثل الكواكب السيارة في مسيرها ذاهبة وجائية تارة من أوجاتها نحو المركز وتارة ذاهبة من حضيضها نحو المحيط كمثل الحجاج تارة ذاهبين من بلدانهم نحو البيت وتارة منصرفين عن البيت الحرام راجعين إلى بلدانهم ، فإذا مروا متوجهين نحو البيت حمل كل واحد مما في بلده من الأمتعة والنفقة والتحف والهدي والقلائد آمين نحو البيت الحرام، فيجتمع هناك في الموسم مما في كل بلد طوائفه وخواص أمتعته، وتجتمع الأمم من كل مذهب يتبايعون ويتشارون، فإذا قضوا مناسكهم انصرف كل أهل بلد بطوائف ما في سائر البلدان ومغفرة من الله ورضوان.
فهكذا يا أخي حكم سريان قوى تلك الأشخاص العالية من محيط الفلك نحو مركز العالم، وذلك أنها إذا اجتمعت مطارح شعاعاتها على بسيط الأرض وتخللت أجزاء الأركان وامتزج بعضها ببعض وسرت تلك القوى فيها يتكون من امتزاجها ضروب المتولدات الكائنات من الحيوان والمعادن والنبات المختلفة الأجناس المفننة الأنواع المتعائرة الأشخاص، لا يعلم كثرة عددها واختلاف أحوالها إلا الله سبحانه.
ثم إن تلك القوى إذا بلغت أقصى مدى غاياتها وتمام نهاياتها المقصودة منها عطفت عند ذلك راجعة نحو المحيط، فيكون سببا لبعث النفوس ونشر الأرواح، إما بربح وغبطة، وإما بخسران وندامة كمثل الراجعين من تجار الحاج، إما بربح وغفران، أو بندامة وخسران.
فانظر يا أخي وتفكر كيف يكون انصرافك من عالم الكون والفساد إلى عالم الأفلاك التي جاءت من نفسك، واعتبر نسبة إلى الحجاج إذا قضوا مناسكهم كيف ينصرفون مشتاقين إلى بيوتهم وأوطانهم.
واعلم يا أخي أن جميع مناسك الحج وفرائضه أمثال ضربها الله - عز وجل - للنفوس الإنسانية الواردة عن عالم الأفلاك وسعة السموات إلى عالم الكون والفساد؛ لكيما يتفكر العاقل ويعتبر وينبه نفسه من سنة الغفلة ورقدة الجهالة وتذكر مبدأها ومعادها وتشتاق فترجع كما جاءت وتجيب الداعي إذا ناداها: @QUR010 يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فتقول: «لبيك اللهم لبيك.»
واعتبر يا أخي كيفية انصراف الحاج إلى بلدانهم، فإنك ترى لأهل كل بلد قافلة وطريقا يمرون فيها متعاونين ذاهبين وراجعين، فهكذا وردت النفوس إلى هذا العالم في كل أمة بدلالة كوكب وبرج في قران، ولا تنصرف الدنيا إلا بدين ومذهب، ويكون زاد كل نفس ما كسبت من خير وشر، فلا تظن يا أخي أنك تقدر على أن ترجع بنفسك وحدها.
واعلم أن الطريق بعيدة والشياطين بالمرصاد قعود كقطاع الطريق، فاعتبر فكما أنك لا تقدر على أن تعيش وحدك إلا عيشا نكدا ولا تجد عيشا هنيا إلا بمعاونة أهل مدينة وملازمة شريعة، فهكذا ينبغي لك أن تعتبر لتعلم بأنك محتاج إلى إخوان أصدقاء متعاونين لتنجو بشفاعتهم من جهنم، وتصعد إلى ملكوت السماء بمعاونتهم، وتدخل الجنة بلا حساب.
واعلم يا أخي علما يقينا أنه لو كان يمكن أن تنجو نفس وحدها بمجردها لما أمر الله - تعالى - بالتعاون حيث قال: @QUR09 وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، وقال: @QUR02 اصبروا وصابروا، وكذلك قال: «ويوم نبعث من كل أمة فوجا»، وقال تعالى: @QUR07 وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا.
وانظر يا أخي بنور عقلك وتفكر بفهمك وقف في مقامك وتوجه نحو البيت، لعلك تعرف بوقوفك على جبل عرفات ما عرف أهل المعارف الذين أشار إليهم بقوله - جل ثناؤه: @QUR06 ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم؛ يعني بعلاماتهم فيزدلف بك معهم إلى المزدلفة، وتبلغ نحو المنى المتمنى، وهم يطمعون إذ تدخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون.
واعلم يا أخي أن من حج البيت بقلب ساه ونفس لاهية بلا علم ولا بصيرة ورأى تلك المناسك وسننها ولم يعقل معانيها ولا درى ما الغرض منها ولا عرف شيئا من أغراضها المقصودة بها رجع من هناك بقلب غافل، ونفس شاكة، وفكر متحير؛ لأنه متى رآها ولم يدر معانيها ولا عرف أغراضها، تخيل له عند ذلك أنها كلعب الصبيان من رمي الحصا والسعي بين الصفا والمروة والإحرام والتلبية والطواف والعمرة وما شاكلها من السنن والفرائض، وعلى هذا القياس لكل أمة من أمم الناس في بيوت عباداتهم من سنن مفترضات دياناتهم وقرابين هياكل صلواتهم أمثلة وأشائر ومرامي ومرموزات لواضعها، وإلى هذا المعنى أشار إبراهيم خليل الرحمن.
واعلم بأن غرض الأنبياء - عليهم السلام - وواضعي النواميس الإلهية أجمع غرض واحد وقصد واحد، وإن اختلفت شرائعهم وسنن مفترضاتهم وأزمان عباداتهم وأماكن بيوتاتهم وقرابينهم وصلواتهم ، كما أن غرض الأطباء كلهم غرض واحد ومقصد واحد في حفظ الصحة الموجودة واسترجاع الصحة المفقودة، وإن اختلفت علاجاتهم في شرباتهم وأدويتهم بحسب اختلاف الأمراض العارضة للأبدان في الأوقات المختلفة والعادات المتغايرة والأسباب المفننة من الأهوية والبلدان.
وذلك أن غرض الأطباء كلهم هو اكتساب الصحة للمريض وحفظها على الأصحاء ودفع الأمراض وإزالتها عن المرضى، فهكذا غرض الأنبياء - عليهم السلام - وغرض جميع واضعي النواميس الإلهية من الفلاسفة والحكماء، وذلك أنهم أطباء النفوس وغرضهم هو نجاة النفوس الغريقة في بحر الهيولى وإخراجها من هاوية عالم الكون والفساد وإيصالها إلى الجنة عالم الأفلاك وسعة السموات بتذكيرها ما قد نسيت من مبدئها ومعادها كما قال الله - تعالى عز وجل: @QUR07 ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر، وقال: @QUR05 وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين، وقال: @QUR02 لعلكم تذكرون، فتئوبون وترجعون كما قال: @QUR010 يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية.
فصل
واعلم يا أخي بأن سنن الديانات النبوية وموضوعات النواميس الفلسفية ومفروضات الشرائع كلها، ومناسك بيوتات العبادات وقرابين الهياكل والصلوات كلها إشارات ومرامي إلى ما أشار إليه إبراهيم خليل الرحمن في بنائه البيت الحرام ووضعه الحجر والمقام وتعليمه المناسك ذريته ودعائه الناس فيهم بالحج إلى البيت الحرام ليشهدوا منافع لهم، وذلك أن الإنسان العاقل اللبيب الفهيم الذكي إذا حج ولبى وطاف وصلى ورأى البيت وشاهد كيفية الحج وما يفعل الحاج والمحرمون من عجائب سنن المناسك ومفروضاتها من الإحرام والتلبية والطواف والسعي ووقوف الحج بعرفات والمبيت بالمزدلفة والتضحية بمنى والحلق والرمي وما شاكلها من فرائض الحج وسنن المناسك، وتفكر فيها بقلب مستيقظ، واعتبرها بعين بصيرة ونفس زكية، فطن لما أراده إبراهيم خليل الرحمن - عليه السلام - فيما سن واحدة واحدة، وما الغرض الأقصى منها كلها، وعرف وفهم واهتدى قلبه واهتدت نفسه وانتبهت وأبصرت فتراجعت وشاهدت ورأت ما أشار الله - تعالى - إليه بقوله: «وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون لمن في الأرض.»
واعلم يا أخي أن الملائكة الحافين بالعرش هم حملة العرش، وهي الكواكب الثابتة الحافة بالفلك التاسع من داخله كما يحف الحاج بالبيت في طوافهم من خارجه فهم يسبحون بحمد ربهم كما قال: @QUR014 وما منا إلا له مقام معلوم * وإنا لنحن الصافون * وإنا لنحن المسبحون، ويؤمنون به ويقرون بأن من وراء مراتبهم ومقاماتهم أمورا أخرى هي أشرف وأعلى يقصر علمهم عنها ويقف فهمهم دونها، كما يقر الحاج من المؤمنين بأن من وراء السموات البيت المعمور وحوله جموع الملائكة طائفين يحجون إليه في كل يوم ألوف ألوف لا يعودون إليه أبدا ويقولون إن هذا البيت الحرام في الأرض بحذاء ذلك البيت المعمور الذي في السماء، وأن هذه السنن والمناسك أمثلة وإشارات إلى تلك السنن والمناسك التي تنسكها الملائكة حول البيت المعمور.
فصل
وإذ قد فرغنا من ذكر ما احتجنا إليه فنقول إن قوما من العلماء تكلموا في أحكام النجوم، فأثبتوا دلائلها على الكائنات وأنكروا أفعالها من عالم الكون والفساد، وقوم أثبتوا دلائلها وأفعالها جميعا، وقوم آخرون أنكروها جميعا، فأما الذين أثبتوا دلائلها فعند الاعتبار عرفوها، ولكن لم ينظروا إلى حقائق الأشياء كيف هي فلم يعرفوها.
وأما الذين أنكروا دلائلها وأفعالها فلتركهم النظر في هذا العلم، وأما الذين أثبتوا دلائلها وأفعالها فإنما عرفوا ذلك بعد النظر والبحث الشديد والاعتبار والتصفح لأمور الموجودات شيئا بعد شيء، حتى أتوا على أواخرها، ثم نظروا إلى أوائلها فرأوا أنها كلها مربوطة رباطا واحدا عن علة واحدة ومبدع واحد مثل العدد، ولما كنا قد قلنا فيها قبل إن هذه الأشياء كلها مفعولات الطبيعة، وإن الأشخاص الفلكية كالأدوات لها، وقوى تلك الأشخاص كالمعاونين للطبيعة احتجنا أن نبين حقيقتها فنقول: إنا قد بينا معنى قول الحكماء إن العالم إنسان كبير له جسم ونفس، وبينا تركيب جسمه في رسالة السماء والعالم، فنزيد أن نبين كيف كان سريان قوى نفسه في الأجسام التي تحت فلك القمر.
واعلم يا أخي بأن جسم العالم بأسره بمنزلة جسم إنسان واحد، وأن جميع أفلاكه وطبقات سمواته وكواكب أفلاكه وأركان طبائعه ومولداتها من جملة جسمه بمنزلة أعضاء بدن إنسان واحد ومفاصل جسده، فإن نفسه تدير أفلاكه وتحرك كواكبها بإذن الباري - جل وعز - كما تحرك نفس إنسان واحد أعضاء جسده ومفاصل بدنه، وإن للنفس بحركات كواكبه فيما دون فلك القمر من الأركان ومولداتها أفعالا فيها وبها ومنها لا يحصي عددها إلا الله - سبحانه - كما أن لنفس الإنسان الواحد في جميع بدنه ومفاصل جسده أفعالا كثيرة، كما بينا في رسالة تركيب الجسد، وذلك أن جسم العالم مركب من إحدى عشر كرة، كما بينا في رسالة تركيب الجسد، وأن العالم مقسوم بنصفين، كما أن جسد الإنسان شقان، وأن في الفلك اثني عشر برجا لمسير كواكبه، منها ستة شمالية وستة جنوبية، كما أن في الجسد اثني عشر ثقبا ستة منها في الجانب الأيمن وستة منها في الجانب الأيسر لمجاري حواسه وسريان قوى نفسه، وأن في الفلك سبعة كواكب مدبرة بها قوام أمره، وهي سبب الكائنات بإذن الباري - عز وجل - كما أن في الجسد سبع قوى فعالة بها قوام أمر الجسد وصلاح حاله، وهي القوة الجاذبة والقوة الماسكة والقوة الهاضمة والقوة الدافعة والقوة الغاذية والقوة النامية والقوة المصورة، ولكل قوة من هذه عضو مخصوص من الجسد، منه تسري القوة إلى جميع أعضاء الجسد، وبه تظهر أفعالها في البدن وهي المعدة والكبد والقلب والدماغ والرئة والطحال والمرارة، فكما أن من هذه الأعضاء تبث للنفس هذه القوى في البدن وتنشر أفعالها في الجسد، فهكذا حكم أفعال هذه الكواكب السبعة في الفلك، فإن النفس الكلية تنبث قوتها في جميع العالم، وبها تظهر أفعالها في الكائنات التي تحت فلك القمر، وكما أن من إفراط أفعال هذه القوى ونقصانها يعرض في البدن الاضطراب والتألم كما يعرف الأطباء، فهكذا من إفراط تأثيرات هذه الكواكب ونقصان أفعال قوتها تكون المناحس والفساد في عالم الكون، كما يخبر بها أصحاب أحكام النجوم، وكما أن شرح علم الطب طويل، والصناعة عجيبة والعمر قصير كما قال بقراط حكيم اليونانيين، فهكذا شرح أحكام النجوم طويل، كما قال حكيم الفرس بزرجمهر كارهست مردينست.
ولكن نذكر منها طرفا، فنقول: إنه ينبث من جرم الشمس قوة روحانية في جميع العالم فتسري في أفلاكه وأركان طبائعه ومولداتها في جميع الأجساد الكلية والجزئية، وبها يكون صلاح العالم وتمام وجوده وكمال بقائه كما تنبعث من القلب الحرارة الغريزية في جميع الجسد التي بها تكون حياة البدن وصلاح الجسد، ويسمي الفلاسفة هذه القوة وما انبث منها في العالم روحانيات الشمس، وذلك بحسب اختصاصها بجسم جسم كاختصاص الحرارة الغريزية بعضو عضو من الجسد وشرح كيفيتها يطول، وقد ذكرنا في رسالة أفعال الروحانيات طرفا منه، وفي رسالة المعادن والنبات والحيوان، ويسمي الناموس هذه القوة ملكا ذا جنود وأعوان، وإسرافيل منهم صاحب الصور، وهكذا ينبث من جرم زحل قوة روحانية تسري في جميع العالم من الأفلاك والأركان والمولدات، وبها تكون تماسك الصور في الهيولى وانبثاثها كما تنبث من جرم الطحال قوة الخلط السوداوي في جميع الجسد ومفاصله، وبها يكون تماسك الأجزاء في البدن من العظام والعصب والجلد وجمود الرطوبات التي لو لم تكن لسال هيولى الجسد كما يسيل الماء والهواء، ويسمي الفلاسفة هذه القوة روحانيات زحل، والناموس يسميها ملكا ذا جنود وأعوان، وملك الموت منهم ومنكر ونكير أيضا، وهكذا ينبث من جرم المريخ قوة روحانية تسري في جميع العالم من الأفلاك والأركان والمولدات، وبها يكون النزوع والنهوض نحو المطالب والنشاط نحو الأعمال والصنائع والترقي في المعالي، وطلب الغايات للبلوغ إلى التمام والوصول إلى الكمال في الموجودات كلها، وتسمي الفلاسفة هذه القوة وما ينبث منها في العالم روحانيات المريخ، ويسميها الناموس ملكا ذا جنود وأعوان، وجبرائيل ومنهم مالك الغضبان وخزنة جهنم أجمعون وسريانها في العالم وانبثاث قواها كما ينبث من جرم المرارة والقوة الصفراوية المميزة للأخلاط الموصلة بها إلى مواضعها المقصودة من أطراف البدن ونهايات الجسد المثيرة للغضب والحقد والحمية وما يشاكلها، وهكذا ينبث من جرم المشتري قوة روحانية تسري في جميع العالم بها يكون اعتدال الطبائع المتضادات وتأليف القوى المتنافرات، وسبب المتولدات الكائنات وحفظ النظام على الموجودات كما ينبث من الكبد رطوبة الدم التي بها يعتدل أخلاط الجسد، ويستوي مزاج الطبائع، وينمو الجسد، وتنشأ الأبدان، وتطيب الحياة، ويلذ بالعيش، وتأنس الأرواح، وتألف النفوس، وتسمي الفلاسفة هذه القوة وما ينبث من أفعالها روحانيات المشتري، ويسميها الناموس ملكا ذا جنود وأعوان، ورضوان خازن الجنان منهم.
وهكذا ينبث من جرم الزهرة قوة روحانية فتسري في جميع العالم وأجزائه، وبها تكون زينة العالم وحسن نظامه وبهاء أنواره ورونق الموجودات وزخرف الكائنات والتشوق إليها والعشق لها والمحبات والمودات أجمع، كما ينبث من جرم المعدة شهوة الملاذ إلى جميع مجاري الحواس التي بها تستلذ المشتهيات وتستطاب النعم وتستحسن الزينة، ومن أجلها يراد البقاء في الدنيا، ولا يتمنى الوصول إلى الآخرة، ويسمي الفلاسفة هذه القوة وما يتفرغ منها روحانيات الزهرة، ويسميها الناموس ملكا ذا جنود وأعوان، منها الحور العين وخزان الجنان.
وهكذا ينبث من جرم عطارد قوة روحانية تسري في جميع جسم العالم وأجزائه بها تكون المعارف والإحساس في العالم والخواطر والإلهام والوحي والنبوة والعلوم أجمع، كما تنبث من الدماغ القوة الوهمية وما يتبعها من الذهن والتخيل والذكر والروية والتمييز والفراسة والخواطر والإلهام والشعور والإحساس والمعارف والعلوم أجمع، وتسمي الفلاسفة هذه القوة وما يتبعها روحانيات عطارد، ويسميها الناموس ملكا ذا جنود وأعوان، والولدان والذين هم خدام أهل الجنان والكرام البررة والكرام الكاتبون منهم.
وهكذا ينبث من جرم القمر قوة روحانية تسري في جميع العالم وأجزائه، وتكون النفس للموجودات في العالمين جميعا؛ تارة من عالم الأفلاك إلى عالم الكون والفساد من أول الشهر، وتارة من عالم الكون والفساد نحو عالم الأفلاك من آخر الشهر، وهي القوة المتوسطة بين عالم الأفلاك معدن البقاء والدوام، وبين عالم الأركان معدن الكون والفساد، كما ينبث من جرم الرئة القوة التي يكون فيها التنفس تارة باستنشاق الهواء من خارج لحفظ الحرارة الغريزية على الجسد، وتارة يكون التنفس بإرساله إلى خارج لترويحه، ويسمي الفلاسفة هذه القوة وما ينبث عنها من الأفعال روحانيات القمر، ويسميها الناموس ملكا ذا جنود وأعوان، فبهذه القوة تنزل الملائكة بالوحي والبركات من السماء ، وبها يصعد بأعمال بني آدم إلى السماء، وبها تعرج الأرواح، والمعقبات منهم.
وهكذا ينبث من كل كوكب من الثوابت قوة روحانية تسري في جميع جسم العالم من أعلى الفلك الثامن الذي هو الكرسي الواسع إلى منتهى مركز الأرض كما ينبث من نور الشمس في الهواء والأجسام الشفافة، وبهذه القوة تحفظ صور أجناس الموجودات في الهيولى، وبها صلاح العالم وقوام وجوده بإذن الباري - عز وجل - ومنها ثبات سكان السموات والأرضين، وإليها أشار بقوله تعالى: @QUR06 وما يعلم جنود ربك إلا هو، وقال حكاية عنهم: @QUR014 وما منا إلا له مقام معلوم * وإنا لنحن الصافون * وإنا لنحن المسبحون، وحملة العرش منهم.
وأما الملائكة الذين سجدوا لآدم أبي البشر، فهم الذين في الأرض خلفاء لهؤلاء الذين هم في الأفلاك وهي نفوس سائر الحيوانات الساجدة لآدم وذريته بالطاعة المسخرة لهم إلى يوم القيامة.
واعلم بأن خراب العالم إنما يكون سببه فساد الكون، وهذا يكون بغلبة أحد الأركان إما بطوفان من الماء مثل ما كان في زمان نوح النبي - عليه السلام - وإما بطوفان من النار مثل ما وعد في القرآن يكون في آخر الزمان بقوله: @QUR05 يوم تأتي السماء بدخان مبين، وسبب ذلك أن تستولي القرانات على البروج المائية والكواكب المائية فيكون طوفان الماء، والبروج النارية والكواكب النارية فيكون طوفان النار، فإذا بلغ قلب الأسد إلى حد المريخ في بروج الأسد بعد سنين فيكون طالع القران وطالع أشهر البروج النارية ويستولي المريخ عليها، فيشبه أن يكون طوفان من النار في ذلك الزمان، وكيفية ذلك أن يحمى الهواء فيصير نارا سموما، فيحترق الإنسان والحيوان، ويبقى العالم - أعني وجه الأرض - خرابا بلا حيوان، ثم إن الله - سبحانه وتعالى - ينشئ النشأة الآخرة، كما وعد في القرآن بقوله: @QUR06 ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون؛ يعني النشأة الآخرة، وقال تعالى: @QUR05 وننشئكم في ما لا تعلمون، فعند ذلك يحصل أهل الجنة فيها منعمون وأهل النار فيها مخلدون، وقد بينا في رسالة البعث كيف يكون ذلك، فانتبه يا أخي من نوم الغفلة ورقدة الجهالة واستعد واعمل للمعاد والنشأة الآخرة، لعلك تبعث يوم القيامة من السعداء، وتصعد إلى ملكوت السماء، وتدخل في زمرة الملائكة الذين هم الملأ الأعلى، ولا تكونن مع الذين يريدون الخلد في الدنيا عالم الكون والفساد لابثين فيها أحقابا، لا يذوقون فيها برد عالم الأرواح ولا شراب نسيم الجنان، كلما نضجت جلودهم بالبلى بدلوا بالكون جلودا غيرها ليذوقوا العذاب، أعاذك الله أيها الأخ من عذاب النار، وبلغك وإيانا وجميع إخواننا دار القرار مع الأبرار، إنه على ما يشاء قدير.
(تمت الرسالة والحمد لله كما هو أهله، وصلى الله على محمد رسوله وآله الأئمة الطاهرين وسلم تسليما، وحسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.)(تمت رسالة ماهية الطبيعة، وتتلوها رسالة أجناس النبات.)
الرسالة السابعة من الجسمانيات الطبيعيات في أجناس النبات
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
(1) فصل
اعلم أيها الأخ البار الرحيم - أيدك الله وإيانا بروح منه - أنه لما فرغنا من ذكر الجواهر المعدنية وبينا طرفا من كيفية تكوينها وكمية أجناسها وفنون أنواعها وخواص منافعها ومضارها في رسالة لنا، وبينا فيها أن آخر مرتبة الجواهر المعدنية متصلة بأول مرتبة الجواهر النباتية، فنريد أن نتبعها برسالة النبات، ونبين فيها أيضا طرفا من كيفية سريان القوى الثابتة فيها، والغرض منها تعديل أجناس النبات وكيفية تكوينها ونشوئها وأسباب اختلاف أنواعها من الأشكال والألوان والطعوم والروائح وأوراقها وأزهارها وحبوبها وبذورها ونموها وعروقها وقضبانها وأصولها من المنافع، فإن أول مرتبة النبات متصلة بأول مرتبة الحيوانية، وآخر مرتبة الحيوانية متصلة بأول مرتبة الإنسانية، وآخر مرتبة الإنسانية متصلة بأول مرتبة الملائكة الذين هم سكان السموات وقاطنو الأفلاك الذين خلقهم الله - تبارك وتعالى - لعمارة عالمه مطيعين في طاعته، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب، ويرجون رحمته ويخافون عذابه، وهم من خشيته مشفقون.
فنقول: اعلم يا أخي بأنك مندوب للقاء ربك، ومبعوث من هذه الدنيا إلى هذه المرتبة، ومقصود بك إليها منذ يوم خلقت، تنتقل من حال أدون إلى حال هي أتم وأكمل وأشرف، إلى أن تلقى ربك وتشاهده، فيوفي لك ما وعدك، فمن تلك الحالات ما قد جاوزت وشاهدت، ومنها ما لم تبلغها بعد، وأنك قد أتى عليك حين من الدهر لم تك شيئا مذكورا، ثم خلقت نطفة من ماء مهين، ثم نقلت إلى الرحم في قرار مكين، ومكثت هناك تسعة أشهر لتتميم البنية وتكميل الصورة، ثم نقلت إلى هذا الجو الفسيح ومكثت أربع سنين لإكمال التربية واشتداد القوة، وشاهدت بالحواس محسوساتها، وحصل لك الفهم والذهن والتمييز والتفكر والروية والمعرفة الغريزية، ثم أسلمت إلى المكتب وعلمت ما لم تكن تعلم من القراءة والكتابة والآداب والرياضيات وحساب الدواوين والكيل والموازين، ثم نقلت إلى مجلس أهل العلم والفضل في المساجد والصلوات والمشاهد والأعياد، وإلى الأسواق والصنائع والأسفار لتشاهد هذا العالم بما فيه من الجبال والبراري والبحار والمدن والقرى والأنهار، وعاينت فيه أصناف الخلائق من الحيوان والنبات والمعادن، وعرفت تصاريف أحوالها في الحر والبرد والليل والشتاء والصيف والنور والظلام وتصاريف الرياح والغيوم والأمطار، وعاينت دوران الأفلاك وطوالع البروج، ومسيرات الكواكب، وحوادث الأيام، ونوائب الحدثان، كل ذلك كيما تنتبه نفسك من نوم الغفلة وتستيقظ من رقدة الجهالة، وتتفكر فيما شاهدت، وتعتبر ما رأيت من أحوال هذه الدنيا.
ولتعلم علما يقينا أنك منتقل من ها هنا إلى حالة أخرى بعد الموت، وتنشأ نشأة أخرى، فكن مستعدا للرحلة وتزود للسفر قبل فناء العمر وتقارب الأجل، وهو أن تتخلق بأخلاق الملائكة، وتتزين بشمائلها، وتترك أخلاق إخوان الشياطين وجنود إبليس أجمعين، وقد بينا كيفية ذلك في رسائلنا الإحدى والخمسين رسالة، فاعرف من هناك إن شاء الله.
واعلم أخي - أيدك الله وإيانا بروح منه - بأن المصنوع المحكم يدل على الصانع الحكيم، وإن كان الصانع الحكيم محتجبا عن إدراك الأبصار، وكل عاقل إذا تأمل أحوال النبات من فنون أشكال أصولها وامتداد عروقها في الأرض وتفرع أغصانها في الهواء، وتقطيع أوراقها في فنون الأشكال وألوان أزهارها من الأصباغ، واختلاف صور حبوبها وأشكال أثمارها من الصغر والكبر واختلاف ألوانها وطعومها وروائحها يتبين له ويعلم علما ضروريا بأن لها صانعا حكيما؛ لأن عقله يشهد له بأن الأركان الأربعة المتضادة القوى المتنافرة الطباع لا تجمع ولا تأتلف ولا تصير على هذه الأوصاف التي تقدم ذكرها إلا بقصد صانع حكيم لا يشك فيه، لكن إذا لم يتفكر في كيفية صنعته لم فعل هكذا، ولم يفعل كذا وكذا؟ لا يفهم ولا يدري ولا يتصور له ذلك، فمن أجل هذا احتجنا إلى أن نذكر من هذا الفن طرفا ليزداد علما كل من يسمعه ويتفكر فيه.
واعلم يا أخي - أيدك الله وإيانا بروح منه - بأن النبات مصنوعات ظاهرة جلية لا تخفى، ولكن صانعها وعلتها باطنة خفية محتجبة عن إدراك الأبصار لها، وهي التي يسميها الفلاسفة القوى الطبيعية، ويسميها الناموس الملائكة وجنود الله الموكلين بتربية النبات وتوليد الحيوانات وتكوين المعادن، ونحن نسميها النفوس الجزئية، والعبارات مختلفة والمعنى واحد، وإنما نسبت الفلاسفة والحكماء هذه المصنوعات إلى القوى الطبيعية، وصاحب الشرع إلى الملائكة ولم ينسبها إلى الله - تعالى - لأنه يجل الباري - جل ثناؤه - عن مباشرة الأجسام الطبيعية والحركات الجرمانية والأعمال الجسدانية، كما يجل الملوك والسادة والرؤساء عن مباشرة الأفعال بأنفسها، وإن كانت تنسب إليها على سبيل الأمر بها والإرادة لها كما يقال: بنى الإسكندر السد، وبنى سليمان مسجد إيليا، وبنى المنصور مدينة السلام، إذ كان بناؤها بأمرهم لا يتولون الأفعال بأنفسهم، فعلى هذا المثال تنسب أفعال عباد الله إلى الله - جل ثناؤه - كما ذكر هو بقوله - تعالى - لنبيه محمد صلى الله عليه وآله: @QUR07 وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى، وقال: @QUR05 فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم، وقال: @QUR04 قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم، وآيات كثيرة في هذا المعنى في القرآن المبين.
واعلم يا أخي - أيدك الله وإيانا بروح منه - بأن العاقل اللبيب إذا تأمل أحوال النبات وتفكر فيها واعتبرها، فلا يجد شيئا منها يخرج عن صورة جنسه أو يتجاوز عن أشكال نوعه؛ وذلك أنه ما رئيت قط ورقة زيتون خرجت من شجرة جوز، ولا حبة شعيرة خرجت من سنبلة حنطة.
وعلى هذا المثال والقياس سائر أنواع الحبوب والثمار والبقول والحشائش، تراها كل واحدة منها حافظة صورة أبناء جنسها، وشكل نوعها كأنها صبت في قوالب مختلفة الأشكال محفوظة الأنواع.
وهكذا حكم كل الحيوانات التامة الخلقة الكاملة الصورة محفوظة صور أجناسها، وأشكال أنواعها في أشخاصها، وذلك أنه ما رئي قط خرج مهر من رحم ناقة، ولا جدي خرج من رحم بقرة، ولا كركي خرج من بيض نعامة ولا فروج خرج من بيض حمامة.
وإذا فكر العاقل اللبيب في هذه الأشياء، وطلب العلة فيها وبحث عنها، فربما يتخيل له أو يتوهم بأنه ليس في قدرة الصانع غير ذلك، أو يظن أن الهيولى لا تقبل إلا تلك الصورة أو يقول إن الحكمة لا تقتضي غير ذلك، فإن توهم وظن أنه ليس في قدرة الصانع غير ذلك، فإن عقله ينكر ذلك عليه؛ لأن من يقدر على اختراع مصنوع فهو على تغيير بنيته أقدر، وإن ظن أو توهم بأن الهيولى لا تقبل غير ذلك من الصور فكيف وهي موضوعة لقبول جميع الصور، فقد أخطأ، وإن قال إن الحكمة لا تقتضي غير ذلك، فما وجه المنع في الحكمة أن يخرج عجل من رحم ناقة، أو جمل من رحم بقرة أو جدي من رحم عنز أو فروج من بيضة حمامة؟ بين لنا ذلك.
واعلم يا أخي - أيدك الله وإيانا بروح منه - بأن لكل نوع من النبات أصلا، فما لأصله كيموس[1] ما ولكيموسه مزاج ما، لا يتكون من ذلك المزاج إلا ذلك الكيموس، ولا يتكون من ذلك الكيموس إلا ذلك النوع من النبات، وإن كان يسقى بماء واحد وينبت في تربة واحدة ويلحقها نسيم هواء واحد وتنضجها حرارة شمس واحدة، فالهيولى الأولى موضوعة لقبول جميع الصور، ولكن الهيولات الثواني كل واحدة منها لا تقبل الصور إلا بأعيان مخصوصة.
والمثال في ذلك أن التراب والماء موضوعة لشجرة الحنطة ولشجرة القطن، ولكن من القطن لا يجيء إلا الغزل، ومن الغزل الثوب، ومن الثوب القميص وغيره، ومن الحنطة لا يجيء إلا الدقيق، ومن الدقيق العجين ومن العجين الخبز.
فعلى هذا المثال والقياس تختلف أحوال النبات؛ وذلك أن رطوبة الماء ولطائف أجزاء التراب إذا حصلت في عروق النبات تغيرت وصارت كيموسا على مزاج ما لا يجيء من ذلك الكيموس والمزاج غير ذلك النوع من النبات، وكذلك حكم أوراقه ونوره وثمره وحبه.
(2) فصل
ثم لما كان النبات مختلف الطباع من الطعوم والألوان والروائح؛ لأنها غذاء للحيوان، وكانت الحيوانات مختلفة الطباع جعل كل نوع من النبات غذاء لنوع من الحيوان ودواء لداء يعرض لها، مذكور ذلك في كتب الطب والبيطرة بشرحها.
واعلم يا أخي - أيدك الله وإيانا بروح منه - بأن لكل نوع من النبات أربع علل: علة هيولانية، وعلة فاعلية، وعلة تمامية، وعلة صورية.
فأما العلة الهيولانية فهي الأركان الأربعة: النار والهواء والماء والأرض.
وأما العلة الفاعلية فهي قوى النفس الكلية.
وأما العلة التمامية فإنها من أجل الحيوان غذاء لها ومنافع.
وأما العلة الصورية فهي أسباب فلكية شرحها يطول، وكل ذلك بإذن الباري - جل ثناؤه، ونريد أن نفصل كل علة منها ونشرحها ليكون في ذلك عبرة لأولي الأبصار ومعرفة لأولي الألباب.
وذلك أن أجزاء الأركان إذا اجتمعت واختلطت وامتزجت واتحدت صارت هيولى ليتكون النبات، والمسبب في اجتماعها واختلاطها هو دوران الأفلاك حول الأركان ومسيرات الكواكب في البروج ومطارح شعاعاتها في جو الهواء نحو مركز الأرض، كل ذلك بإذن الله - تعالى - ولطيف حكمته، فهو الذي خلق الأفلاك وأدارها، وقسم البروج وأطلعها، وصور الكواكب وسيرها، وأرسل النفوس ووكلها، فتبارك الله أحسن الخالقين وأحكم الحاكمين.
وأما كيفية ذلك فنحن نذكرها ونبينها لقوم يعقلون بعون الله وحسن توفيقه إن شاء الله.
واعلم يا أخي - أيدك الله وإيانا بروح منه - أن الشمس إذا طلعت على آفاق البلاد، وأشرقت على جو الهواء، وأضاءت على وجه الأرض حميت مياه البحار والأنهار ولطفت أجزاؤها، وصارت بخارا لطيفا خفيفا، وارتفعت في الهواء في جو السماء، حتى إذا بلغت إلى سطح الزمهرير، وجاوزت كرة النسيم بردت هناك واجتمعت ووقفت وغلظت وتراكمت وصارت غيوما وسحابا وضبابا وطلا وصقيعا، وتراكمت وساقتها الرياح إلى رءوس الجبال ووجوه البراري والقفار والقرى والسوادات والمزارع، وهطلت هناك الأمطار وابتل وجه الأرض، وشرب التراب رطوبة الماء واختلطت أجزاؤه واتحدت، فإذا طلعت الشمس على وجه الأرض وسخنتها حيث تلك الأجزاء المائية جفت وأخذت ترتقي من قعر الأرض إلى وجهها ورفعت معها تلك الأجزاء الأرضية المتحدة بها إلى ظاهر سطح الأرض، ثم إن قوى النفس البسيطة التي هي دون فلك القمر السارية في الأركان تصور من تلك المادة أنواع النبات بفنون أشكالها وألوان أصباغها، كما يعمل الصناع البشريون في أسواق المدن فنون المصنوعات من الهيوليات الموضوعات في صناعتهم المعروفة، كما بينا في رسائلنا.
واعلم يا أخي بأن قوى النفس الكلية الفلكية البسيطة التي ذكرنا أنها تعمل أجناس النبات وأنواعها هي التي ذكرت في كتب الأنبياء - عليهم السلام - أنها ملائكة الله وجنوده الموكلون بها، وذكر أنه قد ورد في الأخبار المتواترة بأن مع كل ورقة وثمرة وحبة تخرجها الأرض من النبات ملكا موكلا يربيها وينشئها ويحفظها من الآفات العارضة لها إلى أن تتم وتكمل وتبلغ إلى أقصى مدى غاياتها، ومنتهى نهاياتها، كل ذلك بإذن الله خالقها وباريها، وكذلك حكم الحيوانات أجمع، كما ذكر الله - جل ثناؤه - بقوله: @QUR011 له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله، ونحن نسمي ما كان منها موكلا بالنبات النفس النباتية، واعلم يا أخي أن الله - جل ثناؤه - قد أيد النفس النباتية بسبع قوى فعالة؛ وهي القوة الجاذبة والقوة الماسكة والقوة الهاضمة والقوة الدافعة والقوة الغاذية والقوة المصورة والقوة النامية.
واعلم يا أخي - أيدك الله وإيانا بروح منه - بأن كل قوة من هذه تفعل شيئا خلاف ما تفعل القوة الأخرى في أجسام الحيوان والنبات، فأما أول فعلها في تكوين النبات فهو جذبها عصارات الأركان الأربعة ومصها لطينها وما فيها من الأجزاء المشاكلة لنوع نوع من أصول النبات، ثم إمساكها لها بالقوة الماسكة، ثم نضجها لها بالهاضمة، ثم دفعها إلى أطرافها بالدافعة، ثم تغذيتها لها بالغاذية، ثم النمو والزيادة في أقطارها بالنامية، ثم التصوير لها بأنواع الأشكال والأصباغ بالمصورة، وذلك أن القوة الجاذبة إذا مصت نداوة الماء بعروق النبات كما يمتص الحجام الدم بالمحجمة، أو كما تمص النار الدهن بالفتيلة، وجذبتها انجذبت معها الأجزاء الترابية اللطيفة لشدة انجذابها، فإذا حصلت تلك المادة في عروق النبات نضجتها الهاضمة، وصارت كيموسا على مزاج ما شاكلها من الجرم والعروق، وتناولتها القوة الغاذية، وألصقت بكل شكل ما يلائمه من تلك المادة، وزادت في أقطارها طولا وعرضا وعمقا، وما فضل من تلك المادة ولطف ورق دفعته إلى فوق في أصول النبات وقضبانها وأغصانها أو جذبته الجاذبة إلى هناك وأمسكته الماسكة لئلا يسيل راجعا إلى أسفل، ثم إن القوة الهاضمة تنضجها مرة ثانية وتغير مزاجها وكيفيتها وتصيرها مشاكلة لجرم الأصول والفروع والأغصان ومادة لها، وزادت في أقطارها طولا وعرضا وعمقا، وما فضل منها ولطف ورق دفعته إلى فوق إلى أعالي الفروع والقضبان والأغصان، وجذبته الجاذبة إلى هناك وأمسكته الماسكة، ثم إن القوة الهاضمة طبختها مرة ثالثة وأنضجتها وصيرتها على مزاج آخر مشاكلا لجرم الورق والنور والزهر وأكمام الحب والثمر مادة لها، وتزيدت في أقطارها طولا وعرضا وعمقا، وما لطف منها ورق صيرته مادة للحب والثمر، وأمسكته هناك بالماسكة، ثم إن القوة الهاضمة تطبخها مرة رابعة وتنضجها وتلطفها وتميزها وتصير الغليظ منها والكثيف منها مادة لجرم القشور والنوى، وتزيد فيها طولا وعرضا وعمقا، وتصير اللطيف الصافي منها مادة للف الحب والثمر وهو الدقيق والدهن والشيرج والدبس، واللون والطعم والرائحة مختلفة طباعها ومنافعها ومضارها وأمزجتها في درجاتها، ولما هي مذكورة في كتب الطب وكتب الأغذية والحشائش بشرحها تركنا ذكرها مخافة التطويل، فهذه الأفعال التي ذكرناها كلها أفعال النفس النباتية الخادمة للنفس الحيوانية المتوسطة بينها وبين الأركان الأربعة، تتناول بعروقها عصاراتها نيا فجا ثم تصفيها وتطبخها وتناولها الحيوان غذاء لطيفا صافيا لذيذا هنيئا مريئا، كل ذلك لطف من الله - جل ثناؤه - بخلقه وشفقته عليهم ورحمة لهم ورفق بهم ، فله الحمد والثناء والشكر والدعاء، ومنه الفضل والنعماء والآلاء والإحسان في الآخرة.
واعلم يا أخي أن النباتات هي كل جسم يخرج من الأرض ويتغذى وينمو، فمنها ما هي أشجار تغرس قضبانها أو عروقها، ومنها ما هي زروع تبذر حبوبها أو بذورها أو قضبانها، ومنها ما هي أجزاء تتكون من أجزاء الأركان إذا اختلطت وامتزجت كالكلأ والحشائش، فهذه الثلاثة الأجناس يتنوع كل واحد منها أنواعا كثيرة من جهات عدة وصفات مختلفة، نحتاج أن نذكر منها طرفا ونشرحها ليكون قياسا على باقيها، ودليلا من القليل على الكثير، ونبدأ أولا بذكر الأشجار فنقول: إن الشجر هو كل نبت يقوم على ساقه منتصبا أصله مرتفعا في الهواء، ويدور عليه الحول لا يجف، وأما النجم فهو كل نبت لا يقوم أصله على ساقه مرتفعا في الهواء، بل يمتد على وجه الأرض أو يتعلق بالشجر ويرتقي معه في الهواء كيما يحصل عند ثقل ثماره بتلابيبه كشجرة الكرم والقرع القثاء والبطيخ، وما شاكلها.
واعلم بأن من الشجر ما هو تام كامل، ومنها ما هو ناقص غير كامل، فالتام الكامل من الأشجار ما كان له هذه التسعة الأجزاء، وهي الأصل والعروق والقضبان والفروع والورق والنور والثمر واللحا والصمغ، والناقص منها ما ينقص واحدة من هذه الأوصاف وأكثر كشجرة الدلب، وأم غيلان، والحلاف، والطرفا، وما شاكلها مما لا ثمرة لها، أو ما لا ورقة لها، أو ما لا نور لها، أو ما لا صمغ لها.
واعلم بأن من الأشجار التامة ما هي أتم وأكمل من بعض وتتفاضل في ذلك جهات عدة؛ فمنها ما هو من جهة أصولها؛ وذلك أن منها ما يقوم على أصول، ويرتفع في الهواء ويتفرع في الجهات كشجرة التين، والتوت، واللوز، والجوز، وغيرها، ومنها ما يرتفع في الهواء منتصبا مفردا مثل شجر النخل والسرو والقنا والصفصاف والساج وغيرها، وهكذا حكم عروقها في الأرض؛ فإن منها ما تنزل عروقه في الأرض كالأوتاد منتصبة، ومنها ما يذهب في الجهات على الاستقامة، ومنها ما ينعطف ويتعوج ويلتف، ومنها ما يجاور بعضه بعضا في منابته ويزدحم، ومنها ما ينفرد ولا ينبت تحتها معها غيرها، ومن النبات والشجر ما ورقه وثمرته متناسبات في الكبر، واللون، والشكل، واللمس، كالأترج والنارنج والليمون والكمثرى والتفاح وما شاكلها، ومن النبات والشجر ما ثمرته وحبه غير مناسب لورقه في الكبر مثل شجر الرمان، والتين، والعنب، والجوز، والنخل وغيرها مما شاكلها، وذلك أن شجرة الأترج مدحرج الشكل ثمرها أخضر اللون لين اللمس مناسب لورقه والنارنج مستدير الشكل مناسب لورقة شجره، والكمثرى مخروط الشكل وكذلك ورقة شجرته، والتفاح مستدير الشكل، وكذلك ورقة شجرته.
وأما ثمرة الرمان فغير مناسبة في الكبر لورقة شجرتها، وكذلك التين والعنب وغيرهما، وعلى هذا القياس حكم حبوب النبات وبذورها منها ما هو مناسب، ومنها ما هو غير مناسب، كل ذلك لعلل وأسباب ومآرب.
(3) فصل في بيان أجناس النبات من جهة الأماكن
واعلم يا أخي بأن من النبات ما ينبت في البراري والقفار، ومنه ما ينبت على رءوس الجبال، ومنه على شطوط الأنهار وسواحل البحار، ومنه ما ينبت في الآجام والغياض، ومنه ما يزرعه الناس ويغرسونه في القرى والسوادات والبساتين والأفرجة.
واعلم يا أخي بأن أكثر النبات ينبت على وجه الأرض إلا القليل منه، فإنه ينبت تحت الماء كقصب السكر والأرز والنيلوفر وأنواع من العكش.
ومن النبات ما ينبت على وجه الماء كالطحلب، ومنه ما ينسج على الشجر والنبات كالكثوثا واللبلاب، ومنه ما ينبت على وجه الصخور، كخضراء الدمن.
ومن النبات ما لا ينبت إلا في البلدان الدفيئة، ومنه ما لا ينبت إلا في البلدان الباردة، ومنه ما لا ينبت إلا في التربة الطيبة، ومنه ما لا ينبت إلا في الرمال وبين الحصى والحجارة والصخور والأرض اليابسة، ومنه ما لا ينبت إلا في الأراضي السبخة المشورجة.
(4) فصل في اختلاف النبات من جهة الأزمان
اعلم بأن أكثر العشب والكلأ والحشائش ينبت في أيام الربيع لاعتدال الزمان وطيب الهواء وكثرة الأمطار المتقدمة في الشتاء، وأما الذي ينبت منها في الفصول الثلاثة فهي قليلة، فمنها ما يزرعها الناس ويتعهدونها بالسقي كالحنطة والشعير والباقلا والعدس وغيرها مما يزرع في الخريف ويحصد في الربيع، ومنها ما يزرع في الشتاء ويدرك في الربيع كالقثاء والخيار والباذنجان، ومنها ما يزرع في الخريف ويستحكم في الشتاء كالجزر والشلغم والكرنب والقرنبيط، ومنها ما يزرع في الصيف ويحصد في الخريف كالسمسم والذرة والأرز وغيرها، ومنها ما يزرع في الربيع ويستحكم في الخريف كالقطن والقنب وغيرها.
واعلم يا أخي أن الباري الحكيم - جل ثناؤه - جعل أوراق النبات زينة لها ودثارا لثمارها ووقاية لحبوبها ونورها وزهرها من الحر والبرد المفرطين، ومن الرياح العواصف والغبار وشدة وهج الشمس، وجعلها أيضا ظلالا للحيوانات وكنا لها وسترا ووطاء وغذاء ومادة لأجسادها وأدوية ومنافع كثيرة، وهكذا حكم ثمارها وحبوبها وبذورها ولحائها وعروقها وأصولها ولبسها وقضبانها وفروعها، كل واحدة من هذه الأنواع ذات منافع كثيرة لا يعلمها إلا الله، وذكر منها طرف في كتب الطب وكتاب الحشائش، وما لم يعلم ولم يذكر أكثر مما علم وذكر.
واعلم يا أخي بأن من أوراق الشجر والنبات ما هو مستطيل الشكل، ومنه ما هو مخروط الرأس مدور الأسفل، ومنه مستدير الشكل، ومنه سقطي الشكل صليبي، ومنه ليلساني الشكل، وسابوري الشكل، ومنه زيتوني الشكل، ومنه جابوتي الشكل، ومنه ذو الأصابع مقسوم بنصفين، ومنه مثلثات، ومنه مزدوجات متقابلات، ومنه مفردات متجانبات، ومنه واسع عريض طويل، ومنه ضيق العرض قليل الطول ثخين لين، ومنه غليظ خشن، ومنه دقيق أملس شفاف أملس، ومنه طيب الرائحة، ومنه منتن الرائحة، ومنه مر الطعم، ومنه حلو الطعم، وغيرها من الطعوم.
وأكثر ألوان ورق النبات أخضر، ولكن منها مشبع اللون، ومنها أغبر اللون، ومنها صافي اللون، ومنها كمد اللون، ومنها لون ظاهرها خلاف باطنها، وهكذا حكم ثمارها وحبوبها وبذورها وأنوارها وأزهارها، كل ذلك لعلل وأسباب ومآرب، ذلك تقدير العزيز العليم، وذلك أن من الثمار ما له قشرة رقيقة نسجها حريري شفاف، ومنها ما قشرته غليظة نسجها ليفي موزي، أو غضروفي صلب، أو خزفي يابس، أو شبكي مربع واسع، أو نسيجي كروشي ثخين، ومن الثمار ما في جوف قشرته شحمة ثخينة أو جامدة أو رطبة سيالة عذبة أو حلوة أو عفصة أو مرة أو مالحة أو تفهة أو حامضة أو دهنية دسمة، ومن الثمار ما في جوف شحمه نواة مستديرة الشكل مستطيلة أو مخروطة أو مصمتة أو مجوفة أو في داخلها لبة دسمة أو مرة أو حلوة أو طعم آخر من الطعوم التسعة، ومن الثمار ما في جوف شحمه حب صغار أو كبار، صلب أو رخو، عليها رطوبة لزجة أو تكون قشفة صلبة مختلفة الأشكال، أو مجوفة في داخلها لب أو تكون فارغة.
واعلم يا أخي بأن بين أوراق الشجر والنبات وبين ثمارها وحبوبها ونورها وأزهارها مناسبات ومشاكلات في الصغر والكبر أو متباينات متفاوتات من جهات عدة، فمنها من جهة الصورة والشكل، ومنها من جهة اللون والطعم والرائحة، ومنها من جهة اللين والخشونة والصلابة والرخاوة، ومنها من جهة الكبر والصغر والسعة والضيق والثخن والرقة والشفافة والكمد والازدواج والانفراد وغير ذلك مما يطول شرحه، كل ذلك لعلل وأسباب ومآرب لا يعلم كنهها إلا الله - تعالى - الذي خلقها وأبدعها كما علمها.
ولكن نذكر من ذلك طرفا ونخبر بعللها الهيولانية وأسبابها الصورية وأغراضها التمامية؛ ليكون دليلا على الباقية وتنبيها لنفوس الغافلين عن التفكر في غرائب مصنوعات الباري الحكيم - جل ثناؤه - ويكون عبرة لأولي الأبصار الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض والآيات التي في الأنفس والآفاق، وليكون أيضا إرشادا لقلوب المتحيرين الذين يظنون أنها ليست بصنع صانع حكيم ولا قصد قاصد، بل اتفاق، وينسبونها إلى الطبيعة ولا يدرون ما الطبيعة، وإلى النجوم والأفلاك ولا يدرون كيف ذلك ولم ذلك ولماذا وجد؟
واعلم يا أخي بأن من الثمار ما هو طويل الشكل مدحرج الخلقة مختلف الألوان على نواة قشرة رقيقة حريرية لينة اللمس صلبة النسج، وعلى هذه النواة شحمة ثخينة عليها قشرة صلبة ملساء، وعلى ظهر النواة نقرة، وفي الجانب المقابل خضرة مستطيلة فيها حشو ليفي، وعلى رأس الثمرة من خارج قمعة عليها شظيات متفرقة متشبثة بالثمرة، ومادة هذه الثمرة من قبل النضج عفصة، وبعد النضج حلوة لزجة وهو التمر.
ومن الثمار ما شكله مستدير وخلقته كبيرة، عليه قشرة كثيفة ليفية ثخينة مجوفة من داخل واسعة فيها خزائن مقومة، وفيها دعاص مقسمة عليها حبوب مرصعة أشكالها مخروطة في جوف تلك الحبوب نواة خزفية رخوة في داخلها لبة دسمة، وفي أسفل رأس الثمرة من خارج فتحة مستديرة فيها غشاوة ليفية، وعليها شظيات نابتة وحولها شرفات قائمة مخروطة وهو ثمر الرمان.
ومن الثمار ما شكله مستدير، وشحمته ثخينة في جوفه نواة مستديرة حسن الملمس في داخل النواة لبة دسمة، وهو النبق.
ومن الثمر ما شكله مستدير سفطي، عليه قشرة ليفية ثخينة من داخلها قشرة أخرى خزفية صلبة مجوفة فيها خزائن مقسومة فيها لبة دسمة عليها قشرة رقيقة وبينها حجب منخرقة أقسامها مهندمة، وإذا فصلت هذه الثمرة انفصلت بنصفين كالسفطين، وهي ثمرة الجوز.
ومن الثمار ما شكله مخروط سفطي وعليه قشرة ليفية في داخلها قشرة خزفية صلبة فيها ثقب نافذ فيها فتائل ليفية، وفي داخل هذه القشرة لبة دسمة عليها قشرة رقيقة صلبة، وهي ثمرة اللوز.
ومن الثمار ليس له نوى وعليه قشرة لحمية، وشكله مخروط صنوبري، وفي أسفله ثقبة مستديرة فيها شظيات زيبرية، وفي جوف هذه الثمرة حبوب صغار رخوة وطعم مادته قبل النضج لين أبيض غليظ حاد محرق، وبعد النضج طعمه حلو، وهو ثمرة التين.
ومن الثمار ما أشكاله مختلفة مستدير ومستطيل ومدحرج ومخروط ومختلف الألوان؛ أسود وأبيض وأحمر وأصفر وأغبر، عليه قشور رقيقة صلبة ملسة ملصقة بشحمتها، وفي جوف شحمتها حبوب مختلفة الأشكال زيتونية فقاعية مضاعفة ومفردة ومزدوجة وثلاثة أربعة خزفية وعظامية، ومنها صلبة، ومنها رخوة في جوف تلك الحبوب لبة دسمة، ومادة شحمتها قبل النضج حامضة، وقبل ذلك عفصة، وبعد النضج حلوة، وهي ثمرة الأعناب.
ومن الثمار ما أشكاله مخروطة أو صدفية عليها قشور رقيقة ملتصقة بشحمتها، وهي غليظة ثخينة في داخلها نواة خزفية أشكالها صدفية داخلها ملساء فيها لبة دسمة، وألوان هذه الثمار مختلفة وطعمها عذب وحلو ومر وحامض ، وقبل النضج كلها عفصة وهي الإجاص والمشمش والخوخ وأمثالها.
ومن الثمار ما أشكاله كرية أو مستطيلة أو مدحرجة، وعليها قشور لحمية غليظة طعم شحمتها حامض، وفي داخلها حب صغار على دعاص مرصعة شبه التلال ما بين خللها لحمة طعمها حامض، وألوان قشرها أحمر وأخضر وأصفر ومادتها قبل النضج عفصة مثل الأترج والنارنج والليمون وما شاكلها.
ومن الثمار ما هي ذات حبة صغيرة، وفي داخلها نواة خزفية، وفي جوفها لبة دسمة مثل الحبة الخضراء والفستق والسماق وحب الصنوبر.
ومن الثمار ما لا ينضج مثل البلوط والعفص وثمر السرو والإهليلج.
واعلم يا أخي - أيدك الله وإيانا بروح منه - بأن الباري - جل ثناؤه - لما أبدع الموجودات واخترع الكائنات جعل أصلها كلها من هيولى واحدة وخالف بينها بالصور المختلفة وجعلها أجناسا وأنواعا مختلفة متفننة متباينة وقوى ما بين أطرافها وربط أوائلها وأواخرها بما قبلها رباطا واحدا على ترتيب ونظام لما فيه من إتقان الحكمة وإحكام الصنعة لتكون الموجودات كلها عالما واحدا منتظما نظاما واحدا وترتيبا واحدا لتدل على صانع أحد.
فمن أجل تلك الموجودات المختلفة الأجناس المتباينة الأنواع المربوطة أوائلها بأواخرها وأواخرها بما قبلها في الترتيب وانتظام المولدات، الكائنات التي دون فلك القمر، وهي أربعة أجناس: المعادن والنبات والحيوان والإنسان، وذلك أن كل جنس منها تحته أنواع كثيرة، فمنها ما هو في أدون المراتب، ومنها ما هو في أشرفها وأعلاها.
ومنها ما هو بين الطرفين فأدون أطراف المعادن مما يلي التراب الجص والزاج وأنواع الشبوب، والطرف الأشرف الياقوت والذهب الأحمر والباقي بين هذين الطرفين من الشرف والدناءة، كما بينا في رسالة المعادن.
وهكذا أيضا حكم النبات؛ فإنه أنواع كثيرة متباينة متفاوتة، ولكن منه ما هو في أدون الرتبة مما يلي رتبة المعادن، وهي خضراء الدمن.
ومنها ما هو في أشرف الرتبة مما يلي رتبة الحيوان، وهي شجرة النخل، وبيان ذلك أن أول المرتبة النباتية وأدونها مما يلي التراب هي خضراء الدمن، وليس بشيء سوى غبار يتلبد على الأرض والصخور والأحجار، ثم تصيبه الأمطار وأنداء الليل، فيصبح بالغد كأنه نبت زرع وحشائش، فإذا أصابه حر شمس نصف النهار جف، ثم يصبح من غد مثل ذلك من أول الليل وطيب النسيم، ولا تنبت الكماة ولا خضراء الدمن إلا في أيام الربيع في البقاع المتجاورة لتقارب ما بينهما؛ لأن هذا معدن نباتي، وذلك نبات معدني.
وأما النخل فهو آخر المرتبة النباتية مما يلي الحيوانية، وذلك أن النخل نبات حيواني؛ لأن بعض أحواله مباين لأحوال النبات وإن كان جسمه نباتا، بيان ذلك أن القوة الفاعلة منفصلة من القوة المنفعلة، والدليل على ذلك أن أشخاص الفحولة منه مباينة لأشخاص الإناث، ولأشخاص فحولته لقاح في إناثها كما يكون ذلك للحيوان.
فأما سائر النبات فإن القوة الفاعلة فيها ليست بمنفصلة عن القوة المنفعلة بالشخص بالفعل حسب ما بينا في رسالة لنا، وأيضا فإن النخل إذا قطعت رءوسها جفت وبطل نموها ونشوءها وماتت.
كل ذلك موجود في الحيوان، فبهذا الاعتبار تبين أن النخل نباتي بالجسم حيواني بالنفس؛ إذ كانت أفعاله أفعال النفس الحيوانية وشكل جسمه شكل النبات.
وفي النبات نوع آخر فعله أيضا فعل النفس الحيوانية لكن جسمه جسم النبات، وهو الكثوث؛ وذلك أن هذا النوع من النبات ليس له أصل ثابت في الأرض كما يكون لسائر النباتات، ولا له أوراق كأوراقها؛ بل إنها تلتف على الأشجار والزروع والشوك فتمتص من رطوبتها وتتغذى بها كما يتغذى الدود الذي يدب على ورق الأشجار وقضبان النبات ويقرضها فيأكلها ويتغذى بها، وهذا النوع من النبات وإن كان جسمه يشبه النبات، فإن فعل نفسه فعل الحيوان، فقد بان بما وصفنا أن آخر الرتبة النباتية متصل بأول المرتبة الحيوانية، وأما سائر المراتب النباتية فهي بين هذين.
واعلم يا أخي بأن أول مرتبة الحيوان متصل بآخر مرتبة النبات، وآخر مرتبة الحيوان متصل بأول مرتبة الإنسان، كما أن أول المرتبة النباتية متصل بآخر المرتبة المعدنية، وأول المرتبة المعدنية متصل بالتراب والماء كما بينا قبل، فأدون الحيوان وأنقصه هو الذي ليس له إلا حاسة واحدة فقط وهو الحلزون ، وهي دودة في جوف أنبوبة تنبت تلك الأنبوبة على الصخر الذي في سواحل البحار وشطوط الأنهار، وتلك الدودة تخرج نصف شخصها من جوف تلك الأنبوبة، وتبسط يمنة ويسرة تطلب مادة يتغذى بها جسمها، فإذا أحست برطوبة ولين انبسطت إليه، وإذا أحست بخشونة أو صلابة انقبضت وغاصت في جوف تلك الأنبوبة حذرا من مؤذ لجسمها ومفسد لهيكلها، وليس لها سمع ولا بصر ولا شم ولا ذوق إلا الحس واللمس فقط، وهكذا أكثر الديدان التي تتكون في الطين، وفي قعر البحار وأعماق الأنهار ليس لها سمع ولا بصر ولا ذوق ولا شم؛ لأن الحكمة الإلهية من مقتضاها أن لا تعطي الحيوان عضوا لا يحتاج إليه جذب المنفعة ودفع المضرة؛ لأنها لو أعطته ما لا يحتاج إليه لكان وبالا عليه في حفظه وبقائه.
فهذا النوع حيوان نباتي؛ لأن جسمه ينبت كما ينبت بعض النبات ويقوم على ساقه قائما، وهو من أجل أن يتحرك جسمه حركة اختيارية حيوان، ومن أجل أنه ليست له إلا حاسة واحدة فهو أنقص الحيوان رتبة في الحيوانية، وتلك الحاسة أيضا فقد يشارك بها النبات؛ وذلك أن النبات له حس اللمس فقط، والدليل على ذلك إرساله بعروقه نحو المواضع الندية وامتناعه من إرساله نحو الصخور واليبس، أيضا فإنه متى اتفق منبته في مضيق مال وعدل عنه طالبا للفسحة والسعة، فإن كان فوقه سقف يمنعه من الذهاب علوا، وكان له ثقب من جانب مال إلى نحو تلك الناحية حتى إذا طال طلع من هناك.
فهذه الأفعال تدل على أن له حسا وتمييزا بمقدار الحاجة، وأما حس الألم فليس للنبات، وذلك أنه لم يلق بالحكمة الإلهية أن تجعل للنبات ألما ولم تجعل له حيلة الدفع كما جعلت للحيوان؛ وذلك أن الحيوان لما جعلت له أن يحس بالألم جعلت له أيضا حيلة الدفع إما بالفرار والذهاب والهرب، وإما بالتحرز، وإما بالممانعة، فقد بان بما وصفنا كيفية مرتبة الحيوانية مما يلي النبات، فنريد أن نبين كيفية مرتبة الحيوانية مما يلي رتبة الإنسان فنقول: إن رتبة الحيوانية مما يلي رتبة الإنسانية ليست من وجه واحد، ولكن من عدة وجوه، وذلك أن رتبة الإنسانية لما كانت معدنا للفضل وينبوعا للمناقب لم يستوعبها نوع واحد من الحيوان، ولكن عدة أنواع، فمنها ما قارب رتبة الإنسانية بصورة جسده مثل القرد، ومنها ما قاربها بالأخلاق النفسانية كالفرس في كثير من أخلاقه، ومنها كالطائر الإنساني أيضا، ومثل الفيل في ذكائه وكالببغاء والهزار ونحوهما من الأطيار الكثيرة الأصوات والألحان والنغمات، ومنها النحل اللطيف الصنائع إلى ما شاكل هذه الأجناس، وذلك أنه ما من حيوان يستعمله الناس ويأنس بهم إلا ولنفسه قرب من نفس الإنسانية.
أما القرد فلقرب شكل جسمه من شكل جسد الإنسان صارت تحاكي أفعال النفس الإنسانية، وذلك مشاهد منه متعارف بين الناس.
وأما الفرس الكريم فإنه قد بلغ من كرم أخلاقه أنه صار مركبا للملوك؛ وذلك أنه ربما بلغ من أدبه أنه لا يبول ولا يروث ما دام بحضرة الملك أو حاملا له، وله أيضا مع ذلك ذكاء وإقدام في الهيجاء وصبر على الطعن والجراح كما يكون الرجال الشجعان، كما وصف الشاعر فقال:
وإذا شكا مهري إلي جراحه
عند اختلاف الطعن قلت له اقدما لما رآني لست أقبل عذره
عض الشكيم على اللجام وحمحما
وأما الفيل فإنه يفهم الخطاب بذكائه، ويمتثل الأمر والنهي كما يمتثل الرجل العاقل المأمور المنهي.
فهذه الحيوانات في آخر مرتبة الحيوان مما يلي رتبة الإنسان؛ لما يظهر فيها من الفضائل الإنسانية، وأما باقي أنواع الحيوانات فهي فيما بين هاتين المرتبتين، فسبحان الخالق البارئ القادر القاهر الحكيم العالم الذي خلق الخلائق بقدرته وفضل البعض على البعض برحمته، وخلق النبات مع اختلاف ألوانها وأشكالها وطعومها ومنافعها مصلحة ومنفعة لخلقه، وخلق الحيوانات الخسيسة والشريفة لنظام العالم ومعايش الخلائق بوجدانهم، تعالى الله علوا كبيرا.
وإذ قد فرغنا من ذكر مراتب الحيوانية مما يلي مراتب الإنسانية، فينبغي أن نذكر أولا المرتبة الإنسانية مما يلي الحيوانية.
(5) فصل في مرتبة الإنسانية
اعلم يا أخي بأن أول مرتبة الإنسانية التي تلي مرتبة الحيوانية هي مرتبة الذين لا يعلمون من الأمور إلا المحسوسات، ولا يعرفون من العلوم إلا الجسمانيات، ولا يطلبون إلا إصلاح الأجساد، ولا يرغبون إلا في رتب الدنيا، ولا يتمنون إلا الخلود فيها مع علمهم بأنه لا سبيل لهم إلى ذلك، ولا يشتهون من اللذات إلا الأكل والشرب مثل البهائم، ولا يتنافسون إلا في الجماع والنكاح كالخنازير والحمير، ولا يحرصون إلا على جمع الذخائر من متاع الحياة الدنيا، ويجمعون ما لا يحتاجون إليه كالنمل، ويحبون ما لا ينتفعون به كالعقعق، ولا يعرفون من الزينة إلا أصباغ اللباس كالطواويس، ويتهارشون على حطام الدنيا كالكلاب على الجيف، فهؤلاء وإن كانت صورهم الجسدانية صورة الإنسان فإن أفعال نفوسهم أفعال النفوس الحيوانية والنباتية، فأعيذك أيها الأخ البار الرحيم أن تكون منهم أو مثلهم وإيانا وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد.
وأما رتبة الإنسانية التي تلي رتبة الملائكة فهو أن يجتهد الإنسان ويترك كل عمل وخلق مذموم قد اعتاده من الصبا، ويكتسب أضداده من الأخلاق الجميلة الحميدة، ويعمل عملا صالحا، ويتعلم علوما حقيقية ويعتقد آراء صحيحة حتى يكون إنسان خير فاضلا، وتصير نفسه ملكا بالقوة، فإذا فارقت جسدها عند الموت صارت ملكا بالفعل، وعرج بها إلى ملكوت السماء، ودخلت في زمرة الملائكة، ولقيت ربها بالتحية والسلام كما ذكر الله - جل ثناؤه: @QUR04 تحيتهم يوم يلقونه سلام، وقال تعالى: @QUR012 الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون، وقال تعالى: @QUR07 لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون، وقال: ادخلوا الجنة التي كنتم توعدون، وآيات كثيرة من القرآن في هذا المعنى.
وإذ قد ذكرنا طرفا من كيفية أصول الأشجار وثمارها وأوراقها ذكرا مجملا، فنريد أن نذكر أيضا طرفا من علل فنون تركيبها والأسباب التي من أجلها وجب أن تكون كذلك ليتبين ما الغرض منها، والعناية الربانية بها والحكمة الإلهية فيها؛ لتكون دليلا وقياسا على غيرها مما لا يعلم أحد كنه غاياتها إلا الله الذي خلقها وصورها وأنشأها وأتمها لبلوغ غاياتها وتمام نهاياتها.
فمن ذلك شجرة النخيل فإنها كثيرة العروق دقيقتها بطيئة النشوء طويلة العمر منتصبة الارتفاع مستديرة الأصل، مسدسة مخارج السعف مستطيلة الأوراق مزدوجة مقابل رخو الجرم متخلخلة تركيب الجسم محشو خللها بزيبر رخو ملتف حوله على أصول سعفه ليفات منسوجة موازية طبقات ثلاث.
وأما علة كثرة عدد عروق هذه الشجرة فهي لكيما تجذب بها القوة الطبيعية الجاذبة للمواد الكثيرة، وذلك لشدة حاجة هذا الجنس من النبات إلى المواد الكثيرة لكبر جثتها وعظم جرمها وطول قامتها وكثرة عدد سعفاتها وأوراقها لكيما تستعمل في جرم أصولها طولا وعرضا وعمقا وبعضها في جرم سعفها مثل ذلك، وبعضها في جرم أوراقها مثل ذلك، وبعضها في ليفها، وبعضها في جرم أكمام طلعها وبعضها في جرم قضبان قنواتها، وبعضها في جرم نواة ثمرها، ودبسها وشيرجها.
وأما العلة في جعل تركيب جسم أصلها رطبا رخوا متخلخلا فلكيما يسهل على القوى الطبيعية جذب تلك المواد من أسفلها إلى أعاليها ورءوس أجذاعها وفروع سعفها وأوراقها، فلو كان جرم أصلها صلبا متكاثفا مكتنزا كسائر الأشجار الطوال كالساج والدلب والسرو، لعسر على القوى الطبيعية جذب تلك المواد إلى هناك، ولكثرة عدد عروق شجر النخل ولطافته علة أخرى، وذلك أن أصل جرمه لما كان مركبا من قضبان كأنها خيوطات مجموعة متداخلة جعل لكل خيط منها عروق ممتدة في الأرض تمتص بها المواد إلى ذلك الخيط مفردا ليسهل على الطبيعة تقسيم تلك المواد على تلك القضبان من أول الأمر، ولما كان تركيب جرم شجر النخل على ما ذكرنا من الرخاوة والتخلخل لفت عليها الطبيعة سعفات من الليف على أصول مخارج سعفاتها من أجذاعها كأنها مآزر مشدودة على وسط حمال متشمر؛ كل ذلك لكيما تمسك أصول تلك السعفات على جذوعها، ولا تنفصل عنها عند هز الرياح العاصفة لها، ولا تتصدع تلك الأجذاع من ثقل أعاليها على أسافلها عند ميلانها يمنة ويسرة عند تحريك الرياح لها.
وأما السبب الذي من أجله جعل على الطلع الغلاف، فلكيما يحفظه ويصونه من الآفات العارضة من البرد والحر المفرطين والمطر الشديد والرياح والعواصف والغبار وما شاكل هذه الأشياء المضرة بها؛ لأنها تخرج رطبة ندية رخصة رخوة، فإذا استحكمت واشتدت انشقت تلك الأكمام والغلف عنها، وظهرت لنسيم الهواء وحرارة الجو لتربو وتسمن وتنضجها حرارة الشمس وتصير بسرا ورطبا جنيا هضيما ثم تجف وتصير تمرا ودبسا جامدا.
وأما النساجة الحريرية التي على نواه فجعلت حاجزة بين جرم النواة، ودبس الثمرة لئلا يمتص عفوصة جرم النواة وغلظ جوهرها دبس الثمر وشيرجها؛ لأن من طبع جواهر الأجسام الأرضية أن تشرب نداوة الرطوبات الرقيقة الدهنية، وتمتصها، فلو لم تجعل تلك الغشاوة الرقيقة الحريرية النسج هناك لاختلط دبس الثمرة مع جرم نواتها، وقل الانتفاع بها.
وأما الحفرة المستطيلة في جرم نواة الثمرة والفتيلة التي فيها، فإنما جعلت تلك لكيما تجري فيها تلك المواد من أولها إلى آخرها، وتجمد أولا فأولا.
وأما النقرة التي على ظهر النواة فإنما جعلت تلك بابا ومخرجا عند الغرس، ومن هناك يخرج العرق النازل في الأرض ليجذب المواد ويمتص النداوة والرطوبة من المغرس، ومن هناك تخرج الطاقة المورقة التي تبدو أولا وتظهر من الأرض عند الغرس ثم تصير أصلا وجذعا على مرور الأيام وطول الزمان.
وأما الأقماع التي على رءوس الثمرات فجعلت تلك مصفاة للمواد التي تجذبها القوى الطبيعية إلى هناك وتميز الغليظ من اللطيف، وترسل الليف الرقيق إلى ظاهر جرم الثمرة، وتجمده عليها دبسا وشيرجا، وترسل الغليظ الفحل إلى جرم النواة وتجمده عليها.
وأما ثمار الجوز واللوز والفستق وأشباهها، فتفعل بها الطبيعة مثل هذا التمييز سواء، ولكنها ترسل الغليظ الفحل إلى ظاهرها، واللطيف الرقيق إلى باطنها بالعكس مما تفعل في ثمرة التمرة.
وأما ثمرة التين والجميز فلم يميز لطيفها من غليظها؛ لأن موادها وكيموسها معتدلان، وليس بين الأجزاء الأرضية والأجزاء المائية كثير تفاوت، فلم تحتج الطبيعة أن تميزهما وتفصلهما مثل ما فعلت في ثمرة التمرة والجوز وما شاكلها من سائر الثمار، بل قد ميزت الطبيعة تلك المادة بأجزاء أخرى، فجعلت في داخل الثمرة حبوبا صغارا، وعلى خارجها قشرة رقيقة ظاهرة صاينة لرطوبتها من الغبار والقذى.
وأما كيفية تركيب عروق شجرة التين وجرم أصولها وقضبانها وورقها وثمرها فهي على غير تركيب شجرة النخلة؛ وذلك أن عروق التين غلاظ ذاهبات تحت الأرض في الجهات مستقيما ومعوجا في عمقها، وفيها تجويفات مثل ما في جوف القصب، لكنها أضيق قليلا، وهكذا تركيب أصول شجر التين وقضبانها وفروعها فيها تجويفات لطيفة، ولها عقد مثل عقد القصب، وفي تلك التجويفات زيبرية محشوة خللها.
وأما سبب تلك التجويفات التي في عروقها وأصولها وقضبانها فهو لكيما يسهل على القوى الطبيعية الجاذبة جذب تلك المواد من عمق الأرض والتي هي الأجزاء الأرضية ورطوبات مائية إلى أصول أشجارها ورفعها من أسافلها إلى أعالي رءوسها وأطراف فروعها، وجعلت تلك العقد في مواضع تلك التجويفات، وحشيت زيبرا لكيما يسهل على القوة الماسكة إمساك تلك المواد هناك؛ لئلا ترجع إلى أسفل بثقلها، وتبقى هناك تهضمها القوة الهاضمة، وتستعملها القوة الغاذية وتزيد في أجرامها وأطرافها طولا وعرضا وعمقا القوة النامية.
وأما شجرة العنب فقد ركب جرم أصولها وجسم قضبانها تركيبا غير تركيب شجرة النخل والتين، أما عروقها فتذهب تحت الأرض ممتدة في الجهات دقاقا وغلاظا، وفيها تجويفات مثل ما في عروق شجرة التين، ولكن جرم أصولها يمتد طويلا على وجه الأرض، ولا يكاد يقوم على ساقه مرتفعا في الهواء كثيرا كغيره من الأشجار، وعلى ظاهر قضبانه عقد وأنابيب ظاهرة مجوفات محشوة زيبرا مثل قضبان شجر التين للغرض الذي ذكرنا، وعليها أليفة منسوجة رخوة سلسة، وعند عقد قضبانها تخرج شظيات لينة منبثة تلتف على الأشجار وتتعلق بها وترتقي عليها لتحل عليها ثقل ثمرتها؛ لأن أصولها دقيقة لا تطيق حملها، ويخرج من ثمرتها حبات مجتمعة متجاورة متعلقة لتغطيها ورقة واحدة على عناقيدها غير محتاجة إلى غلاف أو أكمام تصونها من الآفات مثل ما تحتاج ثمرة النخل؛ لأن مثل مادتها غليظة صلبة عفصة لا تعرض لها الآفات كما تعرض لثمرة النخل؛ لأنها تخرج رخوة رخصة ندية ترفة تسرع إليها الآفات.
وأما تركيب ثمرة العنب وحباتها فإذا نضجت تبين عليها هناك قشرة رقيقة حريرية النسج جعلت تلك لتحفظ رطوباتها هناك ودبسها وشيرجها من الآفات العارضة لها من الرياح والغبار، وحرارة الشمس أن تنشف تلك الرطوبات أو تحللها كما تفعل بالمياه المستنقعات، وجعل في وسط لحمها عجمات صلبة خزفية مجوفة في داخلها لب دسم هو بذر العنب وبذوره، وإنما لم يحتج إلى أن يكون بين تلك العجمات وبين دبس العنب غشاوة رقيقة مثل ما بين نواة التمرة ودبسها كما ذكرنا قبل؛ لأن تلك العجمات وإن كانت جواهرها أرضية عفصية فهي صغيرة وهي أيضا رخوة ليست صلابتها كصلابة نواة التمرة وغلظ جوهرها، وعلة أخرى أنها مجوفة في داخلها لب دسم فلم تجف الطبيعة حتى تنشف تلك العجمات بشيرج العنب، ولم تجعل بينهما حاجزا كما جعلت في خلقة التمرة، وعلة أخرى أيضا أن دبس العنبة وشيرجها كثير بالإضافة إلى جرم تلك العجمات، وليس حكم جرم نواة التمرة ودبسها مثل ذلك، بل جرم نواتها بالإضافة إلى دبسها وشيرجها كثير، فإن قال قائل أو ظن متوهم أن الأشجار تغرس ولا تحتاج إلى بذر يزرع وبذر يحفظ إلى وقت الحاجة، فما الحكمة في كون عجمات العنب وحبات ثمرة التين وغيرها في جوفها؟! فليعلم هذا القائل بأن الحكمة الإلهية والعناية الربانية لم يذهب عليها هذا المقدار من العلم، ولكن خفيت عليك تلك العلة وذلك السبب، فاعترضتك الشكوك والحيرة والظنون والتخيل الفاسد والوهم الكاذب، وقد ذكرنا علتها وسببها وجواب سؤالك في موضع آخر تجده إن شاء الله تعالى.
(تمت الرسالة السابعة من الطبيعيات في ماهية النبات، وهي الرسالة العشرون من رسائل إخوان الصفا، وتتلوها الرسالة الثامنة في بيان تكوين الحيوانات.)
الرسالة الثامنة من الجسمانيات الطبيعيات في كيفية تكوين الحيوانات وأصنافها
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
(1) فصل
اعلم أيها الأخ البار الرحيم - أيدك الله وإيانا بروح منه - أنه لما فرغنا من ذكر النباتات، وبينا طرفا من كيفية تكوينها ونشوئها ونموها وكمية أجناسها وفنون أنواعها، وخواص طباعها ومنافعها ومضارها في رسالة لنا وبينا فيها أيضا بأن أول مرتبة النبات متصلة بآخر مرتبة الجواهر المعدنية، وأن آخرها متصل بأول مرتبة الحيوان، فنريد أن نذكر في هذه الرسالة أيضا طرفا من كيفية تكوين الحيوانات وبدء كونها ونشوئها ونمائها وكمية أجناسها وفنون أنواعها وخواص طباعها واختلاف أخلاقها، ونبين أيضا بأن آخر مرتبة الحيوان متصل بأول مرتبة الإنسان، وآخر مرتبة الإنسان متصل بأول مرتبة الملائكة الذين هم سكان الهواء والأفلاك وأطباق السموات ليكون في ذلك بيان، ودليل لمن كان له قلب صاف ونفس زكية وعقل راجح على كيفية ترتيب الموجودات ونظام الكائنات عن علة واحدة ومبدأ واحد، وأنها كترتيب العدد عن الواحد الذي قبل الاثنين، ونبين أيضا بأن نسبة صورة الإنسانية إلى صور سائر الحيوانات كنسبة الرأس من الجسد ونفسه كالسائس وأنفسها كالمسوس.
وقد بينا في رسالة الأخلاق بأن صورة الإنسانية هي خليفة الله في أرضه، وبينا فيها أيضا كيف ينبغي أن تكون سيرة كل إنسان حتى يستأهل أن يكون من أولياء الله ويستحق الكرامة منه، وبينا أيضا في أكثر رسائلنا فضيلة الإنسان وخصاله المحمودة وأخلاقه المرضية ومعالمه الحقيقية وصنائعه الحكمية وتدابيره المرضية وسياسته الربانية، ونريد أن نذكر في هذه الرسالة طرفا من فضائل الحيوانات وخصالها المحمودة وطبائعها المرضية وشمائلها السليمة، ونبين أيضا طرفا من طغيان الإنسان وبغيه وتعديه على ما سواه مما سخر له من الأنعام والحيوانات أجمع، وكفرانه النعم وغفلته عما يجب عليه من أداء الشكر، وأن الإنسان إذا كان فاضلا خيرا فهو ملك كريم خير البرية، وإن كان شريرا فهو شيطان رجيم شر البرية، وجعلنا بيان ذلك على ألسنة الحيوانات؛ ليكون أبلغ في المواعظ وأبين في الخطاب وأعجب في الحكايات وأظرف في المسامع وأطرف في المنافع وأغوص في الأفكار وأحسن في الاعتبار.
فصل
واعلم أيها الأخ - أيدك الله وإيانا بروح منه - بأن الجواهر المعدنية هي في أدون مراتب المولدات من الكائنات، وهي كل جسم متكون منعقد من أجزاء الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، وأن النبات يشارك الجواهر في كونها من الأركان ويزيد عليها وينفصل منها بأنه كل جسم يتغذى من الأركان وينمو ويزيد في أقطارها الثلاثة طولا وعرضا وعمقا، وأن الحيوان أيضا يشارك النبات في الغذاء والنمو، ويزيد عليه وينفصل عنه بأنه جسم متحرك حساس، والإنسان يشارك النبات والحيوان في أوصافها ويزيد عليها وينفصل عنها بأنه ناطق مميز جامع لهذه الأوصاف كلها.
فصل
ثم اعلم يا أخي بأن النبات متقدم الكون والوجود على الحيوان بالزمان؛ لأنه مادة لها كلها وهيولى لصورها وغذاء لأجسادها، وهو كالوالدة للحيوان - أعني النبات - وذلك أنه يمتص رطوبات الماء ولطائف أجزاء الأرض بعروقه إلى أصوله، ثم يحيلها إلى ذاته ويجعل من فضائل تلك المواد ورقا وثمارا وحبوبا نضيجا ويتناول الحيوان غذاء صافيا هنيئا مريئا كما تفعل الوالدة بالولد فإنها تأكل الطعام نضيجا ونيئا وتناول ولدها لبنا خالصا سائغا للشاربين، فلو لم يكن النبات يفعل ذلك من الأركان لكان يحتاج الحيوان إلى أن يتغذى من الطين صرفا، ومن التراب سفا، ويكون منغصا في غذائه وملاذه، فانظر يا أخي - أيدك الله وإيانا بروح منه - إلى معرفة حكمة الباري - جل ثناؤه - كيف جعل النبات واسطة بين الحيوان وبين الأركان حتى يتناول بعروقه لطائف الأركان وعصاراتها ويهضمها وينضجها ويصفيها ويناول الحيوان من لطائف لبابها وحبوبها وقشورها وورقها وثمارها وصموغها ونورها وأزهارها لطفا من الله - تعالى - بخلقه وعناية منه ببريته، فتبارك الله أحسن الخالقين، وأحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين.
فصل
ثم اعلم يا أخي - أيدك الله وإيانا بروح منه - بأن من الحيوان ما هو تام الخلقة كامل الصورة، كالتي تنزو وتحبل وتلد وترضع، ومنها ما هو ناقص الخلقة، كالتي يتكون من العفونات، ومنها ما هو كالحشرات والهوام بين ذلك كالتي تنفذ وتبيض وتحضن وتربي.
ثم اعلم بأن الحيوانات الناقصة الخلقة متقدمة الوجود على التامة الخلقة بالزمان في بدء الخلق؛ وذلك أنها تتكون في زمان قصير، والتي هي تامة الخلقة تتكون في زمان طويل لأسباب وعلل يطول شرحها، وقد ذكرنا طرفا منها في رسالة مسقط النطفة ورسالة الأفعال الروحانية، ونقول أيضا إن حيوان الماء وجوده قبل وجود حيوان البر بزمان؛ لأن الماء قبل التراب، والبحر قبل البر في بدء الخلق.
فصل
واعلم يا أخي بأن الحيوانات التامة الخلقة كلها كان بدء كونها من الطين أولا من ذكر وأنثى، توالدت وتناسلت وانتشرت في الأرض سهلا وجبلا وبرا وبحرا من تحت خط الاستواء حيث يكون الليل والنهار متساويين والزمان أبدا معتدلا هناك بين الحر والبرد والمواد المتهيئة لقبول الصورة موجودة دائما، وهناك أيضا تكون أبونا آدم أبو البشر وزوجته، ثم توالد وتناسلت أولادهما وامتلأت الأرض منهم سهلا وجبلا وبرا أو بحرا إلى يومنا هذا.
ثم اعلم يا أخي بأن الحيوانات كلها متقدمة الوجود على الإنسان بالزمان؛ لأنها له ولأجله، وكل شيء هو من أجل شيء آخر فهو متقدم الوجود عليه، هذه الحكمة في أولية العقل لا تحتاج إلى دليل من المقدمات ونتائجها؛ لأنه لو لم يتقدم وجود هذه الحيوانات على وجود الإنسان لما كان للإنسان عيش هنيء ولا مروة كاملة، ولا نعمة سائغة؛ بل كان يعيش عيشا نكدا فقيرا بائسا بسوء الحال كما سنبين بعد هذا في فصل آخر عند فراغ زعيم أهل المدن من خطابهم وكيفية أحوالهم كيف تكون عند فقدان الحيوانات.
فصل
واعلم يا أخي - أيدك الله وإيانا بروح منه - بأن صور النبات منكوسة الانتصاب إلى أسفل؛ لأن رءوسها نحو مركز الأرض ومؤخرها نحو محيط الأفلاك، والإنسان بالعكس من ذلك؛ لأن رأسه مما يلي الفلك ورجليه مما يلي مركز الأرض في أي موضع وقف على بسيطها شرقا وغربا وجنوبا وشمالا من الجوانب كلها، ومن هذا الجانب ومن ذلك الجانب والحيوانات متوسطة بين ذلك لا منكوسة كالنبات ولا منتصبة كالإنسان، بل رءوسها إلى الآفاق ومؤخرها إلى ما يقابله من الأفق الآخر، كيفما دارت وتصرفت في جميع أحوالها، وهذا الوضع والترتيب الذي ذكرنا من أمر النبات والحيوانات والإنسان أمر إلهي بواجب الحكمة الإلهية والعناية الربانية ليكون في ذلك دلالة وبيان لأولي الأبصار والناظرين في أسرار الخلقة والباحثين عن حقائق الأشياء والمعتبرين بما في الأرض من الآيات والعلامات والدلالات بأن قوى النفس الكلية المنبثة في العالم من أعلى فلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض بعضها منتصب نحو المركز، وبعضها منصرف إلى المركز المحيط، وبعضها منبث متوجه نحو الآفاق على المركز، في كل فج منها جنود الله منصرفين لحفظ العالم وتدبير الخلائق والسياسة الكلية ومآرب أخرى لا يعرف كنه معرفتها أحد إلا الله عز وجل.
وقد بينا في رسالة لنا بأن قوى النفس الكلية أول ما تبتدئ تسري في قعر الأجسام من أعلى سطح فلك المحيط إلى نحو مركز الأرض، فإذا سرت في الأفلاك والكواكب والأركان والمولدات، وبلغت إلى مركز الأرض من أقصى مدى غايتها ومنتهى نهاياتها عطفت عند ذلك راجعة نحو المحيط وهو المعراج والبعث والقيامة الكبرى.
فانظر الآن يا أخي - أيدك الله وإيانا بروح منه - كيف يكون انصراف نفسك من هذا العالم إلى هناك، فإنها هي إحدى تلك القوى المنبثة من النفس الكلية السارية في العالم، وقد بلغت إلى المركز وانصرفت ونجت من الكون في المعادن أو في النبات أو في الحيوان، وقد جاوزت الصراط المنكوس والصراط المقوس، وهي الآن على صراط مستقيم آخر درجات جهنم، وهي الصورة الإنسانية، فإن جاوزت وسلمت من هذه دخلت الجنة في أحد أبوابها، وهي الصورة الملكية التي تكسبها بأعمالك الصالحة وأخلاقك الجميلة وآرائك الصحيحة ومعارفك الحقيقية وبحسن اختيارك، فاجتهد يا أخي قبل الفوت وفناء العمر وتقارب الأجل، واركب مع إخوانك في سفينة النجاة يرحمك الله برحمته، ولا تكن مع المغرقين وإخوان الشياطين.
فصل
واعلم يا أخي بأن الحيوان هو جسم متحرك حساس يتغذى وينمو ويحس ويتحرك حركة مكان وأن من الحيوان ما هو في أشرف المراتب مما يلي رتبة الإنسانية، وهو ما كانت له الحواس الخمس والتمييز الدقيق وقبول التعليم، ومنه ما هو في أدون رتبة مما يلي النبات، وهو كل حيوان ليس له إلا حاسة اللمس حسب، كالأصداف وما كان كأجناس الديدان كلها، تتكون في الطين أو في الماء أو في الخل أو في الثلج أو في لب الثمر أو في الحب أو لب النبات والشجر أو في أجواف الحيوانات الكبار الجثة وما أشبهها.
وهذا النوع من الحيوانات أجسامه لحمية وبدنه متخلخل وجلده رقيق، وهو يمتص المادة بجميع بدنه بالقوة الجاذبة، ويحس اللمس، وليس له حاسة أخرى لا الذوق ولا الشم ولا السمع ولا البصر غير اللمس وحسب، وهو سريع التكون وسريع الهلاك والفساد والبلى، ومنها ما هو أتم بنية وأكمل صورة، وهو كل دودة تتكون وتدب على ورق الشجر والنبات ونورها وزهرها، ولها ذوق ولمس، ومنها ما هو أتم وأكمل وهو كل حيوان له لمس وذوق وشم وليس له سمع ولا بصر، وهي الحيوانات التي تعيش في قعر البحار والمياه والمواضع المظلمة، ومنها ما هو أتم وأكمل وهو كل حيوان من الهوام والحشرات التي تدب في المواضع المظلمة، له لمس وذوق وسمع وشم، وليس له بصر مثل الحلمة، فباللمس قوام جثته وبالذوق يميز الغذاء من غيره، وبالشم يعرف مواضع الغذاء والقوت، وبالسمع يعرف وطأ المؤذيات له، فيحترز قبل الورود والهجوم عليه، ولم يجعل له البصر؛ لأنه يعيش في المواضع المظلمة، ولا يحتاج إلى البصر ولو كان له بصر لكان ذلك وبالا عليه من حفظه، ففي إغماض العين من القذي ضرورة؛ لأن الحكمة الإلهية لم تعط الحيوان عضوا ولا حاسة لا يحتاج إليها، ولا ينتفع بها، ومنه ما هو أتم بنية وأكمل صورة وهو ما له خمس حواس كاملة، وهي اللمس والذوق والشم والسمع والبصر ثم يتفاضل في الجودة والدون.
فصل
ومن الحيوانات ما يتدحرج كدودة الثلج، ومنها ما يزحف كدودة الصدف، ومنها ما ينساب كالحية، ومنها ما يدب كالعقارب، ومنها ما يعدو كالفأر، ومنها ما يطير كالذباب والبق، ومما يدب ويمشي ما له رجلان، ومنها ما له أربع أرجل، ومنها ما له ست أرجل، ومنها ما له أكثر كالدخال، ومما يطير من الحشرات ما له جناحان، ومنها ما له أربعة أجنحة، ومنها ما له ست أرجل وأربعة أجنحة ومشفر ومخالب وقرون كالجراد، ومنها ما له خرطوم كالبق والذباب، ومنها ما له مشفر وحمة كالزنابير، ومن الهوام والحشرات ما له فكر وروية وتمييز وتدبير وسياسة مثل النمل والنحل، يجتمع جماعة منهم ويتعاونون على أمر المعيشة واتخاذ المنازل والبيوت والقرى وجمع الذخائر والقوت للشتاء، ويعيش حولا وربما زاد، وما كان غير هذين من الهوام والحشرات مثل البق والبراغيث والذباب والجراد وما شاكلها فإنها لا تعيش حولا كاملا؛ لأنه يهلكها الحر والبرد المفرطان، ثم يتكون في العام القابل مثلها.
فصل
ومن الحيوان ما هو أتم بنية مما ذكرنا، وأكمل صورة منها، وهو كل حيوان بدنه مؤلف من أعضاء مختلفة الأشكال، وكل عضو مركب من عدة قطعات من العظام، وكل قطعة منها مفننة الهيئات من الطول والقصر والدقة والغلظ والاستقامة والاعوجاج، ومؤلفة كلها بمفاصل مهندمة التركيب مشدودة الأعصاب والرباطات، محشوة الخلل باللحم، منسوجة بالعروق، محصنة بالجلدة، مغطاة بالشعر والوبر والصوف والريش أو الصدف أو الفلوس، وفي باطن أجسادها أعضاء رئيسية كالدماغ والرئة والقلب والكبد والطحال والكليتين والمثانة والأمعاء والمصارين والأوراد والمعدة والكرش والحوصلة والقانصة وما شاكلها.
وفي ظاهر البدن أرجل وأيد وأجنحة وذنب ومخالب ومناقير وحافر وظلف وخف وما شاكلها، كل ذلك لمآرب وخصال عدة ومنافع جمة، لا يعلمها إلا الذي خلقها وصورها وأنشأها وأتمها وأكملها وبلغها إلى أقصى غاياتها وتمام نهاياتها.
وهذه كلها أوصاف الأنعام والبهائم والسباع والوحوش والطيور والجوارح وبعض حيوان الماء وبعض الهوام كالحيات، والأنعام وهو كل ما له ظلف مشقوق.
والبهائم ما كان لها حافر، والسباع ما كان لها أنياب ومخالب، الوحوش ما كان مركبا بين ذلك.
والطيور ما كان لها أجنحة وريش ومنقار، والجوارح ما كان لها أجنحة ومنقار مقوس ومخالب معقفة معقربة.
وحيوان الماء ما يقيم فيه ويعيش، والحشرات ما يطير وليس لها ريش، والهوام ما يدب على رجلين أو أربعة أو يزحف أو ينساب على بطنه أو يتدحرج على جنبيه.
فصل
ثم اعلم يا أخي - أيدك الله وإيانا بروح منه - بأن الحيوانات الكبيرة الجثة العظيمة البنية التي لها عظام كبار وجلود ثخان وأعصاب غلاظ وعروق واسعة وأعضاء كبيرة مثل الفيل والجمل والجاموس، وغيرها تحتاج أن تمكث في الرحم زمانا طويلا إلى أن تلد لعلتين اثنتين؛ إحداهما: كيما تجتمع في الرحم تلك المواد التي تحتاج إليها الطبيعة في تتميم البنية وتكميل الصورة.
والعلة الأخرى: كيما تدور الشمس في الفلك وتقطع البروج المثلثات المشاكلات الطباع وتحط من هناك قوى روحانيات الكواكب إلى عالم الكون والفساد التي تحتاج إليها في تتميم قوى النفس النامية النباتية وقوى النفس الحيوانية الحاسة ليقبل من كل جنس من الكائنات المولدات ما له أن يقبل من تلك القوى، كما بينا طرفا من ذلك في رسالة مسقط النطفة.
ثم اعلم يا أخي - أيدك الله وإيانا بروح منه - بأن الحيوانات التامة الخلقة الكبيرة الجثة العظيمة الصورة كلها كونت في بدء الخلق ذكرا وأنثى من الطين تحت خط الاستواء؛ حيث يكون الليل والنهار هناك متساويين، والحر والبرد معتدلين، والمواضع الكنينة من تصاريف الرياح موجودة هناك، والمواد كثيرة متهيئة لقبول الصورة.
ولما لم يكن في الأرض مواضع موجودة بهذه الأوصاف جعلت أرحام إناث هذه الحيوانات على هذه الأوصاف من اعتدال الطباع لكيما إذا انتشرت في الأرض تناسلت وتوالدت حيث كانوا، وأكثر الناس يتعجبون من كون الحيوانات من الطين ولا يتعجبون من كونها في الرحم من ماء مهين، وهي أعجب في الخلقة، وأعظم في القدرة؛ لأن من الناس من يقدر أن يصور حيوانا من الطين أو من الخشب أو من الحديد أو من النحاس كما هي موجودة مشاهدة في أيدي الناس من خلقة الأصنام.
ولا يمكن لأحد أن يصور حيوانا من الماء؛ لأن الماء جسم سيال لا تتماسك فيه الصورة، فتكون هذه الحيوانات في الأرحام أو في البيض من ماء مهين أعجب في الخلقة، وأعظم في القدرة من كونها من الطين.
وأيضا إن أكثر الناس يتعجبون من خلقة الفيل أكثر من خلقة البقة، وهي أعجب خلقة وأظرف صورة؛ لأن الفيل من كبر جثته له أربع أرجل وخرطوم ونابان خارجيان، والبقة مع صغر جثتها لها ست أرجل وخرطوم وأربعة أجنحة وذنب وفم وحلقوم وجوف ومصارين وأمعاء وأعضاء أخرى لا يدركها البصر، وهي مع صغر جثتها مسلطة على الفيل بالأذية، ولا يقدر عليها، ولا يمتنع بالتحرز منها، وأيضا فإن الصانع البشري يقدر على أن يصور فيلا من الخشب أو من الحديد أو من غيرها بكماله ولا يقدر أحد من الصناع أن يصور بقة لا من الخشب ولا من الحديد بكمالها.
وأيضا فإن كون الإنسان من النطفة بديئا، ثم في الرحم جنينا، ثم في المهد رضيعا، ثم في المكتب صبيا، ثم في تصاريف أمور الدنيا رجلا حكيما أعجب أحوالا وأعظم اقتدارا من كونه يبعث من تراب قبره يوم القيامة وخروج الناس كأنهم جراد منتشر.
وهكذا أيضا مشاهدة خروج عشرين فرخة من تحت حضن دجاجة واحدة أو ثلاث دراجات من تحت حضن دراجة واحدة ينفض عنها قشور بيضها في ساعة واحدة وعدو كل واحدة في طلب الحب وفرارها وهربها من الطالب لها، حتى ربما لا يقدر عليها أعجب من خروج الناس من قبورهم يوم القيامة، فما الذي منع المنكرين من الإقرار بذلك، وهم يشاهدون مثل هذه التي أعجب هي منها وأعظم في القدرة لولا جريان العادة بها.
فصل
اعلم يا أخي - أيدك الله وإيانا بروح منه - بأن مشاهدة جريان الأمور دائما إذا صارت عادة قل تعجب الناس منها والفكر فيها، والاعتبار لها ويعرض لهم من ذلك سهو وغفلة ونوم النفس وموت الجهالة.
فاحذر من هذا الباب يا أخي، ولا تكن من الغافلين، وكن من الذين ذكرهم الله في كتابه ومدحهم بقوله: @QUR021 الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار، وذم الذين بخلافهم بقوله: @QUR011 وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون.
فصل
واعلم يا أخي - أيدك الله وإيانا بروح منه - بأن أبدان الحيوانات التامة الخلقة والناقصة الخلقة جميعا مؤلفة ومركبة من أعضاء مختلفة الأشكال والمفاصل مفننة الهيئات كالرأس واليد والرجل والظهر والبطن والقلب والكبد والرئة وغيرها، كل ذلك لأسباب وعلل وأغراض لا يعلم كنه معرفتها إلا الله الذي خلقها وصورها كما شاء وكيف شاء.
ولكن نذكر منها طرفا ليتبين صحة ما قلنا وحقيقة ما وصفنا؛ وذلك أنه ما من عضو في أبدان الحيوانات صغيرا كان أو كبيرا إلا وهو خادم لعضو آخر ومعين له، إما في بقائه وتتميمه أو في أفعاله ومنافعه، مثال ذلك الدماغ في بدن الإنسان، فإنه ملك الجسد ومنشأ الحواس ومعدن الفكر وبيت الروية وخزانة الحفظ ومسكن النفس ومجلس محل العقل.
وإن القلب خادم للدماغ ومعينه في أفعاله، وإن كان هو أمير الجسد ومدبر البدن ومنشأ العروق الضوارب وينبوع الحرارة الغريزية، وخادم القلب ومعينه في أفعاله ثلاثة أعضاء أخرى وهي الكبد والعروق الضوارب والرئة.
وهكذا حكم الكبد بيت الشراب يخدمه ويعينه في أفعاله خمسة أعضاء أخرى، وهي المعدة والأوراد والطحال والمرارة والكليتان.
وهكذا أيضا حكم الرئة بيت الريح يخدمها ويعينها في أفعالها أربعة أعضاء أخرى وهي الصدر والحجاب والحلقوم والمنخران؛ وذلك أن من المنخرين يدخل الهواء المستنشق إلى الحلقوم، ويعتدل فيه مزاجه، ويصل إلى الرئة، ويتصفى فيها ثم يدخل إلى القلب ويروح الحرارة الغريزية هناك وينفذ من القلب إلى العروق الضوارب، ويبلغ إلى سائر أطراف البدن الذي يسمى النبض، ويخرج من القلب الهواء المحترق إلى الرئة، ومن الرئة إلى الحلقوم، ومن الحلقوم إلى المنخرين، أو إلى الفم، والصدر يخدم الرئة في فتحه لها عند استنشاق الهواء وضمه إياها عند خروج النفس، والحجب تحفظ الرئة من الآفات العارضة لها عند الصدمات والدفعات واضطراب أحوال البدن.
وهكذا حكم الكبد تخدمه المعدة بإنضاج الكيموس قبل وصوله إليه، وتخدمه الأوراد بمصها وإيصالها إليه بحال يجذب عكر الكيموس من الأخلاط الغليظة المحترقة منها إلى نفسها، وتخدمه المرارة بجذب المرة الصفراء إلى نفسها وتصفية الدم منها، وتخدمه الكليتان بجذب الرطوبة الرقيقة اللينة منها إلى نفسها، وهو الذي يكون منه البول، وتخدمه العروق المجوفة بجذب الدم إليها وإيصاله إلى سائر أطراف الجسد الذي هو مادة لجميع أجزاء البدن.
وهكذا يخدم المريء والأسنان والفم المعدة؛ وذلك أن الفم هو باب الجسد الذي يدخل منه الطعام والشراب إلى عمق الجسد، والأسنان تخدمها بالطحن أو الدق، والمريء يزدرد ويبلع ويوصلها إلى المعدة، والأمعاء تجذب الثقل وتخرجه من الجسد.
وعلى هذا المثال والقياس ما من عضو في بدن الحيوان إلا وهو يخدم البدن في أفعاله ويخدمه عضو آخر ويعينه في أفعاله، والغرض الأقصى منها كلها هو بقاء الشخص وتتميمه وتبليغه إلى أكمل حالاته، إما بذاته أو ببقاء نسله أطول ما يمكن في جنس جنس، ونوع نوع، وشخص شخص.
فصل
واعلم يا أخي - أيدك الله وإيانا بروح منه - بأن من الحيوانات ما هو أخرس لا منطق له ولا صوت كالسرطان والسلاحف والسمك، وبالجملة أكثر حيوان الماء إلا القليل منها مثل الضفدع والراديا، ومنها ما له صوت، وهو كل حيوان يستنشق الهواء ويسمع له دوي وزمر كالبق والذباب والزنابير والصراصير والجراد وما شاكلها، ويكون ذلك من تحريك أجنحتها.
واعلم بأن أصوات الحيوانات المتنفسة متفننة كثيرة الاختلاف من الطول والقصر والغلظ والعظم والصغر والجهير والخفيف وفنون الطنين والزمير والألحان والنغم، كل ذلك بحسب طول أعناقها وقصرها وسعة مناخيرها وحلاقيمها وضيقها وصفاء طبائعها وغلظها وشدة قوة استنشاقها الهواء وإرسالها وتعديل أنفاسها بعد ترويح الحرارة الغريزية التي في قلوبها أو في عمق أجسادها.
والعلة في أن حيوانات الماء أكثرها لا أصوات لها؛ لأنها لا رئات لها، ولا تستنشق الهواء، ولم يجعل لها ذلك؛ لأنها لا تحتاج إليها؛ وذلك أن الحكمة الإلهية والعناية الربانية جعلت لكل حيوان من الأعضاء والمفاصل والعروق والأعصاب والغشاوات والأوعية بحسب حاجته إليه في جر المنفعة أو دفع المضرة في بقاء شخصها وتتميمه وتكميله وبلوغه إلى أقصى مدى غاياته، ولسبب بقاء نسلها من آلات السفاد واللقاح وتربية الأولاد، وكل حيوان هو أتم بنية وأكمل صورة فهو أكثر حاجة إلى أعضاء كثيرة وآلات مختلفة وأدوات معينة في بقاء شخصه ونتاج نسله، وكل حيوان أنقص بنية وأدون صورة، فهو أقل حاجة إلى أعضاء مختلفة وأدوات مفننة في بقاء شخصه ودوام نسله .
بيان ذلك أن الحيوانات ثلاثة أنواع: فمنها ما هو أتم وأكمل، وهو كل حيوان ينزو ويحبل ويرضع ويربي الأولاد، ومنها ما دون ذلك وهو كل حيوان يسفد ويبيض ويفرخ، ومنها دون ذلك وهو كل حيوان لا يسفد ولا يبيض ولا يلد، بل يتكون في العفونات ولا يعيش سنة كاملة؛ لأن الحر والبرد المفرطين يهلكانها؛ لأن أجسادها متخلخلة مفتحة المسام، وليس لها جلد ثخين ولا صوف ولا شعر ولا وبر ولا صدف ولا عظام ولا عصب ولا فلوس، فهي لا تحتاج إلى الرئة ولا الطحال ولا المرارة ولا الكلى ولا المثانة ولا استنشاق الهواء لترويح الحرارة الغريزية، إذ كان نسيم الهواء يتصل إلى عمق أبدانها لصغر جثتها وفتح مسامها ويحفظ الحرارة الغريزية التي في مزاج أبدانها وتركيب طبائعها.
وأما الحيوانات الكبيرة الجثة، العظيمة البنية، التي عليها جلود ثخان، ولحوم كثيرة، وغشاوات وعروق وأعصاب وعظام مصمتة ومجوفة، وأضلاع ومصارين وأمعاء وكروش ومعدة وقلب ورئة وطحال وكليتان ومثانة وقحف الرأس والشعر والوبر والصوف والريش والصدف وما شاكلها، مما يمنع وصول نسيم الهواء إلى عمق أبدانها وترويح الحرارة الغريزية فيها، فقد جعل لبعضها رئة وحلقوم ومجار للنفس لكيما يصل نسيم الهواء إلى عمق أبدانها ومحابس قعر أجسادها، ويروح الحرارة الغريزية فيها ويحفظ الحياة عليها إلى وقت معلوم، فهذا الذي ذكرناه هو حكم الحيوانات التامة الخلقة الكاملة الصورة، التي تستنشق الهواء وتتنفس منه وتعيش فيه.
وأما أجناس الحيوانات التي تعيش في المياه ولا تخرج منها فإنها لا تحتاج إلى استنشاق الهواء ولا التنفس منه؛ لأن البارئ الحكيم - جل ثناؤه - لما خلقها في الماء وجعل حياتها منه وفيه جعلها على طبيعة واحدة، وهي طبيعة الماء، وركب أبدانها تركيبا يصل برد الماء ورطوبته إلى قعر أبدانها وعمق أجسادها، وتروح الحرارة الغريزية التي في طباع تركيبها وتنوب عن استنشاقها الهواء وتنفسها منه، وجعل لكل نوع منها أعضاء مشاكلة لبدنه ومفاصل مناسبة لجثته، وجعل على أبدانها من أنواع الصدف وفنون الفلوس وما شاكلها لباسا لها ودثارا من الحر والبرد وغطاء ووطاء ووقاية لها من الآفات العارضة، وجعل لبعضها أجنحة وأذنابا تسبح بها في الماء مثل الطيور في الهواء، وجعل بعضها آكلا، وبعضها مأكولا، وجعل نسل مأكولها أكثر عددا من نسل آكلها، كل ذلك غرضا لبقاء أشخاصها ودوام نسلها زمانا طويلا أطول ما يمكن في حياتها وطبائعها.
وأما أجناس الطيور التي هي سكان الهواء وقاطنوه، فإن الباري الحكيم - جل ثناؤه - جعل أبدانها مختصرة من أعضاء كثيرة مما في أبدان الحيوان البري الذي يحبل ويلد ويرضع ليخفف عليها النهوض في الهواء والطيران فيه، وذلك أن الباري لم يجعل للطير أسنانا ولا أذنا بينة ولا معدة ولا كرشا ولا مثانة ولا خرزات الظهر ولا جلدا ثخينا ولا على أبدانها شعرا ولا صوفا ولا وبرا؛ بل جعل بدل ذلك ريشا لباسا لها ودثارا من الحر والبرد وغطاءا ووطاء ووقاية من الآفات العارضة ويعينها على النهوض والطيران، وبدل الأسنان منقارا، وبدل المعدة حوصلة وبدل الكرش قانصة.
وعلى هذا القياس بدل كل عضو عدم منه عضوا آخر مشاكلا لأبدانها ومناسبا لأجسادها بحسب مآربها ومنافعها ودفع المضار عنها، كل ذلك أسباب وعلل لبقاء أشخاصها ودوام نسلها مدة ما أطول ما يمكن في طبائعها وجبلتها.
وأما أجناس الحيوانات البرية الآكلة منها العشب فإن الباري الحكيم جعل لها أفواها واسعة تتمكن من القبض على الحشيش والكلأ في الرعي، وجعل لها أسنانا حدادا تقطع بها وأضراسا صلابا تطحن بها الصلب من العشب والحب والورق والقشر والنوى، وجعل مريا واسعا زلقا تزدرد به ما تمضغه، وكروشا واسعة محملة تملؤها وتحمل فيها زادها، فإذا اكتفت رجعت إلى أماكنها ومرابطها وبركت واستراحت.
ومنها ما تجتر وتسترجع ما بلعته وتطحنه ثانية وتبلع وتزدرد إلى مواضع أخر من كروشها خلقتها غير خلقة الأولى متهيئة لطبخ الحرارة الغريزية لها والتمكن من نضجها؛ لكيما تستمرئ بها الطبيعية، وتميز ثقلها من لطيفها، وتدفع الثقل إلى الأمعاء والمصارين، ويخرج من الثقب والمواضع المعدة لذلك، وترد اللطيف الصافي إلى الكبد لتطبخها ثانية وتصفيها وتفيض أخلاطها على الأوعية المعدة لقبولها مثل الطحال والمرارة والقلب والكليتين والعروق المجوفة التي هي كالأنهار والجداول في أبدانها ليجري ذلك الدم الصافي فيها إلى سائر أطراف أجسادها، وتخلف بدلا عما تحلل من أبدانها إذ كانت أجساد الحيوانات كلها في الذوبان والسيلان من أسباب داخلة، ومن أسباب خارجة.
وما يفضل من تلك المواد في أبدان الذكر فقد جعل الباري الحكيم لها أعضاء وأوعية ومجاري يحصل فيها وهي النطفة تجري منها إلى أرحام الإناث عند السفاد والنزو والجماع.
وجعل في أبدان الإناث أعضاء وأوعية ومجار يحصل فيها وينضاف إليها ما يفضل في أبدان الإناث من الرطوبات المشاكلات لها على ممر الأيام والشهور، وتجتمع وتكثر ويخلق الباري الحكيم منها صورة مثل أحد الزوجين كما شاء، وكيف شاء كما بينا طرفا من ذلك في رسالة مسقط النطفة، وكل هذه الأسباب والعلل عناية من الباري الحكيم - جل ثناؤه - لبقاء أشخاصها ودوام نسلها زمانا طويلا أطول ما يمكن، ويتهيأ في ذلك النوع من الحيوان، تبارك الله أحسن الخالقين وأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين.
فصل
وأما السباع الآكلة اللحمان، فإن خلقتها وطباعها وتركيب بعض أعضائها الظاهرة والباطنة وأمزجتها وشهواتها مخالفة لما عليه الحيوانات الآكلة العشب؛ وذلك أن الباري لما خلقها، وجعل غذاءها من أكل اللحمان ومادة أبدانها من جثة الحيوانات جعل لها أنيابا صلابا ومخالب مقوسة قوية وزندات متينة ووثبات خفيفة وقفزات بعيدة شديدة تستعين بها على قبض الحيوانات وضبطها وخرق جلودها وشق أجوافها وكسر عظامها ونهش لحومها من غير رحمة لها ولا شفقة عليها.
وقد تحير أكثر العقلاء وتاه أكثر العلماء والفلاسفة الحكماء من المحققين بفكرتهم في هذا وبحثهم عن عللها، وما وجه الحكمة والصواب في هذا؟ وقد بينا نحن ما الحكمة وما الصواب في ذلك في رسالة العلل والمعلولات وسنذكر طرفا منه في هذه الرسالة في فصل آخر إن شاء تعالى.
فصل
اعلم يا أخي - أيدك الله وإيانا بروح منه - بأن الباري الحكيم لما خلق أجناس الحيوانات المختلفة الصور والطباع والمتصرفات قسمها أربعة أقسام: فمنها سكان الهواء، وهي أنواع الطيور أكثرها والحشرات جميعها.
ومنها سكان الماء، وهو كل حيوان يسبح في الماء كالسمك والسرطان والضفادع والصدف ونحو ذلك.
ومنها سكان البر، وهي البهائم والأنعام والسباع، ومنها سكان التراب وهي الهوام، وجعل في كل قسم منها بعضا آكلا وبعضا مأكولا.
وذلك أن من الطير ما يأكل الحب والثمر، ومنها ما يأكل اللحم وهي الجوارح وكل ما له مخلب ومنقار مقوس لا يقدر أن يلتقط الحب أو يأكل الثمر.
وهكذا حكم حيوان الماء، بعضه آكل وبعضه مأكول، وهكذا حكم حيوان التراب من الهوام كالحيات والضب والقطايا وأشباهها.
فصل
واعلم يا أخي - أيدك الله وإيانا بروح منه - أن الباري الحكيم لما خلق الحيوانات التامة البنية، قسم بنية أجسادها نصفين اثنين يمنة ويسرة، ليكون مطابقا لأول العدد وللأمور المثنوية العنصرية التي ذكرناها في رسالة المبادئ، وجعلها ثلاث طبقات؛ وسطا وطرفين؛ ليكون مطابقا لأول عدد فرد وللأمور ذوات الأوساط والطرفين، وجعل مزاج أبدانها من أربعة أخلاط مطابقا لأول عدد مجذور، ومطابقا أيضا لأربع طبائع بعدد الأركان الأربعة، وجعل لها خمس حواس دراكة لصور المحسوسات ومطابقا لأول عدد دائر ولعدد الطبائع الأربع والخامسة الطبيعة الفلكية، وجعل فيها قوة تتحرك بها إلى ست جهات مطابقا لأول عدد تام، ولعدد سطوح المكعب وجعل في أبدانها سبع قوى فعالة مطابقا لأول عدد كامل ولعدد الكواكب السيارة، وجعل في أبدانها ثماني مزاجات؛ أربعة مفردة وأربعة مزدوجة مطابقا لأول عدد مكعب ولعدد مناسبات الموسيقى، وجعل تركيب أبدانها وتأليف أجسادها من تسع طبقات مطابقا لأول عدد فرد مجذور، ولعدد طبقات الأفلاك المحيطات، وجعل في أبدانها اثني عشر ثقبا أبوابا لحواسها ومآربها مطابقا لأول عدد زائد ولعدد بروج الفلك، وأسس بناء أجسادها على أعمدة ظهورها ثمان وعشرون خرزة مطابقا لعدد تام ولمنازل القمر، وجعل في أبدانها ثلاثمائة وستين عرقا لجريان الدم إلى سائر أطراف أبدانها مطابقا لعدد درج بروج الفلك ولعدد أيام السنة، وعلى هذا القياس والمثال إذا عد واعتبر وجد عدد كل عضو مطابقا لعدد جنس من الموجودات، فقد تبين بما ذكرنا معنى قول الحكماء الفيثاغوريين إن الموجودات بحسب طبيعة العدد، وذلك تقدير العزيز العليم.
(2) فصل
في ذكر تصانيف أحوال الطيور وأوقات الطيور وأوقات هيجانها وسفادها، وكيفية اتخاذها أعشاشها، وإصلاح أوكارها، وكمية بيضها ومدة حضانتها، وكيفية تربيتها لأولادها.
فنقول: اعلم يا أخي - أيدك الله وإيانا بروح منه - بأن من الطيور ما يتزاوج ويتعاشق ويهيج ويسفد في سائر فصول السنة ويعاون الذكر منها الأنثى في تحضين البيض وفي تربية الأولاد كالحمام، ومنها ما لا يعاون لا في الحضانة ولا في تربية الأولاد كالديك، ومنها ما لا يهيج في السنة إلا مرتين عند الفصلين المعتدلين - الربيع والخريف - وفي الصيف، وأكثر الطيور لا تهيج ولا تسفد إلا في آخر الشتاء عند استقبال الربيع، وتبيض فيه وتحضن وتربي أولادها لعلمها بطيب الزمان واعتدال الهواء وكثرة الريف والقوت الموجود في أكثر الأماكن.
ومن الطيور ما تتخذ عشاشها بين أغصان الشجر وأوراقها، ومنها ما تتخذه في الأرضين الدغلة بين الحشيش والشوك كالقيج والدراج والطيهوج، ومنها في ثقب الحيطان أو في أصول الأشجار، ومنا تحت السقوف، ومنها على رءوس الحيطان والخرابات، ومنها على رءوس الجبال والتلال، ومنها على شطوط الأنهار وسواحل البحار، ومنها ما تتخذ في البراري والقفار وبين الأحجار، ومن طيور الماء ما يأخذ بيضها بإحدى رجليه على صدره ويسبح بالأخرى إلى أن تحضن وتخرج فراخها.
ومن الطيور ما يبيض ويحضن بيضتين، ومنها أربع، ومنها ست، ومنها ثماني، ومنها عشرة، واثنتي عشرة وعشرين وثلاثين.
ومن الطيور ما يربي فراخه مما في حوصلته من الحب المنقوع، ومنها ما تلقم أفراخها بمنقارها من الصيد والحب والثمر، ومنها ما تفقص من بيضها بعضا وتحسيه أفراخها كالنعامة، ومنها ما يبحث في الأرض ويلقي إلى أفراخه الحب والدبيب كالدراج والدجاج.
ومن الطيور ما هو سريع الطيران دائما طول النهار كالخطاف، ومنها ما هو ثقيل الطيران قليلا كالسمان، ومنها بعيد الورد كالقطا، ومنها بعيد الأسفار كالغراب، ومنها ما لا يفارق الموطن كالعصافير، ومنها ما تطير في أسفارها قطارا كقطار الجمال كالكركي، ومنها ما يطير مصطفا متحاذيا كصف المصلين، ومنها ما يطير جماعات مختلطات ملتئمة، ومنها ما يطير مستقبلا للريح، ومنها ما يطير مستدبرا لها، ومنها ما يطير موربا على الجانب، ومنها ما يطير متوهجا قاصدا، ومنها ما يطير مرتفعا ومنخفضا ويمنة ويسرة، ومنها ما يطير مستقيما قاصدا، ومنها ما إذا نهض للطيران عدا على وجه الأرض خطوات ثم استعلى في الجو، ومنها ما ينهض منتصبا دفعة واحدة، ومنا ما يرتقي في جو الهواء مختلفا مستديرا كالصاعد إلى المنابر، ومنها ما إذا استقل استقل منعرجا منعطفا كالصاعد للعقبة، ومنها ما إذا استقل في جو الهواء أمسك عن تحريك جناحيه، ومنها ما يمسكها تارة ويحركها تارة أخرى، ومنها ما إذا أراد النزول إلى الأرض نكس رأسه وزج نفسه منقضا ومصوبا كالمطر يوم الريح، ومنها ما ينزل برفق ملويا كما ينزل من المنارة، ومنها ما ينزل منعطفا يمنة ويسرة كما تنزل الدواب من العقبة، ومنها ما ينزل مدليا رجليه ضاما جناحيه أو مدليا مرسلا، وكل واحد من الطيور متناسب الجناحين من الطول والعرض والوزن والعدد، وفي كل جناح أربع عشرة طاقة ريش صلبة قصباتها مجوفة خفاف مصطفة من جانب ومتوازية من جانب، وتمامها طاقات أخر أقصر منها موفور الدثار من الجانبين يسد خللها طاقات، وعلى أبدان الطائر طاقات من الريش أقصر من ذلك، وهو لباس لها، وفي خللها طاقات أخرى صغار لينة الزيبر بينة الريف هي دثار لها، ووطاء وغطاء من الحر والبرد وزينة لها.
وأيضا أكثر الطير ذنبه مناسب لجناحيه وعدده اثنتا عشرة طاقة أو أنقص.
ومن الطير ما ذنبه أوفر من جناحية كالطاووس، ومنها ما جناحاه وافران طويلان، وذنبه قصير كالكراكي.
ومن الطير ما ينقض عن فرخه البيض، وهو موفر عليه ريشه كالدراج والدجاج، ومنها ما يكون معرى من الريش، ثم يخرج ريشه في أيام التربية كفراخ الحمام.
ومن الطير ما على ريشه دهن فلا يبتل كطير الماء، ومنها ما يرمي بريشه في كل سنة ويخرج له غيره، ومنه ما بين أصابع رجليه غشاوات .
ومن طير الماء ما ينهض من الماء في طيرانه، ومنها ما يخرج من الماء إلى الأرض ثم يطير.
ومن الطير ما هو طويل الرجلين والجناحين والعنق والمنقار، ومنها قصير الرقبة طويل المنقار، وأكثر الطيور في طيرانه يجمع رجليه إلى صدره، ومنها ما يمدها إلى خلفه مع ذنبه كالكراكي واللقالق.
ومن الطير ما يكون طويل العنق يطوي عنقه في طيرانه، ومنها ما هو يمده إلى قدامه كمالك الحزين.
ومن الجوارح من الطير ما يقبض على الطيور في جو الهواء ويأخذها في طيرانها، ومنها ما إذا لحفها في طيرانها دخل من تحتها مستلقيا على ظهره وقبض عليها فقلبها، ومنها ما ينحط عليها ويخطفها من وجه الأرض، ومنها ما يقع على رءوس الغزلان وحمير الوحش، وينشب مخالبه فيها ويرفرف بجناحيه على أعينها ويقتلها، والحمام الهادي يعرف سمت البلد المقصود بالنظر في جو الهواء إلى جريان الأنهار وميل الأودية ثم ينحو السوادات ويتيامن عن الجبال ويتياسر عنها وعن مهب الرياح في تصاريفها.
وهكذا تعرف الطيور التي تشتي في البلاد الدفيئة وتصيف في البلدان الباردة مواقعها، وأكثر الطيور لها جودة البصر والشم والذوق والسمع، وأما اللمس فدون ذلك من أجل الريش الذي على جلودها والجوارح من الطيور كلها وافية الجناحين عريضة الأذناب شديدة الطيران قصيرة الرجلين والرقبة طويلة الأفخاذ قوية المخاليب معقربة المناقير، لا تقدر على التقاط الحبوب، بل تأكل اللحمان وتصطاد غيرها.
ومن الطيور ما يلقط الحب ويأكل الثمر، أو يصطاد الحشرات والهوام ويأكل النبت والحشيش.
ومن الطيور ما يطير بالليل والنهار ويسافر ويتعيش.
ومن الطيور ما يطير بالليل دون النهار، وأما أكثرها فبالنهار دون الليل.
ومن الطيور ما يأوي بالليل إلى رءوس الأشجار وبين أغصانها وأوراقها، ومنها ما يأوي إلى رءوس الجبال والتلال والحيطان والقلاع، ومنها ما يأوي إلى الآجام والدغل، ومنها ما يأوي إلى الثقب والأعشاش والأجحرة وتحت السقوف، ومنها ما يأوي إلى الجزائر بين الأنهار والمياه، ومنها ما يبيت في الصحاري وعلى الشطوط ويتحارس بالنوب وعلى السواحل، ومنها ما يبيت في الجو.
ومن الطيور ما ينتبه بالأسحار ويترنم ويسبح، ومنها ما يبكر في طلب القوت، ومنها ما يسفر ويتصبح ويضحي، ثم يمر وينصرف في طلب القوت «تغدو خماصا وتروح بطانا.»
ومن الطيور ما يفرخ وينشر بالغدوات، ومنها بالعشيات، ومنها في أنصاف النهار، ومنها في يوم الغيم، ومنها في يوم الصحو، ومنها في يوم المطر، ومنها في شدة الحر، ومنها في شدة البرد، ومنها في يوم الريح.
فصل
واعلم يا أخي - أيدك الله وإيانا بروح منه - أن من الطيور ما إذا نهض واستقل في جو الهواء في طيرانه يكون كشكل المثلث يبسط بجناحين وافيين منشورين وذنب مثل ذلك مناسب لهما مثل الزرازير والخطاطيف، ومنها ما يكون كشكل المربع بجناحين وافيين منشورين وعنق طويل ممتد من قدام ورجلين طويلتين ممتدتين من خلف وذنب قصير مثل الكراكي واللقالق، ومن الحشرات ما يكون في طيرانه كشكل المسدس له أربعة أجنحة من الجانبين ورأس قدام وذنب خلف كالجراد والبق والزنابير.
واعلم يا أخي بأنك إذا تأملت واعتبرت أبدان الطيور والحشرات وجدتها كلها متزنة الجانبين طولا وعرضا، خفة وثقلا، يمنة ويسرة، وخلفا وقداما، ومن أجل هذا إذا نتف من إحدى جناحيه طاقات ريش اضطرب في طيرانه كرجل أعرج في مشيته إذا كانت إحدى رجليه أطول والأخرى أقصر، ومن أجل ذلك أيضا متى نتف من ذنبه طاقات ريش اضطرب في طيرانه مكبوبا على رأسه كمثال زورق أو سمارية في الماء في ثقل صدرها وخفة كوائلها، ومن أجل هذا صار بعض الطيور إذا مد رقبته إلى قدام مد رجليه إلى خلف ليتوازن ثقل رجليه بثقل رقبته كالكراكي، ومن الطير ما يطوي رقبته إلى صدره ويجمع رجليه تحت بطنه في طيرانه كمالك الحزين، وعلى هذا المثال حكم سائر الطيور والحشرات في طيرانها.
(3) فصل في بيان بدء الخلق
يقال إنه لما توالدت أولاد بني آدم وكثرت وانتشرت في الأرض برا وبحرا وسهلا وجبلا متصرفين فيها في مآربهم آمنين بعدما كانوا قلقين خائفين مستوحشين من كثرة السباع والوحوش في الأرض، وكانوا يأوون في رءوس الجبال والتلال متحصنين فيها، وفي المغارات والكهوف ويأكلون من ثمر الأشجار وبقول الأرض وحب النبات، وكانوا يستترون بأوراق الشجر من الحر والبرد ويشتون في البلدان الدفيئة، ويصيفون في البلدان الباردة، ثم بنوا في سهول الأرض الحصون والقرى والمدن وسكنوها.
ثم سخروا من الأنعام البقر والغنم والجمال، ومن البهائم الخيل والبغال والحمير وقيدوها وألجموها وصرفوها في مآربهم من الركوب والحمل والحرس والدراس وأتعبوها في استخدامها وكلفوها أكثر من طاقتها ومنعوها من التصرف في مآربها بعدما كانت مخليات في البراري والآجام والغياض تذهب وتجيء حيث أرادت في طلب مراعيها ومشاربها ومصالحها، ونفرت منهم بقيتها من حمر الوحوش والغزلان والسباع والوحوش والطيور، بعدما كانت مستأنسة متوالفة مطمئنة في أوطانها وأماكنها، وهربت من ديار بني آدم إلى البراري البعيدة والآجام والدحال ورءوس الجبال، وشمر بنو آدم في طلبها بأنواع من الحيل والقنص والشباك والفخاخ، واعتقد بنو آدم فيها أنها عبيد لهم، هربت وخلعت الطاعة وعصت، ثم مضت السنون والأيام على ذلك إلى أن بعث الله محمدا - صلى الله عليه وآله - ودعا الإنس والجن إلى الله ودين الإسلام، فأجابته طائفة من الجن وحسن إسلامها، ومضت على ذلك مدة من الزمان.
ثم إنه ولي على بني الجان ملك منها يقال له بيراست الحكيم لقبه شاه مردان، وكانت دار مملكته مردان في جزيرة يقال لها صاغون في وسط البحر الأخضر مما يلي خط الاستواء، وهي طيبة الهواء والتربة فيها أنهار عذبة وعيون جارية، وهي كثيرة الريف والمرافق وفنون الأشجار وألوان الثمار والرياض والأنهار والرياحين والأنوار، ثم إنه طرحت الرياح العاصفة في وقت من الزمان مركبا من سفن البحر إلى ساحل تلك الجزيرة، وكان فيها قوم من التجار والصناع وأهل العلم وسائر أغنياء الناس، فخرجوا إلى تلك الجزيرة وطافوا فيها، فوجدوها كثيرة الأشجار والفواكه والثمار والمياه العذبة والهواء الطيب والتربة الحسنة والبقول والرياحين وأنواع الزرع والحبوب مما تنبته أمطار السماء، ورأوا فيها أصناف الحيوانات من البهائم والأنعام والطيور والسباع والوحوش والهوام والحشرات أجمع، وهي كلها متآلفة بعضها في بعض مستأنسة غير متنافرة.
ثم إن أولئك القوم استطابوا ذلك المقام، واستوطنوا وبنوا هنالك البنيان وسكنوا، ثم إنهم أخذوا يتعرضون لتلك البهائم والأنعام التي هناك يسخرونها ليركبوها ويحملوا عليها أثقالهم على المنوال الذي كانوا يفعلون في بلدانهم، فنفرت منهم تلك البهائم والأنعام التي كانت هناك، وهربت وشمروا في طلبها بأنواع من الحيل في أخذها، واعتقدوا فيها أنها عبيد لهم، هربت وخلعت الطاعة وعصت، فلما علمت تلك البهائم والأنعام هذا الاعتقاد منهم فيها جمعت زعماءها وخطباءها، وذهبت إلى بيراست الحكيم ملك الجن وشكت إليه ما لقيت من جور بني آدم وتعديهم عليها واعتقادهم فيها، فبعث ملك الجن رسولا إلى أولئك القوم ودعاهم إلى حضرته، فذهب طائفة من أهل ذلك المركب إلى هناك، وكانوا نحوا من سبعين رجلا من بلدان شتى، فلما بلغه قدومهم أمر لهم بطرح الإنزال والإكرام، ثم أوصلهم إلى مجلسه بعد ثلاثة أيام.
وكان بيراست الحكيم عادلا كريما منصفا سمحا يقري الأضياف ويؤوي الغرباء ويرحم المبتلى ويمنع الظلم ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا يبتغي بذلك غير وجه الله - تعالى - ومرضاته، فلما وصلوا إليه ورأوه على سرير ملكه حيوه بالتحية والسلام، فقال لهم الملك على لسان الترجمان: ما الذي جاء بكم إلى بلادنا؟ وما دعاكم إلى جزيرتنا من غير مراسلة قبل ذلك؟
قال قائل من الإنس: دعانا ما سمعنا من فضائل الملك، وما بلغنا من مناقبه الحسان ومكارم أخلاقه الجسام، وعدله وإنصافه في الأحكام، فجئناه ليسمع كلامنا ويتبين حجتنا، ويحكم بيننا وبين عبيدنا الآبقين، وخولنا المنكرين ولايتنا، والله يوفق الملك للصواب ويسدده للرشاد، وهو أحكم الحاكمين.
فقال الملك: قولوا ما تريدون، وبينوا ما تقولون، قال زعيم الإنس: نعم أيها الملك، نقول: إن هذه البهائم والأنعام والسباع والوحوش أجمع عبيد لنا، ونحن أربابها وهي خول لنا ونحن مواليها، فمنها هارب آبق عاص، ومنها مطيع كاره منكر للعبودية، قال الملك للإنسي: ما الدليل والحجة على ما زعمت وادعيت؟ قال الإنسي: نعم أيها الملك، لنا دلائل شرعية سمعية على ما قلنا، وحجج عقلية على ما ادعينا، فقال الملك: هات، أوردها، فقام الخطيب من الإنس من أولاد العباس، ورقي المنبر وخطب الخطبة وقال: الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين وصاحب الشفاعة يوم الدين، وصلوات الله على ملائكته المقربين، وعلى عباده الصالحين من أهل السموات والأرضين من المؤمنين والمسلمين، وجعلنا وإياكم منهم برحمته وهو أرحم الراحمين.
الحمد لله الذي خلق من الماء بشرا، فجعله نسبا وصهرا، وخلق منه زوجة، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء، وأكرم ذريتهما وحملهم في البر والبحر، ورزقهم من الطيبات، قال الله عز وجل: @QUR016 والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون * ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون، وقال تعالى: @QUR04 وعليها وعلى الفلك تحملون، وقال: @QUR014 وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم، وقال: @QUR05 والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة، وقال: @QUR010 لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه، وآيات كثيرة في القرآن والتوراة والإنجيل تدل على أنها خلقت لنا ومن أجلنا، وهي عبيد لنا، ونحن أربابها، وأستغفر الله لي ولكم.
فقال الملك: قد سمعتم يا معشر البهائم والأنعام ما قال الإنسي من آيات القرآن، فاستدل بها على دعواه، فأي شيء لكم وعندكم فيما قال؟ فقام عند ذلك زعيمها وهو البغل، فقال: الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد القديم السرمد الذي كان قبل الأكوان بلا زمان ولا مكان، ثم قال: كن، فكان نورا ساطعا أظهره من مكنون غيبه، ثم خلق من النور بحرا من النار أجاجا، وبحرا من الماء رجراجا، ذا أمواج ثم خلق من الماء والنار أفلاكا ذوات أبراج وشهابا وهاجا، والسماء بناها والأرض دحاها والجبال أرساها وجعل أطباق السموات مسكن العليين وفسحة الأفلاك مسكن الملائكة المقربين، والأرض وضعها للأنام وهو النبات والحيوان، ثم خلق الجان من نار السموم، وخلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين في قرار مكين، وجعل ذريته في الأرض يخلفون ليعمروها ولا يخربوها ويحفظون الحيوانات وينتفعون بها ولا يظلمونها ولا يجورون عليها، أستغفر الله لي ولكم.
ثم قال: ليس في شيء مما قرأ هذا الإنسي من آيات القرآن أيها الملك دلالة على ما زعم أنهم أرباب ونحن عبيد لهم، إنما هي آيات تذكار بإنعام الله عليهم وإحسانه، فقال لهم: @QUR02 سخرها لكم كما قال سخر الشمس والقمر والسحاب والرياح، أفترى أيها الملك بأنها عبيد لهم ومماليك وأنهم أربابها؟
واعلم أيها الملك بأن الله خلق كل ما في السموات والأرض، وجعلها مسخرة بعضها لبعض، إما لجر منفعتها إليها أو دفع مضرتها، فسخر الله الحيوان للإنسان بما هو لإيصال المنفعة إليها ودفع المضرة عنها، كما سنبين بعد هذا الفصل، لا كما ظنوا وتوهموا، وما قالوه من الزور والبهتان بأنهم أرباب لنا ونحن عبيد لهم.
فصل
ثم قال زعيم البهائم: أيها الملك، كنا نحن وآباؤنا سكان الأرض قبل خلق آدم أبي البشر قاطنين في أرجائها، ظاعنين في فجاجها، تذهب وتجيء كل طائفة منا في بلاد الله في طلب معائشها، وتتصرف في صلاح أمورها، كل واحد مقبل على شأنه في مكان موافق لمآربه من برية أو أجمة أو جبل أو ساحل أو تلال أو غياض أو رمال، كل جنس منا مؤالف لأبناء جنسه مشتغلين باتخاذ نتاجنا وتربية الأولاد في طيب من العيش بما قدر الله لنا من المآكل والمشارب والتمتع آمنين في أوطاننا معافين في أبداننا نسبح الله ونقدسه ونوحده ليلا ونهارا، ولا نعصيه ولا نشرك به شيئا، ومضت على ذلك الدهور والأزمان.
ثم إن الله - جل ثناؤه - خلق آدم أبا البشر، وجعله خليفة في الأرض وتوالد أولاده، وكثرت ذريته وانتشرت في الأرض برا وبحرا وسهلا وجبلا، وضيقوا علينا الأماكن والأوطان، وأخذ منا من أخذ أسيرا من الغنم والبقر والخيل والبغال والحمير، وسخروها واستخدموها وأتعبوها بالكد والعناء في الأعمال الشاقة من الحمل والركوب في السفر والحضر والشد في الفدن والدواليب والطواحين بالقهر والغلبة والضرب والهوان وألوان من العذاب طول أعمارنا، فهرب منا من هرب في البراري والقفار ورءوس الجبال، وشمر بنو آدم في طلبنا بأنواع من الحيل، فمن وقع منا في أيديهم شدوه بالغل والقيد والقنص والذبح والسلخ وشق الأجواف، وقطع المفاصل ونتف الريش وجز الشعر والوبر، ثم نار الطبخ والوقد والتشوية وألوان من العذاب ما لا يبلغ الوصف كنهها.
ومع هذه الأحوال كلها لا يرضى منا هؤلاء الآدميون حتى ادعوا علينا أن هذا حق واجب لهم علينا، وأنهم أرباب لنا ونحن عبيد لهم، فمن هرب منا فهو آبق عاص تارك الطاعة، كل هذا بلا حجة لهم علينا، ولا بيان ولا برهان إلا القهر والغلبة.
فلما سمع الملك هذا الكلام وفهم هذا الخطاب أمر مناديا فنادى في مملكته، ودعا الجنود والأعوان من قبائل الجن من بني ساسان وبني خاقان وأولاد شيصبان والقضاة العدول والفقهاء من آل إدريس وبني بلقيس وقعد لفصل القضاء بين زعماء الحيوانات والجدليين من الإنس، ثم قال لزعماء الإنس: ما تقولون فيما تحكي هذه البهائم والأنعام من الجور وما يشكون من الظلم والتعدي منكم؟
فقال زعيم الإنس: نقول: إن هؤلاء عبيد لنا، ونحن مواليها، ولنا أن نتحكم عليها تحكم الأرباب ونتصرف فيها تصرف الملاك كيف شاء، فمن أطاعنا طاعته لله، ومن عصانا وهرب فمعصيته لله، فقال الملك للإنسي: إن الدعاوى لا تصح عند الحكام إلا بالبينات، ولا تقبل إلا بالحجة الواضحة فيما قلت وادعيت، فقال الإنسي: إن لنا حججا عقلية ودلائل فلسفية تدل على صحة ما قلنا، قال الملك: ما هي؟ بينها لنعلمها! قال: نعم؛ حسن صورتنا، وتقويم بنية هيكلنا وانتصاب قامتنا وجودة حواسنا ودقة تمييزنا وذكاء نفوسنا ورجحان عقولنا، كل هذا يدل على أنا أرباب وهم عبيد لنا، فقال الملك لزعيم البهائم: ما تقولون فيما قال الإنسي؟ قال: ليس شيء مما قال بدليل على ما ادعى هذا الإنسي، قال الملك: أليس انتصاب القيام واستواء الجلوس من شيم الملوك؟ وانحناء الأصلاب والانكباب على الوجوه من صفات العبيد؟! قال الزعيم: وفقك الله أيها الملك للصواب، وصرف عنك سوء الأمور، استمع لما أقول .
اعلم بأن الله - جل ثناؤه - ما خلقهم على تلك الصورة ولا سواهم على هذه البنية لتكون دلالة على أنهم أرباب، ولا خلقنا على هذه الصورة وسوانا على هذه البنية لتكون دلالة على أننا عبيد، ولكن لعلمه واقتضاء حكمته بأن تلك البنية هي أصلح لهم، وهذه أصلح لنا.
(4) فصل في بيان علة اختلاف صور الحيوانات
بيان ذلك أن الله - عز وجل - لما خلق آدم وأولاده عراة بلا ريش على أبدانهم ولا وبر ولا صوف على جلودهم يقيهم من الحر والبرد، وجعل أرزاقهم من ثمر الأشجار ودثارهم من أوراقها، وكانت الأشجار منتصبة في جو الهواء، جعل أيضا قامتهم منتصبة ليسهل عليهم تناول الثمر والورق منها، وهكذا لما جعل أرزاقنا من حشيش الأرض جعل بنية أبداننا منحنية ليسهل علينا تناول العشب من الأرض، فلهذه العلة جعل صورهم منتصبة، وصورنا منحنية، لا كما توهموا، فقال الملك: ما تقولون في قول الله عز وجل: @QUR06 لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم؟ قال الزعيم: إن للكتب النبوية تأويلات وتفسيرات غير ما يدل عليه ظاهر ألفاظها، يعرفها العلماء الراسخون في العلم، فليسأل الملك أهل الذكر، قال الملك لحكيم الجن: ما معنى قوله: @QUR03 في أحسن تقويم؟ قال: في اليوم الذي خلق فيه آدم كانت الكواكب في إشراقها وأوتاد البروج قائمة، والزمان معتدلا كثير المواد، وكانت متهيئة لقبول الصور، فجاءت بنيته في أحسن صورة وأكمل هيئة، قال الملك: وكفى بهذه الفصيلة كرامة وافتخارا. قال الحكيم: إن لها معنى غير ما ذكر وتبين ذلك بقوله: @QUR08 فعدلك * في أي صورة ما شاء ركبك، يعني لم يجعلك طويلا دقيقا ولا قصيرا لزيقا؛ بل ما بين ذلك، فقال زعيم البهائم: ونحن كذلك فعل بنا أيضا، لم يجعلنا طوالا ولا دقافا ولا قصارا ولا صغارا؛ بل بين ذلك، فنحن وهم في هذه الصورة والفضيلة والكرامة بالسوية، فقال الإنسي لزعيم البهائم: من أين لكم اعتدال القامة واستواء البنية وتناسب الصورة وقد نرى الجمل عظيم الجثة طويل الرقبة صغير الأذنين قصير الذنب، ونرى الفيل عظيم الخلقة طويل النابين واسع الأذنين صغير العينين، ونرى البقر والجاموس طويل الذنب غليظ القرون ليس له أنياب من فوق، ونرى الكبش عظيم القرنين كبير الألية ليس له لحية، والتيس طويل اللحية ليس له ألية مكشوف العورة، ونرى الأرنب صغير الجثة كبير الأذنين؟ وعلى هذا المثال والقياس نجد الحيوانات والسباع والوحوش والطيور والهوام مضطربات البنية غير متناسبة الأعضاء.
فقال زعيم البهائم: هيهات، ذهب عليك أيها الإنسي أحسنها، وخفي عليك أحكمها، أما علمت أنك لما عبت المصنوع فقد عبت الصانع؟! أولا ترى وتعلم بأن هذه كلها مصنوعات الباري الحكيم، خلقها بحكمته لعلل وأسباب وأغراض لجر المنفعة إليها ودفع المضرة عنها، ولا يعلم ذلك إلا هو والراسخون في العلم؟ قال الإنسي: فخبرنا أيها الزعيم إذا كنت حكيم البهائم وخطيبها، ما العلة في طول رقبة الجمل؟ قال: ليكون مناسبا لطول قوائمه لينال الحشيش من الأرض ويستعين به على النهوض بحمله، وليبلغ مشفره إلى سائر أطراف بدنه فيحكها.
وأما خرطوم الفيل فعوض عن طول الرقبة وكبر أذنيه ليذب البق والذباب عما في عينيه وفمه؛ إذ كان فمه مفتوحا أبدا لا يمكنه ضم شفتيه لخروج أنيابه منه، وأنيابه سلاح له يمنع بها السباع عن نفسه.
وأما كبر أذن الأرنب فهو من أجل أن تكون دثارا لها ووطاء وغطاء في الشتاء والصيف؛ لأنه رقيق الجلد ترف البدن، وعلى هذا القياس نجد كل حيوان جعل الله - عز وجل - له من الأعضاء والمفاصل والأدوات بحسب حاجته إليه لجر المنفعة أو دفع المضرة، وإلى هذا المعنى أشار موسى - عليه السلام - بقوله: @QUR08 ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
وأما الذي ذكرت أيها الإنسي من حسن الصورة وافتخرت به علينا، فليس فيه شيء من الدلالة على ما زعمت بأنكم أرباب، ونحن عبيد، فإذا كان حسن الصورة شيئا مرغوبا فيه عند أبناء الجنس من الذكور والإناث ليدعوهم ذلك إلى الجماع والسفاد والنتاج والتناسل لبقاء النسل، فإننا لا نرغب في محاسن إناثنا ولا إناثنا في محاسن ذكراننا، كما لا يرغب السود في محاسن البيض ، ولا البيض في محاسن السود، وكما لا يرغب اللواط في محاسن الجواري ولا الزناة في محاسن الغلمان، فلا فخر لكم علينا بمحاسن الصور أيها الإنسي.
(5) فصل في بيان جودة الحواس في الحيوانات
وأما الذي ذكرته من جودة حواسكم ودقة تمييزكم وافتخرتم به علينا، فليس ذلك لكم خاصة دون غيركم من الحيوانات؛ لأن فيها ما هو أجود حاسة منكم وأدق تمييزا، فمن ذلك الجمل فإنه مع طول قوائمه ورقبته وارتفاع رأسه من الأرض في الهواء يبصر ويرى موضع قدميه في الطرقات الوعرة والمسالك الصعبة في ظلم الليل ما لا يرى ولا يبصر أحدكم إلا بسراج أو مشعل أو شموع، وترى الفرس الجواد يسمع وطء الماشي من البعد في ظلمة الليل، حتى إنه ربما نبه صاحبه من نومه بركضة رجليه حذرا عليه من عدو أو سبع، وهكذا نجد كثيرا من الحمير والبقر إذا سلك بها صاحبها طريقا لم يسلكها قبل خلاها، ثم رجعت إلى مكانها ومعقلها وموضعها المألوف، فلا تتيه، وقد يوجد من الإنس من قد يسلك طريقا دفعات ثم إنه يضل فيه ويتيه، ونجد من الغنم والشاء ما يلد منها في ليلة واحدة عددا كثيرا وتسرح من الغد إلى الرعي وتروح بالعشي وتخلى من الوثاق مائة من البهائم وأكثر، فيذهب كل واحد إلى أمه لا يشكل عليها أمهاتها ولا تشتبه، وكذلك أولادها على أمهاتها، والإنسي ربما يمر به الشهر والشهران أو أكثر وهو لا يعرف والدته من أخته، ولا والده من أخيه، فأين وجود الحاسة ودقة التمييز الذي ذكرته وافتخرت به علينا أيها الإنسي؟!
وأما الذي ذكرته من رجحان العقول، فلسنا نرى له أثرا أو علامة؛ لأنه لو كان لكم عقول راجحة لما افتخرتم علينا بشيء ليس هو من أفعالكم ولا اكتساب منكم، بل هي مواهب من الله - جل ذكره - لتعرفوا مواقع النعم وتشكروا له، ولا تعصوه، وإنما العقلاء يفتخرون بأشياء هي من أفعالهم من الصنائع المحكمة والآراء الصحيحة والعلوم الحقيقية والمذاهب المرضية والسنن العادلة والطرق المستقيمة، ولسنا نراكم تفتخرون بشيء منها غير دعوى بلا حجة وخصومة بلا بينة.
(6) فصل في بيان شكاية الحيوان من جور الإنس
قال الملك للإنس: قد سمعت الجواب، فهل عندك شيء غير ما ذكرت؟ قال: نعم أيها الملك، هنالك مسائل أخر ومناقب غير ما ذكرت تدل على أنا أرباب وهم عبيد لنا؛ فمن ذلك بيعنا وشراؤنا لها وإطعامنا وسقيانا لها، ونكسوها ونكفيها من الحر والبرد، وندفع عنها السباع أن تفترسها ونداويها إذا مرضت وننفق عليها إذا اعتلت، ونعلمها إذا جهلت ونخليها إذا أعيت، ونعرض عنها إذا جنت، كل ذلك إشفاقا عليها ورحمة لها، وتحننا عليها، وكل هذا من أفعال الأرباب بعبيدها والموالي بخولها.
قال الملك للزعيم: قد سمعت ما ذكر، فأي شيء عندك؟ أجب! قال زعيم البهائم: أما قوله: إنا نبيعها ونشتريها، فهكذا يفعل أبناء فارس بأبناء الروم، وأبناء الروم بأبناء فارس إذا ظفر بعضهم ببعض، أفترى أيهم العبيد وأيهم الموالي والأرباب؟! وكذلك يفعل أبناء الهند بأبناء السند، وأبناء السند بأبناء الهند، فأيهم الموالي وأيهم العبيد؟! وهكذا يفعل أبناء الحبشة بأبناء النوبة، وأبناء النوبة بأبناء الحبشة، وكذلك يفعل أبناء الأعراب والأكراد والأتراك بعضهم ببعض، فأيهم - ليت شعري! - العبيد وأيهم الموالي بالحقيقة؟! وهل هي أيها الملك العادل إلا دول ونوب تدور بين الناس بموجبات أحكام النجوم والقرانات كما ذكر الله تعالى ذلك: وتلك الأيام نداولها بين الناس وما يعقلها إلا العالمون، وأما الذي ذكر بأنا نطعمها ونسقيها ونكسوها، وما ذكره من سائر ما يفعلون بنا، فليس ذلك شفقة علينا منهم ولا رحمة لنا، ولا تحننا علينا ولا رأفة بنا؛ بل مخافة أن نهلك فيخسرون أثماننا وتفوتهم المنافع منا من شرب ألباننا ودثارهم من أصوافنا وأوبارنا وأشعارنا وركوبهم ظهورنا وحملهم أثقالهم علينا، لا شفقة ولا رحمة كما ذكر، ثم تكلم الحمار، فقال الحمار: أيها الملك، لو رأيتنا ونحن أسارى في أيدي بني آدم موقرة ظهورنا بأثقالهم من الحجارة والآجر والتراب والخشب والحديد وغيرها، ونحن نمشي تحتها ونجهد بكد وعناء شديد وبأيديهم العصا والمقارع يضربون وجوهنا وأدبارنا بحنق وعنف وضجر وصخب، لرحمتنا ورثيت لنا وبكيت علينا. أيها الملك، فأين الرحمة؟ وأين الشفقة والرأفة منهم علينا كما زعم هذا الإنسي؟! ثم تكلم الثور فقال: لو رأيتنا أيها الملك ونحن أسارى في أيدي بني آدم مقرنين في فدانهم مشدودين في دواليبهم وأرحيتهم مغطاة وجوهنا مشدودة أعيننا وهم يضربوننا مع ذلك لرحمتنا ورثيت لنا وبكيت علينا، فأين الرحمة والشفقة والرأفة منهم علينا كما زعم هذا الإنسي؟!
ثم تكلم الكبش فقال: أيها الملك لو رأيتنا ونحن أسارى في أيدي بني آدم يأخذون صغار أولادنا من الجدي والحملان فيفرقون بينها وبين أمهاتها ليستأثروا بألباننا لأولادهم ويجعلوا أولادنا مشدودة أرجلها وأيديها محمولة إلى المذابح والمسالخ جائعة عطشانة تصيح فلا ترحم، وتصرخ وتستغيث فلا تغاث، ثم نراها مذبوحة مسلوخة مشقوقة أجوافها مفرقة أعضاؤها ورءوسها وكروشها ومصارينها وأكبادها في دكاكين القصابين مقطعة بالسواطير مطبوخة في القدور مشوية في التنور، ونحن سكوت ولا نبكي ولا نشكو، وإن شكونا أو بكينا لم نرحم، فأية رحمة وأية رأفة لهم علينا كما زعم هذا الإنسي؟!
ثم تكلم الجمل فقال: أيها الملك، لو رأيتنا ونحن أسارى في أيدي بني آدم مخزومة أنوفنا، بأيدي جماليهم خطامنا، يجروننا على كره منا محملة ظهورنا بأثقالهم نقاد ونساق في ظلم الليل في القفار والفلوات والمسالك الوعرة والحيوانات قائمة في أوطانها، ونحن نمشي بأثقالهم نصدم الصخور والحجارة والدكادك بأخفافنا مقرحة جنوبنا وظهورنا من احتكاك أقتابنا، ونحن جياع عطاش لرحمتنا ورثيت لنا وبكيت علينا أيها الملك، فأين الرحمة والرأفة علينا كما زعم هذا الإنسي؟!
ثم تكلم الفيل فقال: لو رأيتنا أيها الملك ونحن أسارى في أيدي بني آدم والقيود في أرجلنا والقلوس في رقابنا وكلاليب الحديد في أيديهم يضربون بها في أدمغتنا، يضربوننا يمنة ويسرة على كره منا، مع كبر جثتنا وعظم خلقتنا وطول أنيابنا وشدة قوانا لا نقدر على دفع ما نكره لرحمتنا ورثيت لنا وبكيت علينا أيها الملك، فأين الرحمة؟ وأين الرأفة لهم علينا كما زعم هذا الإنسي؟!
ثم تكلم الفرس فقال: أيها الملك ، لو رأيتنا ونحن أسارى في أيدي بني آدم واللجم في أفواهنا والسروج على ظهورنا والبطرنجات والحزم مشدودة على أوساطنا والفرسان المدرعة على ظهورنا تزج وتهجم بنا في الغبار عواري جياعا وعطاشا، والسيوف في وجوهنا والسهام في نحورنا والرماح في صدورنا، نخوض المياه ونسبح الدماء لرحمتنا ورثيت لنا وبكيت علينا أيها الملك.
ثم تكلم البغل فقال: لو رأيتنا أيها الملك ونحن أسارى في أيدي بني آدم والشكال في أرجلنا واللجم في أفواهنا والحكمات في أحناكنا والأقفال على فروجنا ممنوعين عن شهوات نتاجنا، والأكف على ظهورنا، وسفهاء الإنس من الساسة والركابة فوق ذلك، وبأيديهم العصي والمقارع يضربون وجوهنا وأدبارنا ويشتمونا بأقبح ما يقدرون عليه من الشتم والفحشاء بحنق وغيظ وسفاهة، حتى إنه ربما بلغ به السفه منهم أن يشتموا أنفسهم وأخواتهم وأمهاتهم وبناتهم ويقولون: أير الحمار في است من باعه واشتراه أو ملكه، يعني به صاحبه، كل ذلك راجع إليهم وهم به أولى.
فإذا فكرت أيها الملك فيما هم فيه من هذه الأوصاف من السفاهة والجهالة والفحشاء والقبيح من الكلام رأيت منهم عجبا من قلة التحصيل لما هم فيه من الأحوال المذمومة والصفات القبيحة والأخلاق الرديئة والأعمال السيئة والجهالة المتراكمة، والآراء الفاسدة والمذاهب المختلفة، ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون، ولا يتعظون بمواعظ أنبيائهم، ولا يأتمرون بوصية ربهم حيث يقول: @QUR08 وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم، وقوله تعالى: @QUR09 قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله، وقوله تعالى: @QUR012 وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم، وقوله تعالى: @QUR09 وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، وقوله تعالى: @QUR025 لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين * وإنا إلى ربنا لمنقلبون.
فلما فرغ البغل من كلامه التفت الجمل إلى الخنزير فقال له: قم وتكلم واذكر ما تلقون معشر الخنازير من جور بني آدم، واشك إلى الملك الرحيم، فلعله يرق لنا ويرحمنا ويفك أسرنا من أيدي بني آدم، فإنكم من الأنعام.
فقال حكيم من حكماء الجن: لا لعمري، ليس الخنزير من الأنعام، بل من السباع؛ ألا ترى أن له أنيابا ويأكل الجيف؟
وقال قائل آخر من الجن: بل هو من الأنعام، ألا ترى أن له ظلفا، ويأكل العشب والعلف؟ وقال الآخر: لا، بل هو مركب من السباع والأنعام والبهائم، مثل الفيل والزرافة مركبة من الحمار والجمل.
ثم قال الخنزير للجمل: والله، ما أدري ما أقول! وعمن أشكو من كثرة اختلاف القائلين في أمرنا!
أما حكماء الجن فقد سمعت ما قالوا، وأما الإنس فهم أكثر اختلافا في أمرنا وأبعد رأيا ومذهبا؛ وذلك أن المسلمين يقولون إنا ممسوخون ملعونون، ويستقبحون صورتنا ويستثقلون أرواحنا ويستقذرون لحومنا، ويتشاءمون من ذكرنا، وأما أبناء الروم فيتنافسون في أكل لحومنا في قرابينهم ويتبركون بها إلى الله.
أما اليهود فيغضبوننا ويشتموننا ويلعنوننا من غير ذنب منا إليهم، ولا جناية عليهم، لكن لعداوة بينهم وبين النصارى، وأبناء الروم وأبناء الأرمن، فحكمنا عندهم كحكم البقر والغنم عند غيرهم يتبركون بنا من خصب أبداننا وسمن لحومنا وكثرة نتاجنا وغزارة ألباننا.
وأما الأطباء من اليونانيين، فيتداوون بشحومنا ويتواصفونها في أدويتهم وعلاجاتهم.
وأما ساسة الدواب فيخالطوننا بدوابهم وعلفها؛ لأن حالها يصلح عندهم بمخالطتنا وشمها روائحنا.
وأما الأساكفة والجرازون فيتنافسون في شعر أعرافنا ويتبادرون في نتف أسلتنا في شدة حاجتنا إليها، فقد تحيرنا، لا ندري لمن نشكر وممن نشكو وممن نتظلم؟!
فلما فرغ الخنزير من كلامه التفت الحمار إلى الأرنب، وكان واقفا بين قوائم الجمل، فقال له: قم فتكلم، واذكر ما تلقون معشر الأرانب من جور بني آدم! واشك إلى الملك الرحيم؛ لعله يرحمنا وينظر في أمرنا ويفك أسرنا من أيدي بني آدم!
فقال الأرنب: أما نحن فقد هربنا من بني آدم وتركنا دخول ديارهم وأوينا إلى الدحال والغياض، وسلمنا من شرورهم، ولكنا بلينا بالكلاب والخيل والجوارح ومعاونتهم لبني آدم علينا، وحملهم إلينا وطلبهم لنا ولإخواننا من الغزلان وحمر الوحوش وبقرها وإبلها والوعول الساكنة في الجبال اعتصاما بها .
ثم قال الأرنب: أما الكلاب والجوارح وتعاونهم لبني آدم فهم معذورون في معاونة الإنس علينا، لما لها من النصيب في أكل لحومنا؛ لأنها ليست من أبناء جنسنا، بل من السباع.
أما الخيل فلأنها منا، معاشر البهائم، وليس لها نصيب في أكل لحومنا، فما لها ومعاونة الإنس علينا لولا الجهالة وقلة المعرفة وقلة التحصيل للأمور والحقائق؟
فصل في بيان تفضيل الخيل على سائر البهائم وغيرها
قال الإنسي للأرنب: أقصر! فقد أكثرت اللوم والذم للخيل، ولو علمت أنها خير حيوان سخرته الإنس لما تكلمت بهذا الكلام، قال الملك للإنسي: وما تلك الخيرية التي قلتها؟ اذكرها! قال: خصال محمودة، وأخلاق مرضية، وسيرة عجيبة، من ذلك حسن صورتها وتناسب أعضاء أبدانها، وبنية هيكلها، وصفاء لونها، وحسن شعرها، وسرعة عدوها، وطاعتها لفارسها، كيف شاء وكيف أراد صرفها انقادت له يمنة ويسرة وقداما وخلفا في الطلب والهرب، وذكاء نفسها وجودة حواسها، وحسن آدابها، ربما لا تبول ولا تروث مادام راكبها عليها، ولا تحرك ذنبها إذا ابتل شعر ذنبها؛ لئلا يصيب صاحبها، ولها قوة الفيل وتحمل راكبها بخوذته وجوشنه وسلاحه، مع ما لها من السرج واللجام والتجافيف وآلة الحديد نحو ألف رطل عند سرعة العدو، ولها صبر الحمار عند اختلاف الطعن في صدرها ونحرها في الهيجاء وسرعة عدوها في الغارات والطلب كحملات السرحان، وتمشي كمشي السنور في التبختر، وهرولة كذئب يتنقل، وعطفات أيضا كعطفات جلمود الصخر إذا حطه السيل، ومبادرة للعدو في الرهان كمن يطلب الحلبة، قال الأرنب: نعم، ولكن لها مع هذه الخصال المحمودة والأخلاق الجميلة عيب كبير يغطي هذه الخصال كلها.
فقال الملك: ما هو؟ بين لي! قال: الجهالة، وقلة معرفة بالحقيقة؛ وذلك أنه يعدو تحت صاحبه الذي لم يره قط في الهرب مثل ما يعدو تحت صاحبه الذي ولد في داره وتربى في منزله في الطلب، ويحمل عدو صاحبه إليه في طلبه كما يحمل صاحبه في طلب عدوه، وما مثله في هذه الخصال إلا كمثل السيف الذي لا روح فيه ولا حس ولا شعور ولا معرفة ، فإنه يقطع عنق صيقله كما يقطع عنق من أراد كسره وتعويجه وعيبه أنه لا يعرف الفرق بينهما.
ثم قال الأرنب: ومثل هذه الخصال موجودة في بني آدم، وذلك أن أحدهم ربما يعادي والديه وصاحبه وإخوانه وأقرباءه، ويكيدهم ويسيء إليهم مثل ما يفعله بالعدو البعيد الذي لم ير منه برا ولا إحسانا قط، وذلك أن هؤلاء الإنس يشربون ألبان هذه الأنعام كما يشربون ألبان أمهاتهم، ويركبون ظهور هذه البهائم كما يركبون أكتاف آبائهم صغارا، وينتفعون بأصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين، ثم آخر الأمر يذبحونها ويسلخونها، أو يشقون أجوافها ويقطعون مفاصلها ويذيقونها نار الطبخ والشي، ولا يرحمونها ولا يذكرون إحسانها إليهم، وما نالوا من فضلها وبركتها.
فلما فرغ الأرنب من لومه الإنس والخيل وما ذكر من عيوبهم، قال الحمار: لا تكثر من اللوم، فإنه ما من أحد من الخلق أعطي فضائل ومواهب جمة إلا وقد حرم ما هو أكثر منها، وما من أحد حرم مواهب إلا وقد أعطي شيئا لم يعطه غيره؛ لأن مواهب الله كثيرة لا يستوفيها كلها شخص واحد، ولا نوع ولا جنس واحد؛ بل فرقت على الخلق طرا، فمكثر ومقل، وما من شخص آثار الربوبية فيه أظهر إلا ورق العبودية عليه أبين، مثل ذلك نيرا الفلك وهما الشمس والقمر، فإنهما لما أعطيا من مواهب الله حظا جزيلا من النور والعظمة والظهور والجلالة حتى إنه ربما توهم قوم أنهما ربان إلهان لبيان آثار الربوبية فيهما حرما بدل ذلك التحرز من الكسوف ليكون دليلا لأولي الألباب على أنهما لو كانا إلهين لما انكسفا، وهكذا حكم سائر الكواكب الفلكية لما أعطيت الأنوار الساطعة والأفلاك الدائرة والأعمار الطويلة، حرمت التحرز من الاحتراق والرجوع والهبوط لتكون آثار العبودية عليها ظاهرة، وهكذا حكم سائر الخلق من الجن والإنس والملائكة، فما منها أحد أعطي فضائل جمة ومواهب جزيلة إلا وقد حرم ما هو أكبر وأجل، وإنما الكمال لله الواحد القهار العزيز الغفار الشديد العقاب، ومن أجل ما ذكرنا قيل:
ولست بمستبق أخا لا تلمه
على شعث أي الرجال المهذب؟
فلما فرغ الحمار من كلامه تكلم الثور وقال: لكن ينبغي لمن وفر حظه من مواهب الله - تعالى - أن يؤدي شكرها، وهو أن يتصدق من فضل ما أعطي على من قد حرم ولم يرزق منها شيئا.
أما ترى الشمس لما وفر حظها جزيلا من النور كيف تفيض من نورها على الخلق ولا تمن عليهم، وكذلك القمر والكواكب، كل واحد على قدره، وكان سبيل هؤلاء الإنس لما أعطوا من مواهب الله - تعالى - ما قد حرم غيرهم من الحيوان أن يتصدقوا عليها ولا يمنون.
ولما فرغ الثور من كلامه ضجت البهائم والأنعام وقالت جميعا: ارحمنا أيها الملك العادل الكريم، وخذ بأيدينا وخلصنا من جور هؤلاء الإنس الآدميين الظلمة، فالتفت الملك عند ذلك إلى جماعة ممن حضر من حكماء الجن وعلمائهم فقال: ألا تسمعون شكاية هذه البهائم والأنعام وما يصفون من جور بني آدم عليها وظلمهم لها وتعديهم عليها وقلة رحمتهم بها؟!
قالوا: قد سمعنا كل ما قالوا، وهو حق وصدق، ومشاهد منهم ليلا ونهارا لا يخفى على العقلاء ذلك، ومن أجل ذلك هربت بنو الجان من بين أيديهم وظهرانيهم إلى البراري والقفار والمفاوز والفلوات ورءوس الجبال والتلال وبطون الأودية وسواحل البحار لما رأوا من قبيح أفعالهم وسوء أعمالهم ورداءة أخلاقهم، وتركت أن تأوي ديار بني آدم، ومع هذه الخصال كلها لا يتخلصون من سوء ظنهم ورداءة أخلاقهم واعتقادهم في الجن، وذلك أنهم يقولون ويعتقدون أن للجن في الإنس نزغات وخبطات وفزعات في صبيانهم ونسائهم وجهالهم، حتى إنهم يتعوذون من شر الجن بالتعاويذ والرقى والأحراز والتمائم وما شاكلها، ولم يروا قط جنيا قتل إنسيا أو جرحه أو أخذ ثيابه أو سرق متاعه أو نقب داره أو فتق جيبه أو بتر كمه أو فش قفل دكانه أو قطع على مسافر أو خرج على السلطان أو أغار غارة أو أخذ أسيرا، وكل هذه الخصال توجد فيهم، ومنهم بعضا لبعض ليلا ونهارا، ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون.
فلما فرغ القائل من كلامه نادى مناد: ألا أيها الملأ، أمسيتم! فانصرفوا إلى مساكنكم مكرمين، لتعودوا غدا آمنين.
(7) فصل في بيان منفعة المشاورة لذوي الرأي
ثم إن الملك لما قام من المجلس خلا بوزيره بيراز، وكان رجلا عاقلا رزينا فيلسوفا حكيما، فقال له الملك: قد شاهدت المجلس وسمعت ما جرى من هؤلاء الطوائف الوافدين من الكلام والأقاويل، وعلمت فيما جاءوا له، فبماذا تشير أن نفعل بهم؟ وما الرأي الصواب الذي عندك؟
قال الوزير: أيد الله الملك وسدده وهداه الرشاد، الرأي الصواب عندي أن يأمر الملك قضاة الجن وفقهاءها وحكماءها وأهل الرأي أن يجتمعوا عنده ويستشيرهم في هذا الأمر، فإن هذه قصة عظيمة وخطب جليل وخصومة طويلة، والأمر فيها مشكل جدا، والرأي مشترك، والمشاورة تزيد ذوي الرأي الرصين بصيرة، وتفيد المتحير رشدا، والحازم اللبيب معرفة ويقينا.
فقال الملك: نعم ما رأيت، وصواب ما قلت، ثم أمر الملك بعد ذلك بإحضار قضاة الجن من آل جرجيس والفقهاء من بني ناهيد، وأهل الرأي من بني بيران الحكيم، والحكماء من آل لقمان، وأهل التجارب من بني هامان، والحكام والفلاسفة من بني كيوان، وأهل الصرامة والعزيمة من آل بهرام، فلما اجتمعوا عنده خلا بهم، ثم قال لهم: قد علمتم ورود هذه الطوائف إلى بلادنا، ونزولهم بساحتنا، ورأيتم حضورهم مجلسنا، وسمعتم أقاويلهم ومناظراتهم وشكاية هذه البهائم الأسيرة من جور بني آدم، وقد استجاروا بنا واستذموا بذمامنا، وتحرموا بطعامنا، فماذا ترون؟ وما الذي تشيرون أن نفعل بهم؟ قال رأس الفقهاء من أهل ناهيد: بسط الله يد الملك بالقدرة، ووفقه للصواب، أما الرأي عندي أن يأمر الملك هذه البهائم أن يكتبوا قصتهم، ويذكروا فيها ما يلقون من جور بني آدم ويأخذون فيها فتاوى الفقهاء، فإن في هذا خلاصا لهم ونجاة من الظلم، فإن القاضي سيحكم لهم إما بالبيع أو بالعتق أو بالتخفيف والإحسان إليهم، فإن لم يفعل بنو آدم ما حكم به، وهربت هذه البهائم منهم، فلا وزر عليها، فقال الملك للجماعة: ماذا ترون فيما قال وأشار؟ فقالوا: صوابا ورشادا ، ثم أشار غير صاحب العزيمة من آل بهرام، فإنه قال: أرأيتم إن استباعت هذه البهائم وأجابتها بنو آدم إلى ذلك، من ذا الذي يزن أثمانها؟ قال الفقيه: الملك، قال: من أين؟ قال: من بيت مال المسلمين من الجن، قال صاحب الرأي: ليس في بيت المال ما يفي بأثمان هذه البهائم، وخصلة أخرى: أن كثيرا من بني آدم لا يرغبون في بيعها لشدة حاجتهم إليها واستغنائهم عن أثمانها؛ مثل الملوك والأشراف والأغنياء، وهذا أمر لا يتم، فلا تتعبوا أفكاركم في هذا، فقال الملك: فما الرأي الصواب عندك؟ قل لنا. قال: الصواب عندي أن يأمر الملك هذه البهائم والأنعام الأسيرة في أيدي بني آدم أن تجمع رأيها وتهرب كلها في ليلة واحدة، وتبعد من ديار بني آدم كما فعلت حمر الوحش والغزلان والوحوش والسباع وغيرها، فإن بني آدم إذا أصبحوا لم يجدوا ما يركبون ولا ما تحمل أثقالهم امتنعوا عن طلبها لبعد المسافة ومشقة الطريق، فيكون هذا نجاة لها وخلاصا من جور بني آدم، فعزم الملك على هذا الرأي، ثم قال لمن كان حاضرا: ماذا ترون فيما قال وأشار؟ قال رئيس الحكماء من آل لقمان: هذا عندي أمر لا يتم، فلا تتعبوا أنفسكم، فهو بعيد المرام؛ لأن أكثر هذه البهائم لا تكون بالليل إلا مقيدة أو مغللة، والأبواب عليها مغلقة، فكيف يتسنى لها الهرب في ليلة واحدة؟!
قال صاحب العزيمة: يبعث الملك تلك الليلة قبائل الجن يفتحون لها الأبواب ويحلون عقلها وأوثاقها، ويخبلون حراسها إلى أن تبعد البهائم، واعلم أيها الملك بأن لك في هذا أجرا عظيما، وقد محضت لك النصيحة لما أدركني من الرحمة لها، وإن الله - تعالى - لما علم من الملك حسن النية وصحة العزيمة، فإنه يعينه ويؤيده وينصره إذا شكر نعمته بمعاونة المظلومين، وتخليص المكروبين، فإن في بعض كتب الأنبياء - عليهم السلام - مكتوبا يقول الله عز وجل: أيها الملك، إني لم أسلطك لتجمع المال وتتمتع وتشتغل بالشهوات واللذات، ولكن لترد عني دعوة المظلوم، فإني لا أردها ولو كانت من كافر، فعزم الملك إلى ما أشار به صاحب الرأي، ثم قال لمن حوله من الحضور: ماذا ترون فيما قال؟ قالوا: محض النصيحة وبذل المجهود، فصدقوا رأيه جميعا غير حكيم من آل كيوان، فإنه قال: بصرك الله أيها الملك خفيات الأمور، وكشف عن بصرك مشكلات الأسباب والدهور، إن في هذه الأسباب والعمل خطبا جليلا لا تؤمن غائلة عاقبته، ولا يستدرك إصلاح ما فات منه، ولا ما فرط، فقال الملك: عرفنا يا حكيم ما الرأي؟ وما الذي يخاف ويحذر؟ بين لنا لنكون على علم وبصيرة، قال: نعم، أرأيت أيها الملك إن تم ما أشير به عليك من وجه نجاة هذه البهائم من أيدي بني آدم وهربها من أيديهم، أليس بنو آدم من الغد يصبحون وقد رأوا حادثا عظيما من فرار هذه البهائم وهربها من ديارهم فيعلمون يقينا بأن ذلك ليس من فعل البهائم ولا من تدبير الإنس، بل لا يشكون بأن ذلك من فعل الجن وحيلتهم! قال الملك: لا شك فيه، قال: أليس بعد ذلك كلما فكر بنو آدم فيما فاتها من المنافع والمرافق بهربها منهم امتلأت حزنا وغيظا وغما وأسفا على ما فاتها وحقدت على بني الجان عداوة وبغضا، وأضمرت لهم حيلا ومكائد ويطلبونهم كل مطلب، ويرصدونهم كل مرصد، ويقع بنو الجان عند ذلك في شغل وعداوة ووجل كانوا في غنى عنه.
وقد قالت الحكماء: إن اللبيب العاقل هو الذي يصلح بين الأعداء، ولا يجلب إلى نفسه عداوة، ويجر المنافع إلى غيره ولا يضر نفسه، قالت الجماعة: صدق الحكيم الفيلسوف الفاضل، ثم قال القائل من الحكماء: ما الذي يخاف ويحذر من عداوة الإنس لبني الجان أيها الحكيم أن ينالوهم من المكاره، وقد علمت بأن الجان أرواح خفيفة نارية تتحرك علوا طبعا، وبنو آدم أجساد أرضية ثقيلة تتحرك بالطبيعة سفلا، ونحن نراهم ولا يرونا، ونسير فيهم ولا يحسون بنا، ونحن نحيطهم وهم لا يمسوننا، فأي شيء يخاف منهم علينا أيها الحكيم؟ فقال له الحكيم: هيهات، ذهب عنك عظامها، وخفي عليك أجسامها، أما علمت أن بني آدم وإن كانت لهم أجساد أرضية ثقيلة؛ فإن لهم أرواحا فلكية ونفوسا ناطقة ملكية بها يفضلون عليكم ويمتازون عنكم؟! واعلموا أن لكم فيما مضى من أخبار القرون الأولى معتبرا ومختبرا، وفيما جرى بين بني آدم وبين بني الجان في الدهور السالفة دليلا واضحا، فقال الملك: أخبرنا أيها الحكيم كيف كان؟ وحدثنا بما جرى من الخطوب، وكيف تم ذلك؟
(8) فصل في بيان العداوة بين بني الجان وبين بني آدم وكيف كانت
قال الحكيم: نعم، إن بين بني آدم وبني الجان عداوة طبيعية، وعصبية جاهلية، وطباعا متنافرة يطول شرحها، قال الملك: اذكر منها طرفا، وابتدئ من أوله، قال الحكيم: فاعلم أن بني الجان كانت في قديم الأيام والأزمان قبل آدم أبي البشر - عليه السلام - سكان الأرض وقاطنيها، وكانوا قد طبقوا الأرض برا وبحرا، سهلا وجبلا، فطالت أعمارهم وكثرت النعمة لديهم، وكان فيهم الملك والنبوة والدين والشريعة، فطغت وبغت وتركت وصية أنبيائها وأكثرت في الأرض الفساد، فضجت الأرض ومن عليها من جورهم، فلما انقضى الدور واستؤنف القران أرسل الله - تعالى - جندا من الملائكة نزلت من السماء فسكنت الأرض، وطردت بني الجان إلى أطراف الأرض منهزمة، وأخذت سبيا كثيرا منها، وكان فيمن أخذ أسيرا عزازيل إبليس اللعين فرعون آدم، وهو إذ ذاك صبي لم يدرك.
فلما نشأ مع الملائكة تعلم من علمها وتشبه بها في ظاهر الأمر، وأخذ من رسومه وجوهره غير رسومها وجوهرها، ولما طالت الأيام صار رئيسا فيها آمرا ناهيا متبوعا حينا ودهرا من الزمان والدهر، فلما انقضى الدور واستؤنف القران أوحى الله إلى أولئك الملائكة الذين كانوا في الأرض فقال لهم: إني جاعل في الأرض خليفة من غيركم، وأرفعكم إلى السماء»، فكرهت الملائكة الذين كانوا في الأرض مفارقة الوطن المألوف، وقالت في مراجعة الجواب: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء كما كانت بنو الجان، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟! قال: «إني أعلم ما لا تعلمون؛ لأني آليت على نفسي أن لا أترك على وجه الأرض أحدا من الملائكة، ولا من الإنس ولا من سائر الحيوان»، ولهذا اليمين سر قد بيناه في موضع آخر، فلما خلق الله - تعالى - آدم وسواه ونفخ فيه من روحه، وخلق زوجته حواء أمر الملائكة الذين كانوا في الأرض بالطاعة، فانقادت لهما جميعا ما عدا عزازيل، فإنه أنف وتكبر وأخذته الحمية حمية الجاهلية والحسد لما رأى أن رياسته قد زالت ويحتاج أن يكون تابعا بعدما كان متبوعا، ومرءوسا بعدما كان رئيسا، فأمر أولئك الملائكة أن يصعدوا بآدم عليه السلام فأدخلوه الجنة، وهي بستان من الشرق على رأس جبل الياقوت الذي لا يقدر أحد من البشر أن يصعد هنالك وهي طيبة التربة معتدلة الهواء شتاء وصيفا، ليلا ونهارا كثيرة الأنهار مخضرة الأشجار مفننة الثمار والفواكه والرياض والرياحين والأنهار والأزهار كثيرة الحيوانات غير المؤذية والطيور الطيبة الأصوات اللذيذة الألحان والنغمات، وكان على رأس آدم وحواء شعر طويل مدلى كأحسن ما يكون على الجواري والأبكار، يبلغ قدميهما ويستر عورتيهما، وكان دثارا لهما وسترا لهما وزينة وجمالا، وكانا يمشيان على حافات تلك الأنهار، ويشمان من الرياحين والأزهار، ويأكلان من ثمار تلك الأشجار ويشربان من مياه تلك الأنهار بلا تعب من الأبدان، ولا عناء من النفوس، ولا مشقة من كد الحرث والنسل والزرع والسقي والحصاد والدراس والطحن، والخبر والغزل والنسج والخياطة والغسل، وما اليوم أولادهما به مبتلون من شقاوة أسباب المعاش في هذه الدنيا، وكان حكمهما في تلك الجنة حكم الحيوانات التي هناك مستودعين مستريحين متلذذين، وكان الله - تعالى - ألهم آدم أسماء تلك الأشجار والثمار والرياحين وأسماء تلك الحيوانات التي هناك.
فلما نطق آدم سأل الملائكة عنها، فلم يكن عندها جواب، فغدا عند ذلك آدم معلما يعرفها أسماءها ومنافعها ومضارها، فانقادت الملائكة لأمره ونهيه لما تبين لها فضله عليها.
ولما علم عزازيل ذلك ازداد بغضا وحسدا لهما بالمكر والخديعة والحيل والدغل والغش، ثم أتاهما بصورة الناصح فقال لهما: لقد فضلكما ربكما بما أنعم به عليكما من الفصاحة والبيان، ولو أكلتما من هذه الشجرة، لازددتما علما وبقيتما ها هنا خالدين آمنين لا تموتان، فاغترا بقوله لما حلف لهما: إني لكما لمن الناصحين، وحملهما الحرص، فتسابقا وتناولا ما كان منهيين عنه.
فلما أكلا منها تناثرت شعورهما وانكشفت عوراتهما وبقيا عريانين، وأصابهما حر الشمس فاسودت أبدانهما وتغيرت ألوان وجوههما، ورأت الحيوان حالهما فأنكرتهما ونفرت منهما واستوحشت من سوء حالهما، وأمر الله - تعالى - الملائكة أن أخرجوهما من هناك، فرموهما إلى أسفل الجبل، فوقعا في برية قفراء، لا نبت فيها ولا ثمر، وبقيا هناك زمانا طويلا يبكيان وينوحان حزنا وأسفا على ما فاتهما نادمين على ما كان منهما.
ثم إن رحمة الله - تعالى - تداركتهما، فتاب الله - تعالى - عليهما، وأرسل ملكا يعلمهما الحرث والزرع والدراس والحصاد والطحن والخبز والغزل والطبخ والخياطة واتخاذ اللباس.
ثم لما توالدا وتناسلا وكثرت ذريتهما خالطهم أولاد بني الجان، وعلموهم الصنائع والحرث والغرس والبنيان والمنافع والمضار وصادقوهم، وتوددوا إليهم وعاشروهم مدة من الزمان بالحسنى، ولكن كلما ذكر بنو آدم ما جرى على أبيهم من كيد عزازيل وعداوته لهم امتلأت قلوب بني آدم غيظا وحقدا على بني الجان، فلما قتل قابيل هابيل اعتقدت أولاد هابيل بأن ذلك من تعليم بني الجان، فازدادوا غيظا وعداوة، وطلبوهم كل مطلب واحتالوا عليهم بكل حيلة من العزائم والرقى والمنادل والدخن ودخان النفط والكبريت والحبس في القوارير والعذاب بألوان الدخان والبخارات المؤذية لأولاد بني الجان المنفرة لهم، المشتتة لأغراضهم، فكان ذلك دأبهم إلى أن بعث الله إدريس النبي - عليه السلام - وهو هرمس بلغة الحكماء، فأصلح بين بني الجان وبين أولاد آدم - عليه السلام - بالدين والشريعة والإسلام والملة وتراجعت بنو الجان إلى ديار بني آدم وخالطوهم وعاشوا فيها معهم بخير إلى أيام الطوفان، وبعد ذلك إلى أيام إبراهيم، فلما طرح في النار اعتقد بنو آدم بأن تعليم المنجنيق كان من بني الجان لنمرود الجبار، فلما طرح إخوة يوسف - عليه السلام - أخاهم في الجب نسب ذلك إلى نزغات الشيطان من أولاد الجان.
فلما بعث الله موسى - عليه السلام - أصلح بين بني الجان وبني إسرائيل بالدين والشريعة، ودخل كثير من الجن في دين موسى عليه السلام.
فلما كان أيام سليمان بن داود - عليهما السلام - شيد الله ملكه وسخر له الجن والشياطين، وغلب سليمان - عليه السلام - على ملوك الأرض، افتخرت الجن على الإنس بأن ذلك كان من معاونة الجن لسليمان وقالت: لولا معاونة الجن لسليمان كان حكمه حكم أحد ملوك بني آدم، وكانت الجن توهم الإنس أنها تعلم الغيب.
فلما كان موت سليمان - عليه السلام - والجن في العذاب المهين لم تشعر بموته، فتبين أنها لو كانت تعلم الغيب ما لبثوا في العذاب المهين.
وأيضا لما جاء الهدهد بخبر بلقيس وقال سليمان - عليه السلام - ما قال للملأ من الجن والإنس: أيكم يأتيني بعرشها؟ افتخرت الجن، قال عفريت من الجن وهو أضطر بن مايان من آل كيوان: أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك؛ أي مجلس الحكمة، قال سليمان: أريد أسرع من هذا، قال الذي عنده علم من الكتاب: «أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك»، وهو آصف بن برخيا.
فلما رآه مستقرا عنده خر سليمان - عليه السلام - ساجدا لله - تعالى - وتبين فضل الإنس على الجن، وانقضى المجلس وانصرفت الجن من المجلس من هناك خجلين منكسين رءوسهم وغوغاء الإنس يتغطغطون في أثرهم، ويستقفون أثرهم شامتين بهم.
فلما جرى ما ذكرته هربت طائفة من الجن من سليمان، وخرج عليهم خارج منهم، فوجه سليمان - عليه السلام - في طلبهم من جنوده، وعلمهم كيف يأخذونهم بالرقى والعزائم والكلمات والآيات المنزلات، وكيف يحسبونهم بالمنادل، وعمل في ذلك كتابا وجد في خزانته بعد موته، وشغل سليمان - عليه السلام - طغاة الجن بالأعمال الشاقة إلى أن مات.
ثم لما بعث المسيح - عليه السلام - دعي الخلق من الجن والإنس إلى الله - تعالى عز وجل - ورغبهم في لقائه، وبين لهم طريق الهدى، وعلمهم كيف الصعود إلى ملكوت السموات، فدخل في دينه طوائف من الجن وترهبت وارتقت إلى هناك، واستمعت من الملأ الأعلى الأخبار، وألقت إلى الكهنة.
فلما بعث الله محمدا - صلى الله عليه وآله - منعت من استراق السمع، وقالت: «لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا؟» ودخلت قبائل من الجن في دينه وحسن إسلامها وانصلح الأمر بين بني الجان وبين المسلمين من أولاد آدم - عليه السلام - إلى يومنا هذا.
ثم قال الحكيم: يا معشر الجن! لا تتعرضوا لهم ولا تفسدوا الحال بينكم وبينهم، ولا تحركوا الأحقاد الساكنة، ولا تثيروا الأضغان الكامنة والبغضاء والعداوة القديمة المركوزة في الطباع، والجبلة، فإنها كالنار الكامنة في الأحجار تظهر عند احتكاكها، فتشتعل بالكباريت، فتحترق المنازل والأسواق، ونعوذ بالله من ظفر الأشرار ودولة الفجار والعار والبوار، فلما سمع الملك والجماعة هذه القصة العجيبة أطرقت مفكرة فيما سمعت.
ثم قال الملك الحكيم: فما الرأي الصواب عندك في أمر هذه الطوائف الواردة المستجيرة بنا؟ وعلى أي حال نصرفهم من بلادنا راضين بالحكم الصواب؟
قال الحكيم: الرأي الصواب لا يسنح إلا بعد التثبت والتأني بالفكر والروية والاعتبار بالأمور الماضية، والرأي عندي أن يجلس الملك غدا في مجلس النظر ويحضر الخصوم ويسمع عنهم ما يقولون من الحجة والبيان، ليتبين له على من يتوجه الحكم، ثم يدبر الرأي بعد ذلك.
قال صاحب العزيمة: أرأيتم إن عجزت هذه البهائم عن مقاومة الإنس في الخطاب بقصورها عن الفصاحة والبيان، واستظهرت الإنس عليها بذرابة ألسنتها وجودة عبارتها وفصاحتها، أترى أن تبقى هذه البهائم أسيرة في أيديهم ليسوموها سوء العذاب دائما؟ قال: لا، ولكن تصير هذه البهائم في الأسر والعبودية إلى أن ينقضي دور القران، ويستأنف نشوء آخر، ويأتي الله لها بالفرج والخلاص كما نجى آل إسرائيل من عذاب فرعون، وكما نجى آل داود من عذاب بخت نصر، وكما نجى آل حمير من عذاب آل تبع، وكما نجى آل ساسان من عذاب اليونان، وكما نجى آل عمران من عذاب أزدشير.
فإن أيام هذه الدنيا دول بين أهلها، تدور بإذن الله - تعالى - وسابق علمه ونفاذ مشيئته بموجبات أحكام القرانات والأدوار في كل ألف سنة مرة، أو في كل اثنتي عشر ألف سنة مرة، أو في كل ستة وثلاثين ألف سنة مرة، أو في كل ثلاثمائة ألف وستين ألف سنة مرة، أو في كل يوم مقداره خمسين ألف سنة مرة، فاعلم جميع ذلك.
(9) فصل في بيان كيفية استخراج العامة أسرار الملوك
فنقول: اعلم أن الملك لما خلا بوزيره ذلك اليوم اجتمعت جماعة الإنس في مجلسهم، وكانوا سبعين رجلا من بلدان شتى، فأخذوا يرجمون الظنون، فقال قائل منهم: قد رأيتم وسمعتم ما جرى اليوم بيننا وبين هؤلاء عبيدنا من الكلام الطويل، ولم تنفصل الحكومة فترى أي شيء رأى الملك في أمرنا؟ فقالوا: لا ندري، ولكن نظن أنه قد لحق الملك من ذلك ضجر وشغل قلب، وأنه لا يجلس غدا للحكومة بيننا وبينهم، قال الآخر: لكن أظن أنه يخلو غدا مع وزيره ويشاوره في أمرنا، قال الآخر: بل يجمع غدا الفقهاء والحكماء ويشاورهم في أمرنا، قال الآخر: ترى ما الذي يشيرون به في أمرنا، فأظن أن الملك حسن الرأي فينا، ولكن أخاف أن الوزير ربما يميل علينا ويحيف في أمرنا، قال الآخر: أمر الوزير سهل، نحمل إليه شيئا من الهدايا يلين جانبه ويحسن رأيه، وقال الآخر: ولكن أخاف من شيء آخر، قالوا: وما هو؟ قال: فتاوى الحكماء والفقهاء وحكم الحاكم، قال: هؤلاء أمرهم أيضا سهل نحمل إليهم شيئا من التحف والرشوة فيحسن رأيهم فينا ويطلبون لنا حيلا فقهية، ولا يبالون بتغيير الأحكام، ولكن بليتنا والذي نخاف منه صاحب العزيمة فإنه صاحب الرأي والصواب والصرامة صلب الوجه وقح لا يبالي بأحد، فإن استشاره أخاف أن يشير عليه بالمعاونة لعبيدنا علينا ويعلمه كيف ينتزعها من أيدينا.
وقال آخر: القول كما ذكرت، ولكن إن استشار الملك الفلاسفة والحكماء يخالفونه في الرأي؛ فإن الحكماء إذا اجتمعت ونظرت في الأمور سنح لكل واحد منهم وجه من الرأي غير الذي يسنح للآخر فيختلفون فيما يشيرون به، ولا يكادون يجتمعون على رأي واحد.
وقال آخر: أرأيتم إن استشار الملك القضاة والفقهاء، ماذا يشيرون به علينا في أمرنا؟ قال الآخر: لا تخلو فتاوى الفقهاء وحكم القضاة من أحد ثلاثة وجوه: إما عتقها وتخليتها من أيدينا أو بيعها وأخذ أثمانها أو التخفيف عنها والإحسان إليها، ليس في حكم الشريعة وأحكام الدين غير هذا.
وقال آخر: أرأيتم إن استشار الملك الوزير في أمرنا ماذا يشير عليه؟
ليت شعري! قال قائل منهم: أظنه سيقول: إن هذه الطوائف قد نزلوا بساحتنا واستذموا بذمامنا واستجاروا بنا وهم مظلومون ونصرة المظلوم واجبة على الملوك المقسطين؛ لأنهم خلفاء الله في أرضه ملكهم على عباده وبلاده ليحكموا بينهم بالعدل والإنصاف، ويعينوا الضعفاء ويرحموا أهل البلاء، ويقمعوا أهل الظلم، ويجبروا الخلق على أحكام الشريعة، ويحكموا بينهم بالحق؛ شكرا لنعم الله عليهم وخوفا من مساءلتهم غدا.
وقال آخر: أرأيتم لو أمر الملك القاضي أن يحكم بيننا فيحكم بأحد الأحكام الثلاثة؟ ماذا تقولون؟ وماذا تفعلون؟ قالوا: ليس لنا أن نخرج من حكم الملك، ولا من حكم القاضي؛ لأن القضاة خلفاء الأنبياء والملك حارس الدين.
وقال آخر: أرأيتم إن حكم القاضي بعتقها وتخلية سبيلها، ماذا تصنعون؟ قال أحدهم: نقول مماليكنا وعبيدنا ورثناهم عن آبائنا وأجدادنا، ونحن بالخيار إن شئنا فعلنا وإن شئنا لم نفعل.
قالوا: وإن قال القاضي: هاتوا الصكوك والوثائق والعهود والشهود بأن هؤلاء عبيدكم ورثتموهم عن آبائكم، قالوا: نجيء بالشهود من جيراننا وعدول بلادنا، قال: إن قال القاضي إني لا أقبل شهادة الإنس بعضهم لبعض على هذه البهائم أنها عبيد لهم؛ لأنهم كلهم خصماء لها، وشهادة الخصم لا تقبل في أحكام الدين أو يقول القاضي: أين الوثائق والصكوك والعهود؟ هاتوها وأحضروها إن كنتم صادقين، ماذا نقول ونفعل عند ذلك؟ فلم يكن عند الجماعة جواب في ذلك غير العباسي، فإنه قد قال نقول: لقد كانت لنا عهود ووثائق وصكوك، ولكنها غرقت في أيام الطوفان، قالوا: فإن قال القاضي: احلفوا بأيمان مغلظة أنها عبيد لكم، قال: نقول لا يتوجه اليمين إلا على المنكرين، والبينة على المدعين، ونحن مدعون فلا يتوجه علينا اليمين، قال: فإن استحلف القاضي هذه البهائم، فحلفت بأنها ليست بعبيد لكم ماذا تفعلون؟ قال قائل منهم: نقول إنها قد حنثت فيما حلفت، ولنا حجج عقلية وبراهين ضرورية تدل على أنها عبيد لنا.
قال: أرأيتم إن حكم القاضي ببيعها وأخذ أثمانها، فماذا تقولون وماذا تفعلون؟ قال أهل المدن: نبيعها ونأخذ أثمانها وننتفع بها، فقال أهل الوبر من الأعراب والأكراد والأتراك والبوادي: هلكنا والله إن فعلنا ذلك، الله الله في أمرنا، ولا تحدثوا أنفسكم بهذا، فقال لهم أهل المدن: لم ذاك؟ قالوا: لأنا إذا فعلنا ذلك بقينا بلا لبن نشرب ولا لحم نأكل ولا ثياب من صوف ولا دثار من وبر ولا أثاث من شعر، ولا نعال ولا خف ولا نطع ولا قربة، ولا غطاء ولا لبود، ولا وطاء، فنبقى عراة حفاة أشقياء بسوء الحال، ويكون الموت خيرا لنا من الحياة، ويصيب أهل المدن مثل ما أصابنا، فلا تعتقوها ولا تبيعوها، ولا تحدثوا أنفسكم بهذا الحديث، بل الإحسان إليها والتخفيف عنها والرفق بها والتحنن عليها والرحمة لها، فإنها لحم ودم مثلكم تحس وتتألم، ولم يكن لكم سابقة عند الله جازاكم بها حين سخرها لكم، ولا كان لها جناية عند الله عاقبها بها، ولا ذنب، ولكن الله يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا راد لحكمه، ولا مبدل لقضائه، ولا منازع له في ملكه ولا خلاف لمعلومه، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم إنه الغفور الرحيم.
فصل
ولما قام الملك من مجلسه وانصرفت طوائف الحضور اجتمعت البهائم، فخلصت نجيا، فقال قائل منهم: قد سمعتم ما جرى بيننا وبين خصمائنا من الكلام والمناظرة، ولم تنفصل الحكومة على شيء، فما الرأي عندكم؟ قال قائل منهم: نعود في غد، ونشكو ونبكي ونتظلم، فلعل الملك يرحمنا ويفك أسرنا، فإنه قد أدركته الرحمة علينا اليوم، ولكن ليس من الرأي الصواب للملوك والحكام أن يحكموا بين الخصوم إلا بعد أن يتوجه الحكم على أحد الخصمين بالحجة الواضحة والبينة العادلة، والحجة لا تصح إلا بالفصاحة والبيان وذرابة اللسان، وهذا حاكم الحكام محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله - يقول: «إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجة من بعض ، فأحكم له ، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه، فلا يأخذ منه شيئا، فإني إنما أقطع له قطعة من النار.»
واعلموا أن الإنس أفصح منا لسانا وأجود بيانا، وإنا نخاف عليكم أن يحكم لهم علينا غدا عند الحجاج والمناظرة، فما الرأي الصواب عندكم؟ قولوا! فإن كل واحد من الجماعة إذا فكر سنح لكل واحد وجه من الرأي صوابا كان أو خطأ.
قال قائل منهم: الرأي الصواب عندي أن نرسل رسلا إلى سائر أجناس الحيوانات، فنعرفهم بالخبر ونسألهم أن يبعثوا إلينا زعماءهم وخطباءهم ليعاونونا فيما نحن فيه، فإن لكل جنس منها فضيلة ليست للأخرى بضروب من التمييز، والرأي الصواب والفصاحة والبيان والنظر والحجج، وإذا كثر الأنصار يرجى الفلاح والنجاح، والنصر من الله، ينصر من يشاء والعاقبة للمتقين.
فقالت الجماعة حينئذ: صوابا ما رأيت، ونعم ما أشرت، فأرسلوا ستة نفر إلى ستة أجناس من الحيوان وسابعها كانوا هم حضورا من البهائم والأنعام، منها رسولا إلى الحشرات، ورسولا إلى الطيور، ورسولا إلى السباع، ورسولا إلى الجوارح، ورسولا إلى الهوام، ورسولا إلى حيوان الماء.
(10) فصل في بيان تبليغ الرسالة
ثم بعد ذلك رتبوا الرسل، وبعثوا إلى كل واحد منهم، فلما وصل الرسول إلى أبي الحارث الأسد ملك السباع وعرفه الخبر، وقال له: إن زعماء البهائم والأنعام مجتمعون مع زعماء الإنس عند ملك الجن للمناظرة، وقد بعثوا إلى سائر أجناس الحيوانات يستمدون منها، وبعثوني إليك لترسل معي زعيما من جنودك من السباع ليناظر ولينوب عن الجماعة من أبناء جنسه إذا دارت النوبة في الخطاب إليه، فقال الملك للرسول: وماذا يزعم الإنس؟ وما يدعون على البهائم والأنعام؟ قال الرسول: يزعمون أنها عبيد لهم، وخول وأنهم أرباب لها، ولسائر أجناس الحيوانات التي على وجه الأرض.
قال الأسد: وبماذا يفتخر الإنس عليها ويستحقون الربوبية؟ أبالقوة والشجاعة والجسارة، أم بالحملات والوثبات، أم بالقبض والإمساك بالمخالب، أو بالقتال والوقوف في الحرب، أم بالهيبة والغلبة؟ فإن كانوا يفتخرون بواحدة من هذه الخصال جمعت جنودي ثم ذهبنا حتى نحمل عليهم حملة واحدة ونفرق جمعهم ونشتت شملهم. قال الرسول: لعمري، إن من الإنس من يفتخر بمثل هذه الخصال التي ذكرها الملك، ولهم مع ذلك أعمال وصنائع وحيل ومرافق ومكائد لاتخاذ السلاح من السيوف والرماح الردينيات والحراب والسكاكين والنشاب والقسي والجنن والاحتراز من مخالب السباع وأنيابها، باتخاذ لباس اللبود والجواشن والفرغندات والدروع والخوذ والزرد، مما لا تنفذ فيها أنياب السباع، ولا تصل إليها مخالبها، ولهم مع ذلك حيل أخرى في أخذ السباع والوحوش من الخنادق المحفورة والزبيات المستورة، والصناديق المعمولة والفخاخ المنصوبة، والوهق والستائر وآلات أخر لا تعرفها السباع فتحذرها ولا تهتدي كيف الخلاص منها إذا وقعت هي فيها، ولكن ليس الحكومة ولا المناظرة بحضرة ملك الجن بخصلة من هذه، وإنما الحجاج والمناظرة بفصاحة الألسنة وجودة البيان ورجحان العقول ودقة التمييز.
فلما سمع الأسد قول الرسول وما أخبره به فكر ساعة ثم أمر مناديا ينادي، فاجتمعت عنده جنوده من أصناف السباع والوحوش من النمور والفهود والدببة وبنات آوى والذئاب والثعالب وسنانير البر والضباع وأصناف القرود وبنات عرس، وبالجملة كل ذي مخلب وناب يأكل اللحمان.
فلما اجتمعت عند الملك عرفها الملك الخبر وما قال الرسول ثم قال: أيكم يذهب إلى هناك فينوب عن الجماعة فنضمن له ما يريد ويتمنى علينا من الكرامة والقربى إذا هو نجح في المناظرة والحجة في الحجاج، فسكتت السباع ساعة متفكرة هل أحد يصلح لهذا الشأن أم لا، ثم قال النمر للأسد: أنت ملكنا ومولانا ونحن عبيدك ورعيتك وجنودك، وسبيل الملك أن يدبر الرأي ويشاور أهل البصيرة بالأمور، ثم يأمر وينهى ويدبر الأمور كما يجب، وسبيل الرعية أن يسمعوا ويطيعوا؛ لأن الملك من الرعية بمنزلة الرأس من الجسد، والرعية والجنود بمنزلة الأعضاء من البدن، فمتى قام كل واحد منها بما يجب من الشرائط انتظمت الأمور واستقامت، وكان في ذلك صلاح الجميع وفلاح الكل.
فقال الأسد للنمر: وما تلك الخصال والشرائط التي قلت إنها واجبة على الملك والرعية؟ بينها لنا. قال: نعم، أما الملك فينبغي أن يكون رجلا عاقلا أديبا لبيبا سخيا شجاعا عادلا رحيما عالي الهمة كثير التحنن شديد العزيمة صارما في الأمور متأنيا ذا رأي وبصيرة، ومع هذه الخصال ينبغي أن يكون مشفقا على رعيته متحننا على جنوده وأعوانه رحيما بها كالأب المشفق على أولاده الصغار شديد العناية بصلاح أمورهم.
وأما الذي يجب على الرعية والجنود والأعوان، فالسمع والطاعة للملك والمحبة له والنصيحة لأعوانه، وأن يعرفه كل واحد منهم ما عنده من المعرفة، وما يحسن من الصناعة وما يصلح له من الأعمال، ويعرف الملك أخلاقه وسجاياه؛ ليكون الملك على علم منه، وينزل كل واحد منهم منزلته، ويستخدمه فيما يحسن ويستعين به فيما يصلح له.
قال الأسد: لقد قلت صوابا ونطقت حقا، فبوركت من رحيم ناصح لملكه ولإخوانه ولأبناء جنسه، فما الذي عندك من المعاونة في هذه الأمور التي قد دعينا إليها واستعين بنا فيها؟
قال النمر للأسد: سعد نجمك وظفرت يداك أيها الملك، إن كان الأمر يمشي هناك بالقوة والجلد والغلبة والقهر والحمل والحقد والحنق والحمية فأنا لها.
قال الملك: لا يمشي الأمر هناك بشيء مما ذكرت.
قال الفهد: إن كان الأمر يمشي هناك بشيء من الوثبات والقفزات والقبض والبسط فأنا لها، قال الملك: لا.
قال الذئب: إن كان الأمر يمشي هناك بالغارات والخصومات والمكابرات فأنا لها، قال الملك: لا.
قال الثعلب: إن كان الأمر يمشي هناك بالختل والحيلة والعطفات والزوغات وكثرة الالتفات والمكر فأنا لها، قال الملك: لا.
قال ابن عرس: إن كان الأمر يمشي باللصوصية والتجسس والاختفاء والسرقة فأنا لها، قال الملك: لا.
قال القرد: إن كان الأمر يمشي هناك بالخيلاء والمجانة واللعب واللهو والرقص وضرب الطبل والدف فأنا لها، قال الملك: لا.
قال السنور: إن كان الأمر يمشي هناك بالتواضع والسؤال والكدية والمؤانسة والتخرخر فأنا لها، قال الملك: لا.
قال الكلب: إن كان الأمر يمشي هناك بالبصبصة وتحريك الذنب واتباع الأثر والحراسة والنباح فأنا لها، قال الملك: لا.
قال الضبع: إن كان الأمر يمشي هناك بنبش القبور وجر الجيف وحرب الكلاب والكراع وثقل الروح فأنا لها، قال الملك: لا .
قال الجرذ: إن كان الأمر يمشي هناك بالإضرار والإفساد والقرض والقطع والسرقة والإخراب فأنا لها، قال الملك: لا يمشي الأمر هناك بشيء من هذه الخصال التي ذكرتموها.
ثم أقبل الأسد على النمر وقال: إن هذه الخصال والطباع والأخلاق والسجايا التي ذكرت هذه الطوائف من أنفسها لا تصلح إلا لجنود الملوك من بني آدم وسلاطينهم وأمرائهم وقادة الجيوش وولاة الحروب وهم إليها أحوج وأليق بهم؛ لأن أنفسهم سبعية وإن كانت أجسادهم بشرية وصورهم آدمية.
أما مجالس العلماء والفقهاء والحكماء وأهل العقل والرأي والعلم والتمييز فإن أخلاقهم وسجاياهم أشبه بأخلاق الملائكة الذين هم سكان السموات وجنود رب العالمين، فمن ترى يصلح أن نبعثه إلى هناك لينوب عن الجماعة؟
قال النمر: صدقت أيها الملك فيما قلت، ولكن أرى العلماء والفقهاء من بني آدم قد تركوا هذه الطريقة التي قلت أنها أخلاق الملائكة، وأخذوا في ضروب من أخلاق الشياطين من المكابرة والمغالبة والتعصب والعداوة والبغضاء فيما يتناظرون ويتجادلون من الصياح والسفاهة، وهكذا من نجدهم في مجالس القضاة والحكام يفعلون ما ذكرت وتركوا استعمال الأدب والعقل والنصيحة والعدل، قال: صدقت، ولكن رسول الملك يجب أن يكون رجلا عاقلا حكيما خبيرا فاضلا منصفا كبيرا لا يميل ولا يجنف في الأحكام، فمن ترى أن نبعثه إلى هناك رسولا وزعيما يفي بخصال الرسالة، وليس في جماعة الحاضرين من يفي بها ها هنا.
(11) فصل في بيان صفة الرسول كيف ينبغي أن يكون
قال النمر للأسد: ما تلك الخصال التي ذكرت أيها الملك أنها يجب أن تكون في الرسول؟ بينها لنا. قال الملك: نعم، أولها: يحتاج أن يكون رجلا عاقلا حسن الأخلاق بليغ الكلام فصيح اللسان جيد البيان حافظا لما يسمع، محترزا فيما يجيب ويقول، مؤديا للأمانة، حسن العهد، مراعيا للحقوق، كتوما للسر، قليل الفضول في الكلام، لا يقول من رأيه شيئا غير ما قيل له إلا ما يرى فيه صلاح المرسل، ولا يكون شرها ولا يكون حريصا إذا رأى كرامة عند المرسل إليه مال إلى جهته وخان مرسله واستوطن البلد لطيب عيشه هناك أو كرامة يجدها أو شهوة ينالها هناك، بل يكون ناصحا لمرسله ولإخوانه وأهل بلده وأبناء جنسه، ويبلغ الرسالة ويرجع بسرعة إلى مرسله، فيعرفه جميع ما جرى من أوله إلى آخره، ولا يخاف في شيء منه في تبليغ رسالته مخافة من مكروه يناله، فإنه ليس على الرسول إلا البلاغ.
ثم قال الأسد للنمر: فمن ترى يصلح لهذا الأمر من هذه الطوائف؟ قال النمر: لا يصلح لهذا الشأن إلا الحكيم العادل والعالم الخبير كليلة أخو دمنة، قال الأسد لابن آوى ما تقول فيما قال فيك؟ قال: أحسن الله جزاءه، وأطاب عنصره، قال ما يشبهه من الفضل والكرم، قال الملك لابن آوى: فهل تنشط وتمضي إلى هناك وتنوب عن الجماعة، ولك الكرامة علينا إذا رجعت وأفلحت، قال: سمعا وطاعة لأمر الملك، ولكن لا أدري كيف أعمل وكيف أصنع مع كثرة أعدائي هناك من أبناء جنسنا؟
قال الملك: من هم؟ قال: الكلاب أيها الملك، قال: ما لها؟ قال: أليس قد استأمنت إلى بني آدم وصارت معينة لهم علينا معشر السباع؟!
قال الملك: ما الذي دعاها إلى ذلك وحملها عليه حتى فارقت أبناء جنسها وصارت مع من لا يشاكلها معينة لهم على أبناء جنسها؟ فلم يكن عند أحد من ذلك علم غير الذئب، فإنه قال: أنا أدري كيف كان السبب، وما الذي دعاها إلى ذلك.
قال الملك: قل لنا، وبينه لنعلم كما تعلم. قال: نعم، أيها الملك إنما دعا الكلاب إلى مجاورة بني آدم ومداخلتهم مشاكلة الطباع ومجانسة الأخلاق، وما وجدت عندهم من المرغوبات واللذات من المأكولات والمشروبات، وما في طباعها من الحرص والشره واللؤم والبخل وما في جبلتها من الأخلاق المذمومة الموجودة في بني آدم مما السباع عنه بمعزل، وذلك أن الكلاب تأكل اللحمان ميتا وجيفا ومذبوحا قديدا ومطبوخا ومشويا ومالحا وطريا وجيدا ورديئا وثمارا وبقولا وخبزا ولبنا وحليبا وحامضا وجبنا وسمنا ودسما ودبسا وشيرجا وناطفا وعسلا وسويقا وكوامخ، وما شاكلها من أصناف مأكولات بني آدم التي أكثر السباع لا يأكلها ولا يعرفها، ومع هذه الخصال كلها، فإن بها من الشره واللؤم والبخل ما لا يمكنها أن تترك أحدا من السباع أن يدخل قرية أو مدينة، مخافة أن ينازعها في شيء مما هي فيه حتى إنه ربما يدخل أحد من بنات آوى أو بنات أبي الحصين قرية بالليل ليسرق منها دجاجة أو ديكا أو سنورا أو يجر جيفة مطروحة أو كسرة مرمية أو ثمرة متغيرة، فترى الكلاب كيف تحمل عليه وتطرده وتخرجه من القرية، ومع هذا كله أيضا نرى بها من الذل والمسكنة والفقر والهوان والطمع ما إذا رأى في يد أحد من بني آدم من الرجال والنساء والصبيان رغيفا أو كسرة أو تمرة أو لقمة كيف يطمع فيها، وكيف يتبعه ويبصبص بذنبه ويحرك برأسه ويحد النظر إلى حدقته حتى يستحي أحدهم فيرمي بها إليه، ثم تراه بعد كيف يعدو إليها بسرعة، وكيف يأخذها بعجلة مخافة أن يسبقه إليها غيره، وكل هذه الأخلاق المذمومة موجودة في الإنس والكلاب، فمجانسة الأخلاق ومشاكلة الطباع دعت الكلاب إلى أن فارقت أبناء جنسها من السباع واستأنست من الإنس، وصارت معينتهم على أبناء جنسها من السباع.
قال الملك: ومن غيرهم من المستأمنة إلى الإنس من السباع؟ قال الذئب: السنانير أيضا، قال الملك: ولم استأنست السنانير أيضا؟ قال العلة واحدة وهي مشاكلة الطباع لأن السنانير بها أيضا من الحرص والشره والرغبة في ألوان المأكولات والمشروبات مثل ما بالكلاب.
قال الملك: كيف حالها عندهم؟ قال: هي أحسن حالا من الكلاب قليلا، وذلك أن السنانير تدخل بيوتهم وتنام في مجالسهم، وتحت فرشهم وتحضر موائدهم فيطعمونها مما يأكلون ويشربون، وهي أيضا تسرق منهم أحيانا إذا وجدت فرصة من المأكولات.
وأما الكلاب فلا يتركونها تدخل بيوتهم ومجالسهم وبين الكلاب وبين السنانير بهذا السبب حسد وعداوة شديدة، حتى إن الكلاب إذا رأت سنورا خرجت من بيوتهم حملت عليها حملة تريد أن تأخذها وتأكلها وتمزقها، والسنانير إذا رأت الكلاب نفخت في وجوهها ونفشت شعورها وأذنابها وتطاولت وتعظمت كل ذلك عنادا لها، وعداوة ومناصبة وحسدا وبغضا وتنافسا في المراتب عند بني آدم.
قال الأسد للذئب: من رأيت أيضا من المستأنسة غير هذين من جنس السباع؟ قال: الفأر والجرذان يدخلون منازلهم وبيوتهم ودكاكينهم وخاناتهم غير مستأنسين، بل على وحشة ونفور.
قال: فماذا يحملها على ذلك؟ قال: الرغبة في المأكولات والمشروبات من الألوان، قال: من يداخلهم أيضا من أجناس السباع؟ قال: ابن عرس على سبيل اللصوصية والخلسة والتجسس، قال: ومن غيرها من يداخلهم؟ قال: لا غير، سوى الأسارى من الفهود والقرود على كره منها.
ثم قال الملك للذئب: متى استأنست الكلاب والسنانير إلى الإنس؟ قال: منذ الزمان الذي استظهرت فيه بنو قابيل على بني هابيل، قال: كيف كان ذلك؟ حدثنا ذلك.
قال: لما قتل قابيل أخاه هابيل طالب بنو هابيل من بني قابيل بثأر أبيهم، فاقتتلوا وتحاربوا، واستظهرت بنو قابيل على بني هابيل فهزموهم ونهبوا أموالهم، وساقوا مواشيهم من الأغنام والبقر والخيل والبغال والجمال، وغنموا واستغنوا، فأصلحوا الدعوات والولائم، وذبحوا حيوانات كثيرة ورموا برءوسها وأكارعها وكروشها حول ديارهم وقراهم، فلما رأتها الكلاب والسنانير رغبت جميعا في كثرة الريف والخصب ورغد العيش، فداخلتهم وفارقت أبناء جنسها، وصارت معهم معينة إلى يومنا هذا.
فلما سمع الملك الأسد ما ذكره الذئب من هذه القصة قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنا لله وإنا إليه راجعون، واستكثر من هذه الكلمات وتكرارها، فقال له الذئب: ما الذي أصابك أيها الملك الفاضل؟ وما هذا التأسف على مفارقة الكلاب والسنانير لأبناء جنسها؟ قال الأسد: ليس تأسفي على شيء فاتني منهم، ولكن لما قالت الحكماء بأنه ليس شيء على الملوك أضر ولا أفسد لأمرهم وأمر رعيتهم من المستأمن من جندهم وأعوانهم إلى عدوهم؛ لأنه يعرف أسرارهم وأخلاقهم وسريرتهم وعيوبهم وأوقات غفلتهم والنصحاء من جنودهم والخونة من رعيتهم، فيدله على طرقات خفية ومكائد دقيقة، وكل هذه ضارة للملوك وجنودها، لا بارك الله في الكلاب والسنانير!
قال الذئب: قد فعل الله بها ما دعوته عليها أيها الملك واستجاب دعاك، ورفع البركة من نسلها وجعلها في الغنم، قال: كيف ذلك؟ قال: لأن الكلبة الواحدة تجتمع عليها فحول لتحبلها، وتلقى هي من الشدة عند العلق والخلاص جهدا وعناء، ثم إنها تلد ثمانية أو أكثر، ولا يرى منها في البر قطيع ولا في المدينة كما في الأغنام من القطعان يذبح منها في كل يوم في المدن والقرى من العدد ما لا يحصى كثرة، وهي مع ذلك تنتج كل سنة واحدا أو اثنين، والعلة في ذلك أن الآفات تسرع إلى أولاد الكلاب والسنانير قبل الفطام لكثرة اختلاف مأكولاتها، فيعرض لها من الأمراض المختلفة مما لا يعرض للسباع منها شيء، وكذلك إن سوء أخلاقها وتأذي الناس منها ينقص من عمرها ومن أولادها.
ثم قال الأسد لكليلة: سر بالسلامة والبركة، على بركة الله وعونه إلى حضرة الملك، وبلغ ما أرسلت به.
فصل
ولما وصل الرسول إلى ملك الطيور وهو الشاه مرغ أمر مناديا ينادي، فنادى، فاجتمعت عنده أصناف الطيور من البر والبحر والسهل والجبل عدد كثير لا يحصي عددها إلا الله، فأخبرهم ما أخبر به الرسول من اجتماع الحيوانات عند ملك الجن للمناظرة مع الإنس فيما ادعوه عليها من الرق والعبودية.
ثم قال الشاه مرغ للطاووس وزيره: من ها هنا من فصحاء الطيور ومتكلميها يصلح أن نبعثه إلى هناك لينوب عن الجماعة في المناظرة مع الإنس؟
قال الطاووس: ها هنا جماعة تصلح لذلك قال: بينهم لي لأعرفهم. قال: ها هنا الهدهد الجاسوس والديك المؤذن والحمام الهادي والدراج المنادي والدرج المغني والقنبر الخطيب والبلبل الحاكي والخطاف البناء والغراب الكاهن والكركي الحارس والقطاء الكدري والطيطوى الميمون والعصفور الشبق والشقراق الأخضر والفاختة النائح والورشان الدجلي والقمري المكي والصقر الجبلي والزرزور الفارسي والسمان البري واللقلق القلقي والعقعق البستاني والبط الكسكوكي ومالك الحزين وأبو تيمار أخوه والكركي البطائحي والهزار دستان اللغوي الكثير الألحان والغواص البحري والنعامة البدوي.
قال الشاه مرغ للطاووس: أرنيهم واحدا واحدا لأنظر إليهم وأبصر شمائلهم، ومن يصلح لذلك الأمر، قال: نعم.
أما الهدهد الجاسوس صاحب النبي سليمان - عليه السلام - فهو ذلك الشخص الواقف اللابس مرقعة ملونة المنتن الرائحة قد وضع على رأسه البرنس ينقر كأنه يسجد ويركع، وهو الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، والقائل لسليمان في خطابه معه: @QUR055 أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين * إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم * وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون * ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون.
وأما الديك المؤذن فهو ذلك الشخص الواقف فوق الحائط صاحب اللحية الحمراء والتاج ذي الشرفات، الأحمر العينين المنتشر الحاجبين الصفافين المنتصب الذنب كأنه أعلام، وهو الغيور السخي الشديد المراعاة لأمر حرمه وحلائله، العارف بأوقات الصلاة، المذكر بالأسحار، المنبه للجيران، الحسن الموعظة، وهو القائل في أذانه في وقت السحر: اذكروا الله، ما أطول ما أنتم نائمون! والموت والبلي لا تذكرون، ومن النار لا تخافون، وإلى الجنة لا تشتاقون، ونعم الله لا تشكرون، ليت الخلائق لم يخلقوا، وليتهم إذ خلقوا علموا لماذا خلقوا، فاذكروا هازم اللذات وتزودوا فإن خير الزاد التقوى.
وأما الدراج المنادي فهو ذلك الشخص الواقف على التل، الأبيض الخدين الأبلق الجناحين المحدودب الظهر من طول السجود والركوع وهو كثير الأولاد مبارك النتاج، المذكر المبشر في ندائه، وهو القائل لنفسه في أيام الربيع: بالشكر تدوم النعم وبالكفر تحل النقم، واشكروا نعم الله يزدكم، ثم يقول أيضا في أيام الربيع شعرا:
سبحان ربي وحده عز وجل
حمدا على نعمائه فقد شمل جاء الربيع والشتا قد ارتحل
ووازن الليل النهار فاعتدل ودارت الأيام حولا قد كمل
من عمل الخير ففي الخير حصل
ثم يقول: اللهم اكفني شر بنات آوى والجوارح والصيادين من بني آدم ووصف طباعهم من جهة التغذية والمنفعة وشهوات مرضاهم.
وأما الحمام الهادي فهو ذلك المحلق في الهواء الحامل كتابا ما إلى بلد بعيد في رسالة، وهو القائل في طيرانه وذهابه شعرا:
يا وحشتنا من فرقة الإخوان!
يا طول أشواقي إلى الخلان!
وأما الدراج المغني فهو ذلك الماشي بالتبختر في وسط البستان بين الأشجار والريحان، المطرب بأصواته الحسان ذوات النغم والألحان، وهو القائل في مراثيه ومواعظه شعرا:
يا مفنيا للعمر في البنيان
وغارس الأشجار في البستان وباني القصور في الميدان
وقاعدا في الصدر في الإيوان وغافلا عن نوب الزمان
احذر ولا تغتر بالرحمن واذكر غدا الترحال للجبان
مجاور الحيات والديدان
وأما القنبر الخطيب فهو ذلك الشخص صاحب الذنب المرتفع في الهواء على رأس الزرع والحصاد في أنصاف النهار كالخطيب على المنبر، الملحن بأنواع الأصوات المطربة وفنون النغمات اللذيذة، وهو القائل في خطبته وتذكاره شعرا:
أين أولو الألباب والأفكار؟
أين ذوو الأرباح والتجار؟ من حبة الزراع في العقار
سبعون ضعفا كيل بالمقدار مواهبا من واحد غفار
فاعتبروها يا أولي الأبصار
وآتوا حقه يوم حصاده، ولا تغدوا تخافتون على حرد قادرين ألا يدخلنها اليوم عليكم مسكين، من يزرع اليوم خيرا يحصده غدا غبطة، ومن يغرس معروفا يجني غدا ربحا، الدنيا كالمزرعة والعاملون من أبناء الآخرة كالحراث، وأعمالهم كالزرع والشجر، والموت كالحصاد، والقبر كالبيدر، ويوم البعث كأيام الدراس، وأهل الجنة كالحب والثمار، وأهل النار كالتبن والحطب ويومئذ يميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض، فيركمه جميعا فيجعله في جهنم، وينجي الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون.
وأما البلبل الحاكي فهو ذلك القاعد على غصن تلك الشجرة، وهو الصغير الجثة السريع الحركة، الأبيض الخدين الكثير الالتفات يمنة ويسرة، الفصيح اللسان الجيد البيان كثير الألحان، يجاور بني آدم في بساتينهم ويخالطهم في مساكنهم، ويكثر مجاوبتهم في كلامهم ويحاكيهم في نغماتهم ويعظهم في تذكاره لهم، فهو القائل لهم عند لهوهم وغفلاتهم: سبحان الله كم تلعبون! سبحان الله كم تحكون! سبحان الله ألا تسبحون! سبحان الله أليس للموت تولدون؟! أليس للبلاء تربون؟! أليس للخراب تبنون؟! أليس للفناء تجمعون؟! كم تلعبون؟! وكم تولعون؟! أليس غدا تموتون؟! وفي التراب تدفنون؟! @QUR08 كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون، يا ابن آدم @QUR027 ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل * ألم يجعل كيدهم في تضليل * وأرسل عليهم طيرا أبابيل * ترميهم بحجارة من سجيل * فجعلهم كعصف مأكول، ثم يقول: اللهم اكفني ولع الصبيان، وشر سنانير الجيران، يا حنان يا منان يا ديان يا غفران.
وأما الغراب الكاهن منبئ الأنباء، فهو ذلك الشخص اللابس السواد المتوقي المحذر المبكر بالأسحار للطواف في الديار، المتتبع للآثار، الشديد الطيران الكثير الأسفار، الذاهب في الأقطار، المخبر بالكائنات المحذر أوقات الغفلات، وهو القائل في نعيقه وإنذاره ألوحا ألوحا النجا النجا، احذر البلى يا من طغى وبغى، أين المفر والخلاص من القضاء إلا بالصلاة والدعاء؟ لعل رب السماء يكفيكم كيف يشاء.
وأما الخطاف البناء فهو ذلك السائح في الهواء الخفيف الطيران، القصير الرجلين الوافي الجناحين، المجاور لبني آدم في دورهم، المربي لأولاده في منازلهم، وهو كثير التسبيح في الأسحار، كثير الدعاء والاستغفار، بالعشي والإبكار، الذاهب البعيد في الأسفار، المصيف في الصرد والمشتي في الحرور، وهو القائل في تسبيحه وتذكاره ودعائه: سبحان خالق البحار والقفار! سبحان مرسي الجبال، ومجري الأنهار! سبحان مولج الليل والنهار! سبحان مقدر الآجال والأرزاق بمقدار! سبحان من هو الصاحب في الأسفار! سبحان من هو الخليفة في الأهل والديار! ثم يقول: ذهبنا في البلاد ورأينا العباد، ورجعنا إلى موضع التلاد، ونتجنا بعد السفاد، فلله الحمد، إنه الكريم الجواد.
وأما الكركي الحارس فهو ذلك الشخص القائم في الصحراء، الطويل الرقبة والرجلين، القصير الذنب الوافر الجناحين، وهو الذاهب في طيرانه، له صفير الحارس في الليل نوبتين، وهو القائل في تسبيحه: سبحان مسخر النيرين! سبحان مارج البحرين! سبحان رب المشرقين ورب المغربين! سبحان الله خالق الثقلين! سبحان هادي النجدين! سبحان الخالق من كل شيء زوجين اثنين! والقطا الكدري، فهو ساكن البراري والقفار، وهو بعيد الورد إلى الأنهار، ويسافر بالليل والنهار، الكثير التسبيح والتذكار، القائل في غدوه ورواحه ووروده وصدوره: سبحان خالق السموات المسموكات! سبحان خالق الأرضين المدحوات، سبحان خالق الأفلاك الدايرات! سبحان خالق البروج الطالعات! سبحان خالق الكواكب السيارات! سبحان مرسل الرياح الذاريات ! سبحان منشئ السحب الممطرات! سبحان رب الرعود المسبحات! سبحان رب البروق اللامعات! سبحان رب البحار الزاخرات! سبحان مرسي الجبال الشامخات! سبحان مدبر الليل والنهار والأوقات! سبحان منشئ الحيوانات والنبات! سبحان خالق الأنوار والظلمات! سبحان خالق الخلق في البحار والفلوات! سبحان محيي العظام الرفات الدارسات الباليات بعد الممات! سبحان من تكل الألسن عن مدحه ووصفه بحقائق الصفات!
وأما الطيطوى الميمون المبارك، فهو ذلك القائم على المياه الأبيض الخدين الطويل الرجلين الزكي الخفيف الروح، وهو المحذر للطيور في الليل في أوقات الغفلات المبشر بالرخص والبركات، وهو القائل في تسبيحه:
يا فالق الإصباح والأنوار
ومرسل الرياح في الأقطار ومنشئ السحاب ذي الأمطار
ومجري السيول والأنهار ومنبت العشب مع الأشجار
ومخرج الحبوب والثمار فاستبشروا يا معشر الأطيار
بسعة الرزق من الغفار
وأما الهزار داستان اللغوي الكثير الألحان، فهو ذلك القاعد على غصن الشجرة، الصغير الجثة الخفيف الحركة الطيب النغمة، وهو القائل في غنائه وألحانه شعرا:
الحمد لله ذي القدر والإحسان
الواحد الفرد ذي الغفران يا منعما في السر والإعلان
كم نعمة بمنة الرحمن تفيض كالبحار في الجريان
يا طيب عيش كان في الأزمان بين رياض الروح والريحان
وسط البساتين على الأغصان مثمرة الأشجار بالألوان
لو أنني ساعدني إخواني
ثم قال الشاه مرغ للطاووس: من ترى يصلح من هؤلاء أن نبعثه إلى هناك ليتناظر مع الإنس وينوب عن الجماعة؟
قال الطاووس: كلهم عبيدك يصلح لذلك؛ لأنهم كلهم فصحاء خطباء شعراء عقلاء فضلاء غير أن الهزار داستان أفصحهم لسانا وأجودهم بيانا وأطيبهم نغمة وألحانا.
قال الشاه مرغ: سر وتوكل على الله عز وجل، فبعثه.
ولما وصل الرسول إلى ملك الحشرات وهو النحل وعرفه الخبر أمر مناديه، فنادى، فاجتمعت عنده الحشرات من الزنانير واليعاسيب والذباب والبق والجراجيس والجعلان والذراريح والجراد.
وبالجملة هي كل حيوان صغير الجثة يطير بالأجنحة، ليس له ريش ولا عظم ولا دفء ولا وبر ولا شعر، ولا يعيش سنة كاملة غير النحل؛ لأنه يهلكها الحر المفرط والبرد المفرط شتاء وصيفا، ثم إنه عرفها الخبر .
وقال: أيكم يذهب إلى هناك وينوب عن الجماعة في مناظرة الإنس؟
قال الجماعة: بماذا يفتخر الإنسان علينا؟ قال الرسول: بكبر الجثة وعظم الخلقة وشدة القوة والقهر والغلبة.
قال زعيم الزنانير: نحن نمر إلى هناك وننوب عن الجماعة، قال زعيم الذباب: لا، بل نمر إلى هناك، قال زعيم الجراجيس: لا، بل نمر إلى هناك.
ثم قال زعيم البق: نحن نمر إلى هناك، قال زعيم الجراد: نحن نمر إلى هناك، قال لهم الملك: ما لي أرى كل الطوائف قد تبادرت إلى البراز من غير فكر ولا روية في هذا الأمر؟! قالت الجماعة: للثقة بنصر الله - تعالى - واليقين بالظفر بقوة الله وحوله، ولما تقدم من التجربة فيما مضى من الدهور والأمم الخالية والملوك الجبابرة، قال: كيف كان ذلك؟ أخبروني!
قالت البق: أيها الملك، أصغرنا جثة وأضعفنا بنية قتل النمرود - لعنة الله عليه - أكبر ملوك بني آدم وأطغاهم وأعظمهم سلطانا، وأشدهم صولة وتكبرا، قال: صدقت.
قال الزنبور: أليس إذا لبس أحد من بني آدم سلاحه الشاكي، وأخذ بيده سيفه ورمحه وسكينه ونشابه، فيقدم واحد منا فيلسعه بحمة مثل رأس إبرة فتشغله عن كل ما أراد وعزم عليه ويتورم جلده وتوهن أعضاؤه وتتربد أعصابه حتى لا يقدر على سيفه أو سكينه أو لجام فرسه؟! قال: صدقت.
قال الذباب: أليس أعظمهم سلطانا وأشدهم هيبة إذا قعد الملك على سريره وقام الحجاب دونه شفقة عليه أن يناله أذى أو مكروه، فيجيء أحدنا من مطبخه أو خلائه ملوث الرجلين والجناحين فيقعد على السرير وعلى ثيابه وعلى وجهه ولحيته ويعذبه ولا يقدر على الاحتراز منا؟! قال: صدقت.
قال الجرجيس: أليس إذا قعد أحدهم في مجلسه ودسته وسريره وكلله المنصوبة يدخل أحدنا بين ثيابه فيقرضه ويزعجه من سكونه، وإذا أراد أن يبطش بنا صفع نفسه بيده، ولطم خده بكفه ودق رأسه فنفلت منه؟!
قال: صدقت، ولكن ليس في حضرة ملك الجن يمشي الأمر بشيء مما ذكرتم، إنما يمشي الأمر هناك بالعدل والنصفة والأدب ودقة النظر وجودة التمييز والاحتجاج بالفصاحة والبيان بالمناظرة، فهل عندكم شيء منها؟
فأطرقت الجماعة ثم قال الملك: أنا أسير بنفسي وأنا أنصحكم، فقالت الجماعة فيما قال الملك: لا! قال الحكيم من النحل: أنا أقوم بهذا الأمر بعون الله ومشيئته.
قال الملك والجماعة: خار الله لك فيما عزمت عليه ونصرك وأظفرك على خصمائك ومن يريد غلبك وعداوتك ثم ودعهم وتزود ورحل حتى قدم على ملك الجن وحضر المجلس مع من حضر من غيره من سائر أصناف الحيوان.
فصل
ولما وصل الرسول - وهو البغل - إلى ملك الجوارح وهو العنقاء، وعرفه الخبر، نادى مناديه، فاجتمعت عنده أصناف الجوارح من النسور والعقبان والصقور والبزاة والشواهين والحدأ والرخم والبوم والببغاء وكل طير ذي مخلب مقوس المنقار يأكل اللحم.
ثم عرفها الخبر وما جاء به الرسول من اجتماع الحيوانات بحضرة ملك الجن للمناظرة مع الإنس، قال الملك لوزيره كركدن: أترى من يصلح من هذه الجوارح أن نبعثه إلى هناك لينوب عن الجماعة من أبناء جنسه بالمناظرة مع الإنس؟ قال الوزير: ليس فيها أحد يصلح لهذا الأمر غير البوم، قال: لم ذلك؟ قال: هذه الجوارح كلها تنفر من الإنس وتفزع منهم، ولا تفهم كلامهم ولا تحسن مخاطبتهم ولا تجاورهم.
وأما البوم فهو قريب المجاورة لهم في ديارهم العافية ومنازلهم الدارسة وقصورهم الخربة، وينظر إلى آثارهم القديمة، ويعتبر بالقرون الماضية، وفيه مع ذلك من الورع والزهد والخشوع والتقنع والتقشف ما ليس لغيره، يصوم النهار ويحيي الليل، وربما يعظ بني آدم يذكرهم وينوح على ملوكهم الماضية والأمم السالفة ويقول هذه الأبيات:
أين الملوك الماضية
تركوا المنازل خالية جمعوا الكنوز بجدهم
تركوا الكنوز كما هيه فانظر إليهم هل ترى
في دارهم من باقيه إلا قبورا دراسا
فيها عظام باليه
ويقولون أيضا شعر:
ألا يا دار ويحك خبرينا
لماذا صار أهلك يهجرونا؟ فما نطقت، ولو نطقت لقالت
لأنك قد بليت وما بلينا
وربما قال:
سألت الدار تخبرني
عن الأحباب ما فعلوا فقالت لي أقام القوم
أياما وقد رحلوا فقلت فأين أطلبهم
وأي منازل نزلوا فقالت في القبور وقد
لقوا والله ما عملوا
وربما قال أيضا:
في الذاهبين الأولين
من القرون لنا بصائر لما رأيت مواردا
للموت ليس لها مصادر ورأيت قومي نحوها
يمضي الأكابر والأصاغر لا يرجع الماضي ولا
يبقى من الباقين غابر أيقنت أني لا محالة
حيث صار القوم صائر
وقال أيضا:
نام الخلي فما أحس رقادي
واليوم محتضر لدي وسادي من غير ما سقم ولكن شفني
هم أراه فقد أصاب فؤادي أين الملوك الأولون عهدتهم
بين العذيب وبين أرض مزاد أرض تخيرها لطيب مقيلها
كعب ابن مامة وابن أم زواد أرض الخورنق والسدير وبارق
والقصر ذا الشرفات من شداد ولقد غنوا فيها بأطيب عيشة
في ظل ملك ثابت الأوتاد فإذا النعيم وكل ما يلهي به
يوما يصير إلى بلى ونفاد جرت الرياح على محل ديارهم
فكأنهم كانوا على الميعاد
ثم يقرأ: @QUR024 كم تركوا من جنات وعيون * وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها فاكهين * كذلك وأورثناها قوما آخرين * فما بكت عليهم السماء ... الآية.
قال له العنقاء: ما تقول فيما ذكر الكركدن؟ قال البوم: صدق فيما قال، ولكن لا يمكن المصير إلى هناك.
قال العنقاء: لم ذاك؟ قال: لأن بني آدم يبغضونني ويتطيرون برؤيتي ويشتموني من غير ذنب إليهم ولا أذية تنالهم مني، فكيف إذا رأوني وقد أظهرت لهم الخلاف ونازعتهم في الكلام والمناظرة، وهي ضرب من الخصومة تنتج العداوة، والعداوة تدعو إلى المحاربة، والمحاربة تخرب الديار وتهلك أهلها.
قال العنقاء للبوم: فمن ترى يصلح لهذا الأمر؟ قال البوم: إن ملوك بني آدم يحبون الجوارح من البزاة والصقور والشواهين وغيرها، ويكرمونها ويحملونها على أيديهم ويمسحونها بأكمامهم، فلو بعث الملك بواحدة منها إليهم لكان رأيا صوابا.
قال العنقاء للجماعة: قد سمعتم ما قال البوم، وأي شيء عندكم؟ قال البازي: صدق البوم فيما قال، لكن ليست كرامتنا على بني آدم لقرابة بيننا وبينهم، ولا علم ولا أدب يجدونه عندنا، ولكن لأنهم يشاركوننا في معائشنا، ويأخذون من مكاسبنا، كل ذلك حرصا منهم على ذلك، وشرها واتباعا للشهوات واللعب والبطر والفضول، لا يشتغلون بما هو واجب عليهم من إصلاح أمر معادهم ولما هو لازم لهم من طاعة ربهم وما هم مسئولون عنه يوم المعاد.
قال العنقاء للبازي: فمن ترى يصلح لهذا الأمر؟ قال البازي: أظن أن الببغاء يصلح لهذا الأمر؛ لأن بني آدم يحبونها، ملوكهم ونساؤهم وخاصتهم وعامتهم، وشيوخهم وصبيانهم وعلماؤهم وجهلاؤهم، ويكلمهم ويسمعون منه ما يقولون، ويحاكيهم في كلامهم وأقاويلهم.
فقال العنقاء للببغاء: ما تقول فيما قال البازي؟ قال: صدق فيما قال وأخبر، وإني ذاهب إلى هناك وأنوب عن الجماعة بحول الله وقوته وعونه ولكني محتاج إلى المعاونة من الملك ومن الجماعة، قال له العنقاء: ماذا تريد؟ قال: الدعاء لله والسؤال منه بالنصر والتأييد، فدعا له الملك بالنصر وأمنت الجماعة.
ثم قال البوم: «أيها الملك إن الدعاء إذا لم يكن مستجابا فعناء ونصب وتعب بلا فائدة؛ لأن الدعاء لقاح والإجابة نتيجة فإذا لم يكن الدعاء مع الشرائط لم ينجح، قال الملك: فما شرائط الدعاء المستجاب؟ قال: النية الصادقة، وإخلاص القلوب كالمضطر، وأن يتقدمه الصوم، والصلاة والتوبات والصدقة، والبر، والمعروف، قالت الجماعة: صدقت وبررت فيما قلت أيها الزاهد الحكيم العالم العابد.»
قال العنقاء للجماعة من الجوارح الحضور: أما ترون معشر الطيور ما وقعنا فيه من جور بني آدم وتعذيبهم الحيوانات؟! حتى بلغ الأمر إلينا مع بعد ديارنا منهم ومجانبتنا إياهم وتركنا مداخلتهم! فأنا مع عظم جثتي وخلقي وشدة قوتي وسرعة طيراني تركت ديارهم وهربت منهم إلى الجزائر والبحار والجبال، وهكذا أخي الكركدن لزم البراري والقفار، وبعد من ديارهم طلبا للسلامة من شرهم، ثم لم نتخلص من شرهم حتى أحوجونا إلى المناظرة والمحاججة والمحاكمة، ولو أراد أحد منا أن يختطف كل يوم منهم عددا كثيرا، لكنا قادرين عليهم، ولكن من شيم الأحرار أن يجاوروا الأشرار ويعاملوهم ويكافئوهم على سوء أفعالهم، ولا يفعلوا مثل فعلهم، بل يتركونهم ويبعدون عنهم ويكلونهم إلى ربهم ويشتغلون بمصالحهم وبما يجر المنفعة وراحة القلب في المعاد.
ثم قال العنقاء: وكم من مركب في البحر طرحته الرياح عندي، فهديتهم الطريق ! وكم غريق كسر به المركب فأنجيته إلى السواحل والجزائر! كل ذلك طلبا لمرضاة ربي وشكرا للنعمة التي أعطاني من عظم الخلقة وكبر الجثة، فشكرا له على إحسانه إلي، وهو حسبنا ومعيننا ونعم المولى ونعم النصير.
فصل
ثم لما وصل الرسول إلى ملك حيوان البحر وهو التنين، وعرفه الخبر نادى مناديه، فاجتمعت إليه أصناف الحيوانات البحرية من التنانين والكواسج والتماسيح والدلافين والحيتان والسموك والسرطانات والكرازنك والسلاحف والضفادع وذوات الأصداف والفلوس، وهي نحو سبعمائة صورة مختلفة الألوان والأشكال، فعرفها الخبر وما قاله الرسول، ثم قال التنين للرسول: بماذا يفتخر بنو آدم على غيرهم؟ أبكبر الجثة أم بالشدة والقوة أو بالقهر والغلبة؟ إن كان افتخارهم بواحدة منها ذهبت إلى هناك ونفخت نفخة واحدة أحرقتهم من أولهم إلى آخرهم، ثم جذبتهم برجوع نفسي فبلعتهم.
قال الرسول: لا يفتخرون بشيء من ذلك، ولكن برجحان العقل وفنون العلم وغرائب الأدب ولطائف الحيل ودقة الصنائع والفكر والتمييز والروية وذكاء النفس.
قال التنين: صف لي شيئا منها لأعلمه، قال: نعم، أيها الملك، ألست تعلم أن بني آدم ينزلون بحيلهم وعلومهم وحكمهم إلى قرار البحار الزاخرة المظلمة الكثيرة الأمواج ليستخرجوا من هناك الجواهر من الدرر والمرجان، وهكذا يعملون الحيلة ويصعدون إلى رءوس الجبال الشامخة فينزلون منها النسور والعقبان، وهكذا بالحيلة يعملون العجلة من الخشب ويشدونها في صدور الثيران وأكتافها، ثم يحملون عليها الأحمال الثقال وينقلونها من المشرق إلى المغرب، ومن المغرب إلى المشرق، ويقطعون البراري والقفار والمفاوز.
وهكذا بالعلم والحيلة يبنون السفن والمراكب ويحملون فيها الأمتعة ويقطعون بها سعة البحار البعيدة الأقطار.
وهكذا بالعلم والحيلة يدخلون في كهوف الجبال ومفازات التلال وعمق الأرض فيخرجون منها الجواهر المعدنية والذهب والفضة والحديد والنحاس وغير ذلك.
وهكذا بالعلم والحيلة إذا نصب أحدهم على ساحل بحر أو على شط جزيرة أو على شرعة نهر طلسما أو صنما أو لعبة لم تقدر عشرة آلاف منكم يا معشر التنانين والكواسج والتماسيح أن تجتاز هناك أو تقرب من ذلك المكان، ولكن ليس أيها الملك بحضرة ملك الجن إلا العدل والإنصاف في الحكومة والحجة البينة لا بالقهر والغلبة والمكر والحيلة.
ولما سمع التنين مقالة الرسول قال لمن حوله من جنوده: ألا تسمعون؟! ماذا ترون؟ وأي شيء تقولون؟ أيكم يذهب إلى هناك فيناظر الإنس وينوب عن الجماعة من إخوانه وأبناء جنسه.
قال له الدلفين منجي الغرقى: الحوت أولى حيوان البحر بهذا الأمر هو؛ لأنه أعظمها خلقة، وأكبرها جسما، وأحسنها صورة، وأنظفها بشرة، وأنقاها بياضا، وأملسها بدنا، وأسرعها حركة وأشدها سباحة وأكثرها عددا ونتاجا، ومن كان من أبناء جنسها من السموك حتى إنه قد امتلأت منها البحار والأنهار والبطائح والعيون والجداول والسواقي، صغارا وكبارا، وللحوت أيضا يد بيضاء عند بني آدم حيث أجار نبيا لهم وآواه في بطنه ورده إلى مأمنه، والإنس أيضا يرون ويعتقدون أن مستقر الأرض على ظهر الحوت.
قال التنين للحوت: ماذا ترى فيما قال الدلفين؟ قال: صدق في كل ما قال، ولكن لا أدري كيف أذهب إلى هناك؟ وكيف أخاطبهم وليس لي رجلان أمشي بهما ولا لسان ناطق ولا صبر لي عن الماء ساعة واحدة؟ ولكن أرى أن السلحفاة يصلح لهذا الأمر؛ لأنه يصبر عن الماء ويرعى في البر ويعيش كما يعيش في البحر، ويتنفس في الهواء كما يتنفس في الماء، وهو مع هذا قوي البدن، صلب الظهر، جيد العضو، حليم وقور صبور على الأذى محتمل الأثقال.
قال التنين للسلحفاة: فما ترى فيما قال؟ قال: صدق الحوت، ولكني لا أصلح لهذا الأمر؛ لأني ثقيل المشي والطريق بعيد وقليل الكلام أخرس، ولكن السرطان يصلح لهذا الأمر والشأن؛ لأنه كثير الأرجل جيد المشي سريع العدو حاد المخالب شديد العض ذو فكين وأظافر حداد كثير الأسنان صلب الظهر مقاتل متدرع.
قال التنين للسرطان: ماذا ترى فيما ذكر السلحفاء؟
قال: صدق، ولكن لا أدري كيف أذهب إلى هناك مع عجيب خلقتي وتعوج صورتي، أخاف أن أكون شهرة هناك، قال التنين: كيف ذلك؟
قال: لأنهم يروني حيوانا بلا رأس، عيناه على كتفيه، فمه في صدره وفكاه مشقوقتان من جانبين، وله ثماني أرجل مقوسة معوجة ويمشي على جانبه وظهره كأنه من رصاص، قال التنين: صدقت، فمن ترى يصلح لهذا الأمر أن يوجه إلى هناك؟ قال السرطان: أظن أن التمساح يصلح لهذا الأمر؛ لأنه طويل الخلقة، شديد الأرجل، جيد المشي، سريع العدو، واسع الفم، طويل اللسان، كثير الأسنان، قوي البدن، مهيب النظر، شديد الرصد لمطلبه، غواص في الماء وفي الطلب.
قال التنين للتمساح: ماذا تقول فيما ذكر السرطان؟ قال: صدق، ولكني لا أصلح لهذا الأمر؛ لأني غضوب ضجور وثاب مختلس فرار غدار، وإن الأمر ليس هناك بالقهر والغلبة، ولكن بالحلم والوقار والعدل والتمييز والفصاحة والبيان، والعدل والإنصاف في الخطاب.
قال التمساح: ولست أتعاطى شيئا من هذه الخصال، ولكني أرى الضفدع يصلح لهذا الأمر؛ لأنه حليم وقور صبور، ورع كثير التسبيح والتهليل بالليل والنهار وفي الأسحار، كثير الصلاة والدعاء بالعشي والإبكار، وهو يداخل بني آدم في منازلهم، وله عند بني إسرائيل يد بيضاء مرتين؛ إحداهما: يوم طرح النمرود إبراهيم خليل الرحمن في النار، فإنه كان ينقل الماء بفيه فيصبه في النار على إبراهيم لتطفأ، ومرة أخرى: فإنه كان أيام موسى بن عمران معاونا له على فرعون، وهو مع ذلك فصيح اللسان، جيد البيان كثير الكلام والتسبيح والتهليل والتكبير، وهو من الحيوان الذي يعيش في الماء، ويأوي البر والبحر، ويحسن المشي والسباحة جميعا، وله رأس مدور مقنع، وعينان براقتان وذراعان وكفان مبسوطان، ويمشي متخطيا ومتقفزا سريعا، ويقعد مربعا، ويدخل منازل بني آدم ولا يخافهم ولا يخافون منه.
قال التنين للضفدع: ماذا ترى فيما ذكر التمساح؟ قال: صدق، أنا أمر إلى هناك، وأنوب عن الجماعة من إخواننا وحيوان الماء أجمع، ولكني أريد أن تدعو الله بالنصر والتأييد والدعاء بدعاء مستجاب، قال التنين: كيف يكون الدعاء المستجاب؟ قال كما ذكر البوم للعنقاء في الفصل الذي قبل هذا الفصل، قالوا: نعم، صدق، فدعوا الله جميعا بالنصر والتأييد له وودعوه، وسار عنهم وقدم على ملك الجن.
(12) فصل في بيان شفقة الثعبان على الهوام ورحمته لهم
ولما وصل الرسول إلى ملك الهوام، وهو الثعبان، وعرفه الخبر نادى مناديه، فاجتمعت إليه أصناف الحيوانات من الهوام، مثل الأفاعي والحيات والعقارب والجرارات والدخالات والصنب وسام أبرص والحرابي والعظايا والخنافس وبنات وروان والعناكب والنمل والجنادب والبراغيث والقمل والسوالك والفار والصراصر وأصناف الديدان مما يتكون في العفونات أو يدب على رءوس الأشجار أو يتكون في لب الحبوب وقلوب الشجر وجوف الحيوانات الكبار والأرضة والحيوان الذي يتولد في الخل أو في الثلج أو في ثمرة الشجرة والسوس، وما يتولد في السرقين أو في الطين، وما يدب في المغارات والظلمات والأهوية، فاجتمعت كلها عند ملكها لا يحصيها عدد ولا يعلمها إلا الله الذي خلقها كلها وصورها ورزقها ويعلم مستقرها ومستودعها.
فلما نظر الملك إليها وهي من عجائب الصور وأصناف الأشكال بقى متعجبا منها ساعة طويلة، ثم فتشها، فإذا هي أكثر الحيوانات عددا وأصغرها جثة وأضعفها بنية وأقلها حيلة وحواس وشعورا، وبقى متفكرا في أمرها، ثم قال الثعبان لوزيره الأفعى: من ترى يصلح من هذه الطوائف أن نبعثه هناك للمناظرة؟ فإن أكثرها صم بكم عمي بلا يدين ولا رجلين ولا جناحين ولا منقار ولا مخلب ولا ريش على أبدانها ولا شعر ولا وبر ولا صوف ولا فلوس، وإن أكثرها عراة حفاة حسرى ضعفاء فقراء مساكين بلا حيلة ولا حول ولا قوة، وأدركته رحمة عليه وتحنن وشفقة ورأفة ورق قلبه عليها، ودمعت عيناه من الحزن، ثم نظر إلى السماء، ثم دعا وقال في دعائه: يا خالق الخلق، ويا باسط الرزق، ويا مدبر الأمور، ويا أرحم الراحمين، ويا من هو بالمنظر الأعلى، ويا من هو يسمع ويرى، ويا من يعلم السر وأخفى، أنت خالقها ورازقها، وأنت مصورها ومدبرها ومبدئها ومعيدها ومحييها ومميتها، كن لها ولنا وليا وحافظا وناصرا ومعينا وهاديا ومرشدا يا أرحم الراحمين، ويا رب العرش العظيم، فنطقت كلها بلسان فصيح، وقالت: آمين آمين رب العالمين.
(13) فصل في بيان خطبة الصرصر وحكمته
فلما رأى الصرصر ما أصاب الثعبان من التحنن والرأفة والرحمة على رعيته وجنوده وأعوانه وأبناء جنسه ارتقى إلى حائط بالقرب منه، وحرك أوتاره، وزمر بمزماره، وترنم بأصوات وألحان ونغمة لذيذة بالتحميد لله والتوحيد له، فقال: الحمد لله نحمده، ونستعينه ونشكره على نعمائه السابغة وآلائه الدائمة، فسبحان الله الحنان المنان الديان! سبحان الواحد الأحد سبوح قدوس، رب الملائكة والروح، الحي القيوم، ذو الجلال والإكرام، والأسماء العظام، والآيات والبرهان، قبل الأماكن والأزمان، والجواهر ذوات الكيان، لا هواء فوقه ولا ماء تحته، محتجبا بنوره متوحدا بوحدانيته وأسرار غيبه حين لا سماء مبنية ولا أرض مدحية، فسبحان الظاهر بالنسبة إلى ذاته لكل شيء، والخفي بالنسبة إلى ذاته عن كل شيء، ثم قضى ودبر وقدر كما شاء قدر، وأراد ثم أبدع نورا بسيطا لا من هيولى متهيئة ولا من صورة متوهمة، بل بقوله: كن، فكان، فهو العقل الفعال ذو العلم والأسرار، خلق الخلائق لا لوحشة كانت في وحدته ولا استعانة بها على أمر من أموره، ولكن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا معقب لحكمه ولا مرد لقضائه، وهو السريع الحساب.
ثم قال: أيها الملك المشفق الرحيم الرءوف المتحنن على هذه الطوائف، لا يغمك ما ترى من ضعف أبدان هذه الطوائف وصغر جثتها وعمرها وفقرها وقلة حيلتها، فإن الله الذي هو خالقها ورازقها هو أرحم الراحمين بها وعليها من الوالدة المشفقة على أطفالها ومن الأب الرحيم على أولاده، وذلك أن الخالق - جل ثناؤه - لما خلق الحيوانات المختلفة الصورة مفننة الأشكال ورتبها مراتبها على منازل شتى ما بين كبير الجثة عظيم الخلقة قوي البنية شديد القوة، وما بين صغير الجثة ضعيف البنية قليل الحيلة ساوى بينهما في المواهب الجزيلة من الآلات والأدوات التي تتناول بها المنافع، وتدفع بها المضرات، فصارت متكافئة في العطية.
مثال ذلك أنه لما أعطى الفيل الجثة العظيمة والبنية القوية والقوة الشديدة، ليدفع المكاره عن نفسه بأنيابه الطوال الصلاب، ويتناول المنافع بخرطومه الطويل أعطى أيضا البقة الصغيرة الجثة الضعيفة البنية عوضا من ذلك الجناحين اللطيفين، وسرعة الطيران، فتنجو من المكاره، وتتناول الغذاء بخرطومها، فصار الصغير والكبير في هذه المواهب التي تجر بها المنفعة، وتدفع بها المضرة متساوية، فهكذا ثمر الخالق الباري والمصور لهذه الطوائف الضعفاء الفقراء اللواتي تراها عراة حفاة حسرى، وذلك أن الباري - جل ثناؤه - لما خلقها على هذه الأحوال التي تراها كفاها أمر مصالحها من جر المنفعة أو دفع المضرة عنها.
فانظر أيها الملك، وتأمل واعتبر أحوالها، فإنك ترى ما كان أصغر منها جثة وأضعف بنية وأقل حيلة كان أروح بدنا وأربط جأشا، وأسكن روعا في دفع المكاره عن غيرها، وكان أطيب نفسا وأقل اضطرابا في طلب المعاش وجر المنافع وأخف مؤنة مما هو أعظم جثة وأقوى بنية وأكثر حيلة.
بيان ذلك أنك ترى إذا تأملت وجدت الكبار منها القوية البنية الشديدة القوة تدفع عن نفسها المكاره بالقهر والغلبة والقوة والجلد كالسباع والفيلة والجواميس وأمثالها وسائر الحيوانات الكبيرة الجثة العظيمة الخلقة الشديدة القوة، فمنها ما تدفع عن نفسها المكاره والضرر بالفرار والهرب وسرعة العدو كالغزلان والأرانب وغيرها من حمر الوحش، ومنها بالطيران والتخلف بالجو كالطيور، ومنها بالغوص في الماء والسباحة فيه، ومنها ما تدفع المكاره والمضار بالتحصن والاختفاء في الأجحرة والثقب كالفأرة والنمل كما قال تعالى: @QUR09 ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون، وقيل لما سمع سليمان - عليه السلام - ذلك أمر بإحضار النملة فلما دخلت قالت: سلام عليك يا نبي الله، إني وقعت فيما احترزت منه، فتعجب سليمان من قولها.
فلما وضعها على كفه سأل النملة: لماذا قلت: لا يحطمنكم سليمان وجنوده؟ ألست تدرين أني لا أظلم أحدا؟ ولا أرضى أن تظلم جنودي؟! فلو سمعت من هذا شيئا فأخبريني، ولماذا قلت: إني وقعت فيما احترزت منه؟ ألست تعلمين أني لست بجائر ولا ظالم على خلق الله تعالى؟! فلم قلت هذا؟ قالت النملة: معاذ الله، إني أريد بتلك الإشارات حسبما فهمت، لكني أريد بذلك أن الله أعطاك ملكا لا يكون لأحد من بعدك من الزينة والعدل والإنصاف، وناديت من أجل أنهم لا يخرجون من البيوت، ولا يشتغلون بالنظارة ليفوت عنهم ذكر الله - تعالى - أردت بذلك الإشارة إلى هذا المعنى، ومنها ما قد ألبسه الله من الجلود الثخينة الجزلة كالسلحفاة والسرطان والحلزون وذوات الأصداف من حيوان البحر، ومنها ما تدفع المكاره والضرر عن نفسها بإدخال رءوسها تحت أبدانها كالقنفد.
أما فنون تصاريفها في طلب المعائش والمنافع فمنها ما يصل إليه ويهتدي إليه بجودة النظر وشدة الطيران كالنسور والعقبان.
ومنها بجودة الشم كالنمل والجعلان والخنافس وغيرها.
ومنها ما يهتدي ويصل إليه بجودة الذوق كالسمك وغيرها من حيوان الماء.
ومنها بجودة الاستماع والأوصاف كالنسر، ولما منع الباري الحكيم هذه الطوائف والحيوانات الصغار الجثة الضعاف القوى والبنية القليلة الحيلة هذه الآلات والأدوات والحواس وجودتها لطف بها وكفاها مئونة الطلب وأسباب الهرب، وذلك أنه جعلها في مواضع كنينة وأماكن حريزة، إما في الثقاب وإما في حب النبات وإما في أجواف الحيوانات الكبار أو في الطين أو في السرقين، وجعل غذاءها مختصا بها، وموادها حواليها، وجعل في أبدانها قوى جاذبة تمتص بها الرطوبات المغذية لأبدانها المقوية لأجسادها، ولم يحوجها إلى الطلب ولا إلى الهرب.
فمن أجل هذا لم يخلق لها رجلين تمشي ولا يدين تتناول، ولا فما يفتح، ولا أسنانا تمضغ، ولا حلقوما يبلع، ولا مريا يزدرد، ولا حوصلة تنقع فيها، ولا قانصة ولا معدة ولا كرشا ينطبخ الكيموس فيها، ولا أمعاء ولا مصارين للثقل ولا كبدا تصفي الدم، ولا طحالا تجذب فضلات الكيموس الغليظة، ولا مرارة تجذب اللطيفة، ولا كليتين ولا مثانة تجذب البول، ولا أورادا يجري الدم فيها للنبض، ولا أعصابا من الدماغ للحس، ولا تعرض لها الأمراض المزمنة والعلل المؤلمة، ولا تحتاج إلى دواء ولا علاج ولا عناء من الآفات التي تعرض للحيوانات الكبيرة الجثة العظيمة البنية الشديدة القوة، فسبحان الخالق الحكيم الذي كفاها هذه المطالب، وهذه المئونة وأراحها من التعب والنصب، فله الحمد والمنة والشكر والثناء على جزيل مواهبه وعظيم نعمائه وحسن آلائه.
فلما فرغ الصرصر من هذه الخطبة، قال له الثعبان ملك الهوام: بارك الله فيك من خطيب، ما أفصحك! ومن مذكر، ما أعلمك! ومن واعظ، ما أبلغك! والحمد لله الذي جعل في أجناس هذه الطائفة مثل هذا الحكيم الفاضل المتكلم الفصيح، ثم قال له الثعبان: امض إلى هناك فتنوب عن الجماعة في المناظرة مع الإنس، قال: نعم، سمعا وطاعة للملك ونصيحة للإخوان، قالت الحية عند ذلك: لا تذكر عندهم أنك رسول الثعبان والحيات، قال الصرصر: ولم ذلك؟ قالت: لأن بين بني آدم وبين الحيات عداوة قديمة وحقد كامن، لا يقدر قدره، حتى إن كثيرا من الإنس يعترضون على ربهم فيقولون: لم خلقها؟! فإنه ليس في خلقها منفعة ولا فائدة ولا حكمة، بل ضرر كله، قال الصرصر: ولم يقولون ذلك؟ قالت: من أجل السم الذي بين فكيها، فإنه ليس فيه منفعة إلا هلاك الحيوانات وموتها، كل ذلك جهل منهم بمعرفة حقائق الأشياء ومنافعها ومضارها، ثم قالت: لا جرم؛ فإن الله - جل ثناؤه - أبلاهم بها وعاقبهم على ذلك حتى أحوج ملوكهم إلى اقتناء سمومها تحت فصوص الخواتم لوقت الحاجة إليها، فلو أنهم فكروا واعتبروا أحوال الحيوانات وتصاريف أمورها لتبين لهم ذلك، وعرفوا عظيم منفعة السموم في فكوك الأفاعي لم خلقها الباري - تعالى - وما الفائدة فيها، ولو عرفوها لما قالوا ذلك ولا اعترضوا على ربهم في أحكام مصنوعاته؛ لأن الباري - تعالى - لو خلق سبب هلاك الحيوانات في بصاقنا لجعل لحومنا سببا لدفع تلك السموم؛ وذلك أن الأطباء الأقدمين قد وجدوا في لحومنا قوة تقاوم سمومنا، فأدخلوا لحومنا في الترياق لتقاوم السم، ولكن أكثر الناس لا يشكرون.
قال الصرصر: أفدنا أيها الحكيم فائدة أخرى، وعرفنا لنكون على علم منها، قالت الحية: نعم، أيها الخطيب الفاضل، اعلم بأن الباري الحكيم لما خلق هذه الحيوانات التي ذكرتها في خطبتك وقلت إنه أعطى كل جنس منها أدوات وآلات لتجر المنفعة أو لتدفع المضرة، فأعطى بعضها معدة حارة أو كرشا أو قانصة، فينضج الكيموس فيها بعد المضغ الشديد ويصير غذاء لها، ولم يعط الحيات معدة حارة ولا قانصة ولا كرشا ولا أضراسا تمضغ اللحوم، فإنه جعل في فكيها عوضا منها سما حارا منضجا لما تأكل من اللحمان، وذلك أنها إذا قبضت على جثة الحيوانات وحصلت بين فكيها قلبت من ذلك السم عليها لمضغها من ساعتها، وتبلعها وتزدردها وتستمرئها، فلو لم يكن هذا السم لما استمرأت الأكل ولا حصل لها غذاء، ولماتت جوعا وضرا وهلكت عن آخرها، وما بقي أحد منها في ديار.
قال الصرصر: لعمري، قد تبين لي منفعة السم، فما منفعة الحيات للحيوان؟ وما الحكمة والفائدة في خلقتها وكونها في الأرض بين الهوام؟
قالت: كمنفعة السباع وكونها بين الوحوش والأنعام والبهائم، وكمنفعة كون التنين في البحر والكواسج والتماسيح، وكمنفعة النسور والعقبان والجوارح في الطيور.
قال الصرصر: زيديني بيانا، قالت: نعم، إن الله - جل ثناؤه - أبدع الخلق واخترعه بقدرته، ودبر الأمور بمشيئته، فجعل قوام الخلائق بعضها ببعض، وجعل لها عللا وأسبابا لما رأى فيها من إتقان الحكمة وصلاح الكل، ونفع العموم، ولكن ربما يعرض من جهة العلل والأسباب آفات وفساد لبعض، لا بقصد من الخالق تعمدا، ولكن بعلمه السابق بما يكون قبل أن يكون، ولم يمنع علمه بما يكون منها من الفساد والآفات أن يخلقها؛ إذ كان النفع فيه أعم والصلاح أكثر من الفساد.
بيان ذلك أن الله - عز وجل - لما خلق الشمس والقمر وسائر الكواكب جعل الشمس سراجا للعالم، وحياة وسببا للكائنات بحرارتها، ومحلها من العالم محل القلب من البدن تنبث منه الحرارة الغريزية إلى سائر أطراف البدن التي هي سبب الحياة وصلاح الجملة.
وهكذا حكم الشمس حياة وصلاح للكل والنفع للعموم، ولكن ربما يعرض منها تلف وفساد لبعض الحيوانات والنبات فيكون ذلك مغفورا في جنب نفع العموم وصلاح الكل.
وهكذا حكم زحل والمريخ وسائر كواكب الفلك، خلقها لصلاح العالم ونفع العموم، وإن كان يعرض لها في بعض الأحيان المناحس من إفراط حر أو برد.
وهكذا حكم الأمطار يرسلها الله لحياة البلاد، وصلاح العباد من الحيوان والنبات والمعادن، وإن كان ربما يكون منها فساد وهلاك لبعض الحيوانات والنبات.
وهكذا حكم الحيات والسباع والتنين والتماسيح والهوام والحشرات والجراد، كل ذلك خلقه الله من المواد الفاسدات والعفونات الكائنة ليصفو الجو والهوام، ولئلا يعرض لها الفساد من البخارات المتصاعدة فيتعفن الهواء ويكون من ذلك أسباب للوباء وهلاك الحيوانات كلها دفعة واحدة.
بيان ذلك أن الديدان والذباب والبق والخنافس لا تكون في دكان البزاز والحداد والنجار، بل في دكان القصاب أو السمان أو اللبان أو الدباس أو في السماد والسرقين، فإذا خلقها الله - تعالى - من تلك العفونات امتصت ما فيها وتغذت بها وصفا الهوا منها وسلم من الوباء، ثم تكون تلك الحيوانات الصغار مأكولة وأغذية لما هو أكبر منها، وذلك من حكمة الخالق - جل جلاله - أنه لا يصنع شيئا بلا نفع ولا فائدة، فمن لا يعرف هذه النعم فربما يعترض على ربه فيقول: لم خلقها؟ وما النفع فيها؟ كل ذلك جهلا منه واعتراضا على ربه في أحكام صنعته وتدبيره في ربوبيته، وقد سمعنا بأن جهلة الإنس يزعمون بأن عناية الباري لم تتجاوز فلك القمر، فلو أنهم فكروا واعتبروا أحوال الموجودات لعلموا وتبين لهم أن العناية شاملة لصغير الخلقة وكبيرها بالسوية.
ولما قالوا الزور والبهتان في حق الله تعالى، تعالى الله عما يقول الظالمون علا علوا كبيرا. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. فبهذا انقضى الكلام من الرسل.
فصل
ولما كان الغد وردت زعماء الحيوانات من الآفاق، وقعد الملك لفصل القضاء، ونادى المنادي: ألا من له مظلمة؟ ألا من له حكومة فليحضر؛ فإن الحاجات تقضى؛ لأن الملك قد جلس لفصل القضاء، وحضرت قضاة الجن وفقهاؤها وعدولها وحكامها وحكماؤها، وحضرت الطوائف الواردة من الآفاق من الجن والإنس والحيوانات، فاصطفت يمنة ويسرة أمام الملك، ودعت له بالتحية والسلام.
ثم نظر الملك يمنة ويسرة فرأى من أجناس الحيوانات واختلاف الصور وفنون الأشكال والألوان والأصوات والنغمات، وبقي متعجبا منه ساعة.
ثم قال: سبحان الذي خلق الأشياء برحمته! وأوجد الحيوانات بقدرته! وجعل بعضها شريفا وبعضها خسيسا وبعضها كبير الجثة وبعضها صغير الجثة، وبعضها ذو نطق وبعضها أخرس، وجعل مقر بعضها في الهواء، ومقر بعضها في الماء، وبعضها في البراري والقفار والجبال والكهوف والمغارات، ربنا ما خلقت هذا باطلا، سبحانك! ما أعظم شأنك!
ثم التفت الملك إلى حكيم من فلاسفة الجن فقال له: ألا ترى هذه الخلائق العجيبة الشان من خلق الرحمن؟!
قال: نعم أيها الملك، أراها بعين رأسي، وأشاهد صانعها بعين قلبي، والملك متعجب منها، وأنا متعجب من حكمة الصانع الحكيم الذي خلقها وأنشأها وبرأها ويربيها ويرزقها ويحفظها ويعلم مستقرها ومستودعها، كل ذلك في كتاب مبين عنده، ولا لغلط ولا لنسيان؛ بل لتحقيق وبيان؛ لأنه لما احتجب عن رؤية الأبصار بحجب الأنوار، وجل وعلا عن تصور الأوهام والأفكار أظهر مصنوعاته إلى مشاهدة الأبصار وأخرج ما في مكنون غيبه إلى الكشف والإظهار والبيان ليدركه العيان ويستغني عن الدليل والبرهان.
ثم اعلم أيها الملك العادل أن هذه الصور والأشكال والهياكل والصفات التي تراها في عالم الأجسام وجواهر الأجرام هي مثالات وأشباه وأصباغ لتلك الصور التي في عالم الأرواح، غير أن تلك نورانية شفافة، وهذه ظلمانية كاسفة، ومناسبة هذه إلى تلك كنسبة التصاوير والنقوش التي على وجوه الألواح وسطوح الحيطان إلى هذه الصور والأشكال التي عليها هذه الحيوانات من اللحم والدم والعظام والجلود؛ لأن تلك الصور التي في عالم الأرواح محركات، وهذه متحركات والتي دون هذه ساكنات صامتات ومحسوسات فانيات باليات فاسدات، وتلك ناطقات معقولات روحانيات غير مرئيات باقيات.
ثم قام حكيم الجن فخطب وحمد الله، وأثنى عليه فقال: الحمد لله خالق المخلوقات وبارئ المبروآت ومبدع المبدعات ومخترع المصنوعات، ومقلب الأزمان والدهور والأوقات، ومنشئ الأماكن والجهات، مدبر الأفلاك وموكل الأملاك، ورافع السبع السموات وباسط الأرضين المدحوات من تحت طباق السموات، ومصور الخلائق ذوي الأوصاف المختلفات والألوان واللغات، هو المنعم بأنواع العطايا وفنون الروايات، خلق فسوى وقدر فهدى وأمات وأحيا، وهو بالنظر الأعلى، وهو القريب البعيد؛ بعيد من إدراك الحواس المدركات قريب في الخلوات من ذوي المناجاة، فسبحان الذي جعل الطيبين للطيبات، وجعل الخبيثين للخبيثات، وسبحان الذي خلق المؤمنين والمؤمنات، وأوجد المسلمات، وأظهر العابدين والعابدات، وألهم القائمين والقائمات، وأعان الصائمين والصائمات، وهدى التائبين والتائبات، وأنطق الذاكرين والذاكرات، لا تدركه الأبصار، ولا تمثله الأخبار، كلت ألسن الواصفين له بكنه الصفات، وتحيرت عقول ذوي الألباب بالفكرة في جلال عظمته وعز سلطانه ووضوح آياته وبرهانه، فلا القوة العقلية تدركه، ولا القوة النطقية تصفه، وهو الله الواحد القهار العزيز الغفار، الذي خلق الجان قبل آدم من نار السموم أرواحا خفية وأشباحا لطيفة، صورا عجيبة وحركات سريعة، تسبح في الجو كيف تشاء بلا كدر ولا عناء، وذلك من فضل الله علينا، وهو الذي خلق أصناف الخلائق من الجن والإنس والملائكة والحيوانات البرية والبحرية أصنافا مختلفة الأشكال والصور، ورتبها أصنافا كما شاء.
فمنها ما هي مراتبها في أعلى عليين، وهم الملائكة المقربون وعباده المصطفون، خلقهم من نور عرشه فهم حملته.
ومنها ما هي في أسفل السافلين وهم مردة الشياطين وإخوانهم من الكافرين والمنافقين والحاسدين والمنكرين لمصنوعاته من الجن والإنس أجمعين.
ومنها ما بين ذلك وهم عباده الصالحون من المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، فالحمد لله الذي أكرمنا بالإيمان وهدانا إلى الإسلام، وجعلنا خلفاء في الأرض، كما قال تعالى: @QUR03 لننظر كيف تعملون، والحمد لله الذي خص ملكنا بالعلم والحلم والإحسان والعدل والإنصاف، وذلك من فضل الله علينا، فاسمعوا وأطيعوا إن كنتم تعقلون، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
فلما فرغ الحكيم من كلامه نظر الملك إلى جماعة من الإنس وهو وقوف نحو سبعين رجلا مختلفي الهيئات واللباس واللغات والأشكال والألوان، فقال: سبحان الذي خلق الإنسان من ماء مهين! سبحان الذي خلق الإنسان من نطفة في قرار مكين! سبحان الذي خلق الإنسان من صلصال كالفخار! سبحان الذي جعل النطفة علقة ثم جعل العلقة مضغة ثم جعل المضغة عظاما، ثم كسا العظام لحما وجلدا، ثم نفخ فيه من روحه، فتبارك الله أحسن الخالقين، سبحان الذي قدر وهدى! وأمات وأحيا! سبحان الذي جعل الإنسان أكرم الحيوانات وأفضل الموجودات! سبحان الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم! سبحان الله رب العرش العظيم.
ثم نظر الملك فرأى فيهم رجلا معتدل القامة مستوي البنية حسن الصورة مليح البزة لطيف الجملة صافي البنية حلو المنظر خفيف الروح، فقال للوزير: من هو ذاك؟ ومن أين هو؟ فقال رجل من بلاد إيرانشهي، يعني به العراق، قال الملك: قل له يتكلم، فأشار إليه الوزير، قال: سمعا وطاعة.
فصل
فقال: الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين، والحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد، الحنان المنان ذي الجلال والإكرام ذي الفضل والإنعام، الذي كان قبل الأماكن والأزمان والجواهر والأكوان ذوات الكيان، ثم بدأ واخترع وأخرج من مكنون غيبه نورا ساطعا، ومن النور نارا أجاجا وبحرا من الماء رجراجا، وجمع بين الماء والنار، وكان دخانا موردا وزبدا ملبدا، فخلق من الزبد السموات المسموكات، ومن الزبد الأرضين المدحوات، وثقلها بالجبال الراسيات، وحفر البحار الزاخرات، فأرسل الرياح الذاريات بتصاريفها في الجهات، وأثار من البحار والبخارات المتصاعدات، ومن الأرضين الدخانات المعتكرات، وألف منها الغيوم والسحائب المنشآت، وساقها بالرياح إلى البراري والقفار والفلوات، وأنزل منها القطر والبركات، وأنبت العشب والنبات متاعا لنا ولأنعامنا.
والحمد لله الذي خلق من الماء بشرا وخلق منها زوجها ليسكن إليها، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء، وبارك في ذريتهما وسخر لهما في البر والبحر متاعا إلى حين، ثم إنهم بعد ذلك لميتون ثم إنهم يوم القيامة يبعثون.
والحمد لله الذي خصنا بأوسط البلاد مسكنا وأطيبها هواء ونسيما وتربة، وأكثرها أنهارا وأشجارا وثمارا، وفضلنا على كثير من عباده تفضيلا، فله الحمد والمن والثناء؛ إذ خصنا بذكاء النفس وصفاء الأذهان ورجحان العقول، فنحن بهدايته استنبطنا العلوم الغامضة، وبرحمته استخرجنا الصنائع البديعة وعمرنا البلاد، وحفرنا الأنهار، وغرسنا الأشجار، وبنينا البنيان، ودبرنا الملك والسياسة، وأوتينا النبوة والرسالة.
فمنا نوح النبي عليه السلام، وإدريس الرفيع، وإبراهيم خليل الرحمن، وموسى الكليم، وعيسى المسيح، ومحمد المصطفى عليهم صلوات الله وتحياته، ومنا كانت الملوك الفاضلة مثل: أفريدون النبطي وسليمان بن داود الإسرائيلي، ومنوجهر الحريري، ودارا التميمي، وتبع الحميري، وأزدشير بن بابكان الفارسي، وبهرام، وأنو شروان، وبزرجمهر بن تختان، وملوك الطوائف من آل ساسان، وبني سامان الذين شقوا الأنهار وأمروا بغرس الأشجار وبنيان المدن والقرى، ودبروا الملك والسياسة والجنود والرعية، فنحن لب الناس، والناس لب الحيوان، والحيوان لب النبات، والنبات لب المعادن، والمعادن لب الأركان، فنحن لب أولي الألباب، فلله الحمد والمنة، وله الشكر والثناء، وإليه المصير بعد الهرم، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
ثم قال الملك لمن كان حاضرا من حكماء الجن: ما تقولون فيما قال الإنسي من الأقاويل فيما ذكر من فضائلهم وافتخر به؟ قالوا: صدق فيما قال وتكلم، غير واحد من حكماء الجن كان يقال له صاحب العزيمة والصرامة، فإنه ما كان يحابي أحدا، وإذا تكلم واحد وكان على خطئه وزلته رده عن غيه وضلالته.
فقال: يا معشر الحكماء، اعلموا أن هذا الإنسي قد ترك شيئا لم يذكره في خطبته وهو ملاك الأمر وعمدته، فقال الملك: وما هو؟ قال: لم يقل: ومن عندنا خرج الطوفان فغرق ما على وجه الأرض من النبات والحيوان، وفي بلادنا اختلفت الألسن وتبلبلت العقول وتحيرت الألباب.
ومنا كان نمرود الجبار، ونحن طرحنا إبراهيم في النار، ومنا كان بخت نصر مخرب إيليا ومحرق التوراة، وقاتل أولاد سليمان - عليه السلام - وآل إسرائيل، وهو الذي طرد آل عدنان من شط الفرات إلى بلاد الحجاز المتمرد الجبار الفتاك السفاك للدماء.
فقال الملك: كيف يقول هذا ويذكره، وكله عليه لا له؟ فقال صاحب العزيمة: ليس من الإنصاف في الحكومة والعدل في القضية أن يذكر أحد فضائله ويفتخر بها، ولا يذكر مساويه ويتوب ويعتذر منها.
ثم إن الملك نظر إلى الجماعة، فرأى رجلا أسمر نحيف الجسم طويل اللحية، موفور الشعر متوشحا بإزار أحمر على وسطه، فقال: من هو؟ فقال: رجل من بلاد الهند من جزيرة سرنديب، قال الملك للوزير: مره، فأمر له أن يتكلم.
فصل
قال الهندي: الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد القديم السرمد، الذي كان قبل الدهور والأزمان والجواهر والأكوان، ثم أنشأ بحرا من النور عجاجا، فركب فيه الأفلاك وأدارها، وصور الكواكب فسيرها، وقسم البروج فأطلعها، وبسط الأرض فأسكنها، وخط الأقاليم وحفر البحار وأجرى الأنهار وأرسى الجبال وفسح الفلوات وأخرج النبات وكون الحيوان، وخصنا بأوسط البلاد مكانا وأعدلها زمانا حيث يكون الليل والنهار متساويين، والشتاء والصيف معتدلين، والحر والبرد غير مفرطين، وجعل تربة بلادنا أكثر معادنا وأشجارها طيبا ونباتها أدوية وحيوانها فيلة ودوحها ساجا، وقصبها قنا، وعكرشها خيزرانا، وحصاها ياقوتا، وزبرجدا وجعل مبدأ كون آدم - عليه السلام - هناك.
وهكذا حكم سائر الحيوانات بدأ كونها تحت خط الاستواء.
ثم إن الله - تبارك وتعالى - خصنا، فبعث في بلادنا الأنبياء، وجعل أكثر أهلها الحكماء.
فمنهم البدو والبرهميين وبوداسف وبلوهر، وخصنا بألطف العلوم سحرا وعزائم وكهانة، وجعل أهل بلادنا أسرع الناس حركة، وأخفهم وثبا، وأجسرهم على أسباب المنايا إقداما، وبالموت تهاونا. أقول قولي هذا، وأستغفر الله - تعالى - لي ولكم.
قال صاحب العزيمة: لو أتممت الخطبة وقلت: ثم بلينا بحرق الأجساد وعبادة البدور والأصنام والقرود، وكثرة أولاد الزنا واسوداد الوجوه وأكل التبول والفلافل.
ثم نظر الملك فرأى رجلا آخر، فتأمل فإذا هو طويل مرتد برداء أصفر بيده مدرجة ينظر فيها ويزمزم ويترجح قداما وخلفا.
فقال الملك للوزير: من هو ذاك؟ فقال رجل من أهل الشام عبراني من آل إسرائيل، فقال الملك: فمر له أن يتكلم، فأمر الوزير للعبراني، قال: سمعا وطاعة.
فصل
قال العبراني: الحمد لله الواحد القديم الباري الحكيم القهار الحي القيوم الذي كان فيما مضى من الدهر والأزمان، ولم يكن سواه.
ثم بدأ الخلق نورا ساطعا، ومن النور نارا وقادا وبحرا من الماء رجراجا، وجمع بينهما وخلق منهما دخانا وزبدا فقال للدخان: كن سماءها هنا، وقال للزبد: كن أرضها ها هنا، فخلق السموات فسوى خلقها في يومين، وبسط الأرض في يومين وخلق بين أطباقها أصناف الخلائق من الملائكة والجن والإنس والطير والسباع والوحوش والبهائم والأنعام وغير ذلك في يومين، ثم استوى على العرش في اليوم السابع، واصطفى من خلقه آدم أبا البشر، ومن أولاده وذريته نوحا، ومن ذريته إبراهيم خليل الرحمن، ومن ذريته إسرائيل، ومن ذريته موسى بن عمران عليهم السلام، وكلمه وناجاه وأعطاه آية اليد والعصا والتوراة، وكتب الأنبياء عليهم السلام.
وفلق البحر وأغرق فرعون عدوه، وأنزل على بني إسرائيل المن والسلوى، وجعلهم ملوكا وأعطاهم ما لم يعط أحدا من العالمين، فله الحمد والثناء والشكر والنعماء، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
فقال صاحب العزيمة: نسيت ولم تقل: وجعل منا القردة والخنازير وعبدة الطاغوت، أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل، وضربت علينا الذلة والمسكنة وباءوا بغضب على غضب، ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم، جزاء بما كانوا يعملون.
ثم نظر الملك فرأى رجلا طويلا عليه ثياب من الصوف، وعلى وسطه منطقة من السيور وبيده بيرم عود يطرحه ويبخر فيه النار رافعا صوته يقرأ كلماته ويلحنها.
فقال الملك للوزير: من هو ذلك؟ قال: رجل سرياني من آل المسيح عليه السلام، قال الملك للوزير: فمر له أن يتكلم، فأمره الوزير قال: سمعا وطاعة.
فصل
قال السرياني: الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، وكان في بدئه بلا كفؤ ولا أحد ولا عدد ولا مدد.
ثم فلق الإصباح ونور الأنوار وأظهر الأرواح وخلق صور الأشباح وبرأ الأجسام وركب الأجرام ودور الأفلاك ووكل الأملاك، وسوى خلق السموات والأرضين المدحوات، وأرسى الجبال الراسيات وجعل البحار الزاخرات والبراري والفلوات مسكنا للحيوان والنبات.
الحمد لله اتخذ من العذراء البتول جسد الناسوت، وقرن به جوهر اللاهوت، وأيده بروح القدس، وأظهر على يده العجائب، وأحيا به آل إسرائيل من موت الخطية، وجعلنا من أشياعه وأنصاره، وجعل منا القسيسين والرهبان، فنحن لا نستكبر في الأرض، وجعل في قلوبنا رأفة ورحمة ورهبانية، فله الحمد والشكر والثناء، ولنا فضائل تركنا ذكرها، وأستغفر الله لي ولكم إنه الغفور الرحيم.
قال صاحب العزيمة: قل أيضا: فما رعيناها حق رعايتها وكفرنا، وقلنا: ثالث ثلاثة، وعبدنا الصلبان وأكلنا لحم الخنزير في القربان، وقلنا على الله الزور والبهتان.
ثم نظر الملك إلى رجل واقف، فتأمله فإذا هو أسمر شديد السمرة نحيف الجسم، وعليه ثوبان إزار ورداء شبه المحرم راكعا ساجدا يتلو القرآن، ويناجي الرحمن، فقال: من هو ذاك؟ قال الوزير: رجل من تهامة قرشي، قال الملك: فمر له أن يتكلم، فأمر له الوزير، قال: سمعا وطاعة.
فصل
قال القرشي: الحمد لله الواحد الصمد الفرد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، هو الأول والآخر والظاهر والباطن، الأول بلا ابتداء، والآخر بلا انتهاء، الظاهر على كل شيء قدرة وسلطانا، والباطن في كل شيء علما ومشيئة ونفاذا وإرادة، وهو العظيم الشأن الواضح البرهان الذي كان قبل الأماكن والأزمان والجواهر ذوات الكيان.
ثم قال له: كن، فيكون، فسوى، وقدر فهدى، وهو بالمنظر الأعلى، الذي رفع السماء بغير عمد وبناها ورفع سمكها فسواها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها، والأرض بعد ذلك دحاها، أخرج منها ماءها ومرعاها، والجبال أرساها، متاعا لكم، ولأنعامكم، وما كان معه من إله؛ إذن لذهب كل إله بما خلق، ولعلا بعضهم على بعض، سبحان الله عما يصفون، كذب العادلون بالله، وضلوا ضلالا بعيدا، وخسروا خسرانا مبينا.
هو الذي أرسل رسوله محمدا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعترته وعلى ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين، وعلى عباده الصالحين من أهل السموات وأهل الأرضين والمسلمين، وجعلنا وإياكم منهم برحمته، إنه أرحم الراحمين.
والحمد لله الذي خصنا بخير الأديان، وجعلنا من أمة صاحب الفرقان، وأكرمنا بتلاوة القرآن، وصوم شهر رمضان، والطواف حول بيته الحرام والركن والمقام، وأكرمنا بليلة القدر والعرفات والزكاة والطهارات والصلوات والجماعات والأعياد والمنابر والخطب وفقه الدين وعلم سنن النبيين وسيرة الربانيين.
وعرفنا أخبار وأحوال الأولين والآخرين وحساب يوم الدين، ووعدنا ثواب النبيين والشهداء والصالحين في دار النعيم أبد الآبدين، ودهر الداهرين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين، ولنا فضائل أخرى يطول شرحها تركنا ذكرها مخافة التطويل، وأستغفر الله لي ولكم.
قال صاحب العزيمة: قل أيضا: ثم إنا تركنا ورجعنا مرتدين بعد وفاة نبينا شاكين منافقين وقتلنا الأئمة الخيرين الفاضلين طلبا للدنيا بالدين.
ثم نظر الملك فرأى رجلا على رأسه مشدة قائما في الملعب بين يديه آلات الرصد فقال للوزير: من هو ذلك؟ قال: رجل من أهل الروم من بلاد يونان، فقال الملك: مره، فأمر له أن يتكلم، قال: سمعا وطاعة.
فصل
قال اليوناني: الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي كان قبل الهيولى ذات الصورة، والأبعاد كالواحد قبل الأعداد، والأزواج والأفراد، والمتعالي عن الأنداد والأضداد.
والحمد لله الذي تفضل وتكرم وأفاض من جوده العقل الفعال ذا العلوم والأسرار، وهو نور الأنوار، وعنصر الأرواح.
والحمد لله الذي أنتج من نوره العقل والبحث من جوهر النفس الكلية الفلكية ذات الحركات وعين الحياة والبركات.
والحمد لله الذي أظهر من قوة النفس عنصر الأكوان ذوات الهيولى والكيان.
والحمد لله خالق الأجسام ذوات المقادير والأبعاد والأماكن والأزمان.
والحمد لله مركب الأفلاك والكواكب السيارات الموكل بدورانها النفوس والأرواح والملائكة ذات الصور والأشباح ذوي النطق والفكر والحركات الدورية وجعلها مصابيح الدجى ومشرق الأنوار في الآفاق والأقطار.
والحمد لله مركب الأركان ذوات الكيان وجعلها مسكنا للنبات والحيوان والإنس والجان، وأخرج النبات، وجعل ذلك مادة للأبدان وغذاء الحيوان، وهو المخرج من قعار البحار وصم الجبال، الجواهر المعدنية الكثيفة ذوات المنافع.
والحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده تفضيلا؛ إذ خص بلادنا بكثرة البقول والنعم، وجعلنا ملوكا بالخصال الفاضلة والسير العادلة ورجحان العقول ودقة التمييز وجودة الفهم وكثرة العلوم والصنائع العجيبة، والطب والهندسة والنجوم، وعلم تركيب الأفلاك، ومعرفة منافع الحيوان والنبات والمعادن والحركات وآلات الرصد والطلسمات، وعلم الرياضات والمنطقيات والطبيعيات والإلهيات، فله الحمد والثناء والشكر على جزيل العطاء، ولنا فضائل أخر يطول شرحها، وأستغفر الله لي ولكم.
فقال صاحب العزيمة: من أين لكم هذه العلوم والحكمة التي ذكرتها وافتخرت بها، لولا أنكم أخذتم بعضها من آل إسرائيل أيام بطليموس، وبعضها من علماء أهل مصر أيام مسيطوس، فنقلتموها إلى بلادكم ونسبتموها إلى أنفسكم.
فقال الملك لليوناني: ماذا تقول فيما ذكر؟ قال: صدق الحكيم فيما قال، فإذا أخذناها منهم فإن علومنا وعلوم سائر الأمم بعضها من بعض، ولو لم يكن كذلك من أين للفرس علم النجوم وتركيب الأفلاك وآلات الرصد، لولا أنهم أخذوها من أهل الهند، ومن أين كان لبني إسرائيل علم الحيل والسحر والعزائم، ونصب الطلسمات واستخراج المقادير لولا أن سليمان - عليه السلام - أخذها من خزائن ملوك سائر الأمم حينما غلب عليهم ونقلها إلى لغة العبرانيين، وإلى بلاد الشام، وكانت مملكته في بلاد فلسطين وبعضها ورثها بنو إسرائيل من كتب أنبيائهم التي ألقتها إليهم الملائكة بالوحي والإنباء من الملأ الأعلى الذين هم سكان السموات وملوك الأفلاك وجنود رب العالمين.
قال الملك للحكيم: ما تقول فيما ذكر؟ قال: صدق، إنما تكثر العلوم في أمة دون أمة، وفي وقت دون وقت من الزمان، فإذا صار الملك والنبوة فيها، فتغلب سائر الأمم وتأخذ فضلها وفضائلها وعلومها وكتبها فتنقلها إلى بلادهم وينسبونها إلى أنفسهم.
ثم نظر الملك إلى رجل عظيم الجثة قوي البنية حسن البزة ناظرا نحو السماء يدير بصره مع الشمس كيفما دارت، فقال: من هو ذلك؟ قال الوزير: رجل من أهل خراسان من بلاد مرو والشاها، فقال الملك: فمر له ليتكلم، فأمر له الوزير، فقال: سمعا وطاعة.
فصل
قال الخراساني: الحمد لله الواحد الأحد الكبير المتعال العزيز الجبار القوي القهار العظيم الغفار ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، الذي تقصر عن كيفية صفاته ألسن الناطقين، ولا تبلغ كنه أوصافه أفهام المتفكرين تحيرت في عظيم جلالته عقول ذوي الألباب والأبصار من المستبصرين، علا فدنا، وظهر فتجلى، وهو بالمنظر الأعلى، @QUR09 لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، احتجب بالأنوار قبل خلق الليل والنهار، وركب الأفلاك الدائرات، ورفع سموك السموات ذوات الأقطار المتباعدات، فلله الحمد خالق الخلائق أجناسا من الملائكة والجن والإنس من الشياطين، ومن الخليقة أصنافا ذوي أجنحة مثنى وثلاث ورباع وذوات رجلين وأربع، وما ينساب على بطنه وما يغوص في الماء، ويسبح فيه، ثم جعلها أنواعا وأشخاصا ومن بني آدم شعوبا وقبائل مختلفة ألوانها وألسنتها ودثارها وأماكنها وأزمانها، ثم قسم عليهم أنعامه وأفضاله ومواهبه وإحسانه.
والحمد لله على ما أعطى ووهب من آلائه، وعلى ما وعد من أنعامه.
والحمد لله خصنا وتفضل علينا إذ جعل بلادنا أكثر البلدان مدنا وأسواقا ومنازل وقلاعا وحصونا وأنهارا وأشجارا وجبالا ومعادن وحيوانا ونباتا ورجالا ونساء، فنساؤنا في قوة الرجال، ورجالنا في قوة الجمال، وجمالنا في قوة عظم الجبال.
والحمد لله على ما خصنا ومدحنا على ألسن النبيين بالبأس الشديد، والقوة المتين، ومحبة الدين، واتباع المرسلين، فقال عز وجل: @QUR011 نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين، وقال - عز وجل - للمخلفين من الأعراب: @QUR06 ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد، وقال: @QUR06 فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كان الإيمان معلقا بالثريا لتناوله رجل من أبناء فارس.» وقال صلى الله عليه وسلم: «طوبى لإخواني من رجال فارس يجيئون في آخر الزمان يجدونه سوادا على بياض ويؤمنون بي ويصدقونني.»
والحمد لله على ما خصنا باليقين والإيمان والعمل للآخرة والتزود للمعاد، وإن منا من يقرأ الإنجيل ولا يدري منه شيئا، ويؤمن بالمسيح ويصدقه، ومنا من يقرأ القرآن ويلحنه، ولا يعرف معناه، ويؤمن بمحمد ويصدقه وينصره، ونحن لبسنا السواد وطلبنا بثأر الحسين وطردنا البغاة من بني مروان طغوا وعصوا وتعدوا حدود الله والدين، ونحن نرجو أن يظهر من بلادنا الإمام المهدي - عليه السلام - المنتظر من آل محمد صلى الله عليه وسلم، فإن عندنا له خبرا وأثرا، والحمد لله على ما أعطى ووهب وأنعم وأكرم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
فلما فرغ الفارسي من كلامه نظر الملك إلى من حوله من الحكماء، وقال: ماذا ترون فيما ذكر؟ قال رئيس الفلاسفة: صدق فيما ذكر، لولا أن فيهم جفاء الطبع وفحش اللسان ونكاح الغلمان وتزويج الأمهات وعبادة النيران ويسجدون للشمس من دون الرحمن.
(14) فصل في بيان صفات الأسد وأخلاقه ومناقبه من الخصال المحمودة والمذمومة من بين السباع والوحوش
ولما كان في اليوم الثالث حضر زعماء الطوائف على الرسم، فوقفت في مواضعها كالأمس في المجلس ، ونظر الملك يمنة ويسرة فرأى ابن آوى واقفا إلى جنب الحمار وهو ينظر شزرا ويلتفت يمنة ويسرة شبه المريب الخائف الوجل من الكلاب.
فقال الملك على لسان الترجمان: من أنت؟ قال: أنا زعيم السباع، قال: ومن أرسلك؟ قال: ملكنا، قال: من هو؟ قال: الأسد أبو الحارث.
قال الملك: أين يأوي من البلاد؟ قال: في الآجام والغياض والدحال، قال: ومن رعيته؟ قال: حيوان البر من الوحوش والأنعام والبهائم.
قال: ومن جنوده وأعوانه؟ قال: النمورة والفهود والذئاب وبنو آوى والثعالب وسنانير البر وكل ذي مخلب وناب من السباع، قال: صف لي صورته وأخلاقه وسيرته في رعيته وجنوده؟
قال: نعم أيها الملك، هو أكبر السباع جثة، وأعظمها خلقة، وأقواها وأشدها قوة وبطشا، وأعظمها هيبة وجلالا، عريض الصدر دقيق الخصر لطيف المؤخر، كبير الرأس مدور الوجه وضاح الجبين، واسع الشدقين منفرج المنخرين، متين الزندين حاد الأنياب والمخالب، براق العينين، جهير الصوت، شديد الزئير، عبل الساقين، شجاع القلب، هائل المنظر، لا يهاب أحدا، ولا يرهب لشدة بطشه الجواميس، ولا الفيلة ولا التماسيح، ولا الرجال ذوي البأس الشديد، ولا الفرسان ذوي السلاح الشاكي المدرعة، وهو شديد العزيمة، حازم الرأي إذا هم بأمر قام إليه بنفسه، لا يستعين بأحد من جنوده وأعوانه، سخي النفس إذا اصطاد فريسة أكل منها وتصدق بباقيها على جنوده وخدمه، عفيف النفس عن الأمور الدنية، لا يتعرض للنساء ولا للصبيان ولا للنيام، كريم الطبع إذا رأى ضوءا بعيدا ذهب نحوه في ظلم الليل ووقف بالبعد منه وسكنت ثورة غضبه ولانت صولته، وإذا سمع نغمة طيبة قرب منها وسكن إليها لا يفزع من شيء ولا يتأذى إلا من النمل الصغير، فإنها مسلطة عليه وعلى أشباله كما سلط البق على الفيلة والجواميس، وتسلط الذباب على الملوك الجبابرة من بني آدم، قال: كيف سيرته في رعيته؟ قال: أحسنها وأعدلها، وأنا أذكر بعد هذه.
(15) فصل في بيان صفة العنقاء وصفة الجزيرة التي تأوي إليها وما فيها من النبات والحيوان
ثم نظر الملك إلى الطوائف الحضور هناك، فرأى الببغاء قاعدة على غصن شجرة بالقرب، وهي تنظر وتتأمل كل من يتكلم من الجماعة الحضور وينطق بحكاية في كلامه وأقاويله.
فقال له الملك: من أنت؟ قال: أنا زعيم الجوارح من الطير، قال: من أرسلك؟ قال: ملكنا، قال: من هو؟ قال: عنقاء مغرب، قال: أين يأوي من البلاد؟ قال: إلى أطواد الجبال الشامخة في جزيرة البحر الأخضر، التي قل ما بلغ إليها مراكب البحر، ولا أحد من البشر.
قال: صف لنا تلك الجزيرة؟ قال: نعم، طيبة التربة معتدلة الهواء، تحت خط الاستواء، عذبة المياه من العيون والأنهار، كثيرة الأشجار من دوح الساج العالية في جو الهواء قصب آجامها القنا، وعكرشها الخيزران، وحيوانها الفيل والجواميس والخنازير وأصناف أخر، لا يعلمها إلا الله، قال: صف لنا صورة العنقاء وأخلاقها وسيرتها؟ قال: نعم، هي أكبر الطير جثة، وأعظمها خلقة، وأشدها طيرانا، كبيرة الرأس عظيمة المنقار، كأنه معول من الحديد، عظيمة الجناحين، إذا نشرتهما كأنهما شراعان من شراعات مراكب البحر، وذنب مناسب لهما كأنه فازة نمرود الجبار، وإذا انقضت من الجو في طيرانها تهتز الجبال من شدة تموج الهواء من خفقان جناحيها وهي تخطف الجواميس والفيلة من وجه الأرض في طيرانها كما يخطف الحدأة الفأرة في طيرانه من وجه الأرض في طيرانها، قال: ما سيرتها؟ قال: أحسنها وأعدلها، وأنا أذكر بعد هذا.
(16) فصل في بيان صفة الثعابين والتنين وعجيب خلقهما وهائل منظرهما
ثم إن الملك سمع نغمة وطنينا من شق حائط كان بالقرب من هناك هي تترنم وتتذمر، ولا تهدأ ساعة ولا تسكن، فتأمله فإذا هو صرصر واقف يحرك جناحيه له حركة خفيفة سريعة يسمع لها نغمة وطنين كما يسمع لوتر الزبير.
فقال له الملك: من أين أنت؟ قال: أنا زعيم الهوام والحشرات، قال: من أرسلك؟ قال: ملكنا، قال: من؟ قال: الثعبان.
قال: أين يأوي من البلاد؟ قال: الجبال الشامخة المرتفعة إلى كرة النسيم عند كرة الزمهرير، حتى لا يرتفع إلى هناك سحاب، ولا غيوم، ولا يقع أمطار، ولا ينبت نبات، ولا يعيش حيوان من شدة برد الزمهرير.
قال: فمن جنوده وأعوانه؟ قال: الحيات والجرادات والحشرات أجمع، قال: فأين تأوي جنوده؟ قال: في الأرض بكل مكان، فهم أمة وخلائق لا يحصي عددها إلا الله الذي خلقها وصورها وبرأها، ويعلم مستقرها ومستودعها.
قال الملك: ولم ارتفع الثعبان إلى هناك مع جنوده وأبناء جنسه؟ قال: ليستريح ببرد الزمهرير من شدة وهج حرارة السم الذي بين فكيه وتلهبها في جسمه.
قال: صف لنا صورته وأخلاقه وسيرته؟ قال: صورته كصورة التنين، وأخلاقه كأخلاقه، قال: فمن لنا بوصف التنين؟ قال: زعيم حيوان الماء، قال: من هو؟ قال: ذلك الراكب الخشبة.
فنظر الملك فإذا الضفدع راكب خشبة على ساحل البحر بالقرب من هناك وهو ينق بأصوات تسبيحات لله وتكبيرات وتحميدا وتهليلا لا يعلمها إلا الله والملائكة الكرام البررة.
قال الملك: من أنت؟ قال: أنا زعيم حيوان الماء، قال: ومن أرسلك؟ قال: ملكنا، قال: ومن هو؟ قال: التنين، قال: أين يأوي من البلاد؟ قال: في قعر البحار؛ حيث الأمواج المتلاطمة ومنشأ السحاب والغيوم المؤلفة، قال: من جنوده وأعوانه؟
قال: التماسيح والدلافين والسرطانات، وأصناف من الحيوانات البحرية التي لا يحصي عددها إلا الله الواحد القهار.
قال: صف لنا صورة التنين وأخلاقه وسيرته؟ قال: نعم، أيها الملك، هو حيوان عظيم الخلقة، عجيب الصورة، طويل القامة، عريض الجثة، هائل المنظر، مهول المخبر، تخافه وتهابه حيوانات البحر أجمع؛ لشدة قوته، وعظم صولته، إذا تحرك تحرك موج البحر من سرعة سباحته، كبير الرأس، براق العينين، واسع الفم، كثير الأسنان، يبلع من حيوانات البحر عددا كثيرا لا يحصى، وإذا امتلأ جوفه منها وأتخم تقوس والتوى، واعتمد على رأسه وذنبه، ورفع وسطه خارجا من الماء مرتفعا في الهواء مثل قوس قزح، يشرق في عين الشمس ويستروح بحرها؛ ليستمرئ ما في جوفه، وربما عرض له وهو على هذه الحالة غشية، وينشأ سحابة من تحته ترفعه فترمي به إلى البر فيموت، وتأكل من جثته السباع أياما، وترمي به إلى أمة يأجوج ومأجوج الساكنين من وراء السد، وهما أمتان صورتهما آدمية ونفوسهما سبعية، لا يعرفان التدبير ولا السياسة ولا البيع ولا الشراء ولا الحرفة ولا الحرث ولا الزرع، بل الصيد من السباع والوحوش والسمك والنهب والغارات بعضها على بعض، ويأكل بعضها بعضا.
واعلم أيها الملك بأن كل حيوانات البحر تفزع من التنين وتهابه، وهو لا يفزع من شيء إلا من دابة صغيرة تشبه الكرور والجرجيس، فتلسعه وهو لا يقدر عليها بطشا، ولا منها احترازا، فإذا لسعته دب سمها في جسمه فمات، واجتمعت عليه الحيوانات البحرية تأكله، فيكون لها عيشا رغدا أياما من جثته، فهي تأكلها مدة من الزمان كما تأكل السباع كبارها صغارها مدة من الزمان، وهكذا حكم الجوارح من الطير.
وذلك أن العصافير والقنابير والخطاطيف وغيرها تأكل الجراد والنمل والذباب والبق وما شاكلها، ثم إن البواشق والشواهين وما شاكلها تصطاد العصافير والقنابر وتأكلها، ثم إن البزاة والصقور والنسور والعقبان تصطادها وتأكلها، ثم إنها إذا ماتت أكلها صغارها من النمل والذباب والديدان.
وهكذا سيرة بني آدم، فإنهم يأكلون لحوم الجدي والحملان والغنم والبقر والطير وغيرها، ثم إذا ماتوا أكلتهم في قبورهم الديدان والنمل والذباب.
وهكذا يأكل صغار الحيوانات كبارها وتارة تأكل كبارها صغارها، ومن أجل هذا قال الحكماء المنطقيون من الإنس: إن من فساد شيء آخر يكون صلاح شيء آخر، قال الله سبحانه: وتلك الأيام نداولها بين الناس وما يعقلها إلا العالمون.
وقد سمعنا أيها الملك أن هؤلاء الإنس يزعمون أنهم أربابنا، وأن سائر الحيوانات عبيد لهم، فهلا يفقهون فيما وصفت من تصاريف أحوال سائر الحيوانات، هل بينها فرق فيما ذكرت، فإنهم تارة آكلون وتارة هم مأكولون فبماذا يفتخر بنو آدم على الحيوانات وعاقبة أمرهم مثل أمرها؟! وقد قيل: «الأعمال بخواتيمها.» وكلهم من التراب خلقوا وإليه مصيرهم.
ثم قال الضفدع: اعلم أيها الملك الحكيم بأنه لما سمع التنين قول الإنس وادعاءهم على الحيوانات أنها عبيدهم وأنهم أرباب لها تعجب من قولهم الزور والبهتان، وقال: ما أجهل هؤلاء الإنس وأشد طغيانهم وإعجابهم بأنفسهم ومكابرتهم لأحكام العقول! كيف يجوزون أن تكون السباع والوحوش والجوارح والثعابين والتنانين والتماسيح والكواسيج عبيدا لهم، وخلقت من أجلهم؟! أفلا يتفكرون ويعتبرون بأنه لو خرجت عليهم السباع من الآجام وانقضت عليهم الجوارح من الجو، ونزلت عليهم الثعابين من رءوس الجبال، وخرجت إليهم التماسيح والتنانين من البحر، فحملت على الإنس حملة واحدة هل يبقى منهم أحد، وأنها لو خالطتهم في ديارهم ومنازلهم هل كان يطيب لها عيش أو حياة معهم؟ أفلا يتفكرون في نعم الله - تعالى - عليهم حين صرفها وأبعدها من ديارهم لدفع ضررها عنهم، وإنما غرهم كون هذه الحيوانات السليمة الأسيرة في أيديهم التي لا شوكة لها ولا صولة ولا حيلة، وهم يسومونها سوء العذاب ليلا ونهارا، فأخرجهم ذلك إلى هذا القول من غير حق ولا برهان.
فصل
ثم إن الملك نظر إلى جماعة الإنس وهم وقوف نحو اثنين وسبعين رجلا مختلفي الألوان والصفات والزي واللباس، فقال لهم: قد سمعتم ما قال، فاعتبروا وتفكروا فيه، ثم قال لهم: من ملككم؟» قالوا: لنا عدة ملوك، قال: فأين ديارهم؟ قالوا: في بلدان شتى، كل واحد في مدينة له جنوده ورعيته، قال الملك: لأي علة وأي سبب صارت هذه الطوائف من الحيوانات لكل جنس منها ملك واحد مع كثرتها، وللإنس ملوك عدة مع قلتهم؟
قال زعيم الإنس العراقي: نعم أيها الملك، أنا أخبرك ما العلة وما السبب في كثرة ملوك الإنس وقلة ملوك سائر الحيوانات مع كثرتها، قال الملك: وما هي؟
قال: لكثرة مآرب الإنس وفنون تصاريف أمورهم واختلاف أحوالها، فاحتاجوا إلى كثرة الملوك وليس حكم سائر الحيوانات كذلك.
وخصلة أخرى أن ملوكهم إنما هم بالاسم من جهة كبر الجثة وعظيم الخلقة وشدة القوة حسب.
وإن حكم ملوك الإنس ربما يكون بخلافه، وذلك أنه ربما يكون الملك أصغرهم جثة وألطفهم بنية وأضعفهم قوة، وإنما المراد من الملوك حسن السياسة والعدل في الحكومة ومراعاة أمر الرعية وتفقد أحوال الجنود والأعوان وترتيبهم مراتبهم والاستعانة بهم في الأمور المشاكلة لهم.
وذلك أن رعية ملوك الإنس وجنودها وأعوانها أصناف وصفات شتى، فمنهم حملة السلاح الذين بهم يبطش الملك بأعدائه ومن خالف أمره من الثوار والخوارج واللصوص وقطاع الطرق والغوغاء والعيارين ومن يريد الفتن ويثيرها، ويريد الفساد في البلاد.
ومنهم الوزراء والكتاب والعمال وأصحاب الدواوين وجباة الخراج، وبهم يجمع الملك الأموال والذخائر وأرزاق الجند وما يحتاج إليه من الأمتعة والثياب والأثاث.
ومنهم البناءون والدهانون والمزارعون وأرباب الحرث والنسل وبهم عمارة البلاد وقوام أمر المعاش للكل.
ومنهم القضاة والعلماء والفقهاء الذين هم قوام الدين وحكام الشريعة التي لا بد للملك من دين وحكم وشريعة يحفظ بها الرعية والأمة ويسوسهم ويدبر أمورهم على أحكمه وأحسنه.
ومنهم التجار والصناع وأصحاب الحرف والمتعاونون في المعاملات والتجارات والصناع في المدن والقرى الذين لا يتم أمر المعاش وطيب الحياة إلا بهم، ومعاونة بعضهم بعضها.
ومنهم الخدم والغلمان والجواري والحجاب والوكلاء أصحاب الخزائن والفيوج والرسل وأصحاب الأخبار والندماء المختصون ومن شاكلهم ممن لا بد للملوك منهم في تمام السيرة.
وكل هؤلاء الطوائف الذين ذكرتهم لا بد للملك من النظر في أمورهم وتفقد أحوالهم والحكومة بينهم.
فمن أجل هذه الخصال احتاجت الإنس إلى كثرة الملوك في كل بلد أو في كل مدينة ملك واحد يدبر أمر أهلها كلها كما ذكرت، ولم يمكن أن يقوم بها كلها واحد؛ لأن أقاليم الأرض سبعة أقاليم، وفي كل إقليم عدة بلدان، وفي كل بلدة عدة مدن، وفي كل مدينة عدة خلائق، لا يحصي عددها إلا الله، وهم مختلفو الألسن والأخلاق والآراء والمذاهب والأعمال والأحوال والمآرب.
ولهذه الخصال واجب في الحكمة الإلهية والعناية الربانية أن تكون ملوك الإنس كثيرة، وكل ملوك بني آدم خلفاء الله في أرضه ملكهم بلاده وولاهم عباده ليسوسوهم ويدبروا أمورهم ويحفظوا نظامهم ويتفقدوا أحوالهم ويقمعوا الظلم وينصروا المظلوم ويقضوا بالحق وبه يعدلون ويأمرون بأوامره، وينهون عن نواهيه ويتشبهون به في تدبيرهم وسياستهم؛ إذ كان الله - تعالى - هو سائس الكل، ومدبر الخلائق من أعلى عليين إلى أسفل سافلين، وحافظهم وخالقهم ورازقهم ومبدئهم ومعيدهم كما شاء وكيف شاء، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
(17) فصل في بيان فضيلة النحل، وعجائب أموره وتصاريف أحواله وما خص به من الكرامات والمواهب دون غيره من الحشرات
فلما فرغ زعيم الإنس من كلامه نظر الملك إلى أصناف الحيوانات، فسمع دويا وطنينا، فإذا هو باليعسوب أمير النحل وزعيمها واقف في الهواء يحرك جناحيه حركة خفيفة يسمع لها دوي وطنين مثل نغمة الزبير من أوتار العود، وهو يسبح الله ويقدسه ويهلله.
فقال له الملك: من أنت؟ قال: أنا زعيم الحشرات وأميرها، قال: كيف جئت بنفسك، ولم ترسل رسولا من رعيتك وجنودك كما أرسلت سائر طوائف الحيوانات؟ قال: إشفاقا عليهم، ورحمة لهم، وتحننا عليهم أن ينال أحدا منهم سوء أو مكروه أو أذية، قال له الملك: وكيف خصصت بهذه الخصال دون غيرك من ملوك سائر الحيوانات؟ قال: إنما اختصني ربي من جزيل مواهبه ولطيف إنعامه وعظيم إحسانه بما لا أحصيه.
قال الملك: اذكر منها طرفا لأسمعه وبينه لأفهمه؟!
قال: نعم أيها الملك، مما خصني الله به وأنعم به علي وعلى آبائي وأجدادي أن أتانا الملك والنبوة التي لم تكن من بعدنا لحيوانات أخر، وجعلها وراثة من آبائنا وأجدادنا وذخيرة لأولادنا وذرياتنا يتوارثونها خلفا عن سلف إلى يوم القيامة، وهما نعمتان عظيمتان جزيلتان مغبون فيهما أكثر الخلائق من الجن والإنس وسائر الحيوانات، ومما خصنا ربنا وأنعم به علينا أن ألهمنا وعلمنا دقة الصنائع الهندسية ومعرفة الأشكال الفلكية من اتخاذ المنازل وبناء البيوت وجمع الذخائر فيها، وما خصنا به أيضا وأنعم به علينا سبيل الرشاد، ومما خصنا أيضا وأنعم به علينا أن حلل لنا الأكل من كل الثمرات ومن جميع أزهار النبات.
ومما خصنا وأنعم به علينا أن جعل الله في مكاسبنا وذخائرنا وما يخرج من بطوننا شرابا حلوا لذيذا فيه شفاء للناس وتصديق مما قال الله تعالى: @QUR032 وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون * ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس .
ومما خصنا به ربنا أيضا وأنعم به علينا أن جعل خلقة صورتنا وهياكلنا وجميل أخلاقنا وحسن أفعالنا وأعمالنا وتصاريف أمورنا وحسن سياستنا وتدبير رعيتنا عبرة لأولي الألباب، وآية لأولي الأبصار، وذلك أن الله - تعالى - بحكمته جعل خلقتنا خلقة لطيفة، وبنيتنا بنية ظريفة، وصورتنا صورة عجيبة، وذلك أنه - تعالى - جعل بنية جسدنا ثلاثة مفاصل مخروزة، فوسط جسدنا مربع مكعب، ومؤخر جسدنا معوج مدبج مخروط، ورأسنا مدور مبسوط، وركب في وسط أبداننا أربع أرجل ويدين متناسبات المقادير كأضلاع الشكل المسدس في الدائرة لنستعين بها على القيام والقعود، والوقوع والنهوض، ونقدر على أساس بناء منازلنا، وبيوتنا مسدسات مكتنفات، ففي بنيان بيوتنا وأشكال منازلنا إلهامات ربانية ومعقولات روحانية، إذ عجز الرياضيون عن موضوعات أشكالنا، وتسديسات منازلنا.
والغرض من المتساوية الأضلاع والزوايا المكشوفات، كيلا يدخلها الهواء، فيضر بأولادنا ويفسد شرابنا الذي هو قوتنا وذخائرنا.
وبهذه الأربع الأرجل واليدين نجمع من ورق الأشجار وزهر الأثمار الرطوبات الدهنية التي نبني بها منازلنا وبيوتنا، وجعل الله على كتفي أربعة أجنحة حريرية النسج آلة لي في الطيران في جو الهواء مستقلا بها، وجعل مؤخر بدننا مخروط الشكل مجوفا مدرجا مملوءا بالهواء، ليكون موازنا في ثقل رأسنا في الطيران، وجعل لي حمة حادة كأنها شوكة، وجعلها سلاحا لي أخوف به أعدائي وأزجر به من يتعرض ليؤذيني، وجعل رقبتي خفيفة ليسهل بها علي تحريك رأسي يمنة ويسرة، وجعل رأسي مدورا عريضا وجعل في جنبي عينين براقتين كأنهما مرآتان مجلوتان، وجعلها آلة لنا لإدراك المرئيات المبصرات من الألوان والأشكال والأنوار والظلمات، وأثبت على رأسنا شبه قرنين لطيفين لينين، وجعلهما آلة لنا لإحساس الملموسات واللين من الخشونات والصلابة والرخاوة، وفتح لنا منخرين وجعلهما لإحساس المشمومات الطيبة والروائح الجيدة، وجعل لنا فما مفتوحا فيه قوة ذائقة نتعرف بها قوة الطعام والطيبات من المأكولات والمشروبات، وخلق لنا مشفرين حادين نجمع بهما من ثمرة الأشجار رطوبات لطيفة.
وعجز الطبيعيون والأطباء من اليونانيين من معرفتنا على طبائع النبات والاطلاع على خصائص منافعها، وخلق في جوفنا قوة جاذبة وماسكة وهاضمة وطابخة منضجة، تصير تلك الرطوبات عسلا حلوا لذيذا شرابا صافيا غذاء لنا ولأولادنا وذخائر للشتاء، كما جعل في ضروع الأنعام قوة هاضمة تصير الدم لبنا خالصا سائغا للشاربين، وجعل فضالتنا وفضالة أولادنا سببا وشفاء لأخص خلق الله - تعالى - إذ في تشكيلنا وتخطيطنا المسدسات وترتيب الزوايا المتساويات جعل شفاء للأرواح الإنسانية، وفي فضالتنا وبصاقنا ولعابنا جعل شفاء للجسد الإنساني، وجعل فضالة فضالتنا وهو الشمع سببا للضياء في ظلم الليالي، عوضا عن الضياء النوراني الحاصل من الشمس.
فمن أجل هذه النعم والمواهب التي خصنا الله - تعالى - بها صرنا مجتهدين في كثرة الذكر لها وأداء شكرها بالتسبيح لربنا والتهليل والتكبير والتمجيد والتحميد آناء الليل وأطراف النهار، والشفق على رعيتنا وتفقد أحوال جندنا وأعواننا وتربية أولادنا؛ لأنا لهم كالرأس من الجسد، وهم لنا كالأعضاء من البدن، لا قوام لأحدهما إلا بالآخر، ولا صلاح لهما إلا بصلاح الآخر، فلهذا جعلت نفسي فداء لهم في أشياء كثيرة من الأمور الخطيرة إشفاقا عليهم، ومن هذا السبب الذي ذكرت اخترت مجيئي بنفسي رسولا ونائبا وزعيما من رعيتنا وجنودنا.
فلما فرغ النحل من كلامه، قال الملك: بارك الله فيك من خطيب! ما أفصحك! وحكيم ما أعلمك! ومن رئيس ما أحسن سياستك! ومن ملك ما أفضل رعايتك! ومن عبد ما أعرفك بإنعام ربك ومواهب مولاك!
ثم قال الملك: أين تأوون من البلاد؟ قال: في رءوس الجبال والتلال، وبين الأشجار والدحال، ومنا من يجاور بني آدم في منازلهم وديارهم.
قال الملك: كيف عشرتهم؟ وكيف تسلمون منهم؟ قال: أما من بعد منا من ديارهم فيسلم على الأمر الأكثر، ولكن ربما يجيئون إلينا في طلبنا، ويتعرضون لنا بالأذية، فإذا ظفروا بنا خربوا منازلنا، وأحفوا بيوتنا ولم يبالوا بأن يقتلوا أولادنا ويأخذوا مساكننا وذخائرنا ويتقاسموها ويستأثروا بها دوننا.
قال الملك: وكيف صبركم عليهم وعلى ذلك منهم؟ قال: صبر المضطر تارة كرها، وتارة رضا وتسليما، إن غضبنا وهربنا وتباعدنا من ديارهم جاءوا خلفنا يطلبوننا ويترضوننا بالهدايا من العطر وأنواع الحيل من أصوات الدفوف والطبول والمزامير والهدايا المزدوجة المزخرفة من الدبس والتمر وعملهم مثل عمل الطرارين الذين يمشون في المحال ويعطون الزبيب والجوز إلى الصبيان، ويأخذون منهم أثوابهم ودراهمهم، ويسخرون على الصبيان.
فهؤلاء أيضا يعملون مثل السخرية بحيث إنهم يبعثون إلينا الهدايا من التمر والدبس؛ إذ كلاهما يضر بأبدانهم ويأخذون منا عسلا صافيا لذيذا جعله الله - تعالى - سببا لشفاء أبدانهم وزوال أمراضهم، فنحن من حسن أخلاقنا لا نضايقهم فنصالحهم؛ إذ الصلح خير لنا ولهم؛ لأن العداوة والخصومة تؤدي إلى هلاك الحيوان، وتؤدي إلى خراب البلاد، فنحن نراجعهم ونصالحهم لما في طبائعنا من الخيرة، ولما في صدورنا من السلامة وقلة الحقد والحسد وحسن المراجعة، وقلبنا صار موضع إلهام من الله - تعالى - لا يجوز أن يكون موضع الحقد والحسد؛ إذ هما ضدان لا يجتمعان، وذلك أن الله - تعالى - جعلنا من المقربين والصالحين، وألقى الوحي علينا، لا يليق بنا أن نكون فاسقين طاغين.
ومع هذا كله لا يرضون منا هؤلاء الإنس حتى يدعون علينا بأننا عبيد لهم، وهم موال وأرباب لنا بغير حجة ولا بيان ولا برهان غير الزور والبهتان؛ إذ نحن غير محتاجين إليهم حسب ما يكون العبيد محتاجين إلى الموالي في تصاريف أمورهم، بل هم محتاجون إلينا مثلما يحتاج الخدم إلى السيد، والله المستعان، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
(18) فصل في بيان حسن طاعة الجن لرؤسائها وملوكها
ثم قال اليعسوب لملك الجن: كيف حسن طاعة الجن لرؤسائها وملوكها؟ قال: أحسن طاعة وأطوع انقياد لأمرها ونهيها، قال: يتفضل الملك ويذكر منها شيئا؟ قال: نعم.
فاعلم أن الجن أخيار وأشرار، ومسلمون وكفار، وأبرار وفجار، كما يكون في الناس من بني آدم، فأما حسن طاعة الأخيار منها لرؤسائها وملوكها ففوق الوصف مما لا يعرفه البشر من بني آدم؛ لأن طاعتها لملوكها كطاعة الكواكب في الفلك للنير الأعظم الذي هو الشمس.
وذلك أن الشمس في الفلك كالملك وسائر الكواكب لها كالجنود والأعوان والرعية ونسبة المريخ من الشمس كنسبة صاحب الجيش من الملك والمشتري كالقاضي، وزحل كالخازن، وعطارد كالوزير، والزهرة كالحرم، والقمر كولي العهد، وسائر الكواكب كالجنود والأعوان والرعية؛ وذلك أنها كلها مربوطة بفلك الشمس، تسير بسيرها في استقامتها ورجوعها ووقوفها واتصالاتها وانصرافاتها، كل ذلك بحسبان لا تتجاوز رسومها ولا تتعدى حدودها وجريان عاداتها في طلوعها وغروبها، وتشريقها وتغريبها، وجميع أحوالها ومتصرفاتها لا يرى منها معصية ولا خلافه.
قال النحل لملك الجن: من أين للكواكب حسن هذه الطاعة والانقياد والنظام والترتيب لملكها؟ قال: من الملائكة الذين هم جنود رب العالمين.
قال: كيف حسن طاعة الملائكة لرب العالمين؟ قال: كطاعة الحواس الخمس للنفس الناطقة.
قال: زدني بيانا. قال: نعم، ألا ترى أيها الحكيم أن الحواس الخمسة في إدراكها محسوساتها وإيرادها أخبار مدركاتها إلى النفس الناطقة لا تحتاج إلى أمر ولا نهي ولا وعد ولا وعيد، بل كلما همت النفس الناطقة بأمر محسوس امتثلت الحاسة لما همت به النفس، وأدركتها وأوردتها إليها بلا زمان ولا تأخير ولا إبطاء.
وهكذا طاعة الملائكة لرب العالمين، الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، الذي هو رئيس الرؤساء، وملك الملوك ورب الأرباب ومدبر الكل وخالق الجميع وأحكم الحاكمين، لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، فسبحان الله رب العالمين.
وأما الأشرار والكفار والفساق من الجن، فإنها أحسن طاعة لرؤسائها، وأطوع انقيادا لملوكها من أشرار الإنس وفجارهم وفساقهم.
والدليل على ذلك حسن طاعة مردة الجن لسليمان - عليه السلام - لما سخرت له فيما كان يكلفها من الأعمال الشاقة والصنائع المتعبة، فيجعلون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب، وقدور راسيات.
ومن الدليل أيضا على حسن طاعة الجن لرؤسائها ما قد عرفه بعض الإنس الذين يسافرون في المفاوز والفلوات أن أحدهم إذا نزل بواد يخاف فيه من لمم الجن، ويسمع دويهم وزجلاتهم فيستعيذ برؤسائها وملوكها، ويقرأ آية من القرآن والإنجيل والتوراة، ويستجير بها عنهم وعن تعرضهم وأذيتهم، فإنهم لا يتعرضون له ما دام في مكانه.
ومن حسن طاعة الجن لرؤسائها أنه إذا تعرض أحد من المردة وشياطين الجن لأحد من بني آدم بتخيل أو فزعة أو تخبط أو لمم، فيستعين المعزم برئيس قبيلة أو ملك أو جنوده، فإنهم يعزمون عليها ويحشرون إليها ويمتثلون ما يأمرهم وينهاهم في صاحبهم.
ومن الدليل أيضا على حسن طاعة الجن وسهولة الانقياد وسرعة إجابتها للداعي لها إجابة نفر من الجن لمحمد - عليه السلام - في ساعة اجتازوا به ووجدوه يقرأ القرآن ووقفوا عليه، فاستمعوه واستجابوه وولوا إلى قومهم منذرين، كما هو مذكور في القرآن من نعتهم في نحو عشرين آية فهذه الآيات والدلالات والعلامات دالات على حسن الطاعة للجن وسهولتها وسرعة انقيادها وإجابتها لمن يدعوها أو يستعين بها خيرا كان أو شرا.
فأما طباع الإنس وجبلتهم فبالضد مما ذكرت؛ وذلك أن طاعتهم لرؤسائهم وملوكهم أكثرها خداع ومكر ونفاق وغرور وطلب للعوض والأرزاق والمكافآت والخلع والمآرب والكرامات، فإن لم يروا ما يطلبون أظهروا العصية والخلاف وخلعوا الطاعة والخروج من الجماعة والعداوة والحرب والقتال والفساد في الأرض.
فهكذا حكمهم مع أنبيائهم ورسل ربهم؛ تارة ينكرون دعوتهم بالجحود، ودفع العيان وحجة الضرورات، ويطلبون منهم المعجزات بالعناد، وتارة الإجابة بالنفاق والشك والارتياب والمكر والدغل والغش والخيانة في السر والجهر، كل ذلك لغلظ طباعهم ورداءة جبلتهم وسوء عاداتهم وسيئات أعمالهم وتراكم جهالاتهم وعمى قلوبهم، ثم لا يرضون حتى يزعمون أنهم أرباب وغيرهم عبيد لهم بلا حجة ولا برهان.
فلما رأت جماعة الإنس طول مخاطبة ملك الجن لليعسوب زعيم الحشرات تعجبت وأنكرت وقالت: لقد خص الملك زعيم الحشرات اليعسوب بكرامة ومنزلة لم يخص بها أحدا من زعماء الطوائف الحضور في هذا المجلس.
فقال لهم حكيم من حكماء الجن: لا تنكروا ذلك ولا تتعجبوا منه، فإن اليعسوب وإن كان صغير الجثة لطيف المنظر ضعيف البنية، فإنه عظيم المخبر جيد الجوهر ذكي النفس كثير النفع مبارك الناصية حكيم الصنعة، وهو رئيس من رؤساء الحشرات وخطيبها وملكها ونبيها والملوك يخاطبون من كان من أبناء جنسهم في الملك والرياسة، وإن كان مخالفا لهم في الصورة، وكانوا متباينين في الملك، ولا تظنوا بأن الملك العادل الحكيم يميل في الحكومة إلى واحدة من الطوائف دون غيرها لهوى غالب أو طبع مشاكل أو ميل لسبب من الأسباب وعلة من العلل.
فلما فرغ حكيم الجن من كلامه نظر الملك إلى الجماعة فقال: سمعتم يا معشر الإنس أمر شكاية هذه البهائم من جوركم وظلمكم، ونحن قد سمعنا ادعاءكم عليها الرق والعبودية وهي تأبى ذلك وتجحده، وطالبتكم بالدليل والحجة على دعواكم، فأوردتم ما ذكرتم وسمعنا ما أجابوكم، فهل عندكم شيء آخر غير ما ذكرتم بالأمس، فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ليكون لكم حجة عليها.
فصل
فلما سمع الإنس جميع ما قال ملك الجن في حقهم قام زعيم من رؤساء الروم فقال: الحمد لله الحنان المنان ذي الجود والإحسان والعفو والغفران، الذي خلق الإنسان وألهمه العلوم والبيان، وبين له الدليل والبرهان، وأعطاه العز والسلطان، وعرفه تصاريف الدهور وتقلب الأزمان، وسخر له النبات والحيوان، وعرفه منافع المعادن والأركان.
نعم أيها الملك، لنا خصال محمودة ومناقب جمة تدل على ما قلنا وذكرنا.
قال الملك: وما هي؟ قال الرومي: كثرة علومنا وفنون معارفنا ودقة تمييزنا وجودة فكرنا ورويتنا وسياستنا وتدبيرنا وعجيب متصرفاتنا وصلاح معائشنا ومعاونتنا في الصنائع والتجارات والحرف في أمور دنيانا وآخرتنا، كل ذلك دليل على ما قلنا إنا أرباب لهم وهم عبيد لنا.
قال الملك للجماعة الحضور من الحيوانات: ما تقولون فيما ذكروا واستدلوا على ما ادعوا عليكم من الربوبية والتملك؟
فأطرقت الجماعة ساعة متفكرة فيما ذكر الإنسي من فضائل بني آدم، وما أعطاهم الله من جزيل المواهب التي خصوا بها من بين سائر الحيوان.
ثم تكلم النحل وقام خطيبا مذكرا مسبحا، وقال: الحمد لله الواحد فاطر السموات، وخالق المخلوقات ومدبر الأوقات ومنزل القطرات والبركات، ومنبت العشب في الفلوات، ومخرج الزهر من النبات وقاسم الأرزاق والأقوات، نسبحه في صباحنا بالغدوات، ونحمده في رواحنا بالعشيات بما عملنا من الصلوات والتحيات كما قال الله تعالى: @QUR010 وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم.
أما بعد؛ أيها الملك العادل، يزعم هذا الإنسي بأن لهم علوما ومعارف وفكرا وروية وتدبيرا وسياسة تدل على أنهم أرباب لنا، ونحن عبيدهم، فلو أنهم فكروا في أمرنا واعتدوا أيضا أحوالنا لبان لهم من أمرنا وعرفوا من تصاريف أحوالنا وتعاوننا في إصلاح شأننا أن لنا أيضا علما وفهما ومعرفة وتمييزا وفكرا وروية وسياسة وتدبيرا أدق وألطف وأحكم وأتقن مما لهم.
فمن ذلك اجتماع جماعة النحل في قراها وتمليكها عليها رئيسا واحدا واتخاذ ذلك الرئيس أعوانا وجنودا ورعية، وكيفية مراعاتها وسياساتها وكيفية اتخاذها المنازل والبيوت المسدسات المتجاورات المكتفات من غير بركار ومعرفة هندسة، كأنها أنابيب مجوفة مسدسة، ثم كيفية ترتيبها البوابين والحجاب والحراس والمحتسبين، وكيف تذهب إلى المرعى أيام الربيع وليالي القمر في الصيف، وكيف تجمع الشمع بأرجلها من ورق الأشجار والعسل بمشافيرها من زهر النبات، ثم كيف تخزنها في بعض البيوت، وكيف تشد رأسها كأنها رءوس البراقي مشدودة بالقراطيس، وكيف تبيض في بعض البيوت وتحضن وتفرخ، وكيف تأوي في بعض البيوت وتنام فيها أيام الشتاء والصيف والبرد والرياح والأمطار، وكيف يقتاتون من ذلك العسل المخزون هي وأولادها يوما بيوم لا إسرافا ولا تقتيرا إلى أن تنقضي أيام الشتاء، وتجيء أيام الربيع وينبت العشب ويطيب الزمان ويخرج النبات والزهر والنور، وكيف ترعى كما كانت عام الأول؟ وذلك دأبها من غير تعليم من الأستاذين ولا تأديب من المعلمين ولا تلقين من الآباء والأمهات بل تعليما من الله - تعالى - ووحيا إلهاما وإنعاما وتكرما وتفضلا علينا، وأنتم يا معشر الإنس تدعون علينا بالرق وأنتم موالينا، فلم ترغبوا في فضائلنا وتفرحوا عند وجداننا وتستشفوا عند تناولنا، فمن كان ملكا كيف يحرص ويرغب في فضالة الخدم والخول؟ ونحن مستغنون عنكم، فليس لكم سبل إلى هذه الدعوات إذ الدعوى زور وبهتان.
وأيضا أيها الملك، لو علم الإنسي من حال النمل وكيف تتخذ القرية تحت الأرض منازل وبيوتا وأزقة ودهاليز وغرفا وطبقات منعطفات، وكيف تملأ بعضها حبوبا وذخائر وقوتا للشتاء، وكيف تجعل بعض بيوتها منخفضا مصونا كي لا تجري إليها المياه وبعضها مرتفعا، تخبئ الحب والقوت في بيوت منعطفات إلى فوق حذرا عليها من المطر، وإذا ابتل منها شيء كيف تنشره أيام الصحو، وكيف تقطع حب الحنطة نصفين وكيف تقشر الشعير والباقلا والعدس لعلمها بأنه لا ينبت مع التقشير، وتراها كيف تعمل أيام الصيف ليلا ونهارا باتخاذ البيوت وجمع الذخائر، وكيف ننصرف في الطلب يوما يمنة ويوما يسرة في القرية، كأنها قوافل ذاهبين وجائين وأنها إذا ذهبت واحدة منها فوجدت شيئا لا تقدر على حمله أخذت منه قدرا ما، وذهبت راجعة مخبرة للباقين، وكلما استقبلتها واحدة شاممتها مما في فيها لتدلها على ذلك الشيء.
ثم ترى كيف تدل كل واحدة منها على هذا الطريق الذي جاءته من هناك، ثم كيف تجتمع على ذلك الشيء جماعة منها، وكيف يحملونه ويحترزونه بجهد وعناء في المعاونة.
وإذا علمت أن واحدة منها توانت في العمل أو تكاسلت في التعاون اجتمعت على قتلها ورمت بها عبرة لغيرها، فلو تفكر الإنسي في أمرها واعتبر أحوالها لعلم أن لها علما وفهما وتمييزا ومعرفة ودراية وتدبيرا وسياسة مثل ما لهم ولما افتخر علينا بما ذكر.
وأيضا أيها الملك لو تفكر الإنسي في أمر الجراد أنها إذا سمنت أيام الربيع من الرعي كيف تطلب أرضا طيبة التربة رخوة الحفرة، وكيف تنزل هنالك وتحفر بأرجلها ومخاليبها، وتدخل أذنابها في تلك الحفرة وتطرح بيضها فيها وتدفنه، ثم طارت وتعيش أياما ثم تأكلها الطيور ويموت من بقي ويهلك من حر وبرد وتطير.
ثم إذا دارت عليها الحول وجاءت أيام الربيع واعتدل الزمان وطاب الهواء، فكيف ينشر من ذلك البيض المدفون مثل الدبيب الصغار على وجه الأرض وأكلت من ورق الشجر وسمنت وباضت مثل عام أول، وهذا دأبها، وذلك تقدير العزيز العليم.
فليعلم هذا الإنسي أن لنا علما ومعرفة.
وهكذا أيضا أيها الملك دود القز التي تكون على رءوس الأشجار والجبال، فإنها إذا شبعت من الرعي في أيام الربيع، وسمنت أخذت تنسج على نفسها من لعابها في رءوس الجبال شبه العش والكن ثم تنام أياما معلومة، فإذا انتبهت طرحت بيضها في داخل ذلك الكن الذي نسجته على أنفسها، ثم ثقبتها وخرجت منها وسدت ذلك الثقب، وخرجت لها أجنحة، وطارت فيأكلها الطير أو ماتت من الحر والبرد والريح والمطر، وبقي ذلك البيض في تلك الجوزات محروزا أيام الصيف والخريف والشتاء من الحر والبرد والرياح والأمطار إلى أن يحول الحول، وتجيء أيام الربيع، ويحضن ذلك البيض في الجوازات، ويخرج في ذلك الثقب مثل الدبيب الصغار، وتدب على ورق الشجر أياما معلومة، فإذا شبعت وسمنت أخذت ونسجت على نفسها من لعابها مثل العام الأول، وذلك دأبها أبدا، وذلك تقدير العزيز العليم الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى إلى أمور مصالحها ومنافعها.
وكذلك أيضا أيها الملك حال الزنانير الصفر والحمر والسود، فإنها تبني أيضا منازل في السقوف والحيطان، ومن بين أغصان الأشجار مثلما يفعل النحل، وتبيض وتفرخ ولكنها لا تجمع القوت للشتاء، ولا تدخر للغد شيئا، ولكن تتقوت يوما بيوم ما طاب لها الوقت، فإذا أحست بتغيير الزمان ومجيء الشتاء ذهبت إلى الأغوار والمواضع الكنينة الدفئة.
ومنها ما يدخل في ثقب الحيطان والمواضع الكنينة الحصينة، وينام فيها أياما طول الشتاء، وإذا جاء الربيع واعتدل الزمان وطاب الهواء نفخ الله - تعالى - فيما سلم من تلك الجثة روح الحياة، فعاشت وبنت البيوت وباضت وحضنت أولادها مثل العام الأول، فهذا دأبها، تقدير العزيز العليم.
وكل هذه الأنواع من الحشرات والهوام تبيض وتحضن وتربي أولادها بعلم ومعرفة ودراية وشفقة ورحمة ورأفة وتحنن ولطف ورفق، ولا تطلب من أولادها البر والمكافأة والجزاء.
فأما أكثر الإنس فيريدون من أولادهم برا وصلة وجزاء ومكافأة ويمنون عليها في تربيتهم إياهم، وأين هذا من المروءة والفضل والكرم والجود والسخاء الذي هو من شيم الأحرار الكرام من أرباب الفضل، وبماذا يفتخر الإنس علينا؛ إذ ألذ مأكولاتهم فضالتنا، وأحسن ملبوساتهم فضالة دود القز، فهم في مأكولاتهم وملبوساتهم تحت مننا، ولنا أبدا النعمة عليهم، فكيف يدعون أنهم أرباب لنا، ونحن عبيد لهم؟!
ثم قال النحل: أما البراغيث والبق والديدان وما شاكلها من أبناء جنسها، فإنها لا تبيض ولا تحضن ولا تلد ولا ترضع ولا تربي أولادها، ولا تبني البيوت ولا تدخر العشب ولا تتخذ الكن، بل تقطع أيام حياتها مرفهة ومستريحة مما يقاسي غيرها من برد الشتاء والرياح والأمطار وحوادث الزمان.
وإذا تغير عليها الزمان واضطرب الكيان، وتغالبت طبائع الأركان أسلمت نفسها للنوائب والحدثان وانقادت للممات لعلمها يقينا بالمعاد، وتعلم أن الله - تعالى - منشئها ومعيدها في العام القابل للكون كما أنشأها أول مرة، ولا تقول ولا تنكر كما أنكر الإنس وقالت: @QUR015 أئنا لمردودون في الحافرة * أئذا كنا عظاما نخرة * قالوا تلك إذا كرة خاسرة.
فلو اعتبر هذا الإنسي أيها الملك فيما ذكرت من هذه الأشياء من تصاريف أمور هذه الحشرات والهوام لعلم وتبين له بأن لها علما وفهما ومعرفة وتمييزا ودراية وفكرا وروية وسياسة وتدبيرا، كل ذلك عناية من الباري - تعالى - ولما افتخر علينا فيما ذكر أنهم أرباب ونحن عبيد لهم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
فلما فرغ النحل من كلامه قال له الملك: بارك الله فيك من حكيم، ما أعلمك! ومن خطيب، ما أفصحك! ومن مبين، ما أبلغك!
فصل
ثم قال الملك: يا معشر الإنس، قد علمتم وسمعتم ما قال، وفهمتم ما أجاب، فهل عندكم شيء آخر؟
فقام إنسي آخر أعرابي وقال: نعم أيها الملك، لنا خصال ومناقب تدل على أننا أرباب وهم عبيد لنا، قال الملك: هات واذكر منها شيئا، قال: نعم، وما هي؟
قال: طيب حياتنا ولذيذ عيشنا وطيبات مأكولاتنا من ألوان الطعام والشراب والملاذ مما لا يحصي عددها إلا الله - تعالى - وما لهؤلاء معنا شركة فيها، بل هي بمعزل عنها، وذلك أن طعامنا لب الثمار ولها قشورها ونواها وحطبها، ولنا لباب الحبوب ولها تبنها وورقها، ولنا شيرجها ودبسها ولها كنسها وخشبها، ولنا بعد ذلك ألوان الخبز والرغفان والأقراص والجرادق من السميد والمتلون والكعك وغيرها، ولنا ألوان الطبيخ من السكباج والأسفيداج والفطائر والهرائس والجواديت وألوان الكواسيج وغيرها من الرواصين وألوان الأشربة وألوان الشوي والحلوى والخبيص والقطائف واللوزينج.
ولنا ألوان الأشربة من الخمر والنبيذ الخالص الجيد والقارص والسكنجبين والجلاب والفقاع، وألوان الألبان من الحليب والرائب والماست والدوغ والسمن والزبد والكشك والمصل، وما يعمل منها من ألوان الطبيخ والملاذ والطيبات والمشتهيات، ولا يحصي كثرة ذلك إلا الله - تعالى - وكل ذلك عنهم بمعزل، وخشونة طعامهم وغلظها وجفافها وقلة الرائحة الطيبة منها وقلة دسومتها وحلاوتها دليل على قلة لذتهم منها، وهذه الخصال للعبيد، وتلك حال أرباب النعم الأحرار الكرام، وكل هذا دليل على أننا أرباب لهم، وهم عبيد وخول لنا، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
فصل
فنطق عند ذلك زعيم الطيور وهو الهزار داستان، وكان قاعدا على غصن شجرة يترنم فقام وقال: الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد القديم الأبد الدائم السرمد بلا شريك ولا ولد، بل هو مبدع المبدعات وخالق المخلوقات وعلة الموجودات ومسبب الكائنات من الجمادات والنباتات وبارئ المبروآت مركب السموات ومولد المولدات كيف شاء وأراد.
واعلم أيها الملك الكريم أن هذا الإنسي افتخر بطيب مأكولاتهم ولذيذ مشروباتهم، ولا يدري أن ذلك كله عقوبات لهم وأسباب الشقاوة وعذاب أليم؛ إذ في حرامها عذاب وفي حلالها حساب، وهم فيما بينهما من الخوف والرجاء.
قال الملك: وكيف ذلك؟ بين لنا.
قال: نعم، وذلك أنهم يجمعون ذلك ويحصلونه بكد أبدانهم وتعب نفوسهم وجهد أرواحهم، وعرق جبينهم وما يلقون في ذلك من الشقاوة والهوان مما لا يعد ولا يحصى من كد الحرث والزرع وإثارة الأرض وحفر الأنهار وسد الشق وعمل البريدات ونصب الدواليب وجذب الغروب والسقي والحفظ والنظافة والحصاد والحمل والجمع والدراس والتذرية والكيل والقسمة والوزن والطحن والعجن والخبز وبناء التنور ونصب القدور وجمع الحطب والشوك والسرقين ووقود النيران ومقاسات الدخان وبناء الديكدان ومعاكسة القصاب ومحاسبة البقال والجهد والعناء في اكتساب الأموال والدراهم، وتعلم الصنائع والمكاسب المتعبة للأبدان والأعمال الشاقة على النفوس والمحاسبات والتجارات والذهاب والمجيء في الأسفار البعيدة في طلب الأمتعة والحوائج والجمع والادخار والاحتكار والإنفاق بالتقدير مع مقاساة البخل والشح.
فإن كان جمعها من حلال وأنفقها في وجه الله فلا بد من الحساب، وإن كان من غير حل وإنفاقه في غير وجه الله، فالويل والحساب والعذاب؛ إذ لا بد من القوت والثياب مثلما لا بد من الموت والحساب.
ونحن بمعزل من هذه كلها، وذلك أن طعامنا وغذاءنا هو مما يخرج لنا من الأرض من أمطار سمائها من ألوان البقول الرطبة والخضرة النضرة اللينة والحشائف والعشب ومثل ألوان الحبوب اللطيفة المكنونة في غلفها وسنبلها وقشرها، ومن ألوان الثمار المختلفة الأشكال وأنواع الطعوم والروائح الزكية والأوراق الخضرة النضرة والأزهار والرياحين في الرياض، وتخرجها لنا الأرض حالا بعد حال وسنة بعد سنة بلا كد ولا تعب أبداننا ولا عناء من نفوسنا ولا نصب من أرواحنا، ولا نحتاج إلى كد حراث ولا عناء ولا سقي متعب لأرواحنا، ولا نحتاج إلى بذر ولا حصاد ولا دراس ولا طحن ولا خبز ولا طبخ ولا شواء، وهذه كلها علامات الكرام الأحرار.
وأيضا إذا أكلنا قوتنا يوما بيوم تركنا ما يفضل عنا بمكانه لا نحتاج إلى حفظه، ولا نحتاج إلى خازن ولا ناطور ولا حارس ولا احتكار إلى وقت آخر، بلا خوف لص ولا قاطع طريق، ننام في أماكننا وأوطاننا، أوكارنا بلا باب ولا غلق ولا حصن آمنين مطمئنين مودعين مستريحين، وهذه علامات الأحرار وأنتم عنها بمعزل.
وأيضا فإن لكم بكل لذة ذكرتم من فنون مأكولاتكم وألوان مشروباتكم فنونا من العقوبات، وألوانا من العذاب مما نحن بمعزل عنه من الأمراض المختلفة والأعلال المزمنة والأسقام المهلكة والحميات المحرقة من الغب والربع والثانية والثالثة والرابعة والتخم والجشأ الحامض والهيضة والقولنج والنقرس والبرسام والسرسام والطاعون واليرقان والدبيلان والسل والجذام وذات الجنب والبرص والسكتة والصداع والسكرة والرمل وعسر البول والجرب والجدري والثواليل والدماميل والخنازير والحصبة والجراحات وأصناف الأورام مما تحتاجون فيها إلى أنواع عذاب المعالجات من الكي والبتر والحقنة والسعوطات والحجامة والفصد وشرب الأدوية المسهلة الكريهة الرائحة ومقاساة الحمية وترك الشهوات المركوزة في الجبلة وما شاكل هذه من ألوان العذاب والعقوبات المؤلمات للأنفس والأرواح والأجساد.
كل ذلك أصابكم لما عصيتم ربكم وتركتم طاعته ونسيتم وصيته، فإن أول الناس آدم: @QUR04 وعصى آدم ربه فغوى. «إن الإنسان كان ظلوما جهولا»، ونحن بمعزل عن هذه كلها، فمن أين زعمتم أنكم أرباب ونحن عبيد؟ لولا الوقاحة والمكابرة وقلة الحياء، وأنتم ما دمتم في الحياة صحيحي البدن ففي تعب وكد لتحصيل الالتماسات والمشتهيات، وما دمتم مرضى ففي عقوبة وحسرة وبعد الموت في العقاب والعذاب والخطاب ووقوف الحساب، ونحن فارغون من هذه الجملة، فمن الموالي ومن العبيد منا ومنكم؟!
قال الإنسي: قد يصيبكم يا معشر الحيوان من الأمراض مثل ما يصيبنا، ليس يخصنا دونكم، قال زعيم الطيور: إنما يصيب ذلك من يخالطكم منا من الحمام والديك والدجاج والبهائم والأنعام، أو من هو أسير في أيديكم ممنوع عن التصرف برأيه في أمر مصالحه، فأما من كان منا مخليا برأيه وتدبيره لمصالحه وسياسته ورياضته لنفسه فقل ما تعرض له الأمراض والأوجاع؛ وذلك أنها لا تأكل ولا تشرب إلا وقت الحاجة بقدر ما ينبغي من أجل ما ينبغي من لون واحد قدر ما يسكن ألم الجوع ثم تستريح وتنام وتروض وتمنع من الإفراط في الحركة والسكون في الشمس الحارة أو في الظلال الباردة أو السكون في البلدان الغير الموافقة لطباعها أو أكل المأكولات غير الملائمة لمزاجها.
فأما الذي يخالطونكم من الكلاب والسنانير ومن هو أسير في أيديكم من البهائم والأنعام ممنوع من التصرف برأيه في مصالحه في أوقات ما تدعوها طباعها المركوزة في جبلتها، وتطعم وتسقى في غير وقته أو غير ما تشتهي أو من شدة الجوع والعطش تأكل أكثر من مقدار الحاجة، ولا تترك أن تروض نفسها كما يجب، بل تستخدم وتتعب أبدانها فتعرض لها بعض الأمراض من نحو ما يعرض لكم، وهكذا حكم أمراض أطفالكم وأوجاعهم؛ وذلك أن الحوامل من نسائكم وجواريكم المرضعات يأكلن ويشربن بشرههن وحرصهن أكثر ما ينبغي من ألوان الطعام والشراب التي ذكرت وافتخرت بها، فتتولد في أبدانهن من ذلك أخلاط غليظة متضادة الطباع، فيؤثر ذلك في أبدان الأجنة التي في بطونهن، وفي أبدان أطفالهن من ذلك اللبن الرديء، ويصير سببا للأمراض والعلل والأوجاع من الفالج واللقوة والزمانة واضطراب البنية وتشويه الخلق وسماجة الصورة.
وما ذكرت من اختلاف الأوجاع والأمراض مما أنتم مرتهنون بها معرضون لها، وما يعقبها من موت الفجأة وشدة النزع وما يعرض لكم من ذلك من الغم والحزن والنوح والبكاء والصراخ والمصائب، وكل ذلك عقوبة لكم وعذاب لأنفسكم من سوء أعمالكم ورداءة اختباراتكم، ونحن بمعزل من هذه كلها.
وشيء آخر ذهب عليكم أيها الإنسي التائه النظر فيه، قال: ما هو؟ قال: إن أطيب ما تأكلون وألذ ما تشربون وأنفع ما تتداوون به هو العسل وهو لعاب النحل، وليس منكم بل من الحشرات، فبأي شيء تفتخرون به علينا؟ وقد كان آباؤنا مشاركين فيه لآبائكم بالسوية أيضا أيام كانوا في ذلك البستان الذي بالمشرق على رأس ذلك الجبل، فكانوا يأكلون من تلك الثمار والحب بلا كد ولا تعب ولا عناء ولا عداوة بينهم ولا حسد ولا استئثار ولا جني ولا ادخار ولا حرص ولا بخل ولا خوف ولا هم ولا غم ولا حزن حتى تركا وصية ربهما واغترا بقول عدوهما وعصيا ربهما وأخرجا من هنالك عريانين مطرودين، ورميا من رأس ذلك الجبل إلى أسفله، فوقعا في برية قفر، لا ماء فيها ولا شجر، ولا كن، فبقيا فيها جائعين عريانين يبكيان على ما فاتهما من النعم التي كانا فيها هناك.
ثم إن رحمة الله تداركتهما، فتاب عليهما، وأرسل إليهما من هناك ملكا يعلمهما الحرث والزرع والحصاد والدراس والطحن والخبز واتخاذ اللباس من حشيش الأرض والقطن والكتان والقصب بعناء وتعب وجهد وشقاء لا يحصي عددها إلا الله مما قد ذكرنا طرفا منها من قبل.
فلما توالدت وكثرت أولادهما وانتشروا في الأرض برا وبحرا، وسهلا وجبلا، وضيقوا على سكان الأرض من أصناف هذه الحيوانات أماكنها وغلبوها على أوطانها وأخذوا منها ما أخذوا وأسروا منها ما أسروا، وهرب منها ما هرب وطلبوها أشد الطلب وبغيتم عليها وطغيتم، حتى بلغ الأمر إلى هذه الغاية التي أنتم عليها الآن من الافتخار والمناظرة والمنازعة والمخاصمة.
وأما الذي ذكرت بأن لكم مجالس اللهو واللعب والفرح والسرور وما ليس لنا من الأعراس والولائم والرقص والحكايات المضحكات والتحيات والتهنئات والمدح والثناء والحلي والتيجان والأسورة والخلاخل وما شاكلها مما نحن بمعزل عنه، فإن لكم أيضا بكل خصلة منها ضروبا من العقوبات وفنونا من المصائب وعذابا أليما مما نحن بمعزل عنه.
فمن ذلك أن لكم بإزاء الأعراس المآتم، وبدل التهنئة التعزية، وبدل الألحان والغناء النوح والصراخ، وبدل الضحك البكاء، وبدل الفرح والسرور الغم والحزن، وبدل المجالس والإيوانات العالية المضيقة من القبور المظلمة والتوابيت الضيقة المظلمة، وبدل الحصون الواسعة الحبوس والمطامير الضيقة المظلمة، وبدل الرقص الدسبندان والسياط والعذاب والضرب والعقاب، وبدل الحلي والتيجان والخلاخيل والأسورة القيود والأغلال والسوامير والمقاطير والنكال وما شاكل المدح والثناء الهجو والشتم وسوء الثناء، وبدل كل حسنة سيئة، وبدل كل لذة ألم، وبدل كل نعمة بؤس، وبدل كل فرح غم وهم وحزن ومصيبة مما نحن بمعزل عنه، وهذه كلها من علامات الأشقياء، وإن لنا بدلا من مجالسكم وصحوناتكم وإيواناتكم ومنادمتكم هذا الفضاء الفسيح، وهذا الجو الواسع والرياض والخضرة على شطوط الأنهار وسواحل البحار والطيران على رءوس البساتين والأشجار والتحليق على رءوس الجبال نسرح ونروح حيث نشاء من بلاد الله الواسعة، ونأكل من رزق الله الحلال من غير تعب وكد ألوان الحبوب والثمار نجدها من غير أذية أحد، ونشرب من مياه الغدران والأنهار بلا مانع ولا دافع، ولا نحتاج إلى حبل ولا إلى دلو ولا إلى كوز ولا قربة مما أنتم مبتلون به من حملها وإصلاحها وبيعها وشرائها أو جمع أثمانها بكد ونصب وتعب ومشقة من الأبدان وعناء النفوس وهموم القلوب وهموم الأرواح، وكل ذلك من علامات العبيد الأشقياء، فمن أين ثبت أنكم أرباب ونحن عبيد لكم؟!
ثم قال الملك لزعيم الإنس: قد سمعتم الجواب، فهل عندكم شيء آخر من البيان؟ قال: نعم، لنا فضائل ومناقب تدل على أن هؤلاء عبيد لنا، ونحن أرباب، قال الملك: ما هو؟ فهات البيان والبرهان!
فصل
فقام رجل من أهل العراق عبراني وقال: الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين @QUR019 إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين * ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم، وهو الذي أكرمنا بالوحي والنبوات والكتب المنزلات والآيات المحكمات، وما فيها من ألوان الحلال والحرام والحدود والأحكام والأوامر والنواهي والترغيب والترهيب من الوعد والوعيد والمدح والثناء والتذكار والأخبار والأمثال والاعتبار وقصص الأولين والآخرين وصفات يوم الدين، وما وعدنا من الجنان والنعيم، وما أكرمنا به أيضا من الغسل والطهارة والصوم والصدقة والزكاة والأعياد والجمعات والذهاب إلى بيت العبادات والمساجد والبيع والصلوات.
ولنا المنابر والخطب والأذان والمواقيت والإفاضات والإحرام والتلبيات والمناسك وما شاكلها.
وكل هذه الخصال كرامات لنا، وأنتم بمعزل عنها، وكل ذلك دليل على أننا أرباب وأنتم لنا عبيد.
قال زعيم الطيور: لو تذكرت أيها الإنسي ونظرت واعتبرت لعلمت وتبين لك أن هذه كلها عليكم لا لكم.
قال الملك: كيف ذلك؟ بينه لنا! قال: لأنها كلها عذاب وعقوبات وغفران للذنوب ومحو للسيئات ونهي عن الفحشاء والمنكر، كما ذكر الله - تعالى - بقوله: @QUR06 إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وقال: @QUR07 إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين، وقال النبي عليه السلام: «صوموا تصحوا.» ونحن برآء من الذنوب والسيئات والفحشاء والمنكر، فلم نحتج إلى شيء مما ذكرت وافتخرت.
واعلم أيها الإنسي أن الله - تعالى - لم يبعث رسله ولا أنبياءه إلا إلى الأمم الكافرة الجاهلة وعامة المشركين معه غيره والمنكرين ربوبيته والجاحدين وحدانيته والمدعين معه إلها آخر؛ إذ قولكم: إن الله ثالث ثلاثة، وقولكم: عزير ابن الله، وقولكم: مسيح ابن الله، وقولكم: إن الله - تعالى - على صورة شاب أمرد له جعد قطط.
فمن هذه الخرافات والمجازات التي تجيء منكم وأنتم المغيرون أحكامه والعاصون أوامره، والهاربون من طاعته، والجاهلون إحسانه، والغافلون عن ذكره، والناسون عهده وميثاقه، والضالون المضلون الغاوون العادلون عن الصراط المستقيم.
فلهذا بعث الأنبياء والرسل إليكم ليعرفوكم طريق الهدى وسبيل الرشاد إما طوعا أو جبرا أو جهرا، بل قتلا وصلبا، ونحن برآء من هؤلاء؛ لأننا عارفون بربنا مسلمون مؤمنون به موحدون به غير شاكين ولا ممترين ولا ضالين.
ثم اعلم أيها الإنسي أن الأنبياء - عليهم السلام - هم أطباء النفوس ومنجموها، ولا يحتاج إلى الطبيب إلا المرضى وصاحب العلة المزمنة، ولا يحتاج إلى المنجم إلا المنحوسون الأشقياء والضالون عن نجم الهدى، كما قال عليه السلام: «إن مثل أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم.»
ثم اعلم أيها الإنسي أن الغسل والطهارة إنما فرضت عليكم من أجل ما يعرض لكم عند النكاح من الجماع وشدة الشبق وشهوة الزنا واللواط والجلق والبغا والسحق، ومن نتن الصييان والبخر ورائحة العرق، لاستكنارها واستعمالها ليلا ونهارا وغدوا ورواحا ضحوة وبكرة، ونحن بمعزل عنها، لا نهيج ولا نسفد إلا في السنة مرة، لا لشهوة غالبة ولا لذة داعية ولكن لبقاء النسل.
وأما الصوم والصلاة فإنما هي فرضت عليكم ليكفر عنكم سيئاتكم من الغيبة والنميمة والقبيح من الكلام واللعب واللهو والهذيان، فالأنبياء - عليهم السلام - يعالجونكم بهذه المداواة؛ إذ أنتم مرضى من المعاصي، ونفوسكم قد امتلأت من مأكولات الذنب ومشروبات النميمة والغيبة، وهي تناول لحوم الإخوان، فأمر الشريعة بالحمية عن المأكولات الرديئة المضرة والحمية هو الصوم؛ لأن الحمية رأس الدواء والبطن رأس الداء.
ثم لما نظر الأنبياء في أحوالكم وعصيانكم في الليل والنهار وتناول طعام الذنوب والشكوك ومشروبات الظنون الكاذبة بالله، فأمروكم بالحركات المختلفة الأشكال لتستمري عنكم تلك المتناولات والحركات المختلفة الأشكال هي: الصلاة الخمس؛ لأن الطبيب يأمر بحركات وخطوات من الأعلى إلى الأسفل، ومن الأسفل إلى الأعلى، وعلى وجه الأرض بعد ثقل الطعام على المعدة وتناول الأشياء الثقيلة في الليالي ونحن برآء من جميع ذلك، وبمعزل عنه، فلم يجب الصوم ولا الصلاة ولا فنون العبادات علينا.
وأما الصدقات والزكوات إنما فرضت عليكم من أجل أنكم تجمعون من فصول الأموال من الحلال والحرام والغصب والسرقة واللصوصية من البخس في الكيل والموازين وكثرة الجمع والذخائر والإمساك عن النفقة في الواجبات، فضلا عن المسنونات والبخل والشح والاحتكار ومنع الحقوق، وتجمعون ما لا تأكلون، وتكنزون ما لا تحتاجون إليه، @QUR012 والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم، فلو أنكم كنتم تنفقون ما فضل عنكم على فقرائكم وضعفائكم لما وجبت عليكم الزكوات والصدقات، ونحن بمعزل عنها؛ إذ كنا مشفقين على أبناء جنسنا، ولا نبخل بشيء مما وجدنا من الأرزاق، ولا ندخر من الذخائر مما فضل علينا، بل نطير جائعين متكلين على الله - تعالى - ونرجع بحمد الله مشبعين.
وأما الذي ذكرت بأن لكم في الكتب آيات محكمات بينات للحلال والحرام والحدود والأحكام، فكل ذلك تعليم لكم وتأديب لجهلكم وعماكم وقلة معرفتكم بالمنافع والمضار، وإن الإنسان كان ظلوما جهولا، تحتاجون إلى المعلمين والأستاذين والمذكرين والواعظين لكثرة غفلاتكم وسهوكم ونسيانكم.
وإنما مبين لكم الحلال والحرام لأن الحرام مثل طعام حار جدا يتضرر بتناوله من غلبت عليه الحرارة، وهو شاب ابن ثلاثين سنة، ويسكن في البلدان الحارة جدا في أكثر الأوقات أن يوقعه في هاوية البلى أو في البلى أو في جهنم الدق والذبول، ويصير مثل ما سقوا ماءا حميما فقطع أمعاءهم.
والحلال مثل طعام خفيف الجرم كثير الفائدة صالح الكيموس كثير الغذاء ينتفع بتناوله من كان مزاجه معتدلا، وهو صحيح البنية ويسكن في البلدان الشريفة عند خط الاستواء الصراط المستقيم، ففي أكثر الأمر أن من هذا شأنه ودأبه يبقى مدة مديدة في جنة الصحة ودار السلام من اعتدال البنيان ودار النعيم وقلة الأمراض، فانتبه أيها الإنسي من نوم الغفلة ورقدة الجهالة.
واعلم أن هذه الإحكامات والموضوعات قيود وأغلال وسلاسل عليكم؛ إذ الحكمة الإلهية اقتضت هذه الأسرار الواجبة وجعل الموضوعات الشرعية والحكمية أستاذا ومؤدبا لكم، ونحن بمعزل عن جميع ذلك؛ إذ قد ألهمنا الله - تعالى - إلى جميع ما نحتاج إليه من أول الأمر إلهاما ووحيا بلا واسطة من الرسل، ولا نداء من وراء حجاب كما أوحى إلى النحل بقوله تعالى: @QUR09 وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا، وكما قال تعالى: @QUR05 كل قد علم صلاته وتسبيحه، وعلم سليمان منطق الطير.
فافهم أيها الغافل الإنسي، وقال : @QUR026 فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين. من عمى قلبه لا نادما على ذنبه وخطيئته.
وأما الذي ذكرت بأن لكم أعيادا وجمعات وذهابا إلى بيوت العبادات، وليس لنا شيء من ذلك.
فاعلم أنكم لو كنتم مهذبي الأخلاق معاوني الإخوان عند المضائق والشدائد وكنتم كنفس واحدة في مصالح أموركم لما وجب عليكم الأعياد واجتماع الجمعات؛ لأن صاحب النواميس اقتضى هذا لتجتمع الناس بعد غيبتهم بعضهم إلى بعض، حتى يحصل من اجتماعهم الصداقة؛ إذ الصداقة أس الأخوة، والأخوة أس المحبة، والمحبة أس إصلاح الأمور، وإصلاح الأمور صلاح البلاد، وصلاح البلاد بقاء العالم وبقاء النسل.
فلهذا أمرت الشريعة أن يجتمع الخلائق في السنة مرتين إلى موضع مخصوص، وفي كل أسبوع مرة إلى مواضع مخصوصة، وفي كل يوم خمس مرات في مساجد المحال والسوق ليحصل الغرض المطلوب.
فلهذه الأسرار قال سيد المرسلين: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد.» وليس لنا شيء من ذلك؛ لأننا لا نحتاج إلى ذلك؛ لأن الأماكن كلها لنا مساجد والجهات كلها قبلة أينما توجهنا، فثم وجه الله، والأيام كلها لنا جمعات وعيد، والحركات كلها صلوات وتسبيح، فلم نحتج إلى شيء مما ذكرت؛ إذ الصلاة عبارة عن طهارة القلوب من خبث الحقد ونجاسة الشك والتقرب إلى الله - تعالى - بخالص النية وصحة الاعتقاد والتوجه إلى قبلة الأمر بالمعروف والقيام بمصالح المؤمنين والقعود عن العداوة والبغضاء والركوع والسجود بالتواضع والحلم والتشهد مع الإخوان الأبرار، والتسليم من الجهل.
فإذا حصلت هذه الأفعال المخصوصة تسمى صلاة، ونحن مشتغلون بهذه أينما تولوا، فثم وجه الله، ونكون مجتمعين في جميع أوقاتنا، ولا نشتغل بأذية أبناء جنسنا، ونكون قائمين بمصالح الإخوان، وقاعدين عن الشتم والمفسدة، وراكعين بالخضوع مع الإنسان وساجدين بالتواضع لهم عند لقط الحبوب، فهذه خصائلنا.
فلهذا ما وقت علينا الجمعات والأعياد، والأيام كلها لنا أعياد وجمعات، والحركات كلها لنا صلاة وتسبيح، فلم نحتج؛ إذ لسنا محتاجين إلى شيء مما ذكرتم وافتخرتم بذلك علينا.
فلما فرغ زعيم الطيور من كلامه نظر الملك إلى جماعة الإنس الحاضرين قال: قد سمعتم ما قال الطير وفهمتم ما ذكر، فهل عندكم شيء آخر؟ فاذكروه وبينوه إن كنتم صادقين!
فصل
وقام عند ذلك العراقي، وقال: الحمد لله خالق الخلق وباسط الرزق وسابغ النعم الذي أكرمنا وأنعم علينا في البر والبحر، وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلا، نعم أيها الملك، لنا خصال أخر ومناقب ومواهب وكرامات تدل على أننا أرباب لهم وهم عبيد لنا، فمن ذلك: حسن لباسنا، ولين ثيابنا، وستر عوراتنا، ووطاء فرشنا، ونعومة دثارنا، ودفء غطائنا، ومحاسن زينتنا من الحرير والديباج والخز والقز والقطن والكتان والسمور والسجاب وألوان الفراء والأكسية من البسط والأنطاع والمخاد والفرش واللبود والبربولي، وما شاكلها مما لا يعد كثرته، وكل هذه المواهب دليل على ما قلنا بأننا أرباب لهم، وهم عبيد لنا، وخشونة لباسها وغلظ جلودها وسماجة دثارها، وكشف عوراتها دليل على أنها عبيد لنا ونحن أربابها وملاكها، ولنا أن نحتكم فيها بحكم الأرباب ونتصرف فيها تصرف الملاك.
فلما فرغ الإنسي العراقي من كلامه نظر الملك إلى طوائف الحيوان الحضور وقال: ماذا تقولون فيما ذكره وافتخر به عليكم؟ إن كان لكم جواب فهاتوا به، قالوا: لنا جواب أجود وأحكم من ذلك.
فصل
وقام بعد ذلك زعيم السباع وهو كليلة أخو دمنة فقال: الحمد لله القوي العلام خالق الجبال والآكام ومنشئ النبات والأشجار في الغياض والآجام، وجاعلها أقواتا للوحوش والأنعام، وهو العلي الأعلى خالق السباع ذوات البأس والشجاعة والإقدام، ذوات الزنود المتينة والمخالب الحداد والأنياب الصلاب والأفواه الواسعة والقفزات السريعة والوثبات البعيدة، المنتشرات في الليالي المظلمات للمطالب والأقوات، وهو الذي جعل أقواتها من جيف الأنام ولحوم الأنعام متاعا إلى حين، ثم قضى على جميعها الموت والفناء والمصير إلى البلى، فله الحمد على ما وهب وأعطى وعلى ما حكم به الصبر والرضا.
ثم التفت زعيم السباع إلى الكافة هناك من حكماء الجن وزعماء الحيوانات فقال: هل رأيتم يا معشر الحكماء أو سمعتم معشر الخطباء أكثر سهوا وغفلة من هذا الإنسي؟! قال الجماعة: وكيف ذلك؟ قال: لأنه ذكر من فضائلهم كيت وكيت من حسن اللباس ولين الثياب والدثار.
ثم قال: أيها الإنسي، خبرني هل كان لكم هذا الذي ذكرتموه وافتخرتم به إلا بعد ما أخذتم عن غيركم من سائر الحيوانات واستعرتموها من سواكم من السباع وغلبتموها عليها؟ قال الإنسي: ومتى كان ذلك؟ قال: أليس ألين ما تلبسون وأحسن ما تزينون به من اللباس والحرير والديباج الإبريسم؟ قال: بلى، قال: أليس ذلك من ألعاب أضعف الحيوان الذي هي ليس من بني آدم، بل هي من جنس الهوام، وقد نسجتها على أنفسها ليكون كنا لها ولبيضها، ولتنام فيها وتكون لها غطاء ووطاء وحرزا من الآفات والحر والبرد والرياح والأمطار وحوادث الأيام ونوائب الزمان، فجئتم أنتم وأخذتموها قهرا وغلبتموها عليها جبرا وجورا فعاقبكم الله بها وابتلاكم بشلها وفتلها وغزلها ونسجها وخياطتها وقصارتها وقطعها وتطريزها وما شاكل ذلك من العناء والتعب والشقاء الذي أنتم مبتلون به ومعاقبون من إصلاحها وبيعها وشرائها وحفظها بشغل القلوب وتعب الأبدان وشقاء النفوس لا راحة لكم ولا قرار ولا سكون ولا هدوء في دائم الأوقات!
وهكذا حكمكم في أخذكم أصواف الأنعام وجلود البهائم وأوبار السباع وشعورها وريش الطيور كل ذلك أخذتموه قهرا ونزعتموه غصبا وغلبتموها عليها ظلما وجورا، ونسبتموها إلى أنفسكم بغير حق، ثم جئتم تفتخرون به علينا، ولا تستحون ولا تذكرون ولا تعتبرون، ولو كان في ذلك فخر وتباه لكنا بذلك الفخر أولى منكم؛ إذ قد أنبت الله - تعالى - ذلك على ظهورنا، وأنشأها من جلودنا وجعلها لباسا لنا ودثارا وغطاء ووطاء وسترا وزينة لنا، كل ذلك تفضلا منه علينا ورفقا بنا ورحمة علينا وشفقة وتحننا على أولادنا وصغار نتاجنا؛ وذلك أنه إذا ولد واحد منا فعليه جلده انصلح له، وعلى جلده الشعر والصوف والوبر والريش والفلوس، كل ذلك لباس ودثار وستر على حسب كبر جثته وعظم خلقته، ولا نحتاج في اتخاذها إلى عمل، ولا نحتاج إلى حلج أو غزل أو فتل أو نسج أو قطع أو خياطة مثل ما أنتم به مبتلون ومعاقبون عليه لا راحة لكم إلى الموت، كل ذلك عقوبة لكم لذنب أبيكم لما عصى وترك وصية ربه فغوى.
قال ملك الجن لزعيم السباع: كيف كان مبتدأ آدم في خلقه، وأول ابتدائه؟ أخبرنا عنه!
قال: نعم أيها الملك، إن الله - تعالى - لما خلق آدم وزوجته - عليهما السلام - أزاح عللهما فيما يحتاجان إليه في قيام وجودهما وبقاء أشخاصهما من المواد والغذاء والدثار واللباس مثل ما فعل بسائر الحيوان التي كانت في تلك الجنة التي على رأس جبل الياقوت الذي بالمشرق تحت خط الاستواء، وذلك أنه لما خلق آدم وحواء - عليهما السلام - عريانين أنبت على رأس كل واحد منهما شعرا طويلا مدلى على جسد كل واحد منهما في جميع الجوانب سبطا جعدا، وأسود لينا، أحسن ما يكون على رأس الجواري الأبكار، وأنشأهما شابين أمردين ترفين في أحسن صورة من صور تلك الحيوانات التي هناك.
وكان ذلك الشعر لباسا لهما وسترا لعورتيهما ودثارا لهما ووطاء وغطاء ومانعا عنهما البرد والحر، فكانا يمشيان في ذلك البستان ويجتنيان من ألوان تلك الثمار فيأكلان منها ويتقوتان بها ويتنزهان في تلك الأرض والرياض والروح والريحان والزهر والنور مستريحين متلذذين منعمين فرحين غير خائفين بلا تعب من البدن، ولا عناء من النفس، وكانا منهيين عن تجاوز طورهما وتناول ما ليس لهما قبل وقتها، فتركا وصية ربهما واغترا بقول عدوهما، فتناولا ما كانا منهيين عنه، فسقطت مرتبتهما، وتناثرت شعورهما، وانكشفت عوراتهما، وأخرجا من هناك عريانين مطرودين مهانين معاقبين فيما يتكلفان من إصلاح المعاش وما يحتاجان إليه من قوام الحياة الدنيا كما زعم الطيور في الفصل الأول، وكما ذكر حكيم الجن في فصله مثل ذلك.
فلما بلغ زعيم السباع إلى هذا الموضع من الكلام قال له زعيم الإنس: أما أنتم يا معشر السباع؛ فسبيلكم أن تسكتوا وتستحوا ولا تتكلموا.
قال له كليلة: ولم ذلك؟ قال: لأنه ليس من الطوائف الحضور ها هنا جنس أشر منكم معشر السباع، ولا أقسى قلوبا ولا أقل نفعا ولا أكثر ضررا ولا أشد حرصا على أكل الجيف وطلب المعاش.
قال: كيف ذلك؟ قال: لأنكم تفترسون - معشر السباع - هذه البهائم والأنعام بمخالب حداد فتخرقون جلودها وتكسرون عظامها وتشربون دماءها وتنهشون لحومها بلا رحمة عليها ولا فكرة فيها ولا رفق بها.
قال زعيم السباع: منكم تعلمنا، وبكم اقتدينا فيما تعملون في هذه البهائم، قال الإنسي: كيف كان ذلك؟
قال: لأنه قبل خلق أبيكم آدم وأولاده ما كانت السباع تفعل من ذلك شيئا ولا تصطاد الأحياء منها؛ لأن جيفها كانت كثيرة، وما يموت منها كل يوم بآجالها كفاية لها تتقوت به، وما تحتاج إلى صيد الأحياء منها، وحمل المخاطرة على أنفسها في الطلب والانتهاك والمحاربة والتعرض لأسباب المنايا، وذلك أن الأسود والنمور والفهود والذئاب وغيرها من أصناف السباع الآكلة اللحوم لا تتعرض للفيلة والجواميس والخنازير ما دامت تجد من جيفها ما يقوتها ويكفيها إلا عند الاضطرار وشدة الحاجة؛ لأن لها أيضا إشفاقا على أنفسها كما يكون لغيرها من سائر الحيوانات.
فلما جئتم أنتم يا معشر الإنس وانتزعتم منها قطعان الغنم والبقر والجمال والخيل والبغال والحمير، وأحرزتموها ولم تتركوا منها في البراري والقفار والآجام واحدا منها عدمت السباع جيفها، فاضطرت إلى صيد الأحياء منها وحل لها ذلك كما حلت لكم الميتة والدم ولحم الخنزير عند الاضطرار.
وأما الذي ذكرته من قلة رحمتنا عليها وقساوة قلوبنا، فلسنا نرى ما تشكو منا هذه البهائم كما تشكو منكم ومن جوركم ومن ظلمكم وتعديكم عليها، وأن الذي ذكرت بأنا نقبض عليها بمخالب حداد وأنياب صلاب ونخرق جلودها ونشق أجوافها ونكسر عظامها ونشرب دماءها ونأكل لحومها، فكذا أنتم تفعلون بها وتذبحونها بسكاكين حداد وتسلخون جلودها وتشقون أجوافها وتكسرون عظامها بالسواطير والكيان ونار الطبخ وحر الشوي زيادة على ما نفعل نحن بها.
وأما الذي ذكرت من ضررنا على الحيوانات، فالقول كما قلت ولكن لو فكرت واعتبرت لعلمت وتبين لك بأن ككل ذلك صغير حقير في جنب ما تفعلون أنتم بها من الضرر والجور والظلم كما ذكر زعيم البهائم في الفصل الأول.
وأما ضرر بعضكم لبعض وضرب بعضكم لبعض بالسيوف والسياط والسكاكين والطعن بالرماح والزوينيات والضرب بالدبائس والكلل وقطع الأيدي والأرجل والحبس في المطامير والسرقة واللصوصية والغش والخيانة في المعاملة، والغمز والسعاية والمكر والحيل في أسباب العداوة، وما شاكل هذه الخصال مما لا تفعله السباع من ذلك بالحيوانات، ولا بعضها ببعض، ولا تعرفه فيزيد على ذلك كله.
وأما ما ذكرت من قلة منافعها لغيرها فلو فكرت واعتبرت لعلمت وتبين لك بأن النفع منا لكم بين ظاهر مما تنتفعون به من جلودنا وشعورنا ووبرنا وأصوافنا، ومما تنتفعون به من صيد الجوارح منا، وقد سخرتموها، ولكن أخبرنا أيها الإنسي أي منفعة منكم لغيركم من الحيوانات، فأما الضرر فهو ظاهر بين؛ إذ قد شاركتمونا في ذبح هذه الحيوانات وأكل لحمانها والانتفاع بجلودها وشعورها، وبخلتم عليها بالانتفاع بجيفكم وقد دفنتموها تحت التراب حتى لا تنتفع بكم أحياء ولا أمواتا.
وأما الذي ذكرت من غارات السباع على الحيوانات وقبضها عليها وقتلها، فإن ذلك كله إنما فعلته السباع بعدما رأت أن بني آدم يفعلون بعضهم ببعض منذ عهد قابيل وهابيل، وإلى يومنا هذا نرى كل يوم من القتلى والجرحى والصرعى في الحروب والقتال مثل ما شوهد في أيام رستم وإسفنديار، وأيام جمشيد وتبع، وأيام الضحاك وأفريدون، وأيام سيواس ومنوجهر، وأيام دارا والإسكندر، وأيام بخت نصر وآل داود وآل بهرام وآل عدنان وأيام قسطنطين وأهل بلاد اليونان وأيام عثمان ويزدجر وأيام بني العباس وبني مروان، وهلم جرا إلى يومنا هذا، نرى في كل سنة وشهر ويوم وقعة من بني آدم بعضهم على بعض ومع بعض، وما يحدث فيها من أسباب الشرور والبلايا والقتل والجراح والمثلة والنهب والسبي ما لا يقدر ولا يعد، ثم الآن جئتم تفتخرون علينا وتعيرون السباع أنها شر خلقة في الأرض، أما تستحون من هذا القول الزور والبهتان علينا؟ ومتى رأى الإنس أن السباع قد فعلت بعضها ببعض مثل ما تعملون أنتم بعضكم ببعض في كل يوم؟
ثم قال زعيم السباع لزعيم الإنس: لو تفكرتم يا معشر الإنس في أحوال السباع واعتبرتم تصاريف أمورها لعلمتم وتبين لكم أنها خير منكم، وأفضل.
قال زعيم الإنس: كيف ذلك؟ دلنا عليه! قال: نعم، أليس خياركم الزهاد والعباد والرهبان والأحبار والسياح؟ قال: نعم، قال: أليس إذا تناهى واحد منكم في الخيرية والصلاح خرج من بين أظهركم وهرب منكم وذهب يأوي إلى رءوس الجبال والتلال وبطون الأودية والسواحل والآجام مأوى السباع، ويخالطها في أماكنها في الكهوف والمغارات، ويعاشرها في أوطانها ويجاورها في أكنافها ولا تتعرض له السباع؟ قال: بلى، كما قلت كذا نقول، قال: فلو لم تكن السباع أخيارا لما جاورها أخياركم وعاشرها الصالحون منكم؛ لأن الأخيار لا يعاشرون الأشرار، بل يفرون منهم وينفرون عنهم، فهذا دليل على أن السباع صالحة، لا كما زعمتم أنها شر خلق الله، فهذا القول الذي ذكرتم زورا وبهتانا عليها، ودليل آخر أن السباع صالحة لا كما زعمت هو أن من سنة ملوككم الجبابرة إذا شكوا في الصالحين منكم والأخيار من أبناء جنسكم يطرحونهم بين السباع، فإن لم تأكله علموا بأنه من الأخيار؛ لأنه لا يعرف الأخيار إلا الأخيار، كما قال الشاعر:
يعرفه الباحث عن جنسه
وسائر الناس له منكر
واعلم أيها الإنسي أن في السباع أخيارا وأشرارا، وأن الأشرار منها لا تأكل الأشرار، كما يأكل الأشرار الأشرار من الإنس، كما ذكر الله تعالى: @QUR08 وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
فلما فرغ زعيم السباع من كلامه قال حكيم من الجن: صدق هذا القائل، إن الأخيار يهربون من الأشرار، ويأنسون بالأخيار، وإن كانوا من غير جنسهم، وإن الأشرار أيضا يبغضون الأخيار ويهربون منهم ويلجئون إلى أبناء جنسهم من الأشرار، فلو لم يكن بنو آدم أكثرهم أشرارا لما هرب أخيارهم من بين ظهرانيهم إلى رءوس الجبال والآجام ومأوى السباع، وهي من غير جنسهم ولا تشبههم في الصورة، ولا في الخلقة إلا في أخلاق النفوس من الخيرية والصلاح والسلامة، قالت الجماعة كلها : صدق الحكيم فيما قال، وذكر وأخبر، فخجلت جماعة الإنس عند ذلك، ونكست رءوسها حياء وخجلا مما سمعت من التوبيخ والتعريض، وانقضى المجلس ونادى مناد: انصرفوا مكرمين لتعودوا غدا آمنين مطمئنين.
فصل
ولما كان من الغد جلس الملك مجلسه وحضرت الطوائف كلها على الرسم واصطفت، فنظر الملك إلى جماعة الإنس وقال: قد سمعتم ما جرى أمس، وما ذكرتم وسمعتم الجواب عما قلتم، فهل عندكم شيء آخر غير ما ذكرتم بالأمس؟ فقام عند ذلك الزعيم الفارسي وقال: نعم أيها الملك العادل، إن لنا مناقب أخر وفضائل جمة وخصالا عدة تدل على صحة ما نقول وندعي، قال الملك: هات واذكر منها شيئا! قال: نعم، ثم قال: الحمد لله الذي اختلفت الحكماء في أسمائه واتفقت في وجوده وقدمه، الذي أوجد الخلائق بقدرته، وخص من بينهم آدم وأولاده برحمته وشرفهم تشريفا بخلعة الإيمان ولباس الكرامة من بين سائر الحيوانات، وألهمهم طريق الهدى كما قال تعالى: @QUR017 ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا، والصلاة على خير خلقه وصفوة أنبيائه محمد وآله.
أما بعد، فاعلم أيها الملك أن منا الملوك والأمراء والخلفاء والسلاطين، وأن منا الرؤساء والوزراء والكتاب والعمال وأصحاب الدواوين والحجاب والقواد والنقباء والخواص وخدم الملوك وأعوانهم من الجنود، ومنا أيضا التجار والصناع وأصحاب الزروع والنسل، ومنا أيضا الدهاقين والأشراف والأغنياء وأرباب النعم وأصحاب المروءات، ومنا أيضا الأدباء وأهل العلم والورع وأهل الفضل، ومنا أيضا الخطباء والشعراء والفصحاء والمتكلمون والنحويون وأصحاب الأخبار ورواة الحديث والقراء والعلماء والفقهاء والقضاة والحكام والعدول والمزكون والمذكرون والحكماء والمهندسون والمنجمون والطبيعيون والأطباء والعرافون والمعزمون والكهنة والمعبرون والكيميائيون وأصحاب الطلسمات وأصحاب الأرصاد وأصناف أخر يطول شرحها، وكل هذه الطوائف والطبقات لهم أخلاق وسجايا وطبائع وشمائل ومناقب وخصال حسنة ومذاهب حميدة وعلوم وصنائع حسان مختلفة متفننة، وكل هذه لنا وغيرنا من الحيوان بمعزل عنها، فهذا دليل بأننا أرباب لها وهي عبيد لنا، وفي الجملة قوام العالم بنا وبوجودنا؛ إذ هذه الجملة التي ذكرت من الصنائع واختلاف الأشخاص صار سببا لقوام العالم وبقائه من غير شك.
فصل
فلما فرغ زعيم الإنس من كلامه نطق الببغاء وقال: الحمد لله خالق السموات المسموكات والأرضين المدحوات والجبال الراسيات والبحار الزاخرات والبراري والقفار والرياح الذاريات والسحب المنشآت والقطر الهاطلات والشجر والنبات والطير الصافات، كل قد علم صلواته وتسبيحه.
ثم قال: اعلموا - رحمكم الله - أن هذا الإنسي قد ذكر أصناف بني آدم وعد طبقاتهم، فلو أنه تفكر أيها الملك فعادل واعتبر كثرة أجناس الطيور وأنواعها، لعلم وتبين له من كثرتها ما يصغر ويقل عنده أصناف بني آدم وعدد طبقاتهم في جنب ذلك، كما قد تقدم ذكره في فصل من هذا الكتاب، كما قال شاه مرغ للطاووس من خطباء الطيور وفصحائها.
ولكن خذ الآن أيها الإنسي إزاء كل ما ذكرت وافتخرت به بقولك قولا آخر معكوسا، وبدل كل حسن نسبت أصنافا أخر قبيحة، ونحن بمعزل منها، وذلك أن عندكم الفراعنة والنماردة والجبابرة والفسقة والمشركين والمنافقين والملحدين والمارقين والناكثين والخوارج وقطاع الطريق واللصوص والعيارين والطرارين، ومنكم أيضا الدجالون والباغون والطاغون والمرتابون.
ومنكم أيضا القوادون والمخانيث والمؤاجرون واللواطة والسحاقات والبغايا، ومنكم أيضا الغمازون والكذابون والنباشون، ومنكم أيضا السفهاء والجهال والأغبياء والناقصون، وما شاكل هذه الأوصاف والأصناف والطبقات المذمومة أخلاق أهلها، الردية طباعهم، القبيحة سيرتهم وأفعالهم، السيئة سيرهم وأعمالهم المذمومة الجائرة، ونحن بمعزل عنها كلها، ونشاركهم في أكثر الخصال المحمودة والسير العادلة؛ وذلك أن أول كل شيء مما ذكرت وافتخرت به أن منكم الملوك والرؤساء ولهم أعوان وجنود ورعية.
أما علمت بأن لجماعة النحل ولجماعة النمل ولجماعة الطيور ولجماعة السباع رؤساء وأعوانا وجنودا ورعية، وأن رؤساءها وملوكها أحسن سياسة وأشد رعاية من ملوك بني آدم بها، وأشد تحننا عليها ورأفة بها وشفقة عليها.
بيان ذلك أن أكثر ملوك الإنس ورؤساءها لا ينظرون في أمر الرعية وجنودهم وأعوانهم إلا لجر منفعة منها أو دفع مضرة عنها أو إلى نفس من يهواه لشهواته كائنا من كان قريبا أو بعيدا، ولا يفكر بعد ذلك في واحد ، ولا يهمه أمره كائنا من كان من قريب أو بعيد.
وليس هذا من فعل الملوك والفضلاء، ولا عمل الرؤساء ذوي السياسة الرحماء، بل من سياسة الملك وشرائطه وخصال الرياسة أن يكون الملك والرئيس رحيما رءوفا برعيته مشفقا متحننا على جنوده وأعوانه اقتداء بسنة الله - تعالى - الجواد الكريم الرءوف الرحيم لخلقه وعباده، كائنا من كان الذي هو رئيس الرؤساء وملك الملوك، وملوك أجناس الحيوانات ورؤساؤهم هم بسنة الله - تعالى - أحسن اقتداء من ملوك الإنس ورؤسائهم.
وذلك أن ملك النحل ينظر في أمر رعيته، ويتفقد أحوالهم وأحوال جنوده وأعوانه لا لهوى في نفسه وشهواتها وجر المنفعة إليها ودفع المضرة عنها أو إلى نفس من يهواه لشهواته، بل يفعل ذلك رأفة ورحمة لرعيته وشفقة وتحننا لهم، وعلى جنوده وأعوانه.
وهكذا يفعل ملك النمل وملك الكركي في حراسته وطيرانه وملك القطا في وروده وصدوره.
وهكذا حكم سائر الحيوانات التي لها رؤساؤها ومديروها لا يطلبون من رعاياهم عوضا ولا جزاء فيما يسوسونهم كما لا يطلبون من أولادهم برا ولا صلة ولا مكافأة لهم، كما يطلب بنو آدم من أولادهم البر والمكافأة في تربيتهم لهم، بل نجد كل جنس من الحيوانات التي تنزو وتسفد وتحمل وترضع وتربي أولادها، والتي تسفد وتبيض وتحضن وتزق الفراخ والأولاد وتربي أولادها لا تطلب من أولادها برا ولا صلة ولا مكافأة، ولكنها تربي أولادها تحننا عليها وشفقة ورحمة بها ورأفة لها، كل ذلك اقتداء بسنة الله تعالى؛ إذ خلق عبيده وأنشأهم ورباهم وأنعم عليهم وأحسن إليهم وأعطاهم من غير سؤال منهم، ولا يطلب منهم جزاء ولا شكورا، ولو لم يكن من لؤم طباع الإنس وسوء أخلاقهم وسيرتهم الجائرة وعاداتهم الرديئة وأعمالهم السيئة وأفعالهم القبيحة ومذاهبهم الضالة وكفرهم بالنعم لما أمرهم الله - تعالى - بقوله: @QUR06 أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير. كما لم يأمر أولادنا؛ إذ لا يكون منهم العقوق والكفران، وإنما توجه الأمر والنهي والوعد والوعيد إليكم يا معشر الإنس دوننا؛ لأنكم عبيد سوء يقع منكم الخلاف والمكر والعصيان فأنتم بالعبودية أولى منا، ونحن بالحرية أولى منكم، فمن أين زعمتم أنكم أرباب لنا، ونحن عبيد لكم، لولا الوقاحة والمكابرة وقول الزور والبهتان؟!
ثم لما فرغ الببغاء من كلامه قالت الجماعة: صدق هذا القائل في جميع ما ذكر وأخبر به، فخجلت جماعة الإنس عند ذلك، ونكسوا رءوسهم من الحياء والخجل لما توجه عليهم من الحكم، ولم يمكن الإنس أن ينطقوا بعد ذلك.
ولما بلغ الببغاء من كلامه إلى هذا الموضع قال الملك لرئيس الحكماء من الجن: من هؤلاء الملوك الذين ذكرهم هذا القائل وأثنى عليهم ووصف شدة رحمتهم وإشفاقهم على رعيتهم وتحننهم ورأفتهم لجنودهم وأعوانهم وحسن سيرتهم، أنا أظن أن في ذلك رمزا من الرموز وسرا من الأسرار، عرفني ما حقيقة هذه الأقاويل وإشارة هذه المرامي، قال: سمعا وطاعة.
فصل
قال حكيم الجن: اعلم أيها الملك أن اسم الملوك مشتق من اسم الملك، واسم الملك من أسماء الملائكة، وذلك أنه ما من جنس من هذه الحيوانات ولا نوع منها ولا شخص ولا كبير ولا صغير إلا وقد وكل الله - تعالى - به ملائكة تربيه وتحفظه وتراعيه في جميع تصرفاته، وهي أشد رحمة ورأفة وتحننا وشفقة من الوالدات لأولادها الصغار ونتاجها الضعيفة.
قال الملك الحكيم: ومن أين للملائكة هذه الرحمة والرأفة والتحنن والشفقة التي ذكرت؟
قال: من رحمة الله - تعالى - ورأفته بخلقه وشفقته وتحننه على بريته، وكل رحمة ورأفة من الملائكة ومن الوالدات والآباء والأمهات ورحمة الخلق بعضهم على بعض فهي جزء من ألف ألف جزء من رحمة الله - تعالى - ورأفته بخلقه وشفقته وتحننه على عباده.
ومن الدليل على صحة ما قلنا وحقيقة ما وصفنا أن ربهم لما أبداهم وأبدعهم وخلقهم وسواهم وتممهم ورباهم وكل بحفظهم الملائكة الذين هم صفوته من خلقه، وجعلهم رحماء كرماء بررة، وخلق لهم المنافع والمرافق في طريق الهياكل العجيبة والصور والأشكال الطريفة والحواس الدراكة اللطيفة وألهمهم دفع المضار وجر المنافع، وسخر لهم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، ألا له الخلق والأمر؟ ويدبرهم في الشتاء والصيف في البر والبحر والسهل والجبل، وخلق الأقوات من الشجر والنبات متاعا لهم إلى حين وأسبغ عليهم نعمته ظاهرة وباطنة، ولو عددت لما أحصيت، وكل هذه دلالة وبراهين على شدة رحمة الله ورأفته وتحننه وشفقته على خلقه.
قال الملك: فمن رئيس الملائكة المقربين الموكلين ببني آدم وحفظهم ومراعاة أمرهم، قال الحكيم: هي النفس الناطقة الإنسانية الكلية التي هي خليفة الله في أرضه، وهي التي قرنت بجسد آدم لما خلق من التراب وسجدت له الملائكة كلهم أجمعون، وهي النفوس الحيوانية المنقادة لطاعة النفس الناطقة الباقية إلى يومنا هذا في ذرية آدم، كما أن صورة الجسد الجسمانية باقية في ذريته إلى يومنا هذا، وبها ينشئون، وبها ينمون، وبها يفوزون، وبها يجازون، وبها يؤاخذون، وإليها يرجعون، وبها يعرفون يوم القيامة، وبها يبعثون، وبها يدخلون الجنة، وبها يصعدون إلى عالم الأفلاك - أعني صعود النفس الناطقة التي هي خليفة الله في أرضه - وأبى إبليس عن سجدة لآدم، وهي القوة الغضبية والشهوانية والنفس الأمارة بالسوء.
ليعلم الملك جميع ذلك؛ لأن أكثر كلام الله - تعالى - وكلام أنبيائه وأقاويل الحكماء رموز لسر من الأسرار مخفيا عن الأشرار، وما يعلمها إلا الله - تعالى - والراسخون في العلم، وذلك أن القلوب والخواطر ما كانت تحمل فهم معاني ذلك؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «كلموا الناس على قدر عقولهم.» وإفشاء سر الربوبية كفر.
وأما الخواص من الحكماء الذين هم الراسخون في العلم فهم لا يحتاجون إلى زيادة بيان؛ إذ هم مطلعون على حقائق جميع الأسرار والمرموزات؛ من ذلك قول الله تعالى: @QUR012 علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين، وقوله: @QUR04 ن والقلم وما يسطرون، وقوله: @QUR04 والطور * وكتاب مسطور، وقوله: @QUR014 سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله، وقوله: @QUR013 في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين، وقوله: @QUR09 والتين والزيتون * وطور سينين * وهذا البلد الأمين، وقوله: @QUR07 إذا الشمس كورت * وإذا النجوم انكدرت، وقوله: @QUR04 وجنة عرضها السموات والأرض، وقوله: @QUR06 لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين، وقوله: @QUR05 من يحيي العظام وهي رميم، وقوله: @QUR013 وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى، وقوله: @QUR013 من فعل هذا بآلهتنا يا إبراهيم * قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم، وقوله: @QUR013 يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا، وقوله: @QUR07 يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم، وقوله: @QUR01 كهيعص، وقوله: @QUR07 طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى، وقوله: @QUR01 عسق، وقوله: @QUR05 إنا أنزلناه في ليلة القدر، وقول النبي عليه السلام: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.» وقوله: «صوموا تصحوا، وسافروا تغنموا.» وقوله عليه الصلاة والسلام: «شاوروهن وخالفوهن.» وقوله عليه الصلاة والسلام: «الجنة تحت أقدام الأمهات.» ونظائر ذلك من الآيات والأخبار تحت ذلك سر من الأسرار التي لا يجوز أن تكشف على العوام والجهال، سيما في آخر الزمان، فلهذا الغرض ألبسوا حقائق الأشياء بلباس غير ما يليق بذلك حسب فهم عامة البشر، لكن الخواص والحكماء يعلمون الغرض والحقيقة في ذلك، ويخفون عن الأشرار والأجلاف.
فمن منح الجهال علما أضاعه
ومن منع المستوجبين فقد ظلم
ثم قال الملك: بارك الله فيك من حكيم، ما أعلمك! ومن عالم، ما أفهمك! وجزاك الله خيرا، زدني بيانا آخر، فقال: نعم.
ثم قال الملك للحكيم: لم لا تدرك الأبصار الملائكة والنفوس؟ قال: لأنها جواهر شفافة نورانية، ليس لها لون ولا جسم، ولا تدركها الحواس الجسمانية مثل الشم واللمس والذوق، وقل تراها الأبصار القوية اللطيفة مثل أبصار الأنبياء والرسل وأسماعهم، فإنهم بصفاء نفوسهم وانتباههم من نوم الغفلة واستيقاظهم من رقدة الجهالة وخروجهم من ظلمات الخطايا قد انتعشت نفوسهم، فصارت مشاكلة لنفوس الملائكة تراها وتسمع كلامها وتأخذ منها الوحي والأنباء وتؤدي إلى أبناء جنسهم من البشر بلغات مختلفة لمشاكلتهم إياهم بأجسادهم، قال الملك: جزاك الله خيرا، تمم كلامك يا ببغاء.
فصل
ثم قال الببغاء: أيها الإنسي، أما الذي ذكرت بأن منكم صناعا وأصحاب حرف، فليس ذلك بفضيلة لكم دون غيركم، ولكن قد شارككم فيها بعض أصناف الطيور والهوام وغير ذلك من الحيوانات.
وبيان ذلك أن النحل هي من الحشرات وهي في اتخاذها البيوت وبناء منازل الأولاد أحذق وأعلم وأحكم من صناعكم وأجود وأحسن من بناء المهندسين والبنائين منكم، وذلك أنها تبني منازلها طبقات مستديرات كالتراس بعضها فوق بعض من غير خشب ولا لبن ولا آجر ولا جص، كأنها غرف من فوقها غرف، وتجعل تقدير بيوتها مسدسات متساويات الأضلاع والزوايا لما فيها من إتقان الصنعة وإحكام البنية، ولا تحتاج في عمل ذلك إلى قراءة كتب الهندسة ولا إلى آلة البركار والمسطرة كما تحتاجون إلى بركار تديرون بها، وإلى مسطرة تخطون بها، وإلى شاقول تدلون بها، وإلى كونيا تقدرون بها، كما يحتاج البناء إليها من بني آدم.
ثم إنها تذهب في الرعي وتجمع الشمع من ورق الأشجار والنبات بأرجلها والعسل من زهر النبات ونور الأشجار ووردها تجمعه بمشافيرها ولا تحتاج في ذلك إلى زنبيل ولا إلى سلة ولا ملقطة ولا مكتل تجمعه فيها أو آلة أو أدوات تغرفه بها كما يحتاج البناءون منكم إلى آلات وأدوات مثل الفأس والمسحاة والراقود والمسائح وما شاكلها.
وهكذا أيضا العنكبوت وهي من الهوام في نسج شبكتها أولا وتقريرها هندامها هي أعلم وأحذق من الحاكة والنساجين منكم، وذلك أنها تمد عند نسجها شبكتها أولا خطا من حائط إلى حائط أو من شجرة إلى شجرة أو من غصن إلى غصن، أو من جانب نهر إلى جانب آخر من غير أن تمشي على الماء أو تطير في الهواء، ثم تمشي على ذلك الذي تمده أولا، وتمد من شبكتها أولا خطوطا مستقيمة كأنها أطناب الخيم المضروبة، ثم تنسج لحمتها على الاستدارة وتترك وسطها دائرة مفتوحة حتى تتمكن فيها لصيد الذباب، وكل ذلك تفعل من غير مغزل لها ولا مفتل ولا كاركاة ولا مشط ولا أدوات مثل ما يفعل الحائك والنساج منكم فيما يحتاجون إليه من الآلات والأدوات المعروفة المشهورة في صناعتهم.
وهكذا أيضا دودة القز وهي من الهوام وهي أحذق في صنعتها وأحكم من صناعكم، فمن ذلك أنها إذا شبعت من الرعي طلبت مواضعها بين الأشجار والشوك ومدت من لعابها خيوطا دقاقا ملسا لزجة متينة، ونسجت هناك على أنفسها كنا كشبه كيس ليكون لها حرزا من الحر والبرد والرياح والأمطار ونامت إلى وقت معلوم.
كل ذلك تفعله من غير تعليم من الأستاذين ولا تعليم من الآباء والأمهات بل إلهاما من الله - تعالى - وتعليما منه، وكل ذلك يفعل من غير حاجة إلى مغزل ومفتل أو مخيط أو مقص كما يحتاج الخياطون والرفاءون والنساجون.
وهكذا الخطاف وهو من الطير يبني لنفسه منزلا ولأولاده مهددا معلقا في الهواء تحت السقوف من الطين من غير حاجة إلى سلم يرتقي عليه أو راقود يحمل الطين عليه أو عمود يسند بيته إليه، ولا يحتاج إلى آلة من الآلات أو الأدوات.
وإذا عميت أولادها تحمل من الطين حشيشة تسمى الماميراف تحك بها عين الأولاد فيضيء بصرها، كل ذلك تعليم من الله - تعالى - لا من البشر، وأنتم محتاجون إلى الأستاذين والمعلمين في أدنى صنعة وأخس عمل، وأنتم من تلقاء أنفسكم لا تقدرون على عمل من غير تعلم مدة من الزمان.
وهكذا أيضا الأرضة، وهي من الهوام تبني على أنفسها بيوتا من الطين الصرف شبه الأزج والأزقة من غير أن تجمع الترب أو تبل الطين أو تستسقي الماء، فقولوا أيها الحكماء من أين لها ذلك الطين، ومن أين تجمعه، وكيف تحمله إن كنتم تعلمون؟
وعلى هذا المثال حكم أجناس الطيور والحيوانات في اتخاذها المنازل والأوكار والأعشاش وتربية أولادها تجدها أحذق وأعلم وأحكم من عمل الإنس، فمن ذلك تربية النعامة - وهي مركبة من طائر وبهيمة - لفراريخها؛ وذلك أنها إذا جمعت لها بيضا عشرين أو ثلاثين أو أربعين قسمتها ثلاثة أقسام؛ منها ما تدفنه في التراب وثلثا تتركه في الشمس وثلثا تحضنه، فإذا خرجت فراريخها كسرت ما كان في الشمس وسقتها ما كان فيها من تلك الرطوبات التي فيها مما ذوبتها الشمس ورققتها، فإذا اشتدت فراريخها وقويت أخرجت المدفون منها وفتحت لها ثقبا كي يجتمع فيه الذباب والبق والهوام والنمل والحشرات، ثم تطعمها فراريخها، حتى إذا قويت عدت ولعبت ورعت.
فقل أيها الإنسي أي نسائكم تحسن مثل هذا في تربية أولادها إن لم تكن القابلة تشيلها وتقمطها وداية تعلمها كيف تقطع سرة ولدها وتقمطه وتدهنه وتكحله وتسقيه وتنومه ولا تعلم شيئا ولا تعرفه.
وكذلك أيضا حكم أولادكم في الجهالة وقلة المؤنة يوم يولدون ولا يعلمون من مصالح أمورهم ولا يعقلون شيئا من جر منفعة ولا دفع مضرة إلا بعد أربع سنين أو سبع أو عشر يحتاجون أن يعلموا كل يوم علما جديدا وأدبا مستأنفا إلى آخر العمر يوم الممات.
ونجد أولادنا إذا خرج أحدهم من الرحم أو من البيض يكون معلما أو ملهما كل ما يحتاج إليه من أمر مصالحه ومضاره ومنافعه، لا يحتاج إلى تعليم الآباء والأمهات.
فمن ذلك فراريخ الدجاج والدراج والقياج والطيهوج وما شاكلها، فإنك تجدها تنقشر عنها البيضة وتخرج وتعدو من ساعتها أو تلتقط الحب وتهرب من المطالب لها حتى ربما لا تلحق.
كل ذلك من غير تعليم من الآباء والأمهات بل وحيا وإلهاما من الله - تعالى - كل ذلك رحمة منه لخلقه وشفقة ورأفة وتحننا.
وذلك أن هذا الجنس من الطيور لما لم يكن الذكر يعاون الأنثى في الحضانة وتربية الأولاد كما يعاون باقي الطيور كالحمام والعصافير وغيرهما أكثر الله عدد فراريخها وأخرجها مكتفية مستغنية من تربية الآباء والأمهات من شرب اللبن أو زق الحبوب والغذاء مما يحتاج إليه غير هذا الجنس من الحيوان والطيور، وكل ذلك عناية من الله - تعالى وتقدس - وحسن نظر منه لهذه الحيوانات التي تقدم ذكرها.
فقل لنا أيها الإنسي أيهما أكرم عند الله الذي عنايته به أكثر ورعايته به أتم، فسبحان الله الخالق الرءوف الرحيم بخلقه الودود الشفيق الرفيق بعباده، ونحمده ونسبحه في غدونا ورواحنا ونقدسه في ليلنا ونهارنا، فله الحمد والمن والشكر والفضل والثناء والآلاء والنعماء، وهو أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأحسن الخالقين.
وأما الذي ذكرت بأن منكم الشعراء والخطباء والمتكلمين والمذكرين وما شاكلهم، فلو أنكم فهمتم منطق الطير وتسبيح الحشرات والهوام وتهليلات البهائم وتذكار الصرصر ودعاء الضفدع ومواعظ البلابل وخطب القنابير وتسبيح وتكبير الكراكي وأذان الديك وما يقول الحمام في لحنه وقراءة القماري ونعيب الغراب الكاهن من الزجر وما تصف الخطاطيف من الأمور وما يخبر الهدهد وما يقول النمل وما يزعم النحل ووعيد الذباب وتحذير البق وغيرها من الحيوانات ذوي الأصوات والطنين والزمير لعلمتم معشر الإنس وتبين لكم أن في هذه الطوائف خطباء وفصحاء ومتكلمين وواعظين ومذكرين ومسبحين مثلما في بني آدم، فلماذا افتخرتم علينا بخطبائكم وشعرائكم ومن شاكلهم؟!
وكفى دلالة وبرهانا على ما قلت وذكرت قوله تعالى: @QUR010 وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم، فنسبكم إلى الجهل وقلة العلم والفهم بقوله: @QUR02 لا تفقهون، ونسبنا إلى العلم والفهم والمعرفة بقوله تعالى: @QUR05 كل قد علم صلاته وتسبيحه، @QUR08 قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، قالها على سبيل التعجب؛ لأنه يعلم كل عاقل أن الجهل لا يستوي مع العلم لا عند الله ولا عند الناس، فبأي شيء تفتخرون علينا يا معشر الإنس وتدعون أنكم أرباب ونحن عبيد لكم مع هذه الخصال التي فيكم كما بينا قبل غير قول الزور والبهتان؟
فأما الذي ذكرت من أمر المنجمين والراقين منكم، فاعلموا أن لهم تمويهات وتوهيمات وتلبيسات ورزقا رقيقا ينفق على الجهلاء من العوام والخواص والنساء والصبيان والحمقى، ويخفى عليكم أيضا، وعلى كثير من العقلاء والأدباء، وذلك أن أحدهم يخبر بالكائنات قبل كونها ويرجم بالغيب ويرجف به من غير معرفة صحيحة ودلائل عقلية واضحة وبراهين مثبتة، فيقول بعد كذا وكذا شهرا وكذا وكذا سنة في بلد كذا وكذا يكون كيت وكيت، وهو جاهل لا يدري أي شيء يكون في بلده وقومه وجيرانه، وأي شيء يكون ويحدث عليه في نفسه أو في ماله أو في أولاده أو غلمانه أو من يهمه أمرهم، وإنما يرجم بالغيب في مكان بعيد أو في زمان طويل لئلا يقع عليه الاعتبار ويتبين صدقه وكذبه وتمويهه ومخرقته.
ثم اعلم أيها الإنسي أنه لا يغتر بقول المنجم إلا الطغاة والبغاة من الملوك والجبابرة منكم والفراعنة والنماردة والمغرور بعاجل شهواتها المنكرون أمر الآخرة ودار المعاد الجاهلون بالعلم السابق والقدر المحتوم مثل نمرود الجبار وفرعون ذي الأوتاد وثمود وعاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد من قتل الأطفال، يقول المنجمون الذين لا يعرفون خالق النجوم ومدبرها، بل يظنون ويتوهمون أن أمور الدنيا تدبرها الكواكب السبعة والبروج الاثنا عشر، ولا يعرفون المدبر الذي فوق الكل الذي هو رب الأرباب ومسبب الأسباب، ومالك يوم الدين، وقد أراهم الله قدرته مرة بعد أخرى ونفاذ أوامره ومشيئته في دفعات، وذلك أن نمرود الجبار أخبره المنجمون بمولود في مملكته في سنة من السنين بدلائل القرانات وأنه يتربى ويكون له شأن عظيم، ويخالف دين عبدة الأصنام.
فقال لهم: في أي بيت يكون؟ وفي أي موضع يتربى؟ وفي أي يوم يولد؟ فلم يدروا، ولكن أشار وزراؤه وجلساؤه بأن يقتل كل مولود يولد في تلك السنة ليكون هو في جملة من قد قتل، وظنوا أن ذلك يمكن، وذلك لجهلهم بالعلم السابق والقضاء المحتم والمقدور الواقع الذي لا بد أن يكون، ففعل ما أشاروا به عليه فيما وقع، وخلص الله - تعالى - إبراهيم خليله من كيدهم، ونجاه من حيلتهم وما دبروا من مكرهم.
وهكذا فعل فرعون بأولاد بني إسرائيل لما أخبره المنجم بمولد موسى - عليه السلام - فنجى الله كليمه من كيدهم ومكرهم لما أراد من بلوغ أمره، ورأى فرعون وهامان وجنودهما ما كانوا يحذرون، وعلى هذا المثال والقياس تجري أحكام النجوم، لم ينفعهم ذلك من قضاء الله وقدره.
ثم أنتم يا معشر الإنس لا تزدادون إلا غرورا بقول المنجمين وطغيانا، ولا تعتبرون ولا تتفكرون ولا تتنبهون من جهالاتكم.
ثم جئتم الآن تفتخرون علينا بأن منكم منجمين وأطباء ومهندسين وحكماء متفلسفين؟ فلما بلغ الببغاء إلى هذا الموضع من كلامه قال الملك: أحسن الله جزاك، نعم ما قلت وبينت!
فصل
ثم قال الملك لزعيم الجوارح: أخبرنا ما الفائدة والعائدة في معرفة الكائنات قبل كونها بالدلائل، وما يخبر عنه أهلها بفنون الاستدلالات الزجرية والكهانية والنجومية والفأل والقرعة وضرب الحصى والنظر في الكف وما شاكل هذه الاستدلالات إذا كان لا يمكن دفعها ولا المنع لها ولا التحرز منها مما يخاف ويحذر من المناحس وحوادث الأيام ونوائب الحدثان في السنين والأزمان؟
قال الزعيم: نعم، يمكن دفع ذلك والتحرز منه أيها الملك، ولكن لا على الوجه الذي يطلب ويلتمس أهل صناعة النجوم وغيرهم من الناس، قال: كيف ذلك؟ وعلى أي وجه ينبغي أن يلتمس ويدفع ويحترز منه؟
قال الزعيم: بالاستغاثة برب النجوم وخالقها ومدبرها، قال: كيف تكون الاستغاثة به؟ قال: باستعمال سنن النواميس الإلهية وأحكام الشرائع النبوية من الدعاء والبكاء والتضرع والصوم والصلاة والصدقات والقرابين في بيوت الصلوات، والعبادات وصدق النيات وإخلاص القلوب، والسؤال لله - تبارك وتعالى - بدفعها وبصرفها عنهم كيف شاء، أو يجعل لهم في ذلك خيرة وصلاحا؛ لأن الدلائل النجومية والزجرية إنما تخبر عن الكائنات قبل كونها مما سيفعله رب النجوم وخالقها ومدبرها ومصورها والاستغاثة برب النجوم، والقوة التي فوق الفلك وفوق النجوم أولى وأحرى وأوجب من الاستغاثة بالاختبارات النجومية الجزوية على دفع موجبات الأحكام الكائنات مما أوجبها بأحكام القرانات والأدوار وطوالع السنين والشهور وغير ذلك في المواليد.
قال الملك: فإذا استعملت سنن النواميس على شرائط ما ذكرت ودعوا الله يرفع عن أهلها ما هو في المعلوم أنه لا بد كائن، قال: لا بد من كون ما هو في المعلوم، ولكن ربما يدفع الله عن أهلها شر ما هو كائن، ويجعل لهم فيها خيرة وصلاحا، ويجعلهم في حيز السلامة.
قال الملك: كيف يكون ذلك؟ بين لي! قال: أيها الملك، أليس النمرود الجبار لما أخبره منجموه بالقران يدل على أنه سيولد في الأرض مولود يخالف دينه دين عبدة الأصنام، وكانوا يعنون به إبراهيم خليل الرحمن؟
قال: نعم، قال: أليس النمرود خاف على دينه ومملكته ورعيته وجنوده فسادا ومناحس؟
قال: نعم، قال: أليس لو أنه سأل رب النجوم وخالقها أن يجعل له ولرعيته ولجنوده فيه خيرة وصلاحا كان الله - تعالى - يوفقه للدخول في دين إبراهيم هو وجنوده ورعيته، وكان في ذلك خيرة لهم وصلاح؟ قال: نعم، قال: وهكذا أيضا فرعون، لما أخبره منجموه بمولد موسى - عليه السلام - لو أنه سأل ربه أن يجعله مباركا عليه وقرة عين له، وكان يدخل في دينه، أليس كان صلاحا له ولقومه وجنوده كما فعل بامرأته وأحب الناس إليه وأخصهم به، وهو الرجل الذي ذكره الله تعالى في القرآن ومدحه وأثنى عليه: فقال رجل من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، إلى قوله تعالى: @QUR010 فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب، أوليس قوم يونس - عليه السلام - لما خافوا ما أظلهم من العذاب دعوا ربهم الذي هو رب النجوم وخالقها ومدبرها، فكشف عنهم العذاب، فإذا قد تبينت فائدة علم النجوم والأخبار بالكائنات قبل كونها وكيفية التحرز منها أو دفعها أو الخيرة والصلاح فيها، ومن أجل هذا أوصى موسى - عليه السلام - بني إسرائيل، فقال لهم: متى خفتم من حوادث الأيام ونوائب الحدثان من الغلاء والقحط والفتن والجدب أو غلبة الأعداء ودولة الأشرار ومصائب الأخيار، فارجعوا عند ذلك بالتضرع والدعاء وإقامة سنة التوراة من الصلاة والزكاة والصدقات والقرابين والندم والتوبة والبكاء والتضرع إلى الله تعالى، فإنه إذا علم صدق قلوبكم ونياتكم صرف عنكم ما تحذرون وكشف عنكم ما تخافون وما أنتم عليه وبه مبتلون.
وعلى هذا المثال جرت سنة الأنبياء والرسل - عليهم السلام - من لدن آدم أبو البشر إلى محمد، عليهما الصلاة السلام والتحية والرضوان.
فعلى مثل هذا ينبغي أن تستعمل أحكام النجوم والأخبار بالكائنات قبل وجودها وما يدل عليها من حوادث الأيام ونوائب الزمان، لا على ما يستعمله المنجمون ومن يغتر بقولهم بأن يختاروا طالعا جزويا ويتحرزوا إليها من موجبات أحكام الكل بالجزء، وكيف لا يجوز أن يستعمل بقوة رب الفلك على الفلك، كما فعل قوم يونس - عليه السلام - والمؤمنون من قوم صالح وقوم شعيب.
وعلى هذا المثال ينبغي أن تكون مداواة المرضى والأعلال بالرجوع إلى الله - تعالى - أولا بالدعاء والسؤال له والرجاء منه أن يفعل بهم مثل ما ذكرت في أحكام النجوم من الكشف والدفع والصلاح في ذلك، كما بين الله - تعالى - عن إبراهيم حيث يقول: @QUR014 الذي خلقني فهو يهدين * والذي هو يطعمني ويسقين * وإذا مرضت فهو يشفين، ولا ينبغي أن يكون الرجوع إلى أحكام الأطباء الناقصة في الصناعة الجاهلة بأحكام الطبيعيات الغافلة عن معرفة رب الطبيعة ولطفه في صنعته.
وذلك أنك ترى أكثر الناس يفزعون عند ابتداء مرضهم إلى الطبيب، فإذا طال بهم العلاج والمداواة ولم ينفعهم ذلك وأيسوا منهم ومن مداواتهم رجعوا عند ذلك إلى الله - تعالى - ودعوا دعوة المضطرين، وربما يكتبون الرقاع ويلصقونها في حيطان المساجد والبيع وأساطينها ويدعون على أنفسهم وينادون بالشهرة والنكال، وقولهم: رحم الله من دعا للمبتلى كما يفعل بالمشهورين، هذا جزاء من سرق أو قطع أو عمل ما يشبهه، ولو أنهم رجعوا إلى الله - تعالى - في أول الأمر ودعوه في السر والإعلان لكان خيرا لهم وأصلح من الشهرة والنكال.
فعلى مثل هذا يجب أن تستعمل أحكام النجوم في دفع مضار النكبات والتحرز من موجبات أحكامها، وما يدل عليها من الحوادث لا على مثل ما يستعمله المنجمون من الاختبارات بطوالع جزئيات ليتحرزوا بها من موجبات أحكامها الكائنات التي توجبها طوالع السنين والشهور والاجتماعات والاستقبالات والاختيارات للأوقات الجيدة لاستجابة الدعاء وطلب الغفران والمسألة إلى الله - تعالى - بالكشف لما يخافون ويحذرون بأن يصرف عنهم كيف شاء بما شاء، كما ذكروا أن ملكا أخبره منجموه بحادث كائن في وقت من الزمان يخاف منه هلاكا على بعض أهل المدينة، فقال لهم: من أي وجه يكون، وبأي سبب؟ فلم يدروا تفصيلا، ولكن قالوا: من سلطان لا يطاق، فقال لهم: متى يكون ذلك؟ فقالوا: في هذه السنة في شهر كذا، فشاور الملك أهل الرأي كيف التحرز منه، فأشار عليه أهل الدين والورع والمتألهون بأن يخرج وأهل المدينة كلهم إلى خارج المدينة فيدعون الله أن يصرف عنهم ما أخبرهم به المنجمون مما يخافون ويحذرون، فقبل الملك مشورتهم وخرج في ذلك الشهر الذي يخافون كون الحوادث فيه، وخرج معه أكثر أهل المدينة، فدعوا الله أن يصرف عنهم ما يخافون، وباتوا تلك الليلة على حالهم، وبقي قوم في المدينة لم يكترثوا لما أخبرهم به المنجمون، وما خافوا وما حذروا منه جاء بالليل مطر عظيم وسيل العرم، وكان بناء المدينة في مصب الوادي، فهلك من كان في المدينة بائتا، ونجا من كان قد خرج وكان بائتا في الصحراء، فمثل هذا يندفع من قوم ويصيب قوما، وأما الذي لا يندفع وما لا بد منه، ولكن يجعل الله لأهل الدعاء والصدقة والصلاة والصيام في ذلك خيرية وصلاحا كما فعل بقوم نوح، فمن آمن منهم نجا وجعل لهم خيرية في ذلك، كما ذكر الله - تعالى - بقوله: @QUR013 فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين، وأما متفلسفوكم الطبيعيون والمنطقيون والجدليون فإنهم عليكم لا لكم، قال الإنسي: وكيف ذلك؟ قال: لأنهم هم الذين يضلون بني آدم عن المنهاج المستقيم وصواب الطريق والدين وأحكام الشرائع بكثرة اختلافهم وفنون آرائهم ومذاهبهم ومقالاتهم، وذلك أن منهم من يقول بقدم العالم، ومنهم من يقول بقدم الهيولى، ومنهم من يقول بقدم الصورة، ومنهم من يقول بعلتين اثنتين، ومنهم من يقول بثلاث، ومنهم من يقول بأربع، ومنهم من قال بخمس، ومنهم من قال بست، ومنهم من قال بسبع، ومنهم من قال بالصانع والمصنوع معا، ومنهم من قال بلا نهاية، ومنهم من قال بالتناهي، ومنهم من قال بالمعاد، ومنهم من قال بالإنكار، ومنهم من أقر بالرسل والوحي، ومنهم من أنكر، ومنهم من شك وارتاب وتحير، ومنهم من قال بالعقل والبرهان، ومنهم من قال بالتقليد من الأقاويل المختلفة والآراء المتناقضة التي بنو آدم بها مبتلون، وفيها متحيرون متبلبلون شاكون، وفيها مختلفون، ونحن كلنا مذهبنا واحد وطريقتنا واحدة، وربنا واحد، ولا نشرك به شيئا نسبحه في غدونا ونقدسه في رواحنا، لا نريد لأحد منا سوءا، ولا نضمر له شرا ولا نفتخر على أحد من خلق الله - تعالى - راضون بما قسمه الله - تعالى - إنا خاضعون تحت أحكامه لا نقول: لم وكيف ولماذا فعل ودبر، كما يقول المعترضون على ربهم في أحكامه وتدبيره وصنعه.
فأما الذي ذكرت من أمر المهندسين والمساح منكم وافتخرت به، فلعمري إن لهم التعاطي في البراهين التي تدق عن الفهم، وتبعد عن التصور لما يدعون فيها، ولكن أكثرهم لا يعقلون لتركهم تعلم العلوم الواجب تعلمها ولا يسعهم الجهل بها، يربون على ما يدعون من الفضولات التي لا يحتاج إليها؛ وذلك أن أحدهم يتعاطى مساحة الآجام والأوتاد ومعرفة ارتفاع رءوس الجبال وعمق قعر البحر وتكسير البراري والقفار وتركيب الأفلاك ومراكز الأثقال وما شاكل ذلك، وهو مع ذلك كله جاهل بكيفية تركيب جسده ومساحة جثته ومعرفة طول مصارينه وأمعائه وسعة تجويف صدره وقلبه ورئته ودماغه وكيفية خلقة معدته وأشكال عظامه وتركيب هندام مفاصل بدنه وما شاكل هذه الأشكال التي معرفته بها أسهل، وفهمه لها أقرب وعلمها بها أوجب والتفكر فيها أنفع والاعتبار بها أهدى وأرشد إلى معرفة ربه وخالقه ومصوره، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من عرف نفسه فقد عرف ربه.»
ومع جهله بهذه الأشياء أيضا ربما يكون تاركا للعلم بكتاب الله وفهم أحكام شريعته ودينه ومفروضات سنن مذهبه، ولا يسعه تركها ولا الجهل بها.
وأما افتخاركم بأطبائكم والمداوين لكم، فلعمري إنكم محتاجون إليهم ما دامت لكم البطون الرحبة والشهوات المؤذية والنفوس الشرهة والمأكولات المختلفة وما يتولد منها من الأمراض المزمنة والأسقام المؤلمة والأوجاع المهلكة تلجئكم إلى باب الأطباء، ولنعم ما قيل في الشعر:
إن الطبيب بطبه ودوائه
لا يستطيع دفاع مكروه أتى
فزادكم الله أطباء؛ لأنه لا يرى على باب دكان الطبيب إلا كل عليل مريض سقيم، كما لا يرى على باب دكان المنجم إلا كل منحوس أو منكوب أو خائف، لا يزيده المنجم إلا نحسا على نحس، يأخذ قطعة ولا يقدر على تعجيل سعادة ولا تأخير منحسة إلا زخرف القول غرورا تخمينا وحزرا بلا يقين ولا برهان.
وهكذا حكم المتطببين منكم يزيدون العليل سقما والمريض عذابا بالحمية من تناول أشياء ربما يكون شفاء العليل في تناولها، وهو ينهاه ويمنعه منها لجهله، ولو تركه مع حكم الطبيعة لعله كان أسرع لبرئه وأنجح لشفائه، فافتخارك أيها الإنسي بأطبائكم ومنجميكم هو عليكم لا لكم.
فأما نحن فغير محتاجين إلى الأطباء والمنجمين؛ لأنا لا نأكل إلا قوت يوم وبلغة يوم من لون واحد وطعام واحد، فلا تعرض لنا الأمراض المختلفة والأعلال المتفننة، ولا نحتاج إلى الأطباء ولا إلى الشراب والدرياقات وفنون المداوات مما تحتاجون أنتم إليه، فهذه الأحوال كلها التي هي بالأحرار والأخيار أشبه والكرام أولى، وتلك بالعبيد والأشقياء أولى، وبهم أليق، فمن أين زعمتم أنكم أرباب لنا ونحن لكم عبيد بلا حجة ولا برهان إلا قول الزور والبهتان.
وأما تجاركم ورؤساؤكم ودهاقينكم الذين ذكرتم وافتخرتم بهم، فلا فخر لكم ولا لهم؛ إذ كانوا هم أسوأ حالا من العبيد الأشقياء والفقراء الضعفاء؛ وذلك أنك تراهم طول نهارهم مشغولي القلب متعوبي الأبدان مغمومي النفوس معذبي الأرواح فيما يبنون ما لا يسكنون ويغرسون ما لا يجنون، ويجمعون ما لا يأكلون، ويعمرون الدور ويخربون القبور، أكياس في أمور الدنيا بله في أمور الآخرة، يجمع أحدهم الدينار والمتاع، ويبخل أن ينفق على نفسه ويتركه لزوج امرأته أو لزوج ابنته أو لزوجة ابنه ولوارثه كادون لغيرهم، مصلحون أمور سواهم، لا راحة لهم إلى الممات.
وأما تجاركم فيجمعون من حرام وحلال ويبنون الدكاكين والخانات ويملئونها من الأمتعة ويحتكرونها ويضنون بها على أنفسهم وجيرانهم وأحبابهم، ويمنعون الفقراء والمساكين حقوقهم، ولا ينفقون حتى تذهب جملة واحدة إما في حرق أو غرق أو سرقة أو مصادرة سلطان جائر أو قطع طريق وما شاكل ذلك، ويبقى هو بحزنه ومصيبته معاقبا بما كسبت يداه، فلا زكاة أخرج، ولا صدقة أعطى، ولا يتيما بر، ولا معروفا لضعيف أسدى، ولا صلة لذي رحم، ولا إحسانا إلى صديق، ولا تزود للمعاد، ولا قدم للآخرة.
والذين ذكرتهم من أرباب النعم وأهل المروءات فلو كانت لهم مروءة كما ذكرت لكان لا يهنيهم العيش إذا رأوا فقراءهم وجيرانهم واليتامى من أولاد إخوانهم والضعاف من أبناء جنسهم جياعا عراة مرضى زمنى مفاليج مطروحين على الطريق يطلبون منهم كسرة ويسألونهم خرقة وهم لا يلتفتون إليهم ولا يرحمونهم ولا يفكرون فيهم، فأي مروءة لهم وأي فتوة فيهم؟ وكيف تهنيهم لذاتهم، إلا أنهم كالأنعام بل هم أضل سبيلا؟!
وأما الذين ذكرتهم من الكتاب والعمال وأصحاب الدواوين وافتخرت بهم فهكذا يليق بكم الافتخار بالأشرار الذين يهتدون إلى أسباب الشرور ما لا يهتدي غيرهم ويصلون إلى ما لا يصل إليه سواهم لدقة أفهامهم وجودة تمييزهم ولطف مكايدهم وطول ألسنتهم ونفاذ خطابهم في كتبهم يكتب أحدهم إلى أخيه وصديقه زخرفا من القول غرورا بألفاظ مسجعة وكلام حلو وخطاب فصيح يغريه وهو من ورائه في قطع دابره والحيلة في إزالة نعمته والوصول إلى أسباب نكايته وتدوين الأعمال في مصادراته وتأويلات الأخذ لماله.
وأما قراؤكم وعبادكم الذين تظنون أنهم أخياركم وترجون استجابة دعائهم وشفاعتهم لكم عند ربهم فهم الذين غروكم بإظهارهم الورع والخشوع والتقشف والنسك من حذف الأسبلة وتقصير الأكمام وتشمير الإزار والسراويل ولبس الخشن من الصوف والشعر والمرقعات وطول الصمت وكثرة التنسك وترك التفقه في الدين وتعلم أحكام الشرائع وسنن الدين وترك تهذيب النفس وإصلاح الخلق، واشتغلوا بكثرة السجود والركوع بلا علم حتى ظهر أثر السجود على جباههم والنفثات على ركبهم، وتركوا الأكل والشرب حتى جفت أدمغتهم ونحلت شفاههم وأنحلت أبدانهم وتغيرت ألوانهم وانحنت ظهورهم، وقلوبهم مملوءة بغضا وحقدا وجفاء لمن ليس مثلهم، ونفوسهم مملوءة وساوس وخصومة مع ربهم بضمائرهم لم خلق إبليس والشياطين والكفار والفراعنة والفساق والفجار والأشرار ولم رباهم ورزقهم ويمكنهم ويمهلهم ولا يهلكهم، ولماذا فعل هذا، وما شاكل هذه المحاولات والخرافات والوساوس التي قلوبهم مملوءة منها، ونفوسهم شاكة متحيرة، فهم عند الله أشرار، وإن كانوا عندكم أخيار، فهؤلاء وإن كانوا بالصورة الظاهرة إنسان ففي الصورة المعنوية ليسوا كذلك، فأي افتخار لكم بهم؟! وإنما هم عار لكم.
وأما فقهاؤكم وعلماؤكم فهم الذين يتفقهون في الدين طلبا للدنيا وابتغاء للرياسة والولاية والقضاء والفتاوى بآرائهم وقياساتهم، فيحللون تارة ويحرمون تارة بتأويلاتهم ويتبعون ما تشابه ويتركون حقيقة ما أنزل الله من الآيات المحكمات، فنبذوه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، ويتبعون ما تتلو الشياطين على قلوبهم من الخيالات.
كل هذا طلبا للدنيا وتكسبا للرياسة من غير ورع ولا تقوى من الله تعالى، فأولئك هم وقود النار في الآخرة أو يتوبون إلى الله ويستغفرونه، فأي فخر لكم؟!
وأما قضاتكم وعدولكم والمزكون لكم فأدهى وأظلم وأبطر، وهم أشر سيرة من الفراعنة والجبابرة؛ وذلك أنك تجد الواحد منهم قبل الولاية قاعدا بالغداة في مسجده حافظا لصلاته مقبلا على شأنه يمشي بين جيرانه على الأرض هونا حتى إذا ولي الحكم والقضاء تراه راكبا بغلة فارهة، وحمارا مصريا بسرج ومركب وغاشية يحملها السودان وخفاقين تنجر في الأرض، قد ضمن القضاء من السلطان الجائر بشيء يؤديه إليه من أموال اليتامى ومال الوقوف، وصالح عدوا له بشيء من السحت والبراطيل، فقبل منهم الرشوة، ويرخص لهم في الجنايات وشهادات الزور وترك أداء الأمانات والودائع، فأولئك هم الذين وبخوا في التوراة والإنجيل والفرقان، أبالله تغترون وعليه تجرءون؟
وأما خلفاؤكم الذين تزعمون أنهم ورثة الأنبياء - عليهم السلام - فكفى في وصفهم ما قال الله - تعالى - وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من نبوة إلا ونسختها الجبروتية، ويسمون باسم الخلافة، ويسيرون بسيرة الجبابرة، وينهون عن منكرات الأمور، ويرتكبون هم منها كل محظور، ويقتلون أولياء الله وأولاد الأنبياء - عليهم السلام - ويسبونهم ويغصبونهم على حقوقهم، ويشربون الخمر ويبادرون إلى الفجور، واتخذوا عباد الله خولا وأيامهم دولا وأموالهم مغنما، فبدلوا نعمة الله كفرا، واستطالوا على الناس افتخارا، ونسوا أمر المعاد، وباعوا الدين بالدنيا والآخرة بالأولى، فويل لهم مما كسبت أيديهم، وويل لهم مما يكسبون؛ وذلك أنه إذا ولي أحد منهم ابتدأ أولا بالقبض على من تقدمت له حرمة لآبائه وأسلافه وأزال نعمته، وربما قتل أعمامه وإخوانه وأبناء عمه وأقرباءه، وربما كحلهم أو حبسهم ونفاهم أو تبرأ منهم، كل ذلك يفعلون بسوء ظنهم وقلة يقينهم؛ مخافة أن يفوتهم المقدور أو رجاء أن ينالوا ما ليس في المقدر، كل ذلك حرصا على طلب الدنيا وشدة الرغبة فيها وشحا عليها وقلة الرغبة في الآخرة، وقلة اليقين بجزاء الأعمال في المعاد، وليست هذه الخصال من شيم الأحرار ولا فعل الكرام، فافتخارك أيها الإنسي على الحيوان بذكر ملوككم وأمرائكم وسلاطينكم عليكم لا لكم، وادعاؤكم علينا العبودية ولأنفسكم الربوبية صار باطلا وزورا وبهتانا، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
فصل
فلما فرغ الببغاء من كلامه قال الملك لمن حوله من حكماء الجن والإنس: أخبروني من الذي يحمل إلى الأرضة ذلك الطين الذي تبني به على نفسها تلك الآزاج والعقود شبه الرواق والدهاليز، وهي دابة ليس لها رجلان تعدو بهما ولا جناحان تطير بهما؟
فقال الحكيم الخبير من العبرانيين: نعم أيها الملك، سمعنا أن الجن تحمل إليها ذلك الطين مكافأة لها على ما أسدت إليها من الإحسان في اليوم الذي أكلت منسأة سليمان بن داود - عليه السلام - فخر وعلمت الجن بموته، فهربت ونجت من العذاب الأليم.
فقال الملك لمن حوله من علماء الجن: ماذا تقولون فيما ذكر الإنسي؟
فقالوا: لسنا نعرف هذا الفعل من الجن؛ لأنه لو كانت الجن تحمل إليها التراب والطين والماء فهي بعد إذن في العذاب المهين؛ لأن سليمان لم يكن يسومها شيئا غير حمل الماء والتراب في اتخاذ البنيان.
فقال الحكيم اليوناني: عندنا أيها الملك من ذلك علم هو غير ما ذكر هذا العبراني، فقال الملك: أخبرني ما هو؟ قال: نعم، اعلم أيها الملك أن هذه الدابة دابة ظريفة الخلقة عجيبة الطبيعة، من ذلك أن طبيعتها باردة جدا وبدنها متخلخل منتفخ المسام يتداخلها الهواء ويتجمد من شدة برد كبيعتها ويصير ماء ويرشح على ظاهر بدنها ويقع عليها غبار الهواء دائما فيبتل ويجتمع شبه الوسخ، فهي تجمع ذلك من بدنها وتبني على نفسها تلك الآزاج كنا لها من الآفات ولها مشفران حادان شبه المشراطين تقرض بهما الحب والخشب والثمر والنبات وتنقب الآجر والحجارة.
فقال الملك للصرصر: هذه الدابة من الهوام، وأنت زعيمها، فماذا ترى فيما قال اليوناني؟ فقال الصرصر: صدق فيما قال، ولكن لم يتمم ولم يفرغ من الوصف، فقال الملك: تممه أنت، فقال: نعم.
إن الخالق - تعالى - لما قدر أجناس الخلائق وقسم بينها المواهب والعطايا عدل في ذلك بينها بحكمته ليتكافئوا ويتساووا عدلا منه وإلهاما وإنصافا بها، سبحانه وبحمده، فمن الخلق ما قد وهب له جثة عظيمة وبنية قوية ونفسا ذليلة مهينة مثل الجمل والفيل، ومنها ما قد وهب له نفسا قوية عزيزة عليمة حكيمة وبنية صغيرة ليتكافأ في المواهب والعطايا عدلا من الخالق الوهاب وحكمة.
فقال الملك للصرصر: زدني في البيان، قال: نعم، ألا ترى أيها الملك إلى الفيل مع كبر جثته وعظيم خلقته كيف هو ذليل النفس منقاد للصبي الراكب على كتفه يصرفه كيف شاء؟ ألم تر إلى الجمل مع عظم جثته وطول رقبته كيف ينقاد لمن جذب خطامه ولو كانت فأرة أو خنفساء؟ ألم تر إلى الجرادة في الحشرات الصغار التي هي أصغر منها إذا ضربت الفيل بحمتها كيف تقتله وتهلكه؟ وكذلك الأرضة وإن كانت لها جثة صغيرة وبنية ضعيفة فإن لها نفسا قوية، وهكذا حكم سائر الحيوانات الصغار الجثة مثل دودة القز ودودة الدرة وزنابير النحل، فإن لها أنفسا علامة حكيمة وإن كانت أجسادها صغارا وبنيتها ضعيفة.
قال الملك: ما وجه الحكمة في ذلك؟ قال: لأن الخالق - تعالى - علم بأن البنية القوية والجثة العظيمة لا تصلح إلا للكد والعمل الشاق وحمل الأثقال، ولو قرن بها أنفسا كبارا لما انقادت للكد والعمل الشاق، ولأبت وأنفت ولجت وشمست وامتنعت، فسبحان الخالق العالم بمصالح خلقه. وأما الجثث الصغار والأنفس الكبار العلامة فإنها لا تصلح إلا للحذق في الصنائع مثل أنفس النحل ودودة القز ودودة الدرة وأمثالها.
قال الملك: زدني في البيان، قال: نعم، إن الحذق في الصناعة هو أن لا يدري كيف عملها الصانع، ومن أي شيء عملها، وبأي شيء يعمل، مثل صناعة النحل؛ لأنه لا يدري كيف تبني منازلها وبيوتها مسدسات من غير بركار ولا مسطرة ولا أدوات أخر، ولا يدرى من أين تجمع العسل والشمع، وكيف تعمله، وكيف تميزه، فلو كانت لها جثة كبيرة لبان ذلك وشوهد ورئي وأدرك، وهكذا حكم دودة القز لو كانت لها جثة عظيمة لرئي كيف تمد ذلك الخيط الدقيق وتغزله وتفتله، وهكذا بناء الأرضة لو كانت لها جثة عظيمة لرئي كيف تبل ذلك الطين وكيف تبني، وأخبرك أيها الملك أن الخالق - تعالى - قد أرى الدلالة على قدرته للحكماء من بني آدم المنكرة إيجاد العالم لا من هيولى موجودة، من صناعة النحل باتخاذها البيوت من الشمع وجمعها العسل من غير هيولى موجودة.
قال الملك: زعمت الإنس بأنها تجمع من زهر النبات وورق الشجر، قال: فلم لا يجمعون هم منها شيئا مع زعمهم بأن لهم العلم والقدرة والحكمة والفلسفة؟ وإن كانت تجمع ذلك من وجه الأرض أو من الماء أو من وجه الهواء، فلم لا يرون منها شيئا؟ ولا يدرون كيف تجمع ذلك وتحمله وتميزه وتبني وتخزن؟ وهكذا أرى الخالق قدرته لجبابرتهم الذين طغوا وبغوا لما كثرت نعم الله - تعالى - لديهم مثل نمرود الجبار قتله أصغر جثة من الحشرات، وهكذا فرعون لما طغى وبغى على موسى أرسل عليه جنود الجراد وأصغر من الجراد القمل وقهره، فلم يعتبر ولم ينزجر، وهكذا لما جمع الله لسليمان - عليه السلام - الملك والنبوة وشيد ملكه وسخر له الجن والإنس وقهر ملوك الأرض وغلبهم شكت الجن والإنس في أمره، وظنت أن ذلك بحيلة منه وقوة وحول له، مع أنه قد نفى هو ذلك عن نفسه بقوله: @QUR08 هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر، فلم ينفعهم قوله ولم يزل الشك من قلوبهم في أمره حتى بعث الله هذه الأرضة فأكلت منسأته وخر على وجهه في محرابه، فلم يجسر على ذلك أحد من الجن والإنس هيبة منه وإجلالا، وبين الله قدرته ليكون عظة لملوكهم الجبابرة الذين يفتخرون بكبر أجسادهم وعظم جثتهم وشدة صولتهم، ومع هذه كلها لا يتعظون ولا ينتبهون ولا يزجرون، بل يلحون ويتمردون ويفتخرون علينا بملوكهم الذين هم صرعى بأيدي صغارنا والضعفاء من أبناء جنسنا!
وأما دودة الدرة فهي أصغر حيوان البحر بنية وأضعفها قوة وألطفها جثة وأكبرها نفسا وأكثرها علما ومعرفة، وذلك أنها تكون في قعر البحر مقبلة على شأنها في طلب قوتها، حتى إذا حان وقت من الزمان صعدت من قعر البحار إلى سطح الماء في يوم المطر فتفتح أذنين لها شبه شفتين فيقطر فيهما من ماء المطر حبات، فإذا علمت بذلك ضمت تلك الشفتين ضما شديدا إشفاقا أن يرشح فيها من ماء البحر المالح، ثم تنزل برفق إلى قعر البحار كما كانت بدءا وتمكث هناك منضمة على الصدفتين إلى أن ينضج ذلك الماء فينعقد منه الدر، فأي علماء الإنس يعمل مثل هذا خبروني إن كنتم صادقين!
وقد جعل الله - تعالى - في جبلة نفوس الإنس محبة لبس الحرير والديباج والإبريسم وما يتخذ منها من اللباس الحسن الذي هو كله من لعاب هذه الدودة الصغيرة الجثة الضعيفة البنية الشريفة النفس، وجعل في ذوقهم ألذ ما يأكلون العسل الذي هو بصاق أضعف الحيوانات الصغيرة الجثة الضعيفة البنية الشريفة النفس الحاذقة في الصنعة، وأحسن ما يوقدون في مجالسهم الشمع الذي هو فضلة من فضالة النحل، وجعل أيضا أفخر ما يتزينون به الدر الذي يخرج من جوف هذه الدودة الصغيرة الجثة الشريفة النفس ليكون دلالة على حكمة الصانع الخالق الحكيم ليزدادوا به معرفة ولنعمائه شكرا وفي مصنوعاته فكرة واعتبارا، ثم هم مع هذه كلها معرضون غافلون ساهون لاهون طاغون باغون، وفي طغيانهم يترددون، لأنعامه كافرون، ولآلائه جاحدون، ولصنعته منكرون، وعلى ضعفاء الخلق مفتخرون متعدون جائرون ظالمون.
فلما فرغ الصرصر وهو زعيم الهوام من كلامه قال الملك: بارك الله فيك من حكيم، ما أبلغك! ومن متقن، ما أحكمك! ومن خطيب، ما أفصحك! ومن موحد، ما أعرفك بربك! ومن ذاكر شاكر لأنعامه، ما أفضلك!
فصل
ثم قال الملك للإنسي: قد سمعتم ما قال وفهمتم ما أجاب، فهل عندكم شيء آخر؟ قالوا: نعم، خصال ومناقب تدل على أنهم عبيدنا ونحن أرباب، قال: وما هي؟ اذكرها! قال: وحدانية صورتنا وكثرة صورها واختلاف أشكالها، فإن الرياسة والربوبية بالوحدة أشبه والعبودية بالكثرة أشبه، فقال الملك للجماعة: ماذا ترون فيما قال وذكر؟ فأطرقت الجماعة ساعة مفكرة فيما قال.
ثم تكلم زعيم الطيور وهو الهزار داستان، قال: صدق أيها الملك فيما قال، ولكن نحن وإن كانت صورنا مختلفة كثيرة فنفوسنا واحدة، وهؤلاء الإنس وإن كانت صورتهم واحدة فإن نفوسهم كثيرة مختلفة، قال الملك: وما الدليل على أن نفوسهم كثيرة مختلفة؟ قال: كثرة آرائهم واختلاف مذاهبهم وفنون دياناتهم، وذلك أنك تجد فيهم اليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين ومن عبد الأصنام والنيران والشمس والقمر والنجوم والكواكب وغيرها، وتجد أيضا أهل الدين الواحد مختلفي المذاهب والآراء مثل سامري وغيابي وحالوتي ونسطوري ويعقوبي وملكاني وشنوي ومانوي وخرمي ومزدكي ويصاني وبهرمي وشمسي وخارجي ورافضي وناصبي وقدري وجهمي ومعتزلي وسني وجبري وما شاكل كل هذه المذاهب التي يكفر أهلها بعضهم بعضا، ويلعن بعضهم بعضا، ويقتل بعضهم بعضا، ونحن من هذه كلها برآء؛ مذهبنا واحد واعتقادنا واحد وكلنا موحدون مؤمنون مسلمون غير مشركين ولا منافقين ولا فاسقين ولا مرتابين ولا شاكين ولا متحيرين ولا ضالين ولا مضلين، نعرف ربنا وخالقنا ورازقنا ومحيينا ومميتنا فنسبحه ونهلله ونقدسه ونكبره بكرة وعشيا، ولكن هؤلاء الأناس لا يفقهون تسبيحهم.
فقال الإنسي الفارسي: نحن أيضا كذلك، إن ربنا واحد، وإلهنا وخالقنا ورازقنا واحد، ومحيينا ومميتنا واحد لا شريك له، فقال الملك: فلم تختلفون في الآراء والمذاهب والديانات والرب واحد؟ قال: لأن الديانات والآراء والمذاهب إنما هي طرق ومسالك ومحاريب ووسائل والمقصود واحد من أي الجهات توجهنا فثم وجه الله، قال: فلم يقتل بعضكم بعضا إذ كانت الديانات كلها قصدها واحد، وهو التوجه إلى الله؟
فقال المستبصر الفارسي: نعم أيها الملك، ليس ذلك من جهة الدين؛ لأن الدين لا إكراه فيه، ولكن من جهة سنة الدين الذي هو الملك، قال: وكيف ذلك؟ بينه لي. قال: إن الدين والملك أخوان توأمان لا يفترقان، ولا قوام لأحدهما إلا بأخيه، غير أن الدين هو الأخ المقدم، والملك هو الأخ المؤخر المعقب له، فلا بد للملك من دين يدين به الناس، ولا بد للدين من ملك يأمر الناس بإقامة سنته طوعا أو كرها، فلهذه العلة يقتل أهل الديانات بعضهم بعضا طلبا للملك والرياسة، كل واحد يريد انقياد الناس أجمع لسنة دينه وأحكام شريعته، وأنا أخبر الملك - وفقه الله - لفهم الحقائق وأذكره بشيء يقين لا شك فيه.
قال الملك: وما هو؟ قال: إن قتل الأنفس سنة في جميع الديانات والملل والدول كلها، غير أن قتل النفس في سنة الدين، وهو أن يقتل طالب الدين نفسه، وفي سنة الملك أن يقتل طالب الملك غيره.
فقال الملك: أما قتل الملوك غيرها في طلب الملك فبين ظاهر، وأما قتل طالب الدين نفسه في سائر الديانات فكيف هو؟
قال: نعم، ألا ترى أيها الملك أن ذلك سنة دين الإسلام كيف هو بين ظاهر، وذلك قول الله تعالى: @QUR016 إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون.
ثم قال: @QUR05 فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وقال: @QUR08 يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، وقال: @QUR08 إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا، وقال في سنة التوراة: @QUR010 فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم، وقال المسيح - عليه السلام - في الإنجيل: @QUR09 من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله.
فقال: «استعدوا للقتل والصلب إن كنتم تريدون أن تنصروني وتكونوا معي في ملكوت السموات عند أبي وأبيكم، وإلا فلستم في شيء مني، فقبلوا وقتلوا ولم يرتدوا عن دين المسيح.
وهكذا يفعل البراهمة من أهل الهند، يقتلون أنفسهم ويحرقون أجسادهم طلبا للدين ويرون ويعتقدون بأن أقرب قربان إلى الله - تعالى - أن يقتل التائب جسده ويحرق بدنه ليكفر عن ذنوبه يقينا منه بالمعاد.
وهكذا يفعل المانية والمثنوية، تمنع أنفسها من الشهوات وتحمل عليها كد العبادات حتى تقتلها وتخلصها من دار البلاء والهوان.
وعلى هذا القياس يوجد حكم سنن أهل الديانات في جعل قتل النفوس من فنون العبادات وأحكام الشرائع كلها وضعت لطب النفوس وطلب النجاة من نار جهنم والفوز بالوصول إلى نعيم الآخرة دار المعاد والقرار، وأخبر الملك وأذكره أن في أهل الديانات والمذاهب أخيارا وأشرارا، ولكن أشر الأشرار من لا يؤمن بيوم الحساب ولا يرجو ثواب الإحسان، ولا يخاف مكافأة السيئات ولا يقر بوحدانية الصانع الباري الحكيم الخالق الرازق المحيي المميت المعيد الذي يرجع إليه المرجع وإليه المصير.
فصل
ثم قال زعيم الهند: نحن بنو آدم أكثر من الحيوانات عددا وأمما وأجناسا وأنواعا وأشخاصا، وأعرف بفنون تصاريف أحوال الزمان ومآربه وعجائبه.
قال الملك: وما يدريك؟ قال: لأن الربع المسكون من الأرض يحوي على نحو سبعة عشر ألف مدينة مختلفة الأمم الكثيرة العدد التي لا تعد ولا تحصى، فمن تلك الأمم التي لا تعد ولا تحصى أهل الهند وأهل الصين وأهل السند وأهل الزنج وأهل الحجاز وأهل اليمن وأهل الحبشة وأهل نجد وأهل بلاد النوبة وأهل مصر وأهل بلاد الصعيد وبلاد الإسكندرية وأهل برقة وأهل قيروان، وأهل البربر وأهل البوادي، وأهل طنجة وأهل بلاد الخالدات وأهل بلاد مردمانه وأهل كيوان وأهل بلاد كله وأهل بلاد الأندلس وبلاد الرومية وبلاد قسطنطينية، وبلاد دجلة وبلاد مقدونية وبلاد برجان وبلاد الصقالبة وبلاد أملاج وبلاد الأبواب، وبلاد أذربيجان وبلاد أرمينية وبلاد أهل الإسلام، وبلاد أهل الشام وبلاد أهل يونان وبلاد الديارات وبلاد العراق وبلاد خراسان وبلاد خوزستان وبلاد الجبال وبلاد جيلان وديلمان وطبرستان وبلاد جرجان وبلاد نيسابور وأهل كرمان وبلاد فارس وبلاد مكران وبلاد كابلستان ومولتان وبلاد سجستان وبلاد ما وراء النهر وبلاد غور وأستادان وباميان وصخارستان وكيلان وبلاد خوارزم وبلاد يأجوج ومأجوج وفرغانة وبلاد صعانيات وبلاد كيماك وبلاد خاقان وسيستان وبلاد جوجير وبلاد تبت وأهل بلاد جاج وماجين وأهل بلاد الجزائر والسوادات والجبال والفلوات والسواحل هذه سوى القرى والأعراب والأكراد وأهل البراري والبوادي والجزائر والغياض والآجام، وأهل هذه البلاد كلها أمم من الإنس من بني آدم مختلفة ألوانهم وألسنتهم وأخلاقهم وطباعهم وآراؤهم ومذاهبهم وصنائعهم وسيرتهم في دياناتهم لا يحصي عددها إلا الله - تعالى - الذي خلقهم وأنبأهم ورزقهم ويعلم سرهم ونجواهم، ويعلم مستقرهم ومستودعهم، كل في كتاب مبين، فكثرة عددهم واختلاف أحوالهم وفنون تصاريف أمورهم وعجائب مآربهم يدل على أنهم أفضل من غيرهم وأكرم من سواهم من أجناس الخلائق التي في الأرض من الحيوانات جميعا، وأنهم أرباب والحيوانات عبيد لهم وخول ومماليك، ولنا فضائل جمة أخر ومناقب شتى يطول شرحها، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
فصل
فلما فرغ الإنسي من كلامه نطق عند ذلك الضفدع وقال: الحمد لله الكبير المتعال العلي الجبار العزيز الغفار الرحيم القهار، خالق الأنهار الجارية والبحار الزاخرة المرة المالحة البعيدة القرار الواسعة الأقطار ذوات الأمواج والهيجان، معدن الدر والمرجان، وهو الذي خلق في أعماق قرارها الظلمة وأمواجها المتلاطمة أصناف الخلائق ذوات الفنون والطوائف، فمنها ذوات الجثة العظام والهياكل الجسام قد ألبس بعضها الجلود الثخان والفلوس المنضدة الصلاب والأصداف المجعدة ومنها كثيرة الأرجل الدبابة.
ومنها ذوات الأجنحة الطيارة، ومنها ذوات البطون الخميصة المناسبة، ومنها ذوات الرءوس الكبار والأفواه المفتحة، والعيون البراقة والأشداق الواسعة، والأسنان القاطعة والمخالب الحداد، والأجواف الرحبة والجلود المرصعة، والأذناب الطويلة، والحركات الخفيفة والسباحة السريعة.
ومنها صغار الجثة، ملس القدود بلا آلة ولا أدوات، ومنها قليلة الحركات والحس، كل ذلك لأسباب وعلل لا يعلم ولا يعرف كنه معرفتها إلا الله الذي خلقها وصورها وينشئها ويرزقها ويتممها ويكملها ويبلغها إلى أقصى مدى غاياتها ومنتهى نهاياتها ويعلم مستقرها ومستودعها، كل في كتاب مبين لا لمخافة غلط ولا احتراز من النسيان، لكن لوضوح وبيان.
ثم قال الضفدع: ذكر هذا الإنسي أيها الملك العادل أصناف بني آدم وعدد طبقاتهم ومراتبهم وافتخر بها على الحيوانات، فلو أنه رأى أجناس الحيوانات من حيوان الماء وشاهد صور أنواعها وعجائب أشكال أشخاصها وطوائف فنون هياكلها، لعاين عجائب، ولصغر في عينه ما ذكر من كثرة أصناف بني آدم والأمم الكثيرة التي ذكر أنها في المدن والقرى والبراري والبلدان، وذلك أن في الربع المسكون نحوا من أربعة عشر بحرا كبارا؛ منها بحر الروم وبحر جرجان وبحر جيلان وبحر القلزم وبحر فارس وبحر هند وبحر سند وبحر الصين، وبحر يأجوج ومأجوج وبحر الأخضر وبحر الغربي وبحر الشمال، وبحر الجنوب، وبحر الشرقي، وبحر الحبشة، وفي هذا الربع المسكون نحو من خمسمائة بحر صغار ونحو من مائتي نهر طوال مثل جيحون ودجلة وفرات ونيل مصر ونهر الكر والرس بأذربيجان وهارمند وسدسكتان وما شاكل هذه الأنهار، طول كل واحد من مائة فرسخ إلى ألف فرسخ.
وأما الآجام والبطائح والغدران والأنهار الصغار والسواقي ما لا يعد ولا يحصى، وفي كل هذه من أجناس السموك والسراطانات والكرازنك والسلاحف والكواسج والتماسيح والدلافين وأنواع أخر لا تعد ولا تحصى ولا يعلمها إلا الله، وقد قيل إنها تسعمائة صورة جنسية سواء أنواعها وأشخاصها، وإن في البر نحو خمسمائة صورة جنسية ونوعية من أجناس الوحوش والسباع والبهائم والأنعام والحشرات والهوام والطيور والجوارح وغيرها من الطيور الإنسية، وكل هذه الخلائق عبيد الله - تعالى - مماليك له خلقهم بقدرته وصورهم برحمته وأنشأهم ورباهم ورزقهم وحفظهم ورعاهم لا تخفى عليه خافية من أمرهم يعلم مستقرهم ومستودعهم، ثم قال الضفدع: فلو تأملت واعتبرت فيما كان ذلك أيها الإنسي لعلمت وتبين لك بأن افتخارك بكثرة بني آدم وعدد أصنافهم وطبقاتهم لا يدل على أنهم أرباب وغيرهم عبيد لهم بتة.
فلما فرغ الضفدع من كلامه، قال حكيم من الجن: ذهب عليكم يا معشر الإنس من بني آدم ويا معشر الحيوانات الأرضية وذوي الأجسام الثقيلة والجثة العظيمة الغليظة والأجرام ذوي الأبعاد الثلاثة من ساكني البحر والبر والجو وخفت عنكم معرفة كثرة الخلائق الروحانية والصور النورانية والأرواح الخفية والأشباح اللطيفة والنفوس البسيطة والصور المفارقة التي مسكنها في فسحة أطباق السموات وسريانها في فضاء سعة عالم الأفلاك من أصناف الملائكة الروحانيين الكرويين وحملة العرش أجمعين وما في سعة كرة الاثنين من الأرواح النارية وما في سعة كثرة الزمهرير من قبائل الجن وإخوان الشياطين وجنود إبليس أجمعين، فلو أنكم يا معشر الإنس ويا معشر الحيوانات عرفتم كثرة أجناس هذه الخلائق التي ليست بأجسام ذوات أركان ولا أجرام ذوات أبعاد ، وعلمتم كثرة أنواعها وكثرة صورها وعدد أشخاصها وأشخاص أشكالها، لصغرت في أعينكم كثرة أجناس الحيوانات أجمع من الجسمانية والأنواع الجرمانية والأشخاص الجزوية؛ وذلك لأن مساحة كرة الزمهرير تزيد على مساحة سعة البر والبحر أكثر من عشرة أضعاف.
وهكذا سعة كرة الأثير تزيد على سعة كرة الزمهرير أكثر من عشرة أضعاف.
وهكذا سعة كرة فلك القمر تزيد على سعة كرة الجميع أضعافا.
وهكذا نسبة فلك عطارد إلى فلك القمر، وعلى هذا المثال حكم سائر الأفلاك السبعة المحيطات بعضها ببعض إلى أعلى فلك المحيط، وكلها ممتلئ فضاؤها وفسحات سعتها من الخلائق الروحانية حتى إنه ليس فيها موضع شبر إلا وهناك جنس من الخلائق كما أخبر النبي - عليه السلام - فإنه سئل عن قول الله تعالى: @QUR06 وما يعلم جنود ربك إلا هو قال عليه السلام: «ما في السموات السبع موضع شبر إلا وهناك ملك مقرب قائم أو راكع أو ساجد لله تعالى.»
ثم قال الحكيم: لو تفكرتم واعتبرتم يا معشر الحيوان والإنس فيما ذكرت لعلمتم أنكم أقل الخلائق عددا وأدونهم مرتبة ومنزلة.
فالافتخار بالكثرة أيها الإنسي لا يدل على أنكم أرباب وغيركم عبيد لكم، بل كلنا عبيد الله وجنوده ورعيته مسخر بعضنا لبعض كما اقتضت حكمته وأوجبت ربوبيته، فله الحمد على ذلك وعلى سابغ نعمته حمدا كثيرا.
فلما فرغ حكيم الجن من كلامه، قال الملك: سمعنا يا معشر الإنس ما ذكرتم وما افتخرتم به، وقد سمعتم منا الجواب، فهل عندكم بيان آخر غير ما ذكرتموه، فأوردوه وبينوه لنسمع إن كنتم صادقين.
فصل
فقام عند ذلك الخطيب الحجازي المكي المدني وقال: نعم أيها الملك، لنا فضائل أخرى ومناقب حسان تدل على أننا أرباب وهذه الحيوانات عبيد لنا، ونحن ملاكها ومواليها.
قال الملك: ما هي؟ قال: مواعيد ربنا لنا بالبعث والنشور والخروج من القبور وحساب يوم الدين والجواز على الصراط ودخول الجنان من بين سائر الحيوانات، وهي جنة الفردوس وجنة النعيم وجنة عدن وجنة الخلد وجنة المأوى ودار السلام ودار المقام، ودار المتقين وشجرة طوبى وعين السلسبيل وأنهار من خمرة لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى وأنهار من لبن وماء غير آسن وبالدرجات في القصور وتزويج الحور ومجاورة الرحمن ذي الجلال والإكرام والتنسم من ذلك الروح والريحان المذكور في القرآن في نحو من سبعمائة آية.
كل ذلك بمعزل عن هذه الحيوانات فهذا دليل على أنا أرباب، وهي عبيد لنا، ولنا مناقب أخر غير ما ذكرنا، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
فقام عند ذلك زعيم الطيور وهو الهزار داستان فقال: نعم، لعمري إن الأمر كما قلت أيها الإنسي، ولكن اذكر أيضا ما وعدتم به معشر الإنس من عذاب القبر وسؤال منكر ونكير وأحوال يوم القيامة وشدة الحساب والوعيد بدخول النيران وعذاب جهنم والجحيم والسعير ولظى وسقر والحطمة والهاوية وسرابيل من قطران، وشرب الصديد وأكل شجرة الزقزم ومجاورة مالك الغضبان وجوار الشياطين مع جنود إبليس أجمعين.
وما هو مذكور في القرآن بجنب كل آية من الوعد آية من الوعيد، كل ذلك لكم دوننا ونحن بمعزل عن جميع ذلك، وكما لم نوعد بالثواب لم نوعد بالعقاب، وقد رضينا بحكم ربنا، لا لنا ولا علينا، كما رفع عنا حسن الوعد صرف عنا خوف الوعيد، فتكافأت الأدلة بيننا وبينكم، وتساوت الأقدار، فما لكم والافتخار؟
قال الحجازي: وكيف تساوت الأقدار بيننا وبينكم؟ فإنا على أي حالة كانت باقون أبد الآبدين ودهر الداهرين إن كنا مطيعين، فمع الأنبياء والأولياء والأئمة والأوصياء والحكماء والأخيار والفضلاء والأبدال والزهاد والصالحين والعباد العارفين المستبصرين وأولي الألباب وأولي الأبصار وأولي النهى والمصطفين الأخيار والذين هم بملائكة الله الكرام يتشبهون وإلى الخيرات يتسابقون وإلى لقاء ربهم يشتاقون، وفي جميع أوقاتهم عليه مقبلون، ومنه يسمعون وإليه ينظرون، وفي عظمته وجلالته يتفكرون، وفي جميع الأمور عليه يتوكلون، وإياه يسألون ومنه يطلبون وإياه يرجون ومن خشيته مشفقون.
ولو كنا مردودين إذن نتخلص بشفاعة نبينا محمد - عليه السلام - ونكون باقين في الجنة مع الحور والغلمان والروح والريحان ولقاء الرحمن ونداء الذين أحسنوا الحسنى وزيادة في حقنا. قال تعالى: @QUR05 سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين.
وأنتم يا معشر الحيوانات بمعزل عن جميع ذلك؛ لأنكم بعد المفارقة تفسدون وتبلون وتفنون ولا تبقون، فهذا دليل على أننا أرباب وأنتم عبيد وخول لنا.
فقالت حينئذ زعماء الحيوانات وحكماء الجن بأجمعهم: الآن جئتم بالحق، ونطقتم بالصواب وقلتم الصدق؛ لأن بأمثال ما ذكرتم يفتخر به المفتخرون ومثل أعمالهم فليعمل العاملون.
وفي مثل سيرهم وأخلاقهم وآدابهم وآرائهم وعلومهم فليرغب الراغبون وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
ولكن خبرونا يا معشر الإنس عن أوصافهم، وبينوا لنا سيرهم، وعرفونا طريق معارفهم ومحاسن أخلاقهم وصالح أعمالهم إن كنتم صادقين، ثم اذكروها إن كنتم بها عارفين.
فسكتت الجماعة حينئذ يتفكرون فلم يكن عند أحد منهم جواب، فقال واحد منهم: إن الجنة أعدت للمتقين.
فقام عند ذلك العالم الخبير الفاضل الذكي المستبصر الفارسي النسبة، العربي الدين، الحنفي المذهب، العراقي الآداب، العبراني المخبر، المسيحي المنهج، الشامي النسك، اليوناني العلوم، الهندي البصيرة، الصوفي السير، الملكي الأخلاق، الرباني الرأي، الإلهي المعارف، الصمداني، فقال: الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلوات الله على خاتم الأنبياء وخلاصة الأصفياء محمد وآله أجمعين.
ثم قال: أيها الملك العادل، وأنتم معشر الجماعة الحضور، اعلموا أن لهؤلاء الذين هم أولياء الله وصفوته من خلقه وخيرته من عباده وبريته أوصافا حميدة وأعمالا زكية وعلوما مفننة وصفات جميلة وأعمالا زكية ومعارف ربانية وأخلاقا ملكية وسيرة عادلة قدسية وأحوالا عجيبة قد كلت الألسن عن ذكرها، وقصرت أوصاف الواصفين عن كنه صفاتها وأكثر الذاكرون في وصفهم لهم، وأطال الواعظون الخطب في مجالس الذكر عن بيان طريقتها ومحاسن أخلاقها طول الأزمان والدهور ولم يبلغوا كنه معرفتها، فكيف يأمر الملك العادل في حق هؤلاء الغرباء، وما جوابهم؟
فأمر الملك أن تكون الحيوانات بأجمعهم تحت أوامرهم ونواهيهم ويكونون مأمورين للإنس حتى يستأنف الدور.
ثم بعد ذلك حكم حكما آخر، ثم بعد ذلك قام واحد من خدماء الملك ونادى مناد: ألا قد سمعتم معشر الحيوانات بيان هؤلاء الإنس وقبلتم مقالاتهم ورضيتم بذلك، فانصرفوا آمنين في حفظ الله وأمانه .
•••
ثم اعلم أيها الأخ أنا قد بينا في هذه الرسالة ما هو الغرض المطلوب، ولا تظن بنا ظن السوء، ولا تعد هذه الرسالة من ملاعبة الصبيان ومخارفة الإخوان؛ إذ عادتنا جارية على أن نكسو الحقائق ألفاظا وعبارات وإشارات، كيلا يخرج بنا عما نحن فيه، وفقكم الله لقراءتها واستماعها وفهم معانيها، وفتح قلوبكم وشرح صدوركم ونور بصائركم بمعرفة أسرارها، ويسر لكم العمل بها كما فعل بأوليائه وأصفيائه وأهل طاعته، إنه على ما يشاء قدير.
(وبمنه وجوده ولطفه وكرمه وفضله ورحمته تمت رسالة الحيوانات بعون خالق المخلوقات، وبمحمد وآله الأئمة الهداة عليهم من الله أفضل السلام والصلاة، ويتلوها رسالة تركيب الجسد.)
الرسالة التاسعة من الجسمانيات الطبيعيات في تركيب الجسد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، آلله خير أما يشركون.
اعلم أيها الأخ - أيدك الله وإيانا بروح منه - أنا قد فرغنا من ذكر رسالة الحيوانات وبيان عجائب هياكلها، وغرائب أحوالها، والغرض منها هو البيان عن أجناس الحيوانات وكمية أنواعها واختلاف صورها وطبائعها وكان لنا أيضا غرض آخر من ذلك؛ أنا أردنا أن نبين حقائقها بتلك الإشارات والعبارات، فلا يخفى على الحكماء غرضنا في ذلك حسب ما بينا في الفصل المعين عند ذكرنا الملك والملائكة، وحان لنا أن نذكر في هذه الرسالة تركيب جسد الإنسان؛ إذ آخر مرتبة الحيوانية متصل بأول مرتبة الإنسانية، وغرضنا من هذه الرسالة أن نبين كون الإنسان هو عالم صغير، فنقول: اعلم - وفقك الله - أن الإنسان إذا ادعى معرفة الأشياء وهو لا يعرف نفسه، فمثله كمثل من يطعم الناس وهو جائع، وكمثل من يداوي غيره وهو مريض سقيم عليل، أو كمن يكسو الناس وهو عريان وعورته للناس بادية، ما إن يواريها، أو كمثل من يهدي الناس إلى الطريق وهو ضال لا يعرف طريق بيته، وقد علمتم أن في هذه الأشياء ينبغي للإنسان أن يبتدئ أولا بنفسه ثم بغيره.
واعلموا أن اسم الإنسان إنما هو واقع على هذا الجسد الذي هو كالبيت المبني ، وعلى هذه النفس التي تسكن هذا الجسد وهما جميعا جزآن له، وهو جملتهما والمجموع منهما، ولكن أحد الجزأين الذي هو النفس أشرف وهو كاللب والجزء الآخر الذي هو الجسد كالقشر، والإنسان هو الذي جملتها والمجموع منهما، ولكن أحد الجزأين الذي هو النفس كالشجرة والآخر كالثمر، ومن وجه آخر أحدهما كالراكب وهي النفس، والآخر كالمركوب وهو الجسد، والإنسان هو جملتها كالفارس، فمن أجل هذا يحتاج كل إنسان أن يعرف نفسه بالحقيقة ويحتاج في معرفة ذلك إلى أن ينظر فيه من ثلاثة أوجه:
فاعلموا أيها الإخوان أن الشاهد من حالات الجسد يدل على الغائب من حالات النفس، والظاهر يدل على الباطن والمكشوف على المستور، والجلي على الخفي، والمحسوس على المعقول، وقد قلنا في الرسالة الأولى: إن الجسد مؤلف من اللحم والدم والعظام والعروق والعصب والجلد وما شاكلها، وهذه كلها أجسام أرضية ميتة مظلمة ثقيلة متجزئة متغيرة فاسدة، وأما النفس فإن جواهرها سماوية روحانية ناطقة نورانية غير ثقيلة ولا متجزئة وغير فاسدة، بل متحركة باقية علامة دراكة لصور الأشياء وحقائقها.
(1) فصل في كيفية تركيب الجسد وكيفية أخلاط البدن ومزاج الطبائع
فنقول: اعلم - وفقك الله - أن الباري - تعالى - لما خلق الجسد وسواه ونفخ فيه من روحه وأحياه ثم أسكن فيه النفس وأولاه، وكان مثل أساس بنية الجسد وتركيب أجزائه وتأليف أعضائه كمثل أساس بناء مدينة بنيت من أشياء مختلفة كالحجارة والطين والآجر والنورة والرمال والخشب والأجذاع والحديد وما شاكلها، فأحكم بنيتها وشيد بنيانها وحصن سورها وخططت شوارعها وقسمت محالها وزينت مجالسها ورتبت منازلها وملئت خزائنها وأسكنت دورها وسلكت طرقاتها وأجريت أنهارها وفتحت أسواقها واستعمل صناعها وأقعد فيها تجارها ودبرها ملكها وخدمة أهلها.
وذلك أن الله - تعالى - لما أراد تركيب الجسد ابتداء أولا، فاخترع أربع طبائع منفردات متعاديات القوى بسلطانها بعضها على بعض، ثم ألف بين كل اثنين منها، وأربعة أركان مزدوجات مؤتلفات الطبائع متناسبات القوى من أركانها، ثم أسس بنية هذا الجسد من هذه الأربعة الأركان التي هي أساس لبنيانها ثم ابتدأ بنيانها من أربعة أخلاط متعاديات طباعها متناسبات قواها التي هي مجموعات من أصل أركانها.
ثم جمع هذه الأربعة الأخلاط، فخلق منها تسعة جواهر مختلفة أشكالها هي ملاك بنيانها، ثم ألفها وركب بعضها فوق بعض عشر طبقات متصلات بهندامها، ثم أسندها وأقامها بمائتين وثمانية وأربعين عمودا مستويات القد أقرانا، ثم سمرها ومد حبالها وشد أوصالها بسبعمائة وخمسين رباطا ممدودات محتويات ملتفات عليها كالحبال، وفصلها حذرا من نقضها ونقصانها، ثم قدر بيوتها وقسم خزائنها وأودع إحدى عشرة خزانة معمورة مملوءة من الجواهر مختلفة أنواعها وألوانها وخط شوارعها وأنفذ طرقاتها وفتح أبوابها وجعل لها ثلاثمائة وستين مسلكا لسكانها واستخرج منها عيونا، وشق فيها أنهارا هي ثلاثمائة وتسعون جدولا مختلفات في الجهات لجريانها وفتح على سورها اثني عشر روزنا مزدوجات المسالك لجريانها.
وأحكم بناء هذه المدينة على أيدي سبعة صناع متعاونين هم خدامها، ووكل بحفظها خمسة حراس حراسا على حفظ أركانها.
ثم رفع هذه المدينة في الهواء على رأس عمودين وحركها على ست جهات بجناحين، ثم أسكن فيها ثلاث قبائل من الإنس والجن والملائكة وجعلهم سكانها، ثم رأس عليهم ملكا واحدا، وعلمه أسماء من فيها وأمره بحفظها، وأوصاه بسياستهم، فقال: @QUR02 أنبئهم بأسمائهم وأمرهم بطاعته له فقال تعالى: «اسجدوا لآدم فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى واستكبر.»
فأما تفصيل تلك الطبائع المفردات الأربع: الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، والأركان الأربعة المزدوجات الطباع المتناسبات القوى هي النار والهواء والماء والأرض، والأخلاط الأربعة المتعاديات الطباع هي الصفراء والدم والبلغم والسوداء، والجواهر التسعة هي العظام والمخ والعصب والعروق والدم واللحم والجلد والظفر والشعر.
والطبقات العشرة هي الرأس والرقبة والصدر والبطن والجوف والحقو والوركان والفخذان والساقان والقدمان.
وأما الأعمدة فهي العظام والرباطات هي الأعصاب.
وأما الخزائن الإحدى عشرة فهي الدماغ والنخاع والرئة والقلب والكبد والطحال والمرارة والمعدة والأمعاء والكليتان والأنثيان والشوارع والطرقات هي العروق الضوارب والأنهار هي الأوردة.
وأما الأبواب الاثنا عشر فهي العينان والأذنان والمنخران والسبيلان والثديان والفم والسرة.
وأما الصناع السبعة فهي القوة الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والنامية والغاذية والمصورة.
وأما الحواس الخمس فهي السمع والبصر والشم والذوق واللمس.
وأما العمودان فهما الرجلان، وأما الجناحان فهما اليدان.
وأما الجهات الست فهي قدام وخلف ويمنة ويسرة وفوق وتحت.
وأما القبائل الثلاث فهي النفوس الثلاثة وقواهن وأفعالهن؛ فالنفس الشهوانية وأخلاقها وأفعالها، فهي كالجن، والنفس الحيوانية وأخلاقها وحواسها كالإنس، والنفس الناطقة وتمييزها ومعارفها هي كالملائكة، والرئيس الواحد هو العقل.
(2) فصل في أن الجسد كالدار، وأن النفس كالساكن في الدار
اعلم أن النظر في ماهية النفس مجردة من الجسد والتصور بذاتها خلو منه عسر جدا على المرتاضين بالرياضات الحكمية، فكيف على غيرهم؟ ولكنه إذا نظر إلى ما يظهر من أفعالها من الجسد واعتبر تصرف أحوالها مع الجسد يسهل عليه ذلك ويقرب من فهم المتعلمين والتصور في أفكار المتفكرين وجودها وتبين شرف جوهرها، ونريد أن نبين من ذلك طرفا، ونضرب أمثالا كيما يكون أوضح للبيان وأقرب من فهم المبتدئين وأبلغ للتصور في أفكار المفكرين.
فنقول: اعلم أن هذا الجسد لهذه النفس هو بمنزلة دار لساكنها بنيت، وأحكم بناؤها، وقسمت بيوتها وملئت خزائنها، وسقفت سطوحها وفتحت أبوابها، وعلقت ستورها وأعد فيها كل ما يحتاج إليه صاحب المنزل في منزله من الفرش والأواني والأثاث والمتاع على أتم ما يكون وأكمله وأتقنه؛ فرجلاه وقيام الجسد عليهما كأساس الدار ورأسه في أعلى بدنه كالغرفة في أعلى الدار، وظهره من خلفه كظهر الدار ، ووجهه أمامه كصدر الدار، ورقبته وطولها كرواق الدار، وفتح حلقومه وجريان الصوت فيه كدهليز الدار، وصدره في وسط بدنه كصحن الدار، والأوعية التي في صدره كالبيوت والخزائن في الدار، ورئته وبردها كالبيت الصيفي، والخيشوم وجريان النفس في الحلقوم كالباداهج، وقلبه مع الحرارة الغريزية كالبيت الشتوي، ومعدته ونضج الغذاء فيها كالمطبخ، وكبده وحصول الدم فيه كبيت الشراب، ومجاري عروقه وجريان الدم والنبض إلى سائر أطراف البدن كمسالك الدار، وطحاله وحصول عكر على الدم فيه كخزانة الأثاث، ومرارته وحدة الصفراء فيها كبيت السلاح، وجوفه والحجب التي فيه كبيت الحرم، وأمعاؤه وثقل الطعام فيها كبيت الخلاء، ومثانته وحصول البول فيها كبيت البول، وسبيلاه في أسفل البدن كمجاري الدار، وعظامه وقوام الجسد عليها كالحيطان في الدار، والعصب الممدودة على المفاصل كالأجذاع والعوارض على الحيطان، ولحمه في خلل العظام والعصب كالملاط، وأضلاعه كالأساطين في الدار، والتجويفات التي في جوف العظام كالصناديق والأدراج، والمخ فيها كالجواهر والمتاع في الأدراج والثقب التي في رءوسها كرواشن في غرف الدار، وتنفسه كالدخان، ووسط دماغه كالإيوان وحدقتاه كبيت العرض، والغشاوات التي بينهما كالستور، وفمه كباب الدار وأنفه كطابق باب الدار، وشفتاه كمصراعي الباب، وأسنانه كالدرابزين، ولسانه كالحاجب، وعقله في وسط دماغه كالملك القاعد في وسط العرصة، وصدر الدار والمجلس، وحواسه الباطنة كالندماء، وحواسه الظاهرة كالجند والجواسيس، وعيناه كالديدبان، وأذناه كأصحاب الأخبار، ويداه كالخدام، وأصابعه كالصناع، وبالجملة ما من عضو في الجسد إلا وله مثال من فعل رب المنزل.
ثم إن هذا الجسد لهذه النفس من جهة أخرى بمنزلة دكان الصانع، وإن جميع أعضاء الجسد للنفس بمنزلة أداة الصانع في دكانه، وإن النفس بكل عضو من أعضاء الجسد تظهر ضروبا من الأفعال، وفنونا من الأعمال، كما أن الصانع بكل أداة يعمل ضروبا من الأعمال وفنونا من الحركات، كالنجار؛ فإنه ينحت بالفأس وينشر بالمنشار ويثقب بالمثقب، ويبرد بالمبرد، وينقر بالمنقار.
وهكذا الحداد فإنه ينفخ بالمنفاخ، ويأخذ بالكليتبر ويطرق بالمطرقة.
وعلى هذا القياس سائر الصناع كل واحد منهم يعمل بأدوات مختلفة أعمالا مختلفة وحركات متباينة.
فهكذا حال النفس تبصر بالعينين وتسمع بالأذنين وتشم بالمنخرين وتذوق باللسان، وتتكلم بالشفتين واللسان وتمس باليدين وتعمل الصنائع بالأصابع، وتمشي بالرجلين وتبرك على الركبتين وتقعد على الأليتين وتنام على الجنبين، وتستند بالظهر وتحمل الأثقال على الكتفين، وتتفكر بوسط الدماغ الأشياء وتتخيل بمقدم الدماغ المحسوسات وتحفظ بمؤخر الدماغ المعلومات، وتصوت بالحلقوم وتستنشق الهواء بالخياشيم وتقطع الطعام بالأسنان وتزدرد بالمريء وما شاكل ذلك.
وبالجملة ما من عضو في الجسد إلا وللنفس فيه ضرب من الأفعال وفنون من الأعمال.
ثم اعلم أن هذا الجسد لهذه النفس الساكنة فيه يشبه مدينة عامرة بأهلها مأنوسة بسكانها وحالات الجسد تشبه حالات المدينة، وتصرف النفس يشبه تصرفات أهل المدينة فيها.
وذلك أن لهذا الجسد أعضاء ومفاصل تشبه المحال في المدينة، وفي تلك الأعضاء والمفاصل أوعية ومجار تشبه المنازل في المحال، وفي تلك الأوعية والمجاري حجب وأغشية تشبه البيوت في منازل الأسواق في المحال والدكاكين في الأسواق.
بيان ذلك أن الأعضاء والمفاصل تشبه المحال في المدينة، فالرأس وما حوى والصدر وما وعى والبطن وما ملى والرجلان والبدن.
وأما الأوعية والمجاري التي تشبه المنازل في المحال فالدماغ والقلب والرئة والطحال والمرارة والمعدة والمصارين والأمعاء والكليتان والعروق، وأما الحجب والأغشية التي تشبه البيوت في المنازل والدكاكين في الأسواق، فالتجويفات التي في الدماغ والرئة والتي في القلب والتي في العظام وغير ذلك.
فصل في أن في النفس الساكنة في الجسد قوى طبيعية وأخلاقا غريزية
ثم اعلم أن في هذه النفس الساكنة في هذا الجسد قوى طبيعية وأخلاقا غريزية منبثة في أعضاء هذا الجسد تشبه قبائل أهل تلك المدينة وشعوبها النازلين في المحال بتلك المدينة، وأن لتلك القوى وتلك الأخلاق أفعالا وحركات منبثة في أوعية هذا الجسد ومجاري مفاصله تشبه أفعال أهل تلك المدينة في منازلهم وحركاتهم في طرقاتها وأعمالهم في أسواقهم.
فأما القوى الطبيعية والأخلاق الغريزية التي تشبه القبائل والشعوب فهي ثلاثة أجناس.
فمنها قوى النفس النباتية ونزعاتها وشهواتها وفضائلها ورذائلها ومسكنها القلب، وأفعالها تجري مجرى الأوراد إلى سائر أطراف الجسد.
ومنها قوى النفس الحيوانية وحركاتها وأخلاقها وحواسها وفضائلها ورذائلها ومسكنها القلب وأفعالها تجري مجرى العروق الضوارب إلى سائر أطراف الجسد.
ومنها قوى النفس الناطقة وتمييزاتها ومعارفها وفضائلها ورذائلها ومسكنها الدماغ وأفعالها تجري مجرى الأعصاب إلى سائر أطراف الجسد.
ثم اعلم أن هذه النفوس الثلاث ليست متفرقات متباينات بعضها من بعض، ولكنها كلها كالفروع من أصل واحد متصلات بذات واحدة كاتصال ثلاثة أغصان من شجرة واحدة تتفرع من كل غصن عدة قضبان، ومن كل قضيب عدة أوراق وثمار أو كعين واحدة ينشق منها ثلاثة أنهار كل نهر ينقسم عدة أعمدة، كل عمود عدة جداول أو كقبيلة واحدة يتشعب منها ثلاثة شعوب من كل شعب يتفرع عدة بطون، من كل بطن عدة أفخاذ وعشائر أو كرجل يعمل ثلاث صنائع تسمى بثلاثة أسماء، فيقال: حداد نجار بناء إذا كان يحسن الثلاثة أو كرجل يقرأ ويكتب ويعلم فيقال: قارئ كاتب معلم؛ لأن هذه الأسماء تقع على الفاعل بحسب ما يظهر منه من الأفعال والحركات والصنائع والأعمال.
فهكذا أمر النفس فإنها واحدة بالذات، وإنما تقع عليها هذه الأسماء بحسب ما يظهر منها من الأفعال، وذلك إذا فعلت في الجسم الغذاء والنمو فتسمى النفس النامية، وإذا فعلت في الجسم الحس والحركة والنقلة فتسمى النفس الحيوانية، وإذا فعلت الفكر والتمييز فتسمى النفس الناطقة.
ثم اعلم أن لكل عضو من أعضاء الجسد قوة من قوى النفس مختصة بها، وهي تدبر ذلك العضو وتفعل به أفعالا خلاف ما تفعل قوة أخرى من عضو آخر، وأن تلك القوة تسمى نفسا لذلك العضو المختصة به.
مثال ذلك: القوة الباصرة؛ فإنها تسمى نفس العين، والقوة السامعة تسمى نفس الأذن، والقوة الذائقة تسمى نفس اللسان، والقوة الشامة تسمى نفس الأنف، وعلى هذا القياس سائر الأعضاء للقوى التي تدبرها وتفعل بها.
ثم اعلم أن هذه النفوس الثلاث الأجناس وقواها كالأنواع وأفعال تلك القوى الأشخاص.
فأما القوى التي هي كالأنواع فهي خمسة وعشرون نوعا؛ أربعة منها مفردات كالرؤساء وسبعة منها متعاونات كالصناع والأعوان ، وخمسة كالجلايين وثلاثة مناولات كالخدم، وثلاثة هن كالأرباب، وثلاثة هن كالأمراء.
وأما أفعالها - أعني أفعال هذه القوى - التي هي كالأشخاص، فكثيرة لا يحصي عددها إلا الله، ولكن نذكر من ذلك طرفا ليكون دليلا على الباقي، وذلك أن هذه القوى بعضها يشبه أفعال الأشراف والرؤساء في المدينة، وبعضها يشبه أفعال التجار والباعة وجلابي الأمتعة إلى المدينة، وبعضها يشبه أفعال العيارين والمفسدين في المدينة، وبعضها يشبه أفعال السلطان والجند المقاتلين في المدينة، وبعضها يشبه أفعال القضاة والعدول والمصلحين في المدينة، وبعضها يشبه أفعال الصبيان والعبيد والنساء والحمقاء، وبعضها يشبه أفعال الشياطين والفتيان والجهال، وبعضها يشبه أفعال العلماء والفقهاء وأهل الدين.
وأما تفصيل ذلك فنقول: إن القوى الأربعة المفردات التي هي كالرؤساء فهي قوى النفس النباتية، وهي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، وعليها تدور حالات الجسد من الصلاح والفساد، وذلك أن أفعال هذه القوى في أعضاء الجسد إذا هي اعتدلت وتساوت استقام أمر البدن على الصحة والسلامة تشبه أفعال الأمراء والأشراف والرؤساء الذين هم ملاك المدينة وأربابها، وبهم قوام أمر المدينة وصلاحها واستدامة أحوالها وأفعال هذه القوى عند ورود الطعام والشراب إلى الجسد وتناول كل واحدة من هذه القوى وما شاكلها من الغذاء على ما ينبغي تشبه أفعال أهل تلك المدينة في أخذهم وعطائهم وبيعهم وشرائهم وإنصافهم في معاملاتهم فيما بينهم، وأفعالها إذا كانت على غير ما ينبغي تشبه أفعال أهل تلك المدينة إذا تنازعوا فيما بينهم وتخاصموا في مطالباتهم، وتظالموا في معاملاتهم، وأفعال هذه القوى المميزة التي تقسم بين كل عضو ما يشاكله من الغذاء لتسوي القوى وتعتدل الأخلاط في بنية الجسد تشبه أفعال القضاة والعدول والمصلحين في المدينة بين الناس.
وأما أفعال هذه القوى إذا هجن وتعادين وأدخلن السقم والمرض على الجسد، فتشبه أفعال العيارين وأصحاب العصبية إذا هاجوا وأثاروا الفتن وتقاتلوا وأحرقوا الأسواق وخربوا المنازل ونهبوا الأموال وأفسدوا في المدينة.
وأما أفعال هذه القوى عند ورود الدواء والأشربة وإخراج فضول الأخلاط من الجسد فتشبه أفعال السلطان والجند إذا قاتلوا العيارين وسكنوا الفتنة وأخذوا الذعار وقطعوا أيديهم وأخرجوهم من المدينة.
وأما أفعال هذه القوى عند خروج فضول الأخلاط من الجسد وذهاب الأمراض وإصلاح حال الجسد بعد السقم، فيشبه أفعال رؤساء أهل تلك المدينة إذا تصالحوا فيما بينهم وتهادنوا وأصلحوا ما أفسد العيارون من حالات المدينة وعمروا ما خربوا منها.
وأما القوى التي هي كالأرباب فهي القوة الشهوانية والقوة الغضبية والقوة الناطقة، فأفعال القوة الشهوانية في أعضاء الجسد إذا لم ترأسها وتلزمها القوة الغضبية تشبه أفعال النساء والصبيان والحمقى إذا لم يرأسهن أزواجهن ولم يؤدبهم آباؤهم ومواليهم.
وأما القوة الغضبية إذا لم ترأسها وتلزمها القوة الناطقة، فتشبه أفعال الشياطين والشبان والجهال والسفهاء إذا لم يرأسهم عقلاؤهم ويلزمهم مشايخهم ولم يأمر وينه عليهم مشايخهم.
وأما أفعال القوة الناطقة إذا لم يرأسها ويلزمها العقل فتشبه أفعال العلماء والقراء إذا تنازعوا في أحكام الدين واختلفوا فيها وصاروا ذوي مذاهب كثيرة ومقالات إذا لم يرأسهم ويلزمهم إمام عادل من خلفاء الأنبياء عليهم السلام.
وأما القوى الخمس التي هي كالحشار والجلابين فهي الحواس الخمس، فمنها القوة السامعة الداركة للأصوات ومجراها الأذنان، ومنها القوة الباصرة المدركة للأنوار والألوان والأشكال ومجراها الحدقتان، ومنها القوة الذائقة ومجراها اللسان، ومنها القوة الشامة المدركة للروائح ومجراها في المنخرين، ومنها القوة اللامسة المدركة للخشونة واللين والصلابة والرخاوة والبرودة والرطوبة واليبوسة ومجراها في الأعصاب وفي جميع الجسد وأفعال هذه القوى في إدراكها صور المحسوسات من خارج الجسد وحملها إلى القوة المتخيلة التي في مقدم الدماغ تشبه أفعال الحشار والجلابين الذين يحملون الأمتعة من النواحي والحوائج ويجلبونها إلى المدينة ويعرضونها على التجار.
وأما القوى الثلاث المتناولات التي هي كالتجار والباعة فهي القوة المتخيلة ومسكنها مقدم الدماغ، والقوة المفكرة ومسكنها وسط الدماغ، والقوة الحافظة ومسكنها مؤخر الدماغ.
فأما أفعال القوة المتخيلة وتناولها رسوم المحسوسات من الحواس ودفعها إلى القوة المفكرة فتشبه أفعال السماسرة والباعة الذين يكونون في عرصات المدينة والأسواق.
وأما أفعال القوة المفكرة وتناولها رسوم المحسوسات وتمييزها وتفصيل بعضها من بعض ودفعها إلى القوة الحافظة التي مسكنها مؤخر الدماغ، فتشبه أفعال التجار والذين يشترون الأمتعة ويحملونها إلى البيوت والدكاكين والخانات.
وأما أفعال القوة الحافظة وتناولها رسوم الأشياء من القوة المفكرة وحفظها وإمساكها إلى وقت التذكار فتشبه أفعال الخزان والوكلاء والمحتكرين ومن شاكلهم.
وأما القوى الثلاث اللواتي كالأمراء فالقوة الغضبية والقوة والشهوانية والقوة الناطقة، وقد بيناها.
وأما القوى السبع المتعاونة وهي التي أفعالها في أعضاء الجسد فتشبه أفعال الصناع في أسواق المدينة، وهي القوة الجاذبة والقوة الماسكة والقوة الهاضمة والقوة الدافعة والقوة الغاذية والقوة المصورة والقوة النامية، وذلك أن هذه القوى بعضها يخدم بعضا كما يخدم التلامذة الأستاذين والأجراء المستأجرين، وبعضها يعاون بعضا كما يعاون الصناع بعضهم بعضا في الأسواق كتعاون الحدادين للنجارين، والنجارين للبنائين، وكتعاون الحلاج للنداف، والنداف للغزالين، والغزالين للنساج، والنساج للخياطة، وما شاكل ذلك.
فإن كل واحد من هؤلاء يهيئ صناعة صاحبه ويعطيها له فكذا أفعال هذه في أعضاء هذا الجسد، وتعاون بعضها بعضا فيما يفعلون.
وذلك أن القوة الجاذبة من شأنها جذب الطعام والشراب إلى المعدة وجذب الكيموس من المعدة إلى الكبد، وجذب الدم من الكبد إلى العروق، ومن العروق إلى سائر أطراف الجسد.
ومن شأن القوة الماسكة إمساك ما يرد على العضو من الأخلاط.
ومن شأن القوة الهاضمة أن تنضج ذلك الخلط وتهيئة للقوة الغاذية.
ومن شأن القوة الدافعة أن تدفع من العضو ما لا يصلح له من الأخلاط إلى عضو آخر.
ومن شأن القوة النامية الغاذية أن تلصق بكل عضو ما يشاكله من مادة الغذاء.
ومن شأن القوة النامية أن تناول المادة وتزيد في أقطار ذلك العضو.
ومن شأن القوة المصورة أن تأخذ من كل عضو ما يفضل من تلك المادة وتصور مثل ذلك، وهذه القوة مختصة بالرحم.
وهذه القوى السبعة أفعالها كثيرة في أعضاء الجسد في كل عضو ضروب من الصنائع، بخلاف ما في أي عضو آخر، وتشبه أفعال الصناع في أسواق المدينة، ونذكر منها طرفا ليكون دليلا على الباقي.
من ذلك أن أفعالها في المعدة من جذب الطعام والشراب إليها وإمساكها وهضمها ونضجها بالحرارة الغريزية تشبه أفعال الخبازين والطباخين وما شاكلهم في أسواق المدينة، وأفعالها بعد نضج الكيموس في المعدة وتصفيتها واستخراج لطيفها من الطعم واللون والرائحة الحلاوة والدسومة وتمييزها ودفعها إلى الكبد ودفع عكرها إلى الأمعاء تشبه أفعال العطارين الذين يستخرجون الشيرج من ثمر الأشجار والأدهان من حبوب النبات والزبدة والسمن من لبن الحيوان في أسواق المدينة، وأفعالها في الكبد وطبخها صفو الكيموس مرة ثانية ونضجها حتى يكون دما قرمزيا، ثم تصفيته بعد ذلك وتمييزه ودفعها عكر الدم إلى الطحال والمحترق اللطيف إلى المرارة والرقيق المائي إلى المثانة والمعتدل الصافي إلى القلب تشبه أفعال الحلاقين والدباسين، والذين يعملون الجلاب والسكنجبين وما شاكل ذلك في أسواق المدينة.
وأفعالها في القلب في تلطيف الدم مرة ثالثة وتصفيتها وإجرائها في العروق تشبه أفعال الذين يعملون الماورد ويصعدون الخل، ويقطرون الرطوبات اللطيفة وما شاكلها في أسواق المدينة.
وأفعالها في الدماغ وتلطيفها الدم الذي يصعد إليها حتى يصير رطوبة لطيفة روحانية، كالذي يجري في عصارة الأذنين والعينين والمنخرين واللسان والبخارات الذي يكون منها التحليل.
وانفعالات الحواس تشبه أفعال الذين يعملون الأدهان اللطيفة كدهن البنفسج ودهن النيلوفر والزيتون وما شاكلها في أسواق المدينة.
وأفعالها في دفع ثقل الكيموس من المعدة إلى الأمعاء والمصارين وإخراجها من الجسد تشبه أفعال الكناسين والزبالين والسمادين، وأفعالها في إجرائها الدم في الأوراد إلى سائر أطراف الجسد تشبه أفعال الذين يحفرون الأنهار والآبار والأقنية لتجري فيها المياه خلل المنازل في المدينة.
وأفعالها في تعقيد الدم وتجفيف المادة حتى تصير لحما وشحما وعظما وما شاكله تشبه أفعال الذين يعقدون المائعات من الناطفين والحلوانيين والعجانين وما شاكلهم.
وأفعالها في تجفيف المادة وتصلبها حتى تصير عظاما تشبه أفعال الذين يطبخون الآجر والخزف والزجاج وما شاكلها.
وأفعالها في تسوية عظام الساقين والفخذين والذراعين وما شابه ذلك تشبه أفعال النجارين الذين ينجرون الأساطين وقوائم الأسرة وما شاكل ذلك.
وأفعالها في تركيب مفاصل الركبتين والفخذين والذراعين والأصابع يشبه تركيب نومادجات المفاتيح والصناديق وما شاكله .
وأفعالها في تركيب خرزات الظهر والرقبة والأضلاع تشبه أفعال الذين يبنون السماريات والسفن وما شاكل ذلك، وأفعال ذلك في تركيب عظام القحف وهندامها تشبه أفعال الصفارين والذين يعملون القماقم والأباريق في تركيبها، وأفعالها في خلقة الأسنان وتركيبها وترصيعها تشبه أفعال النحاتين الذين يعملون خرزة الدواليب والأرحية وندانجاتها.
وأفعالها في خلقة الأعصاب وتمديدها وفتلها ولفها على الأعضاء تشبه أفعال الغزالين والحبالين والمفتلين ومن شاكلهم.
وأفعالها في خلقة الجلود والغشاوات تشبه أفعال الحاكة والنساجين ومن شاكلهم.
وأفعالها في إلحام الجراحات والقروح تشبه الرفائين والجرازين والخياطين.
وأفعالها في نبت الشعر على الجلد تشبه أفعال الزراعين والغراسين ومن شاكلهم.
وأفعالها في خلقة الأظفار تشبه أفعال الذين يعملون المساحي والمجاوف والرفائش، وما شاكل ذلك.
وأفعالها في خلقة الكروش والأمعاء والمصارين تشبه أفعال الذين يعملون الطنافس والمسوح والغليظ من الثياب، وأفعالها في خلقة الحجب والأمعاء تشبه أفعال الذين ينسجون ثياب القطن والكتان وما شاكل ذلك.
وأفعالها في خلقة الغشاوات التي في العينين تشبه أفعال الذين ينسجون الحرير والرقيق من الثياب.
وأفعالها في تبييض العظام وتحمير اللحم وتضمير الشحم وتسويد الشعر تشبه أفعال الصباغين والمزوقين والدهانين.
وأفعالها في الرحم وتصوير الجنين وخلقة الفراخ في البيض تشبه أفعال المصورين والنقاشين وأصحاب اللعب وما شاكل ذلك.
فإن قال قائل من الأطباء والطبيعيين: إن هذه كلها أفعال الطبيعة، فليعلم أن القدماء قد قالت: إن الطبيعة فعل النفس، وإن قال قائل من الشرعيين: إن هذه كلها للخالق البارئ يفعل ما يشاء، ويصور كما يريد، فليعلم أيضا أن النفس من فعل الباري - تبارك وتعالى - وإنما ذكرنا هذه الأفعال ونسبناها إلى النفس؛ لأن البارئ - تعالى - لا يباشر الأفعال بذاته، بل يصدر منه على سبيل الأمر، ولكيما ينتبه الإنسان من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، ويفكر في نفسه، ويشاهد هذه العجائب في الأسرار، ويعلم بأن الصانع عليم حكيم، وأن المصنوع مبدع لهذا الحكيم؛ لأن بالمصنوع المحكم المتقن تتبين للصانع الحكيم حكمته، ويستدل عليها كما قال الله تعالى: @QUR04 وفي أنفسكم أفلا تبصرون.
وإن من الموجودات كلها موضوع الله ؛ لأن حكمته - تعالى - وصنعه تبين بالمصنوعات المحكمة والموجودات المرتبة @QUR02 وفي أنفسكم آيات الله وأسراره ومصنوعاته وعجائبه @QUR02 أفلا تبصرون أيها الغافلون، وأفلا تنظرون أيها الجاهلون؟
وبالجملة إن هذا الجسد مع النفس وانبثاث قواها في جميع أعضائه الباطنة والظاهرة وإظهار أفعالها وفنون حركاتها في مجاري مفاصله وحواسها في مجاري ثقب رأسه في حال اليقظة تشبه مدينة عامرة مأنوسة لساكنها قد فتحت أبوابها وسلكت طرقاتها، وقعد تجارها واشتغل صناعها وسعى متعيشوها وتحركت حيوانها وسمع منها دوي حيواناتها.
وإن حال هذا الجسد في وقت النوم وهدوء الحواس وسكون الحركات تشبه حال تلك المدينة بالليل إذا أغلقت أسواقها وتعطل صناعها وخلت طرقاتها ونام أهلها وسكنت حركاتهم وهدأت أصواتهم.
وأيضا حال الجسد عند مفارقة النفس له تشبه حال تلك المدينة إذا رحل عنها أهلها وخلت من ساكنيها وباد جيرانها وبقيت خرابا وصارت مأوى للسباع والبوم ثم تساقطت حيطانها وخرت سقوفها وصارت تلالا وروابي، لا تبين فيها إلا الحجارة والآجر والطين والتراب، كذلك حال الجسد عند الموت الذي هو فراق النفس إياه، وهو فراق لا يكون الوصل بعده، ولنعم ما قيل: ما من صباح يصبح العباد فيه إلا وملك ينادي كل يوم لدوا للموت وابنوا للخراب، ثم إن الجسد يتغير وينتفخ ويصير مأوى الديدان والذباب والنمل، ثم يبلى ويصير ترابا لا يتبين إلا العظام والعصب تلوح كما تلوح الحجارة في تلك المدينة وآجرها: @QUR08 منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى، @QUR012 وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون.
وفقك الله وإيانا وجميع إخواننا للسداد، وهداك وإيانا سبيل الرشاد، إنه رءوف رحيم بالعباد.
(تمت رسالة تركيب الجسد ويتلوها رسالة الحاس والمحسوس.)
الرسالة العاشرة من الجسمانيات الطبيعيات في الحاس والمحسوس في تهذيب النفس وإصلاح الأخلاق
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
(1) فصل
اعلم أيها الأخ البار الرحيم - أيدك الله وإيانا بروح منه - أنه لما فرغنا من تركيب جسد الإنسان وبيان أن الإنسان عالم صغير وأن بنية هيكله تشبه مدينة فاضلة وأن نفسه تشبه ملكا في تلك المدينة فنريد الآن أن نذكر في هذه الرسالة طرفا من المعلومات فنقول: إن علم الإنسان بالمعلومات يكون من ثلاث طرق:
وقد بينا لم صارت طرق العلوم ثلاثة في آخر هذه الرسالة، ونريد أن نذكر الآن طرق الحواس الخمس، ونصف كيفية إدراك القوى الحساسة لمحسوساتها، ولكن قبل ذلك ينبغي أن نذكر الأمور المحسوسة التي هي كلها أعراض جسمانية، وبها يكون الجسم محسوسا، ونضبط أيضا كيفياتها؛ لأنها أبين وأوضح وأقرب من فهم المبتدئين المتعلمين، ثم نذكر بعد ذلك النفس وقواها الحساسة التي هي كلها أمور روحانية لطيفة غامضة بعيدة عن فهم المبتدئين بالنظر في العلوم والمعارف الحقيقية، فنقول: اعلم - وفقك الله - أنه لما كانت الأمور المحسوسة كلها أعراض جسمانية داخلة عليه بعد كونه جسما احتجنا أن نذكر الجسم المطلق ونصفه بما هو جسم حسب، ثم نذكر بعد ذلك الأعراض الداخلة التي هي كلها صفات زائدة على كونه جسما فنقول: إن الجسم جوهر مركب من الهيولى والصورة حسب، والدليل على ذلك قول العلماء في حد الجسم: هو الشيء الطويل العريض العميق، والشيء هو الجوهر، وهو الهيولى، والطول والعرض والعمق هي الصور، والجسم بهذه الصفات يكون جسما لا بأنه جوهر؛ لأن النفس والعقل أيضا هما جوهران لا يوصفان بالطول والعرض والعمق، فهذا أحد الفروق بين الجواهر الجسمانية والجواهر الروحانية.
ثم اعلم أن كل صفة يوصف بها الجسم بعد الطول والعرض والعمق هي صفات زائدة داخلة عليه بعد كونه جسما، وتسمى الصورة المتممة.
مثال ذلك: قول الحكماء إن الجسم لا ينفك عن الحركة والسكون، والاجتماع والافتراق، وأن يكون مظلما أو مضيئا، وأن يكون مشفا أو غير مشف، وأن يكون حارا أو باردا، أو أن يكون رطبا أو يابسا، وأن يكون خفيفا أو ثقيلا، وأن يكون صلبا أو رخوا، وأن يكون خشنا أو لينا، وأن يكون ذا طعم ولون ورائحة وما شاكلها من الصفات التي كلها أعراض داخلة في الجسم زائدة بعد كونه جسما متممة له، فنحتاج أن نذكر ونصف هذه الأعراض والصفات واحدة واحدة.
فنقول: إن هذه الأعراض والصفات كلها صورة متممة للجسم مبلغة إلى أفضل غاياته، وإن بعضها بالجسم أولى من بعض، وذلك أن السكون أولى بالجسم من الحركة، والاجتماع أولى به من الافتراق، والظلمة أولى من النور، والمكان أولى من الزمان.
بيان ذلك أن الجسم بالسكون أولى من الحركة، هو أن الجسم ذو جهات ستة، ولا يمكنه أن يتحرك إلى جميع الجهات دفعة واحدة، وليست حركته إلى جهة أولى من جهة، فإذن السكون أولى به من الحركة.
فأما كون بعض الأجسام متحرك دائما مثل الأفلاك والنار، فهو أمر آخر على كونه جسما.
وقد بينا في رسالة الهيولى أن الحركة هي صورة روحانية داخلة على الجسم متممة له، وأما السكون فهو عدم تلك الصورة.
وأما الاجتماع والافتراق الذي يقال إن الجسم لا ينفك من أحدهما، فليس ذلك من حيث هو جسم، ولكن من حيث تشخص بعض الأجسام.
وذلك أن جسم العالم بأسره لا يفترق بعضه عن بعض، ولا يجتمع مع غيره؛ لأنه ليس إلا عالم واحد، وإنما الاجتماع والافتراق لأشخاص الحيوانات والنبات والمعادن ولبعض أجزاء الأمهات التي تحت فلك القمر.
فأما ما يقال في الكواكب إنها تجتمع أو تفترق، فليس لذلك حقيقة؛ لأن كل كوكب هو ملازم لفلكه أو درجته الذي هو فيها، وأن معنى اجتماعها هو أن يصير بعضها موازيا لبعض على خط واحد، وهو الخط الذي يخرج من أبصارنا إلى الفلك المحيط.
وأما ما يقال إن الجسم لا ينفك من المكان، فليس ذلك إلا من أجل أن الكواكب والأفلاك لما كان بعضها محيطا ببعض، قيل للمحيط إنه مكان للمحاط به، وقد بينا اختلاف العلماء في ماهية الزمان والمكان في رسالة الهيولى.
وأما ما قيل من أن الجسم لا ينفك من الزمان، فليس ذلك من حد الجسم، ولكن من أجل الحركة، وذلك أن الزمان ليس شيئا سوى حركة الفلك بالتكرار في دورانه، كما بينا في رسالة الهيولى.
فأما ما قيل إن الجسم لا ينفك من أن يكون مظلما أو نيرا، فليس هذه قسمة صحيحة ولكن يقال إن بعض الأجسام مظلم، وبعضها نير وبعضها لا مضيء ولا مظلم، ولكن مشف، وذلك أن المظلم من الأجسام ما يكون له ظل، والنير الذي لا ظل له، والمشف هو الذي يقبل الضوء تارة والظلمة تارة.
ثم اعلم أنه ليس في العالم من الأجسام ما له ظل غير الأرض والقمر حسب، ولكن وجه القمر صقيل يرد النور ويقبله، ووجه الأرض غير صقيل يعرف حقيقة ما قلنا أهل الصناعة الناظرون في علم المجسطي.
وأما الأجسام النيرة فليس في العالم إلا جنسان: الكواكب والنار التي عندنا.
وأما النار التي تحت فلك القمر التي تسمى الأثير فليست بنيرة؛ لأنها لو كانت نيرة لمنعت عنا ضوء الكواكب كما يمنع ضوء أحد سراجين عن أبصارنا ضوء الآخر إذا كانا على خط واحد وأحدهما خلف الآخر.
وأما الأجسام المشفة فهي الأفلاك والنار والهواء والماء، وبعض الأجسام الأرضية مثل: البلور والياقوت والزجاج وما شاكل ذلك.
والجسم المشف الذي ليس له لون طبيعي، واللون الطبيعي: هو ما كان ملازما للجسم كسواد العين وبياض الثلج وصفرة الزعفران وحمرة العصفر وخضرة النبات.
وأما اللون العرضي فهو كالزرقة التي ترى في الجو، وفي عمق الماء القعير، وقد جعل الله - عز اسمه - زرقة الجو وخضرة النبات صلاحا لأبصار الحيوان؛ لأن هذين اللونين مقويان للأبصار، وكل الحيوان محتاج في دائم الأوقات بالنظر إلى الجو في مسالكه وإلى النبات في طلب معائشه.
وأما الحرارة في بعض الأجسام فهي من أجل غليان أجزاء الهيولى وفورانها بالحركة الخفيفة .
وأما البرودة في بعضها فهي من أجل سكون تلك الأجزاء أو جمود ذلك الغليان.
وأما الرطوبة في بعض الأجسام فهي من أجل اختلاط الأجزاء المتحركة مع الأجزاء الساكنة.
وأما اليبوسة في بعضها فهي من أجل حركة تلك الأجزاء كلها أو سكونها كلها، ومن أجل هذا صارت النار حارة يابسة من أجل أن أجزاء الهيولى فيها كلها متحركة، وصارت الأرض باردة يابسة من أجل أن أجزاء الهيولى كلها ساكنة، وصار الماء والهواء رطبين؛ لأن أجزاء الهيولى فيهما بعضها متحرك وبعضها ساكن، ولكن الأجزاء الساكنة في الماء أكثر والأجزاء المتحركة في الهواء أكثر، فصار الهواء من أجل هذا حارا رطبا وصار الماء باردا رطبا.
وأما الثقل والخفة في بعض الأجسام فهو من أجل أن الأجسام الكليات كل واحد له موضع مخصوص، ويكون واقفا فيه لا يخرج إلا بقسر قاسر، وإذا خلي رجع إلى مكانه الخاص به، فإن منعه مانع وقع التنازع بينهما، فإن كان النزوع نحو مركز العالم يسمى ثقلا، وإن كان نحو المحيط يسمى خفيفا، وقد بينا في رسالة السماء والعالم كيفية ذلك.
وأما الصلابة في بعض الأجسام، فمن أجل غلبة البرد واليبس عليه، وقد بينا ماهية البرد واليبس في رسالة الكون والفساد.
وأما الرخاوة في بعضها فمن أجل غلبة الأجزاء المائية على الأجزاء الأرضية، وأما الخشونة في بعض الأجسام فمن أجل أن وضع الأجزاء الذي في ظاهر سطحه متفاوت، بعضها مرتفع وبعضها منخفض كالمبرد وما شابهه.
وأما كون بعضها أملس، فمن أجل وضع تلك الأجزاء في سطح واحد كوجه المرآة وما شاكله.
وإذ قد فرغنا من ذكر الأجسام وأعراضها المحسوسة الحالة فيها بقول وجيز، فلنذكر الآن آلات الحواس الخمس ومواضع مجاري القوى الحساسة فيها الروحانية.
(2) فصل في ما هي الحواس الخمس؟ وما هي القوى الحساسة؟
فنقول أولا: ما الحواس الخمس؟ وما القوى الحساسة؟ وما الحس؟ وما الإحساس؟ وما المحسوسات؟ جواب ذلك: فاعلم أن الحواس هي آلات جسدانية، وهي خمس: العين والأذن واللسان والأنف واليد، وذلك أن كل واحد منها عضو من الجسد .
وأما القوى الحساسة فهي قوى روحانية نفسانية يختص كل منها بعضو من أعضاء الجسد كما بينا بعد هذا الفصل.
وأما المحسوسات فالأشياء المدركة بالحواس، والمدركة بالحواس هي أعراض حالة في الأجسام الطبيعية مؤثرة في الحواس مغيرة لكيفية مزاجها.
والحس هو تغيير مزاج الحواس عن مباشرة المحسوس لها، والإحساس هو شعور القوى الحساسة لتغييرات كيفية أمزجة الحواس.
بيان ذلك: أن القوى الباصرة مجراها في العينين، وهي مستبطنة الحدقتين في الرطوبة الجلدية، والقوة السامعة مجراها في الأذنين، وهي مستبطنة الصماخين مما يلي البطن المؤخر من الدماغ، والقوة الشامة مجراها في المنخرين، وهي مستبطنة الخياشيم مما يلي البطن المقدم من الدماغ والقوة الذائقة مجراها الفم، وهي مستبطنة في رطوبة اللسان، والقوة اللامسة مجراها في عامة سطح بدن الحيوان الرقيق الجلد، ولكنها في الإنسان أظهر، وخاصة في الأنملة كما قيل: الأنامل حاكمة البدن، وهي مستبطنة في الجلدين اللذين أحدهما ظاهر البدن والآخر مما يلي.
واعلم أن المحسوسات كلها خمسة أجناس منها: المدركات بطريق اللمس وهي عشرة أنواع: الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والخشونة واللين والصلابة والرخاوة والخفة والثقل.
والجنس الثاني: المدركات بطريق الذوق التي هي الطعوم، وهي تسعة أنواع: الحلاوة، والمرارة، والملوحة، والدسومة، والحموضة، والحرافة، والعفوصة، والعذوبة، والقبوضة.
والجنس الثالث: هي الروائح المدركة بطريق الشم، وهي نوعان الطيب والنتن.
والجنس الرابع: هي الأصوات المدركة بطريق السمع وهي نوعان: حيوانية، وغير حيوانية وهذه نوعان: طبيعية وآلية، والحيوانية نوعان: منطقية وغير منطقية، والمنطقية نوعان: دالة وغير دالة.
والجنس الخامس: هي المبصرات المدركات بطريق البصر وهي عشرة أنواع: الأنوار، والظلم، والألوان، والسطوح، والأجسام؛ نفسها، وأشكالها، وأوضاعها، وأبعادها، وحركاتها.
وإذ قد فرغنا من تعديد أجناس المحسوسات بقول وجيز، فلنذكر الآن كيفية إدراك القوى الحساسة لمحسوساتها واحدا واحدا، ونبتدئ أولا بالقوة اللامسة ووصفها لأن إدراكها للمحسوسات كان إدراكا جسمانيا، ثم نختم بوصف القوة الباصرة؛ لأن إدراكها لمحسوساتها كان إدراكا روحانيا.
(3) فصل في كيفية إدراك القوة اللامسة للحرارة والبرودة
أولا: هو أن مزاج بدن الحيوان في دائم الأوقات يكون على قدر ما من الحرارات والبرودات، فإذا لاقاه جسم آخر فلا يخلو أن يكون ذلك الجسم أشد حرارة من البدن وأشد برودة منه أو مساويا له في ذلك، فإن كان أشد حرارة منه زاد سخونة ما عند ملاقاته إياه، وإن كان أبرد منه زاد برودة ما، فتحس القوة اللامسة بذلك التغيير والاستحالة فتؤدي خبرها إلى القوة المتخيلة التي مسكنها مقدم الدماغ، وإن كان ذلك مساويا لمزاج البدن في الحرارة والبرودة جميعا، فلا يغير منه شيئا ولا يؤثر فيه، ولا تحس القوى بشيء، ولكن لا يخلو ذلك الجسم من أن يكون أخشن من البدن أو ألين منه فتحس القوة بذلك التغيير والاستحالة، وإن كان مساويا أيضا في هاتين الصفتين فلا يؤثر فيه شيئا ولا يقع الحس فيه، ولكن لا يخلو ذلك الجسم من أن يكون أشد صلابة من البدن وأشد رخاوة منه، فيؤثر فيه فتحس القوة بذلك التغيير، وقل ما يوجد جسمان يكونان متساويين في هذه الصفات الستة من الحرارة والبرودة واللين والخشونة والصلابة والرخاوة.
وأما كيفية إدراك هذه القوة والصلابة والرخاوة فهو أن بدن الحيوان متى صدمه جسم آخر فلا يخلو من أن يقعر أحدهما في الآخر، فإن وقع التقعير في ذلك الجسم مثل ما يغمر الإصبع في العجين، فتحس القوة بذلك اللين فتؤدي خبره إلى القوة المتخيلة، فإن وقع التقعير في البدن مثل ما يغمر الإصبع على الحديد فتحس القوة بالصلابة فتؤدي خبرها إلى القوة المتخيلة.
وأما كيفية إدراك هذه القوة الخشنة والملاسة فهو كما قلنا: إن الأجزاء التي في ظاهر سطوح الأجسام إذا كان وضعها متفاوتا بعضها مرتفع وبعضها منخفض يكون ذلك جسما خشنا إذا كان صلبا.
وإذا كان وضعها كلها في سطح واحد فإذا تلاقيا جسمان أملسان انطبق السطحان المتماسان أحدهما على الآخر بلا خلل بينهما، وإذا كانا غير أملسين أو أحدهما فلا ينطبقان؛ لأنه يبقى بينهما خلل.
وأما بدن الحيوان فإذا لاقاه جسم صلب ردت الأجزاء الناتئة منه بعض أجزاء البدن إلى داخله، فيصير سطح البدن خشنا فتحس القوة بذلك التغيير، فتؤدي خبره إلى القوة المتخيلة، وإذا لاقاه جسم أملس رد ما كان من أجزاء البدن ثانيا إلى داخله فيصير سطح البدن أملس فتحس القوة بذلك التغيير.
فهذا الباب يختلف بحسب اختلاف مزاج أعضاء البدن وذلك أن الإنسان إذا وضع يده على ثوب فوجده لينا ثم مسحه على خده وجده خشنا؛ لأن خد الإنسان أبدا ألين لمسا من يده في أكثر الأوقات.
وكذلك لو مسح يده على مسح، فوجده خشنا ثم مسحه برجله لوجده لينا؛ لأن الرجل أخشن من اليد.
وكذلك إذا دخل الإنسان الحمام وهو مقرور وجد البيت الأول حارا وإذا خرج من البيت الحار وجده باردا؛ لأن المزاج قد تغير به، أفلا ترى أن وجدان القوة اللامسة محسوساتها بحسب اختلاف مزاج البدن من الحر والبرد والخشونة واللين والصلابة والرخاوة، وبحسب اختلاف أحوال المحسوس؛ لأن القوة مختلفة في ذاتها وجوهرها.
وأما كيفية إدراك هذه القوة: الرطوبة واليبوسة فهو أن البدن إذا لاقاه جسم يابس تنشف رطوبة البدن ونداوته، فتحس القوة بذلك التغيير، وإذا لاقاه جسم رطب زاده رطوبة ونداوة.
وأما كيفية إدراك هذه القوة للثقل والخفة فهو عند الدفع والجذب والحمل تحس بها، وقد يختلف الثقيل والخفيف بحسب قوة البدن، فإن من الحيوان ما يحمل مثل وزن بدنه أضعافا كالنمل.
ومن الحيوان ما لا يقدر أن يحمل غير وزن بدنه، وقد بينا في الرسالة التي ذكرنا فيها خواص الحيوانات الغرض والعلة في ذلك.
(4) فصل في كيفية إدراك الذائقة لمحسوساتها
وأما كيفية إدراك الذائقة لمحسوساتها التي هي الطعوم حسب، وهي تسعة أنواع؛ أولها: الحلاوة الملائمة لمزاج اللسان، والثاني: المرارة المنافرة لمزاج اللسان، والثالث: الملوحة، والرابع: الدسومة، والخامس: الحموضة، والسادس: الحرافة، والسابع: العفوصة، والثامن: العذوبة، والتاسع: القبوضة.
فإدراكها هو أن تتصل رطوبة هذه الطعوم برطوبة اللسان، فتمتزجان فيعتبر مزاج اللسان بحسب ذلك الطعم إن كان حلوا فحلوا، وإن كان مرا فمرا، وإن كان حامضا فحامضا، وغيرها من الطعوم، فيحس بذلك، وليس الحس شيء أكثر من أن يصير مزاج الحاس مثل المحسوس بالكيفية حسب، والإحساس ليس شيئا أكثر من شعور النفس بتغيير تلك الأمزجة.
وأما كيفية إدراك القوة الشامة لمحسوساتها التي هي الروائح وهي نوعان: طيب، ومنتن، فهو أن الأجسام ذوات الروائح يتحلل منها في دائم الأوقات بخارات لطيفة تمتزج مع الهواء مزاجا روحانيا، ويصير الهواء مثلها في الكيفية إن كان طيبا فطيبا وإن منتنا فمنتنا.
فالحيوان الذي له رئة يستنشق الهواء دائما لترويح الحرارة الغريزية التي في القلب، فيدخل ذلك الهواء في منخريه ويبلغ إلى خياشيمه فيصير ذلك الهواء الذي هناك أيضا مثلها في الكيفية، فتحس القوة الشامة بذلك التغيير، فتؤدي خبرها إلى القوة المتخيلة، فإن كانت الرائحة طيبة استلذتها الطبيعة، وإن كانت منتنة كرهتها ونفرت منها.
وقد تختلف في مشام الحيوانات الروائح في اللذة والكراهية اختلاف التضادد.
وذلك أن من الحيوانات ما يستلذ رائحة السماد والجيف مثل الخنازير وبنات وردان والذباب وما شاكلها، ومنها ما يكره الرائحة الطيبة.
وذلك أن الخنفساء إذا دفنت في الورد غشي عليها حتى لا تتحرك، فإذا أراد المريد أن تعيش ردت إلى السماد فعاشت وتحركت.
ومن الناس أيضا من بهذا الوصف مثل السمادين والكناسين، فإنه يحكى أن كناسا جاز في سوق العطارين، فغشي عليه حتى ظنوا أنه قد مات، فمر عليه طبيب فرآه وعرف حاله وسبب غشيته، فأمر بإتيان رجيع يابس، فأمر بدقه وسعط فعطس من ساعته وأفاق.
ومن المرضى من هو أيضا بهذا الوصف مثل ما يغلب الصفراء عليه، فإنه يتأذى برائحة المسك ويستلذ رائحة الطين، وهذا الاختلاف يكون بحسب مزاج الأبدان، وبحسب الخلط الغالب عليه.
وهذه الثلاث القوى التي تقدم وصفها تدرك محسوساتها إدراكا جسمانيا بالمماسة.
وأما القوة السامعة والقوة الباصرة، فإنهما يدركان محسوساتهما إدراكا روحانيا قطعا.
(5) فصل في إدراك القوة السامعة
أما إدراك القوة السامعة لمحسوساتها التي هي الأصوات، فاعلم أن الأصوات نوعان: حيوانية وغير حيوانية، وهي نوعان: طبيعية وآلية، فالطبيعية الحجر والحديد والخشب والرعد والريح وسائر الأجسام التي لا روح فيها من الجامدات، والآلية كصوت الطبل والبوق والزمر والأوتار وما شاكلها، وهو هواء يتقلب بين جسمين متصادمين بعنف، فيصك الهواء الراكد في آلة السمع، وتحته أنواع كثيرة.
والحيوانية نوعان: منطقية وغير منطقية، فغير المنطقية هي أصوات سائر الحيوانات الغير الناطقة، والمنطقية هي أصوات الناس وهي نوعان: دالة وغير دالة، فغير الدالة: كالضحك والبكاء، وبالجملة كل صوت لا هجاء له، والدالة هي كالكلام والأقاويل التي لها هجاء، وهي تقطيع الصياح بانضمام أجزاء الفم، فتحدث منه حروف كما تضم الشفتين بنوع ما فتحدث الباء، وتضم بنوع آخر فتحدث الميم، وكل هذه الأصوات إنما هي قرع يحدث في الهواء من تصادم الأجسام، وذلك أن الهواء لشدة لطافته وخفة جوهره وسرعة حركة أجزائه يتخلل الأجسام كلها، فإذا صادم جسم جسما انسل ذلك الهواء من بينهما بحمية وتدافع، وتموج إلى جميع الجهات، فحدث من حركته شكل كروي، واتسع كما تتسع القارورة من نفخ الزجاج فيها، أو الماء الساكن إذا ألقي فيه حجر فيتزاحم الماء حتى يبلغ إلى أطراف الغدير، وكلما اتسع ذلك الشكل ضعفت حركته وتموجه إلى أن يسكن ويضمحل، فمن كان حاضرا من الناس وسائر الحيوانات التي لها أذن بالقرب من ذلك المكان تموج ذلك الهواء الذي هناك، فحست عند ذلك القوة السامعة بتلك الحركة والتغيير.
واعلم أن كل صوت له نغمة وصيغة وهيئة روحانية خلاف صوت الآخر، وأن الهواء من شرف جوهره ولطافة عنصره يحمل كل الصوت بهيئة وصيغة، ويحفظها لئلا يختلط بعضها ببعض فتفسد هيئاتها إلى أن يبلغها مدى غاياتها عند القوة السامعة، لتؤديها إلى القوة المتخيلة، ذلك تقدير العزيز العليم الذي جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون.
(6) فصل في إدراك القوة الباصرة
أما كيفية إدراك القوة الباصرة لمحسوساتها التي هي عشرة أنواع: أولها الأنوار والظلمة والألوان والسطوح والأجسام أنفسها وأشكالها وأبعادها وحركاتها وسكونها وأوضاعها، فالمدرك من هذه الأنواع بالحقيقة والذات النور والظلمة حسب، إلا أن الظلمة شيء يرى ولا يرى بها شيء آخر، والنور هو الذي يرى ويرى به شيء آخر.
أولها الألوان: ولما كانت الألوان لا توجد إلا في سطوح الأجسام صارت السطوح مرئية بها، ولما كانت السطوح أيضا لا توجد إلا في الأجسام صارت مرئية بتوسط سطوحها، ولما كانت الأجسام أيضا لا تخلو من الأشكال والأوضاع والأبعاد والحركات صارت هذه كلها مرتبة بالعرض لا بالذات.
ثم اعلم أن النور والظلمة لونان روحانيان، وأن السواد والبياض لونان جسمانيان، وأن النور مشاكل للبياض، وأن الظلمة مشاكلة للسواد، وذلك أن البياض يلوح على سائر الألوان كما أن في النور ترى سائر المرئيات، وعلى السواد لا تتبين الألوان، وفي الظلمة لا يرى شيء.
ثم اعلم أن النور والظلمة يسريان في الأجسام المشفة كسريان الروح في الجسد، وينسلان منها بلا زمان، ولكن الضوء إذا سرى في الأجسام المشفة حمل معه ألوان الأجسام وأوصافها التي تقدم ذكرها حملا روحانيا، وحفظها بهيئاتها حتى لا يختلط بعضها ببعض فيفسد هيئاتها، كما حمل الهواء الأصوات بهيئاتها كما وصفنا قبل، حتى يبلغها إلى أقصى مدى غاياتها عند القوة الباصرة المستبطنة في الرطوبة الجليدية التي في الحدقتين.
ثم اعلم أن الحدقتين هما من أحد الأجسام المشفة، وهما مرآتا الجسد، وذلك أنهما رطوبتان مغطاتان بغشائين شفافين، وهما غشاء القرنية ويعرف هذا الأصل من كان خبيرا بصناعة الطب، فإذا سرى الضوء في الأجسام المشفة وحمل معه ألوان الأجسام الحاضرة واتصل بحدقتي الحيوان الحاضرة هناك، وسرى فيهما كسريانه في سائر الأجسام المشفة انطبعت الجليدية بتلك الألوان كما ينطبع الهواء بالضياء، فعند ذلك تحس القوة الباصرة بذلك التغيير، فتؤدي خبره إلى القوة المتخيلة، كما تؤدي سائر القوى الحساسة أخبار محسوساتها، ومن يتعجب من وصفنا كيفية حمل الألوان أشكال الأجسام حملا روحانيا، وكيفية حمل الهواء الأصوات أيضا مثل ذلك، فلا ينبغي أن ينكرها من أجل أنه لا يتصورها، فإن حمل القوى الحساسة صور المحسوسات أعجب وأشد روحانية، وقد بينا ذلك في رسالة العقل والمعقول وكيفيتها.
وقد ظن كثير من أهل العلم أن إدراك البصر المبصرات إنما يكون بشعاعين يخرجان من العينين وينفذان في الهواء وفي الأجسام المشفة ويدركان هذه المبصرات ، وهذا ظن من لا رياضة له بالأمور الروحانية ولا بالأمور الطبيعية، ولو ارتاض فيها لبان له صحة ما قلنا ووصفنا.
فصل في أن القوة الحساسة ليست هي من أجزاء النفس
ثم اعلم أن هذه القوة الحساسة ليست هي من أجزاء النفس كما أن الحواس كل واحد منها عضو من الجسد وجزء منه، ولكن كل واحد منها هي النفس بعينها، وإنما وقعت عليها هذه الأسماء المختلفة من أجل اختلاف أفعالها، وذلك أنها إذا فعلت الإبصار سميت الباصرة، وإذا فعلت الإسماع سميت السامعة، وإذا فعلت الذوق سميت الذائقة.
وهكذا إذا فعلت في الجسم النمو سميت النامية، وإذا فعلت في الجسم الحس والحركة سميت حيوانية، وإذا فعلت الفكر والتمييز سميت ناطقة.
وعلى هذا القياس سائر الأسماء التي يقع عليها بحسب اختلاف أفعالها، واختلاف أفعالها بحسب اختلاف أعضاء الجسد، كما أن اختلاف أفعال الصناع يكون بحسب اختلاف أدواتهم، فإن النجار ينحت بالفأس وينشر بالمنشار، وكذلك الحداد يطرق بالمطرقة ويبرد بالمبرد، وعلى هذا المثال سائر الصناع؛ تختلف أفعالهم في صنائعهم بحسب اختلاف أدواتهم.
فهكذا تختلف أفعال النفس في الجسد بحسب اختلاف أعضائه؛ لأن أعضاء الجسد للنفس بمنزلة أدوات الصانع.
(7) فصل في كيفية وصول آثار المحسوسات إلى القوة المتخيلة التي مجراها مقدم الدماغ حسب ما تبين ها هنا
فنقول: إنه ينتشر من مقدم الدماغ عصبات لطيفة لينة تتصل بأصول الحواس، وتتفرق هناك وتنسج في أجزاء جرم الدماغ كنسج العنكبوت، فإذا باشرت كيفية المحسوسات من أجزاء الحواس وتغير مزاج الحواس عندها وغيرتها عن كيفياتها وصل ذلك التغيير في تلك الأعصاب التي في مقدم الدماغ، والتي منشؤها من هناك كلها، فتجتمع آثار المحسوسات كلها عند القوة المتخيلة، كما تجتمع رسائل أصحاب الأخبار عند صاحب الخريطة، فيوصل تلك الرسائل كلها إلى حضرة الملك، ثم إن الملك يقرؤها ويفهم معانيها ثم يسلمها إلى خازنه ليحفظها فيحفظها إلى وقت الحاجة إليها.
فهكذا حكم القوة المتخيلة إذا اجتمعت عندها آثار هذه المحسوسات التي أدت إليها القوة الحساسة، دفعتها إلى القوة المفكرة التي مسكنها وسط الدماغ لتنظر فيها وترى في معانيها وتعرف حقائقها ومضارها ومنافعها ثم تؤديها إلى القوة الحافظة لتحفظها إلى وقت التذكار.
(8) فصل في بيان المحسوسات بعضها بالذات وبعضها بالعرض
فنقول: اعلم أن الإنسان إذا رأى ثمرة من بعيد يعلم من وقته أنها حلوة أو مرة، أو طيبة الرائحة أو منتنة، أو أنها خشنة أو لينة، أو صلبة أو رخوة، أو حارة أو باردة، أو رطبة أو يابسة، وليس علمه بهذه الصفات كلها بطريق البصر، ولكن بالقوة المفكرة وبرؤيتها وتجاربها وما جرت لها به العادة.
وكذلك إذا أخطأ في حكم شيء من هذه فليس الخطأ من قبل الباصرة، ولكن من قبل المفكرة إذا حكمت من غير روية ولا اعتبار.
مثال ذلك: إذا رأى إنسان السراب فظن أنه الماء فليست الباصرة هي المخطئة، ولكن المفكرة حكمت بأن ذلك المتلون يناله اللمس والذوق وهو جسم سيال رطب، فلما جاءه لم يجده بهذا الوصف، فبان خطؤها، فسبيل المفكرة إذا أدت إليها المتخيلة أثر حاسة واحدة ألا تحكم أو تستخبر حاسة أخرى، فإن شهدت لها حكمت عند ذلك بأنها كيت وكيت.
مثال ذلك: إذا رأت الباصرة تفاحة معمولة من الكافور مصبوغة كلون التفاح فأوردت خبرها إلى المتخيلة فأوردتها هي إلى المفكرة، فليس سبيلها أن تحكم أن طعمها ورائحتها وملمسها مثل التفاحة التي هي الثمرة أو تستخبر قوة الذائقة والشامة واللامسة.
فإذا أخبرت كل واحدة منها بما لها أن تخبر به حكمت عند ذلك المفكرة بأنها كيت وكيت، حتى يكون حكمها صوابا لا خطأ فيه.
ثم اعلم أن من أجل هذه العلة منعت القوة الناطقة بأن تعبر على ألسنة الأطفال حكم شيء من معاني المحسوسات؛ لأن المفكرة بعد لم تحكم معانيها ولم تميزها تمييزا صحيحا، فإذا مضت سنون التربية ودفع القمر التدبير إلى عطارد صاحب المنطق والتمييز أطلق لسان المولود بالعبارة والبيان عن معاني المحسوسات التي أدت الحاسة إلى المفكرة.
(9) فصل في ماهية اللذة والألم والتعب والراحة وكيفية إدراك الحواس
فنقول: اعلم أن الحيوانات في دائم الأوقات لا تخلو من اللذة والألم والتعب والراحة؛ لأن أبدان الحيوانات مركبة من مزاج الأمهات الأربعة، وهي الأخلاط الأربعة وهي متضادات الطباع من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، وهي كلها في التغيير والاستحالة بين الزيادة والنقصان، وهما يخرجان المزاج تارة من الاعتدال إلى الزيادة في أحد الأخلاط والطباع، أو إلى النقصان في واحد منها، واللذة هي رجوع المزاج إلى الاعتدال بعدما كانت خارجة عنه.
فمن أجل هذا لا يحس الحيوان باللذة إلا بعدما يتقدمها ألم.
واعلم أن كل محسوس يخرج المزاج من الاعتدال فإن الحاسة تكرهه وتتألم منه، وكل محسوس يرد المزاج إلى الاعتدال فإن الحاسة تحبه وتلتذ به.
ثم اعلم أن الراحة هي الثبات على الصحة والاعتدال، وأن التعب هو التردد بين الألم واللذة.
ثم اعلم أن من نظر في هذه الرسالة وتفكر فيما وصفنا من كيفية أحوال هذه الحواس والمحسوسات تبين له بأن المحسوسات كلها أعراض جسمانية، وهي صور في الهيولى، وأن إدراك النفس لها بقواها الخمس الحساسة بطريق الحواس، وأن الحواس هي آلات جسدانية، وأن الحس إنما هو تغيير مزاج تلك الحواس عن مباشرة المحسوسات لها، وأن الإحساس إنما هو شعور القوى الحساسة بتغييرات تلك الأمزجة.
(10) فصل في ذكر القوى الخمس الروحانية
فنقول: اعلم - وفقك الله - أن للنفس الإنسانية خمس قوى أخر روحانية، سيرتها غير سيرة الخمس الحساسة الجسمانية، وهي: القوة المتخيلة والمفكرة والحافظة والناطقة والصانعة، وذلك بإدراكها رسوم المعلومات إدراكا روحانيا من غير هيولاها.
فأما الحساسة فلا تدرك محسوساتها إلا في الهيولى كما بينا قبل.
وأيضا فإن هذه القوى الروحانية تتناول رسوم المعلومات بعضها من بعض على غير سيرة الحساسة، وذلك أن القوى الحساسة كل واحدة منها مختصة بإدراك جنس من المحسوسات، كما بينا، وذلك أن الباصرة لا تدرك الأصوات ولا الطعوم ولا الروائح ولا الملموسات إلا الألوان.
وكذلك السامعة لا تدرك الألوان ولا الطعوم ولا الروائح ولا الملموسات ولا الأصوات، وهكذا الشامة والذائقة واللامسة كل واحدة لا تشارك غيرها في محسوساتها.
وأما القوى الخمس الروحانية فإنها كالمتعاونات في إدراكها رسوم المعلومات، وذلك أن القوة المتخيلة إذا تناولت رسوم المحسوسات كلها، وقبلتها في ذاتها كما يقبل الشمع نقش الفص، فإن من شأنها أن تناولها كلها إلى القوة المفكرة من ساعتها، فإذا غابت المحسوسات عن مشاهدة الحواس لها بقيت تلك الرسوم مصورة صورة روحانية في ذاتها كما يبقى نقش الفص في الشمع المختوم مصورا بصور روحانية مجردة عن هيولاها، فيكون عند ذلك لها كالهيولى وهي فيها كالصورة.
ثم إن من شأن القوة المفكرة أن تنظر إلى ذاتها وتراها معاينة وتتروى فيها وتميزها، وتبحث عن خواصها ومنافعها ومضارها، ثم تؤديها إلى القوة الحافظة لتحفظها إلى وقت التذكار.
ثم إن من شأن القوة الناطقة التي مجراها على اللسان إذا أرادت الإخبار عنها والإنباء عن معانيها والجواب للسائلين عن معلوماتها ألقت لها ألفاظا من حروف المعجم، وجعلتها كالسمات لتلك المعاني التي في ذاتها وعبرت عنها للقوة السامعة من الحاضرين.
ولما كانت الأصوات لا تمكث في الهواء إلا ريثما تأخذ المسامع حظها، ثم تضمحل، احتالت الحكمة الإلهية بأن قيدت معاني تلك الألفاظ بصناعة الكتابة.
ثم إن من شأن القوة الصانعة أن تصوغ لها من الخطوط الأشكال بالأقلام وتودعها وجوه الألواح وبطون الطوامير ليبقى العلم مفيدا فائدة من الماضين للغابرين وأثرا من الأولين للآخرين وخطابا من الحاضرين للغائبين، وهذه من جسيم نعم الله - عز وجل - على الإنسان كما ذكر - جل ثناؤه - فقال: @QUR024 اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم.
(11) فصل في العلة التي من أجلها صار علم الإنسان بالمعلومات من ثلاثة طرق
فنقول إنه لما كان الإنسان من جملة مجموعة بدن جسماني ونفس روحانية صار بنفسه الروحانية يدرك العلم، كما أنه بجسده الجسماني يعمل الصانع.
ولما كانت النفس في الرتبة الوسطى من الموجودات كما بينا في رسالة المبادئ؛ وذلك أن من الأشياء ما هو أعلى وأشرف من جوهر النفس كالباري - تعالى - والعقل والصور المجردة من الهيولى الذين هم ملائكة الله المقربون.
ومنها ما هو أدون من جوهر النفس كالهيولى والطبيعة والأجسام أجمع، فصارت معرفة النفس بالأشياء التي دونها في الشرف بطريق الحواس التي هي المباشرة والمتماسة والمخالطة والإحاطة.
وأما ما كان أشرف منها وأعلى فصارت معرفتها لها بطريق البرهان الذي يضطر العقول إلى الإقرار به من غير إحاطة ولا مباشرة، وصارت معرفتها بذاتها وجوهرها بطريق العقل؛ لأن نسبة العقل إلى النفس كنسبة الضوء من البصر وكنسبة المرآة إلى الناظر فيها، فكما أن البصر لا يرى شيئا من الأشياء إلا بالضوء كالإنسان لا يرى وجهه إلا بالمرآة والنظر فيها، كذلك النفس لا تنظر ذاتها إلا بنور العقل ولا تعرف حقائق الموجودات إلا بالنظر إلى العقل.
وإنما يتسنى للنفس النظر إلى العقل بعين البصيرة إذا هي انفتحت، وإنما تنفتح لها عين البصيرة، إذا هي انتبهت من نوم الغفلة ورقدة الجهالة ونظرت بعين الرأس إلى هذه المحسوسات، وفكرت في معانيها واعتبرت أحوالها حتى تعرفها حق معرفتها.
فمن أجل هذا قدمنا رسالة الحاس والمحسوس على رسالة العقل والمعقول، فاعتبر يا أخي هذه الأمور التي وصفنا، وتفكر في معانيها وحقائقها تنتبه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة وتنفتح عين البصيرة فتعاين في ذاتها صور الأشياء، وتبين في جوهرها معاني الموجودات؛ لأنها معادن العلوم كلها ومأوى الحكمة، كما قال الحكيم الفاضل: إن العلوم كلها في النفس بالقوة، فإذا فكرت في ذاتها وعرفتها صارت العلوم كلها فيها بالفعل.
(تمت رسالة الحاس والمحسوس، ويتلوها رسالة مسقط النطفة، والحمد لله على جزيل عطائه، وصلواته على خير أنبيائه محمد سيد المرسلين وخاتم النبيين والعترة الطاهرة من أبنائه وسلم تسليما.)
الرسالة الحادية عشرة من الجسمانيات الطبيعيات في مسقط النطفة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، آلله خير أما يشركون.
(1) فصل
اعلم أيها الأخ البار الرحيم - أيدك الله وإيانا بروح منه - بأن الحكمة الإلهية دبرت والعناية الربانية قدرت مكث كل واحد وكل حادث في الكون زمانا معلوما، وهو مقدار ما تفيض الأشكال الفلكية قواها كل واحدة بحسب قبول أشخاص ذلك النوع من الكائنات التي تحت فلك القمر لا يعلم تفصيلها إلا الله - عز وجل، ولكن نذكر منها طرفا ليكون دليلا على الباقي.
من ذلك مكث الإنسان في الرحم من يوم مسقط النطفة إلى يوم خروج الجنين يوم الولادة ثمانية أشهر 240 يوما الذي هو المكث الطبيعي، وأما الذي يزيد على هذا المقدار وينقص عنه، فلعلل وأسباب يطول شرحها، ونريد أن نذكر تأثيرات الكواكب السبعة في النطفة وفي الجنين واحدا واحدا وشهرا شهرا ليكون قياسا على سائر المواليد من الحيوانات والحوادث والكائنات، وقبل ذلك نحتاج أن نذكر أحوال الكواكب السبعة ذكرا مجملا، إذ كانت هي العلل الموجبة لاختلاف أحوال الكائنات.
واعلم يا أخي بأن كل كوكب فله في فلكه، أعني فلك تدويره، أربعة أحوال، ومن الشمس أربعة أحوال، ولفلك تدويره في فلك الحامل أربعة أحوال، وفي فلك البروج أربعة أحوال، فتلك ستة عشر حالا جنسية، فإذا ضربت في مثلها كانت مائتين وستة وخمسين حالا نوعية، فإذا ضربت ذلك في ثلاثمائة وستين درجة كانت اثنين وتسعين ألفا ومائة وستين حالا شخصية.
فأما تفصيل أحوال الكواكب في أفلاك تداويرها فهي أن تكون صاعدة إلى ذرواتها أو هابطة من هناك أو راجعة أو مستقيمة، وأما أحوالها من الشمس فهي أن تكون مقارنة لها أو مقابلة لها أو مشرقة منها أو مغربة.
وأما أحوال أفلاك التداوير في الأفلاك الحاملة فهي أن تكون مراكزها في الأوج أو في الحضيض أو صاعدة من الحضيض إلى الأوج أو هابطة من الأوج إلى الحضيض.
وأما فلك البروج فهي أن تكون ذاهبة من الهبوط إلى الشرف أو من الشرف إلى الهبوط أو تكون في البروج الشمالية أو الجنوبية أو في المعوجة أو في المستقيمة أو يكون عرضها وميلها في الجنوب أو في الشمال أو يكون عرضها في الجنوب وميلها في الشمال أو عكس ذلك، وكل هذه الأحوال تختلف تأثيراتها في الكائنات بحسب الأزمان والأماكن والأجناس والأنواع اختلافا كثيرا لا يحصي عدده إلا الله - عز وجل - ولكن نذكر طرفا منه.
واعلم يا أخي - أيدك الله وإيانا بروح منه - بأن جميع الكائنات التي تحت فلك القمر ثلاثة أجناس، وهي الحيوانات والنبات والمعادن، وهي الأصول المحفوظة في الهيولى صورتها.
وأما الأنواع فهي أقسامها المتفرعة منها، وأما الأشخاص فهي أعيانها التي هي دائمة في الكون والفساد والسيلان، وأما هيولاها فهي الأركان الأربعة التي هي: النار والهواء والماء والأرض، وأما الصانع الفاعل لها فهي النفس الكلية الفلكية السارية في محيط الأفلاك بإذن خالقها وباريها ومصورها، وأما الكواكب فهي كالأدوات للصانع، ذلك تقدير العزيز العليم.
(2) فصل في كيفية اعتبار أفعال الطبيعة في الأركان الأربعة وتأثيرات النفوس وفي المولدات الكائنات تحت فلك القمر
اعلم يا أخي - أيدك الله وإيانا بروح منه - بأنك إذا دخلت أسواق المدن ونظرت بعيني رأسك إلى الصناع البشريين ورأيتهم كيف يعملون صنائعهم في الهيولى الموضوعة لهم كما بينا في رسالة الصنائع العملية، فينبغي أن تنظر عند ذلك إلى القوى الطبيعية التي هي نفوس جزئية منبثة من النفس الكلية الفلكية السارية في الأركان التي هي لها كالهيولى الموضوعة، وإلى أشخاص الحيوان والنبات والمعادن التي هي مصنوعاتها، وإلى الكواكب التي هي كالأدوات لها، فلعلك تبصر بنور عقلك وترى بصفاء جوهر نفسك القوى الروحانية السارية في هذه الأجسام، وتعاين كيفية أفعالها فيها وبها ومنها فتعرف عند ذلك نفسك؛ لأنها واحدة منها.
واعلم بأن مثل الأركان الأربعة التي هي الأمهات في جوف الفلك كاللبن في الوعاء وحركات الكواكب من محيط الأفلاك كالمخض به، والكائنات عنها كالزبدة المجتمعة من لطائفها.
ثم اعلم أنه إذا تمخضت الأركان من تحريك الأشخاص الفلكية لها، واجتمع من لطائف زبدتها شيء وشخص وامتاز عن البسائط ربطت به في الوقت والساعة قوة من قوى النفس الكلية الفلكية في أي مكان كان ذلك الشيء من البر والبحر والهواء والنار في أي وقت كان من الزمان وتشخص تلك القوة وتمتاز عن سائر القوى لتعلقها بتلك الزبدة واختصاصها بتلك الجملة، فعند ذلك تسمى تلك القوة نفسا جزئية، وعند ذلك تقع الإشارة إلى تلك الجملة؛ لأنها حادث كائن حيوانا كان أو نباتا أو معدنا.
واعلم يا أخي أنه لا بد من أن يكون ذلك الوقت وتلك الساعة درجة طالعة من أفق المشرق من الفلك على أفق تلك البقعة التي حدثت تلك الزبدة هناك، ويكون شكل الفلك ومواضع الكواكب على هيئة ما يصور من أصحاب الأحكام في زائجات المواليد والتحاويل والمسائل، فعند ذلك يضاف إلى تلك القوة قوى روحيات سائر الكواكب، وتجذب معها تلك الزبدة المواد المشاكلة لها، ويكون قبولها بحسب ما في طباع أشخاص أنواع ذلك الجنس من الأفعال والأخلاق والخواص حيوانا كان أو نباتا أو معدنا.
أمثال ذلك: أنه إذا جرت نطفة الإنسان التي هي زبدة دم الرجال واجتمعت في الإحليل عند حركة الجماع بعدما كانت منبثة في أجزاء الدم متفرقة في خلل البدن وخرجت من الإحليل وانصبت في الرحم واستقرت هناك ربطت بها في الوقت والساعة قوى من قوى النفس النباتية السارية في جميع الأجسام النامية التي هي أيضا قوى من قوى النفس الطبيعية السارية في جميع الأركان الأربعة والتي هي أيضا قوة منبثة من النفس الكلية الفلكية السارية في جميع الأجسام الموجودة في العالم، كما بينا في رسالة معنى قول الحكماء: إن الإنسان عالم صغير والعالم إنسان كبير.
فصل في أن للنفس النباتية سبع قوى
ثم اعلم يا أخي أن للنفس النباتية سبع قوى فعالة وهي الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمصورة، وأن أول فعلها عند استقرار النطفة في الرحم هو جذبها دم الطمث إلى الرحم وإمساكها لها هناك وهضمها.
ثم اعلم يا أخي بأنه إذا جذبت هذه القوة الدم إلى هناك أخفته حول النطفة وأدارته عليها كما يدور بياض البيض حول محها، فيكون عند ذلك حول النطفة كالمحة ودم الطمث حولها كالبياض، ثم إن حرارة النطفة تسخن رطوبة الدم فتنضجها، فتسخن وتنعقد تلك الرطوبة، فتصير علقة كما ينعقد اللبن الحليب من الأنفحة، وتستولي عند ذلك على تلك الجملة قوى روحانيات زحل، وتبقى في تدبيراتها بمشاركة قوى روحانيات سائر الكواكب شهرا واحدا ثلاثين يوما سبعمائة وعشرين ساعة كما ذكر ذلك في كتب أحكام النجوم بشرح طويل، ونريد أن نذكر من ذلك طرفا ليكون دستورا لما أن نتكلم فيما بعد.
واعلم يا أخي بأن ابتداء تدبير النطفة إنما صار لزحل من أجل أنه أعلى الكواكب السيارة فلكا مما يلي فلك الكواكب الذي هو مكان الجواهر الشريفة ومنصب القوى الروحانية ومعدن النفس القدسية ومستقر الأرواح الخيرة ومبدأ القوى العقلية والملائكة العلامة المفكرة والأجرام النيرة الشفافة، ومن هناك تنزل الملائكة بالوحي والتأييد والأنباء والخير والبركات، وإلى هناك يصعد بالأعمال الصالحة وإليه يعرج بأرواح المؤمنين وأنفس الأخيار من عباده الصالحين من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، كما بينا في رسالة البعث والقيامة.
فانتبه يا أخي من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، واستعد للرحلة من هذه الدار، وتزود فإن خير الزاد التقوى، فلعل نفسك توفق إلى الصعود إلى هناك فتجازى بأحسن الجزاء؛ لأن من هناك ورودها إلى هذا العالم وإلى هناك يكون مرجعها ومستقرها، كما بينا في رسالة الأدوار والأكوان.
ثم اعلم يا أخي بأنه ما دام التدبير لزحل إلى تمام شهر ثلاثين يوما، فإن تلك العلقة تكون باقية بحالها غير مختلطة ولا ممتزجة، بل جامدة متمسكة جارية إليها المواد لغلبة برد زحل وسكونه وثقل طبيعته إلى أن يدخل الشهر الثاني ويصير التدبير للمشتري الذي فلكه يتلو فلك زحل، وتستولي عليها قوى روحانيته، فيولد عند ذلك في تلك العلقة حرارة، وتسخن ويعتدل مزاجها، ويختلط الماءان ويمتزج الخلطان ويعرض لتلك الجملة حركة مثل الاختلاج والارتعاش والهضم والنضج، فلا تزال هذا حالها ما دامت في تدبير المشتري إلى تمام شهرين، ثم يدخل الشهر الثالث ويصير التدبير للمريخ الذي يلي المشتري في الفلك، وتستولي على تلك العلقة قوى روحانيته ويشتد اختلاجها وارتعاشها ويتولد فيها فضل حرارة وسخونة وتصير تلك العلقة مضغة حمراء، فلا تزال تتقلب حالا بعد حال من النضج والاستحكام بمشاركة قوى روحانيات سائر الكواكب للمريخ إلى تمام ثلاثة أشهر، ثم يدخل الشهر الرابع ويصير التدبير للشمس رئيسة الكواكب وملكة الفلك وقلب العالم بإذن الباري - جل ثناؤه.
(3) فصل في كيفية حال الجنين في الشهر الرابع
واعلم يا أخي بأنه إذا دخل الشهر الرابع من مسقط النطفة وصار التدبير للشمس، واستولت على المضغة قوى روحانياتها نفخت فيها روح الحياة وسرت فيها النفس الحيوانية؛ وذلك لأن الشمس هي رئيسة الكواكب في الفلك ونفسها هي روح العالم بأسره وهي المستولية على الكائنات التي دون فلك القمر وخاصة على مواليد الحيوانات ذوي الرحم وأشد اختصاصا بمواليد الإنس، وذلك أن جرمها في العالم بمنزلة جرم القلب في البدن وسائر أجرام الكواكب والأفلاك بمنزلة أعضاء البدن ومفاصل الجسد، وسريان قوى روحانياتها في العالم كسريان الحرارة الغريزة المنبثة من القلب السارية في أعضاء البدن.
وأما سائر قوى روحانيات الكواكب فهي لها كالجنود والأعوان والخدم، كل ذلك بإذن الباري - جل ثناؤه - وذلك تقدير العزيز العليم فتبارك الله أحسن الخالقين.
ثم اعلم يا أخي أنها بمسيرها في حدود الكواكب في البروج وشدة إشراق نورها وسريان قوى روحانياتها تحط من الفلك إلى عالم الكون والفساد الذي تحت فلك القمر من قوى روحانيات الكواكب والأفلاك والبروج في كل يوم ساعة في درجة ودقيقة ألوانا من التدبير والتأثير غير ما في يوم آخر وساعة أخرى لا يبلغ فهم البشر كنه معرفته، ولكن نذكر من ذلك طرفا ليكون قياسا على ما قلناه ودليلا على ما أوضحناه ووصفناه، وذلك أنه إذا سقطت نطفة في الرحم، فلا بد أن تكون الشمس في درجة من برج من الأبراج فإذا بلغت بمسيرها أربعة أشهر من مسقط النطفة إلى آخر البرج الرابع، وقد قطعت من الفلك ثلث الدور، وهو من المسافة بمقدار ما بين شرفها إلى بيتها تكون قد استوفت طبائع البروج النارية والترابية والهوائية والمائية.
وعند ذلك تكون قد اختلطت الطبائع من الأركان الأربعة في تركيب بنية الجنين، واعتدل المزاج، وانتقشت الصورة، وأنشئت الخلقة، وظهرت أشكال العظام، وركبت المفاصل، وتهندم التركيب، والتفت الأعصاب على المفاصل، وامتدت العروق في خلل اللحم، وظهرت البنية مخلقة وغير مخلقة .
(4) فصل في كيفية الجنين في الشهر الخامس
اعلم يا أخي بأنه إذا دخل الشهر الخامس وسارت الشمس إلى البرج الخامس المسمى بيت الولد الموافق طبيعته للبرج الذي كان فيه يوم مسقط النطفة، وصار التدبير للزهرة الساعد الأصغر وصاحبة النقش والتصاوير، واستولى على المخلقة قوى روحانياتها استتمت الخلقة، واستكملت البنية، وظهرت صورة الأعضاء، واستبان رسم العينين، وانشق المنخران، وانفتح الفم وثقب الأذنين ومجرى السبيلين، وتميزت المفاصل، ولكن الجنين يكون مجموعا منضما منقبضا كأنه مصرور في صرة ركبتاه مجموعتان إلى صدره ومرفقاه منضمان إلى حقويه، وهو منكس رأسه على ذقنه وعلى ركبتيه، وكفاه على خديه، وهو شبه نائم محزون.
فلو رأيته يا أخي لرحمته لضيق مكانه وضعف أحواله، ولكنه لا يحس بما هو فيه رفقا من الله - تعالى - بخلقه ولطفا بهم، وتكون سرته متصلة بسرة أمه تمتص الغذاء منها إلى يوم الولادة، ويكون وجهه إن كان ذكرا مما يلي ظهر أمه، وإن كان أنثى فعكس ذلك.
فانظر يا أخي في هذا الفعل وتفكر فيما ذكرنا، فلعل نفسك تنتبه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، فترى بعين قلبك هذا الصانع الحكيم كما رأيت بعيني رأسك مصنوعاته، ولا تتبع سبيل الذين لا يعلمون.
واعلم يا أخي بأن كثيرا من الحيوانات تتوالد في هذه المدة المذكورة مثل الغنم والظباء وبعض السباع وكل حيوان لا يحتمل الحمل والكد.
ومنها ما يتأخر ولادتها إلى تمام ستة أشهر وتسعة أو عشرة أو اثني عشر لأغراض أخرى قد بيناها في رسالة الحيوان، ونحن نذكر في فصل آخر من هذه الرسالة ما الغرض في تأخير ولادة الإنسان إلى تمام ثمانية أشهر ومكث الجنين في الرحم إلى الشهر التاسع.
(5) فصل في كيفية حال الجنين في الشهر السادس
ثم اعلم أنه عند دخول الشهر السادس يصير التدبير لعطارد، وتستولي عليه قوى روحانياته، فيتحرك عند ذلك الجنين في الرحم ويركض برجليه ويمد يديه ويبسط جوارحه ويضطرب ويحس بمكانه ويفتح فاه ويحرك شفتيه ويتنفس من منخريه ويدير لسانه في فيه، فيكون تارة متحركا وتارة يسكن وتارة ينام وتارة يستيقظ، فلا يزال ذلك دأبه إلى أن يتم الشهر السادس ويدخل الشهر السابع، ويصير التدبير للقمر، وتستولي عليه قوى روحانياته فيربو لحم الجنين حينئذ وتسمن جثته وتنتصب قامته وتشتد أعضاؤه وتصلب مفاصله وتقوى حركته ويحس بضيق مكانه، ويطلب التنقل والخروج، فإن قدر له ذلك بما يوجب أحكام النجوم بأسباب يطول شرحها وخروجها على المجرى الطبيعي، وكان الجنين كاملا عاش وتربى وعمر، وإن بقي هناك إلى أن يدخل الشهر الثامن وتدخل الشمس بيت الموت ويرجع التدبير إلى زحل من الرأس فتستولي عليه قوى روحانياته عرض للجنين ثقل وسكون وغلب عليه البرد والنوم وقلة الحركة، فإن ولد في هذا الشهر كان بطيء النشوء ثقيل الحركة قليل العمر، وربما كان ميتا، وإذا دخل الشهر التاسع وانتقلت الشمس إلى البرج التاسع بيت النقلة والأسفار ورجع التدبير إلى المشتري السعد الأكبر واستولت عليه قوى روحانياته واعتدل المزاج وقويت روح الحياة ظهرت أفعال النفس الحيوانية في الجسد؛ لأن الشمس تكون قد استوفت طبائع البروج المثلثات النارية والمائية والهوائية والترابية مرتين في الثمانية الأشهر.
وقد سارت الشمس في فلك البروج مائتين وأربعين درجة، وهذه المسافة مقدار ما بين بيتها إلى شرفها التاسع من بيتها المتفقين في طبيعة واحدة، وتكون أيضا في هذه المدة قد قبلت طبيعة الجنين قوى روحانيات الكواكب المنحطة من الفلك مرتين بمسير الشمس في البروج المثلثات مرة إلى البرج الخامس ومرة إلى البرج التاسع، كما تقدم ذكرها، ويبقى مرة أخرى كما نبين بعد هذا الفصل، ويكون الذي يبقى للشمس إلى أن تعود إلى الدرجة التي كانت فيها وقت مسقط النطفة أربعة أبراج ومائة وعشرين درجة إلى تمام الدور.
فإذا خرج الجنين بعد ثمانية أشهر استأنف العمر في الدنيا لكل درجة سنة الذي هو العمر الطبيعي وهو المقدار الذي بقي للشمس إلى أن تعود إلى الدرجة التي كانت فيها يوم مسقط النطفة ليستوفي الإنسان طبائع البروج مرة ثالثة حتى يتم ويكمل.
وأما الذي يزيد وينقص عن هذا المقدار فلأسباب وعلل يطول شرحها ، وهي مذكورة في كتاب أحكام النجوم ومكث الأجنة وأعمار المواليد، وقد ذكرنا طرفا من ذلك في رسالة العلل والمعلولات، ولكن نذكر من ذلك طرفا ليكون دليلا على ما وصفنا.
واعلم يا أخي بأن الكائنات التي تحت فلك القمر تبتدئ من أنقص الحالات وأدونها مترقية إلى أتمها وأفضلها، ويكون ذلك في مر الزمان والأوقات؛ لأن طبيعتها لا تقبل فيض أشخاص فلكية دفعة واحدة، ولكن شيئا بعد شيء على التدريج كما يقبل المتعلم الذكي من الأستاذ الحاذق.
واعلم بأن فيضات الكواكب من محيط الأفلاك متصلة نحو مركز الأرض في دائم الأوقات، ولكنها مفننة الألوان متغايرة الأشكال، وذلك بحسب مواضعها من أفلاكها وموازاتها من فلك البروج وحدودها كما نبين بعد هذا الفصل.
واعلم يا أخي بأن الحكمة الإلهية والعناية الربانية قد جعلت لكل كائن من الموجودات تحت فلك القمر مقدارا من الوجود والبقاء معلوما مقدرا أو يكون ذلك بمقدار دور شخص من الأشخاص الفلكية، كما بينا طرفا منه في رسالة ماهية الطبيعة، ولكن نذكر من ذلك أيضا ها هنا مثالا واحدا من الأشخاص الإنسانية، وذلك أن نطفة الإنسان إذا سقطت في الرحم فإن مكثها الطبيعي إلى أن تقبل صورة الإنسانية أربعة أشهر بمقدار ما تسير الشمس أربعة أبراج مائة وعشرين درجة، وتستوفي بمسيرها طبائع البروج والمثلثات مرة واحدة، فعند ذلك يبقى الجنين إلى يوم الولادة أربعة أشهر أخر، وهو مقدار ما تسير الشمس أربعة أبراج مائة وعشرين درجة، وتستوفي بمسيرها طبائع البروج المثلثات مرة أخرى، وبذلك يبقى لها أن تعود إلى الدرجة التي كانت فيها يوم مسقط النطفة مائة وعشرين درجة، فيستوفي المولود العمر الطبيعي في الدنيا مائة وعشرون سنة لكل درجة بقيت للشمس سنة.
واعلم يا أخي - أيدك الله وإيانا بروح منه - بأن أفعال الكواكب وتأثيرات قوى روحانياتها في الأربعة الأشهر الأول تكون مصروفة إلى تأسيس بنية الجسد وتكوين أعضائه المختلفة وسريان قوى النفس النباتية، وذلك أن لكل عضو من الجسد مثل القلب والكبد والدماغ والمعدة والرئة والطحال والأمعاء والعروق والأعصاب والعظام والعضلات والمخ والجلد وما شاكلها خلقة خلاف ما لعضو آخر، ولكل خلقة تركيب ولتركيبه أخلاط ولتلك الأخلاط أمزجة، ولتلك الأمزجة طبائع مختلفة في الكمية، وفي الكيفية من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة خلاف ما للآخر كما ذكر ذلك في كتاب التشريح بتطويل، وكما ذكرنا ذلك في كتاب طبائع الأغذية ودرجات قواها، وقد ذكرنا طرفا من ذلك في رسالة النبات، وللنفس النباتية في كل عضو فعل طبيعي خلاف ما في عضو آخر كما بينا في رسالة نشوء الأنفس الجزئية.
(6) فصل في أن بنية الجسد وتركيب أعضائه يتم في أربعة أشهر
اعلم يا أخي أن بنية الجسد وتركيب أعضائه يتم في هذه الأربعة الأشهر؛ لأن الشمس التي هي روح العالم في هذه المدة بمسيرها في أربعة أبراج المثلثات تكون قد حطت طبائع تلك الأبراج من محيط الأفلاك إلى عالم الكون والفساد الذي دون فلك القمر، وتكون قد سرت قوى روحانيات الكواكب التي فوق الأرض في بنية الجسد، وركزت في مراكزها، كما بينا في رسالة أفعال الروحانيات، وعلة أخرى أيضا أن في هذه الأربعة الأشهر تكون قد اجتمعت من مادة بنية الجسد ما تحتاج إليه الطبيعة الفاعلة، وذلك يوم مسقط النطفة؛ إذ تكون تلك المادة هناك مجتمعة؛ لأن الطبيعة كانت تدفعها إلى خارج البدن في أيام الحيض، فإذا استقرت النطفة في الرحم جذبت عند ذلك تلك المادة إلى نفسها كما تجذب نار السراج الدهن بالفتيلة إلى نفسها، وكما يجذب حجر المغناطيس الحديد إلى نفسه، فإذا حصل ذلك الدم حف حول النطفة كما يحف بياض البيضة حول محها، ثم إن حرارة النطفة تسخن ذلك الدم وتجمده كما تفعل الأنفحة باللبن الحليب، وهو أول فعل يكون من قوى روحانيات زحل في النطفة؛ لأن من خاصة أفعاله إمساك الصورة في الهيولى والسكون والثبات.
وأما تأثيرات الكواكب من البروج في الأربعة الأشهر الثانية فتكون مصروفة إلى تتميم بنية الجسد وإحكام خلقة الأعضاء لكيما تسري فيها قوى النفس الحيوانية، ويمكنها إظهار أفعالها.
وذلك أن الشمس في هذه المدة بمسيرها في الأبراج المثلثات الأخر تحط تلك القوى مرة أخرى، فإذا تمت البنية واستحكمت الخلقة سرت فيها قوى النفس الحيوانية، ونقلت تلك الجملة من الرحم إلى فسحة هذا العالم، واستوفت به تدبيرا آخر أربع سنين لكيما تكمل البنية، وتستحكم الصورة، ويمكن أن تسري فيها القوى الناطقة وتظهر أفعالها فيها، وذلك أن تلك القوات الروحانية تصرف تأثيراتها وأفعالها إلى تربية المولود وأحكام إدراك الحواس محسوساتها ثم ترد النفس الناطقة وينطلق لسان المولود بالعبارة عن معاني تلك المحسوسات وتمييزها.
(7) فصل في أن الكواكب لا يمكن أن تفعل تأثيراتها في شهرين ولا ثلاثة
واعلم يا أخي أنه لا يمكن أن تفعل هذه الكواكب هذه الأفعال والتأثيرات في شهرين ولا ثلاثة إلى ما هي عليه الآن كما بينا، ونضرب لذلك مثلا محسوسا من مصنوعات البشر كيما يتصور مصنوعات الطبيعة.
ذلك أن البناء إذا أراد بناء دار، فإنه يصرف أولا همته وأفعاله مدة ما في تأسيس البناء ورفع الحيطان وإقامة الأعمدة وعقد الأبراج وتسقيف البيوت ليتبين أولا رسم الدار ويتمم البيوت والممرات والمجالس، وهذه مدة تكوين الدار وإيجادها، ثم يصرف عنايته وتدبيره بعد ذلك في تتميمها من تعليق الأبواب والشبابيك ونصب البازير وتزيين السطوح وتجصيص الحيطان، وتزويق السقوف والنقوش، وما شاكلها من التتميم، ثم يبقى بعد ذلك كمال الدار، وهو أن تفرش وتعلق الستور وتملأ الخزائن من الأموال والأثاث، ويسكنها رب الدار ويتمتع إلى حين.
فهكذا يجري يا أخي أمر تركيب جسد الإنسان واقتران النفس معه من يوم مسقط النطفة وتعلق النفس بها إلى يوم يموت الجسد، وهو أن تفارق النفس الجسد ويدفن في التراب، وهذه المدة هي بمقدار دور واحد من أدوار تلك الأشخاص الفلكية كما بينا في رسالة الأدوار والأكوان.
فلا ينبغي لك يا أخي أن تتوهم أو تظن أن هذه الكواكب والأفلاك والبروج التي ذكرنا أفعالها وتأثيراتها في تركيب الجسد الإنساني هي آلات وأدوات للباري - جل ثناؤه - يخلق بها الإنسان، بل إنما هي آلات وأدوات للنفس الكلية الفلكية، وهذه النفس هي عبد مطيع للباري - تعالى - فقد أيدها بالعقل الكلي الذي هو ملك من ملائكته المقربين: «الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون لمن في الأرض»، كما ذكر في كتابه على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وآله، وستعلم يا أخي حقيقة هذه الأسرار والمرامي إذا انتبهت لنفسك من نوم الغفلة، واستيقظت من رقدة الجهالة، وارتفعت في المعارف الربانية، وارتضت في العلوم الإلهية إذا بعثت يوم القيامة، وشاهدت ملكوت رب العالمين، ووقفت على جبل الأعراف مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
وإذ قد فرغنا من ذكر تأثير الكواكب في النطفة مجملا فنزيد أن نذكر طرفا من تأثيراتها في كل شهر وتردادها في أفعالها إذا كان بعضها في بيوت بعض وحدودها.
واعلم يا أخي - أيدك الله وإيانا بروح منه - بأن للأشخاص الفلكية الموجودات التي تحت فلك القمر من الحيوان والنبات والمعادن، وفي كل جنس منها تأثيرات مختلفة بحسب قبول كل نوع منها، ولكل نوع من تلك الأجناس تأثيرات مفننة بحسب أماكنها المختلفة، ولها في كل شخص من أشخاص تلك الأنواع تأثيرات متباينة بحسب قبولها في أزمان مختلفة في طول أعمارها لا يشبه بعضها بعضا، ولا يبلغ فهم البشر كنه معرفتها، ولا يعلمها إلا الله - تعالى - ولكن نذكر منها مثالا واحدا ليكون قياسا على الباقية، ونجعل المثال من شخص إنسان واحد، ونذكر فنون تأثيراتها فيه من يوم تسقط النطفة إلى يوم الولادة مدة تسعة أشهر ذكرا مجملا؛ إذ كان شرحها يطول، ثم نذكر فصلا آخر في فنون تأثيراتها فيه من يوم الولادة إلى يوم يموت، وهو آخر العمر الطبيعي سنة سنة بقول وجيز؛ ليكون قياسا على سائر المواليد من الكائنات تحت فلك القمر، فنقول: اعلم يا أخي - أيدك الله وإيانا بروح منه - بأن تأثيرات الكواكب تختلف في الكائنات من جهات شتى تارة منها من جهة اختلاف أحوالها في أفلاكها من الصعود إلى أوجاتها، أو من جهة النزول من هناك إلى الحضيض، وتارة من جهة العرض والميل في الجنوب والشمال، وتارة من جهة نسبتها إلى الشمس من التشريق والتغريب والرجوع والاستقامة والوقوف، وتارة من جهة كونها في موازنة بعضها ببعض، وتارة من جهة اختلاف مسامتها لبقاع الأرض وانحرافاتها منها في الأوتاد وما يليها أو ما يزول عنها، وتارة من جهة اختلاف الشتاء والصيف والربيع والخريف والليل والنهار، وساعاتهما وأوائل الشهور وأواخرها وما شاكل ذلك، يعرف اختلاف هذه الأحوال أهل المجسطي.
وأما اختلاف تأثيراتها في هذه الأحوال فيعرفها أصحاب الأحكام الذين يتكلمون على أحكام المواليد.
وأما معرفة كيفية وصول قوى الأشخاص الفلكية إلى هذه الأشخاص السفلية، فيعلمها الربانيون الناظرون في علم النفس، وقد بينا طرفا منها في رسالة أفعال الروحانيات.
(8) فصل في كيفية تأثيرات الكواكب
واعلم يا أخي أن هذه الأشخاص الفلكية لما كانت موضوعة بعضها من بعض على النسبة الموسيقية من ثلاثة أنواع أحدها نسبة أعظام بعضها عند بعض، والآخر نسبة أبعاد مراكزها بعضها من بعض، ومن الأركان الأربعة، وكذلك الثالث نسبة حركاتها في سرعة وإبطاء، فمن أجل ذلك إذا عرضت لها تلك الحالات المختلفة التي تقدم ذكرها في الفصل الأول اختلفت مناسباتها، فعند ذلك تختلف تأثيراتها في الكائنات بحسب اختلاف النسبة كما تختلف أصوات الموسيقى ونغماتها عند طول الأوتار وقصرها ودقتها وغلظها وسرعة حركات المضراب وإبطائها، فتختلف عند ذلك تأثيراتها في نفوس المستمعين بحسب اختلاف طبائعهم وآرائهم وأخلاقهم كما بينا طرفا من ذلك في رسالة الموسيقى.
فصل في أن الموجودات التي دون فلك القمر
واعلم يا أخي - أيدك الله وإيانا بروح منه - بأن الموجودات التي دون فلك القمر كلها موضوعة لقبول تأثيرات الكواكب، ولكن لما كانت جواهرها مختلفة اختلف قبول تأثيراتها، وهي كثيرة الأنواع لا يحصي عددها إلا الله - جل ثناؤه - ولكن يجمعها كلها جنسان: جواهر جسمانية وجواهر روحانية، فالجسمانية هي أجسام الأركان الأربعة ومولداتها الكائنات منها من المعادن والنبات والحيوان، والجواهر الحيوانية هي نفوس الحيوانات أجمع.
فصل في فنون تأثيرات الكواكب
واعلم يا أخي بأن فنون تأثيرات الكواكب في هذه الأجسام كثيرة لا يحصي عددها إلا الله - عز وجل - وقد ذكرنا طرفا منها في رسالة الطبيعة، وطرفا في رسالة الآثار العلوية، وطرفا في رسالة الحيوانات، وطرفا في رسالة الأكوان والأدوار، ونريد أن نذكر في هذه الرسالة طرفا من تأثيراتها مما يخص الإنسان، أما في مزاج بنية جسده أو في طبع أخلاق نفسه كيف تكون تلك التأثيرات، ولأي علة تختلف أخلاق النفوس وطباعها، فإنها من أعجب تأثيرات الكواكب، وأشرف أفعالها، وأدق أسرارها، وألطف دلالاتها، ونريد أن نشرح طرفا منها ليتضح ما قلنا، ويفهم ما وصفنا، ولكن نحتاج أولا أن نذكر خواص طباعها وأعراض وحداتها، ثم نذكر كيفية تأثيراتها وعجائب دلالاتها فنقول: اعلم يا أخي - أيدك الله وإيانا بروح منه - بأن كل كوكب في الفلك فإن الباري قد جعله لأمر ولغرض أقصى، فزحل هو كوكب الثبات والوقوف، خلقه الله - جل ثناؤه - لتنبث من جرمه القوى الروحانية، فتسري في الموجودات لإمساك الصور في الهيولى وثباتها وبقائها ودوامها، ولولا وجود زحل وكونه في الفلك لما تماسكت صورة في الهيولى، وثبتت خلقة في مادة طرفة عين إلا سالت وذابت واضمحلت، يعرف صحة ما قلنا وحقيقة ما وصفنا العلماء الراسخون في علم الهيئات العارفون بحقائق الموجودات وكيفية نظام العالم، وماهية أسرار الخلقة.
واعلم يا أخي بأن زحل دليل الشهر الأول من مسقط النطفة كما وصفنا قبل، فإذا كان سليم المناحس والأحوال المذمومة سلمت تلك النطفة من الآفات العارضة بإذن الله تعالى، وهكذا حكم الحامل لتلك النطفة، فإذا كان بخلاف ذلك كان بالعكس.
مثال ذلك: أنه متى كان زحل صاعدا في فلكه مستقيما في سيره في حد نفسه من البرج والدرجة، فإن تلك النطفة تكون مرتفعة إلى أعلى بطنها، خفيف عليها حملها، سليمة من الأوجاع والأعلال.
وإن كان في حد المشتري كانت فرحانة بحملها حسنة الظن بربها مستقيمة السلامة والتمام.
وإن كان في حد المريخ تكون نشيطة في أعمالها مستعجلة في أمورها، وإن كان في حد الزهرة تكون المرأة مسرورة بحملها مستبشرة بولادتها، وإن كان في حد عطارد فإنها تكون عارفة بوقت حملها حاسبة لأيام شهورها .
وإن كان زحل هابطا في فلكه راجعا في مسيره مذموما في أحواله كان الأمر بخلاف ما وصفنا، ثم يدخل الشهر الثاني فيصير التدبير للمشتري بإذن الله - عز وجل - وهو كوكب الاعتدال، وعلة صحة المزاج في الكائنات، وسبب النظام والترتيب في الموجودات، وهو دليل العقل في الإنسان والفهم والتمييز والعلم والروية والفقه والدين والورع والتقى والعدل والإنصاف والعفة والزهد، وما شاكل هذه من الخصال المحمودة في الدين.
وبالجملة كل خصلة يحتاج إليها صاحب الناموس في وضعه الشريعة وإجرائه السنة في الملة، وما يحتاج إليه أتباعه وأنصاره من الخلفاء والأئمة والعلماء والفقهاء والقضاة والعباد والزهاد، وبالجملة كل من يخدم في الناموس ويعاون فيه من ولاة الأمور وحكام الدين والشريعة.
فإذا كان المشتري صاعدا في فلكه مستقيما في سيره محمودا في أحواله انعجن في تلك المادة المجتمعة في الرحم، وانطبع في ذلك المزاج، وانغرس في تلك الجملة قبول هذه الخصال المقدم ذكرها، إن قدر الله لها التمام والكمال.
فإن كان المشتري في حد نفسه من البروج والدرجة تكون تلك الخصال كلها وأحوالها مصروفة بهمة نفسه إلى أمور الدين والشريعة وأحكام الناموس، وتكون نفسه ملهمة من ربها أو بملك من الملائكة، فيتكلم بالحكمة شبه النبوة، ويدعو الناس إلى الله، وإلى الدار الآخرة.
وإن كان المشتري في حد زحل يكون المولود بعيد الغور غائص العلم يأتي بالعلامة والمعجزات.
وإن كان في حد المريخ يكون ذلك بالقهر والقوة والغلبة والجلادة.
وإن كان في حد الزهرة يكون دعاؤه للناس بالرفق واللين والموعظة الحسنة.
وإن كان في حد عطارد يكون ذلك الكلام والحجاج والخصومة والجدال، وتكون هذه الخصال كلها أو أكثرها حقا وصوابا ومقبولة جارية على السداد متى كان المشتري مقبولا من رب بيته ومثلثته، ومن يشاركه من الكواكب في تقاسيم أوقاته.
فإن كان المشتري غير مقبول في موضعه من أرباب حظوظه يكون ذلك وأكثره بحيل وعكس وتمويه ومخاريق، ويعرف صدق ما قلنا وصحة ما ذكرنا أصحاب أحكام النجوم والراسخون في العلم منهم.
وإن كان المشتري في الشهر الثاني هابطا في فلكه أو راجعا في مسيره مذموما في أحواله، فإن المولود يكون بطيء الذهن قليل الفهم بليدا لا يفكر في شيء من الأمور إلا ما يرى ويسمع، أو يباشره بحواسه، مثل البهيمة لا تعرف إلا الأكل والشرب والنكاح، أو يتعلق بأمر المعاش في الحياة الدنيا، ويكون عن أمر الآخرة من الغافلين، إلا ما يعلم ويلقن تقليدا وإيمانا وتسليما.
ثم يدخل الشهر الثالث ويصير التدبير للمريخ، وهو ينبوع الحرارة والإسخان والنضج في الكائنات، وهو دليل الشجاعة والجسارة والصلابة والبسالة والتشمير والأنفة والحمية وما شاكلها من الخصال والأخلاق والطباع مما يحتاج إليه قادة الجيوش وأصحاب الحروب ومن يتبعهم ويخدمهم ويعاشرهم.
فإن كان المريخ صاعدا في فلكه مستقيما في سيره محمودا في أحواله انعجن في تلك المادة، وانطبع في ذلك المزاج، وانغرس في تلك الجملة التهيؤ والقبول لهذه الخصال، إن قدر الله لها التمام والكمال.
فإن كان المريخ في حد نفسه من البرج والدرجة تكون تلك الخصال والأخلاق مصروفة أو أكثرها بهمة نفسه إلى القتال والحروب والمبارزة ومباشرة الأقران وطلب الغلبة بالقهر والأنفة من الانقياد للغير والإذعان له.
وإن كان المريخ في حد زحل اختلط مزاجهما واتحدت قوتاهما، وظهرت تلك الخصال المريخية من صاحبها بالتثبت والأناة والصبر والتوقف وقلة العجلة مع الحقد والغضب والمكر والحيلة والأنفة من العار والفرار.
وإن كان المريخ في حد المشتري اختلط مزاجهما، واتحدت قوتاهما، وظهرت أفعال تلك القوى والأخلاق والخصال بعقل وروية ومعرفة بمواقع الإقدام وطلب العدل والإنصاف والكف عن الغدر والظلم.
وإن كان المريخ في حد الزهرة اختلط مزاجهما، واتحدت قوتاهما، ويكون ذلك الأمر سبب الشهوات وعشرة النساء والحرم والحمية والافتخار والخيلاء والمباهاة والتعرض للتلف.
وإن كان المريخ في حد عطارد اختلط مزاجهما، واتحدت قوتاهما، وظهرت تلك الخصال بدهاء وأدب وفطنة ومراوغة وحقد وسرعة حركة وإصابة لحيلة.
وإن كان المريخ هابطا في فلكه أو راجعا في سيره أو منحوسا في أحواله كان ذلك المولود جبانا مهانا ذليل النفس صغير الهمة محتملا للذل والهوان كالنساء والصبيان .
ثم يدخل الشهر الرابع ويصير التدبير للشمس بإذن الله - تعالى - التي هي النير الأعظم قلب الفلك وينبوع النور وفائض الضياء والإشراق ومقر روح العالم المنبثة من جرمها قوى النفس الكلية الفلكية السارية في الموجودات وهي أجمع دليل للملك والرياسة في الإنسان، وكبر النفس وعلو الهمة والعز والسلطان والعظمة والجلال والقوة والشدة والتدبير والسياسة.
وبالجملة كل خصلة وخلق يحتاج إليها الملوك والرؤساء وأتباعهم في تدبيرهم وسياستهم، فإذا كانت صاعدة في فلكها أو كانت في بيتها أو شرفها أو أوجها برية من المناحس والأحوال المذمومة انعجن في تلك المادة، وانطبع في ذلك المزاج، وانغرس في طبع تلك الجملة، إن قدر الله لها بالتمام والكمال محبة الرياسة وكبر النفس وعلو الهمة.
وإن كان في حد زحل من البرج والدرجة، وامتزجت طبيعتهما، واتحدت قوتهما كان المولود كبير النفس، قوي البنية، عالي الهمة، رابط الجأش، شديد العزيمة، صابرا في الأعمال، بعيد الغور، متمسكا بما يملك، حافظا لما يعلم، ثابت الرأي، حازما في الأمور، وما شاكل ذلك من الأخلاق والطباع والخصال.
وإن كانت في حد المشتري، وامتزجت طبيعتهما، واتحدت قوتهما كان المولود إن قدر الله له التمام والكمال متهيئ النفس لقبول خصال الملك والنبوة جميعا، وهي فضائل الإنسانية والأخلاق الملكية والمعارف الربانية والعلوم الإلهية.
وإن انفك مولوده لبرج القران أو بطابع القران أو بأحد أوتاد لها عند استئناف أحد الأدوار كان ذلك المولود النبي المبعوث في ذلك الدور والإمام للناس في ذلك الزمان.
فأما كيفية مبعثه وآياته ومعجزاته وكتابه بأي لغة يكون وإلى أي أمة يبعث من الناس، وكيف أحكام شريعته ومفروضات سنته وسيرة أمته وتصرف أحوالهم، فيحتاج إلى شرح طويل، وهو مذكور أو أكثره في كتب القرانات وأدوار الألوف.
فإن كانت الشمس في حد المريخ امتزجت طبيعتاهما، واتحدت قوتاهما، وصار طبع المولود وأخلاق نفسه ممتزجة من طبيعتهما متهيئة لقبول تأثيراتهما في أيام حياته وطول عمره.
وعلى هذا القياس إذا كانت في حد الزهرة وعطارد امتزجت طباعهما واتحدت قواهما، وصارت نفس المولود متهيئة لقبول تأثيراتهما وأخلاقه مركبة وممتزجة من طباعهما وتأثيراتهما مما يطول شرحه.
وبعضها مذكور في كتب أحكام التحاويل، ويعرف صحة ما قلنا وحقيقة ما ذكرنا الناظرون في تلك الكتب والباحثون عن هذا العلم.
وإن كانت الشمس على خلاف ما وصفنا من صلاح أحوالها في الفلك أو كانت على النسبة الأدون كان المولود صغير النفس والهمة قليل القبول للفضائل الإنسانية والأخلاق الملكية والمعارف الربانية والعلوم الإلهية والهمم الربوبية.
ثم يدخل الشهر الخامس ويصير التدبير للزهرة دليل النقش والتصاوير والشكل، والدل، والغنج، والتيه، والحسن، والزينة، والجمال، والبهجة، والعيش، والطبيعة، والشهوات، واللذة، والسرور، والغبطة.
وبالجملة كل خصلة وفضيلة تريد الحياة والبقاء وطول العمر، ومن أجلها في الدنيا والآخرة جميعا.
فإن كانت الزهرة صاعدة في فلكها مستقيمة في مسيرها محمودة في أحوالها انعجن في تلك المادة بإذن الله، وانطبع في ذلك المزاج، وانغرس في تلك الجملة محبة هذه الخصال وشهوتها في غاية ونهاية.
فإن كانت في وجهها من البرج كانت صورة الجسد بيضاء درية اللون، مشوبة بحمرة أو صفرة، فيه جعدة الشعر وغنجه، جميل المنظر حسن العينين، حلو المنظر صحيح الوجه والعين، سوادها أكثر من البياض، مكلثم الوجه، صغير الحاجبين، مدور الرأس، حسن العنق، دقيق الشفتين، كثير لحم الخدين، قصير الأصابع، غليظ الساقين، ربع القامة، دقيق البشرة، أكحل وأشهل.
وإن كانت في حدها أيضا كان المولود مقبول الجملة خفيف الروح حسن الأخلاق جيد الطبع حسن العشرة جيد المعاملة.
وإن كانت في وجه زحل من البرج والدرجة كانت صورة الجسد غليظ الشفتين ضخم العينين جعد الشعر مختلف الأسنان مشقق الرجلين قوي البنية هيوب المنظر إحدى عينيه خلاف الأخرى بالصغر أو بالكبر أو اللون أو الحركة أو الشكل، وإن تكن الزهرة أيضا في حد زحل من البرج، والدرجة يكون المولود شديد العشق والمحبة ثابت المودة، ذا وفاء وعهد وأمانة، قليل الغدر والخيانة، ضابطا لنفسه صبورا.
وإن كان في وجه المشتري من البرج والدرجة، فإن بنية الجسد تكون معتدلة المزاج متناسبة الأعضاء، ويكون حلو الشمائل أبيض اللون إلى السمرة عظيم العينين الحدقة أدكن الشعر كث اللحية حسن الهيئة ناتئ الوجنتين غليظ الأرنبة معتدل اللحم والقد والقامة نظيف البشرة متهلل الوجه.
وإن كانت أيضا في حد المشتري من البرج والدرجة وامتزجت طبيعتهما واتحدت قوتهما كان المولود خيرا بالطبع حسن الأخلاق محمود الخصال عادل السيرة حسن العشرة متصفا في المعاملة صادقا في المودة، وربما أديبا صحيح الاعتقاد مستقيم المذهب مثل أخلاق الملائكة.
فإن كانت الزهرة هابطة في فلكها أو راجعة في مسيرها أو مختلفة أحوالها نقصت سعادته لأسباب يطول شرحها مذكورة في كتب الأحكام والمواليد والتحاويل.
ثم يدخل الشهر السادس ويصير التدبير لعطارد صاحب العلوم والمعارف والحس والشعور والآداب والحكم والحركات والصنائع والنطق والبيان والكلام والفصاحة والتمييز والفطنة والقراءة والنغمة والرياضات والحكمة، وهو أخو المشتري الصغير، كما أن الزهرة أخت المريخ، والقمر أخو زحل، والشمس أبوهم.
فإن كان عطارد صاعدا في فلكه، مستقيما في مسيره، صالحا في أحواله، انعجن في تلك المادة، وانطبع في ذلك المزاج، وانغرس في تلك الجملة قبول العلوم والمعارف والنظر والبيان.
فإن كان عطارد في حده من البرج والدرجة تصير نفس ذلك المولود بإذن الله - سبحانه - ذكية وقلبه حيا وذهنه صافيا وفهمه حادا وخاطره سريعا ومعارفه دقيقة وعلومه بديعة وبيانه فصيحا.
فإن كان في حد زحل امتزجت طبيعتهما، واتحدت قوتهما، وكان المولود إن قدر الله له بالتمام والكمال دقيق النظر في العلوم بعيد الغور في البحث غائص الفكر في المعارف ثقيل اللسان في البيان عسر العبارة عما في نفسه من المعاني.
وإن كان عطارد في حد المشتري صارت همة نفس المولود بإذن الله - سبحانه - في علم الدين وكلامه وأقاويله أكثرها في أمر الورع وأحكام الشرع ومواعظ الناموس ووصف العدل وبيان الخلق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذكر المعاد ووصف أحوال الآخرة والمنقلب بعد الموت عند فراق النفس الجسد الذي هو الغرض الأقصى في رباط الأنفس الجزئية بالأجساد البشرية، كما بينا في رسالة البعث والقيامة.
وإن كان عطارد في حد المريخ امتزجت طبيعتهما واتحدت قوتهما، وصارت نفس المولود متهيئة لقبول تأثيراته، وتكون همة نفسه أكثرها في الكلام في الخصومات والجدل، ووصف الحروب، ويكون لسنا متكلما عجولا في خطابه سريعا في جوابه، كثير الزلل والخطأ سريع المراجعة، وربما كان شاعرا أو خطيبا أو قاضيا أو مناظرا أو مجادلا.
وإن كان عطارد في حد الزهرة امتزجت طبيعتهما، واتحدت قوتهما، وصارت نفس المولود متهيئة لقبول تأثيراتهما، وتكون أكثر همة نفسه الكلام في وصف محاسن أمور الدنيا ونعت شهواتها ووصف لذاتها بالأشعار والغناء والألحان والنغمات والإيقاعات الموزونة والحركات المنتظمة.
وإن كان عطارد هابطا في فلكه راجعا في مسيره أو مذموما في أحواله كان المولود سكيتا أو أخرس أو بليدا أو معتوها.
ثم يدخل الشهر السابع، وينتهي مسير الشمس إلى البرج السابع المقابل لموضعها الذي كان عند مسقط النطفة، ويصير التدبير للقمر النير الأصغر نظير الشمس في المنظر، المخالف في المخبر، المتوسط بين العالمين، الآخذ من طبايع الكواكب فيضها من العالم العلوي، الفائض المؤدي تلك الفيضات والخيرات إلى العالم السفلي.
فإن كان القمر عند ذلك صاعدا في فلكه زائدا في نوره سريعا في مسيره بريا من المناحس انعجن في تلك المادة، وانطبع في ذلك المزاج، وانغرس في تلك الجملة، ذلك الفيضان الذي يؤديه القمر من هناك إلى هذا العالم، وصارت نفس المولود متهيئة لقبول سائر تأثيرات الكواكب بحسب الحال التي عليها القمر من الخمسة والعشرين حالا المذكورة في كتاب مدخل النجوم.
وإن كان القمر في منزلته أو شرفه أو في أوجه أو في ميله أو وجهه كان المولود إن قدر الله - عز وجل - بالتمام والكمال مسعودا في أكثر أحواله محمودا في أكثر أموره في الدنيا والآخرة جميعا.
وإن كان القمر في حد عطارد امتزجت طبيعتهما، واتحدت قوتاهما، وكان المولود ممزوج الطبائع مختلفها متفنن الشمائل متلون الأخلاق متنقلا في الآراء والمذاهب متداخلا في الأمور المشاكلة، متشابكا في الأمور الدنيوية قليل الثبات فيها، سريع التغير عنها، كثير التنقل فيها، سهل الانقياد، سريع البلوى، مواتيا لهوى نفسه، متباعدا عن إخوانه.
وإن كان القمر في حد زحل كانت الأمور التي وصفنا بالضد مما ذكرنا، وكان المولود في أكثر أحواله ثابتا قليل التغير والتنقل إلا بعد عسر وشدة.
وإن كان القمر في حد الزهرة وكان المولود ذكرا امتزجت طبيعتهما، واتحدت قوتهما، وكان الظاهر على المولود شمائل الذكور، والباطن شمائل الإناث.
وإن كان المولود أنثى كان ظاهرا على شمائله طبائع الأنوثة وباطنه طبائع الذكور، وإن يكن القمر في حد المريخ امتزجت طبيعتهما، واتحدت قوتهما، وكان ظاهر المولود عليه شمائل العامية وأخلاق نفسه مريخية، وظاهر أحواله عامية ومذاهبه مذاهب صيدية.
وإن كان القمر في المشتري امتزجت طبيعتهما، واتحدت قوتاهما، وكان المولود في أكثر أحواله معتدلا بين الطرفين، متوسطا في الأمور الدنيوية والأخروية جميعا.
وإن قدر الله - سبحانه - أن يولد في هذا الشهر عاش وتربى وكان له عمر، وإن بقي إلى أن يدخل الشهر الثامن رجع التدبير إلى زحل من الرأس، ويكون زحل رديء الحال.
وتدخل الشمس البرج الثامن بيت الموت، ويغلب على الجنين برد طبيعة زحل وسكونه، فإن ولد في هذا الشهر كان قليل العمر، أو ربما لا يتربى ولا يعيش.
ثم يدخل التاسع بيت الأسفار والنقلة، ويصير التدبير للمشتري من الرأس كما سنبين بعد.
فصل في أن مكث الجنين في الرحم إنما هو لكي تتم البنية
قد تبين مما ذكرنا أن مكث الجنين في الرحم تسعة أشهر، إنما هو لكيما تتم البنية وتستكمل الصورة وتفيض عليها قوى الأشخاص الفلكية، ولو أمكن تتميمها وتكميلها في يوم واحد لما تركت هناك يومين، ولو أمكن في شهرين.
وقد يعرف كل عاقل أن من يولد غير تام البنية ولا كامل الصورة لا ينتفع في هذه الدنيا ونعيمها، ولا يتلذذ ولا يتمتع بلذاتها على التمام والكمال، ولم يزل شقيا منغص العيش مبتلى كالزمني والمفاليج والناقصي الخلقة الغير تامي الصورة.
فهكذا الحكم والقياس في الدار الآخرة بعد الموت، وذلك أن الإنسان إنما يترك في هذه الدنيا مقدار ما يمكنه تتميم أحوال نفسه مع الجسد كما ذكر ذلك في كتب الطبيعة والحكمة وتكمل فضائلها بالكون في الدنيا، كما ذكر في كتب النبوة.
فإذا فارقت النفس الجسد عند الموت الذي هو ولادة ثانية انتفعت بالحياة في الدار الآخرة، ويمكنها الصعود إلى ملكوت السموات كما قال المسيح عليه السلام: «من لم يولد ولادتين لا يلج في ملكوت السماء.»
وقد أوصى الأطباء بالوالدين وأمروا الحوامل من النساء بالرفق بأنفسهن في حركاتهن وتصرفاتهن باعتدال وبوسائط بلا إفراط ولا تقصير، كيما يسلم الجنين من الآفات العارضة هناك، ويخرج الطفل سالما إلى هذه الدنيا، ويتربى ويعيش وينتفع بالحياة، وهكذا وصية الأنبياء - عليهم السلام - وواضعي الناموس الذين هم أطباء النفوس للأمم المبعوثين إليها فيما فرضوا في أحكام الدين والشرائع والسنن للناس من اجتناب المحارم والمحرمات والشبهات الممرضة للنفوس المهلكة لها بالانهماك وتجاوز الحد والمقدار في تناولها من غير وجوهها المحللة لها، كل ذلك لكيما تسلم نفوسهم من آفات هذه الدنيا الغدارة المكارة المهلكة لأولادها بعد تربيتها لهم، وكما أن الأشخاص لو ساعدوا الطبيب فيما أمر وبين من جهة مأكولاتهم ومشروباتهم في حالة الصحة والمرض يستفيدون وبمخالفتهم ذلك ينحرف مزاجهم، أما الصحيح فإلى المرض، وأما المريض فإلى طول المرض وإلى الهلاك، كذلك ها هنا الأنبياء هم أطباء النفوس وسبب الهدى وطريق المعاش، فمن مال عما أمروا به وانحرف عما وضعوا وبينوا، فقد ضل وأضل عن سواء السبيل.
(9) فصل في أن الاستغراق في الشهوات ينسي الآخرة
ثم اعلم أن الاستغراق في الشهوات في هذه الدنيا ينسي الإنسان أمر الآخرة ويشككه وييئسه منها، كما قال قائلهم في هذا المعنى:
هي الدنيا وقد وعدوا بأخرى
وتسويف الظنون من السوام
وقيل أيضا في هذا المعنى شعرا:
خذوا بنصيب من نعيم ولذة
وكل وإن طال المدى يتصرم
وقال آخر وقد كان ساهيا من أمر الآخرة:
ما جاءنا أحد يخبر أنه
في جنة من مات أو في نار
وأشعارهم كثيرة في مثل هذه الظنون والشكوك والحيرة التي وقعوا فيها عقوبة لهم عندما تركوا وصية ربهم، ونصيحة أنبيائهم، واتباع علمائهم والحكماء فيما يدعونهم إليه، ويرغبون فيه من نعيم الآخرة، ويأمرونهم به من الزهد في الدنيا ، وينهونهم عنه من الغرور بشهواتها وعاجل حلاوتها.
(10) فصل في أن كل مولود لا بد أن تكون درجة طالعه من المشرق
واعلم أن كل مولود تحت فلك القمر في البر كان أو في البحر أو في الهواء أو في التراب أو في الماء في وقت ولادته لا بد من أن تكون درجة طالعة من المشرق على أفق تلك البقعة، ولا بد أيضا من أن يكون كوكب من السبعة السيارة متوليا على تلك الدرجة الطالعة يسمى النير، وهما دليل المولود وما تنصرف به الأحوال وتجري به الأمور في مستقبل عمره إلى تمام سنة، ثم إن السنة الثانية يصير التدبير فيها لدرجة أخرى مما يتلوها بالطلوع والمستولي عليه، ثم السنة الثالثة للدرجة الثالثة والمستولي عليها، وعلى هذا القياس يجري الأمر إلى آخر العمر الطبيعي، ويتصرف المولود في الأحوال، وتجري به الأمور بحسب حالات تلك الدرجات والمستولي عليها من الكواكب مذكور، ذلك كله في كتب أحكام المواليد بشرح طويل.
(11) فصل في أن لكل نوع من الحيوانات عمرا طبيعيا
واعلم يا أخي بأن الله - جل ثناؤه - قد جعل بواجب حكمته لكل نوع من الحيوانات عمرا طبيعيا معلوما، ولأجله وقتا معلوما، ولعمره أجلا مقدرا لا يتجاوزه ولا يقصر عنه إذا جرى على الأمر الطبيعي لا يعلم تفصيل ذلك إلا الله عز وجل.
وأما العمر الطبيعي الذي جعله الله للإنسان فمائة وعشرون سنة كما بينا علته قبل هذا الفصل.
وأما الأعمار لبعض الناس الزائدة عن هذا المقدار والناقصة عنه، فلأسباب شتى وعلل عدة يطول شرحها، ولا يعلم تفصيلها إلا الله - عز وجل - فنريد أن نتكلم عن أحوال الإنسان في طول عمره الطبيعي ونصف كيفية مجاري أموره وتصاريف أيامه إذا جرت على الأمر الطبيعي مذ يوم ولادته إلى تمام خمس وسبعين سنة وما يزيد على ذلك إلى تمام مائة وعشرين سنة.
(12) فصل في أن لكل مولود من الحيوان أبوين من الفلك
واعلم يا أخي بأن لكل مولود من الحيوان أبوين في الفلك كما أن له والدين في الأرض أحدهما دليل عمره يسمى كدخداي أي رب البيت، والآخر يسمى هيلاج أي ربة البيت، فإن كانا مسعودين عند ولادته عاش المولود بخير عمرا طويلا، وإن كانا منحوسين فبالعكس من ذلك، وإن كان الكدخداي مسعودا والهيلاج منحوسا كان المولود طويل العمر فقيرا سيئ الحال، وإن كان الهيلاج مسعودا والكدخداي منحوسا كان المولود حسن الحال غنيا قصير العمر.
فأما علة قصر العمر عن المقدار الطبيعي فهو أن تكون عطية الكدخداي يسيرة، فإذا فنيت وبلغت درجة المسير إلى مركز النحوس وساعاتها مات المولود فجأة أو بأعلال وأمراض وأسباب شتى لا يعلم ذلك إلا الله - عز وجل - الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
(13) فصل في المتفق عليه بين أهل صناعة التنجيم
ثم اعلم يا أخي بأنه متفق بين أهل صناعة التنجيم في أحكام المواليد أنه من يوم الولادة إلى تمام أربع سنين شمسية يكون الطفل في تدبير القمر صاحب النمو والزيادة والنشوء، وتشاركه سائر الكواكب في التدبير، كل واحد سبع تلك المدة التي تسمى سني التربية فتتصرف الأحوال بالطفل من التربية والنمو والزيادة والصحة والسلامة والعز والكرامة والأعلال والأمراض والبؤس والهوان واللذة والألم بحسب ما توجب تلك المدبرات في هذه السنين، مذكور شرح ذلك في كتب تحاويل سني المواليد.
ثم يصير في تدبير عطارد ثلاث عشرة سنة وهو صاحب النطق والحركة والتعاليم والآداب والتمييز والفهم، وتشاركه في التدبير سائر الكواكب كل واحد سبع هذه المدة.
وكل ما انتهى التدبير إلى واحد منها ظهرت في المولود الأخلاق والأفعال المشاكلة لتلك القوى التي انعجنت وامتزجت وانغرست في جبلته في الرحم، وهو جنين كما يظهر زهر النبات وحبوبها ونور الشجر وثمارها وروائحها وألوانها وطعومها عند بلوغها وتمامها وكمالها ونضجها بحسب ما في طباعها وأشباحها.
ثم يصير المولود في تدبير الزهرة ثماني سنوات وهي صاحبة الحسن والزينة والشهوات واللذة والرغبة في النكاح والحرص على السفاح، وتشاركها في التدبير سائر الكواكب كل واحد منها سبع هذه المدة.
فيظهر من المولود في هذه المدة الرغبة في التزوج والنكاح وطلب الشهوات والتمتع باللذات ومحبة الزينة والحسن والجمال والحرص على جمع الأموال واتخاذ المنازل والدار والدكان والضيعة والبستان والمباهاة والمفاخرة مع الأتراب والأقران باتخاذ الجواري والغلمان والانهماك في الشهوات إلى مدة ما.
ثم يصير في تدبير الشمس صاحبة العز والرياسة والتدبير والسياسة عشر سنوات.
ويظهر من المولود الكدخدائية في المنزل وتربية الأولاد، وتأديب الأهل والجيران، ومراعاة أمر الأقرباء والإخوان، وطلب العز والسلطان والرفعة والعلو والشرف في المنزلة وما شاكل ذلك.
وهذه الخصال والأخلاق والأفعال التي يحتاج إليها الملوك والرؤساء ودهاقنة القرى وساسة الجماعات، وتشاركها في التدبير سائر الكواكب كل واحد سبع هذه المدة.
ثم يصير في تدبير المريخ سبع سنوات وهو صاحب الحزم والعزم والشجاعة والمواهب والطلب والعطاء والإقدام والحمية والإنصاف والعزة.
وبالجملة كل خصلة وخلق وسجية لا بد منها لساسة الأمور وقادة الجيوش ورعاة الجماعات ومدبري الملك والناموس جميعا وتشاركه سائر الكواكب في التدبير كل واحد سبع هذه المدة، فتمتزج طبائعها وتتحد قواها وتظهر أفعالها مشاركة لسائر الكواكب، لا يعلم تفصيل ذلك إلا الله والراسخون في علم النجوم، وقليل ما هم.
ثم يصير المولود في تدبير المشتري اثنتي عشرة سنة، وهو صاحب الدين والورع والتوبة والندامة والزهد والعبادة والرجوع إلى الله - جل ثناؤه - بالصوم والصلاة والصدقة والاستغفار وطلب الآخرة والرغبة فيها والتزود للرحلة من هذه الدار الفانية إلى دار القرار الباقية، ويشاركه سائر الكواكب كل واحد سبع هذه المدة، فتمتزج طبائعها وتتحد قواها، وربما ظهرت أفعالها متناقضة من أجل القوى المتضادة.
وذلك أن الإنسان العاقل ربما حصل في هذه المدة متجاذبا بين أمرين اثنين متضادين، وذلك أن الزهرة إذا استوت بدلالتها بشركة المريخ على أحوال المولود دلت له على الرغبة في الدنيا والحرص على شهواتها ولذاتها، فيزيد المريخ قوة ونشاطا وعطارد لطفا ورفقا وحيلة وزحل ثباتا ووقوفا وصبرا، والقمر زيادة ونموا، والشمس عزا ورفعة وبالضد من هذه كلها، أما المشتري وطباعه إذا استولى على الإنسان العاقل بدلالته بشركة زحل على أحوال المولود، دل له على الزهد في الدنيا وقلة الرغبة في شهواتها ولذاتها وشدة الرغبة في الآخرة والحرص على طلبها، ويزيد المريخ قوة ونشاطا في الطلب، ويزيده عطارد لطفا ورفقا وحيلة، وتزيده الزهرة رغبة وشهوة واستحسانا وتزيينا، ويزيده زحل صبرا في العبادة وثباتا على التوبة، وتزيده الشمس نورا وهداية وكبر نفس وتسلية وتلطفا عن الدنيا الدنية، ويزيده القمر أتباعا وأعوانا على ما هو عليه.
فإن اجتهد الإنسان وفعل ما رسم في الشريعة من لزوم أحكامها ومفروضاتها، وعمل بما وصف في الفلسفة، وصبر عليه مدة ما، فعما قليل يخف عليه كل ما هو فيه من تجاذب الطبيعتين المتضادتين، إلى أن يصير التدبير إلى زحل بعد إحدى عشرة سنة وهو صاحب السكون والهدوء والكسل وجمود نيران الشهوات الجسمانية وذهاب القوى الحيوانية واسترخاء الأعصاب وذبول الآلات الجسدانية ووقوف الحواس عن مباشرة المحسوسات.
ثم لا يمكن للنفس إظهار الأفعال، ولا تناول اللذات، فعند ذلك تقل رغبته في هذه الدنيا وينقطع طمعه في المقام في عالم الكون والفساد.
ثم يجيئه الموت الطبيعي على التدريج إذا انطفأت الحرارة الغريزية من البدن وانسلت الروح الحيوانية من الجسد كما ينطفئ السراج ويذهب الضوء إذا فني الدهن واحترقت الفتيلة.
فإن كان الإنسان قد ارتاض فيما مضى من عمره، وتعلم علما من العلوم وأدبا من الآداب، أو صناعة من الصنائع، أو تدين بمذهب من الآراء، أو عمل عملا من الأعمال يهدي به إلى طريق الآخرة وأمر المعاد، فإنه يرجى لتلك النفس أن تهتدي إلى الرجوع إلى عالمها النفساني ومحلها الروحاني واللحوق بأبناء جنسها الذين مضوا قبلها ووصلوا إلى هناك وتخلصوا من دركات عالم الكون والفساد، وحريق نيران الآلام والأسقام والأمراض والجوع والعطش والبرد والحر والتعب والكد والعناء والفقر ومشقة الأعمال المتعبة، والأفعال السمجة القبيحة، وحرارة الحرص، والرغبة، والشهوات المردية، والعادات الرديئة، والأخلاق الوحشية، والجهالات المتراكمة، والأعمال السيئة، وما يلحق أهلها من العبادات والمباغضات فيما بينهم، ومن حسد الجيران، وعداوة الأقران، وجور السلطان، ووساوس الشيطان، ونكبات الزمان، ونوائب الحدثان.
فإن قال قائل من المنكرين لأفعال الكواكب وتأثيراتها في هذه الكائنات، أو فكر متعجب في كيفية انطباع تلك القوى في مزاج الجنين، وانغراس تلك الطباع في جبلته، وكيف يكون ظهور أفعالها بعد الولادة، فليعتبر أفعال الدرياقات والمراهم والشربات، وكيف تظهر أفعال تلك العقاقير والأدوية مفردة ومركبة بعد جمعها واختلاطها وعجنها وطبخها واتخاذ أجزائها، وتأليف قواها، وكيف يقصد كل قوة ودواء إلى عضو مخصوص ومرض معروف وعلة بعينها فيزيلها، ويؤثر فيها بإذن الله.
أو فليعتبر أصوات الموسيقار ونغمات الألحان كيف تتألف وتتحد ويحملها الهواء إلى مسامع الآذان ويبلغها إلى صميم الدماغ، ويوصل معانيها إلى ما في طباع النفوس.
ثم كيف يظهر من كل حيوان أو إنسان تأثيرات مختلفة من الفرح والسرور والضحك والحزن والبكاء والغم والهم والشجاعة والجبن والسخاء والبخل، أو النشاط والحركة، أو النوم أو الهدوء والسكون، أو تذكار شيء قد أنساه الدهر والتسلي عن مصيبة قريبة العهد، وما شاكل هذه التأثيرات في النفوس من استماع أصوات الموسيقار ونغمات الألحان مما لا خفاء فيه على كل عاقل معتبر، فإذا خفيت على المتفكر كيفية هذه التأثيرات في النفوس ولم يفهمها، فلا ينبغي أن ينكر تأثيرات الكواكب في النفوس من أجل أنه لا يفهم معانيها، ولا يتصور كيفيتها؛ لأنها أخفى وأدق وألطف من هذه.
(14) فصل في أن لكل قاصد غرضا
واعلم يا أخي أن الله - جل ثناؤه - قد جعل لكل قاصد غرضا ما، ولغرض كل قاصد نهاية ما، وقدر لصاحب كل غرض في قصده طريقة وسطى بين الزيادة والنقصان، فكون الجنين في الرحم زمانا لغرض ما ومكثه ثمانية أشهر طريقة وسطى بين الزيادة والنقصان.
وهكذا أيضا كونه في الدنيا زمانا ما لغرض ما، وعمره الطبيعي الذي جعل للإنسان هو مائة وعشرون سنة طريقة وسطى بين الزيادة والنقصان، فأما الذي يزيد على هذين المقدارين وينقص عنهما، فلعلل وأسباب شتى يطول شرحها.
ولكن إن كنت تريد أن تعلم أنه إذا زاد مكث الجنين على ثمانية أشهر نقص من عمره الطبيعي الذي هو مائة وعشرون سنة، فاعرف الأصل والزم القانون الذي ذكرناه ، وهو أن كل كائن وحادث في هذا العالم الذي تحت فلك القمر من وقت حدوثه وكونه إلى وقت فنائه وبواره هو من المدة التي هي مقدار دورة واحدة من أدوار الأشخاص الفلكية العالية كما بينا في رسالة الأكوان والأدوار.
وقد ذكرنا قبل هذا الفصل بأن من مسقط النطفة إلى يوم الموت من المدة إذا جرى مكثه وعمره على الأمر الطبيعي هو مقدار دورة واحدة من أدوار الشمس.
وذلك أنه إذا مكث الجنين في الرحم ثمانية أشهر ثم ولد، فإن الذي يبقى للشمس من المسير إلى أن تعود إلى الدرجة التي كانت فيها يوم مسقط النطفة أربعة أبراج مائة وعشرين درجة، فيستأنف المولود العمر في الدنيا لكل درجة سنة، فإن مكث تسعة أشهر فالذي يبقى له ثلاثة أبراج تسعون درجة، ويستأنف المولود العمر تسعين سنة، فإن مكث عشرة أشهر فالذي يبقى له برجان ستون درجة، فيستأنف المولود العمر ستين سنة، فقد تبين بهذا المثال، وعلى هذا القياس أن كل ما زاد في المكث نقص في العمر.
فأما الذي يوجد بالتجربة أن جنينا مكث عشرة أشهر، وعاش مائة وعشرين سنة أو مكث تسعة أشهر أو مات لأقل من ستين سنة، فلعلل وأسباب خارجة عن الأمر الطبيعي يطول شرحها.
وعلى هذا المثال يجري حكم سعادة المواليد، وذلك أن الله - عز وجل - قد جعل لكل مولود قدرا من السعادة في الدنيا، وقسمها قسمين: قسما جعل منه لطول العمر، وقسما لرغد العيش وربما يزيد لأحد المواليد في عمره، وينقص من رغد عيشه، وربما يزيد لآخر في رغد عيشه وينقص من عمره، فمن أجل هذ ترى كثيرا من سعداء أبناء الدنيا الرغدي العيش يكونون قصيري الأعمار، وترى كثيرا طويلي الأعمار ناقصي رغد العيش.
ومما يحكى أن ملكا رأى شيخا في داره كبيرا سقاء، فقال له: كم تعد من الخلفاء؟ فقال له: كثير، فقال له شبه المتعجب: ما بالكم تطول أعماركم وتنقص أعمارنا؟! فقال له السقاء: لأن أرزاقكم تجيئكم مثل أفواه القرب، وأن أرزاقنا تجيء مثل قطر المطر.
فاستحسن الملك قوله، وضحك وأمر له بجائزة حسنة أغناه بها، ثم فقده بعد قليل، فسأل عنه فعرف بموته، فقال: صدق، لما جاء الرزق مثل أفواه القرب قصر عمره.
وهكذا أيضا الحكم والقياس قد جعل الله لكل إنسان حظا من السعادة وقسطا من النعيم، وقسمها قسمين، فجعل قسطا في الدنيا وقسطا في الآخرة كما ذكر، فقال عز من قائل: @QUR04 وكل شيء عنده بمقدار، وقال: @QUR05 وما ننزله إلا بقدر معلوم، فمقدار ما يدخل الإنسان حظه من النعيم، والتلذذ في الدنيا، فبذلك المقدار ينقص حظه من نعيم الآخرة، وإلى هذا المعنى أشار بقوله - تعالى - في عتابه للمسرفين: @QUR07 أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها، وقال سبحانه: @QUR022 من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب.
وحكي أيضا قول الربانيين العارفين حقيقة ما نقول حين قالوا لقارون: @QUR024 لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين * وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك؛ وذلك لأنهم علموا بأن نصيبه من الدنيا هو مقدار ما يقدمه لآخرته، ولا يتمتع به كله في الدنيا، وقد قال تعالى: @QUR08 وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله، وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى الذي ذكرنا، فلا تغتر يا أخي بما ترى من حال المترفين في الدنيا، وما يتنعمون من النعم والتلذذ مع عصيان الله وإعراضهم عن الآخرة وتركهم ذكر المعاد، فعما قليل سيفنى ما هم من نعيم الدنيا، ويحضرون للآخرة فيكونون من فقرائها وأشقيائها كما ذكر الله - تعالى - فقال: @QUR06 وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، وذلك أنهم ظلموا أنفسهم باستعجالهم راحة الدنيا، وإعراضهم عن الآخرة وعصيانهم عنها، وتركهم الاستعداد لها، ولم يسعوا في خلاص نفوسهم وفكاك رقابهم منها، ولا جرم أنهم سيعلمون أي منقلب ينقلبون، وكفى بهذا وعيدا وتهديدا! وإن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وقد تبين بما ذكرنا أن مكث الجنين في الرحم مدة ما إنما هو لكي يتم الجسد وتستكمل صورة البدن والغرض من ذلك أن المولود ينتفع بالحياة الدنيا بعد الولادة.
وكذلك أيضا قد قال الحكيم: إن مكث الإنسان العاقل الذي هو تحت الأمر والنهي إما بموجب العقل أو بطريق السمع بأوامر الناموس ونواهيه، وفي طول عمره الطبيعي مدة ما إنما هو لأن تتم فضائل النفس، وتستكمل أخلاقها المختلفة ومعارفها الربانية بالتأمل والبحث في النظر والسعي والاجتهاد في العمل، كما ذكر في حد الفلسفة أنها التشبه بالإله، بحسب طاقة الإنسانية، أو بما رسم في الناموس من الوصايا والأوامر والنواهي، كل ذلك لكيما تستكمل النفس فضائل الملائكة فيها.
والغرض من هذا كله هو أن يمكنها ويتهيأ لها الصعود إلى عالم الأفلاك والدخول في سعة السموات والكون هناك مع أبناء جنسها وأهل ملتها من القرون الخالية الذين مضوا على سنن الديانات النبوية والمناجاة الفلسفية الحكمية والآداب الملكوتية، واللحوق بهم في درجاتهم والمكث هناك متنعمة متلذذة فرحة مسرورة أبد الآبدين ودهر الداهرين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، وإليهم أشار بقوله سبحانه: @QUR026 وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور * الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب.
(15) فصل في أن أكثر الناس لا يعيشون أعمارا طبيعية
اعلم يا أخي أن الله - جل ثناؤه - لما علم بأن أكثر الناس لا يعيشون أعمارا طبيعية على التمام، ولا يتركون في الدنيا زمانا طويلا تهذب فيه نفوسهم وتستكمل فضائلهم، لطف بهم من أجل ذلك، وبعث إليهم الأنبياء والرسل واضعي النواميس بالوصايا والأوامر والنواهي والسنن الزكية والشرائع المرضية إذا استعملوها على نحو ما رسم لهم من السيرة العادلة استتمت فضائل نفوسهم، وتهذبت أخلاقهم، وإن كانوا قصيري الأعمار، كما ذكر الله - تعالى - فقال: @QUR07 ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما، وقال النبي صلى الله عليه وآله: «من أخلص العبادة لله - تعالى - أربعين صباحا شرح الله صدره بنوره، وفتح قلبه للإيمان، وأطلق لسانه بالحكمة، ولو كان أعجميا أغلقا»، فهذا هو حكم نفوس البالغين الذين تحت الأمر والنهي.
وأما حكم نفوس الأطفال والمجانين فهي تنجو بشفاعة الآباء والأمهات والأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين.
وإذ قد تبين لك يا أخي ما الغرض من المكث في الرحم مدة ما، وما الغرض من المكث في الدنيا مدة ما أيضا، فبادر الآن وتشمر وتزود فإن خير الزاد التقوى، وشد وسطك للرحيل من الدنيا الفانية إلى دار القرار الباقية قبل فناء العمر وتقارب الأجل، فقد أعذر من أنذر كما قال الله تعالى: فبعث لله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب والميزان، يعني العدل @QUR08 لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل أن يقولوا يوم القيامة ما جاءنا من رسول، ولا كتاب، وكانت أعمارنا ناقصة قصيرة وآجالنا قريبة، فارجعنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل.
الناس نيام، وإذا ماتوا انتبهوا، فانتبه أيها الأخ من نوم الغفلة ورقدة الجهالة قبل أن تفارق الأوطان، وتدخل في النيران، وقبل أن ينادي المنادي قد شقي فلان وسعد فلان، وفقك الله وإيانا للسداد، إنه رءوف بالعباد.
(تمت رسالة مسقط النطفة ويتلوها رسالة قول الحكماء.)
الرسالة الثانية عشرة من الجسمانيات الطبيعيات في قول الحكماء «إن الإنسان عالم صغير»
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
(1) فصل
اعلم أيها الأخ، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأنا قد فرغنا من ذكر مسقط النطفة وبيان ما يتعلق بذلك من رباط النفس بها وتقلب الحالات التي تظهر شهرا بعد شهر وتأثيرات أفعال الكواكب في أحكام بنية الجسد. وقد بينا بعد ذلك الغرض الأقصى من وجود الإنسان ومكثه في العالم زمانا، فنريد أن نذكر في هذه الرسالة معنى قول الحكماء إن الإنسان عالم صغير، فنقول: اعلم أن الحكماء الأولين لما نظروا إلى هذا العالم الجسماني بأبصار عيونهم، وشاهدوا ظواهر أموره بحواسهم، وتفكروا عند ذلك في أحواله بعقولهم، وتصفحوا تصرف أشخاص كلياته ببصائرهم، واعتبروا فنون جزئياته برويتهم؛ فلم يجدوا جزءا من جميع أجزائه أتم بنية ولا أكمل صورة ولا بجملته أشد تشبيها من الإنسان.
وذلك أنه لما كان الإنسان هو جملة مجموعة من جسد جسماني ونفس روحانية، وجدوا في هيئة بنية جسده مثالات لجميع الموجودات التي في العالم الجسماني من عجائب تركيب أفلاكه وأقسام أبراجه وحركات كواكبه وتركيب أركانه وأمهاته، واختلاف جواهر معادنه وفنون أشكال نباته وغرائب هياكل حيواناته.
ووجدوا أيضا لأصناف الخلائق الروحانيين من الملائكة والجن والإنس والشياطين ونفوس سائر الحيوانات، وتصرف أحوالها في العالم؛ تشبيها من النفس الإنسانية وسريان قواها في بنية الجسد.
فلما تبينت لهم هذه الأمور عن صور الإنسان سموه من أجل ذلك عالما صغيرا، ونريد أن نذكر من تلك المثالات وتلك التشبيهات طرفا لكيما يكون دليلا على صحة ما قالوه وبيانا لما وصفوه، وليقرب أيضا على المتعلمين فهمها ويسهل على الباحثين تأملها.
(2) فصل في اعتبار أحوال الإنسان بأحوال الموجودات حسب ما نبين ها هنا
فنقول: إن الموجودات لما كانت كلها جواهر وأعراضا مجموعا منهما هيولى وصور ومركبا منهما، كما بينا في رسالة الهيولى، وكانت الأعراض كلها جسمانية أو روحانية، كما بينا في رسالة العقل والمعقول.
وكان الإنسان إنما هو جملة مجموعة من جوهرين مقرونين؛ أحدهما هذا الجسد الجسماني الطويل العريض العميق المدرك بطريق الحواس، والآخر هذه النفس الروحانية العلامة المدركة بطريق العقل.
فلما كان الجسد بنية مؤلفة من أعضاء مختلفة الأشكال كاليدين والرجلين والرأس والرقبة والظهر والوركين والركبتين والساقين والقدمين، وكانت كل واحدة منها أيضا مركبة من أعضاء مختلفة الصور متشابهة الأجزاء كالعظم والعصب والعروق واللحم والجلد وما شاكلها، كما بينا في رسالة تركيب الجسد، وكانت هي أيضا مكونة من الأخلاط الأربعة التي هي الدم والبلغم والمرتان.
وهي أيضا متولدة من الكيموس، والكيموس من الغذاء، والغذاء من النبات، والنبات من الأركان الأربعة، كما بينا في رسالة النبات، وكل واحدة مقومة من طبيعتين من الطباع الأربع المعلومة، كما بينا في رسالة الكون والفساد، وكل واحدة منها صور متممة للجسم وصور مقومة لشيء آخر من الأجسام الطبيعية كما بينا في رسالة الهيولى والصورة.
ولما كان الهيولى والصورة أيضا جوهرين بسيطين روحانيين معقولين مخترعين مبدعين كما شاء باريها جل جلاله للفعل والانفعال قابلين بلا كيف ولا زمان ولا مكان، بل بقوله «كن» فكان كما بينا في رسالة المبادئ العقلية.
ولما كان الإنسان حاله ما ترى، وهو كما أخبرنا أنه جملة مجموعة من جسد ظلماني ونفس روحانية صار إذا اعتبر حال جسده وما فيه من غرائب تركيب أعضائه وفنون تأليف مفاصله يشبه دارا لساكنها.
وإذا اعتبر حال نفسه وعجائب تصرفاتها في بناء هيكل جسده وسريان قواه في مفاصل بدنه يشبه كأنها ساكنا في منزله مع خدمه وأهله وولده.
ومن وجه آخر إذا اعتبر وجد بنية جسده مع اختلاف أشكال أعضائه وافتنان تأليف مفاصله يشبه دكانا للصانع.
فهكذا نفسه من أجل سريان قواها في بنية هيكل جسده وعجائب أفعالها من أعضاء بدنه وفنون حركاتها في مفاصل جسده يشبه صانعا في الدكان مع تلامذته وغلمانه، كما بينا في رسالة الصنائع العملية.
ومن وجه آخر إذا اعتبر بنية جسده مع كثرة تأليفات طبقات بناء هيكله وغرائب تركيب مفاصل بدنه، وكثرة اختلاف أعضائه وتشعب فروع عروقه وامتدادها إلى أطراف أعضائه، وتباين أوعيته التي في عمق جسده وتصرف قوى النفس؛ يشبه مدينة مملوءة أسواقها من الصنائع، كما بينا في رسالة تركيب الجسد.
ومن وجه آخر إذا اعتبر من أجل تحكم النفس على أحوال الجسد وحسن سياستها وسريان قواها وتصرفاتها في بنية هذا الجسد، يشبه ملكا في تلك المدينة بجنوده وخدمه وحاشيته، كما بينا في رسالة العقل والمعقول.
ومن وجه آخر إذا اعتبر حال الجسد وتكوينه وحال النفس ونشوءها مع الجسد يشبه الجسد الرحم والنفس كالجنين، كما بينا في رسالة نشوء النفس الجزوية وخروجها من القوة والفعل.
ومن وجه آخر إذا اعتبر وجد مثل الجسد كالسفينة والنفس كالملاح والأعمال كالأمتعة للتجار والدنيا كالبحار والموت كالساحل والآخرة كمدينة التجار، والله تعالى الملك المجازي هناك.
ومن وجه آخر إذا اعتبر وجد الجسد كالدابة والنفس كالراكب والدنيا كالميدان والعمال كالسباق.
ومن وجه آخر إذا اعتبر وجد النفس كالحراث والجسد كالمزرعة والأعمال كالحب والثمر والموت كالحصاد والدار الآخرة كالبيدر، كما بينا في رسالة حكمة الموت.
ومن وجه آخر إذا اعتبر وجد عجيب بنية الجسد، كما ذكرنا في كتب التشريح، وكثرة ما تستفيد النفس العلوم بمقارنتها الجسد؛ يشبه مكتبا للعلوم والنفس كالصبي في المكتب، كما بينا في رسالة الحاس والمحسوس.
ومن وجه آخر إذا اعتبر تركيب الجسد وسريان قوى النفس فيه وتصرف أحوال الإنسان كأنه دفتر مملوء من العلوم، ويقال إنه مختصر من اللوح المحفوظ. وقد ضربت الحكماء لذلك أمثالا كثيرة، ونريد أن نذكر من ذلك طرفا مرموزا مختصرا حسب ما يليق بنا.
(3) فصل في أن الإنسان مختصر من اللوح المحفوظ
ذكر أنه كان ملك من الملوك، حكيم من الحكماء، سيد من السادات، وكان له أولاد صغار محبوبون له مكرمون عليه، فأراد أن يؤدبهم ويهذبهم ويروضهم؛ ليقومهم قبل إيصالهم إلى مجلسه؛ لأنه لا يليق بمجالس الملوك إلا المهذبون بالآداب والمرتاضون في العلوم المتخلقون بالأخلاق الجميلة المبرءون من العيوب. فرأى من الرأي الرصين والحكمة أن يبني لهم قصرا على أحكم ما يكون من البنيان، فأفرد لكل واحد منهم مجلسا وكتب كل علم أراد أن يعلمهم إياه في جوانب ذلك المجلس، وصور فيه كل شيء أراد أن يهذبهم به، ثم أجلسهم في ذلك القصر وأجلس كل واحد منهم في حصته المعدة له، ووكل بهم الخدم والجوار والغلمان، وقال لأولئك الأولاد: انظروا إلى ما صورت لكم بين أيديكم، واقرءوا ما كتبت فيه من أجلكم، وتأملوا ما بينته لكم وتفكروا فيها؛ لتعرفوا معانيها وتصيروا من ذلك حكماء أخيارا فضلاء أبرارا، فأوصلكم إلى مجلسي فتكونوا من ندماي مكرمين سعداء منعمين أبدا ما بقيت وبقيتم معي. وكان مما كتب لهم في ذلك المجلس من العلوم أن صور في أعلى قبة المجلس صورة الأفلاك وبين كيفية دورانها وأبراج طلوعاتها، وكذلك الكواكب وحركاتها وأوضح دلائلها وأحكامها.
وصور في صحن المجلس صورة الأرض وأقسام الأقاليم وخطط الجبال والبحار والبراري والأنهار، وبين حدود البلدان والمدن والمسالك والممالك ، وكتب في صدر المجلس علم الطب والطبائع وصور النبات والحيوانات والمعادن بأنواعها وأجناسها وأشخاصها، وبين خاصيتها ومنافعها ومضارها.
وكتب في الجانب الآخر علم الصنائع والحرف، وبين كيفية الحرث والنسل، وصور المدن والأسواق، وبين أحكام البيع والشراء والربح والتجارات.
وكتب في الجانب الآخر علم الدين والملل والشرائع والسنن، وبين الحلال والحرام والحدود والأحكام.
وكتب في الجانب الآخر السياسة وتدبير المملكة، وبين كيفية جباية الخراج، والكتاب والدواوين وبين أرزاق الجنود وحفظ الرعية والثغور بالجيوش والأعوان.
فهذه ستة أجناس من العلوم يراض بها أولاد الملوك، وهذا مثل ضربته الحكماء؛ وذلك أن الملك الحكيم هو الله تعالى، والأولاد الصغار هي الإنسانية، والقصر المبني هو الفلك بأسره، والمجالس المتقنة هي صورة الإنسان، والآداب المصورة هي عجيب تركيب جسده، والعلوم المكتوبة فيه هي قوى النفس ومعارفها، ونحن نبين هذا فصلا فصلا فيما بعد بأوجز الوجوه.
(4) فصل في فضيلة جوهر النفس
فنقول: اعلم أن لجواهر النفوس عند الله منزلة وكرامة ليست لجواهر الأجسام؛ وذلك لقرب نسبتها منه وبعد نسبة الأجسام؛ وذلك أن جواهر النفوس حية بذاتها علامة وفعالة وجواهر الأجسام ميتة منفعلة لأمثال لها.
وقد بينا في رسالة المبادئ العقلية أن نسبة الموجودات من الباري تعالى كنسبة العدد من الواحد، والعقل كالاثنين، والنفس كالثلاثة، والهيولى الأولى كالأربعة، والطبيعة كالخمسة، والجسم كالستة، والفلك كالسبعة، والأركان كالثمانية، والمولودات كالتسعة.
ومن وجه آخر نسبة النفس من العقل كنسبة ضوء القمر من نور الشمس، ونسبة العقل من الباري كنسبة نور الشمس من الشمس، وكما أن القمر إذا امتلأ من نور الشمس حاكى نوره نورها، كذلك النفس إذا قبلت فيض العقل فاستتمت فضائلها حاكت أفعالها أفعال العقل، وإنما تستتم فضائلها إذا هي عرفت ذاتها وحقيقة جوهرها، وإنما تستبين لها فضائل جوهرها إذ هي عرفت أحوال عالمها الذي هو صورة الإنسانية؛ لأن البارئ تعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم، وصوره أكمل صورة وجعل صورته مرآة لنفسه ليتراءى فيها صورة العالم الكبير.
وذلك أن الباري جل جلاله لما أراد أن يطلع النفس الإنسانية على خزائن علومه ويشهدها العالم بأسره، علم أن العالم واسع كبير وليس في طاقة الإنسان أن يدور في العال حتى يشاهده كله لقصر عمره وطول عمران العالم، فرأى من الحكمة أن يخلق لها عالما صغيرا مختصرا من العالم الكبير، وصور في العالم الصغير جميع ما في العالم الكبير، ومثله بين يديها وأشهدها إياه، فقال عز من قال: @QUR05 وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بأجمعهم: بلى. فمن كان منهم شاهدا عالما عارفا حقيقته كانت شهادته عليه حقا، ومن كان جاهلا كانت شهادته مردودة؛ لأنه قال عز وجل: @QUR06 إلا من شهد بالحق وهم يعلمون، ألا ترى أنه لا يقبل إلا شهادة أهل العلم.
ثم اعلم أن افتتاح جميع العلوم هو في معرفة الإنسان نفسه، ومعرفة الإنسان تكون من ثلاث جهات؛ إحداها أن يعتبر أحوال جسده وتركيب بنيته وما يتعلق عليه من الصفات خلوا من النفس، والآخر اعتبار أحوال نفسه وما يوصف من الصفات خلوا من الجسد، والآخر اعتبار أحوالهما مقترنين جميعا وما يتعلق على الجملة من الصفات. وقد بينا في رسالة تركيب الجسد طرفا من هذه الاعتبارات، ونريد أن نذكر في هذه الرسالة طرفا آخر فنقول ...
(5) فصل في اعتبار أحوال الإنسان بأحوال الفلك
اعلم أن الباري تعالى جعل في تركيب جسد الإنسان أمثلة وإشارات إلى تركيب الأفلاك وأبراجها والسموات وأطباقها، وجعل سريان قوى النفس في مفاصل جسده واختلاف أعضائه كسريان قوى أجناس الملائكة وقبائل الجن والإنس والشياطين في أطباق السموات والأرض في أعلى عليين إلى أسفل السافلين.
وأما مماثلة تركيب جسد الإنسان بتركيب الأفلاك، وذلك أنه لما كانت الأفلاك تسع طبقات مركبة بعضها جوف بعض، كما بينا في الرسالة التي في مدخل النجوم، كذلك وجد في تركيب جسد الإنسان تسع جواهر بعضها جوف بعض ملتفات عليها مماثلة لها؛ وهي العظام والمخ واللحم والعروق والدم والعصب والجلد والشعر والظفر. فجعل المخ في جوف العظام مخزونا لوقت الحاجة إليه، ولف العصب على مفاصله كيما يمسكها فلا ينفصل، وحشى خلل ذلك باللحم صيانة لها ، ومد في خلل اللحم العروق والأوردة الضاربة لحفظها وصلاحها، وكسا الكل بالجلد سترا لها وجمالا لها، وأنبت الشعر والظفر من فضل تلك المادة لمأربها؛ فصار مماثلا لتركيب الأفلاك بالكمية والكيفية جميعا؛ لأنها تسع طباقات وهذه تسع جواهر، وتلك بعضها جوف بعض وهذه مثال ذلك.
ولما كان الفلك مقسوما اثني عشر برجا، وجد في بنية الجسد اثني عشر ثقبا مماثلا له؛ وهي العينان والأذنان والمنخران والثديان والفم والسرة والسبيلين.
ولما كانت الأبراج ستة منها جنوبية وستة منها شمالية، كذلك وجدت ستة الثقب التي في الجسد في الجانب اليمين، وستة في الجانب الشمال مماثلة لها بالكمية والكيفية جميعا.
ولما كان في الفلك سبعة كواكب سيارة بها تجري أحكام الفلك والكائنات، كذلك وجد سبع قوى في الجسد فعالة بها يكون صلاح الجسد.
ولما كانت هذه الكواكب ذوات نفوس وأجسام لها أفعال جسمانية في الأجسام وأفعال روحانية في النفوس، كذلك وجدت في الجسد سبع قوى جسمانية؛ وهي القوى الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمصورة، وسبع قوى أخرى روحانية؛ وهي القوى الحساسة - أعني الباصرة والسامعة والذائقة والشامة واللامسة - والقوة الناطقة العاقلة، والقوة الحساسة مناسبة للخمسة المتحيرة، والقوة الناطقة مناسبة للقمر، والقوة العاقلة مناسبة للشمس؛ وذلك أن لكل واحد من الكواكب الخمسة بيتين في الفلك؛ أحدهما في حيز الشمس والثاني في حيز القمر، والنيران لكل واحد منهما بيت، كما بينا في رسالة النجوم.
كذلك وجد في بنية الجسد لكل واحد من القوى الحساسة مجريان؛ أحدهما في الجانب الأيمن والآخر في الجانب الأيسر؛ فالقوة الباصرة مجراها في العينين، والقوة السامعة مجراها في الأذنين، والقوة الشامة مجراها في المنخرين، والقوة اللامسة مجراها في اليدين، والقوة الذائقة الشهوانية مجراها في الفم بالجانب الأيمن أشبه والفرج بالجانب الأيسر أشبه.
وأما القوى الناطقة فمجراها الحلقوم إلى اللسان، والقوة العاقلة فمجراها وسط الدماغ، ونسبة القوة الناطقة إلى القوة العاقلة كنسبة القمر إلى الشمس.
وذلك أن القمر يأخذ نوره من الشمس في جريانه من منازل القمر الثمانية والعشرين، وذلك أن القوة الناطقة من العقل تأخذ معاني ألفاظه بجريانه في الحلقوم فيعبر عنها بثمانية وعشرين حرفا، ونسبة ثمانية وعشرين حرفا للقوة الناطقة كنسبة ثمانية وعشرين منزلا للقمر.
ولما كان في الفلك عقدتان، وهما الراقص والذنب، وهما خفيا الذات ظاهرا الأفعال، بهما سعادات الكواكب ونحوساتها، كذلك وجد في الجسد أمران خفيان للذات ظاهرا الأفعال، بهما صلاح بنية الجسد وصحة الأفعال للنفس؛ وهما صحة المزاج وسوء المزاج؛ وذلك أنه إذا صح مزاج أخلاط الجسد صحت أعضاؤه واستقامت أفعال النفس وجرت على الأمر الطبيعي.
وإذا فسد المزاج اضطربت البنية وعيقت أفعال النفس عن جريها على السداد، وأضر ما يكون نحوسة العقدتين على النيرين؛ لأنها أوكد الأسباب في كسوفهما، وكذلك أضر ما يكون سوء المزاج على القوة الناطقة والقوة العاقلة؛ لأنه يعوقهما من أفعالهما أكثر وأشد.
والعينان في الجسد مناسبتان لبيتي المشتري في الفلك، والأذنان في الجسد مناسبتان لبيتي عطارد في الفلك، والمنخران في الجسد والثديان مناسبان في الجسد لبيتي الزهرة، والسبيلان لبيتي زحل، والفم لبيت الشمس، والسرة لبيت القمر.
والسرة كانت باب الغذاء في الرحم قبل الولادة، والفم باب الغذاء في الدنيا، والسبيلان مقابلان لهما كتقابل بيتي زحل لبيتي النيرين.
وكما أن في الفلك بروجا فيها حدود ووجوه ودرجات لها أوصاف مختلفة، كذلك للجسد أعضاء ومفاصل وعروق وأعصاب وعظام مختلفة يطول شرحها ومناسبتها بحدود الفلك، وقد تركنا ذكر ذلك.
(6) فصل في مشابهة تركيب جسد الإنسان بالأركان الأربعة
فنقول: اعلم أنه لما كان تحت فلك القمر أربعة أركان؛ وهي الأمهات التي بها قوام الأشياء المولدات؛ والتي هي الحيوان والنبات والمعادن.
وكذلك وجد في بنية الجسد أربعة أعضاء هي تمام جملة الجسد؛ وأولها الرأس ثم الصدر ثم البطن ثم الجوف إلى آخر قدميه. فهذه الأربعة موازية لتلك؛ وذلك أن رأسه مواز لركن النار من جهة شعاعات بصره وحركات حواسه، وصدره مواز لركن الهواء من جهة نفسه واستنشاقه الهواء، وبطنه مواز لركن الماء من جهة الرطوبات التي فيه، وجوفه إلى آخر قدميه مواز لركن الأرض من قبل أنه مستقر عليه كاستقرار الثلاثة الباقية فوق الأرض وحولها.
وكما أن من هذه الأركان الأربعة تتحلل البخارات، فمنها تتكون الرياح والسحب والأمطار والحيوانات والنبات والمعادن.
وكذلك بهذه الأعضاء الأربعة تحلل البخارات في بدن الإنسان مثلما يخرج المخاط من المنخرين والدموع من العينين والبصاق من الفم والرياح التي تتولد في الجوف والرطوبات التي تخرج مثل البول والغائط وغيرهما.
فبنية جسده كالأرض، وعظامه كالجبال، والمخ فيه كالمعادن، وجوفه كالبحر، وأمعاؤه كالأنهار، وعروقه كالجداول، ولحمه كالتراب، وشعره كالنبات، ومنبته كالبرية الطيبة، وحيث لا ينبت الشعر كالأرض السبخة، ووجهه إلى القدم كالعمران، وظهره كالخراب، وقدام وجهه كالمشرق، وخلف ظهره كالمغرب، ويمينه كالجنوب، ويساره كالشمال، وتنفسه كالرياح، وكلامه كالرعد، وأصواته كالصواعق، وضحكه كضوء النهار، وبكاؤه كالمطر، وبؤسه وحزنه كظلمة الليل، ونومه كالموت، ويقظته كالحياة، وأيام صباه كأيام الربيع، وأيام شبابه كأيام الصيف، وأيام كهولته كأيام الخريف، وأيام شيخوخته كأيام الشتاء، وحركاته وأفعاله كحركات الكواكب ودورانها، وولادته وحضوره كالطوالع، وموته وغيبوبته كالغوارب، واستقامة أموره وأحواله كاستقامة الكواكب، وتخلفه وإدباره كرجوعاتها، وأمراضه وأعلاله كاحتراقاتها، وتوقفه وتحيره في الأمور كتوقفها، وارتفاعه في المنزل والشرف كارتفاعها في أوجاتها وإشراقها، وانحطاطه في المنزل والسقوط كهبوطها وسقوطها في حضيضها، واجتماعه مع امرأته كاجتماعها، ومواصلته كاتصالاتها، وانفصاله كانصرافاتها، وإشارته كمناظرتها.
وكما أن الشمس رأس الكواكب في الفلك كذلك في الناس ملوك ورؤساء، وكاتصالات الكواكب بالشمس وبعضها ببعض كذلك اتصالات الناس بالملوك وبعضهم ببعض، وكانصراف الكواكب من الشمس بالقوة وزيادة النور كذلك انصرافات الناس من الملوك بالولايات والخلع والمراتب، وكنسبة المريخ من الشمس كذلك نسبة صاحب الجيش من الملك، وكنسبة عطارد من الشمس كذلك نسبة الكتاب والوزراء من الملوك، وكنسبة المشتري من الشمس كنسبة القضاة والعلماء من الملوك، وكنسبة زحل من الشمس كذلك نسبة الخزان والوكلاء من الملوك، وكنسبة الزهرة من الشمس كذلك نسبة الجواري والمغنيات من الملوك، وكنسبة القمر من الشمس كذلك نسبة الخوارج من الملوك؛ وذلك أن القمر من الشمس يأخذ النور من أول الشهر إلى أن يقابلها فيحاكيها في نورها ويصير كالمماثل لها في هيئاتها، وكذلك حكم الخوارج من الملوك يتبعون أمرهم ثم يخلعون الطاعة وينازعونهم في الملك.
وأيضا إن أحوال القمر تشبه أحوال أمور الدنيا من الحيوان والنبات وغيرهما؛ وذلك أن القمر يبتدئ من أول الشهر بالزيادة في النور والكمال إلى أن يتم في نصف الشهر، ثم يأخذ في النقصان والاضمحلال والمحاق إلى آخر الشهر.
وهكذا حالات أهل الدنيا تبتدئ من أول الأمر بالزيادة فلا تزال تنمو وتنشأ إلى أن تتم وتستكمل ثم تأخذ في الانحطاط والنقصان إلى أن تضمحل وتتلاشى.
(7) فصل في تعداد قوى النفس
فنقول: إن هذا الجسد من كثرة عجائبه وترتيب أعضائه وطرائق تأليف مفاصله يشبه مدينة، والنفس كملك تلك المدينة، وفنون قواها كالجنود والأعوان، وأفعالها في هذا الجسد وحركاتها فيها كالرعية والخدم؛ وذلك أن للنفس الإنسانية قوى كثيرة لا يحصي عددها إلا الله تعالى، ولكل قوة منها مجرى في عضو من أعضاء الجسد غير مجرى القوى الآخر، ولكل قوة منها إلى النفس نسبة خلاف نسبة الأخرى.
ونريد أن نذكر منها طرفا ليكون دليلا على الباقية منها، وذلك أن لها خمس قوى حساسة كأنها أصحاب الأخبار، وأن النفس قد ولت كل واحدة منها ناحية من مملكتها لتأتيها بالأخبار من تلك الناحية من غير أن تشترك معها قوة أخرى. بيان ذلك أن القوة السامعة التي مجراها في الأذنين فإن النفس قد ولتها إدراك المسموعات فحسب؛ وهي الأصوات. والأصوات نوعان حيوانية وغير حيوانية؛ فغير الحيوانية كصوت الطبل والرعد والحجر والشجر والزمر والأوتاد، وما شاكل ذلك. والحيوانية نوعان منطقية وغير منطقية؛ كصهيل الخيل ونهيق الحمار وخوار الثور.
وبالجملة فإن أصوات الحيوانات غير الناطقة والمنطقية نوعان؛ دالة وغير دالة؛ فغير دالة كالألحان والنغمات والضحك والبكاء والصراخ والأنين وغير ذلك، والدالة هي التي تلفظ بالحروف المعجمة وهي التي تدل على المعاني في أفكار النفوس، كما بينا في رسالة المنطق.
ولكل نوع من هذه الأنواع نوع آخر، وتحت تلك الأنواع أشخاص لا يعلم عددها إلا الله الواحد القهار. وإن القوة هي المتولية إدراكها، المتصرفة فيها بإتيان الأخبار عنها إلى القوة المتخيلة التي مسكنها مقدم الدماغ. وهذه القوة في إدراكها هذه الأصوات وإتيانها بأخبارها تشبه صاحب خبر ملك يأتي بالأخبار إليه من ناحية من نواحي مملكته.
وأما القوة الباصرة التي مجراها في العينين، فإن النفس قد ولتها إدراك المبصرات. وهي تنقسم أنواعا؛ فمنها الأنوار والظلمة، ومنها الألوان وهي السواد والبياض والحمرة والصفرة وما يتولد عند التركيب من سائر الألوان. ومن المبصرات أيضا المقادير ذوات الأبعاد والأشكال والصور والحركات والسكون، وكل نوع من هذه تحته أنواع، وتحت تلك الأنواع أشخاص؛ وهي كلها تحت إدراك القوة الباصرة، وهي المتصرفة فيها والمميزة لها تأتي بالأخبار عنها إلى القوة المتخيلة التي مسكنها مقدم الدماغ، ونسبة هذه القوة من النفس كنسبة الديدان، وصاحب البريد إلى الملك يأتي بالأخبار إليه من ناحية من كل نواحي مملكته.
وأما القوة الشامة التي مجراها في المنخرين، فإن النفس قد ولتها إدراك الروائح والتصرف فيها والتمييز لها، وهي نوعان لذيذة وكريهة؛ فاللذيذة تسمى الطيب، والكريهة تسمى النتن. وتحت كل نوع من هذه الأنواع أنواع ليس لها أسماء مفردة كأسماء سائر المحسوسات، ولكن القوة الناطقة نسبت كل رائحة منها إلى حاملها الذي يفوح منه، فيقال رائحة المسك ورائحة الكافور ورائحة العود ورائحة النرجس وغير ذلك؛ فنسبتها إلى الذي تفوح منه، وهي كثيرة لا يحصي عددها إلا الله تعالى. وإن القوة الشامة هي المتولية لإدراكها والتصرف فيها بإتيان أخبارها إلى القوة المتخيلة، ونسبتها إلى النفس كنسبة أحد أصحاب الأخبار إلى الملك، مثلما قلنا في أمر القوة الباصرة والسامعة.
وأما القوة الذائقة التي مجراها في اللسان، فإن النفس قد ولتها أمر الطعوم والإدراك لها والتصرف فيها وتمييز بعضها من بعض، وهي تنقسم تسعة أنواع: أولها الحلاوة الملائمة لطبع الإنسان، والثانية المرارة المنافرة لطبع الإنسان، ومنها وسائط وهي الحموضة والملوحة والدسومة والعفوصة والحرافة والقبوصة والعذوبة، وكل نوع من هذه تحته أنواع، وتحت كل نوع منها أشخاص لا يعلم عددها إلا الله الواحد القهار. وإن القوة الذائقة التي هي متولية أمر هذه الطعوم بالإدراك لها والتصرف فيها وتمييز بعضها عن بعض وإتيان أخبارها إلى القوة المتخيلة، ونسبتها إلى النفس كنسبة أصحاب الأخبار إلى الملك، مثل أمر السامعة والباصرة والشامة.
وأما القوة اللامسة التي مجراها باليدين، فإن النفس قد ولتها أمر الملموسات، وهي عشرة أنواع: الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة واللين والخشونة والصلابة والرخاوة والثقل والخفة. ولكل واحد من هذه تحتها أنواع، وتحت تلك الأنواع أشخاص لا يعلمها إلا الله الملك الجبار العزيز القهار. وإن القوة اللامسة التي باليدين هي المتولية أمر الملموسات بالإدراك والتصرف فيها وتمييز بعضها عن بعض وبإتيان أخبارها إلى القوة المتخيلة، ونسبتها إلى الشمس كنسبة إحدى أخواتها التي تقدم ذكرها.
وما مثل النفس مع قواها هذه الخمس الحساسة واختلاف محسوساتها، وما تحت كل جنس منها من الأنواع والأشخاص المختلفة الصور المفننة الأشكال المتباينة الهيئات؛ إلا كخمسة من الأنبياء أولي العزم من الرسل؛ مرسلهم واحد وشرائعهم مختلفة، وتحت كل شريعة مفروضات مفننة وأحكام متباينة وسنن متغايرة، تحت أحكامها أمم كثيرة لا يحصي عددها إلا الواجب الوجود الواحد من جميع الوجوه. وكما أن تلك الأمم كلهم يرجعون إلى الله ليفصل بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، فهكذا حكم المحسوسات كلها مرجعها إلى النفس الناطقة لتمييز بعضها عن بعض وتعرف واحدا واحدا منها بحقائقها، وتحكم عليها وتنزلها منازلها.
فصل
واعلم يا أخي أن للنفس الإنسانية خمس قوى أخر تنسب نسبتها إلى النفس غير نسبة هذه الخمسة التي تقدم ذكرها، وسريانها في أعضاء الجسد خلاف سريان أولئك، وأفعالها لا تشبه أفعالها.
وذلك أن هذه القوى الخمس هن كالشركاء المتعاونات في تناولها صور المعلومات بعضها من بعض، وثلاثة منها نسبتها إلى النفس كنسبة الندماء من الملك، الحاضرين مجلسه دائما، المطلعين على أسراره، المعينين له في خاصة أفعاله، وهي القوة المتخيلة التي مجراها مقدم الدماغ، والثانية القوة المفكرة التي مجراها وسط الدماغ، والثالثة القوة الحافظة التي مجراها مؤخر الدماغ، وواحدة منها نسبتها إلى النفس كنسبة الحاجب والترجمان عن الملك، وهي القوة الناطقة المخبرة عنها معاني ما في فكرها من العلوم والحاجات، ومجراها في الحلقوم إلى اللسان.
وواحدة منها نسبتها إلى النفس كنسبة الوزير إلى الملك المعين له في تدبير مملكته وسياسة رعيته، وهي القوة التي بها تظهر النفس الكتابة والصنائع أجمع ومجراها في اليدين والأصابع، فهذه القوى الخمس هي كالمتعاونات فيما يتناولن من صور المعلومات.
بيان ذلك أن القوة المتخيلة إذا تناولت رسوم المحسوسات من القوى الحاسة أدركت وأدت إليها، فتجمعها كلها وتؤديها إلى القوة المفكرة التي مجراها وسط الدماغ حتى تميز بعضها من بعض، وتعرف الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، والضار من النافع، ثم تؤديها إلى القوة الحافظة التي مجراها مؤخر الدماغ لتحفظها إلى وقت الحاجة والتذكار.
ثم إن القوة الناطقة تناول تلك الرسوم المحفوظة وتعبر عنها عند البيان للقوة السامعة من الحاضرين في الوقت.
ولما كانت الأصوات لا تمكث في الهواء إلا ريثما تأخذ الأسماع حظها ثم تضمحل، اقتضت الحكمة الإلهية والعناية الربانية واحتالت الطبيعة بأن قيدت تلك الألفاظ بصناعة الكتابة.
وذلك أن القوة الصناعية إذا أرادت تقييدها صاغت لها صورا من الخطوط بالقلم وأودعتها وجوه الألوان وبطون الطوامير ليبقى العلم مفيدا فائدة من الماضين للغابرين، وأثرا من الأولين للآخرين، وخطابا من الغائبين للحاضرين، وهذا من جسيم نعم الله تعالى على الإنسان، كما ذكر في كتابه فقال: @QUR013 اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم.
فصل
اعلم يا أخي أنه إذا تفكر الإنسان العاقل الفهيم في هذه القوة التي تقدم ذكرها، وكيفية سريانها في أعضاء الجسم، وتصرفها في إدراك هذه المحسوسات، وتصورها رسوم المعلومات، واطلاع النفس عليها كلها في جميع حالاتها؛ تكون هذه شاهدة له من نفسه لنفسه، ودليلا من ذاته على أن للنفس الكلية قوى كثيرة منبثة في فضاء الأفلاك وأطباق السموات وأركان الأمهات، وفي الحيوانات والنبات موكلة بحفظ الخليقة ومرتبة لصلاح البرية، وهم ملائكة الله - جل اسمه - وخالص عباده وصفوته من بريته، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون من غير خطاب ولا كلام، فهكذا هذه القوى تتصرف في حوائج النفس من غير كلام منها لهن ولا خطاب.
ويتبين له أيضا بأن الله جل ثناؤه مطلع على أسرار جميع العالمين وأحوالهم، لا يعزب عنه من أمورهم مثقال ذرة، كما أن نفسه مطلعة على جميع محسوسات حواسها ومعلومات قواها وهن منقادة لأمرها فيما يأتين به إليها من أخبار محسوساتها من غير كلام لهن منها ولا خطاب.
(8) فصل في اعتبار أحوال الإنسان بالموجودات التي دون فلك القمر
فأما اعتبار الإنسان بالموجودات التي دون فلك القمر، فاعلم أن الموجودات التي تحت فلك القمر نوعان؛ بسيطة ومركبة، فالبسائط هي الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، والمركبات هي المولدات الكائنات الفاسدات؛ أعني الحيوان والنبات والمعادن.
فالمعادن أسبق في الكون ثم النبات ثم الحيوان ثم الإنسان، ولكل نوع من هذه خاصية قد سبق إليها، فخاصية الأركان الأربعة الطبائع الأربعة التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، واستحالة بعضها إلى بعض، وخاصية النبات الغذاء والنمو، وخاصية الحيوان الحس والحركة، وخاصية الإنسان النطق والفكر واستخراج البراهين، وخاصية الملائكة ألا تموت أبدا. فإن الإنسان قد يشارك هذه الأنواع كلها في خواصها، وذلك أن له طبائع أربع تقبل الاستحالة والتغيير مثل الأركان الأربعة؛ وله كون وفساد مثل المعادن، ويتغذى وينمو كالنبات، ويحس ويتحرك كالحيوان، ويمكنه ألا يموت كالملائكة، كما بينا في رسالة البعث.
فصل
ثم اعلم يا أخي بأن الحيوانات أنواع كثيرة، ولكل نوع منها خاصية دون غيره، والإنسان يشاركها كلها في خواصها، ولكن لها خاصيتين تعمها كلها وهي طلبها المنافع وفرارها من المضار، ولكن منها ما يطلب المنافع بالقهر والغلبة كالسباع، ومنها ما يطلب المنافع بالبصبصة كالكلب والسنور، ومنها ما يطلبها بالحيلة كالعنكبوت؛ وكل ذلك يوجد في الإنسان.
وذلك أن الملوك والسلاطين يطلبون المنافع بالغلبة، والمكديون بالسؤال والتواضع، والصناع والتجار بالحيلة والرفق، وكلها تهرب من المضار والعدو، ولكن بعضها يدفع العدو عن نفسه بالقتال والقهر والغلبة كالسباع، وبعضها بالفرار كالأرانب والظباء وبعضها يدفع بالسلاح والجواشن كالقنفد والسلحفاة، وبعضها بالتحصن في الأرض كالفأر والهوام والحيات .
وهذه كلها توجد في الإنسان، وذلك أنه يدفع عن نفسه العدو بالقهر والغلبة، فإن خاف على نفسه لبس السلاح، وإن لم يطقه نفر منه، فإن لم يقدر على الفرار تحصن بالحصون. وربما يدفع الإنسان عدوه بالحيلة كما احتال الغراب على البوم في كتاب كليلة ودمنة. وأما مشاركة الإنسان للكائنات في خواصها، فاعلم يا أخي - أيدك الله وإيانا بروح منه - أن لكل نوع من أنواع الحيوانات خاصية هي مطبوعة عليها، وكلها توجد في الإنسان؛ وذلك أنه يكون شجاعا كالأسد، وجبانا كالأرنب، وسخيا كالديك، وبخيلا كالكلب، وعفيفا كالسمك، وفخورا كالغراب، ووحشيا كالنمر، وأنسيا كالحمام، ومحتالا كالثعلب، ومسالما كالغنم، وسريعا كالغزال، وبطيئا كالدب، وعزيزا كالفيل، وذليلا كالجمل، ولصا كالعقعق، وتائها كالطاووس، وهاديا كالقطاة، وضالا كالنعامة، وماهرا كالنحل، وشديدا كالتنين، ومهيبا كالعنكبوت، وحليما كالجمل، وحقودا كالحمار، وكدودا كالثور، وشموسا كالبغل، وأخرس كالحوت، ومنطقيا كالهزار داستان والببغاء، ومستحلا كالذئب، ومباركا كالطيطوي، ومضرا كالفأر، وجهولا كالخنزير، ومشوما كالبوم، ونفاعا كالنحل.
وبالجملة ما من حيوان ولا معادن ولا نبات ولا ركن ولا فلك ولا كوكب ولا برج ولا موجود من الموجودات له خاصية إلا وهي توجد في الإنسان أو مثالاتها كما بينا قبل من كل شيء طرفا، وهذه الأشياء التي ذكرنا في أمر الإنسان لا توجد في شيء من أنواع الموجودات التي في هذا العالم إلا في الإنسان.
فمن أجل ذلك قالت الحكماء إن الإنسان وحده بعد كل كثرة، كما أن الباري جل ثناؤه وحده قبل كل كثرة، ومن أجل ما عددنا من عجائب تركيب جسد الإنسان وغرائب تصاريف نفسه وما يظهر من جملة بنيته من الصنائع والعلوم والأخلاق والآراء والطرائق والمذاهب والأعمال والأفعال والأقاويل والتأثيرات الجسمانية والروحانية؛ سموه عالما صغيرا.
فصل
فانظر يا أخي إلى هذا الهيكل المبني بالحكمة، وتأمل هذا الكتاب المملوء من العلوم، وتفكر في هذا الصراط المستقيم الممدود بين الجنة والنار، فلعلك أن توفق للخيرات عليه والممر على الصراط المستقيم، وتأمل هذا الميزان الموضوع بالقسط فلعلك تعرف وزن حسناتك وسيئاتك، واحسب حسابك به قبل فوت رأس مالك فإن الجنة من وراء هذا كله.
واذكر ما قد نبهك الله له وذكرك إياه بقوله: @QUR05 كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا، وقوله: @QUR011 هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون، وقال: @QUR05 أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه.
فإن كنت لا تحسن كيف تقرأ هذا الكتاب وكيف تحسب هذا الحساب وكيف تزن هذا الميزان وكيف تجوز هذا الصراط، فهلم مجلس إخوان لك نصحاء أو أصدقاء لك كرماء فضلاء أخيار علماء محبين لك متوددين إليك، فيعرفوك ما لا تنكره ويعلموك ما تتيقنه، ولا تشك فيه بشواهد من نفسك وبراهين من ذاتك ودلائل من جوهرك، إذا انتبهت نفسك من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، ونظرت بعين البصيرة كما نظروا، وسرت بسيرتهم العادلة كما ساروا، وعملت بسنتهم الحسنة وتفقهت في شريعتهم العقلية، ودخلت مدينتهم الروحانية، وتخلقت بأخلاقهم الملكية وعرفت آراءهم الصحيحة، وتعلمت معلوماتهم الحقيقية؛ فحينئذ تؤيد بروح الحياة الأبدية وتعيش عيش السعداء منعما مخلدا أبدا بنفسك الباقية الزكية لا بجسدك البالي المستحيل.
فصل
ثم اعلم أنه قد جعلت الحكمة الإلهية والعناية الربانية أعضاء كل شخص من الحيوان مناسبا لجملة جسده، كما بينا في رسالة فضيلة النسب، فنريد أن نذكر منها في هذه الرسالة طرفا ليتبين تقابل العالم الصغير والكبير.
وذلك أن الإنسان لما كان أكمل الموجودات وأتم الكائنات التي تحت فلك القمر، وكان جسمه جزءا من أجزاء العالم بأسره، وكان هذا الجزء أشبه الأشياء بجملته؛ صارت نفس الإنسان أيضا أشبه النفوس الجزئية بالنفس الكلية التي هي نفس العالم بأسره، وصار حكم سريان قوى نفسه وأفعالها في بنية جسده مماثلة لسريان قوى النفس الكلية في جميع العالم.
وبيان ذلك أن لبنية جسدها - أعني النفس الكلية التي هي جملة العالم - سبعة أشخاص فاضلة متحركة مدبرة بإذن الملك الجبار عز وجل، ولكل واحد منها جرم فيه روح تسمى النفس، ولكل واحد منها أفعال في العالم مخصوصة غير ما للآخر، مذكور ذلك في كتب أحكام النجوم.
فهكذا أيضا جعل الله تعالى في بنية جسد الإنسان أعضاء بنيتها مناسبة لجملة بدنه بعضها لبعض، وجعل لكل عضو منها قوة تختص بها ليظهر بها أفعاله في بنية الجسد وفي سائر أطرافه، وجعل أفعالها مناسبة لأفعال قوى روحانيات الكواكب السبعة.
بيانه أن نسبة جرم الجسد كنسبة جرم الشمس من العالم بأسره؛ وذلك أنه لما كان مركز جرمها في وسط الأفلاك كما بينا في رسالة السماء والعالم هكذا جعل الباري تعالى جرم القلب في وسط الجسد، وكما أن من جرم الشمس ينبث النور والشعاع في جميع العالم بأسره، ومنها تسري قوى روحانياتها في جميع أجزاء العالم، وبها حياة العالم وصلاحه، كذلك ينبث من جرم القلب الحرارة وتسير في العروق الضوارب إلى سائر أطراف البدن، وبها تكون حياة الجسد وصلاحه.
وأيضا إن نسبة جرم الطحال من الجسد كنسبة زحل من العالم؛ وذلك أن جرم زحل تنبث مع شعاعه قوى روحانياته وتسري في جميع أجزاء العالم، وبها تماسك الصور في الهيولى وبقاؤها بإذن الله.
فهكذا ينبث من جرم الطحال قوة الخلط السوداوي البارد اليابس وتجري مع الدم في العروق الواردة إلى سائر أطراف الجسد، وبها يكون جمود رطوبة الدم وتماسك أجزائه. ويعرف حقيقة ما قلنا وصحة ما وصفنا جماعة من الحذقة في صناعة الطب والراسخون في العلوم الحكمية.
وأيضا إن نسبة جرم الكبد من الجسد كنسبة جرم المشتري من العالم؛ وذلك أنه ينبث من جرمه مع شعاعه قوى روحانيته وتسري في أجزاء العالم، وبها يكون ترتيب أجزائه واعتدال أركانه ومناسبة موجوداتها التي في العالم على أفضل الحالات وأكمل الصفات. ويعرف حقيقة ما قلنا الحكماء والأنبياء وخلفاؤهم الأئمة الذين هم خزائن علم الله والأمناء على أسراره.
وأيضا فإن نسبة جرم المرارة من الجسد كنسبة جرم المريخ من العالم؛ وذلك أنه تنبث من جرمه مع شعاعه قوى روحانيته وتسري في جميع أجزاء العالم وبها تكون عزمات الموجودات وبلوغ النهايات، فهكذا ينبث من جرم المرارة قوى الخلط الصفراوي، وتجري مع الدم إلى سائر أطراف الجسد، وهي الملطفة للأخلاط المعيدة لها إلى أقصى مدى غاياتها ومنتهى نهايتها .
وأيضا إن نسبة جرم المعدة إلى الجسد كجرم الزهرة في العالم؛ وذلك أنه ينبث من جرمها مع شعاعها قوى روحانياتها وتسري في جميع أجزاء العالم، وهي المفرحة الملذذة المسرة جميع الخلائق الجسمانية والروحانية التي في العالم، وبها زينة الموجودات ومحاسن الكائنات في العالم؛ أعني عالم الأفلاك والأمهات جميعا، فهكذا ينبت من جرم المعدة القوة الشهوانية الطالبة للغذاء الذي هو مادة الجسد وهيولى الأخلاط، وبها تكون حياة الجسد ولذة العيش وقوام البدن في الأجسام البشرية والأجسام الطبيعية.
وأيضا إن نسبة جرم الدماغ كنسبة جرم عطارد من العالم؛ وذلك أنه ينبث من جرمه مع شعاعه قوى روحانيته التي تسري في جميع أجزاء العالم، وبها يكون الحس والشعور والعرفان في جميع الخلائق من العالمين جميعا من الملائكة والناس أجمعين والجن والشياطين والحيوانات أجمع، فهكذا ينبث من وسط الدماغ قوة بها يكون الحس والشعور والذهن والفكر والروية والمعارف أجمع.
وأيضا إن نسبة جرم الرئة كنسبة جرم القمر من العالم؛ وذلك أنه ينبث من جرمه مع شعاعه قوى روحانيته التي تسري في عالم الأركان تارة وفي عالم الأفلاك تارة كما هو بين ظاهر، وذلك أن جرم القمر نصفه أبدا ممتلئ نورا ونصفه الآخر مظلم، وهو تارة يقبل بوجهه الممتلئ من النور نحو عالم الأركان من أول الشهر وتارة نحو عالم الأفلاك من آخر الشهر. ويعرف حقيقة ما قلناه وصحة ما بيناه الباحثون في علم المجسطي والهيئة، فهكذا ينبث من جرم الرئة قوة تجذب الهواء تارة من خارج الجسد وترسله إلى القلب ومن القلب تنفذه في العروق الضوارب إلى سائر أطراف الجسد، وهو الذي يسمى النبض، وبها تكون حياة الجسد، وتارة ترد من ذلك الهواء من داخل وبها يكون التنفس والأصوات والكلام أجمع.
فانتبه أيها الأخ من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، وفقك الله وإيانا وجميع إخواننا للسداد، وهداك وإيانا وجميع إخواننا سبيل الرشاد إنه رءوف بالعباد.
(تمت رسالة قول الحكماء ويتلوها رسالة نشوء الأنفس.)
الرسالة الثالثة عشرة من الجسمانيات الطبيعيات في كيفية نشوء الأنفس الجزئية في الأجساد البشرية الطبيعية
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
(1) فصل
اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه لما فرغنا من بيان قول الحكماء «إن الإنسان عالم صغير»، نريد أن نذكر في هذه الرسالة كيفية نشوء الأنفس الجزئية فنقول: اعلم أن هذا الجسد لهذه الأنفس في المثال بمنزلة الرحم للجنين؛ وذلك أن الجنين إذا استتمت في الرحم بنيته وتكملت هناك صورته خرج إلى هذه الدار تام الخلقة سالم الحواس، وانتفع بالحياة فيها وتمتع بنعيمها إلى وقت معلوم، فهكذا يكون حال الأنفس في الدار الآخرة، وذلك أن الأنفس الجزئية إذا استتمت ذواتها بالخروج من القوة إلى حيز الفعل بما تستفيده من العلوم والمعارف بطريق الحواس، واستكملت صورتها بما تكتسب من الفضائل بطريق المعقولات والتجارب والرياضات وما يدبر في هذه الدار من السياسات من إصلاح أمر المعاش على الطريقة الوسطى، وتمهيد أمر المعاد على سنن الهدى، وتهذيب النفس بالأخلاق الجميلة والآراء الصحيحة والأعمال الصالحة، كل ذلك بتوسط هذا الجسد المؤلف من الدم واللحم.
ثم إن فارقته على بصيرة منها ومن أمرها، وقد عرفت جوهرها وتصورت ذاتها وتبينت أمر عالمها ومبدئها ومعادها كارهة للكون مع الجسد، بقيت عند ذلك مفارقة للهيولى، واستقلت بذاتها واستغنت بجوهرها عن التعلق بالأجسام، فعند ذلك ترتقي إلى الملأ الأعلى وتدخل في زمرة الملائكة، وتشاهد تلك الأمور الروحانية وتعاين تلك الصور النورانية التي لا تدركها بالحواس الخمس، ولا تتصور في الأوهام البشرية، كما ذكر هذا في الرموزات النبوية أن في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من النعيم واللذة والسرور والفرح والروح والريحان، كما قال الله تعالى: @QUR09 وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون، وقال: @QUR013 فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون.
فأما إذا لم تستتم خلقة الجنين في الرحم ولا استكملت هناك صورته أو عرض له عارض من النفس والاعوجاج في عضو من الأعضاء، فإنه لا ينتفع بالحياة في هذه الدار على التمام، ولا يكمل له نعيمها كالعميان والخرس والطرشان والزمنى والمفاليج وأشباههم، فهكذا تكون حال النفوس الجزئية عند مفارقة الأجساد البشرية.
وذلك أن الجزئية إذا لم تستتم بالعلوم والمعارف فإنها ما دامت مرتبطة بالأجساد البشرية متهيئ لها إدراك المحسوسات، فلا تستكمل صورها بمعرفة حقائق الأشياء ما دام لها العقل والتمييز والرؤية، ولا هي تهذبت بالأخلاق الجميلة ما دام يمكنها الاجتهاد والعزيمة، ولا هي قومت اعوجاجها من الآراء الفاسدة وقد أرهقتها أعمالها السيئة وأثقلتها أفعالها القبيحة، فإنها عند مفارقة الأجساد لا تنتفع بجوهرها، ولا تستقل بذاتها، ولا يمكنها النهوض إلى الملأ الأعلى من ثقل أوزارها، ولا يعرج بها إلى ملكوت السماء، ولا تستأهل للدخول في زمر الملائكة، وتغلق دونها أبواب السماء، ويفوتها ذلك الروح والريحان، كما ذكر الله عز وجل: @QUR014 لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط؛ لأنه لا يليق بها ذلك المكان الشريف ما دامت النفس مذمومة بهذه الصفات غير مهذبة بالأخلاق الجميلة، مقيدة بأخلاق دنية وسيرة جائرة وعادات رديئة واعتقادات فاسدة وجهالات متراكمة وأعمال سيئة تبقى مربوطة محبوسة؛ لأنه لا يليق بها ذلك المنزل النوراني والعالم الروحاني، كما لا يليق بالعميان والزمنى والجهال والبكماء مجالس الملوك ومنادمتهم لنقصانهم. فإذا فاتها ذلك المكان الشريف بقيت مقيدة في الهواء تهوى دون السماء، وتجرها شياطينها التي تتعلق عليها من الشهوات الجسمانية والآراء الفاسدة والاهتمام بالأمور الهيولانية، راجعة إلى قعر الأجسام المدلهمة، وأسر الطبيعة الجسدانية، وتدفعها أمواج الشهوات المحرقة المؤدية إلى أودية الهاوية حيث لا أنيس لها، وتجرها الشياطين كما تجر العميان والزمنى متجنبين طرقات الناس، كما ذكر الله تعالى (عز وجل): @QUR011 ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين، وقال: @QUR08 وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم، وقال: @QUR06 وقال قرينه هذا ما لدي عتيد، فيصيبها عند ذلك وهج الأثير تارة وبرد الزمهرير تارة ووحشة الظلام والألم والعذاب إلى أن تقوم القيامة .
يكون ذلك حالها كما ذكر الله عز وجل: @QUR013 النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب، وقال: @QUR06 ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون؛ كل ذلك لشدة شوقها إلى الجسمانية التي قد اعتادتها وقد فارقتها ولم تحصل لها اللذات الروحانيات وقد خسرت الدنيا والآخرة @QUR04 ذلك هو الخسران المبين.
(2) فصل
اعلم أيها الأخ الكريم البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن العلم والحكمة للنفس كتناول الطعام والشراب للجسد.
وذلك أن الأجساد ترضع أولا ثم تتناول الطعام والشراب اللذين هما غذاء الأجساد لينشأ صغيرها وينمو ناقصها ويسمن مهزولها ويقوى ضعيفها ويكتسي رونقها وكمالها، ويبلغ إلى أقصى مدى غاياتها ومنتهى نهاياتها ومحاسنها باللبن ثم بالطعام والشراب اللذين هما غذاؤها ومادتها.
فهكذا أيضا حالات الأنفس مماثلة لحالات الأجساد بالطعام والشراب الذي هو غذاؤها ومادتها في تصاريفها لاقتران ما بينهما في كون الحياة.
وذلك أن الأنفس الجزئية تتصور بالعلوم جواهرها، وتنمو بالحكمة ذواتها، وتضيء بالمعارف صورها، وتقوى بالرياضيات فكرها، وتنير بالآداب خواطرها، وتتسع لقبول الصور المجردة الروحانية عقولها، وتعلو إلى اشتياق الأمور الخالدة همتها، ويشتد على البلوغ إلى أقصى مد غاياتها عزماتها من الترقي في المراتب العالية بالنظر في العلوم الإلهية، والسلوك في المذاهب الروحانية الربانية، والتعبد في الأمور الشريفة من الحكمة على المذهب السقراطي، والتصوف والتزهد والترهب على المنهج المسيحي، والتعلق بالدين الحنيفي، وهو التشبه بجوهرها الكلي ولحوقها بعالمها العلوي والتوصل إلى علتها الأولى والاعتصام بحبل عصمته وابتغاء مرضاته وطلب الزلفى لديه بالاتحاد بأبناء جنسها في عالمها الروحاني، ومحلها النوراني في دارها الحيواني كما قال الله تعالى: @QUR08 وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون.
فإذا كانت الدار هي الحيوان فما ظنك يا أخي بأهل الدار كيف تكون صفتهم ونعيمهم إلا كما قال الله تعالى وتقدس: @QUR06 في مقعد صدق عند مليك مقتدر، فافهم هذه الإشارات والمرامي والمرموزات.
ثم اعلم أن النفس إذا انتبهت من نوم الغفلة واستيقظت من رقدة الجهالة واجتهدت وألقت من ذاتها القشور الجسمانية والغشاوة الجرمانية والعادات الطبيعية والأخلاق السبعية والآراء الجاهلية وصفت من درن الشهوات الهيولانية؛ تخلصت وانبعثت وقامت فاستنارت عند ذلك ذاتها وأضاء جوهرها وأشرقت أنوارها واحتد بصرها.
فعند ذلك ترى تلك الصورة الروحانية وتعاين تلك الجواهر النورانية، وتشاهد تلك الأمور الخفية والأسرار المكنونة التي لا يمكن إدراكها بالحواس الجسمانية والمشاعر الجرمانية، ولا يشاهدها إلا من تخلصت نفسه بتهذيب خلقه إذا لم تكن مربوطة بإرادة طبيعية ومقيدة بشهوات جسمانية يلوح فيها فيعاينها.
فإذا عاينت تلك الأمور، تعلقت بها تعلق العاشق بالمعشوق، والتزمتها التزام الحبيب المحبوب، واتحدت بها اتحاد النور بالنور، فتبقى معها ببقائها، وتدوم مع دوامها، وتفرح بروحها وريحانها، وتشم بنفحتها وتلذ بلذاتها التي عجزت الألسن الإنسانية عن التعبير عنها وقصرت أوهام المتفكرين عن أن نتصورها بكنه صفاتها كما قال تعالى: @QUR013 فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون، وقال: @QUR09 وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون.
(3) فصل
ثم اعلم أنه إذا خرج الجنين من الرحم سالما من الآفات العارضة صحيح الحواس قوي البدن، واشتدت أركانه وانبسطت قوى النفس في الجسد؛ باشرت القوى الحساسة ذوات المحسوسات وإدراكها على هيئاتها.
ثم أدت رسومها إلى القوة المتخيلة التي في مقدم الدماغ ودفعتها المتخيلة إلى المفكرة.
ثم غابت المحسوسات عن مشاهدة الحواس وبقيت آثار تلك الرسوم مصورة في فكرة النفس، فاستقلت بذاتها واستغنت بجوهرها عن حواسها، وتصرفت فيها من غير أن يشاركها شيء خارج من ذاتها ويتأملها من غير أن يحتاج إلى غير نفسها.
فإذا تأملتها النفس وميزتها بعقلها لا تجد شيئا سوى صور تلك المحسوسات منتزعة من هيولاتها، ومصورة في جوهر النفس، فيكون جوهر النفس لتلك المصورة في ذاتها كالهيولى، وتلك الرسوم فيها كالصورة.
وهكذا أيضا حكم صور المعقولات في النفس؛ وذلك أنها ليست شيئا سوى صور الأجناس والأنواع، انتزعتها النفس بقوتها المتفكرة وصورتها في ذاتها، وحملتها كما حمل الهواء صوت المسموعات؛ وذلك أن الهواء يحمل الأصوات والنغمات المختلفة ويؤديها إلى المسامع.
ويحمل أيضا الروائح ويؤديها إلى المشام بهيئاتها لا يغير منها شيئا إلا بعارض يعرض لها؛ لأن الهواء جسم لطيف روحاني حافظ للصورة.
وهكذا الضياء أيضا يحمل الأشكال والألوان ويؤديها إلى الأبصار ولا يخلط بعضها ببعض.
فهكذا أيضا النفس تقبل صور المعلومات من المحسوسات والمعقولات في ذاتها وتصورها بفكرها وتحفظها بالقوة الحافظة من غير أن تخلط بعضها ببعض؛ لأن جوهر النفس أشد روحانية من جوهر الهواء، وجوهر الضياء جميعا، فاستغنت بنفسها واستقلت بذاتها وفرحت بنجاتها واستبشرت بخلاصها وساحت في الملكوت وتبوأت من الجنة حيث شاءت، فنعم أجر العاملين.
ثم اعلم أنه كما يعرض للأجسام أمراض وأعلال تخرجها من الاعتدال وتميل بها عن صحة مزاجها حتى تسقمها فلا تنتفع بالحياة في هذه الدار ولا تنتفع بنعيمها على التمام ولا يهنيها عيشها على الكمال.
فهكذا يعرض للنفوس الجزئية الحيوانية أمراض تخرجها عن الاعتدال والطريقة الوسطى والصحة والحق والصراط السوي والهدى، وتميل بالإنسان عن قصد سنن الهدى حتى لا تنتفع بالحياة في الأولى ولا تنال السعادة في الأخرى.
وإن أمراضها أربعة أنواع؛ وهي الجهالات المتراكمة والأخلاق الردية والآراء الفاسدة والأعمال السيئة.
ثم تتفرع هذه كلها للنفوس الجزئية البشرية لشدة ميلها إلى الشهوات الجسمانية التي هي نيران واقدة تتوقد على الأفئدة بأنواع الغموم المقلقة والهموم المحرقة لشدة غرورها باللذات الجرمانية التي هي استراحات عن الآلام الطبيعية والمؤذيات الهيولانية.
(4) فصل
ثم اعلم أن لمرض النفوس علاجات وطبا تداوى بها، كما أن لمرض الأجساد طبا يعالج به وعقاقير يداوى بها، ولها كتب وضعتها الحكماء موصوف فيها علاجاتها.
فهكذا أيضا لمرض النفوس كتب وقوانين علمية جاءت بها الأنبياء والحكماء مذكور فيها علاجات الأمراض النفسية؛ وهو الاقتداء بسنة الناموس، واجتناب المحارم والانتهاء عن المناهي، والأخذ بسنته الحسنة والسير بسيرته العادلة، ولزوم طلب المعارف والتخلق بالأخلاق الجميلة، ولزوم سنة الهدى على الطريقة الوسطى في طلب معيشة الحياة الدنيا، والسعي بالأعمال الصالحة في طلب نعيم الآخرة، ومداواة النفوس المريضة بتذكيرها أمر مبدئها وما قد نسيته من أمر معادها بضروب الأمثال بالوعد والترغيب في جزيل الثواب والمدح والثناء لمن تاب وأناب لعلهم يذكرون.
ثم اعلم أنه ذكر في كتب الطب أصل تركيب الجسد ومزاج الأخلاق وأسباب الأمراض وكيفية المداواة من مفردات الأدوية ومركباتها، التي تختلف شرباتها بحسب اختلاف الأمزجة والأهوية والعادات.
فهكذا ذكر وتبين في كتب الأنبياء المنزلة عليهم السلام الذين هم أطباء النفوس وبيان ماهية النفس وبدء كون العالم وسبب كون عصيان النفوس التي هي مرضها وسقطها عن مراتبها الذي هو موتها الأول وسبب صحتها وسبب تغيرها وفسادها وأنواع أمراضها.
ووصف كيفية مداواة النفوس المريضة بالندم والتوبة وحسن الأخلاق والأفعال الحسنة، والاجتناب عما نهى الله تعالى ورسوله، وبالتذكار لأمر المعاد والأفعال الحسنة، والتوكل على الله في جميع الأمور كما قال تعالى: @QUR016 يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما، وقال: @QUR026 وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، وقال: @QUR05 فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، @QUR08 لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، @QUR010 ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة.
ثم اعلم أن طائفة من العقلاء قد مالوا وأعرضوا عن الحق والديانات النبوية إلى الآراء الحكمية؛ وذلك لقصور فهمهم عن صور تلك الأمور التي أشارت إليها الأنبياء عليهم السلام في إشاراتهم ورموزهم، فعجزوا عن إدراك حقائق تلك المعاني التي ألقتها إليهم الملائكة من الوحي والإلهام والتأييد والإشارات.
وإنما قبلت الأنبياء الوحي من الملائكة بصفاء جوهر نفوسها ومجانسة أرواحها لأرواحهم، لا لقياسات منطقية ولا برياضات حكمية، مثل الأدوية الشافية والعقاقير النافعة يدرون سبب شفائها وخاصية منفعتها.
ثم اعلم أن من سنة الناموس والآداب الحسنة تناول الطعام، الذي هو غذاء الجسد، بثلاثة أصابع، فهذه السنة كأنها إشارة من واضع الناموس للنفوس والتنبيه لها، والحث على أنه واجب طلب العلوم من ثلاث طرقات؛ لأن العلم غذاء النفس كما أن الطعام غذاء الجسد، وأحوال النفس مماثلة لأحوال الجسد لشدة اقتران ما بينهما؛ فأحد الطرق التي تنال بها النفس العلوم قوة الفكرة الذي تدرك به النفس الموجودات المعقولات.
ومن هذه الطريق أخذت الأنبياء عليهم السلام الوحي من الملائكة.
والطريق الآخر السمع الذي تقبل به النفس معاني اللغات وما تدل عليه الأصوات من الأخبار الغائبة، والآخر طريق النظر الذي به تشاهد النفوس الموجودات الحاضرة، فهذه الثلاث الطرقات يجب أن تتناول العلوم بها، كما بينا وكما نبهنا الله عز وجل وقال: @QUR08 وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون، وذم من لا ينتفع بالنعم فقال: @QUR020 لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل، وقال: @QUR03 صم بكم عمي؛ فهم صم عن الحقائق، بكم عن الدقائق، عمي عن المبصرات المعنوية العقلية بعين القلب، وليس يريد بهذا الذم بحيث إنهم لا يسمعون الأصوات ولا يبصرون الألوان ولا يعرفون ولا يفقهون أمر المعاش، بل إنما ذمهم بحيث إنهم لا يعقلون أمر المعاد كما قال تعالى: @QUR010 يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون.
واعلم أن العلم قنية للنفس كما أن المال قنية للجسد؛ لأن المال يراد لصلاح أمر الجسد والعلم يراد لصلاح أمر النفس، فمتى لم تنل النفس العلم من هذه الطرقات الثلاث، وذلك تناوله بثلاثة أصابع إلا من طريقة واحدة - أي بإصبع واحد - فمثله كمثل المريض الذي ليس له حظ من ماله إلا الثلث؛ لأن المريض واقف بين رجاء الحياة وخوف الممات، وهذا مثل أهل التقليد الذين لا يعرفون أمر الدين إلا من طريق السمع، فهم موقوفون بين الشك واليقين، والشك مرض النفوس واليقين صحتها، فهؤلاء ليس لهم من العلم إلا الشك من أجل مرض نفوسهم.
ثم اعلم أن السائلين اثنان؛ سائل سأل حاجة من عرض الدنيا لصلاح الجسد المستحيل الفاني، وسائل سأل مسألة من العلم يكون فيه خلاص النفس من ظلم الجهل وإصلاح الدين وأمر المعاد وطلب نعيم الآخرة الباقي.
وهكذا المجالس اثنان؛ مجلس للأكل والشرب والغناء واللذات الجسمانية من نبات الأرض ولحوم الحيوان لصلاح هذا الجسد المستحيل المتغير الفاني، ومجلس للعلم والحكمة والسماع واللذات من نعيم الآخرة الباقية للنفوس الخالدة التي لا يبيد جوهرها ولا تفنى لذتها ولا ينقطع سرورها.
ثم إن كل ما يؤكل من الطعام والشراب يتبين النقصان في مال صاحبه، وإذا أكل وشرب قدر ما بلغ الشبع والري وزاد على ذلك صارت اللذة ألما، وإذا مكثت تلك المأكولات المشتهيات في المعدة ساعة واستمرأت وأخذت الأعضاء كل واحد قسطا منها تغير ما بقي واستحال واحتيج إلى إخراجها، وإلا صارت اللذة ألما ومشقة ومرضا وإعلالا.
وأما مجالس العلم والحكمة والاستماع منها فليست تمل النفس منها؛ لأنها لذات روحانية من نعيم الآخرة وأنموذجها ولا ينقص من علم العالم المرشد وإن كثر المعلمون والسامعون لأنها من كنوز رموز الآخرة.
(5) فصل
ثم اعلم أنه ليس في كثرة الأكل افتخار، ولا يحتاج من الأكل والشرب إلا إلى ما يسكن الجوع والعطش، فإذا سكن ذلك كان سكونه بألوان من المأكولات أو بكسرة من خبز الشعير أو بشرب الماء القراح، كما قال عيسى عليه السلام للحواريين إن أكل خبز الشعير وشرب الماء القراح اليوم في الدنيا لكثير لمن يريد أن يدخل الفردوس غدا.
ثم إن الافتخار والثناء ينبغي أن يكون في اقتناء الفضائل الحكمية، وفي الاستضاءة بنور العلم والاستبصار بالآيات والدلالات على معرفة حقائق الأشياء، والحكمة والتأله والزهد والتصوف، ولزوم مذاهب الربانيين، والتهاون بأمر الجسد، والاهتمام بأمر النفس، والحرص على خلاصها من ظلمة الجهالة، واستنقاذها من بحر الهيولى، وعتقها من أسر الطبيعة، والخروج من قعر الأجسام والصعود إلى عالم الأرواح والدخول في زمر الملائكة كما ذكر الله تعالى: @QUR07 إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه؛ يعني به روح المؤمنين، وقال: @QUR04 إن الأبرار لفي نعيم، وقال: @QUR010 إن كتاب الأبرار لفي عليين * وما أدراك ما عليون؛ يعني به أنفس الأبرار، وقال: @QUR013 حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين، وقال: @QUR014 والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الجسد إذا خرج من الرحم سالما من الآفات العارضة صحيح الحواس وقوي بدن الطفل، استتبت وانبسطت قوى النفس في الجسد، وباشرت القوى الحساسة ذوات المحسوسات وأدركتها على هيئتها، ثم أدت رسومها إلى القوى المتخيلة التي في مقدم الدماغ، وأدتها المتخيلة إلى القوة المتفكرة، ثم إذا غابت المحسوسات عن مشاهدة الحواس لها بقيت تلك الرسوم مصورة في فكر النفس، فإذا تأملتها النفس وميزتها بعقلها فليست تجد شيئا سوى صورة تلك المحسوسات منتزعة إلى هيولاها ومصورة في جوهر النفس، فيكون جوهر النفس لتلك الصورة فيها كالهيولى، وتلك الرسوم فيها كالصورة.
وهكذا أيضا حال الصور المعقولة في النفس، فإنها ليست شيئا سوى صور الأجناس والأنواع، انتزعتها النفس بقوتها المفكرة وصورتها في ذاتها وحملتها كحمل الهواء صور المحسوسات.
وذلك أن الهواء يحمل الأصوات المختلفة ويؤديها إلى المسامع، ويحمل الروائح ويؤديها إلى المشام بهيئتها لا يغير منها شيئا إلا أن يعرض عارض لها؛ لأن الهواء جسم لطيف روحاني حافظ للصورة.
وهكذا الضياء يحمل الألوان ويؤديها إلى الأبصار بأصباغها ولا يخلط بعضها ببعض؛ لأن جوهر النفس أشد روحانية من جوهر الهواء والضياء جميعا.
ثم اعلم يا أخي أن النفوس الجزئية يفضل بعضها على بعض بإحدى هذه الخصال الأربع.
إحداها معارفها التي استفادتها بكونها مع الجسد، والثانية أخلاقها التي عددناها، والثالثة آراؤها التي اعتقدتها، والرابعة أعمالها التي اكتسبتها.
فإذا كانت النفس كثيرة المعارف في العلوم وحسنة الأخلاق صحيحة الآراء صالحة الأعمال، صورتها هذه الخصال صورة حسنة صحيحة بهية بهجة روحانية. فإذا فارقت الجسد واستقلت بذاتها، واستغنت بجوهرها عن التعلق بالأجسام، وانجلت عنها أصداء الطبيعة؛ أبصرت ورأت عند ذلك ذاتها، وتراءت لها صورتها فعاينت جمالها ورونقها، فرأت كل ما عملت من خير محضرا، وكلما لاحظت ذاتها ازدادت فرحا وسرورا ولذة، وذلك هو جزاؤها ونعيمها وجنتها لا نقلة لها أبدا كما قال تعالى: @QUR09 يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا.
وإذا كانت أعمالها سيئة وسيرتها جائرة، وآراؤها فاسدة وأخلاقها ردية ، ومعارفها باطلة ؛ أكسبتها هذه الخصال صورة قبيحة سمجة وحشة وهي لا تحس بها ما دامت مربوطة بالجسد مشغولة بالمحسوسات مستروحة إلى بهجة الطبيعة وزينة الهيولى، فإذا جاءت سكرة الموت وحسرة الفوت بالحق التي لا بد لكل شخص من ذلك، ولكل أجل مسمى، وهي مفارقة النفس الجسد فارقته على رغم منها جبرا وقهرا وبطلت آلات الحواس التي تنال بها اللذات الجسمانية وبقيت فارغة، نظرت عند ذلك إلى ذاتها فرأت ما عملت من سوء محضرا وتحيرت وهي صورة قبيحة سمجة وحشة واغتمت وحزنت واستوحشت @QUR06 كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم، وودت أن لو كان بينها وبينه أمدا بعيدا وتبقى على تلك الحالة متألمة معذبة في ذاتها، فذلك هو جزاؤها وأليم عذابها وجحيمها وعقابهما، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما هي أعمالكم التي ترد إليكم»، وكما قال الله تعالى: @QUR011 وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى، @QUR09 إن الأبرار لفي نعيم * وإن الفجار لفي جحيم، فأما أصحاب اليمين ففي سدر مخضود، وأما أصحاب الشمال ففي سموم وحميم. وفقك الله وإيانا وجميع إخواننا للسداد، وهداك وإيانا وجميع إخواننا سبيل الرشاد وصلى الله على النبي محمد وآله الأمجاد.
(تمت رسالة نشوء النفس ويتلوها رسالة طاقة الإنسان في المعارف.)
الرسالة الرابعة عشرة من الجسمانيات الطبيعيات في بيان طاقة الإنسان في المعارف، وإلى أي حد هو ومبلغه من العلوم، وإلى أي غاية ينتهي، وأي شرف يرتقي
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
(1) فصل
اعلم أيها الأخ، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأنا قد فرغنا من بيان كيفية نشوء الأنفس الجزئية في الأجساد البشرية، فنريد أن نذكر في هذه الرسالة طاقة الإنسان في المعارف، وإلى أي حد ينتهي فنقول:
اعلم أن الله تعالى لما خلق جسد آدم عليه السلام، أبي البشر، من التراب وصوره في أحسن تقويم، وأحسن صورته وأحكم بنيته، ثم نفخ فيه من روحه؛ صار ذلك الجسد الترابي بتلك الروح الشريف حيا عالما قادرا، ثم فضله بما علمه من الأسماء على بعض الملائكة، لا عليهم كلهم، وأمرهم بالسجود له؛ من أجل تلك الروح الشريفة التي نفخ فيه لا من أجل الجسد الترابي. وإبليس اللعين لما نظر إلى الجسد الترابي، وعرف ورأى تلك الروح الشريفة الفاضلة العالمة قال: @QUR09 أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين؛ إذ النار خير من التراب؛ لأن النار جسم مضيء متحرك يطلب العلو، والتراب جسم مظلم ساكن يطلب السفل. وكان هذا منه قياسا خطأ؛ لأن السجود لم يكن للجسد الترابي بل لتلك الروح الشريفة؛ لأن الإنسان إنما يأكل ويشرب وينام من أجل الجسد، ويتحرك ويحس ويتكلم ويعلم بالنفس الشريفة التي من أمر الله.
ثم اعلم أن العلم غذاء للنفس وحياة لها، كما أن الطعام وجميع المتنولات غذاء وشراب للجسد وحياة له.
ثم اعلم أن العلم بالأشياء بعضه طبيعي غريزي مثل ما يدرك بالحواس ومثل ما في أوائل العقول، وبعضه تعليمي مكتسب مثل الرياضات والآداب وما يأتي به الناموس.
فمن الناس من لا يرغب في التعليم والتأدب، بل يتكل على ما تدركه الحواس أو ما في قرائح العقول.
ومنهم من يرغب في التعلم والتأدب، لكن من الناس من لا يقبل من العلم إلا ما يتصور في نفسه أو يقوم عليه برهان هندسي أو منطقي.
ومنهم طائفة لا تقبل إلا ما يدل عليه قول الشاعر، وطائفة لا تقبل إلا برواية وخبر، ومنهم طائفة لا تقبل إلا بالاحتجاج والجدل، ومنهم من يرضى بالتقليد ويقنع بذلك.
وينبغي لنا أن نبين مبلغ قوة الإنسان في إدراك المعلومات والمحسوسات إلى أي نهاية، وهي جهده وطاقته في معرفة حقائق الأشياء وإلى أي حد ينتهي؛ لأن في الناس طائفة من العقلاء لما تفكروا في حدوث العالم وبحثوا عن العلة الموجبة لكونه بعد أن لم يكن لم يعرفوها ولم يتصوروا في عقولهم بدء كون العالم، فدعاهم جهلهم عند ذلك إلى القول بقدم العالم، ومنهم من لاح له شيء غير ما لاح للآخر، فاختلفت أقاويلهم في حدوث العالم والعلة الموجبة لكونه بحسب ما لاح لواحد واحد، ونحن قد بينا في رسالة لنا في المبادئ ما تلك العلة، فاعرفها من هناك.
(2) فصل
ثم اعلم أن من تفكر في كيفية حدوث العالم وعلة حدوثه بعد أن لم يكن، ويريد أن يعرفها أو يتصور كيف كان ذلك وهو جاهل لا يعرف كيفية تركيب جسده، ولا يتفكر في بنية هيكله، ولا يدري كيف كان بدء كون ذاته، ولا يعلم ماهية جوهر نفسه، ولا كيفية ارتباطها بجسده، ولا لأي علة ربطت به بعد أن لم تكن مربوطة، ولا لأي علة تفارق الجسد في آخر العمر عند انقضاء الأجل، ولا تدري أين تذهب إذا فارقت الجسد، ولا من أين جاءت قبل ذلك؛ هو يريد أن يعرف بدء كون العالم وكيفية حدوثه وما تلك العلة الموجبة لكونه مع جهله بما ذكرنا من هذه الأشياء التي هي أقرب إلى فهمه وأسهل لتعليمه وأمكن لتصوره؛ فمثله كمثل رجل لا يطيق حمل مائة رطل فهو يتكلف حمل ألف رطل، أو كمثل من لا يقدر على المشي وهو يريد أن يعدو، أو من لا يبصر يده إذا أخرجها وهو يريد أن يرى ما وراء الحجب.
ثم اعلم أنه إذا اعتبر أحوال الإنسان ومجاري أموره من ذلك وحال جثته، فإنه متوسط بين الصغر والكبر؛ فلا صغير جدا ولا كبير مفرط، فهكذا حال بقائه فهو لا طويل العمر في الدنيا ولا قصير المدة فيها.
وهكذا حال وجوده فلا هو متقدم الوجود على الأشياء ولا متأخر عنها؛ لأن من الموجودات ما هو أقدم وجودا منه كالأركان والأفلاك، ومنها ما هو متأخر الوجود عنه كالموجودات الصناعية.
وهكذا حال مكانه متوسط؛ لا هو من الطرف الأقصى من العالم، ولا هو في المركز سواء.
وهكذا حال رتبته في الشرف والدماثة متوسط؛ لأن من الموجودات ما هو أشرف منه كالملائكة المقربين، ومنها ما هو أدون منه كالبهائم.
وهكذا حاله في القوة والضعف متوسط فلا هو قوي متين ولا ضعيف مهين؛ لأن من الحيوانات ما هو أقوى منه كالأسد ، ومنها ما هو أضعف منه كالحيوانات الصغار.
وهكذا حاله في الجهل والعلم متوسط فلا هو راسخ في العلم كالملائكة ولا هو جاهل مهمل كالبهائم.
وهكذا حال معلوماته متوسط المقدار بين الطرفين؛ وذلك أن الإنسان غير محيط بالأشياء المفرطة الكثيرة كتضاعف العدد الكثير، وهو مدرك للأشياء القليلة كالجزء الذي لا يتجزأ الذي هو في جذر العشرة وما شاكله.
وهكذا حال قدرته على الموزونات، فإنه لا يمكنه وزنها إلا المتوسط منها بين الثقيل المفرط الثقل كالجبال، وبين الخفيف النذر الخفة كالذرة.
وهكذا حال قدرته على مساحة الأبعاد والمقادير لا يقدر على مساحة إلا المتوسط منها بين الواسع المفرط السعة كالبراري والبحار، وبين الضيق اللطيف كجرم الإبرة وجرم الخردلة.
وهكذا حال قوة حواسه على إدراك المحسوسات؛ فلا يحس منها إلا المتوسطات بين الطرفين.
وذلك أن القوة الباصرة لا تقوى على إدراك الألوان في الظلمة الظلماء، ولا على إدراكها في النور الباهر كالنظر إلى عين الشمس في نصف النهار في يوم الصيف.
وهكذا قوة السمع لا تطيق استماع الصاعقة لشدتها وجلالتها، ولا تقوى أيضا على إدراك دبيب النملة لخفائها وخمولها.
وهكذا القوة الذائقة والقوة الشامة والقوة اللامسة، لا تقوى على إدراك محسوساتها إلا المتوسطات منها؛ وذلك أن الحر المفرط والبرد المفرط يفسدان المزاج ويخرجانه عن الاعتدال.
وهكذا الطعم المفرط وهكذا الرائحة المفرطة يفسدان آلات الحواس ويغيران المزاج والإحساس، وهذا يكون من اعتدال المزاج. وقد بينا في رسالة لنا كيفية إدراك الحواس لمحسوساتها واحدا واحدا، فاعرفه من هناك.
وهكذا قوة علم الإنسان ومعرفته بالأمور الماضية وأخبار الماضين مع الزمان البعيد لا يمكنه علمها إلا ما قرب كونه من زمانه؛ مثل معرفتنا بآبائنا وأجدادنا القريبين منا، ومثل علمنا بأخبار بني إسرائيل وما كان بعد الطوفان أو قبل ذلك إلى آدم عليه السلام.
فأما ما كان قبل آدم عليه السلام من أخبار الملائكة وقصة الجان الذين كانوا يفسدون في الأرض قبل خلق آدم عليه السلام فليس للبشر علم بها، ولا لهم ميل إلى معرفتها إلا من طريق الوحي عن الملائكة تسليما.
وهكذا علم الإنسان بالأمور الآتية في الزمان المستقبل لا يمكنه معرفتها والاستدلال على كونها بدلائل النجوم إلا ما يكون قريب الكون؛ مثل استدلال المنجمين بالقرانات التي تكون في كل عشرين سنة مرة، وفي كل مائتين وأربعين سنة مرة، وفي كل تسعمائة وستين سنة مرة.
وأما القرانات التي تكون في كل ثلاثة آلاف وثمانمائة وأربعين سنة مرة وفي كل سبعة آلاف سنة، فليس على معرفة الاستدلال بها على الكائنات سبيل؛ لبعدها من الزمان المستقبل.
وهكذا قوة عقل الإنسان متوسطة لا يقوى على تصور الأشياء المعقولة إلا لما كان متوسطا بين الطرفين من الجلالة والخفاء؛ وذلك أن من الأشياء المعقولة ما لا يمكن عقل الإنسان إدراكه وإحاطة العلم به لجلالته وشدة ظهوره وبيانه ووضوحه؛ مثل جلالة الباري عز وجل، فإنه لا يقوى عقل الإنسان على إدراكه وإحاطة العلم بماهية ذات جلالته وشدة ظهوره ووضوح بيانه لا لخفاء ذاته وشدة كتمانه.
ومثل عجز الإنسان عن تصور صورة العالم بكليته لشدة كبره وظهوره لا لصغره وخفائه، ومثل عجزه أيضا عن إدراك الصور المجردة عن الهيولى لشدة صفائها ولطافتها ونفوذها في الأشياء.
ومن الأشياء ما لا يمكن إدراكها وتصورها لخفائها ودقتها وصغرها مثل الجزء الذي لا يتجزأ، ومثل الهيولى الأولى المجردة من الصور والكيفيات، ومثل عجزه أيضا عن معرفة كيفية تصوير الجنين في الرحم وخلقة الفرخ في جوف البيضة والحب في الغلف والثمر في الأكمام.
ثم اعلم أن هذه الأشياء التي تدرك حسا مفروغ من صنعتها، فأما في وقت تكوينها فالحس لا يدركها والوهم لا يتصورها، فمن يريد أن يعلم كيفية حدوث العالم وعلة كونه فينبغي أن يتفكر أولا في هذه الأشياء، فيعلمها ويتصور كيفية حدوثها، ثم بعد ذلك يتفكر في كيفية حدوث العالم وعلة كونه، فمن ادعى أنه يعرف ذلك فليخبرنا عن صورة العالم كيف هي على ما هي عليه الآن؛ لأن حواسه هي تباشرها وتشاهدها، ودع ما كان مضى مع الزمان الماضي لنسيانه عن ذلك أو الذي يكون في الزمان المستقبل كيف يكون؛ أو فليخبرنا عن علة كثرة الكواكب وعلة أبعادها ومقاديرها وأعظامها وحركاتها وما هي عليه الآن، وما العلة في ذلك؛ أو فليخبرنا عن المجرة وما هي، فإنا لم نجد إلى وقتنا هذا أحدا من الحكماء قد قال فيها قولا مرضيا؛ أو فليخبرنا عن شيء واحد وهو الأثر الذي نراه في وجه القمر ما هو، والناس يشاهدونه دائما، ودع ما لا يشاهدونه من كون العالم؛ أو فليخبرنا عن علة اختلاف أجناس المعادن وأشكال الناس وهياكل الحيوان بما هي عليه الآن، وما العلة في ذلك.
(3) فصل
ثم اعلم أنه ليس إلى معرفة علل هذه الأشياء وصول، إلا أن تؤخذ من الأنبياء عليهم السلام تقليدا كما أخذوها عن الملائكة تسليما.
ثم اعلم أن نسبة علم البشر إلى علم الملائكة ومعرفتهم كنسبة علم حيوان البحر إلى حيوان البر ومعرفتها بأمورها، وكعلم حيوان البر إلى علم البشر ومعرفته بأمورها؛ وذلك أن حيوان الماء لها حس وحركة وتمييز تتصرف فيها من طلب غذائها ومصالحها ومنافعها والهرب من عدوها وعرفانها ذكرانها وإناثها وأبناء جنسها.
فأما إحساسها بأحوال حيوان البر ومعرفتها بأمورها فليس لها إلى معرفة ذلك إلا شيء يسير.
وهكذا حيوان البر بأحوال البشر ومعرفتها بأمور الناس فليس لها إلا شيء يسير.
وهكذا علم البشر بأحوال الملائكة ومعرفتهم بأمور الذين في فضاء الأفلاك وطبقات السموات فليس لهم بها علم إلا شيء يسير.
وهكذا أحوال الملائكة في مراتبها ومقاماتها متفاوتة متباينة، الأول فالأول والأشرف فالأشرف، وفوق كل ذي علم عليم، وإلى ربك المنتهى، كما أخبر عز وجل عن أحوال الملائكة في مراتبها ومقاماتها فقال تعالى: @QUR018 قل هو نبأ عظيم * أنتم عنه معرضون * ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون، وقال في حكاية عن الملائكة: @QUR014 وما منا إلا له مقام معلوم * وإنا لنحن الصافون * وإنا لنحن المسبحون، وقال: @QUR011 وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر؛ يعني أجناس الملائكة وقبائل الجن والإنس والحيوانات أجمع.
ثم اعلم أن علم جميع الخلائق بالنسبة إلى علم الله تعالى ليست إلا كالجزء اليسير كما قال تعالى: @QUR017 ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله؛ يعني علم الله، قال: @QUR08 ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء. ونحن قد جعلنا هذه الرسالة تنبيها لإخواننا على نهاية مبلغ طاقة الإنسان في العلوم والمعارف، وتوبيخا لأقوام جهال يعارضون العلماء بالكلام والجدال ويسألونهم عن علل أشياء ليس في طاقة الإنسان معرفتها، وهم قد تركوا البحث عن أشياء واجب عليهم تعلمها والبحث عنها ثم لا يسألون عنها ولا يتفكرون فيها لجهلهم.
(4) فصل
اعلم أنه ليس من علم ولا عمل ولا تجارة إلا وبين أهلها فيها منازعة وخلف، فمن ذلك الخلف الذي بين العلماء في حدوث العلم وقدمه، وهما طائفتان الفلسفية والشريعة؛ فالأنبياء عليهم السلام كلهم يرون ويعتقدون أن عالم الأجسام محدث لا شك فيه.
وهكذا يرى بعض الفلاسفة الفضلاء الراسخون في العلم، فأما المتفلسفة الناقصون فمشككون فيما يقولون متحيرون فيما يزعمون من قدم العالم.
وهكذا حكم كثير من أتباع الأنبياء عليهم السلام والمقربون بما خبرت به، فإنهم شاكون أيضا فيما يقلدون ومتحيرون فيما يعتقدون. وأعيذك أيها الأخ الفاضل بالله أن تكون منهم؛ لأن ما مثلهم في هذه الرسالة وما يختلفون فيها إلا كمثل أولئك الصبيان الأغبياء البله الجهلاء.
وذلك أنه كان رجل حكيم له أولاد صغار، وكان فيهم جماعة أذكياء فهماء نجباء، وكان فيهم جماعة أغبياء بله جهلاء، فنظر أولئك الإخوة يوما في بعض خزائن أبيهم فوجدوها مملوءة بالحلاوة، مختلفة الطعام والألوان والروائح والأشكال، فتأملوها وفكروا فيها، فوقع في أفكارهم أن قالوا ألا ترى من عمل هذه العجائب وصور هذه الأشكال ومن صنع هذه الألوان.
فمن كان منهم ذكيا فهيما مدركا نجيبا علم أنه عمل صانع حكيم، ومن كان منهم غبيا أبله ساهيا خفي عليه ذلك وانغلق.
ثم تفكر الذين علموا أنه صنعة الحكيم أترى من أي شيء عملها وبأي شيء صورها. فمن كان منهم أذكى وأفهم علم أنه من شيء آخر عملها، ومن كان دونهم في الفهم والذكاء خفي عليه ذلك.
ثم تفكر الذين علموا أنه من أي شيء عملها ترى كيف عملها ولم صورها بهذه الأشكال. فمن كان منهم أذكى وأفهم وأنجب عقل ذلك وتصورها وتحقق واستغنى عن سؤال لم وكيف. ومن كان منهم دون ذلك في المرتبة خفي عليه وقصر فهمه عنه وتوقف يتفكر ويتروى في ذلك.
ثم عند ذلك سألوا إخوة لهم بالغين عاقلين عن هذه الحلاوة، فأجابوا أنها عملها الحلواني، فقالوا: من الحلواني؟ فقالوا: صانع حكيم. فمنهم من فهم وعقل وصدقهم، ومنهم من خفي عليه لغباوته فكذب وأنكر؛ إذ لم ير الحلواني قبل ذلك ولا سمع بذكره.
ثم سأل أولئك الإخوة الصغار إخوانهم الكبار البالغين العقلاء أترى من أي شيء عمل الحلواني هذه العجائب، فأجابوهم أنه عملها من السكر والدهن والنشاء. فمنهم من صدقهم إذ كان موفقا هادئا مؤيدا رشيدا، ومنهم من كذب وأنكر إذ لم يروا هذه الأشياء عيانا ولم يعرفوها عقلا.
ثم قالوا: أرونا منها شيئا. فقالوا لهم: لم يبق للصانع منها شيء، بل استعملها كلها. فمنهم من كان موفقا فصدقهم، ومنهم من كذب وأنكر ولم يرشد.
ثم إنهم سألوهم كيف عمل الحلواني هذه، قالوا بنى الدبكدان وأوقد النار ونصب الطنجير وصب فيه الدهن، وطرح فيه السكر وحركها بإسطام وعقدها بالنشاء. فمن كان منهم أذكى فهما تصوره بجودة ذكائه وحسن رويته وقريحة قلبه وصفاء جوهر نفسه وضياء نور عقله، ومنهم من عميت عليه الأنباء إذ لم يكن له ذكاء ولا لقلبه صفاء ولا لنور عقله ضياء.
ثم إن أولئك الإخوة اختلفوا فيما بينهم، وصاروا فرقا يتجادلون فيما بينهم في هذه المسألة ويتنازعون ويتخاصمون، وأنشبت بينهم نيران الفتنة والبغضاء.
ثم إن والدهم الشفيق رثى لهم ورحمهم لما رأى ما وقعوا فيه من المحنة والبلوى، وأمر بعض إخوانهم العقلاء المستبصرين أن يكونوا قضاة وعدولا بينهم ويقضوا الحكم بأرفق ما يقدرون عليه.
فقال لهم: إذا سألكم إخوتكم وتحاكموا إليكم فيم يختلفون فيه، فأرشدوهم ودلوهم على ذلك. فكان من جواب أولئك الإخوة القضاة إذا سئلوا عن عمل هذه الحلاوات، أجابوا إخوتهم بأنها من عمل أبيهم، فسكنت نفوس أولئك الإخوة الصغار إلى قولهم؛ لأن معرفتهم بأبيهم أقرب إلى فهمهم من معرفتهم بالحلواني.
وإذا سألوهم من أي شيء عمل، قالوا لا من شيء تعرفونه، فسكنت نفوسهم إلى قولهم أكثر من سكونهم إلى قول من أجاب أنه عمل من السكر والشيرج والنشاء؛ لأن الصبيان قد تبين لهم بأن أشياء كثيرة ما رأوها بعد ولا عرفوها.
وإذا سألوهم كيف عملها وكيف صورها، قالوا كما شاء وكيف شاء.
وكانت هذه الجوابات أسكن لنفوسهم من قول من يطول فيه الخطب، وقال كيت وكيت وفعل وصنع.
فهذا مثل اختلاف العلماء في حدوث العالم وقدمه والسائلين لهم وإخوتهم المجيبين عنه، فمثل العالم بما فيه من العجائب وطرق أجناس الموجودات وغرائبه وصنوف صنائع المصنوعات، كمثل تلك الخزانة المملوءة من الحلاوة.
ومثل السائلين عن حدوث العالم وكيفية صنعته وعن هيولاه وصنايعها، كمثل سؤال أولئك الإخوة الصغار الضعفاء العقول القليلي الفهم.
ومثل ذلك الإخوة العقلاء الذين سئلوا فأجابوا بشرح طويل فأوقعوا الخلف بين الإخوة، كمثل الفلاسفة في أجوبتهم عن كيفية حدوث العالم والهيولى والصورة والعنصر والطبيعة وما شاكلها من الألفاظ الغريبة المعاني البعيدة التصور.
ومثل أولئك الإخوة القضاة والعدول في أجوبتهم كمثل الأنبياء عليهم السلام وخلفائهم.
ومثل ذلك الأب الشفوق الرحيم هو الباري تعالى باعث الأنبياء عليهم السلام؛ ليكونوا قضاة بين خلقه فيما يختلفون فيه من هذه المسائل، ويجيبونهم بحسب ما يليق بعقولهم ومبلغ فهمهم.
(5) فصل
ثم اعلم أنا قد أخبرنا عن علة حدوث العالم وبينا كيفية صنعته وماهية هيولاه وصورته في المبادئ العقلية مثل ما ذكر القدماء الفضلاء الموحدون منهم القائلون بحدوث العالم.
ولكن يحتاج الناظر فيها والسائل عن هذه المسائل أن تكون له نفس زكية وفهم دقيق وقوة روية وجودة تصور روحانية كما يفهمها، فمن لم يفهم ما وصفنا فينبغي له أن يقنع بما قالت الفلاسفة؛ إن العالم معلول وعلته الباري. وربما قالت الأنبياء بأجمعها عليهم السلام إن العالم بأسره مخلوق وإن الله عز وجل هو خالقه ومبدعه ومخترعه.
فإن لم يعقل ما قالت الفلاسفة وما أخبرت عنه الأنبياء عليهم السلام، ولم يثق بقولهم ولم تسكن نفسه إلى حكمهم، ولم يطمئن إلى قولهم ويتكل على ما تخيله القوة الوهمية؛ فلا ينبغي له أيضا أن يثق بحكمها ولا أن يسكن إلى تخيلها؛ لأنه تخيل ما له حقيقة وما لا حقيقة له، فلا يوثق به ولا يحكم بصحته كما لا يثق ولا يحكم بصحة القوة الباصرة إذا أرتك لون شيء من الطعام بأن تحكم على حقيقته إلا بعد أن تستعين بالقوة الشامة، فإن عرفت حقيقته وإلا استعنت بالقوة الذائقة.
فهكذا ينبغي لك يا أخي إذا شككت في مسألة مشكلة ألا تثق بنفسك دون أن تستشير فيها إخوانك الكرام الفضلاء، كما تستعين في أمور الدنيا إذا لم تنهض بشيء منها بإخوانك وجيرانك وأصدقائك الفضلاء الكرام.
فهكذا يجب أن تكون سيرتك في أمر الدين وطلب الآخرة. وفقك الله أيها الأخ للسداد، وهداك إلى سبيل الرشاد وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد.
(6) فصل
ثم اعلم أن الحكماء الأولين قد تكلمت في فنون من العلوم وضروب من الآداب وغرائب من الحكم كثيرة لا يحصي عددها إلا الله الواحد القهار.
فمنها من تكلم في تركيب الأفلاك وأحكام النجوم.
وتكلموا أيضا في الطب والطبائع والكائنات التي تحت فلك القمر، وقوم من العلماء الشرعيين ينكرون أكثره.
إما لقصور فهمهم عما وصف القوم أو لتركهم النظر فيها واشتغالهم بعلم الشرع وأحكامه أو لعناد بينهما.
وكذلك أيضا إن أكثر من ينظر في العلوم الحكيمة، من المبتدئين فيها والمتوسطين من بينهم، يتهاونون بأمر الناموس وأحكام الشريعة ويزرون بأهله ويأنفون من الدخول تحت أحكامه إلا خوفا وكرها من قوة الملك الذي هو أخ النبوة.
كل ذلك لقصور فهم الفريقين جميعا عن معرفة حقائق هذه الأشياء المذكورة ولقلة علمهم أيضا بماهيات الكائنات.
ولما كان مذهب إخواننا الفضلاء الكرام النظر فيها جميعا والكشف عن حقائق أشيائها، أعني العلوم الحكمية والنبوية جميعا، وكان هذا العلم بحرا واسعا وميدانا طويلا؛ احتجنا أن نتكلم فيما دعت الضرورة إلى عمل هذه الرسائل التي هي إحدى عشرة وخمسون رسالة، والكلام فيها بأوجز ما يمكن وإيراد النكت التي هي اللب، ولا يفهم ذلك إلا بأمثال تضرب ليقرب من فهم المبتدي النظر في العلوم، وتسهل تصور الحقائق للمتأملين.
ثم اعلم أن العلوم الحكمية والشريعة النبوية كلاهما أمران إلهيان يتفقان في الغرض المقصود منهما الذي هو الأصل ويختلفان في الفروع.
وذلك أن الغرض الأقصى من الفلسفة هو ما قيل إنها التشبه بالإله بحسب طاقة البشر كما بينا في رسائلنا أجمع، وعمدتها أربع خصال؛ أولها معرفة حقائق الموجودات، والثانية اعتقاد الآراء الصحيحة، والثالثة التخلق بالأخلاق الجميلة والسجايا الحميدة، والرابعة الزكية والأفعال الحسنة.
والغرض من هذه الخصال هو تهذيب النفس والترقي من حال النقص إلى التمام، والخروج من حد القوة إلى الفعل بالظهور لتنال بذلك البقاء والدوام والخلود في النعم مع أبناء جنسها مع الملائكة.
وهكذا الغرض من النبوة والناموس هو تهذيب النفس الإنسانية، وإصلاحها وتخليصها من جهنم، عالم الكون والفساد، وإيصالها إلى الجنة ونعيم أهلها في فسحة عالم الأفلاك وسعة السموات والتنسم من ذلك الروح والريحان المذكور في القرآن، فهذا هو المقصود من العلوم الحكيمة والشريعة النبوية جميعا.
وأما اختلافهما في الطرق المؤدية إليها فمن أجل الطبائع المختلفة والأعراض المتغايرة التي عرضت للنفوس، وبذلك اختلفت موضوعات النواميس وسنن الديانات ومفروضات الشرائع، كما اختلفت عقاقير الأطباء وعلاجاتها بحسب اختلاف الأمراض العارضة للأجساد من الآلام والأوجاع وبحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة.
ومثال آخر في اختلاف سنن الديانات النبوية والفلسفية جميعا وفنون مفروضات النواميس والمقصد واحد، كاختلاف طرقات القاصدين نحو بيت الله الحرام وتوجههم شطره بحسب مواضع بلدانهم ومراحلهم ومرافقهم من البيت شرقا وغربا وجنوبا وشمالا كما بينا في رسالة جغرافيا.
(7) فصل
ثم اعلم أن الموجودات كلها نوعان: كلية وجزئية.
فالموجودات الكلية الدائمة الوجود والبقاء؛ لأنها ابتدأت في الترتيب من أشرفها وأتمها إلى أدونها وأنقصها كما بينا في رسالة المبادئ العقلية.
والموجودات الجزويات دائمة في الكون متوجهة نحو التمام؛ لأنها تبتدئ بالكون من أنقص الوجود متوجهة إلى أتم الوجود، ومن أدون الأحوال مترقية إلى أشرفها وأتمها.
ثم اعلم أن الإنسان هو من الأمور الجزوية، وهو مجموع من جوهرين: أحدهما هذا الجسد الجسماني، والآخر هو النفس الروحانية؛ فأنقص حالات جسده ابتداؤه من النطفة متوجها إلى أن يصير رجلا جلدا، وأنقص حالات نفسه وأدونها أن تكون ساذجة لا تعلم شيئا كما قال الله تعالى: @QUR08 والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وأتم حالاتها أن تخرج كل ما في قوتها من الفضائل إلى الفعل، وهو أن يصير الإنسان مؤمنا حقا عالما ربانيا حكيما فيلسوفا محققا، كما قال تعالى: @QUR07 وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم، وقال: @QUR05 علم الإنسان ما لم يعلم، وقال: @QUR02 كونوا ربانيين.
ثم اعلم أن كل عمل متقن فمن صانع حكيم في أولية العقل، وكل فاعل حكيم فله في فعله غرض ما، والغرض هو غاية يسبق إليها وهم النفس، وإذا بلغ الفاعل إلى الغاية قطع الفعل.
ثم اعلم أن دوران الأفلاك فعل متقن؛ ففاعله إذن حكيم، فله إذن في إدارة الأفلاك غرض ما، فإن كان قد بلغ إلى غرضه فسبيله أن يقطع الفعل ليقف الفلك عن الدوران.
فأما الأجسام، فإن أفضلها ما كان يظهر عنه أفضل فعل، وأجل النفوس ما بدا منها العلم وزال عنها الجهل.
ثم اعلم أن ألذ ما يأكل الإنسان هو العسل، وأنعم ما يلبس هو الإبريسم، فإن كان الفاعل لهما هي الدودة والزنابير، فإذن أصغر الأجسام أكرمها فعلا، وقد قام البرهان بأن الجسم لا فعل له البتة.
ولا يخفى عليك بأن الزرع والشجر في إخراج الحب والثمر، وغايتهما الحصاد، وتمام الغرض منهما بعد ذلك تمام الحيوان في الإدراك، وغايته النتاج، وحصاده وصرامه الموت.
فالغرض من الحيوان إذن بعد الموت، كذلك الحب إذا لم يتم ولم يستحكم قبل حصاد الزرع لا ينتفع به بعد الحصاد، كذلك الثمر إذا لم ينضج وينعقد قبل إخراجه لم ينتفع فيما يراد منه.
وهكذا حكم النفس الإنسانية إذا هي لم تتم بالمعارف الحقيقية صورتها، ولم تستتم بالأخلاق الجميلة جوهرها، ولا بالآراء الصحيحة عقلها، ولا بالأعمال الزكية ذاتها في الدنيا؛ لا تنتفع بعد مفارقة الجسد بحياتها، ولا تستقل بذاتها، ولا تلتذ بالنعيم في الآخرة على التمام والكمال. كما أن الجنين إذا لم تستتم في الرحم خلقته ولم تستكمل هناك صورته، لا ينتفع بالحياة في الدنيا.
فهكذا حكم النفس؛ لأن موت الجسد ولادة النفس كما أن الطلق ولادة الجنين. فانتبه أيها الأخ من نوم الغفلة ورقدة الجهالة؛ فإن الغرض في ذلك أن تصير ملكا بالفعل؛ فاجتهد غاية الجهد، وقو ظهرك بالحبل المتين واعتصم بحبل الله @QUR09 والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين واجتهد أن تتوجه نحو الصراط المستقيم؛ إذ ذلك أقرب طرق من الخط المعوج إلى الغرض الأقصى لتنال بذلك السعادة وبقاء الأبد، وتتلذذ بلذات النعيم من الروح والريحان والحور والغلمان. وفقك الله وإيانا وجميع إخواننا للسداد، إنه رءوف بالعباد، وبحق محمد وآله الأمجاد، صلوات الله عليهم إلى يوم التناد.
(تمت الرسالة في بيان طاقة الإنسان، ويتلوها رسالة حكمة الموت والحياة.)
الرسالة الخامسة عشرة من الجسمانيات الطبيعيات في حكمة الموت والحياة
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
(1) فصل
اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، إنه لما فرغنا من بيان طاقة الإنسان في المعارف إلى أي حد تنتهي، وبينا الغرض من النواميس الشرعية النبوية والعلوم الحكمية الحقيقية، وهو تهذيب النفس فحسب واستدعاء الخلق إلى الله تعالى، فنريد أن نذكر في هذه الرسالة ماهية حكمة الموت والحياة وما الحكمة في وجودهما.
فنقول: اعلم أن افتتاح جميع العلوم الحقيقية هو في معرفة الإنسان نفسه، ولما كان الإنسان هو جملة مجموعة من جوهرين متباينين وأعراض تحلهما، أحدهما هذا الجسد الجسماني والآخر هو النفس الروحانية، كما بينا في الرسالة التي ذكرنا فيها أن الإنسان عالم صغير، وكان جوهر النفس أشرف من جوهر الجسد صار علم الإنسان بجوهر النفس وأحوالها أشرف من علمه بجوهر الجسد وأحواله.
وقد بينا ماهية الجسم وصفاته المخصوصة به في رسالة الهيولى ورسالة الحاس والمحسوس، ونريد أن نتكلم ها هنا في علم النفس وأحوالها، فنقول:
لما كان علم الإنسان ومباحثه بالمعلومات من تسعة أوجه - كما بينا في رسالة الصنائع العلمية - وهي: هل هو، وما هو، وكيف هو، وكم هو، وأين هو، ومتى هو، ولم هو، ومن هو، كما بينا ذلك في رسالة قاطيغورياس.
ثم نريد أن نذكر من هذه المباحث في أمر النفس الجزئية الإنسانية طرفا، فنقول: ما هي، وكيف هي، وكم هي، مع هذا الجسد وأين كانت قبل رباطها، وكيف تكون حالها إذا فارقته، ولم ربطت بالجسم، وما الغرض في ذلك؟
واعلم أنه قد بينا ماهيتها في رسالة العقل والمعقولات، وكميتها في رسالة العالم إنسان كبير، وأين كانت النفس الجزئية قبل رباطها بالأجساد في رسالة مسقط النطفة، وأين تكون إذا فارقت الجسد في رسالة البعث والقيامة، ونريد أن نذكر في هذه الرسالة الملقبة بحكمة الموت كيف كونها مع الجسد ولم ربطت بالجسم ولم تفارقه.
ولما كانت الأنفس الجزئية قوى منبثة من النفس الكلية في الأجسام الجزئية التي تحت فلك القمر، احتجنا أن نذكر أولا النفس الكلية التي هي نفس العالم بأسره، ولم ربطت بالجسم الكلي الذي هو جملة العالم من أقصى فلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض بعون الله تعالى.
(2) فصل في غرض رباط النفس الكلية بالجسم الكلي حسب ما تبين ها هنا
فنقول: إنه لما كانت الموجودات كلها مرتبة، بعضها تحت بعض، متعلقة في الوجود بالعلة الأولى، الذي هو الباري تعالى، كتعلق العدد وترتيبه عن الواحد الذي قبل الاثنين، كما بينا في رسالة المبادئ العقلية، وكانت النفس أحد الموجودات، وكانت مرتبتها دون العقل وفوق الجسم المطلق، وكان الجسم فارغا من الأشكال والصور والنقوش والحياة قابلا لها بالطبع، وكانت النفس حية بالذات علامة بالقوة فعالة بالطبع، ولم يكن من الحكمة الإلهية والعناية الربانية أن تترك النفس فارغة غير مشغولة بضرب من الحكمة، وأن يكون الجسم مع قبوله للتمام عاطلا ناقص الحال، ولم يكن للنفس أن تتحكم على الموجودات التي فوق رتبتها الذي هو العقل الفعال عطفت النفس بواجب الحكمة على الجسم المطلق، إذ كان دونها في الرتبة، فتحكمت فيه بالتحريك له والشكل والتصاوير والنقوش والأصباغ، ليتم الجسم بذلك وتكمل النفس أيضا بإخراج ما في قوتها من الحكمة والصنائع إلى الفعل والظهور والإظهار تشبها بحكمة الباري تعالى؛ إذ لم يقتصر على علمه بالكائنات قبل كونها حتى أخرجها إلى الوجود بعد العدم؛ ليظهر الكل للجزء ويشاهد الجزء الكل ويخرج ما في القوة من الحكمة والصنائع إلى الفعل والظهور.
فمن أجل هذا ربطت النفس الكلية بالجسم الكلي المطلق الذي هو جملة العالم من أعلى فلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض، وهي سارية في جميع أفلاكه وأركانه ومولداته، ومدبرة لها ومحركة بإذن الله تعالى وتقدس.
(3) فصل في سريان النفس الكلية في الجسم الكلي
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه إذا فاضت قوى النفس الكلية الفلكية في الجسم الكلي - الذي هو جملة العالم الجسماني - ابتدأت من أعلى فلك المحيط متوجهة نحو مركز العالم، وسرت في الأفلاك والكواكب والأركان الأربعة والأوقات الزمانية أولا فأولا، حتى إذا بلغت إلى منتهى مركز العالم اجتمعت كلها هناك، ويكون ذلك سببا لكون الأجسام الجزئية الكائنة الفاسدة التي دون فلك القمر، وهي الحيوانات والنبات والمعادن؛ لأنها إذا علت إلى أقصى مدى غاياتها، الذي هو الغرض الأقصى بطول الزمان، وعطفت عند ذلك راجعة - أعني تلك القوى نحو المحيط - فيكون سبب بعث الأنفس الجزئية الإنسانية الكلية من الأجسام الفاضلة، وهذا قول مجمل يحتاج أن نشرحه ونبين أيضا أن الموت حكمة.
واعلم أن الحيوانات كلها تكره الموت وتحب الحياة، ولكن من أجل أن كثيرا من العقلاء يقولون إن الموت حق، وفي ذلك حكمة، ولا يدرون ما تلك الحكمة، ويحتجون بقوله تعالى: @QUR08 الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا، ولا يدرون معنى قوله تعالى وما المراد في ذلك، ثم إنهم مع إقرارهم بذلك، كلهم يحبون الحياة ويكرهون الموت، ثم يذمون الحياة عند تنغيص العيش ويتمنون الموت عند الشدائد، احتجنا أن نبين ما الموت وما الحياة، ولم يكره الموت وتحب الحياة، وما الحكمة في خلقتهما.
(4) فصل في اعتبار الموت والحياة
فاعلم أنه إذا فكر العاقل العالم في تركيب هذا الجسد وما هو عليه من إتقان البنية وإحكام الصنعة - كما ذكر في كتاب التشريح، وكتاب منافع الأعضاء بشرح طويل - من عجائب تأليف أعضائه وغرائب تركيبه وحسن هندام مفاصله، وكيفية تشعب الأعصاب الممتدة على أعضائه وعظامه المؤتلفة عليها المتمكنة بمفاصلها المنتشرة إلى أطراف بدنه المنشأة منها الأوتاد اللينة الرقيقة للحس وللشعور، وكيفية تشعب العروق الواردة التي منشؤها من عمق الكبد المنتشرة في خلل اللحم الموردة للدم إلى أطراف البدن، وكيفية تشعب العروق الضاربة التي منشؤها من القلب المنتشرة في عمق البدن الموصلة للنبض إلى أطراف الجسد، وكيفية طبقات بنية بدنه بعضها فوق بعض، كما بينا في رسالة تركيب الجسد والأوعية المعدة للأغراض المختلفة لجر المنفعة أو لدفع المضرة، وكيفية ابتدائه من النطفة وتتميمه في الرحم ونشئه في أيام الصبى وتكميله في أيام الشباب وتنضيجه في أيام الكهولة؛ فيرى أنه غاية الكمال والحكمة والصواب والإتقان.
ثم إذا تفكر في أيام الشيخوخة وفي ذهاب قوته وتغييرات رونقه وإدباره ونقصانه، ثم هدمه بالموت وتغيره بعد ذلك بالانتفاخ والنتن وفساده، ثم كيف يبلى في التراب ويضمحل ولا يعرف ما وجه الحكمة فيه، فيتحير ويتشكك ويضل عن الصواب؛ فمن أجل هذا احتجنا أن نذكر في هذه الرسالة الموت والحياة ونبين ما الحكمة في خلقهما وكونهما.
واعلم أنه إذا فكر العاقل اللبيب في خلقة الرحم وحال المشيمة وكون الجنين من النطفة، وكيفية ذلك المكان وما قد أعد هناك من المرافق والمرافل لتتميم الخلقة وتكميل الصورة، فيراها في غاية الحكمة وإتقان الصنعة من الصواب وما يتعجب منه أولو الألباب.
ثم إذا فكر في حال الولادة وكيف ينقلب في الرحم وتنخرق المشيمة وتنقطع تلك الأوتار وتسترخي تلك الرباطات التي كانت تمسك الجنين هناك، وكيف يسيل الدم والرطوبات المعدة التي كانت هناك لمرافقه، وما تلقاه الوالدة من الجهد والشدة، فإنه يرى شيئا يدهش العقل ويحير أولي الأبصار والألباب.
ولكن لما كان من حال ما ينقل إليه الجنين من فسحة هذا العالم وطيب نسيمه وإشراق أنواره، وما يستأنف الطفل من العمل في مستقبل العمر من لذة العيش والتمتع بنعيم الدنيا، وإذا قدر ونجاه الله من ذلك المكان الضيق المظلم الناقص الحال بالإضافة إلى أحوال هذه الدار من التصرف والتقلب، فيرى أن الحكمة والصواب كان في الخروج من هناك.
فهكذا ينبغي لك يا أخي أن تعتبر لتعلم أن حال النفس مع الجسد كحال الجنين في الرحم، وأن حالها بعد الموت كحال الطفل بعد الولادة؛ لأن موت الجسد ولادة النفس.
وكذلك ولادة الطفل ليست شيئا سوى خروجه من الرحم.
وكذلك ولادة النفس ليست هي شيئا سوى مفارقة النفس إياه.
(5) فصل في ماهية الحياة
فنقول: اعلم أن الموت والحياة نوعان: جسداني ونفساني، والحياة الجسدانية ليست شيئا سوى استعمال النفس الجسد، والموت الجسداني ليس شيئا سوى تركها استعماله، كما أن اليقظة ليست شيئا سوى استعمال النفس الحواس، وليس النوم شيئا سوى تركه استعمالها.
فأما النفس فحياتها ذاتية لها؛ وذلك أنها بجوهرها حية بالفعل علامة بالقوة فعالة في الأجسام والأشكال والنقوش والصور طبعا وأن موتها هو جهالتها بجوهرها وغفلتها عن معرفة ذاتها، وأن ذلك عارض لها من شدة استغراقها في بحر الهيولى ولبعد ذهابها في هاوية الأجسام ولشدة غرورها في الشهوات الجسمانية، والناس أكثرهم لجهالاتهم بجوهر نفوسهم وغفلتهم عن حياتها الأبدية لا يعرفون إلا هذه الحياة الدنيا الجسدانية الدنية المتقطعة @QUR06 وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور، @QUR012 أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد، فصاروا يريدون البقاء في الدنيا ويتمنون الخلود فيها كما قال تعالى: @QUR010 يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، وقال يريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة @QUR03 والآخرة خير وأبقى، وقال: @QUR04 والآخرة خير لمن اتقى، وقال: @QUR08 وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ... وآيات كثيرة في ذم الذين يريدون الحياة الدنيا هي حياة الجسد، ويغفلون عن الحياة الآخرة التي هي حياة النفس بالحقيقة، وتلك حياة أبدا دائما، فأما ماهية حياة الجسم فنقول:
اعلم أن الجسد ميت بجوهره، وأن حياته عرضية لمجاورة النفس إياه، كما أن الهواء مظلم بجوهره، وإنما ضياؤه بإشراق نور الشمس عليه والقمر والكواكب.
والدليل على أن الجسد ميت بجوهره ما يرى من حاله بعد مفارقة النفس له؛ كيف يتغير ويفسد ويتلاشى ويرجع إلى التراب كما كان بديئا @QUR04 منها خلقناكم وفيها نعيدكم.
(6) فصل في غرض رباط النفس الجزئية بالجسد الجزئي
فنقول: اعلم أنما ربطت الأنفس الجزئية كيما تكمل بالرياضة وتخرج ما في جوهرها من الحكمة والصنائع والفضائل من حد القوة إلى حد الفعل لتتم الهيولى الجزئية.
وتكمل هي أيضا ويتشبه ذلك الجزء بالكل، وهو أن تتعلم النفس الجزئية السياسة والتدبير والتهذيب بالأخلاق الجميلة والآراء الصحيحة والأعمال الزكية والمعارف الحقيقية.
وهكذا تشبه الجزء بالكل كما قيل في حد الحكمة إنها التشبه بالإله بحسب الطاقة الإنسانية.
وإذا بلغت النفس الإنسانية إلى أقصى مدى غاياتها، وكملت بما أظهرت من الفضائل وهدم الجسد، نقلت هذه الأنفس بعد مفارقة الجسد إلى حالة أخرى ونشوء آخر أعلى وأشرف من هذا الجسد المؤلف من اللحم والدم والأخلاط الأربعة القابلة للكون والفساد، كما قال الله تعالى: @QUR05 وننشئكم في ما لا تعلمون.
ثم إن الله ينشئ النشأة الآخرة، فتكون نسبة تلك الحال التي تنقل إليها النفس بعد مفارقة الجسد بالإضافة إلى هذه الحال، كنسبة حال الجسد في الرحم إلى الحال التي نقل إليها بعد الولادة؛ من فسحة هذا العالم وطيب نسيمه وإشراق نوره، بالإضافة إلى ظلمة الأحشاء والمشيمة والرحم التي هي ثلاث ظلمات.
ثم اعلم أن النفس لا تحس تلك الحال التي تنقل إليها إلا بعد مفارقة الجسد، كما أن الجنين لا يحس بأحوال هذه الدنيا إلا بعد الولادة.
فمن أجل هذا قال النبي - صلى الله عليه وآله: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا.» وإنما نومهم غفلتهم عما بعد الموت .
فإذا جاءت سكرة الموت بالحق التي هي مفارقة النفس الجسد، وعاينت الحقيقة التي كانوا بها يوعدون، كما قال الله تعالى: @QUR06 فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد.
وقال لنبيه عليه السلام: @QUR05 واعبد ربك حتى يأتيك اليقين؛ يعني الموت بعد مفارقة الجسد، وقال: @QUR07 كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون.
فإذن الموت حكمة؛ إذ لا رجوع لها إلى ربها الرحمن الرحيم إلا بعد الموت، ولا وصول للنفس إلى ما وعد الله ورسوله إلا بعد مفارقتها الجسد @QUR010 يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فإذن الموت حكمة ومنة من الله تعالى على عباده، بل بالموت سبب بقاء الحياة الجسدانية وسبب فناء الجسد.
(7) فصل في حكمة الموت
اعلم بأن لكل كون نشوءا أولا وابتداء، وله غاية ونهاية، إليها يرتقي، ولغايتها ثمرة تجتنى، فمسقط النطفة كون قد ابتدئ، وغايته الولادة التي إليها المنتهى.
والولادة أيضا كون قد ابتدئ، والموت غايته التي إليها المنتهى، وكما أن ثمرة مسقط النطفة لا تكون إلا بعد الولادة، لأن الطفل لا يتمتع إلا بعد الولادة، فهكذا النفس لا تتمتع إلا بعد مفارقة الجسد؛ لأن موت الجسد ولادة النفس؛ وهي الروح.
وذلك أن موت الجسد ليس شيئا سوى مفارقة النفس له، كما أن ولادة الجنين ليست شيئا سوى مفارقة الرحم؛ فإذن الموت حكمة كما أن الولادة حكمة.
وكما أن الجنين إذا تمت في الرحم صورته، وكملت هناك خلقته، لم ينتفع في الرحم بل ينتفع بعد الولادة في الحياة الدنيا.
كذلك النفس إذا كملت صورتها وتمت فضائلها بكونها مع الجسد، انتفعت بعد مفارقتها الجسد في الحياة الآخرة.
فإذن الموت حكمة؛ إذ البقاء الأبدي لا يتيسر إلا بعد حصول الموت؛ فالموت سبب لحياة الأبد، والحياة الدنيا سبب للموت في الحقيقة؛ إذ الإنسان ما لم يدخل في هذا العالم لا يمكن له أن يموت، فإذا وجد الإنسان فتكون حياته سببا لموته وموته سببا لحياته الباقية أبد الآبدين.
واعلم يا أخي أن مثل النفس مع الجسد كمثل الصبي في المكتب ليتعلم ويتأدب ويرتاض ، فإذا تعلم وأحكم ذلك فليس حال أخرى إلا الخروج من المكتب والانتفاع بما حصل في المكتب؛ لأنه قد تم ما يراد منه وبقي الإكرام والمجازات.
فهكذا حكم النفس مع الجسد إذا أحكمت ما يراد منها بكونها معه، فليس من طريقة إلا المفارقة.
وكما أن الصبي إذا أحكم ما يراد منه في المكتب، استغنى عن حمل اللوح والدواة والمداد والقلم وسواده؛ لأنه كان يكتسب به ويقرأ منه ويمحو ليحصل العلم في نفسه محفوظا من القرآن والأخبار والأشعار والنحو واللغة وما شاكلها مما يحفظ الصبيان في المكتب؛ فهكذا حكم النفس مع الجسد إذا هي أحكمت أمر المحسوسات بطريق الحواس، وأمر المعقولات بطريق الفكر والروية، وعرفت حقائق أمور هذا العالم من الكون والفساد، وارتقت بعد ذلك بطريق الرياضيات التي هي البراهين إلى معرفة الغائبة عن الحواس، وارتاضت فيها وعرفتها حق معرفتها، واستبان لها أمر عالمها ومبدئها ومعادها، وعاينت بعين البصيرة أحوال أبناء جنسها من السابقين الذين مضوا على سنن الهدى، وارتقوا إلى ملكوت السماء وفسحة الأفلاك وسعتها، اشتاقت هي عند ذلك الصعود إلى هناك واللحاق بأبناء جنسها، ولا يمكنها ذلك بهذا الجسد الثقيل إلا بتركها ومفارقتها إياه؛ وهو الموت. فلو لم يكن الموت لكانت ممنوعة من الوصول إلى هناك؛ فإذن الموت حكمة ونعمة ورحمة وفضل ورضوان من الله عز وجل للنفوس المخيرة المستبصرة.
فصل حكمة أخرى من حكمة الموت
واعلم يا أخي بأن الجسد كالسفينة، والنفس كالملاح، والأعمال الصالحة كالبضاعة والأمتعة للتاجر، والدنيا كالبحر، وأيام الحياة كالمعبر، والموت كالساحل المتوجه إليه، والدار الآخرة كمدينة التاجر، والجنة هي الربح، والله تعالى هو الملك المجازي، كما أن التاجر إذا عبر البحر وسلمت أمتعته وبضاعته ولما لم يخرج من السفينة لا يمكنه الدخول إلى مدينة للتجارة ويفوته ربح بضاعته، فهكذا حكم النفس مع الجسد أيضا؛ وذلك أنها إذا قطعت أيام الحياة الدنيا بالأعمال الصالحة، وسارت سيرة عادلة وتخلقت بالأخلاق الجميلة، واعتقدت آراء صحيحة، ونظرت في أمور المحسوسات، فعرفتها معرفة صحيحة، وبحثت عن حقائق المعقولات وأحكمتها، وبلغت آخر العمر ، وهدم الجسد؛ فليس التدبير والحيلة إلا الفراق الذي هو موت الجسد. فلو لم يكن الموت لما أمكنها الصعود إلى ملكوت السماء، ولا الدخول في زمرة الملائكة، ولا الوصول إلى الجنة، وكان يفوتها لقاء الله تعالى ونعيم الدار الآخرة، كما يفوت الجنين مشاهدة هذا العالم على حقيقته لو لبث في المشيمة ولم يظهر منها؛ فإذن الموت حكمة ورحمة ونعمة، إذ لا وصول لنا إلى ربنا إلا بعد خروجنا من هذا الهيكل ومفارقة أجسادنا @QUR07 كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون.
فصل في حكمة الموت
اعلم أن الدنيا كالميدان، والأجساد خيل عتاق، والنفوس السابقة إلى الخيرات فرسان، والله تعالى الملك الجواد المجازي. وكما أن الفارس السابق إذا بلغ باب الملك إن لم ينزل عن فرسه لا يمكنه الدخول إلى حضرة الملك فتفوته جائزته والخلع والكرامة، فهكذا حكم نفوس السابقين في الخيرات والأعمال الصالحة إذا قطعوا أيام الحياة الدنيا سبقا إلى الخيرات، كما مدحهم الله تعالى: @QUR011 إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين.
فإذا فني العمر وهدم الجسد وشاخ ونبت النفس وكملت إن لم تفارقه، لا يمكنه الصعود إلى ملكوت السماء؛ لأن هذا الجسد الثقيل المتغير الفاسد لا يليق بذلك المكان العالي الشريف، بل النفس هي التي يمكنها الصعود إلى هناك لتجازى بما عملت من خير؛ فإذن الموت حكمة ورحمة.
وأيضا إن الدنيا مزرعة وأرحام النساء كالحرث، كما قال الله تعالى: @QUR03 نساؤكم حرث لكم، والنطفة كالبذر، والولادة كالنبت، وأيام الشباب كالنشوء، وأيام الكهولة كالنضج، وأيام الشيخوخة كاليبس والجفاف.
فبعد هذه الحالات لا بد من الحصاد والصرام وهو الموت والصراط والآخرة كالبيدر، فكما أن البيدر يجمع الغلات من كل جنس ويدرس وينقى ويرمى القشور والورق والتين والحب والثمر ويجعل علفا للدواب وحطبا للنيران.
فهكذا تجتمع في الآخرة أمم الأولين والآخرين من كل دين، وتنكشف الأسرار، ويميز الخبيث من الطيب، فيجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون .
وهذا كله بعد الموت هو حكمة ورحمة ونعمة من الله تعالى لأوليائه، فلأجل هذا يتمنى أولياؤه الموت، كما عاتب من ظن أنه منهم بغير حق: @QUR018 قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين، فدل بهذه الآيات علامة أولياء الله تعالى أنهم يتمنون الموت إذا علموا أنهم إلى ربهم راجعون بعد الموت؛ فإذن الموت حكمة ونعمة.
فصل في حكمة الموت أيضا
واعلم يا أخي أن النفوس كالصناع، والأجساد كالدكاكين، وأعضاء الجسد كالأدوات؛ كما بينا في رسالة تركيب الجسد.
ثم اعلم أن الصناع يجتهدون في الصنائع ويحملون مشقة العمل لكسب المال وطلب الغناء، فإذا استغنى واحد منهم ترك الدكان والأدوات واستراح من العمل.
فهكذا حكم النفوس إذا هي أحكمت ما يراد منها بكونها مع الجسد من الزاد للآخرة استغنت عن الجسد فاستقلت بذاتها. فلو لم يؤخذ منها الجسد، لكان وبالا عليها، ومانعا لها من الصعود إلى ملكوت السماء والدخول في زمرة الملائكة والسيحان في عالم الأفلاك والسريان في فسحة فضاء السموات والتنسم من الروح والريحان؛ فإذن الموت حكمة ونعمة من الله تعالى لعباده الصالحين.
وقال يوسف الصديق: @QUR021 رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين، أما ترى أنه عليه السلام تمنى بقوله: @QUR02 توفني مسلما لما علم أن اللحاق بالصالحين لا يكون إلا بعد الموت؛ فإذن الموت حكمة ونعمة.
وقال خليل الرحمن عليه السلام: @QUR048 الذي خلقني فهو يهدين * والذي هو يطعمني ويسقين * وإذا مرضت فهو يشفين * والذي يميتني ثم يحيين * والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين * رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين * واجعل لي لسان صدق في الآخرين * واجعلني من ورثة جنة النعيم؛ فإذن الموت حكمة إذا كانت وراثة الجنة لا تتيسر إلا بعد الموت.
ثم اعلم أن الكرامة للنفس من الله واردة للنفس خاصة لا للجسد؛ لأن الجسد قد بلي في التراب، وإنما ألحقت بالصالحين نفسه.
(8) فصل في كيفية خروج النفس من القوة إلى الفعل
فنقول: اعلم - أنار الله برهانك - بأن نفوس الصبيان عاقلة بالقوة، ونفوس البالغين عاقلة بالفعل، ونفوس العقلاء علامة بالقوة، ونفوس العلماء علامة بالفعل، والعلماء نفوسهم فلسفية بالقوة، والفلاسفة نفوسهم حكماء بالفعل، والحكماء الأخيار ملائكة بالقوة، فإذا فارقت نفوسها أجسادها كانت ملائكة بالفعل؛ فإذن الموت حكمة ورحمة.
واعلم يا أخي أن المعادن تستحيل إلى أجسام النبات، وأجسام النبات تستحيل إلى أجسام الحيوان، وأشرف الحيوان الإنسان، فصورة النبات صراط منكوس إلى العمق وقد جازتها النفس الحيوانية ونجت منها، وصورة الحيوان صراط ممدود على السطح وقد جازتها النفس الإنسانية ونجت منها، وصورة الإنسان صراط مستقيم كالخط قائما منتصبا بين الجنة والنار وهي أخريات جهنم؛ فأي نفس جازتها نجت من جهنم ودخلت الجنة التي هي صورة الملائكة، وإلا ردت إلى أسفل السافلين، كما ذكر الله تعالى: @QUR021 لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون.
فانظر يا أخي في هذا الباب وتفكر فيه فإنك على خطر عظيم، وقد بلغت قريبا من باب الجنة، فإن بادرت قبل مفارقة الجسد للنفس واستعديت وتزودت بالأعمال الصالحة والآراء الصحيحة والأخلاق الجميلة والعلوم الحقيقية، رجوت لك أن تنجو من نيران الهاوية التي هي عالم الكون والفساد، وتصل إلى الجنة بالصعود إلى عالم الأفلاك وفسحة السموات، عالم الدوام والبقاء والخلود في النعيم والسرور مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، ذلك الفضل من الله.
(9) فصل في غرض السياسات
اعلم أن الجسد مسوس والنفس سائس، فأي نفس ارتاضت في سياسة جسدها كما يجب أمكنها سياسة الأهل والخدام والغلمان، ومن ساس أهله بسيرة عادلة أمكنه أن يسوس قبيلة، أمكنه أن يسوس أهل المدينة كلهم، ومن ساس أهل المدينة كما يجب أمكنه أن يسوس الناموس الإلهي، ومن ساس الناموس الإلهي أمكنه الصعود إلى عالم الأفلاك وسعة السموات، عالم الدوام، ليجازى هناك بما عمل من خير؛ فإذن الموت حكمة.
فإن لم يستو لك يا أخي سياسة الناموس الإلهي، فكن حاذقا فيه؛ فلعلك تنجو من جهنم بشفاعة أهلها، وتصعد إلى ملكوت السماء بمعاونتهم، وتدخل الجنة برحمة الله وفضله وسعة رحمته. وفقك الله يا أخي للصواب، وهداك الرشاد وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد أنه رحيم جواد.
(10) فصل في عيوب الجسد ومثالبه
فاعلم يا أخي أنا قد بينا في رسالة تركيب الجسد ورسالة الإنسان عالم صغير ورسالة الحاس والمحسوس؛ ما تستفيد النفس بكونها معه من الحكمة والعلوم والفوائد، وما ترتاض من اتخاذ الصنائع والسياسات والتدبير والربوبية والتشبه بالإله بحسب الطاقة الإنسانية، إذا أخذت النفس طريق ذات اليمين؛ لأن هذا الجسد لهذه النفس صراط ممدود بين الدنيا والآخرة، فإذا عبرت النفس على هذا الصراط وسلمت من آفاته، سهل عليها سائر ما بعد ذلك.
فمن عيوب هذا الجسد كون النفس كمحبوس في كنيف؛ لأن الكنيف بالحقيقة هو هذا الجسد، فهو ينبوع لكل قاذورات من وسخ وبول وغائط ومخاط وبصاق ودم وصديد ولعاب وعرق نتن وبخر وصنان، وأن كل ما يكون في الكنيف من القاذورات، فمنه يخرج وفيه يتكون؛ فأوله نطفة قذرة وآخره جيفة منتنة، وما بين الحالتين مملوء عذرة، والنفس على دوام الأوقات في تنظيفه وغسله وتنقيته ومداواته وستر عوراته، وحفظه من آفات الحر والبرد والجوع والعطش والصدمة والضربة والآفات العارضة التي لا يحصى عددها.
وبالجملة فليس في العالم نتن ولا نجاسة ولا قاذورة ولا جيفة إلا منه. ومن وجه آخر، فنقول: مثل النفس مع الجسد كعابد صنم يعبده بالليل والنهار؛ وذلك أن النفس إذا تركت تعلم العلم وعبادة الله عز وجل والنظر في أمور معادها بعد فراق الجسد والاستعداد له والتزود للرحلة من الدنيا إلى الآخرة، واشتغلت بما يكون فيه صلاح الجسد من الأكل والشرب واللباس والمسكن والمركب، وما شاكلها من أنواع زينة الدنيا؛ فتكون كأنها هودي يعبد صنما كما ذكر الله تعالى: @QUR024 أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون .
ومن وجه آخر فنقول: «الجسد كأنه كافر محجوب عن الله تعالى، لا يعرفه ولا يدري من خلقه ورزقه.»
ومن وجه آخر كأنه صاحب بدعة يدعي إلى هواه، ويريد أن تكون الأمور بمراده.
ومن وجه آخر كأنه جاهل عجول لا ينظر في العواقب، وأيضا كأنه عدو للنفس يظهر الصداقة ويكتم العداوة.
وأيضا كأنه شيطان من كثرة الوساوس، وأيضا كأنه إبليس يدعو إلى العداوة، وأيضا كأنه ميت على جنازة حملتها النفس على كتفها لا تستريح منه، يا ويلتها، حتى إذا دفنته في التراب. وأيضا كأنه غيم بين أبصار الناظرين ونور الشمس؛ لأن ظلمات أخلاط الجسد تمنع عن النظر إلى نور العقل وهو يمطر الآمال وينسي الآجال.
وأيضا مثل هذه النفس الجزئية مع شرفها وشرف جوهرها، وما هي عليه من غربتها في هذا العالم الذي تحت الكون والفساد، وما ابتليت به من آفات هذا الجسد وفساد هيولاه؛ كمثل رجل حكيم خبير في غربة، قد ابتلي بعشق امرأة رعناء فاجرة جاهلة سيئة الخلق رديئة الطبع، فهي دائم الأوقات تطالبه المأكولات الطيبة والمشروبات اللذيذة واللباس الفاخر والمسكن المزخرف والشهوات الرديئة، وإن ذلك الحكيم من شدة محنته بمحبتها وعظم بلائه بصحبتها قد صرف كل همته إلى إصلاح أمرها، وأكثر عنايته بتدبير شأنها، حتى نسي أمر نفسه وصلاح شأنه، وبلدته التي خرج منها، وأقربائه الذين نشأ معهم، ونعمته التي كان فيها بدءا؛ فكأنه قد قرن بشيطان مريد وعدو مبين، فهذا الشيطان هو الذي قال الله تعالى: @QUR011 يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة؛ فهو إذن إبليس الذي أخرج آدم من الجنة.
ثم اعلم أن جوهر النفس جوهر سماوي وعالمها عالم روحاني، وهي حية بذاتها غير محتاجة إلى الأكل والشرب واللباس والمسكن، وما شاكل ذلك مما يحتاج إليه الجسد في قوام وجوده ومادة بقائه، وأن كل ما يحتاج إليه الإنسان من أعراض هذه الدنيا فإنما هو من أجل هذا الجسد المستحيل الفاسد ولإصلاح شأنه وقوام وجوده وجر المنفعة إلهي ودفع المضرة عنه وهو لا يثبت على حالة واحدة طرفة عين.
ثم اعلم أن النفس ما دامت مع هذا الجسد إلى الوقت المعلوم، فإنها متعوبة بكثرة غمومها لإصلاح أمر هذا الجسد، شقية بشدة عنايتها فيما تتكلف من الأعمال الشاقة والصنائع المتعبة لاكتساب المال والمتاع والأثاث، وما يحتاج إليه الإنسان في طول حياته الدنيا.
ثم اعلم أن النفس ما دامت مربوطة بالجسد لا راحة لها دون مفارقتها هذا الجسد، كما أن ذلك الرجل الحكيم المبتلى بعشق تلك المرأة الفاجرة الرعناء لا راحة له مما قد ابتلي به إلا بمفارقتها والتسلي عن حبها وعشقها؛ فإذن الموت حكمة ورحمة ونعمة لنفوس الأخيار بعد بوار الأجساد، فما الموت إلا نعمة وسرور، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور.
الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، إن ربنا لغفور شكور. وفقك الله وإيانا وجميع إخوانا للسداد، إنه رحيم رءوف بالعباد.
(تمت الرسالة الخامسة عشرة في ماهية الحياة والموت، ويتلوها رسالة اللذات.)
الرسالة السادسة عشرة من الجسمانيات الطبيعيات في خاصية اللذات، وفي حكمة الحياة والموت وماهيتهما
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
(1) فصل
اعلم أيها الأخ، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنا قد فرغنا من بيان حكمة الموت والحياة، وبيان ماهيتهما، وقلنا ما الحكمة من وجودهما في عالم الكون والفساد، وما العلة في كراهية نفوس الحيوانات الموت ومحبتها الحياة، ونريد أن نذكر في هذه الرسالة ماهية اللذة والألم والغم والفرح والسرور والحزن والراحة والتعب، ونبين أنها كلها أخوات متضادات أو متشاكلات.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن اللذة والألم نوعان: جسمانية وروحانية، وهكذا حكم أخواتها.
فأما اللذات الجسمانية فهي الراحة التي تحس بها النفوس الحيوانية عند زوال الآلام. وأما الآلام التي تحس بها النفوس الحيوانية عند خروج المزج عن الاعتدال من الأمر الطبيعي إلى أحد الطرفين من الزيادة والنقصان بسبب من الأسباب، فهي كثيرة لا يحصي عددها إلا الله تعالى، ولكن نذكر منها طرفا لتعلم ماهية الآلام واللذة وكيفية حدوثهما.
فمن ذلك ماهية لذة الأكل والشرب، أقول: إن حرارة معدة الحيوانات ذوات المعدة والقوانص فيها بمنزلة نار السراج المشتعلة بالفتيلة، فإذا فني الغذاء اشتعلت في رطوبات جرم المعدة، فأفنتها واحترقت تلك العصبات المنسوجة هناك، كما يشتعل نار السراج في الفتيلة إذا فني الدهن، فعند ذلك تحس تلك النفوس بالألم فتنهض أجسادها في طلب الغذاء لتخلف على المعدة بدلا مما قد فني وعوضا عنه، فإذا أوردت تلك المواد إلى المعدة واشتعلت فيها تلك الحرارة للنضج، فيسكن ذلك اللهيب من جرم المعدة، ويجد الحيوان عند ذلك راحة ولذة، وبحسب شدة لهيب تلك الحرارة وسكونها تكون لذة الأكل.
وهكذا أيضا حكم العطش من لهب حرارة الكبد، فلا يزال الحيوان يجد لذة الأكل والشرب إلى أن تستوفي الطبيعة حاجتها، فعند ذلك تزول تلك اللذة وتسكن، حتى إنه إن زيد على مقدار الحاجة صارت اللذة ألما، فيمسك عند ذلك الحيوان عن الأكل والشرب إلى أن يستمرئ ما أكل ويهضم، وتمر إلى أطراف الجسد تلك المواد لتخلف ما تحلل من هناك؛ لأن الحيوان في دائم الأوقات في الذوبان والسيلان لا يقف لحظة ولا طرفة عين. يعلم حقيقة ما قلنا وصحة ما وصفنا أهل البصائر من الأطباء والطبيعيين.
وأما اللذة التي يجدها الحيوان من الجماع، فإن تلك المادة التي تسمى المني، وهي زبدة الدم، إذا كثرت في بدن الحيوان واجتمعت في المواضع المعدة لها، وجدت الطبيعة عند ذلك ثقلا وتمددا كما تجد عند اجتماع البول في المثانة، والغائط في المعي، فتطلقها الإرادة عند ذلك للبروز، فهكذا حكم المني. وقد جعلت الحكمة الإلهية والعناية الربانية شهوة مركوزة في جبلة الذكران للاجتماع مع الإناث من أبناء جنسها، وكذلك في طباع الإناث الاجتماع مع الذكران ليكون منهما التناسل والنتاج؛ ليبقى النسل في بقاء الأشخاص والصورة في الهيولى إذا كانت الأشخاص لا بقاء لها دائما في عالم الكون والفساد لعلل يطول شرحها. وقد ذكرنا طرفا منها في رسالة البعث والقيامة وطرفا في رسالة العلل والمعلولات، فإذا خرجت تلك النطفة من بدن الحيوان الفحل، خف عن الطبيعة ما كان يجده من الثقل، ووجد الحيوان عند ذلك راحة ولذة.
وأما اللذة والراحة التي يجدها الحيوان عند السكون والهدوء والنوم، فهي من أجل أن الحركة التي تسخن مزاج أبدانها وتجفف رطوبات العضلات والأعصاب المحركة للأعضاء، فتضعف عند ذلك عليها الحركة، فإذا سكنت وتمددت وهدأت، بردت أبدانها وتولدت من السكون برودة، ومن البرودة رطوبة، فلانت الأعصاب والأوتار المحركة لتلك الأعصاب والعضلات، وسهلت الحركة، وهكذا أيضا حكمها عند وضع أحمالها وأثقالها تجد راحة؛ لأن الحركة المفرطة والثقل يسخنان المزاج ويخرجانه من الاعتدال.
وأما اللذة والراحة التي يجدها الحيوان عند الحر والبرد، فهو من أجل أن الحر إذا دام عليها سخن مزاج أبدانها وأخرجها من الاعتدال فيؤلمها ذلك، فعند ذلك يطلب ما يضادها من برد الظلال والأفياء والمواضع الباردة، فإذا دامت هناك زمانا طويلا أفرطت البرودة في أبدانها وخرجت من الاعتدال إلى الجانب الآخر، فعند ذلك تطلب الدفء والشمس والنيران وما يضاد البرودة.
فقد تبين بما ذكرنا أن الحيوانات في دائم الأوقات تتفرج وتستريح تارة من ألم الحرارة إلى ضده وتارة من ضده إليه، وتبين أيضا أن اللذات الجسمانية إنما هي من خروج الألم، فهو خروج من الاعتدال إلى أحد الطرفين؛ إما إلى زيادة أو إلى نقصان، أو من حر إلى برد، أو من برد إلى حر، أو من حركة إلى سكون، أو من سكون إلى حركة، أو من جوع وعطش إلى شبع وري، أو من شبع وري إلى جوع وعطش. وعلى هذا المثال والقياس يوجد حكم سائر اللذات والآلام الجسمانية.
وذلك أن الذي تجده النفس من اللذة بالنظر إلى محاسن الموجودات أو بالاستماع للنغمات والشم للروائح الطيبات واللمس للملموسات، فهي كلها تكون بحسب مشاكلات المزاج الموافقات، وألمها بحسب المخالفات المتضادات، وذلك أن كل محسوس يخرج مزاج الحاس من الاعتدال، فإن الحاسة تتألم منه وتكرهه وكل محسوس يرد الحاس إلى الاعتدال والمزاج الطبيعي، فإن الحاسة تلتذ به وتحبه وتحن إليه.
فإذا تأملت يا أخي ما ذكرنا علمت وتبين لك بأن هذه الآلام واللذات الجسمانية إنما جعلت لنفوس الحيوانات عند خروج مزاج أجسادها من الاعتدال، ورجوعها إلى الاعتدال لكيما تدعوها تلك الآلام إلى حفظ أجسادها وصيانة هياكلها من الآفات العارضة لها، وتحثها تلك اللذات على طلب جر المنفعة إليها أو دفع المضرة عنها إذا كانت الأجساد أجسادا أمواتا لا تقدر على دفع مضرة عنها ولا جر منفعة إليها، ولا تحترز من الأشياء المهلكة لها أو المحرجة لمزاجها من الاعتدال.
والدليل على صحة ما قلنا وحقيقة ما وصفنا، أن الأجساد لا تقدر على دفع مضرة ولا جر منفعة ما نرى من حالها عند مفارقة نفوسها مستسلمة إلى المهلكات مما لا خفاء به من حال جثة الموتى.
فأما اللذات والفرح والسرور التي تجده عند وجدانها ومنافعها ومحبوباتها، وما تجده من الشفقة والتحنن على صغار نتاجها، وما يعرض من الغم والهم عند فقدانها أو ضرر ينالها؛ فكل ذلك حث للنفوس على صيانة الأجساد إلى وقت معلوم.
وأما الشهوات المركوزات في جبلة الحيوانات فقد ذكرنا طرفا من عللها في رسالة الأخلاق، ولكن نذكر ها هنا ما لا بد من ذكره؛ وذلك أن كل ما في كل طبيعة جسد وجبلة كل مزاج من الشهوات المركوزة هي ما يوافق طباعها ويصلح مزاجها؛ وذلك أن الحيوانات الآكلة للحمان لا تشتهي الحشائش إلا عند الضرورة وفقدان اللحم، وكالطيور والحيوان الآكل للعشب والحب لا يشتهي اللحم ولا يلتذ به، وهكذا الإنسان لا يشتهي ولا يأكل إلا ما يوافق طبعه ومزاجه أو ما قد اعتاد أكله على ممر الأيام والأوقات، وأما شهوة العليل لما يضره فلأسباب أخر يطول شرحها.
فقد تبين أن الجوع والعطش بحسب الحاجة إلى الطعام والشراب، وأن اللذة بحسب الكفاية، والشهوة بحسب الموافقة للمزاج والطبع. ونريد أن نذكر في هذه الرسالة الملقبة باللذة والآلام كون العلة في كراهية نفوس الحيوانات الموت ومحبتها للحياة، فنقول:
اعلم أن لمحبة الحيوانات الحياة وكراهيتها الموت علتين؛ إحداهما: ما يلحق نفوسها من الأوجاع والآلام. والثانية: ما في طباع الموجودات من المحبة والبقاء وكراهيتها للفناء هو من أجل أن الباري تعالى لما كان هو علة الموجودات وسبب الكائنات، كما بينا في رسالة المبادئ، وهو أبدي الوجود دائم البقاء؛ صارت من أجل ذلك في جبلة الخليقة محبة البقاء وكراهية الفناء الذي هو ضد البقاء.
ثم اعلم أن الموجودات نوعان: كليات وجزئيات؛ فالكليات تبتدئ من أتمها ثم الأدون فالأدون إلى آخرها، وهي تسعة مراتب؛ أولها وأولاها البارئ تعالى الذي هو علتها كلها، ثم العقل، ثم النفس، ثم الطبيعة، ثم الهيولى الأولى، ثم الجسم المطلق، ثم الفلك ثم الأركان الأربعة، ثم المولدات الثلاثة، وهي آخرها كما بينا في رسالة المبادئ.
والأمور الجزئية تبتدئ من أنقص الحالات، ثم ترتقي أولا فأولا إلى أن تنتهي إلى أفضل الحالات، كما بينا في رسالة مسقط النطفة ورسالة نشوء الأنفس الجزئية ورسالة البعث والقيامة ورسالة الكون والفساد، فمن أراد علم ذلك، فليرجع إلى هناك ليعلم صحة ما قلناه وحقيقة ما بيناه.
(2) فصل في ما العلة في وصول الآلام والأوجاع إلى النفوس الحيوانية دون سائر النفوس التي في العالم
فنقول: اعلم أنا قد بينا ماهية اللذة والآلام وكيفية إحساس النفوس بهما، ونريد أن نذكر في هذا الفصل ما العلة والحكمة في رباط النفوس الجزئية بالأجساد الحيوانية ووصول الآلام والأوجاع إلى النفوس الحيوانية دون سائر النفوس النباتية والموجودات التي في العالم.
فاعلم أنه لما كانت النفوس الحيوانية من الأمور الجزئية، ولم يكن للنفوس الجزئية أن تبلغ إلى أتم الحالات وأكمل المراتب إلا بأن تقترن بالأجسام الجزئية التي هي أجساد الحيوان، وكانت الأجساد تعرض لها الآفات المفسدة قبل تمامها وكمال نفوسها، ولم يكن للأجساد مقدرة على دفع تلك الأشياء المفسدة لها؛ لأن جواهر الأجسام عاجزة جاهلة ميتة ناقصة الحال منفعلة حسب، فبواجب الحكمة الإلهية جعل لنفوسها أن تلحقها الآلام والأوجاع من الأشياء المفسدة لأجسادها كيما تدعوها تلك الآلام وتحثها تلك الأوجاع على دفع تلك الأشياء المفسدة لأجسادها، وتحفظها من الآفات المهلكة وتصونها عن عوارض التلف، إلى أن تتم تلك الأجساد وتكمل أيضا تلك النفوس، ثم يجيئها الموت الطبيعي إن شاءت النفوس أو أبت، كما يجيء الطلق للولادة إن شاء الجنين أو أبى؛ لأن موت الجسد ولادة النفس كما بينا في رسالة حكمة الموت. ولو لم تعرض للنفوس الآلام من الأشياء المفسدة لأجسادها، لتهاونت بها وتركتها متعرضة للآفات، وكانت تفسد أكثرها قبل تمامها وكمال نفوسها.
وذلك أن النفس الإنسانية لم يكن نشوءها ولا تتميمها ولا تكميلها إلا بتوسط هذا الجسد المملوء من آثار الحكمة، كما بينا في رسالة تركيب الجسد ورسالة الحاس والمحسوس، وقد بينا ذلك في رسالة الإنسان عالم صغير، فبواجب الحكمة الإلهية ربطت بالأجساد البشرية؛ وذلك أن النفس الإنسانية لا تعرف حقائق المحسوسات، ولا تتصور معاني المعقولات، ولا تقدر على عمل الصنائع ولا تتخلق بالأخلاق والأعمال الحميدة إلا بتوسط هذا الجسد طول حياته إلى آخر العمر كما قال تعالى: @QUR08 والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا، وقال: @QUR07 ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما، فلو لم يعرض للنفس الألم من الأشياء المفسدة للجسد، لكان الإنسان، مثلا، إذا نام فاستغرق في نومه ثم مد يده ورجله فدخلتا في نار إلى جنبه فاحترقتا، ولم يكن يحس به حتى ينتبه من نومه، فإذا هو بلا يدين ولا رجلين، وكان يبقى طول عمره بلا آلة للمشي ولا أداة لاتخاذ الصنائع؛ وعلى هذا القياس حكم نفوس سائر الحيوانات، لو لم يكن يعرض لنفوسها الألم من الأشياء المفسدة لأجسادها، لتهاونت بها وتركتها متعرضة للآفات والهلاك، كما أنه لو لم يكن يجعل لها شفقة على صغار أولادها وتحننا عليها، لتركتها وتهاونت بها ولم تحتمل المشقة في تربيتها، وكانت تهلك كلها قبل التمام، وكان مصير ذلك سببا لانقطاع النسل ودثور الصورة من المادة. وقيل لبعض الحكماء: أي أولادك أحب إليك؟ فقال: صغيرهم حتى يكبر، وعليلهم حتى يبرأ، وغائبهم حتى يرجع. فإذن بواجب الحكمة جعلت تحس ما يلحقها من الآلام لحفظ أجسادها من التلف، وتحثها على صيانتها من عوارض الآفات والآلام.
(3) فصل في ماهية الألم واللذة وكيفيتها
فنقول: إن اللذات والآلام التي تحفظ أجسادها من التلف وتحثها على صيانتها نوعان: جسماني وروحاني؛ فاللذات الجسمانية هي التي تجدها النفس عند الخروج من الألم، والآلام التي تحسها النفس عند خروج مزاج الأجساد عن الاعتدال الطبيعي إلى حد الطرفين من الزيادة والنقصان بسبب من الأسباب هي كثيرة لا يحصى عددها؛ مثال ذلك الجوع، أحد الآلام تحس به النفس عند خلو المعدة من الطعام، وذلك أن الحرارة الغريزية التي تنضج الطعام في المعدة إذا لم تجد هناك طعاما تكون مشتغلة، فإذا اشتغلت في جرم المعدة فنيت رطوباتها المعدة هناك لمصالحها، فإذا فنيت تلك الرطوبات انفسد جرم المعدة، فإذا أحست النفس بالآلام انتهض الجسد في طلب القوت ليزيل عنه الفساد وعن ذاتها الألم، فإذا وصل ذلك إلى المعدة رجعت تلك النار عن جرم الجسد، واشتغلت عن ذلك الطعام، وسكن الالتهاب عن جرم المعدة، فتجد النفس لذلك راحة، فتسمى تلك الراحة لذة. وهكذا العطش فإنه حرارة تلتهب في جرم الكبد، ولا تسكن إلا بشرب الماء، فتحس النفس عند التهاب تلك الحرارة ألما وعند سكونها راحة، فهاتان الخلتان تحثان النفس الحيوانية على طلب مادة أجسادها لتخلف عليها بدل ما يتحلل منها إذا كانت ذات الجسد دائما في الذوبان والسيلان من أسباب خارجة وأسباب داخلة، ولو لم تعرض لنفوسها الآلام والأوجاع عند الجوع والعطش لما نهضت أجسادها في طلب غذائها وفي مادة بقائها، وكان يبطل أجسادها الذوبان قبل تمامها وكمالها؛ فإذن قد بان من الألم واللذة إنما هي حث النفوس على ما يصلح الأجساد؛ لأن في صلاح الأجساد صلاح النفوس، كما بينا قبل، وهذه اللذة التي تجدها النفوس الحيوانية عند تناول الغذاء هي أيضا تجدها النفوس النباتية، وهي التي تحثها على جذب الرطوبات إلى أصول النبات وإلى أعلى فروعها، فإذا لم تجد ذلك جفت أجسامها، وهو موتها، ولكن لا يعرض لنفوسها الألم عند فقدان الغذاء كما يعرض للنفوس الحيوانية، فمن أجل هذا لم تجعل لها حيلة التنقل من مكان إلى مكان في طلب الغذاء كما للحيوان ولا فرارا من المؤذيات ؛ لأنه لا يليق بالحكمة الإلهية أن تجعل لها ألما وتمنعها حيلة الدفع.
وأما النفوس الحيوانية لما جعلت لها حيلة الدفع عن أجسادها الأشياء المفسدة لها، جعل لها ألم يحثها على ذلك؛ إما بالطلب وإما بالهرب وإما بالتحرز، كما بينا في رسالة الحيوان.
وأما لذة الانتقام فهي أيضا خروج من الألم، وذلك أن الغضب نار وحرارة تشتعل في جرم القلب، وهو شهوة الانتقام من المؤذي الذي أثار الغضب، فإن وصل إلى الانتقام سكنت تلك الحرارة وخمدت نارها، وإن لم يقدر على ذلك ولم يصل إليه صار الغضب حزنا ومصيبة؛ مثال ذلك إذا قتل لأحد قتيل أوقدت نار غضبه على القاتل شهوة القوة، فإن قتل القاتل سكنت تلك الحرارة، وإن قلته الموت صار حزنا ومصيبة؛ لأنه لا يمكن أن يؤخذ من الميت القوة. وعلى هذا القياس سائر الشهوات، نيران تشتعل في الأجساد وتحس النفوس آلامها.
ثم اعلم أن الأجساد كلها نيران بالقوة جامدة، فإذا أصابتها نار بالفعل صارت نيرانا بالفعل، والدليل على ذلك أنها كلها يمكن أن تحرق بالنار، فلو لم تكن من النار لما أمكن إحراقها بها، وهكذا حكم مأكولاتها وملبوساتها كأنها نيران جامدة كونت من النار والهواء والماء والأرض، وإليها تستحيل بعد مفارقة النفوس لها، ومن أجل هذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أهل النار خلقوا ومن النار يأكلون وعلى النار يتقلبون.» وهذه حال الأجساد ومرافقها ومادتها كلها نيران جامدة إذا اشتعلت التهبت على الأفئدة، كما قال الله عز وجل: @QUR016 نار الله الموقدة * التي تطلع على الأفئدة * إنها عليهم مؤصدة * في عمد ممددة، وهي آمال طوال وآجال قصار @QUR014 لابثين فيها أحقابا * لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا * إلا حميما وغساقا إشارة إلى ما ذكرنا كلما نضجت جلودهم، يعني أجسادهم بالبلى، بدلنا لهم جلودا غيرها، بدلوا بالكون ثانيا.
فصل
اعلم يا أخي بأن الله عز وجل قد أكثر في القرآن مدح المؤمنين وذم الكافرين؛ لأنهما خلتان بينهما بعد بعيد؛ إحداهما مجمع الخير كله وفضيلة الإنسانية فيها كلها وهي الإيمان ، والأخرى ضدها وهي الكفر وهو مجمع الشرور كلها.
وقد بينا في رسالة الناموس ورسالة المؤمنين معنى قولنا ما الإيمان ومن المؤمن، ونذكر في هذا الفصل ما الكفر؛ ليعلم من الكافرون بالحقيقة، فنقول:
اعلم أن الكفر في لغة العرب الغطاء، وهو شيء يعرض للنفس من جهة الجسد، وذلك أنه إذا استقرت النفس في الجهالة، تغطى عليها أمر ذاتها وذهب عليها معرفة جوهرها وتنسى مبدأها، ولا تذكر من أمر معادها حتى تبلغ من جهالتها، ألا تعلم بأن لها وجودا خلوا من الجسد حتى تظن أنها جسم كما يظن ويقول كثير ممن يتعاطى النظر في العلوم، وهو قولهم إن الإنسان هو هذا الجسد الطويل العريض العميق المؤلف من اللحم والدم، ولا يدرون أن مع هذا الجسد جوهرا آخر، وهو المحرك له؛ وهي النفس المطهرة به ومنه أفعالها.
فمن لا يعرف جوهر النفس فهو لا يعرف شيئا من الأمور الروحانية ولا يتصورها، وإذا سمع ذكرها أنكرها لشدة استغراقه في بحر الهيولى وظلمات الجهالات، فهؤلاء إذا سمعوا بذكر جهنم لا يتصورونها إلا أمرا صناعيا، وهو أنهم يظنون أن جهنم هي خندق محفور كبير واسع مملوء من نيران تشتعل وتلتهب، وأن الله تعالى يأمر الملائكة قصدا منه وغيظا على الكفار أن يأخذوهم ويرموا بهم في ذلك الخندق.
ثم إنه كلما أحرقت أجسادهم وصارت فحما ورمادا أعاد فيها الرطوبة والدم حتى يشتعل من الرأس ثانيا كما اشتعل أول مرة.
وهكذا يكون دأبهم أبدا، ويحتجون بقوله تعالى: @QUR08 كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ولا يدرون معنى قوله تعالى ولا تأويل كتابه أنهم إذا سمعوا أن الله غفور رحيم حنان منان رءوف ودود، وما شاكل ذلك من أسمائه الحسنى، وتفكروا فيها؛ أنكرت عليهم عقولهم ما اعتقدوا فيه من الحقد وقلة الرحمة لخلقه، فعند ذلك يتحيرون ويتشككون فيما أخبرت به الأنبياء عليهم السلام؛ إذ لا يعرفون شيئا عن صفة جهنم وعذاب أهلها، ولا يعرفون تأويل كتبهم ولا معاني إشاراتهم ورموزاتهم ودقائق أسرارهم.
فهكذا إذا سمعوا ذكر الجنة ونعيمها وسرور أهلها ولذاتهم، فلا يتصورونها إلا أمورا جسمانية شبه بساتين فيها أشجار وعليها ثمار وقصور بينها أنهار، وفي تلك القصور حور وغلمان وولدان مردان على أمثال أبناء الدنيا ونعيم أهلها، وإذا سمعوا بأن أهل الجنة في جوار الرحمن حيث قال: @QUR06 في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وإنهم يزورون رب العالمين فيرونه وينظرون إليه كما قال تعالى: @QUR07 وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة، وأن الملائكة يزورونهم بالهدايا والتحف كما قال الله تعالى: @QUR06 والملائكة يدخلون عليهم من كل باب وما شاكل هذا من وصف أهل الجنة من شرب الشراب أو مباشرة مع الأبكار، وأنهم أحياء لا يموتون، وشبان لا يهرمون، وأصحاء لا يمرضون، ولا يجوعون ولا يعطشون، ويأكلون ويشربون ولا يبولون ولا يتغوطون، وما شاكل هذه من الصفات التي لا تليق بأجسام الطبيعة الكائنة الفاسدة فضلا بالأشياء الروحانية.
فإذا فكروا فيها تحيروا أيضا فيما يعتقدون من أمر الجنة ونعيمها وحالات أهلها، فيشكون أيضا في الجنة وما خبرت به الأنبياء عليهم السلام من وصف الجنان ونعيم أهلها وحالاتهم، وما يقصر الوصف عنها، فإذا ذهب عليهم معرفتها وتغطى عليهم علمها، أنكروها بقلوبهم، وإن كانوا لا يظهرونها بألسنتهم مخافة السيف والصلب كما قال الله تعالى: @QUR08 فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون.
فهذا هو حقيقة الكفر والضلال والجهالة وعمى البصر؛ لأن هؤلاء لا يؤمنون بظواهر الآيات والأخبار، ولا يتفحصون عن حقائق أسرار كلام الله وأسرار الأخبار النبوية حين قالوا وبينوا، فجملة ذلك حق وصدق لا مرد عليه، حسب ما اقتضى العقل حقيقة ذلك، كما لا يفهم هؤلاء الظلمة الكفرة، أعاذنا الله وإياك أيها الأخ من الكفر والنفاق والفسق والعصيان، ورزقك وإيانا الإيمان والغفران إنه رءوف رحيم بالعباد.
فصل
ثم اعلم وتيقن ولا تشك في أن جهنم هي عالم الكون والفساد الذي هي دون فلك القمر، وأن الجنة هي عالم الأرواح وسعة السموات، وأن أهل جهنم هي النفوس المتعلقة بأجساد الحيوانات التي تنالها الآلام والأوجاع دون سائر الموجودات التي في العالم.
وأن أهل الجنة هي النفوس الملكية التي في عالم الأفلاك وسعة السموات في روح وريحان، البريئة من الأوجاع والآلام، والدليل على ذلك قوله تعالى: @QUR06 انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب إشارة إلى النفوس المتحدة بالأجسام؛ ذي الطول والعرض والعمق، إلى دون فلك القمر.
وذلك أن تلك النفوس لما جنت هناك الجناية التي ذكرت في قصة آدم عليه السلام، وقيل اهبطوا منها جميعا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين، وقال: فيها تحيون، يعني في الأرض، وفيها تموتون ومنها تخرجون عند النفخ في الصور.
وإنما قيل إن جهنم هي سبع طبقات؛ لأن الأجسام التي دون فلك القمر سبعة أنواع؛ أربع منها هي الأمهات المستحيلات، التي هي الأركان الأربعة؛ وهي: النار والهواء والماء والأرض، وثلاث هي المولدات الكائنات الفاسدات التي هي: المعادن والنبات والحيوان.
ثم اعلم أن تلك النفوس لما أخرجت من الجنة - عالم الأفلاك - أهبطت إلى الأرض، عالم الكون والفساد الذي دون فلك القمر، وهي ساكنة في عمق هذه الأجساد وغريقة في بحر الهيولى القابل للكون والفساد، وغائصة في هياكل هذه المتولدات، منقطعة فيها كما قال تعالى: @QUR09 وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك، وقال: @QUR012 وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم.
وإنما قال لها سبعة أبواب، لكل باب منهم جزء مقسوم؛ لأن كل ما يجري في عالم الكون والفساد فبدلائل هذه السبعة السيارة، وإنما قال عليها تسعة عشر؛ لأن دلائلها لا تظهر في عالم الكون والفساد إلا بمسيرها في هذه البروج الاثنا عشر، فجملتها تكون تسعة عشر، وهي التي بها يكون تقلب أحوال الدنيا، وما تقتضيه موجبات أحكامها في مواليد هذه الأجساد، وما يدل عليها مما يصيبهم من الآلام والأوجاع والأسقام والأمراض والأحزان، من الجوع والعطش والحر والبرد، والفقر والغنى والذل والعبودية، والغموم والهموم، ونوائب الحدثان وعداوة الأقران، وحسد الجيران وجور السلطان ووساوس الشيطان، ونكبات الزمان ومصائب الإخوان، وخوف الموت ووعيد ما بعد الموت المذكور في القرآن، وما شاكل هذه المصائب التي لا يحصى عددها التي هي النفوس المرهونة بها ما دامت مع هذه الأجساد.
فإذا فكر العاقل اللبيب في حال النفوس المتجسدة وما يلحقها من المحن والمصائب بتوسط هذه الأجساد وما يعرض لها من الآلام والأوجاع والمناحس، كما بينا قبل، وتفكر أيضا في حالات النفوس التي هي أهل الجنة، وعالم الأفلاك الذين هم سكان السموات، إذا سمع بأنهم أحياء لا يموتون، وشبان لا يهرمون، وأغنياء لا يفتقرون، وجيران لا يتحاسدون، وإخوان على سرر متقابلين متنعمين ملتذين، خالدون فيها آمنون لا يخافون ولا يحزنون، فهم في روح وريحان ورضوان؛ رغبت نفسه إلى ما هناك وزهدت في الكون ها هنا.
فكلما نظر بعين رأسه إلى جسده في عالم الكون والفساد معذبا من أبناء جنسه، استعاذ بالله وسأله الخلاص والنجاة مما هو فيه من مشاركة أبناء الدنيا. وكلما نظر بعين عقله إلى نفسه وأبناء جنسه في عالم الأفلاك وما هم فيه من الروح والريحان، تمنى الوصول إلى هناك وسأل ربه اللحاق بهم، كما سأل يوسف الصديق عليه السلام، وكذلك إبراهيم عليه السلام، وعند ذلك تصير الدنيا عليه سجنا؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر»، ويكون عند ذلك من أصحاب الأعراف الذين هم أهل المعارف كما وصفهم الله تعالى: @QUR025 وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون * وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار - يعني أهل الدنيا التي في عالم الكون والفساد - @QUR07 قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين، وهؤلاء الرجال الذين على الأعراف هم الذين مدحهم الله تعالى بقوله تعالى: @QUR013 رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وقال: @QUR04 تتجافى جنوبهم عن المضاجع، فهؤلاء هم أولياء الله الذين هم يتمنون الموت لما قد تبين لهم ما بعد الموت من الوجود المحض والبقاء الدائم والروح والريحان والنجاة من الآلام والأوجاع والأسقام التي كلها جهنم ونيران.
وأما من لا يعرف ما وصفنا له لا يعقل ما بين الله تعالى في كتابه على ألسنة أنبيائه إلا هذه الدنيا التي كلها آلام جسدانية من الشهوات الجسمانية واللذات الحيوانية، فهو لا يرغب إلا فيها ولا يتمنى إلا الخلود معها، كما وصفهم الله تعالى فقال: @QUR013 يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر، فهؤلاء هم الكفار الذين تغطى عليهم الصفات الحقيقية والأسرار الخفية، التي كلها رموز أخروية ثابتة للنفوس الناجية من نيران الهاوية، نجانا الله وإياك أيها الأخ، ورزقنا وإياك الدخول في زمر الملائكة.
(4) فصل في كيفية وجدان اللذة والآلام معا في وقت واحد
فنقول: اعلم أن الإنسان في دائم الأوقات لا يخلو من ألم ولذة جسمانية وروحانية من عدة وجوه؛ مثال ذلك العاشق يرى معشوقه وهو على خيانة، فتسره رؤيته له ويلتذ بها، وتغمه خيانته له وتؤلمه، كما قال:
قايست بين جماله وفعاله
فإذا الملاحة بالقباحة لا تفي
وكمثل من يأكل طعاما يشتهيه وله رائحة منكرة تؤذيه مثل الصحنا والماميامه لساكن السواحل، فهو يلتذ بأكله وتؤلمه رائحته؛ ومثل من يسمع لحنا طيبا ونغمة لذيذة كغناء أبيات من الشعر فيها هجو له، فإنه يلتذ باستماع اللحن اللطيف ويغمه هجوه في وقت واحد؛ ومثل من يسمع بموت مورث له تركته، فيغتم لخبر موته ويسره ما ورث؛ ومثل من به جرب مؤذ يحكه فيجد له لذة وغما في وقت واحد وألمين متضادين وراحة بينهما؛ وكمن هو يعمل عملا متعبا أو صناعة شاقة يرجو عليها ثوابا جزيلا وأجرة وافرة، فهو يجد ألما من عمله المتعب ولذة وفرحا لما يرجو من ثوابه.
وعلى هذا القياس حكم سائر الآلام واللذات الجسمانية كما قال القائل:
ومن نكد الأيام أن صروفها
إذا سر منها جانب ساء جانب
أو كمن سكن عنه وجع العين وضرب ضرسه، فإنه يجد ألما وراحة في وقت واحد؛ وكمن له خلق حسن وخلق سيئ، فإنه يجد من أحدهما راحة ومن الآخر ألما في وقت واحد؛ ومثل من يرى صديقا قد غاب دهرا وأخبر بسوء حاله، فيسره رؤيته ويغمه سوء حاله ؛ أو كمثل من يضع إحدى رجليه في ماء بارد والأخرى في ماء مغلي، وإحدى يديه في ماء فاتر، فإنه يجد لذة وألما في حالة واحدة؛ ومثل من عمل عملا حسنا يرجو جزاء عليه وعملا سيئا يخاف عقوبة عليه، فيكون متألما ملتذا في وقت واحد. وعلى هذا المثال إذا اعتبر أحوال الناس فلا يخلو من ألم يؤذيه وراحة من ألم قد زال عنه، فيكون الإنسان الواحد في وقت واحد ملتذا متألما معاقبا مثابا.
وإنما ذكرنا هذه الإشارات وأوردنا هذه الأمثلة من أجل أن كثيرا ممن يتكلم في علم النفس ويبحث عن ماهية جوهرها وكيفية تشخيصها يرى ويعتقد أنها أشخاص متباينة كثيرة، فأكثر ما يقوي رأي من ظن أن النفس أشخاص كثيرة، ما يظهر من اختلاف أحوالها وأفعالها وأخلاقها وآرائها وأعمالها، وأن بعضها ملتذة وبعضها متألمة، فحكم بهذا الاعتبار أنها أشخاص كثيرة منفصلة متباينة كتباين الأشخاص الجسمانية المركبة، ثم ناقض رأيه بقوله بأنها جواهر بسيطة، كأنه لا يدري ما معنى البسيطة، ونحن قد أخبرنا بأنها نفس واحدة تجنست أجناسها وتنوعت أنواعها، وقد تشخصت بحسب اختصاصها بالأجناس الجسمانية وأنواعها وأشخاصها؛ لأنها في ذاتها متكثرة منفصلة متباينة؛ لأن اختلاف أفعالها بحسب استعمالها الأجساد المختلفة الأجناس والأنواع والأشخاص، كما بينا في رسالة تركيب الجسد.
إن اختلاف أفعال نفس إنسان واحد هو من أجل اختلاف أشكال أعضائه وفنون مفاصله، وإن نفس الإنسان نفس واحدة، وقد ظن كثير من أهل العلم أن للإنسان الواحد ثلاث نفوس: شهوانية وغضبية وناطقة، ونحن قد بينا بأن هذه الأسماء تقع على نفس واحدة بحسب أفعالها المختلفة؛ وذلك أنها إذا فعلت في الجسم الغذاء والنمو سميت نباتية وشهوانية، وإذا فعلت الحس والحركة سميت حيوانية غضبية، وإذا فعلت النطق والتمييز والروية والفكر سميت ناطقة، كما أن الرجل الواحد حداد نجار بناء، إذا كان يحسنها كلها ويعقلها.
فصل
فنقول: لما فرغنا من ذكر الآلام واللذات الجسمانية، وبينا أنها كلها هي راحة تجدها النفس عند رجوع الأمزجة إلى الاعتدال بعد خروجها من الاعتدال، وأن الآلام هي إحساس النفس بتغيير مزاج الجسد وخروجه عن الاعتدال الطبيعي أو عضو من أعضائه عند ملاقاة الأشياء المفسدة لها، كما بينا في رسالة الحاس والمحسوس، وقد بينا أيضا علة كراهية الحيوان للموت، وما العلة في وصول الآلام والأوجاع إلى النفس الحيوانية دون سائر النفوس الجزئية التي في العالم بأسرها؛ نريد أن نذكر في هذا الفصل ما اللذات الروحانية التي تجدها النفس بمجردها، وما آلامها التي تنفرد بها دون الجسد التي عبرت عنها الشريعة النبوية بالثواب والعقاب فنقول:
اعلم - أرشدك الله تعالى - أن اللذات أربع أنواع: شهوانية طبيعية، وحيوانية، حسية، وإنسانية فكرية وملكية روحانية. فاللذات الشهوانية الطبيعية هي التي تجدها النفس عند تناول الغذاء من الطعام الشراب.
وأما اللذات الحيوانية أيضا فهي نوعان؛ إحداهما ما تجدها النفس عند الالتئام وهي لذة الجماع، والأخرى ما تجدها عند الانتقام وهي شهوة تهيج عند الغضب، والفكرية ما تجدها النفس من اللذة عند تصورها معاني المعلومات ومعرفتها بحقائق الموجودات، والروحانية والملكية هي ما تجدها النفس من الراحة واللذة بعد مفارقتها الجسد التي هي الروح والريحان.
فاللذة الشهوانية مشتركة بين الإنسان والحيوان والنبات.
والحيوانية الحسية مشتركة بين الإنسان والحيوان دون النبات.
والفكرية مشتركة بين الإنسان والملائكة دون الحيوان.
والملكية الروحانية مختصة بالنفوس المفارقة للأجسام الناجية من بحر الهيولى.
فالنفوس النباتية لها لذات وليس لها ألم، كما قلنا قبل في رسالة كراهية الحيوان للموت.
والنفوس الملكية لها أيضا لذة وليس لها ألم، كما قد تقدم بيان ذلك، لكن لها الخوف والإشفاق، كما قال تعالى: @QUR04 يخافون ربهم من فوقهم، وقال تعالى: @QUR05 هم من خشية ربهم مشفقون.
فالنفوس الحيوانية لها لذة وألم جميعا، ولكن لذاتها كلها جسمانية.
فأما الأنفس الإنسانية فلها كل اللذات والآلام الجسمانية والروحانية جميعا؛ لذلك نحتاج أن نبين ونشرحها واحدة بعد واحدة؛ لتتضح وتتصور بحقائقها، فنقول:
اعلم أن جميع اللذات التي تجدها النفس الإنسانية نوعان؛ منها ما تجدها بمجردها، ومنها ما تجدها بتوسط الجسد؛ وهي سبعة أنواع:
فهذه كلها لذات تجدها النفس بتوسط الجسد مرتين؛ إحداهما عند مباشرة الحواس لها، والأخرى عند ذكرها بعدها.
مثال ذلك إذا رأى المرء وجها حسنا أو زينة من محاسن الدنيا، فإن النفس تجد عند رؤيتها لها سرورا ولذة، ثم إذا غابت عن رؤية العين بقيت رسوم تلك المحاسن مصورة في فكر النفس، وكلما لمحت هي ذاتها ونظرت إلى جوهرها رأت تلك الرسوم المصورة في فكرها؛ فسرت بها والتذت وتذكرت تلك المحسوسات التي انطبعت فيها منها هذه الرسوم.
وهكذا سائر المحسوسات حكمها إذا تذكرتها النفس التذت وسرت بها من غير شركة الجسد.
وهكذا حكم أضدادها التي هي الآلام؛ وذلك أن الإنسان إذا رأى منظرا وحشيا أو صورة قبيحة، أو سمع صوتا هائلا مفزعا، فإنه يؤلمه رؤيته لها في وقته واستماعها، وبعد مغيبها إذا تذكرها وتفكر فيها. وليس التذكر والتفكر شيء سوى لمحات النفس ذاتها ونظرها إلى جوهرها ورؤيتها رسوم تلك المحسوسات مطبوعة في ذاتها، كما ينطبع نقش الفص في الشمع المختوم. فهذه الملاذ والآلام، وإن كانت لا تصل إلى النفس إلا بتوسط الجسد، فقد تجدها بعد غيبة المحسوسات عن مباشرة الحواس لها، فيدل هذا على أن النفس لها لذة تجدها بعد مفارقة الجسد أيضا كما تجد لذة المحسوسات بعد مفارقتها وغيبتها.
(5) فصل في اللذات الروحانية
فنقول: أما اللذات الروحانية التي تجدها النفس بمجردها، فهي نوعان؛ إحداهما ما تجدها وهي مفارقة للجسد، والثانية ما تجدها وهي مقارنة له. فالتي تجدها وهي مفارقة له نوعان؛ إحداهما ما يرد عليها من خارج، كما بينا قبل هذا، والآخر من ذاتها، والتي تجدها وهي مقارنة له فهي أربعة أنواع:
وهذه اللذات مشتركة بين الإنسان وبين الملائكة وأضدادها من الآلام، ومشتركة بين الإنسان والشياطين، كما سنبين بعد هذا الفصل.
وأما بيان ما يلحق النفوس من اللذة والألم في اعتقاداتها ومعارفها وجهالاتها وأخلاقها وأعمالها، فاعلم إن الإنسان إذا كانت أعماله سيئة وأفعاله قبيحة، فإن نفسه أبدا تكون مرتابة مرعوبة مضطربة متألمة، كما ذكر الله تعالى في صفة المنافقين فقال: @QUR09 يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله ... فإذا كانت أعمالهم صالحة وأفعالهم جميلة، فإن نفوسهم أبدا تكون ساكنة هادئة مستريحة.
وهكذا إذا كانت أخلاق الإنسان جميلة وسجاياه سهلة ومعاملته طيبة ومخالطته عذبة، فإن نفسه تكون أبدا في القلوب محبوبة ومن الغوائل آمنة. وإن كانت أخلاقه شرية وطباعه وحشية وهمته سبعية، يكون من يصحبه أبدا في عناء وهو من نفسه في جهل وبلاء.
فهكذا حكم الاعتقادات والآراء، وذلك أن بعضها مؤلم لنفوس معتقديها ومحير ومشكك كما قيل (شعرا):
ألم تر أني مذ ثلاثين حجة
أروح وأغدو دائم الحسرات
ومثل من يعتقد أن ربه قتلته اليهود، ومثل من يعتقد أن إمامه مختف من خوف مخالفيه، ومثل من يعتقد أن رب العالمين خلق خلقا وناصبهم العداوة وهو إبليس وجنوده، ومثل من يعتقد أن رب العالمين حقود حنق يغتاظ على الكفار والعصاة من خلقه، ومثل من يرى ويعتقد أن أمر العالم غير منتظم وأن مدبره وصانعه قد أهمل أمر عالمه حتى يجري فيه أشياء على غير مراده ومشيئته، ومثل من يعتقد ويرى أن رب العالمين الغفور الرحيم الودود البار المحسن الحنان المنان الجواد الكريم الجميل يأمر الملائكة بأن يأخذوا الكفار والعصاة ويرمون بهم في خندق من النار، وكلما احترقت جلودهم وصاروا فحما ورمادا أعاد فيها الرطوبة والحياة ليذوقوا العذاب.
ومثل من يعتقد أنه يباشر في الجنة مع الأبكار ويلتذ منها ويزيل البكارة ثم تعود البكارة.
ومثل من يعتقد ويرى أنه يشرب الشراب في الجنة ويكون باريه ساقيه.
ومثل من يعتقد أنه يتمنى في الجنة الطيور المشوية الحاصلة عنده، فيتحصل بعد تمنيه في الحال، ثم يأكل منها حتى الشبع، ثم بعد ذلك تطير الطيور كما تطير في حال الحياة.
ومثل من يعتقد أن الإنسان إذا مات بطلت نفسه ووجودها.
ومثل من لا يرجو الجنة إلا بعد خراب السموات وطيها كطي السجل للكتب.
ومثل من يعتقد أن الكواكب تتناثر وتتساقط في القيامة.
ومثل من يعتقد أن أعمال الإنسان تجعل في كفتين من كفتي الميزان.
ومثل من يعتقد سؤال منكر ونكير في القبر من جسد الميت.
ومثل من يعتقد ويرى أن في الجحيم تنانين وثعابين وأفاعي يأكلون الفساق ويصيرون أحياء بعد ذلك؛ وما شاكل هذه من الاعتقادات المؤلمة لنفوس معتقديها مع أن جميع ما نطق به الأنبياء عليهم السلام من صفة الجنة ونعيم أهلها وعذاب النار والعقاب وأحوال القيامة كلها حق وصدق لا مرية فيها، ولكن ليس الأمر كما يعتقد هؤلاء الظلمة الكفرة، بل أمر وراء ذلك لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم.
وأما من يرى ويعتقد ويعلم أن للعالم بارئا حكيما قادرا حليما جوادا كريما غفورا رحيما، وأنه قد أحكم أمر عالمه على أحسن نظام، ورتب تدبير الخليقة على أتقن حكمة، ولم يترك فيه خللا، ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، ولا يرى في خلق الرحمن من تفاوت؛ فإن نفسه أبدا ساكنة هادئة مستريحة من الألم والآراء الفاسدة وأوجاع الاعتقادات الزائفة، ومن وحشة ظلمات الجهالات المتراكمة، وهو في راحة من نفسه، والخلق في راحة منه، ومن جهة في أمان لا يريد بأحد سوءا، ولا يرى له عليهم فضلا، ولا يطالبهم بحق، ولا يشكوهم من جفاء، ولا يصيبهم منه أذى فهذه صفة إخوانك الكرام.
فهل لك يا أخي أن ترغب في صحبتهم وتتبع منهاجهم وتسير سيرتهم وتتخلق بأخلاقهم وتنظر في علومهم وسياستهم؛ لتعرف أسرارهم واعتقاداتهم، أو تحضر مجلسهم لتسمع كلامهم وأقاويلهم أو تقرأ رسائلنا هذه لعلك توفق لفهم معاني ما تضمنته وتنتبه لنفسك من نوم الغفلة وتستيقظ من رقدة الجهالة وتنفتح لها عين البصيرة، فتحيا حياة العلماء وتعيش عيش السعداء وتصعد إلى ملكوت السماء.
فصل
ثم اعلم أن من الآراء والاعتقادات ما هو مؤلم لنفوس معتقديها ومؤذ لها، ومنها ما هو مفرح ومسر وملذ لها، كما بينا قبل هذا، ولكن نضرب مثلا لذلك كيما يتضح.
* **حكاية: **ذكروا أنه كان رجل من أرباب النعم متدينا، وكان له ابن متجاهر بالسكر، وكان الرجل كارها لذلك منه.
فقال له يوما: يا بني انته عن السكر حتى أعطيك شطرا من مالي وعقاري وأفرد لك دارا وأزوجك بحسناء إحدى بنات أرباب النعم.
فقال ابنه: يا أبت ماذا يكون؟ فقال: تعيش فرحا مسرورا ملتذا ما بقيت.
فقال ابنه: إن كان الغرض هو هذا فهو حاصل لي. فقال له أبوه: كيف ذلك؟
قال: لأني إذا سكرت وجدت في نفسي من الفرح واللذة والسرور حتى أظن معه أن ملك كسرى كله لي، وأتخيل في نفسي من العظمة والجلال حتى أرى العصفور مثلا قدر البعير.
فقال له أبوه: ولكن إذا صحوت لا ترى لذلك حقيقة. قال: أعود فأشرب ثانيا حتى أسكر فأرى مثل ذلك.
فهكذا القياس في حكم المعتقدين ببقاء النفس بعد مفارقتها الجسد في وجدان لذاتهم؛ لأنه إن كان الغرض من الحياة في الدنيا ليس إلا لأجل اللذة والفرح والسرور والراحة بعد الموت، كما قال تعالى: @QUR06 وترجون من الله ما لا يرجون بعد الموت الذي ليس هو شيئا سوى مفارقتها الجسد، كما بينا قبل هذا، وقد بينا أيضا في رسالة حكمة الموت، ولا ينقص هذا الاعتقاد من لذاتهم في الدنيا شيئا.
أما معتقدو فنائها فإنهم لا يخلون؛ إما أن يكونوا من سعداء أبناء الدنيا، أو من أبناء أشقيائها، فلو كانوا من أبناء سعدائها فإن هذا الرأي والاعتقاد يؤلم نفوسهم ويؤذيها؛ وذلك أنهم كلما فكروا في الموت والفناء تنغص عليهم عيشهم، وأدخل الحزن على نفوسهم، ونقص من لذاتهم في دنياهم؛ لأنهم قد أيقنوا بذهابها وفنائها، ولا يرجون غيرها ولا يؤملون سواها. وإن كان هؤلاء المعتقدين بفناء النفس من أبناء أشقياء الدنيا، فهم يعيشون في غم وحزن طول أعمارهم في الدنيا ويموتون آخره بحسرة ومصيبة.
ثم اعلم أن الاعتقادات الرديئة والآراء الفاسدة المؤلمة لنفوس معتقديها المؤذية لها كثيرة لا يمكن إحصاؤها وبيان صفاتها، ولكن نذكر المحمودة منها ونصفها لتعرف ويتمسك بها وتجتنب سواها، وقد بينا في رسالة النواميس طرفا من ذلك، وفي رسالة اعتقاد إخوان الصفا، ورسالة ماهية الإيمان وخصال المؤمنين المحققين الذين وعدهم الله الجنة، وشرحنا طريقتهم وأخلاقهم وآراءهم وعلومهم وأعمالهم في إحدى وخمسين رسالة، وبينا فيها صفاتهم وكيفية أحوالهم، لكن نذكر جملة ها هنا منها بقول وجيز مختصر.
وهو أن الإنسان العاقل يرى ويعتقد أن للعالم صانعا بارئا حكيما قديما حيا عالما، وأنه قد نظم أمر عالمه نظاما محكما، ورتب الموجودات ترتيبا متقنا، ولا يخفى عليه من أمر عالمه صغيرة ولا كبيرة إلا وهو يعلمها ويدبرها تدبيرا واحدا بحسب ما يليق بواحد واحد من الموجودات والكائنات، وبحسب الاستعدادات الحاصلة من الكائنات، وأن يجري حكم عالمه بجميع خلائقه من الأفلاك والبروج والكواكب والأركان والمولودات كمجرى حكم إنسان واحد وحيوان واحد، وأن سريان قوى ملائكته في أطباق سمواته وفضاء أفلاكه كسريان قوى نفس إنسان واحد في جميع بدنه ومفاصل جسده، وهذا قول مجمل قد شرحنا تفسيره وبيناه في جميع رسائلنا أجمع، ولكن لا بد من أن يصادره المتعلمون في أول الأمر والمبتدئون بالنظر في هذا الشأن العظيم كما يصادرون سائر العلوم والصنائع، ثم في آخر الأمر يعرفون حقيقته وتتبين لهم صحته.
فصل
ثم اعلم أن غرض إقرار المبتدئين واعتقاد المتعلمين في مبدأ كل صناعة على تحقيق أصولها قبل معرفتهم بها تقليدا هو من أجل أنه لا يبين ذلك إلا بعد التبحر فيها والبحث والكشف عنها.
واعلم أنه كما أن المتوسطين في كل علم وصناعة لا يرضون بالتقليد، إذ قد يمكنهم البحث والكشف عنه بالبراهين، فهكذا أيضا ينبغي للمقرين بكتب الأنبياء عليهم السلام وما فيها من الأسرار والإشارات المكنونة والعلوم الشريفة، والمتوسطون في العلوم لا يرضون بالتقليد مثل الصبيان والنساء وضعفاء العقول، بل يجب عليهم البحث عنه والكشف عن الأسرار والإشارات.
ذلك بأن ليس غرض الأنبياء عليهم السلام فيما وصفوا من مجلس الجنان ولذات أهلها هو الإقرار باللسان حسب، بلا اعتقاد ولا الاعتقاد حسب، بلا تحقيق يظهر لهم، بل الغرض هو التصور لها بحقائقها كيما تقع الرغبة فيها والطلب لها؛ لأن الإنسان لا يطلب ما لا يرغب فيه ولا يرغب فيما لا يتحققه ولا يتحقق ما لا يتصوره ولا يتصور الشيء الخفي الغائب إلا بالوصف البليغ بالمحاسن، فمن أجل هذا أكثر في القرآن من وصف محاسن الجنان وسرور أهلها ولذات نعيمها؛ فتارة وصفها أوصافا جسمانية على قدر طاقة القوم مثل قوله تعالى: @QUR015 على سرر موضونة * متكئين عليها متقابلين * يطوف عليهم ولدان مخلدون * بأكواب وأباريق ... الآية، ذكر هذا وبين على قدر قبول أفهامهم لا بمعنى أن هذه الأشياء ستوجد في الجنة على حالات جسمانية، بل ستوجد أشياء روحانية ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وقال تعالى أيضا: @QUR012 في سدر مخضود * وطلح منضود * وظل ممدود * وماء مسكوب وما شاكلها من أوصاف الأمور الجسمانية.
وتارة وصفها بأوصاف روحانية على قدر فهم المتوسطين مثل قوله تعالى: @QUR06 في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وقال: @QUR013 فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون، وقال: @QUR06 وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وقال: @QUR07 وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة وما شاكلها من الأوصاف الروحانية التي لا تليق بالأجسام الطبيعية. وتارة وصفها بأوصاف هي بين الروحانية والجسمانية مثل قوله تعالى: @QUR031 مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات.
أما ترى يا أخي أنه قال مثل الجنة على سبيل التشبيه والتمثيل ليقرب من الفهم تصورها؛ لأنه يقصر الوصف عنها بحقائقها ، وإنما خاطب كل طائفة من الناس بحسب عقولهم ومراتبهم في المعارف والفهوم؛ لأن دعوة الأنبياء عليهم السلام عموم للخاص والعام جميعا، ومن بينهما من طبقات الناس، وقد صرح المسيح عليه السلام في وصف الجنان ونعيم أهلها بأوصاف غير جسمانية، فقال للحواريين في وصية لهم: إذا فعلتم ما فعلت وما قلت لكم تكونون معي غدا في ملكوت السماء عند أبي وأبيكم، وترون ملائكته حول عرشه يسبحون بحمده ويقدسونه، وأنتم هناك ملتذون بجميع اللذات بلا أكل ولا شرب. وإنما صرح المسيح عليه السلام ولم يرمز؛ لأن خطابه كان مع قوم قد هذبتهم التوراة وكتب الأنبياء - عليهم السلام - وكتب الحكماء أيضا وكانوا غير محتاجين إلى الإشارات والتنبيهات، بل كانوا متهيئين لصورها مستعدين لقبولها.
فأما سيد الأنبياء وخاتم المرسلين - صلى الله عليه وآله - اتفق مبعثه في قوم أميين من أهل البوادي، غير مرتاضين بالعلوم ولا مقرين بالبعث والنشور، ولا عارفين بنعيم ملكوت الدنيا، فضلا عن معرفة نعيم أهل السموات الذين هم ملكوت الأفلاك والآخرة وأهل الجنان، فجعل أكثر صفة الجنان في كتابه جسمانية ليقربها من فهم القوم ويسهل تصورها عليهم وترغب نفوسهم بها. ونحن قد جعلنا بحثنا عن أسرار الكتب الإلهية، وبينا في أكثر رسائلنا معنى أسرار التنزيلات النبوية، وكشفنا عن أكثر الرموزات والإشارات وعن الموضوعات الناموسية.
وذلك لأن خطابنا لا يكون إلا مع أقوام علماء فضلاء مارسوا إخوان الصفاء ورسخوا في العلم وارتاضوا بالرياضيات الحكمية المقرونة بأسرار الكتب الإلهية وإشارات الأنبياء عليهم السلام.
فإن كنت أيها الأخ واحدا منهم فهلم إلى صحبة إخوان لك فضلاء وأصدقاء كرماء علومهم حكمية وآدابهم نبوية وسيرتهم ملكية ولذاتهم روحانية وهممهم إلهية، واترك صحبة إخوان الشياطين الذين لا يريدونك إلا لجر منفعة الأجساد أو لدفع المضرة عنها. وكن يا أخي من المؤمنين الذين بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، حتى تكون من الذين أشار إليهم بقوله: @QUR06 إن عبادي ليس لك عليهم سلطان، وتكون من الذين مدحهم الله تعالى بقوله: @QUR07 الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين .
وإذ قد فرغنا من ذكر اللذات والآلام الجسمانية التي تجدها النفس بمفارقتها الجسد وما تجدها بمجردها وهي مع الجسد، فنريد أن نذكر ما تجده بعد المفارقة من اللذة والآلام التي هي جزاؤها وثوابها على ما عملت من شر وعرفان وإنكار، المعبر عنه في الشريعة النبوية بالثواب والجزاء والعذاب الأليم.
(6) فصل في كيفية وصول الآلام إلى النفوس الشريرة بعد مفارقة أجسادها، وكيف تكون من جنود إبليس وحزب الشياطين
فنقول: اعلم أن الإنسان العاقل إذا سمع أوامر الناموس ونواهيه ووعيده وزواجره، ثم لم يأتمر بحدوده ولم ينقد لأحكامه، أو سمع العلوم الحكمية فلم يقم بواجبها، ثم أهمل أمر نفسه وأعرض عن النظر في مصالحها بعد مفارقتها الجسد، بل جعل أكثر عنايته في إصلاح شأن هذا الجسد واهتمامه في تربيته، واشتغل الليل والنهار بما يصلح الجسد من المأكولات والمشروبات واللبس والمركب والمسكن، وجمع المال والأثاث وزينة الدنيا، واستغرق في الشهوات الجسمانية وغاص في اللذات الجرمانية، لا يفكر في غيرها ولا يهمه سواها، وتمنى الخلود في الدنيا مع إنه يتيقن بأنه لا يترك ها هنا، وأفنى عمره كله ساهيا ولاهيا إلى الممات.
ثم جاءته سكرة الموت بالحق التي هي مفارقة النفس الجسد على كره منها وإجبار منها، وتلك شربة لا بد من شربها لكل من دخل في عالم الأجساد والأجسام الطبيعية الهيولانية، وبقيت عند ذلك نفسه بلا جسد وقد سلبت آلات الحواس التي كانت تنال بها اللذات الجسمانية، وقد اعتادتها بطول الدربة فيها، فانطبع في همتها النزول إليها، ولا وصول لها إلا بهذا الجسد وأعضائه، وقد منعت ذلك لكون مثلها عند ذلك كمثل من سلت عيناه وصمت أذناه، وشلت يداه وقطعت رجلاه وخرس لسانه وشدت منخراه، وعمي قلبه وفارقته أحبابه وجفاه أصدقاؤه وتركه إخوانه، وهجره جيرانه وظفر به أعداؤه وشمت به حساده، وما بقي معه إلا الروح في الجسد معذبا، فلا هو حي يلذ بالعيش ولا ميت يستريح من العذاب كما قال تعالى: @QUR05 لا يموت فيها ولا يحيا، فتبقى تلك النفوس عند ذلك تائهة هائمة بهمومها في طلب ما قد فاتها بما اعتادته من لذات هذه المحسوسات، وقد منعت الوصول إليها والعود، فعند ذلك تتمنى وتقول بهمتها: يا ليتنا نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل، يا ليتني كنت ترابا، فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا؛ ثم يقول الله سبحانه: ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه؛ فعند ذلك تبقى بحسرتها وندامتها متألمة، بذاتها معذبة من سوء عاداتها، عمياء في جهالاتها دون فلك القمر، سائحة في قعر الأجسام المدلهمة، غريقة في بحر الهيولى، هائمة هاوية في عالم الكون والفساد مع أبناء جنسها من الأمم الخالية إخوان الشياطين وجنود إبليس أجمعين، كما ذكر الله تعالى: @QUR05 كلما دخلت أمة لعنت أختها ... إلى آخر الآية، وهم متعلقون بأبناء جنسها من النفوس المتجسدة بالوسوسة لها إلى ما في طباعها من شهوات هذه اللذات المحسوسات ضالين مضلين في جهنم خالدين، كما ذكر الله تعالى: @QUR04 فكبكبوا فيها هم والغاوون، وذلك هو العقاب والعذاب الأليم والجزاء للنفوس الشريرة الجاهلة والغافلة عن الحقائق والعلوم الشرعية.
(7) فصل ماهية الشياطين وجنود إبليس أجمعين
اعلم أن النفوس المتجسدة الخيرة ملائكة بالقوة، فإذا فارقت أجسادها كانت ملائكة بالفعل، كما بينا في رسالة صفات المؤمنين المحققين ورسالة البعث، كذلك النفس المتجسدة الشريرة هي شياطين بالقوة، فإذا فارقت أجسادها كانت شياطين بالفعل.
فهذه النفوس الشيطانية بالفعل توسوس للنفوس الشيطانية بالقوة لتخرجها إلى الفعل، كما قال تعالى: @QUR010 شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، فشياطين الإنس هي النفوس المتجسدة الشريرة آنست بالأجساد، وشياطين الجن هي النفوس الشريرة المفارقة للأجسام المحتجبة عن الإبصار، ومثل وسوسة هذه النفوس المفارقة لهذه النفوس كمثل من قويت شهوته للطعام والشراب وضعفت حرارته الهاضمة عن نضجها، فهو يشتهي ولا يستمرئ، فعند ذلك تكون همته أن يرى الطعام والآكلين لينظر إليهم، فيستريح عنها لضعف الآلة وبطلان فعل القوة، وكمثل من ضعفت آلة جماعه لا يقوم عليه، فهمته أن يرى الفاعلين لعله يقوي طبيعته وينهض آلته.
وهذه حكم النفوس المفارقة ليست لها آلة تنال بها اللذات المحسوسة، فهي تحب وتوسوس إلى أبناء جنسها ممن لها تلك الآلة على الفعل.
فهكذا وسوسة النفوس الشريرة المبغضة إذا فارقت أجسادها تعلقت بأبناء جنسها من النفوس المتجسدة المبغضة الشريرة بالوسوسة لها إلى القتال والخصومات والعداوات، وإلى هذه النفوس أشار بقوله تعالى: @QUR014 من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة والناس.
فهكذا حكم أبناء الدنيا، يا أخي، الجاهلين بأمر المعاد، المشتغلين بالأجساد، الغافلين عما بعد الموت، المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم، كما ذكر الله تعالى: @QUR06 ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون كما بينا في رسالة البعث والقيامة، فاطلب من هناك.
وإذ قد فرغنا من ذكر الآلام الروحانية التي تصل إلى النفوس الشريرة بعد مفارقتها أجسادها التي كانت جنة لها، فنريد أن نذكر اللذات الروحانية التي تجدها النفوس الخيرة الفاضلة بعد مفارقتها أجسادها التي كانت كالسجن لها، كما بينا في رسالة كراهية الحياة والموت.
ثم اعلم يا أخي أن اللذة والراحة والسرور والفرح والنعيم التي تجدها النفوس الخيرة الفاضلة الملكية بعد مفارقتها والجسد المعبر عنها في الشريعة بالثواب والجزاء؛ يقصر الوصف بحقائقها، ولا يبلغ البشر كنه معرفتها؛ لأنها روحانية أبدية سرمدية، قال تعالى: @QUR013 فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون، وقال عليه السلام: فيها من اللذات ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من الروح والريحان.
ولكن نذكر منها طرفا ونشير إليها إشارة وهمية، حسب ما جرت عادة الإخوان الأصدقاء في ذلك، ونضرب لذلك مثلا شبه الرموز والإشارة والتنبيه؛ كيما يقرب من فهم المتفكرين، ويتصور في أفكار المريدين، فنقول:
اعلم أنه كان في الأزمان الماضية فتى من أولاد الملوك شابا ظريفا حسن الوجه، كامل البنية، تام الصورة، جميل الأخلاق، كريم الأفعال، عادل السيرة؛ عشق جارية حسناء من أقاربه من بنات الملوك، فتزوجها وزفها كما يليق بأولاد الملوك من الكرامات، وعاش معها زمانا طويلا في عز سلطانه ونعيم مملكته ولذة شبابه وسرور نعمته، آمنين هادئين بلا تنغيص من عوارض الحدثان.
ثم فرق الدهر بينهما بموتها وزال الفتى عن ملكة بغلبة عدو ظهر عليه واغترب عن بلاده وساح في الأرض على حالة الغرباء، وافتقر وأصابه الذل والهرم، وضعف بدنه، وذهبت قوته وكل بصره، وثقل سمعه وأصابه العري والجوع والعطش، وتمنى الموت مما هو فيه من المحنة والبلوى والجهد والشدة، فدخل خربة ونام فيها على مزبلة ورماد يستريح بلين وطائها، فوجد راحة فنام فرأى في منامه كأنه شاب طري كهيئة ما كان عليه في صباه، وقد رجعت إليه قوة بدنه ونشاط نفسه وأيام شبابه، وكأنه على سرير في ملكه وعز سلطانه ونعيم أثاثه وسرور أيامه، إذ هو بتلك الجارية كهيئتها يوم عشقها وزمان تزوجها بحسنها وجمالها، فعانقها والتزمها شهوة ونال منها شهوته كما كان يدرك بدءا وهما على سرير الملك، يحملهما الريح حيث أرادا، فمن شدة ما وجد من اللذة والفرح اضطرب من نومه وتحرك وانتبه، فإذا هو في تلك الخربة وفي تلك المزبلة وكلاب حوله تنبح عليه.
فماذا ترى أيها الأخ؟ كم بين حال نفسه في ذلك المنام وما وجد من اللذة والسرور والفرح، وبين حالتها لما استيقظت من الغموم والأحزان والشدائد والبلوى والجهد؟
فهكذا القياس بين حال النفوس الخيرة وكونها مع الأجساد وبين كونها مفارقة للأجساد من اللذة والفرح والسرور، وبالإضافة إلى حالها مع الأجساد وما يلحقها من الهموم والغموم والأحزان والمصائب والشدائد، نجانا الله وإياك وجميع إخواننا من ألم نيران جهنم، عالم الكون والفساد، وأوصلك وإيانا إلى نعيم الجنان عالم الأرواح والأفلاك من ملكوت السماء وجوار الملائكة المقربين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
(تمت رسالة الآلام واللذات، ويتلوها رسالة في بيان علل اختلاف اللذات.)
الرسالة السابعة عشرة من الجسمانيات الطبيعيات في علل اختلاف اللغات ورسوم الخطوط والعبارات
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
(1) فصل
اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه لما فرغنا من ذكر اللذات والآلام الجسمانية والروحانية، وذكر علة كراهية الحيوان للموت، نريد أن نذكر في هذه الرسالة التي في آخر الطبيعيات بيان اختلاف علل اللغات، فنقول:
إن معرفة علل اختلاف اللغات والكلام والأصوات ورسوم الخطوط والكتابات، وكيفية مبادئ المذاهب، واعتقادات الآراء والديانات، وأصل تكوينها ومبدئها وظهورها ومنشئها، وتزيينها ونموها وكثرتها واختلاف أهلها فيها وآرائهم ومنهاجهم، ودثور قوم وكون آخرين منهم قرنا بعد قرن وأمة بعد أمة؛ لا تكون إلا بعد البيان والإيضاح عن الأصل الذي تفرعت عنه هذه الأمور التي ذكرناها، والإخبار عن كيفية تركيبها وتحليلها وحركتها في مبدئها وكونها بذاتها، وعن اختلاف مجاريها وينبوعاتها في سائر الأجسام، وشدة بيانها عن الحواس وسريانها في الأجناس وإنارتها للحواس وصفة حدوثها بسرعة وانتقال وخروجها بحركة وانفصال وذهابها بعدم واضمحلال وكيفية وجودها في عالم الإنسان، وكيف كانت فيه في مبدئها، وكيفيتها فيما دونه من الحيوان وغير الحيوان، تؤديها إلى حاسة السمع من جملتها ومن يحملها، وكيفية حملها، وما السبب الموصل لها إلى الحاسة المتحققة بها ولم يدركها من الحواس غير هذه الحاسة، وما العلة في ذلك وكيف يعرف الإنسان بخاصة هذه الحاسة مفهومها وغير مفهومها بالبرهان.
وهذه أمور غامضة نحتاج فيها إلى بحث دقيق والإخبار بها من غايات الأسرار، ونريد أن نذكر منها في هذه الرسالة طرفا بحسب التوفيق ليكون مدخلا إلى علم ذلك ومقدمة بين يديه؛ ليسهل الباقي ويكون بأوجز قول يؤدي إلى الفهم، وأوضح دليل يسهل به العلم، من غير تطويل يشتبه على قارئه، ولا إسهاب يضجر راويه، ونبدأ من ذلك في ذكر الأصل والعلم في مبادئه، فنقول:
اعلم أن هيولى الحكمة تتحد من إرادة الهيئة؛ لأنها هيولى قابلة لجميع الأشياء، وهي مادة سماوية وقوة فلكية وأسباب علوية وقوة عقلية متصلة بجواهر روحانية وأشخاص نفسانية، ترتبط بأفلاك دائرة وتتصل بكواكب سائرة، وتشرق على نجوم طالعة وتضيء بأنوار ساطعة، وترمي إلى ما دونها أنوارها وتودع المصطفين في الأشخاص الإنسانية أسرارها، وتجعل فيهم ودائع الخيرات وتجعلهم مفاتيح البركات، وذلك بما يتخالف إليها ويتعاقب عليها من اتصال وافتراق واختلاف واتفاق، من غير خلل في نظام الابتداء ولا تنقص عن تمام البلوغ والانتهاء، وأن تلك المادة الفاعلة لجميع المكونات لا تدرك إلا بلطائف الحواس، ولا يبلغ تناولها إلا بالالتماس، وكيف لا يكون ذلك كذلك، وهو السبب الذي لا تنقضي عجائب مادته ولا تفني مواد كميته؟! فنقول:
اعلم يا أخي أن المعرفة لها والعلم بها درجة صعبة الارتقاء ومسافة بعيدة الانتهاء؛ وهي درجة العارفين ومقام المستبصرين، الناظرين إلى آثارها العارفين بأخبارها، من طريق العناية عن الحواس الحيوانية والطريق الجرمانية؛ إذ كانت آثارها روحانية ومواردها نفسانية، وعنها صدرت القوة المتصلة بالحكماء وهي روح القدس النازلة على الأنبياء، عليهم السلام، بالوحي من السماء، وعليها معول العلماء، وربما وردت أشياء كثيرة الاختلاف بعيدة الائتلاف، متباينة القوانين مختلفة الموازين.
وذلك أن ما كان منها في هذا المكان الأرضي والمركز السفلي تضعف الحواس عن إدراك معرفتها، وتعجز المشاعر البشرية التي هي من أسباب الهيولى عن بلوغ إدراكها، فإذا كانت الأشياء على هذا المثال منشؤها، وبهذا الترتيب مبدؤها، وكانت القوة التي هي مادة المعرفة بالحس في العالم الإنسي، وسبب القبول في الجسم المجبول يعجزان عن البلوغ ويضعفان عن الوصول، وكانت مدة الزمانية التي هي سبب الحياة الإنسانية تقصر عن الطلب وتفنى قبل بلوغ الأرب، وتضيق عن الإحاطة بمعرفة ذلك السبب.
وإذا كان الأمر على ما وصفنا، كان أول ما قصده العاقل، وتوخاه واعتمد عليه الفاضل، وتحراه معرفة ما طاوعه عليه حسه وساعده على قبوله جوهر نفسه، وتلقاه أيام مدته وأعمل فيه فكرته زادت فيه بصيرته؛ فمن لا حس فيه لا معرفة له، ومن لا معرفة له لا جوهر له، ومن لا جوهر له لا بلوغ له، ومن لا بلوغ له لا مقر له، ومن لا مقر له لا وجود له، ومن لا وجود له فهو العدم.
(2) فصل
ثم اعلم أن الغرض من اتحاد المركبات كلها هو معرفة السبب الموجب لذاتها، المنشئ لمباديها، المؤلف لكيفياتها، وكيف كان منشأ الابتداء، وإلى أين تئول العاقبة في الانتهاء، وكيف كان التئام التأليف واتفاق اللطيف بالكثيف وازدواج التركيب، وكيف يكون افتراق المجتمع وانفراد المزدوج وانحلال المنعقد، واتحاد منفردها وعدم وجودها، ونفاد أجزائها بعد صحة وجودها، وسلامة معهودها ووثاقة معقودها، فإذا أنت علمته وتصورته وتبينته وتأملته، بان لك إذا ساعدك عليه حسك، وأوصلك إلى معرفة قبول جوهرة نفسك، وتأملته تأمل التحقيق، وبان لك كيفية التأليف والتركيب، واقتران اللطيف بالكثيف الذين بهما وبصحة معرفتهما، وجود مادتهما وإحداهما مادة أرضية وقوة جسمية، والأخرى صورة روحانية وشهوة ملكية، فيا لها من قصة عجيبة ظريفة من اجتماع ما علا مع ما دنا، وارتباط ما لطف بما كثف! جارت في ذلك عقول الحكماء، وتاهت فيه أذهان العقلاء، وانسدت الطرقات، وانطمست العلامات، وتعذرت الدلالات؛ إذ كان من المنكر في هذا العالم على من له حكمة ونظر، أن يقرن العالم بالجاهل، وأن يجمع بين الجوهر والحجر في مقر واحد، اللهم إلا يكون أراد تعذيب العالم بالجاهل؛ جزاء له بذنب عمله وجرم قدمه، أو مقارنة الجوهر بالحجر وكونهما في مكان واحد ليكون الحجر سترا على الجوهر وواقيا له وغطاء عليه وحجابا بين يديه، لا أن يكون العالم والجاهل عنده في مقام واحد.
وكذلك الحجر والجوهر إذا كانا في مقام من جهة الصورة الجسمانية والهيولى الجرمانية منعكسين في فيء الهيولى، فإنهما لا يعرفان ما اتحد بهما بفيء الظل والجوهر من المواد المضيئة والرتب العلوية، أعني العالم، والحجر عدم ذلك فليس يقال بأنه عالم.
ولما كان ذلك كذلك زالت الشبهة والإنكار لوجود معرفة ذلك السبب الموجب الاجتماع، ووجب للطالب إذا طلب معرفة ذلك السبب، ومن بعد وجود اجتماعها حصول افتراقهما ووجود أحدهما بجملة وعدم الآخر وتفرقته، وإذا عرفت ذلك بان لك الفرق بين الجسم والعرض، وأدركت المراد والغرض، وسأبين من ذلك طرفا يعينك على ذلك، ويبلغك إلى معرفة ما وصفت لك؛ إذ قد فرغنا من ذلك رجعنا إلى الإبانة عن تركيب الأصوات، واختلاف اللغات، ومبادئ الخطوط والكتابات والألفاظ والعبارات، واستخراج الحروف والمؤلفات، ومن أين تخرجت، وعمن أحدثت، وفي أي مكان وجدت، والله ولي التوفيق.
(3) فصل
ثم اعلم أنه لما سرت القوة النفسانية في الجسم، الذي هو العالم بأسره، بعد كونها لا سريان لها، ساكنة في حظيرة القدس في روضة الأنس، حيث سريان القوة العلوية فيها، وإشراقها عليها وكونها مرتبة بحيث رتبها باريها، كما قال تعالى: @QUR04 ولقد علمتم النشأة الأولى، وهي الكون في وقت الابتداء، فلما امتلأت من الفضائل والخيرات وما بلغ إليها من الإفاضة، وكانت ذات فكر وتخيل، فتفكرت ثم تخيلت ثم نظرت، فأرادت أن تكون ذا منة وتفضل، وأن تكون رياسة ونفاسة، وأن تكون مفيدة، فبدا لها في ذلك التخيل الذي تخيلته، والمثال الذي مثلته، وانبث السريان فيه والارتباط به من جسم العالم، ومكنها الله تعالى من ذلك، وجعله جسدا لها وأراها خلاف ما ظنته، فلما دارت أفلاكه، وسارت أملاكه، وزهرت كواكبه، وبدت عجائبه؛ أقبلت تمثل فيه ما كان ممثلا فيها، وتخرجه من القوة إلى الفعل، ومن المعقول إلى المحسوس، الشيء بعد الشيء، ثم إن جميع الموجودات وسائر المصنوعات لما بدت ووجدت في العالم، وقع الاختلاف فيها، والسؤال عنها من جهة ثلاثة أنواع يحصرها جنس واحد؛ فأول ذلك الترتيب الأول المرتب كان في النفس أولا بالقوة والأمور العقلية المعقولة، وهي صورة أعياز بسائط المركبات والموجودات بالترتيب، والثاني هي الأمور المحسوسة ثم البرهان يقتضي علتها ويبين معانيها ويعرف الناظر فيها والسائل عنها معرفة كيفيتها معقولة في غاية التجرد النفساني وكونها بعدها محسوسة في العالم الجسماني.
فأما تفصيل ذلك فنقول: أما الصورة العقلية فهي آثار العقل الكلي في النفس الكلي لقبولها منه وكونها بالقرب منه، وهي أنوار مضيئة تخرج عن حد الوصف بالعبارة الجسمانية من حيث التركيب إذ كانت في غاية البساطة والتجريد إلى الأمور المحسوسة، فهي صورة في الهيولى تدركها الحواس بالمباشرة لها، وتنفعل منها بخاصة القوة فيها.
وأما الأمور المبرهنة فهي أشياء لا تدرك إلا بمواد العلم وصحة العقل، وهي أمور يكون مبدؤها من أمور إلهية وأشخاص ملكية، تضطر العقول إلى الإقرار بها والإذعان لصحتها والتمسك بمعرفتها، كما بين في كتب الهندسة، وصحة الدليل على ما قد قال أهلها أن أشكال الأشياء لا يحاط بأطرافها، ولا تدرك أقدارها، ولا ترى أقطارها، ولا يمكن رؤيتها إلا مدورة بأي شكل شكلت، وأي مثال مثلت، كما قال إقليدس في كتابه إن مقدار ظل أي نهاية، جسما كان أو سطحا أو خطا، فإنه يمكن أن يوجد منه دائما ولا يفنى أبدا، فهذه حكمة لا تدركها الحواس ولا تتصورها الأوهام البتة من غير تعريف.
وقد تكلم إقليدس أيضا في مقدمات كتابه عن البرهان وقال: إن البرهان مقدمات الحجة على تحقيق الخبر.
فأما التمام فهو العلم بالمعلوم بجميع ما ذكرنا، قال إقليدس: وإنما النقطة هي التي لا جزء لها، والخط هو طول بلا عرض، وطرفا الخط نقطتان، والخط المستقيم هو الموضوع في مقابلة كل واحدة من نقطتي طرفيه على سمت واحد، فهذا يدل على أن النقطة وهمية لا تتحقق إلا بالبرهان، ولا تعرف إلا بالخبرة، فقد تبين إذن أن الأمور المبرهنة لا تدركها الحواس، ولا تتصورها الأوهام، ولكن البرهان الضروري والحجة القاطعة يضطران العقل إلى الإقرار بهما؛ لأن البرهان ميزان العقل، كما أن الكيل والوزن والذرع ميزان الحواس، فاعرف ما ذكرنا، وتحقق ما وصفنا، وأدم فيه فكرك، وأعمل رويتك؛ فإنك بذلك تنال غرضك فتبلغ مرادك وطلبتك.
(4) فصل في معرفة الأصوات الفلكية
فنقول: اعلم أن الأصوات هي الأعراض الحادثة من الجواهر؛ والجواهر جنسان؛ فما علا ولطف قيل جواهر علوية، وما دنا وكثف قيل جواهر سلفية وأصوات هي أعراض لا يكون حدوثها إلا عن الجواهر، وحدوثها لا يكون إلا من محرك يحركها، تارة يطن الصوت ويتصل بمسمع الحاضرين، وتارة يسكنها فيسكن الصوت.
ولما كان ذلك كذلك، وضح البرهان على أن أصل الحركة هو النفس، وأن الصوت منفعل من حركتها وسريان قواها في الأجسام.
ولما كانت الأفلاك دائرات والكواكب والنجوم متحركات، وجب أن يكون لها أصوات ونغمات.
ولما كانت مستوية في نظامها محفوظة عليها صورة تمامها وكمالها، وجب أن تكون حركاتها منفصلة وأصواتها متصلة، وأقسامها معتدلة، ونغماتها لذيذة، وألحانها بديعة، ومقالتها تسبيحا وتقديسا وتكبيرا وتهليلا، تفرح بها نفوس المستمعين لها والحافين بها من الملائكة، والنفوس التي تقدم عليها وتصعد إليها، وتلك الحركات والأصوات هي مكيال الدهور والأزمان، التي بها يحكم على عالمها بالبقاء من حيث هي كما أن الأصوات اللذيذة والألحان المطربة والنغمات الحسنة في عالم الأبدان تفرح بها نفوس السامعين لها، وتحن إلى استماع ما كان لذيذا منها، وتسر بقربها وتسلى عنها الغموم وينجلي عنها الهموم، ويكون منها سكونات فاصلة بين تلك النغمات والحركات، فتصير عند ذلك مكيالا للزمان وذرعا له، ومحاكية لحركات الأشخاص الفلكية والأصوات الملكية ومناسبة لها، وتلك هي الأصل في جميعها وهذه فروعها وقد استمعتها النفوس، وهي في عالم الكون والفساد، فتذكرت بها عالم الأفلاك ولذات النفوس التي هناك من فسحة الجنان وروضة الريحان، وعلمت أنها في أحسن الأحوال وأطيب اللذات وأتم الأشكال وأدوم السرور؛ لأن تلك النغمات والأصوات هي أضعاف هذه الألحان، وهي أطيب؛ لأن تلك أحسن ترتيبا وأصح تأليفا، وأجود هنداما وأقوم نظاما، وأصفى جوهرا، ومناسبات حركاتها أصح تأليفا.
فإذا تخيلت النفوس الجزئية التي في عالم الكون والفساد ما في عالم الأفلاك وتيقنت حقيقة ما وصفنا، تشوقت عند ذلك إلى الصعود إلى هناك واللحاق بأبناء جنسها والوصول إلى حظيرة الفلك وروضة الأنس.
ولما بان لنا أن الفلك طبيعة خامسة، وأنها ليست بمخالفة لهذه الأجسام التي دون فلك القمر في كل الصفات؛ وذلك أن منها ما هو مضيء كالنار وهي الكواكب، ومنها صقيل الوجه كوجه المرآة وهو جرم القمر، ومنها ما يقبل النور والظلمة مثل الهواء وهو فلك القمر وفلك عطارد، وهذه كلها أوصاف الأجسام الطبيعية تشاركها الأجسام الفلكية، فقد بان بأن الفلك، وإن كان طبيعة خامسة، فليس بمخالف للأجسام الطبيعية في كل الصفات، بل في بعض دون بعض؛ وذلك أنه ليس بحار ولا بارد ولا رطب ولا يابس، بل هو صلب أشد صلابة من الياقوت وأشف من البلور وأصقل من المرآة، وأنه يماس بعضه بعضا ويصطك ويحتك، ويطن كما يطن النحاس، ويكون لنغماته وأصواته مناسبات مؤتلفة وألحان موزونة، كما بينا في رسالة الموسيقى بأكثر من هذا البيان، وأقمنا عليه البرهان من صناعة العود وضرب الأوتار وما يستعمله أهل هذه الصناعة من النسبة، وهي أصح نسبة تكون وأفضلها؛ لأنها نسبة روحانية.
فصل
ثم اعلم أنه لو لم يكن لحركات أشخاص الأفلاك أصوات ونغمات، ولا للملائكة كلام ولا تسبيح ولا تقديس، فليسوا هم إذن أحياء، فهم أموات؛ لأن الصمت بالموتى أولى، ولربما احتك بعض الأحجار ببعض، فيحدث من بينهما قرع في الهواء. ولو كان الفلك ومن فيه بغير كلام ولا صوت ولا نطق، لكان ما يكون تحته مشاكلا له، وكان من يكون ساكنا بغير حركة.
ولما كان هذا من الأصل في البداية وجب أن يكون ما تحته مناسبا له، لكن هو الأعلى زيادة عليه؛ إذ كان هو الفاعل وهذا المنفعل، وأيهما الأولى بالنطق والحركة والكلام والتسبيح والتكبير والتقديس والتهليل؛ أهل السموات والأفلاك أم أهل الأرض من عالم الإنسان والحيوان والجمادات؟ وأيهما أولى بالسمع والأبصار والأذهان والأفكار والخواطر والأذكار والعلم والعقل؛ أهل السموات أم أهل الأرض؟ فأهل السموات هم المسبحون المستغفرون لمن في الأرض، لا يفترون عن التسبيح ولا يسكتون عن التقديس بألحان طيبة ونغمات لذيذة، ألذ من نغمات العيدان ونقر الأوتار والطنابير ومجاوبة المزامير في الميادين الفسيحة والأنبوبات القائمة. وإن تلك النغمات والألحان تذكر تلك النفوس البسيطة التي هناك سرور عالم الأرواح ومحل الأشباح التي فوق فلك الأفلاك، التي جواهرها أشرف وألطف من جواهر عالم الأفلاك، الذي هو عالم النفوس ودار الحيوان، الذي نعيمها كله روح وريحان في درجات الجنان؛ ولذلك صارت النفوس الجزئية التي في عالم الكون والفساد إذا سمعت الأصوات الطيبة والنغمات اللذيذة، مثل قراءة الإنجيل وتلاوة القرآن وألحان الداودية وألحان القراء في المجالس، تذكرت رسوم الأفلاك ومحل السموات، وتشوقت إلى ما هناك؛ ولذلك قالت الحكماء إن الموجودات والمعلومات هي التي تحاكي أحوال الموجودات الأولى التي هي علل لها، وقولهم إن الأشخاص الفلكية علل وآلات لهذه الأشخاص التي في عالم الكون والفساد، وإن حركات تلك علة لحركات هذه، وحركات هذه تحاكي حركات تلك؛ فواجب أن تكون أصوات هذه ونغماتها تحاكي ما هو علة لها كمحاكاة الصبيان أصوات آبائهم وأمهاتهم وحركاتهم في لعبهم، فإنهم يحاكون أفعال الآباء والأمهات.
وهكذا التلامذة يحاكون أفعال الأستاذين، وأكثر العقلاء والعلماء من الناس يعلمون أن الأشخاص الفلكية وحركاتها المنتظمة وأصواتها الموزونة على النسبة الفاضلة متقدمة الوجود على الحيوانات التي تحت فلك القمر، وحركاتها علة لحركات هذه، وأن عالم النفوس متقدم الوجود على عالم الأجسام، كما بينا في رسالة المبادئ العقلية، ولما وجد في عالم الكون والفساد حركات وأجسام ذوات أصوات وحيوانات ناطقة.
دل على ذلك أن في عالم السموات أشخاصا ناطقة ولطائف متحركة، وأن لتلك الحركات نغمات متناسبات مفرحة لنفوسها ومشوقة لها إلى فوقها، كما يوجد في طباع الصبيان اشتياق إلى أحوال الآباء والأمهات، وفي طباع المتعلمين والتلامذة اشتياق إلى أحوال الأستاذين، وفي طباع الجنود والخدم اشتياق إلى أحوال الملوك والرؤساء، وفي طباع العقلاء والفضلاء اشتياق إلى أحوال الملائكة وتشبه بهم، كما قيل في حد الفلسفة أنها تشبه بالإله بحسب طاقة الإنسان.
وقد قيل إن فيثاغورس سمع، بصفاء جوهره وذكاء قلبه، نغمات حركات الأفلاك وأصوات حركات الكواكب، واستخرج بجودة فكره أصوات نغمات الموسيقى وأوضاع ألحانها المطربة، وهو أول من تكلم في هذا العلم وخبر عن هذا السر من الحكماء، ثم تيقوماخس وبطليموس وإقليدس وغيرهم من الحكماء تصرفوا في ذلك وأتقنوا كما ينبغي.
وقد ذكرنا في هذا المعنى واستقصينا البيان بإقامة الدلالة عليه في رسالة الموسيقى، فقد بان بما ذكرنا وتحقق بما وصفنا أن السموات عامرة بأهلها مسكونة، ولسكانها أصوات ونغمات، والأصوات والنغمات والحركات التي هي أعراض تحدث من حركات الأجسام الحيوانية وغير الحيوانية، إنما تظهر وتبرز بحسب بروز تلك الأصوات في ذلك العالم.
وهكذا أيضا تتبع هذه الحركات الجزئية تلك الحركات الكلية، وهذه حركات ناقصة وتلك حركات كاملة، وهذه حركات فانية وتلك حركات باقية صالحة، وتلك الحركات والأصوات والنغمات كلها مفهومة وهذه غير مفهومة، وتلك مستوية وهذه غير مستوية.
والعلة في ذلك صفاء هيولى تلك وكدر هيولى هذه ، وهيولى هذه فانية فاسدة وتلك باقية صالحة، وتلك الحركات مكائل الدهور النفسانية وهذه مكائل الأوقات الزمانية، وهذه مركبة وتلك بسيطة، وهذه فيها اختلاف وتغيير وتلك لا اختلاف فيها ولا تغيير، والنغمات اللذيذة والأصوات الطيبة في هذا العالم قليلة الوجود معدومة على الحال الأكثر يتخصص بها الملوك والكبار ويتنافسون فيها، ويكثر غير المخصوص بها لشرفها وجلالتها في النفوس.
ولذلك صارت النفوس الجزئية، إذا سمعت نغمة طيبة وصوتا حسنا، تنجذب إليه وتصبو نحوه وتنصت إليه أسماعها، لقلته وكثرة أضداده من الأصوات المنكرة.
وهكذا ميلها إلى الصورة الحسنة والأشخاص المليحة لقلتها وكثرة أضدادها؛ فلذلك صارت المستحسنات مرغوبا فيها محبوبة لكثرة التنافس فيها ولقلة وجودها.
فأما ذلك العلوي فكله روح وريحان ونغمات لذيذة وأحلان طيبة وصور حسان، وهو مسكن الحور والولدان وسرور وخير معرى من الشوائب المنغصة والأخلاق الموحشة.
فلذلك قيل إنه لا يصل إلى هناك إلا من حسنت أفعاله وزكت أعماله، فيكون ذلك معينا له على الارتقاء إلى هناك، واللحاق بذلك العالم الفاضل الشريف الكامل؛ ولذلك قيل حسن الصوت زيادة في الرزق، وقيل سماحة الصوت نصف الزمانية.
فصل
ثم اعلم أن من لدن فلك المحيط إلى منتهى فلك القمر أصواتا مرتفعة وألحانا مطربة ونغمات لذيذة ولغات مختلفة وحركات مؤتلفة، ناطقة كلها بالتسبيح والتهليل والتكبير والتحميد؛ فقد بان لك بهذا الوصف معرفة الأصوات الفلكية والحركات السماوية، وسنذكر بعد ذلك الأصوات الأرضية والنغمات السفلية.
(5) فصل في معرفة أصول الأصوات الأرضية
فنقول: اعلم أن أصل الأصوات هو ما حدث من تصادم الأجرام وحركات الأجسام، والصوت قرع يحدث من الهواء إذا صدمت الأجسام بعضها بعضا، فتحدث بين ذينك الجسمين حركة عرضية تسمى صوتا، بأي حركة تحركت ولأي جسم صدمت ومن أي شيء كانت، وهذه الأصوات تنقسم قسمين: حيوانية وغير حيوانية، والحيوانية تنقسم أقساما وتتفرق أجناسا على حسب اختلاف الحيوان في أجناسها وتباينها في أصواتها، وسنأتي على بيان ذلك في موضعه إن شاء الله. والأصوات التي هي غير حيوانية أيضا تنقسم قسمين وتوجد في نوعين، وذلك أنها طبيعية وآلية؛ فالطبيعية كصوت الرعد والريح والبرق وكصوت الأجسام التي لا أرواح فيها كالجمادات، ومثل صوت الحديد والحجر والخشب وما أشبه ذلك. والآلية هي الأجسام الصناعية كصوت الطبل والبوق والزمر والوتر والمناقر وجميع هذه طبيعية وآلية، لا يحدث فيها صوت ولا يسمع لها حركة إلا من تصادم بعضها ببعض وامتزاج بعضها ببعض، فإنه لولا أن الزامر ينفخ في الناي والمغني يحرك الوتر والناقر ينقر الحجر، لم يوجد لذلك صوت ولا يسمع له حس.
وأما أصوات الرعد فقد قالت الحشوية إنه للملك يزجر السحاب ويسوقه ويفرقه يمينا وشمالا، وإن الملائكة عن يمينه وشماله يسبحون بتسبيحه ويسكتون بسكوته، سبحانك هذا بهتان عظيم؛ فلم يكن عند علماء هذه الطائفة الحشوية أكثر من هذا العمى ببصيرتهم وقلة عقلهم وتمام جهالتهم.
وقال غيرهم ممن يدعي معرفة علم الهيئة إنه يحدث من تصادم السحاب واصطكاك الغيوم، وهذا خطأ؛ لأن السحاب جسم منعقد من البخار يتصاعد من الأرض لطيفا ثم يتكاثف من التئام بعضه إلى بعض، وهو جسم لا صوت له.
وقال آخرون هو الريح يخرق السحاب، والريح إذا خرق السحاب فرقه وقطعه ولم يحدث من بينهما صوت.
بقي القول في الصواب وهو أن يطلع البخار بلطافته حتى يتعلق في عنان الهواء، وهو على ضربين: رطب ويابس، فإذا اجتمعا وتكاثفا امتزجا وتعاقدا، فعقد البخار الرطب مع البخار اليابس بقوة كثافته وشدة رطوبته ولا يكون له منفذ إلا بشدة شديدة، فيجتمع بقوته ويخترق الهواء بلطافته، فيحدث منه ذلك الصوت على قدر كثرته وقلته، وربما طلب العلو فلم يكن له منفذ، فانعكس البخار اليابس فطلب السفل فقدح نارا أو يحدث منه صوت هائل، وهو الذي يسمى الصاعقة، كما يحدث من الزق المنفوخ إذا وقع عليه حجر ثقيل من شاهق وشقه وخرج منه الهواء الذي كان فيد دفعة واحدة، وحدث منه صوت هائل، وهو الذي يسمى صاعقة يسمعه من بقرب تلك البقعة، وربما يتحول ذلك البخار فيصير ريحا يدور في جوف السحاب ويطلب الخروج منه ويسمع له دوي وقرقرة كما يسمع من أجواف الحيوان والإنسان من الريح التي تحدث في الجوف من جهة المأكول الذي يحدث فيه.
(6) فصل في أن منتهى كل حاسة إلى القلب
ثم اعلم أنه لولا العناية الإلهية والسياسة الربانية ورحمة الله تعالى بخلقه ورأفته بعباده بأن جعل كرة النسيم عالية عن كرة السحاب، مرتفعة بعيدة من الأرض بمقدار الحاجة، وجعل من شأن السحاب أنه إذا انخرق طلب الصعود إلى فوق، ومن شأن قرع الهواء إذا حدث أن تكون حركته إلى فوق، ولولا ذلك لكانت أصوات الرعد ولمعان البرق تضر بمسامع الحيوان وأبصارها، ولأهلكتها كما يكون ذلك في بعض الأحايين.
وذلك أن السحاب إذ تزاحم ودفع بعضه بعضا حتى ينضغط، فينتقل من قرب الأرض وتحدث منه الرعود وتنخرق السحب من أسفل، فيحدث من ذلك قرع في الهواء وتدافع منحط في الأرض، فيكون من ذلك صوت هائل يسمى صاعقة، وتقتل كثيرا من الحيوان الذي يقرب من ذلك المكان، وربما أحرقت بعض الأجسام الرخوة؛ لأنها نار لطيفة.
وأما الأجسام الصلبة فإنها قل ما تفعل فيها، وقد ذكرنا طرفا من هذا في رسالة الآثار العلوية، ولولا خروجنا عما له قصدنا، لشرحنا ذلك شرحا تاما كاملا.
ثم اعلم أنه كما لا يجوز في العقل أن يكون حيوان إلا من مماسة أسباب أو نكاح أجسام كذلك لا توجد الأصوات إلا في الأجسام ولا تصوت الأجسام إلا بحركات.
ثم إن الأصوات أعراض حادثة والجواهر أجسام حاملة لها، فإن زعم زاعم أو اعترض معترض فقال إنه قد توجد أصوات في غير أجسام ومن غير حركات الأجسام؛ وذلك أنه إذا تكلم متكلم في سفح جبل أو صاح في قعر بئر أو نهر، أجابه مجيب بمثل كلامه يسمع المتكلم جوابه من غير جسم ولا حركة جسم.
وقد يرى أيضا حيوان يتكون من غير نتاج ولا نكاح مثل دود الخل وسوس التمر وما يتكون من العفونات ومن النداوات وما أشبه ذلك.
فليعلم هذا المعترض وهذا القائل أنه ليس القول كما زعم، فإنه جاهل بهذه الأشياء وبهذه الأسباب الموجبة لحدوثها منها وكونها عنها، فغلط فيما رأى من موجوداتها، وكان قليل المعرفة بمعلوماتها، وأنه لما سمع الصوت من الجبل والبئر ظن بأنه أجابه بجوابه ورد عليه بكلامه، إما من حيوان لا يراه وشيء لا يعاينه، أو أن الجبل نطق بجوابه وقعر البئر رد كلامه، فهذا تخيل من لا عقل له ولا معرفة عنده، فالصوت الذي يسمعه إنما هو صوته والحركة التي بدت منه في الهواء، وذلك إنه صاح في سفح الجبل وقعر البئر إلى جانب الحائط، فخرج من جوف المتكلم شكل كروي ونقش عرضي يأخذه الهواء إلى أن يؤديه إلى ذلك الموضع فيصادفه ما يمنعه من النفوذ والانتشار، فيرتد راجعا فيسمع منه ذلك الصوت، وهو الصدى، وسنأتي على شرح ذلك كما ينبغي في موضعه.
(7) فصل في أن الجواهر تحتلف في أنواعها
واعلم أن الأصول في أصوات ذوات الأصوات أن معرفتها تكون بمعرفة الطبائع الأربع؛ التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، والأركان الأربعة المعلومة وكيفية استحالة بعضها إلى بعض، وامتزاج بعضها ببعض في الأزمان والأماكن، وما يحدث منها في البقاع والمعادن. فمن بحث عن ذلك بفكره ونافذ بصيرته وجودة تأمله وثاقب نظره، علم أن الأركان الأربعة لها جهات أربع من الشرق والغرب والشمال والجنوب.
ولهذه الجهات أوتاد أربعة؛ وهي الطالع والغارب ووتد تحت الأرض ووتد وسط السماء، وهذه الأسباب الأربعة ممثلة على حدود أربعة ترجع إلى سبب واحد. ولمعرفة هذه الحدود أقوام إذا سألتهم عنها عرفوك وإذا قصدتهم أرشدوك، فإن الكائنات التي هي من استحالة هذه الأركان أربعة أنواع:
فمنها حوادث الجو والتغيرات الهوائية والكائنات منها؛ مثل الرياح والأمطار والرعد والبرق والثلج والهالات والشهب وذوات الأذناب واحمرار الشفق والنيران الحادثة في الأفق.
ومنها الكائنات التي في باطن الأرض؛ كالبخار المحتقن هناك والهواء المنحصر وما يحدث من الزلازل والرجفات والخسف والهدأت، وما قد أحكمته الطبيعة في باطن الأرض وأسخنته ببخارها وطبخته بنارها من مائع وجامد وكاين وفاسد، مثل معادن الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والزيبق والكبريت والنفط والملح والشب والزاج، وسائر المعدنيات الذائبة والجامدة ، وهذا علم معرفة كثيرة الفائدة.
وقد ذكرنا طرفا في رسالة المعادن، ومنها الكائنات على وجه الأرض التي تسمى النامية، وهي على ضربين: نام بالقوة وهي سائر النبات، ونام بالحياة وهو جميع الحيوان، وكون جميع الحيوان على ضربين: «نتاج وتكوين»؛ فالنتاج من مماسة الأجسام الحيوانية بعضها لبعض.
وقد ذكرنا في رسالة الحيوانات المتكون منها بغير مماسة ما هو من امتزاج الطبائع بعضها ببعض، وهو النكاح الأول، وهو الأصل، فإذا امتزجت الطبائع ونكحت بعضها بعضا نكاحا طبيعيا، أخذت القوة المنفعلة عن القوة الفاعلة بمقدار هيولى ذلك المكان وما في هيئات ذلك الزمان، مما يسهل قبوله فيحدث من بينهما حيوان، والدليل على ذلك أن ما فيه طبيعة واحدة لا يحدث منه حيوان، وسائر الأجسام الصلبة لا يوجد فيها حيوان؛ لامتناع الهواء أن يتخللها، وكل مكان لا يدخله الهواء لا يوجد فيه حيوان، وإنما الهواء يجمع بين قوى الطبائع ويؤلف بينها ويحركها حركة الاختلاط والامتزاج، ويكسبها النداوة والعفونة والتحليل والتركيب، ويكون الحرارة فيلقح ذلك المكان ويقبل العفونة من الهواء، فتتحد الطبيعة بالطبيعة وتختلط القوتان، فيكون البخار الحار اليابس كالذكر، والبارد الرطب كالأنثى واجتماعهما كالنكاح، فيحدث من بينهما حيوان.
وقد ذكر الله تعالى ذلك في القرآن إذ يقول: @QUR03 وأرسلنا الرياح لواقح الرياح ها هنا فاعلة، والأصل في هذه الكلمة موضوعها في اللغة العربية على ما أجمع عليه النحويون ملاقح، فيصير ها هنا على القلب والتبديل، والعرب تقلب الشيء إلى الشيء وتبدل وتقدم إذا كان المعنى مفهوما وكان المخاطب به يفهم من المخاطب، والدليل على أنها ملاقح قولهم في اللغة: لقحت الأرض والنخلة، فهي لاقحة، والجمع لواقح؛ فجعل لفظة الفاعل ها هنا لفظة المفعول على القلب، كما قال تعالى: @QUR02 ماء دافق وإنما هو مدفوق؛ لأن الرباعي الذي اسم الفاعل منه مفعل والثلاثي الذي اسم المفعول منه فعيل، وقد يكون الفعيل مرة للفاعل ومرة للمفعول، والمعنى يدل عليه كقولك: قتيل وجريح وصريع، إذا أردت المفعول، وكريم ورحيم وعليم، إذا أردت الفاعل.
وكذلك تجدها في حكم الطبيعة أن الرياح هي الملقحة للشجرة وغيرها، فقد تبين إذن كيف يكون ذلك من الممازجة والاختلاط، وبطل أن يكون من غير ممازجة، وقولنا نكاحا طبيعيا إنما هو على المجاز، يعني به امتزاج الطبائع بعضها ببعض، فقد أقمنا الدليل على أنه لا حيوان إلا من نكاح، ولا صوت عرضي إلا من جوهر، ثم نرجع إلى الأصل في الأصوات.
فصل
ثم اعلم أن الأصوات على ضربين؛ مفهومة وغير مفهومة؛ فالمفهومة هي الأصوات الحيوانية، وغير المفهومة أصوات سائر الأجسام، مثل الحجر والمدر وسائر المعدنيات. والحيوانات أيضا على ضربين: منطقية وغير منطقية؛ فغير المنطقية هي أصوات الحيوانات غير الناطقة، وهي نغمات تسمى أصواتا ولا تسمى منطقا؛ لأن النطق لا يكون إلا في صوت يخرج من مخرج يمكن تقطيعه بالحروف التي إذا خرجت عن صفة الحروف أمكن اللسان الصحيح نظمها وترتيبها ووزنها، فتخرج مفهومة باللغة المتعارفة بين أهلها، فيكون بذلك النطق الأمر والنهي والأخذ والإعطاء والبيع والشراء والتوكيل، وما شاكل ذلك من الأمور المخصوصة بالإنسان دون الحيوان، فهذا فرق ما بين الصوت والنطق.
فأما مخارجها من سائر الحيوان فإنها من الرئة إلى الصدر، ثم إلى الحلق، ثم إلى الفم، ثم يخرج من الفم شكل على قدر عظم الحيوان وقوة رئته وسعة شدقه، وكلما اتسع الحلقوم وانفرج الفكان وعظمت الرئة، زاد صوت ذلك الحيوان على قدر قوته وضعفه.
وأما الأصوات الحادثة من الحيوان الذي لا رئة له مثل الزنابير والجنادب والصرصر والجدجد، وما أشبه ذلك من الحيوانات، فإنه يستقبل الهواء ناشرا جناحيه فاتحا فاه ويصدم الهواء فيحدث منه طنين ورنين يشبه صوتا.
وأما الحيوان الأخرس كالحيات والديدان وما يجرى هذا المجرى، فإنه لا رئة له، وما لا رئة له لا صوت له.
وأما الحيوان الأنسي فأصواته على نوعين: دالة وغير دالة؛ فأما غير الدالة فهي صوت لا هجاء له ولا يتقطع بحروف متميزة يفهم منها شيء؛ مثل البكاء والضحك والسعال والأنين وما أشبه ذلك.
وأما الدالة فهي كالكلام والأقاويل التي لها هجاء في أي لغة كانت وبأي لفظ قيلت.
وكل هذه الأصوات - مفهومها وغير مفهومها، حيوانها وغير حيوانها - إنما هي قرع يحدث في الهواء من تصادم الأجرام وعصر حلقوم الحيوان، وذلك أن الهواء لشدة لطافته وصفاء جوهره وسرعة حركة أجزائه يتخلل الأجسام كلها، ويسري فيها ويصل إليها ويحرك بعضها إلى بعض، فإذا صدم جسم جسما انسل ذلك الهواء من بينهما وتدافع وتموج إلى جميع الجهات، وحدث من حركته شكل كروي يتسع كما تتسع القارورة من نفخ الزجاج.
وكلما اتسع ذلك الشكل ضعفت قوة ذلك الصوت إلى أن يسكن؛ ومثال ذلك إذا رميت في الماء الهادئ الواقف في مكان واسع حجرا، فيحدث في ذلك الماء دائرة من موضع وقع الحجر، فلا تزال تتسع فوق سطح الماء وتتموج إلى سائر الجهات، وكلما اتسعت ضعفت حركتها حتى تتلاشى وتذهب.
فمن كان حاضرا في ذلك الموضع أو بالقرب منه من الحيوان، سمع ذلك الصوت فبلغ ذلك التموج الذي جرى في الهواء إلى مسامعه ودخل صماخه وتحرك الهواء المستقر في عمق الأذنين بحسب القوة السامعة بذلك التموج والحركة التي تنتهي إلى مؤخر الدماغ.
ثم يقف فلا يكون له مخرج فيؤديه إلى الدماغ، ثم يؤديه الدماغ إلى القلب، فيفهم القلب من هذه الحاسة ما أدته إليه من ذلك الحادث، فإن كان صوتا مفهوما يدل على معنى توجهت المعرفة بذلك، وإن كان غير مفهوم فإنه لا بد أن يستدل بصفاء جوهره على ذلك الصوت، ومن أي جوهر حدث، وعن أي حركة عرض، وهو يستدل على ذلك من ماهية الصوت وكيفية التموج والقرع والحركة الواصلة إلى حاسة السمع.
ومثال ذلك طنين الطاس، فإنه إذا سمعه الإنسان قال هذا طنين الطاس حدث من قرع شيء آخر أصابه، أما من جهة حيوان أو حدوث شيء وقع عليه من غير قصد ولا تعمد.
وكذلك صوت الحديد والذهب والفضة وغير ذلك، فإن أصواتها إذا حدثت تكون مختلفة بحسب اختلاف جواهرها وتباين طباعها من الصلابة والرخاوة واللين واليبوسة، ومثالها في ذلك مثال أصوات الحيوانات، فكلما كان في نفسه أمثل ورئته أقوى ، كان صوته أعظم وأبعد مسافة في الهواء لشدة حركته.
وكذلك ما كان من الجواهر المعدنية أشد صلابة وأكثر يبوسة، كان أرفع طنينا وأشد تصويتا، فإذا اتفق أن يكون مصنوعا لذلك والقصد منه التصويت والطنين، مثل الجلاجل والطرجهارات للحصون التي تستعمل على الأسوار والثغور، فإن أصواتها وطنينها يمكث في الهواء على قدر اتساع تلك الأواني وضيقها. وصوت النحاس خفيف صاف ليبسه وصلابته وقوة الحرارة فيه، ولا يمكن أن تتخذ من الرصاص آلة الطنين والتصويت كما يتخذ من النحاس. والحديد إذا خالط النحاس كان له أيضا تصويت وطنين. والذهب له صوت يختص به يشابه طبيعته، وله طنين يسير، وهو معتدل الحرارة لين الطبيعة، قد تساوت فيه أجزاء طبائعه. والفضة دون ذلك، وهي أشف من الذهب وأحسن صوتا منه إذا نقرت. كذلك الرصاص لا صوت له كصوت النحاس والحديد؛ وذلك لغلبة الأجزاء الأرضية عليه وكثافة جسمه، وصوته يشاكل صوت الحجر وما بينهما، وعلى هذا المثال وجد منطق الإنسان على الاعتدال لا بالجهير الخارج عن الحد، كصوت الأسد وصهيل الفرس ونهيق الحمار وما شاكل ذلك، ولا صامت كصموت السمك، ولا خفيف كخفوت أصوات كثير من الحيوانات، لكنه متوسط بين ذلك.
ومن أراد أن يكون له صوت طويل يمكث في الهواء فليتعمد ذلك ويجتهد في جمع الهواء حتى يكون إرساله بحسب ما اجتمع فيه فيدرك بذلك ما يريد، وإن تأذى وتألم، وإنما كان صوته متوسطا لتوسط طبائعه واعتدالها، مثل ما اعتدلت طبيعة الذهب وكان أشرف الجواهر الذائبة بالنار.
وكذلك الإنسان أشرف الحيوانات المتحركة بالحياة، وللنبات أصوات؛ منها ما كان أشد صلابة وأكثر اجتماعا ولا طبيعة لها، كبقية الأصوات إذا قرع انقرع كالساج والأبنوس وما شاكلها، وما كان يتخلل جسما ضعيف الحرارة، كخشب التين والجميز وما شاكل ذلك، يكون أضعف صوتا إذا قرع وتحرك بجسم يحدث في الهواء من قوة حركة المحرك وكون ذلك الصوت عن المصوت وما هو مجبول عليه من طبيعته، وبحسب قوته يكون اتصال ذلك الحادث في الهواء بمسامع الحيوان من الإنسان وغيره . فالإنسان إذا سمع صوت الخشب والحديد والماء والريح أمكنه أن يخبر عن صوت كل واحد منها وينسبه إلى ما حدث عنه وخرج منه، والحيوان لا يعرف ذلك ولا يمكنه أن يعبر عنه ويفصل كما عبر الإنسان بقوة النطق والبيان عما سمع؛ وبهذا فضل الإنسان على غير من الحيوان. وكذلك يجري حاله في حاسة السمع فإنه من جهة الهواء يتصل به ذلك ويخبر عن كل رائحة بما هي به وينسبها إلى الذي فاحت منه. وكذلك يخبر عن حاسة اللمس إذا لمست الأجسام، وعرفت الحاسة ما كان رطبا ويابسا وحارا وباردا ولينا وخشنا وما شاكل ذلك.
وأما حاسة البصر فإنما تحتاج في معرفة محسوساتها إلى حواس أخر؛ لأنها ربما كذبتها محسوساتها مثل ما ترى الكبير صغيرا لبعد ما بينها وبينه من المسافة، والصغير كبيرا في الأرض الواسعة، والمستوي معوجا كالمجذاف في الماء وما شاكل ذلك.
فصل
ثم اعلم أن منتهى كل حاسة إلى القلب مقرها، وعنده موئلها ولكل حاسة محسوسة مختصة بها، مجعولة لها، لا تتعداها ولا تتعرض لسواها؛ فالبصر مختص بالنظر، والأذن مختصة بالسمع، والفم مختص بالذوق، والأنف مختص بالشم، وكل حاسة من هذه الحواس تؤدي محسوساتها إلى القلب ويفهم منها حساسة القلب.
ثم إن قوة حاسة القلب إذا أدركت من الحواس شيئا وقبلته منها، أدته إلى العقل ليدركه.
ولولا قوة حاسة القلب لبطلت هذه الحواس، كما أن الأكمه الذي يولد كذلك لا يمكنه أن يتصور السماء ولا موضعها من الجهات؛ لأنه لم ير جهة فتؤديها الحاسة الناظرة إلى حاسة القلب المناسبة لها؛ لأن حاسة البصر تؤدي آثار محسوساتها إلى قوة عاقلة مناسبة لها حافظة لما يؤدى إليها؛ ولذلك قال تعالى: @QUR010 فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، وقد بينا في رسالة الحاس والمحسوس شيئا من هذا بغير هذا الشرح.
ثم اعلم أن القلب في الجسد مصور على صورة الإنسان؛ ولذلك صار أفضل الأعضاء التي في أجسام الحيوان؛ وذلك أن له بصيرة يبصر بها ما غاب من حاسة النظر من خارج، وله مسامع يدرك بها الأصوات ويؤدي إلى حاسة السمع ما يدركه بها، وله حاسة اللمس فهو يتشوق إلى محسوساتها إذا فقدها مثل ما يشتاق العاشق عناق معشوقه والتزامه.
وكذلك الأكمه لا يتصور بقلبه صور الأشياء؛ لأن حاسة البصر لم تؤد إلى الحاسة المختصة بالقلب شيئا، فتبقى تلك الحاسة فارغة معطلة مغلقة الباب، لا يطرقها طارق فيكون لها به معرفة. ولكل حاسة من هذه الحواس مدركات بالذات ومدركات بالعرض، وهي لا تخطئ في المدركات بالعرض.
مثال ذلك البصر؛ فإن المبصرات له بالذات هي: الأنوار والضياء والظلم.
فأما إدراكها الألوان فإن ذلك بتوسط النور والضياء، وأما سائر الأجسام وسطوحها وأشكالها وأوضاعها وأبعادها وحركاتها فهي بتوسط الألوان؛ لأن كل جسم لا لون له لا يرى ولا يدرك البتة، والمحسوسات التي له بالذات لا واسطة بينها وبينه في إدراكها؛ لأنه لا يحتاج البصر في إدراك الضياء والنور إلى شيء آخر، ولا في إدراك الظلمة أيضا، وصار بينه وبين النظر إلى الألوان واسطة واحدة؛ وهي النور، وصار بينه وبين إدراكه كيفية الأجسام وأسبابها النور والألوان، وكلما كثرت الوسائط بينه وبين النظر كان الخطأ فيه أكثر، واحتاجت الحاسة فيه إلى دليل آخر يحقق نظرها ويصدق خبرها.
من ذلك السراب فإنه آخذ من لون الماء بياضه ومن الضياء إشراقه، فحار فيه النظر وحال البعد فيما بين النظر وبينه عن الحكم عليه بما هو به فظنه ماء، فلما جاءه لم يجده شيئا. وكالمجذاف الذي هو غائص في الماء فإن البصر لا يدركه إلا معوجا؛ لأنه قد زاد فيما بينه وبينه واسطة أخرى وهي الماء، وكذلك ما يكون في الماء من الأشياء فإن البصر لا يدركها على ما هي به.
وكذلك حال الشيء البعيد فإن الوسائط بينه وبين البصر كثيرة، وهي الضياء والهواء، وكلما بعد ازداد في الصغر والتلاشي في البصر إلى أن يغيب.
وأما حاسة السمع، فإنها لا تكذب وقلما تخطئ؛ وذلك لأنه ليس بينها وبين محسوساتها إلا واسطة واحدة وهي الهواء، وإنما يكون خطؤها بحسب غلظ الهواء ورقته؛ وذلك أنه ربما كانت الريح عاصفة والهواء متحركا حركة شديدة، فيصوت المصوت في مكان قريب من المسامع فلا يسمع من شدة حركة الهواء وهيجانه، فتكون حركة ذلك الصوت يسيرة في شدة حركة الهواء وهيجانه، فيضعف عن الوصول إلى الحاسة السامعة.
وإذا كان الهواء ساكنا وصل ذلك الصوت إلى الحاسة إذا كان في مكان يمكن أن يتصل به ذلك التموج والحركة الحادثة في الهواء.
فأما إذا كانت المسافة بعيدة فإنها لا تدركه وتتلاشى تلك الحركة وتنفذ قبل وصولها إليها.
وهكذا حاسة الشم، فإنها تدرك من ذلك بحسب غلظ الهواء ورقته وسكونه وحركته؛ وذلك أنه إذا كان الهواء غليظا فإنه قل ما تجد الروائح في الجهات وقل ما تسري فيه، وإذا كان صافيا رقيقا والمسافة قريبة فإنها تتصل بمشام الحاضرين، وإذا بعدت تفرقت تلك الروائح في الجهات ولم يدرك شيء منها، وأما قبول الهواء للأصوات والروائح فإني أشرحه لك بعون الله.
فصل
ثم اعلم أن جميع الجواهر تختلف في أنواعها، وتتباين في عناصرها وتركيبها، وكل جوهر هيولاني يكون ألطف جوهرا وأشد روحانية وأعم خاصية، وأنه يكون لقبول الصورة وحمل الأعراض أسرع انفعالا وأسهل قبولا من غيره.
مثال ذلك الماء العذب لما كان ألطف جوهرا من الماء المالح وأصفى، صار لقبول الطعوم والأصباغ أكثر قبولا، ولا بد أنه للحيوان أكثر امتزاجا ومخالطة وأكثر نفعا وصلاحا، وبذلك صار حياة الأجسام ومادة الحيوان والنبات.
وهكذا لما كان الضياء ألطف من الهواء، صار قبوله الألوان والأشكال أسرع انفعالا وأشد روحانية وبساطة وألطف سريانا.
وكذلك جوهر النفس ألطف وأشد روحانية من جوهر النور والضياء، والدليل على ذلك قبوله رسوم سائر المحسوسات والمعقولات جميعها، فلهاتين العلتين صار الإنسان يقدر بالقوة المتخيلة أن يتخيل ويتوهم ما لا يقدر عليه بالقوى الحاسة؛ لأن هذه روحانية وتلك جسمانية، ولأنها تدرك سائر محسوساتها في الجواهر الجسمانية من خارج، والقوة المتخيلة إنما تتخيلها وتتصورها في ذاتها، والدليل على ما قلنا أفعال الصناع البشريين.
وذلك أن كل صانع يبتدئ ويفكر ويتخيل ويتصور في وهمه صورة مصنوعة بلا حاجة إلى شيء خارج عنه، فإذا أراد إظهار ما في نفسه إلى الفعل عمد إلى هيولى ما، في مكان ما، في زمان ما، فيتصور فيها ما كان متصورا في ذاته بأدوات ما وحركات ما.
وذلك أن كل حيوان لا يبصر فهو لا يتخيل الألوان العرضية والأجسام الجوهرية، وما لا سمع له لا يتصور ولا يتخيل الأصوات الكلامية ولا يتوهم الألفاظ المنطقية.
فأما الإنسان الصحيح التركيب، السالم الحواس، فإنه لما كان يفهم الكلام صار يمكنه أن يتخيل المعنى إذا وصفت. والغرض من الكلام تأدية المعنى، وكل كلام لا معنى له فلا فائدة للسامع منه والمتكلم به، وكل معنى لا يمكن أن يعبر عنه بلفظ ما في لغة ما فلا سبيل إلى معرفته، وكل حيوان ناطق لا يحسن أن يعبر عما في نفسه فهو كالعدم الزائل والجماد الصامت.
فصل
ثم اعلم أن المعاني في الكلام كالأرواح، وألفاظها أجساد لها، فلا سبيل إلى قيام الأرواح إلا بالأجساد، والكلام ضربان: مفيد وغير مفيد، والفائدة واقعة في الإخبار من جهة المجهول، والمجهول هو المخبر عنه، والخبر دال وغير دال، والخبر هو كل قول جاز تصديق قائله فيه وتكذيبه لغيبته عن العيان أو لمضيه عن الزمان ووصفه أنه مسموع من قائله؛ مثل مخبر أن مدينة كذا عامرة بأهلها، وأن فلانا الذي مات كان من أمره وصفته كذا، فقد جاز لمن يسمعه أن يصدقه وأن يكذبه لغيبة ما ذكره من أمر المدينة عن العيان وغيبة المائت في الزمان.
وأيضا فإن الإخبار على ثلاثة أقسام؛ إما عن ماض من الزمان أو عن غائب عن العيان أو عن موجود في زمان ومكان، وامتحان ذلك بكان ويكون وكائن؛ فكان لزمان ماض، ويكون لزمان آت، وكائن لما هو موجود في الحال. وكل هذه الأقسام تدخلها الموجبة والسالبة والموضوع والمحمول، وهذه أقسام الخبر، وهو أيضا غير خارج من معان ثلاثة: واجب وجائز وممتنع؛ فالواجب والممتنع معروفان مستغنيان عن الدلالة على أحوالهما في الصحة والفساد.
مثال ذلك: إذا سمع رجل قائلا يقول: «الأرض تحتي والسماء فوقي»، فإنه لا يشك في صدقه ولا يحتاج إلى إقامة دليل على ذلك.
وهذا وإن كان كلاما مستقيما لا يستغنى عن الدليل على كذبه، فإنه ما لا يقع منه فائدة، ولا فائدة أيضا في قوله ولا في سماع ذلك، ولا يعد هذا من المتكلم به فضيلة، بل ربما من هجو قوله.
وكذلك لو سمع قائلا يقول: «إني قد حملت الجبل وخضت النار ورأيت شجرة على سطح البحر نابتة»، فإنه لا يشك في كذبه وبطلان قوله، فهذا القسم الممتنع.
وأما الجائز أن يكون صدقا وأن يكون كذبا فهو الذي يجب أن يطلب الدليل عليه، والفائدة واقعة فيه، وبه يستفيد السامع، وعنه يسأل السائل، والمعنى الذي به يوصل إلى علم الحقيقة ما كان عند الإخبار ممكنا أن يكون صدقا وكذبا، وهو أن يكون متيقنا عند من بلغه عنه الكذب والصدق يقينا، ويعلم أن ذلك ثابت بحيث يثبت عليه نظر أهل العقول، كمعرفة من أخبر بعمارة المدينة أو حال الميت بما وصف به المخبر عنه، فقد صار كذب المخبر منفيا وعند من تقدمت عنه صحته. وكذلك ما حكمت عليه العقول وقضت به البراهين عند العارفين، فإنهم يعرفون ما غاب كعلم ما حضر ويصير الدليل والبرهان كالمثال؛ لأن المثال صورة المخبر عنها المدلول بصفاتها على معنى الخبر فاعلم ذلك.
(8) فصل في معرفة أصل الصوت وعن الأجسام التي في الابتداء دون فلك القمر قبل خلق الإنسان والحيوان
فنقول معولين على الله تعالى بأنه لما خلق الله السموات بمشيئة وأتقنها بصنعته ورتبها بحكمته، وجعل الأرض بساطا تحتها، وخلق الهواء فسحة فيما بين السماء والأرض، ثم أرسله يمينا وشمالا على وجه الأرض، ويسري على البحار ويحركها ويموجها، كان كالأرواح السارية في الأجساد، فأقام الهواء على تلك الحال والسريان في الجهات الأربع، يخلط البحار بالتراب ويمزج الطبائع بعضها ببعض، كما ذكر أولا في هذه الرسالة، فتحدث بحركته أنواع الأصوات والصفير والطنين ومجاوبة الجبال وأصوات أمواج البحار، وهبوب الرياح في الفلوات والقفار، فتكونت المعادن في البقاع المخصوصة بكونها فيها، وانعقد البخار وارتفعت الأنداء وتراكمت الغيوم، وارتفعت إلى آخر كرة النسيم، وتعلقت تحت كرة الزمهرير وعصرها وهيج الأثير، واستولت الكواكب المائية، فأرسلت الأمطار على وجه الأرض، ولحقها الهواء وسرى عليها، وأشرقت الكواكب بأنوارها ولحظتها الشمس وسرت فيها قوة النفس النامية.
وكان أول ما ابتدأ على وجه الأرض بالنمو والزيادة على سطحها صورة النبات، وقامت على تلك الحال والأرض ليس فيها إلا البحار والجبال والنبات والأشجار على ما ذكره بعض العلماء ثلاثة آلاف سنة، والرياح تهب عليها، والأصوات الهوائية تجيب بعضها بعضا، والنفس سارية في الهواء متصلة بقوة النور والضياء، تدبر الأمور الجسمانية، وتؤلف الطبائع الجرمانية، وروحانيات الكواكب متصلة بعالم الهواء، فهم سكان الأرض قبل آدم عليه السلام. فلما تمت هذه المدة المقدرة بهذه الصفة وابتدأ الدور الجديد، وأراد الله إنشاء النشأة الثانية وإبراز الصورة الإنسانية؛ خلق آدم وحواء من الطين، وأسكنهما الجنة الموصوفة وهي الياقوت في ناحية المشرق، وكان من أمرهما ما كان، وقد ذكر هذه القصة من أولها إلى آخرها رجل من أهل فارس، عالم بحساب النجوم، بكتاب بين فيه هذه الأمور، ولو كان هذا ما قصدنا وإياه ما أردنا لذكرنا منه طرفا، ولكنا نشير إلى بعض ذلك، فلما فطر آدم وسواه ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته، وكان ظهور آدم وحواء بعد كون الحيوان وعمارة الأرض وظهور الأقوات فيها على تمام أجناسها واستيفاء أنواعها، وكان ظهور الحيوان بعد ظهور النبات وانبساطه على وجه الأرض وعلوه عليها، وكان أول بروز النبات بحذاء برج السنبلة، وكان في وسط السماء، والحيوان بحذاء الثور، وآدم وحواء بحذاء الجوزاء من أرض المشرق؛ ولذلك قيل للجوزاء ذات جسدين.
وكانت البداية من الحمل وقد حل فيه زحل وهو هابط، فصار المركز مهيأ من الطين، وكان أكثره مظلما وصار ثقيلا رزينا، وصارت الجبال راسيات مستقرة، وكان أول معدن انعقد في بطن الأرض الأسرب؛ ولذلك صارت الأرض مقر الثقل ومستقر الكثائف من أجل زحل وكونه في ذلك التقدير بمشيئة الله تعالى، فأقام آدم وحواء والحيوان مدة ما ذكر في الكتاب من غير مماسة ولا التئام، ثم ألهم الله تعالى عطارد صاحب المنطق النطق ونطقت حواء، وعلم آدم الأسماء كلها، فصار يعرفها ويلقي على كل جنس وشكل ونوع وشخص من النبات والمعادن والحيوان وجميع المرئيات الأسماء والصفات، ثم لم يزالا على ذلك حتى أكلا من الشجرة وأهبطا من الجنة إلى الأرض مسخوطا عليهما، فأقاما في الأرض مدة معلومة وكانا مع سائر الحيوانات يأكلان من ثمر الأشجار ويشربان من ماء العيون والأنهار، إلى أن سلم الحمل الدور إلى الثور؛ إذ هو أحد منافع الدنيا وسبب العمارة، وهو بيت الزهرة، وكانت حسنة الحال مستقيمة في مسيرها صاعدة في أوجها، مشرقة أنوارها.
وكان في هذا الحد اجتماع آدم وحواء ومماستهما فحملت منه، وكان ذلك ابتداء النسل، وجرى حال الحمل على ما ذكرنا في رسالة مسقط النطفة، فلما كثرت أولادهما تولى آدم تعليمه وتأديبهم وتهذيبهم، وعلمهم كيفية الحرث والزرع وازدواج الذكور والإناث، وعمروا العالم وعاينوا الحيوانات وما تصنعه بعضها ببعض وما يطلب من منافعها، فاقتدوا بها في أفعالهم، وأيد الله تعالى آدم عليه السلام بوحيه وإلهامه لما تاب عليه بما يكون له به صلاح ولذريته فلاح، وأقام على ذلك مدة ما أراد الله تعالى، ثم نقله إلى رحمته وخلفه من خلفه في ذريته وأولاده، ولم يزل الأمر على ذلك وبنو آدم مع والدهم يتكلمون بالسريانية، وقال بعضهم بالنبطية، ويفهم بعض عن بعض المعاني وما قصدوا وأرادوا، ووصفوا كل شيء بصفته إلا أنها لم تكن الحروف مجتمعة بعضها إلى بعض ولا مؤلفة بالكتابة، وإنما كان آدم عليه السلام يعلمهم تلك الأسماء تلقينا وتعريفا كما يعلم الأشياء ويعرف من لا علم له بالكتابة والهجاء؛ ولذلك يقال لمن لا يكتب ولا يقرأ أمي، وكان الخلق يحفظون تلك الأسماء والصفات عن السلف إلى أن سلم الدور الثور إلى الجوزاء، وظهرت الكتابة من أجل أنه بيت عطارد وشرف الرأس وهبوط الذنب، وصارت الحروف في ذلك أربعة وعشرين حرفا، وهي الكتابة اليونانية؛ لأنها قسمت لكل برج حرفين، فصارت أربعة وعشرين حرفا، فقيدت تلك الألفاظ وكتبت الأسماء بالحروف على لغة أهل ذلك العصر.
فانظر أيها الأخ إلى هذه الحكمة الصحيحة والصنعة المحكمة المتقنة كيف تأتي بكل شيء في وقته المقدر وزمانه الميسر.
وانظر كيف سرت هذه القوى التي هي الأصوات والنغمات أولا في عالم السموات، ثم في حركات الهواء، ثم في حركات النبات، ثم في أجسام الحيوان، ثم في عالم الإنسان.
فالصوت في الحيوان يسمى بأسماء مختلفة، مثل قول القائل: صهيل الفرس، ونهيق الحمار، ونباح الكلب، وخوار الثور، وزئير الأسد، ونعيب الغراب ... وغير ذلك.
وأما الصوت المخصوص به الإنسان، فإنه يقال له كلام ولفظ متكلم كقول القائل: فلان يتكلم بالعربية والفارسية والرومية وغير ذلك، وسنأتي على شرحه وبيانه ونفرق بين الصوت والكلام.
(9) فصل في الفرق بين الصوت والكلام
اعلم يا أخي أن الكلام هو صوت بحروف مقطعة دالة على معاني مفهومة من مخارج مختلفة، وأبعد مخارج الحروف أقصى الحلق، وهو مما يلي أعلى الصدر. والصوت من الجسم في الرئة بيت الهواء، كما أن أصل الصوت في العالم الكبير، الذي هو بمنزلة إنسان كبير، الهواء فيما دون فلك القمر والنفس في عالم الأفلاك؛ ولذلك توجد في الإنسان الذي هو عالم صغير في الرئة وفي قوة نفسه معاني ما يدل عليه الصوت، وكذلك الحركات والأصوات التي دون فلك القمر إنما هي مثالات ودلالات على تلك الأصوات الفاضلة والحركات المنتظمة، وتلك أرواح وهذه أجساد، وأصل الأصوات في الرئة هواء يصعد إلى أن يصير إلى الحلق فيديره اللسان على حسب مخارجه، فإن خرج على حروف مقطعة مؤلفة عرف معناه وعلم خبره، وإن خرج على غير حروف لم يفهم كان كالنهاق والرغاء والسعال وما أشبه ذلك، فإن رده اللسان إلى مخرجه المعلوم في حروف مفهومة يسمى كلاما ونطقا بأي لفظة كانت، على حسب الموافقة ومساعدة الطبيعة لكل قوم في اتساع حروفهم وسهولة تصرفهم في مخارج كلامهم وخفة لغاتهم بحسب مزاج طبائعهم وأهوية بلدانهم وأغذيتهم ، وما أوجبت لهم دلائل مواليدهم وما تولاهم من الكواكب في وضع أصل تلك اللغة في الابتداء الوضعي والمنهاج الشرعي، وما تفرع من ذلك الأصل وما ينقسم من ذلك النوع.
ثم اعلم أن أصل الاختلاف في اللغات إنما هو لما كثرت أولاد بني آدم وانتشروا في جهات الأرض، ونزلت كل طائفة منهم إقليما من أقاليمها وقطرا من أقطارها من الربع المسكون، تولى كل قوم في وقت نزولهم ذلك الإقليم كوكبا من الكواكب السبعة المدبرات، فعقد لهم عقدا نشأ عليه صغيرهم ومات عليه كبيرهم.
ثم اعلم أن الكلام الدال على المعاني مخصوص به عالم الإنسان، وهو النطق التام بأي حروف كتب، والحيوان لا يشرك الإنسان فيه من الجهات المنطقية والعبارات اللفظية، لكن من جهة الحركة الحيوانية والآلة الجسمانية والحاجة فيها إلى ذلك؛ لأنك تجد كثيرا من الحيوانات تريد بأصواتها دفع المضار وجذب المنافع، تارة لأنفسها وتارة لأولادها؛ مثل صياح البهائم إذا احتاجت إلى الأكل ومنعت منه، وإلى شرب الماء وزيدت عنه، ومثل استدعاء أولادها وما غاب عنها وما شاكل ذلك من الطيور التي تحاكي الإنسان، ومحاكاة القرد للإنسان في جميع أفعاله وأكثر أعماله.
فهذه الأشياء لما يريد الحيوان التطريب والتصويت والصياح لها ومن أجلها، فإنه لا يقال لها معان علمية، وإنما يقال لها إرادات طبيعية؛ فأجساد الحيوانات مجبولة عليها، وإنما استدعاؤها إياها بالتصويت في بعض الأوقات إذا عدمتها وحيل بينها وبين ما تريد، وقل ما يكون دالا بأصواتها على الأمر الأعم ولا معنى لها، ولا يعرف المراد منها ولا القصد، كصياح الطيور في أكثر أوقاتها.
منها ما يصوت بالليل ومنها ما يصوت بالنهار، وكذلك الحيوانات أكثرها، ولكن المراد بها منها كلها اجتماع الجنس وقيام الشكل إلى الشكل، وبحسب ما في كل شخص من أشخاصها من قوة الحرارة الغريزية وحركة النفس الحيوانية، فإن كل شخص أكثر حرارة وأقوى حركة وأحيى نفسا، كان أكثر صوتا وأدوم كلاما في عموم الأوقات، وما كان دون ذلك كان بحسب ما فيه وما هو مجبول عليه .
وبالجملة إن الصوت الحادث بحركة نفسانية حيوانية فهو مخصوص به الحيوان، وأما ما يسمع من الأصوات من غير الحيوان، فإنما يقال له قرع ووقع وطنين وصفير وزمير ونقر ودق وقرقعة؛ كصوت البوق وضرب الدف والطبول والدبادب وما شاكل ذلك.
فهذه المثالات لهذه الأصوات مخصوصة بما يحدث من حركات الأجساد الصامتة التي لا يحدث صوت وحس عنها إلا بمحرك من غير جنسها، يرفعها ويضعها وينقرها ويقرع بعضها ببعض. فالمحرك لها إما بعمد وقصد كالإنسان فيما يتخذه من هذه الآلات للتصويت بالحركة، أو كحيوان يحدث ذلك بغير قصد كاحتكاك الدابة بالباب ودفعها للإناء وغيره، فيحدث من تلك الحركة وذلك الدفع صوت، أو من حركة الرياح والهواء للأجساد والنبات والأشجار وحفيف أوراقها واحتكاك قضبانها، وسلوك الهواء بينها وسريانه بين الحيطان والبنيان، وخرقه منافذ الجبال والغدران والكهوف، فيحدث منه أنواع الصفير والتصويت، وما يحدث من أصوات حوادث الجو ما قد ذكرناه، مثل ما يحدث من حركات المياه إذا انحدرت وتدافعت من أعلى الجبال إلى بطون الأودية، ومثل أصوات الدواليب والأرحية والطواحين والمجاذيف وجريان السفن في البحر وجري العجل في البر، وكل ماء إذا تحرك أو تصرف فيه المحرك ظهر منه الصوت وقرع الهواء.
فهذه كلها أصوات فما كان منها عن أجسام الحيوان قيل أصوات ونغمات، وما كان منها عن حركة الهواء قيل صفير وزمير، وما كان عن حركة الماء قيل دوي وخرير وأمواج، وما كان من المعدنيات والأحجار والخشب قيل وقع وطنين ونقرة وما شاكل ذلك، وما كان من جهة الإنسان قيل كلام ولفظ ومنطق بالجملة، وعند التفصيل والتقسيم فكثرة الألوان والفنون مثل كلام الخطيب وإنشاد العشر وقراءة القرآن وما شاكل ذلك، وينسب ذلك الكلام إلى المعنى المقصود إليه به.
فقد بان، بما ذكرنا، الفرق بين الصوت الحيواني والكلام الإنساني، وما يحدث من حركة الهواء وما يظهر من أجسام النبات والمعادن. وإذا تأملت ذلك وميزته بفكرتك وأعملت فيه رويتك، رأيت تلك الحركات وسمعت تلك الأصوات والنغمات والمجاوبات، وتبينت أن العبارات كلها تأدية عن النفوس الجزئية بما أمدتها النفس الكلية.
وكذلك الحركات الكلية العرضية أصلها الحركة الذاتية، وهذه أعراضها وتلك جواهرها، وهذه فانية وتلك الحركات باقية؛ لأن مركز هذه سفلي ومقر تلك علوي، وهذه منها فاضلة ومنها غير فاضلة وتلك فاضلة كلها، وبعض هذه حي وبعضها ميت وتلك كلها حية، وبعض هذه متكلمة ناطقة وبعضها مصوتة وتلك ناطقة كلها، وبعض هذه أصواتها مفهومة وبعضها أصواتها غير مفهومة وتلك أصواتها كلها مفهومة، وبعض هذه الأصوات دال وبعضها غير دال وتلك كلها دالة، ومعاني هذه الأصوات مضمنة في حروفها وتلك كلها معاني، وأهل هذه يحتاجون إلى من يكشف لهم معانيها ويدلهم على مراميها وأولئك لا يحتاجون إلى ذلك، وهؤلاء يضجرون من الكلام ويملون وأولئك لا يضجرون، وهؤلاء أكثرهم غير طيبي النغمة ولا لذيذي الصوت ولا حسني الكلام وأولئك كلهم طيبو النغمة ذوو ألحان لذيذة، وبعض هذه الأصوات معكوس يشبه أصوات أهل جهنم، وزفيرهم وشهيقهم كنعيق الكلاب ونهيق الحمار وزعقات البوم وصياح السباع، وما يحدث في القلوب من الوحشة والنفور والفزع والرعب، وما تضجر منه النفوس، وما شاكل هذه الأصوات والمصوتات.
ثم اعلم أن كل صوت يسمع فإنما يخرج عن هيئة الجسم الذي يصوته بحسب قوته وصفاء طبيعته وغلظها، ونحتاج ها هنا إلى بيان ووضوح برهان، ونحن نذكره بشرح مبين.
فصل
ثم اعلم أن اختلاف الناس في كلامهم ولغاتهم على حسب اختلافهم في أجسادهم وتركيباتهم، وأصل الاختلاف في اللغات هو اختلاف مخارج الحروف ونقصها عن تأدية ما يؤديه البليغ منها. وقد زعم بعضهم أن فساد الكلام من فساد التركيب وفساد المزاج، وليس هو كما زعم، وإنما هو من اختلاف مخارج الحروف في قوتها وضعفها، وهو فساد في اللسان يقلب ويعدل الحروف عن مخارجها. ولو كان من فساد المزاج لكانت اللغة كلها في حرف واحد من مخرج واحد، ولكانت ترجع إلى الاستواء عند صلاح المزاج كما يحدث بالفصيح الكلام، وضعف الصوت من فساد المزاج وغلبة بعض الطبائع، وإذا عاد إلى الأمر السالم عاد كلامه إلى المعهود منه أولا، واللغة ليست كذلك ، والناس فيها مختلفون وغير متفقين في الحروف التي يقع الخطأ فيها والعدول بها عن استوائها إلى خلافها، وهي أعراض كثيرة تختص باللسان وتعرض فتفسد الكلام، وهي زمانة لازمة مثل الخلسة والفأفأة والتمتمة والعقلة والحلكة والرثة واللثغة وما أشبه ذلك.
وإذا كان الكلام يثقل على الرجل قيل في لسانه خلسة، وإذا أدخل بعض حروف العرب في بعض حروف العجم قيل في لسانه لكنة، وإذا عجز عن سرعة الكلام قيل في لسانه عقلة، والحلكة إنما هي نقصان آلة المنطق وعجزها عن أداء اللفظ حتى لا يعرف معناه إلا القليل وهو قريب من كلام البهائم والخرس ونحو ذلك.
(10) فصل في المعاني
فأما إفهام المعاني فإنها تفهم من الكل من اللكن والفصحاء، وإنما يتفاضل الناس في البلاغة وهو عند الحشوية والعوام والنساء والصبيان حسن الصوت وحلاوة المنطق وصفاء الكلام.
وليس كل من حسن صوته وصفا كلامه كان بليغا في إبانة المعنى وإقامة الدليل والحجة في إزالة الشبهة عن النفس الساهية وانتباه الجاهل عن رقدته وإصحاء السكران من سكرته بالتذكرة والموعظة، فإن صاحب النغمة الطيبة والكلام الصافي ربما استعمل ذلك في الأغاني والملاهي.
وسبب كل ذلك محبة اللذات الدنية والشهوات الحسية وما يتضمن الكلام من السخف والمجون وأمثاله، فإن معانيها لا حقيقة لها، والكلام بها إنما هو تصويت وهذيان لاحق بأصوات الحيوان والمجانين والسكارى والصبيان والنسوان ومن لا عقل لهم.
وأصل المعاني إنها المقالات المدلول بصحتها في الإخبار بها عن معرفة حقائقها ومقاصد طرائقها، وحد المعنى أنه هو كل كلمة دلت على حقيقة وأرشدت إلى منفعة، ويكون وجودها في الإخبار بها صدقا والقول عليها حقا، والإخبار على أربعة أقسام: خبر واستخبار وأمر ونهي.
وقد جعلها قوم ستة، وآخرون عشرة، وأصلها هذه الأربعة؛ فثلاثة منها ما لا يدخله الصدق والكذب، وواحد منها يدخله الصدق والكذب، وهو الخبر، ويوجد في ذلك السالبة والموجبة والممكن والممتنع.
فصل
ثم اعلم أن جميع هذه المعاني وما يتعاقبها من مدح أو ذم ويدخلها من صدق وكذب وبلاغة وحصر فلا بد من أن يقع على مسمى باسم من مدح أو ذم، وكل مسمى باسم فيه مدح من سائر المعاني، فهو واقع بين اثنين متضادين؛ عدل بين حاستي جور؛ فالعلم واقع بين أمرين إما علم ما لا يجب أو جهل ما يجب، فصار العدل بين حاستين إفراط وتفريط.
وعلى هذا المثال الفهم عدل بين الاعتراف بما لا يمكن وإنكار ما يمكن.
واللب أيضا عدل بين الحصر عن التفهيم والتراخي عن التوهم، والعزم عدل بين التهور والجبن، والجود عدل بين التقتير والتبذير، والشجاعة عدل بين الإقدام والإحجام.
وعلى هذا المثال يقع كل اسم من أسماء القصد والحزم وكل وصف يستحق به صاحبه المدح وبإزائه ما يستحق عليه الذم.
واعلم أن حقيقة مطالب معنى العدل بأن تصرف في فنون المسميات، وتقسم في وجوه العبارات، وذلك أن القصد هو الذي لا يجزي ما دونه ولا ينفع ما فوقه فهو راجع إلى معنى العدل الذي ما نقص عنه كان ضعفا وما زاد عليه كان إسرافا.
وكذلك الحزم أيضا ما لم يمل إلى إحدى حاشيتيه اللتين إحداهما الفشل والأخرى التهور، وكذلك الحياء الذي طرفاه الفتور والقحة وكل يرجع من العدل إلى انقباض بين ازدياد على حدة وانتقاص ويئول إلى انبساط منه وتفريط وإفراط.
فمن طلب العدل في جميع الصفات وجده متوسطا بين ضدين؛ أحدهما يتطرق دونه إلى بخس ونقصان، والآخر يتطرق فوقه إلى إفراط وعدوان، والعدل في الطلب هو ما لم يمل إلى الإلحاح في المسألة ولا إلى الابتهال والخضوع، والحر لا يكون مهينا والكريم لا يكون لجوجا.
ولهذا قيل القنوع خير من الخضوع، والعدل في السياسة ما لم يمل إلى عبوس موحش ولا ملق مدهش؛ فإن العبوس يشين المودة ويزيل ما في القلب من صفاء المحبة، والملق يذهب برونق المروءة.
ولهذا قيل من كثر ملقه لم يعرف وده، والعدل في البلاغة ما لم يقصر عن درك البغية، وإصابة المعنى وقصد الغرض، ألا ترى أن الهذار في المنطق بعد بلوغ الغاية لا يحتاج إليه، ولو كانت البلاغة هي البلوغ إلى غايات المعاني، لكان العالم كلهم بلغاء، خاصهم وعامهم؛ لأنه ما من أحد إلا وهو إذا عبر عما في نفسه بلغ غرضه في إفهام السامع عنه ما يريده منه، على حسب استطاعته وما تساعده عليه آلاته، وإنما البلاغة هي التوصل إلى إفهام المعنى بأوجز مقال وأبلغ كلام؛ ليعرف به المراد بأسهل المسالك وأقرب الطرق بواضح البيان وصادق المقال، والإيجاز في ذلك ما بلغت غاياته بيسير اللفظ، والإطناب ما بلغت غاياته بالتطويل، فصارت البلاغة حينئذ التوسط بين الحالتين والتوصل إلى إدراك الغاية من أقرب الطرق. وقيل البلاغة معرفة مواضع المفاصل المطلوبة بألفاظ مفهومة، والبليغ هو الذي لا يؤتي سامعه من سوء إفهامه، والفهيم الذي لا يأتي بسوء فهم من يريد إفهامه بتقصير عن البلاغة في خطابه أو كتابه، فيخرق بفهمه وصفاء ذهنه تلك الحجب الحائلة بينه وبين المعنى الذي يقدر على الفهم؛ لأنه يجرده من تلك الشوائب المعوقة له عن البيان والإيضاح. والبلاغة في اللغة من بالغت في كذا وكذا، وهي مشتقة من المبالغة؛ يقال بلغت أبلغ بلوغا، فالمصدر منه بلاغة، فأنا بالغ، وتقول: أبلغت الكلام، وبلغته إلى فلان؛ أي أديته إليه.
واعلم أن المعاني تنطق بها أفواه السوقة والعوام في الأسواق والطرق، ولكن قل من يحسن العبارة عنها، وربما أراد المعنى فعبر عن غيره وهو يظن أنه قد عبر عنه، والمعاني هي الأصول وهي الاعتقاد الذي أول ما يتصور في النفس والألفاظ هيولى لها، والمعاني كالنفوس، والألفاظ كالأجسام، والمعاني كالأرواح، والحروف كالأبدان.
فصل
ثم اعلم أن الهيولى إذا قبلت آثار النفس قبولا تاما، ظهرت أفعال النفس في الغرض والمراد مضيئة بهيئتها، وإن عجزت عن القبول كانت دون ذلك، وكذلك الألفاظ إن قبلت التأدية عن المعاني ببلاغة فهمت المعاني ولاحت دلائلها بغير تطويل ولا إسهاب، وإن عجزت الألفاظ عن تلك التأدية احتاجت إلى التطويل؛ والتطويل ذهاب البلاغة، والتقصير هو ضعف الدلالة والحجة. وفي الناس من يجول في قلبه المعنى الصحيح فيعبر عنه باللفظ الركيك فيحيله عن معناه، وإن لم يرد الإحالة، ولكنه عجز في اللفظ فيصير اللفظ غير مؤد عن المعنى، لا لعجز المعنى ولكن لعجز اللفظ، كما أن الطبيعة تفعل أشياء فتعجز عنها الهيولى القابلة فتنقص عن الكمال، لا لعجز الطبيعة بل لعجز الهيولى، فتأمل هذا الكلام فإنه من الأسرار العجيبة والرموز الدقيقة والمعاني، وفيه غرض غامض.
وأنت أيها الأخ، ينبغي لك أن تراجع نفسك النائمة الساهية، فانتبه من نوم غفلتك وأنعم النظر في جميع ما قلناه وافهم جميع ما بيناه من الإشارات والرموزات، ولا تظن بنا ظن السوء؛ لأن إفشاء سر الربوبية كفر.
(11) فصل في كيفية إدراك القوة السامعة للأصوات
فنقول: اعلم أن الأصوات نوعان؛ حيوانية وغير حيوانية، وغير الحيوانية قسمان؛ طبيعية وآلية؛ فالطبيعية كالصوت من الحجر والحديد والصفر والخشب والرعد والريح وخرير الماء وسائر الأجسام التي لا روح فيها من الجمادات، والآلية كصوت البوق والطبل والدف والمزمار والأوتاد وما شاكلها. والحيوانية أيضا نوعان؛ منطقية وغير منطقية؛ فغير المنطقية أصوات سائر الحيوان التي ليست بناطقة.
وأما المنطقية فهي أصوات الناس، منها دالة ومنها غير دالة، فغير الدالة الضحك والبكاء والأنين والأصوات التي لا هجاء لها.
وأما الدالة فهي الكلام والقول الذي له هجاء، وكل هذه الأصوات إنما هو قرع يحدث في الهوام عن تصادم الأجرام.
وذلك أن الهواء بشدة لطافته وخفة جوهره وصفاء طبعه وسرعة حركة أجزائه؛ يتخلل الأجسام كلها، فإذا صدم جسم جسما آخر انسل ذلك الهواء وتدافع إلى جميع الجهات وحدث منه شكل، كما ذكرنا أولا، فيصل بمسامع الحيوان.
فأما كيفية إدراك الحاسة السامعة للصوت الحيواني وغير الحيواني وتمييزها لكل واحد منها، كما تميز القوة الذائقة طعوم الأشياء وتخبر الناطقة عن كل شيء بما يخصه من طعمه، وكذلك القوة الشامة.
فأما الذائقة فهي أكثر تأثرا من الشامة، وكذلك الحاسة السامعة، فإن قواها في تمييزها الأصوات بعضها من بعض ألطف وأشرف، والحاسة اللامسة أكثف من الجميع، واختلف العلماء في حاسة النظر وحاسة السمع أيهما ألطف وأشرف، فقال بعضهم حاسة السمع أشرف، وكان برهان من قال ذلك أن محسوسات السمع كلها روحانية، وأن النفس بطريق السمع تدرك من هو غائب بالمكان والزمان، وأن محسوسات البصر كلها جسمانية؛ لأنها لا تدرك إلا ما كان حاضرا في ذلك الوقت، وقال إن السمع أدق تمييزا من البصر؛ إذ يعرف جودة الذوق وجودة الحس والكلام الموزون والنغمات المختلفة، والفرق بين السقيم والصحيح، والمستوي والمنزحف، وصوت الطير من صوت الكلب، وصوت الحمار من صوت الجمل، وأصوات الأصدقاء من أصوات الأعداء، وما يحدث من أصوات الأجسام التي لا روح فيها وأصوات الناس على اختلافهم وأشكال كلامهم، فتخبر عن كل صوت بما هو دأبه وتنسبه إلى الذي بدا منه ولا يحتاج إلى البصر في ذلك وفي إدراكه، والبصر يخطئ في أكثر مدركاته؛ فإنه ربما يرى الصغير كبيرا والكبير صغيرا، والبعيد قريبا والقريب بعيدا، والمتحرك ساكنا والساكن متحركا، فصح بهذا القول أن السمع ألطف وأشرف من البصر ولنعم ما قيل:
الشمس تستصغر الأجسام جثتها
فالذنب للعين لا للشمس في الصغر
فإذا كان كذلك كانت الحواس الخمس الموجودة في الإنسان المستوي البنية التام الخلقة مناسبة للطبائع الخمس في جسم العالم الذي هو الإنسان الكبير. فحاسة اللمس مناسبة لطبيعة الأرض؛ لأن الإنسان يحس بجسمه كله. وحاسة الذوق التي هي اللسان مناسبة لطبيعة الماء؛ إذ بالمائية والرطوبة التي في اللسان والفم تدرك طعوم الأشياء، وسنشرحها إذا انتهى بنا القول إلى تفصيل ذلك وبيانه. وحاسة الشم مناسبة لطبيعة الهواء؛ لأن القوة الكامنة هوائية، وهي المستنشقة للهواء، وبه تدرك روائح الأشياء. والحاسة الباصرة مناسبة لطبيعة النار؛ إذ بها وبالنور تدرك محسوساتها. والحاسة السامعة مناسبة لطبيعة الفلك الذي هو مسكن الملائكة، الذين شعارهم وشغلهم ليلهم ونهارهم وكلامهم كله تقديس وتسبيح وتهليل، ويلتذ بعضهم بسماع بعض، ويقوم لهم في ذلك العالم العلوي مقام الغذاء الجسماني في العالم السفلي.
وذلك أن حاسة السمع محسوساتها كلها روحانية؛ ولذلك قيل إن فيثاغورس الحكيم سمع بصفاء طبيعته وصفاء جوهره نغمات الأفلاك، وإنه استخرج الآلة التي تسمى العود، وأنه أول من ألف الألحان، ومن بعده من الحكماء الذين اقتدوا به وبان لهم حقيقة ما وصفه، فصد قومه وتابعوه واتسعوا في فعل ذلك كل بقدر ما اتسع له زمانه، وساعده عليه إمكانه.
فصل
ثم إن لكل صوت صفة روحانية تختص به خلاف صوت آخر؛ فإن الهواء من شرف جوهره ولطافة عنصره يحمل كل صوت بهيئته وصيغته ويحفظها لئلا يختلط بعضها ببعض، فيفسد هيئاتها إلى أن يبلغها إلى أقصى غاياتها عند القوة السامعة لتؤديها إلى القوة المفكرة، ذلك تقدير العزيز العليم، الذي جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، قليلا ما تشكرون. فإن قال قائل: ما العلة التي أوجبت للهواء هذه الفضيلة الشريفة والحركة الخفيفة؟ فنقول: لقد سألت عن أمر يجب السؤال عنه؛ إذ كان من أكثر الفوائد، فيجب أن تعلم أن جسم الهواء لطيف شريف، وهو متوسط بين الطرفين، فما هو فوقه ألطف منه وهو النور والضياء، وما دونه أكثف وهو الماء والتراب، ولما كان الهواء أصفى من الماء وألطف وأشرف جوهرا وأخف حركة صار النور يسري فيه ويصبغه بصبغته ويودعه روحانيته؛ لأنه قد قاربه وجانسه بما فيه من اللطافة، ولما كان النور والضياء أصله ومبدؤه من أشرف الجواهر الغالية صار له اتصال بالنفوس والأرواح وصارت سارية فيه، وهو المعراج الذي تعرج به الأرواح وتنزل به النفوس إلى عالم الكون والفساد ومجاورة الأجساد، ولما كان للهواء هذه الفضيلة صار يحفظ لكل شيء صورته تامة، ويحوطه حتى يبلغه إلى الحال المقصود به بحسب ما جعله فيه باريه، جلت قدرته، بحكمته ليكون بذلك إتقان الصنعة وأحكام الخلقة؛ فلذلك صارت تدركها بما هي به إذا كانت الحاسة سالمة والأداة كاملة.
وهكذا حاسة الشم تقبل من الهواء ما يحمله من الروائح، فإنه يحفظها ويتبع الإحاطة بما يعرض من الروائح عن كثير من الأجناس، ثم تؤديها إلى حاسة الشم فتخبرها عن كل رائحة بما هي به وعما فاحت عنه؛ ولذلك قيل عالم الأرواح روح وريحان ونغمات وألحان. وكذلك النور يحفظ الألوان على الأجسام ولا يخلط بعضها ببعض، وتدركها القوة بما هي به إذا كانت الحاسة سالمة ، ثم إنه متى حدث ببعض الحواس حادث أوجب تغير إدراك الحاسة، فليس ذلك لفساد في الهواء والضياء، ولكن لفساد المزاج واضطراب البنية، فإذا كانت الحاسة سالمة وجاءتها الأشياء بخلاف ما تعهد فليس ذلك لفساد فيها، لكن للحادث الذي حدث في الهواء والضياء؛ وذلك أن الهواء يتغير ويتكدر، والضياء يظلم؛ ولذلك صار البصر لا يدرك بعد مغيب الشمس ما كان يدركه وقت طلوعها، وكذلك السمع لا يدرك من الأصوات في وقت هيجان الريح وحركة الهواء ما كان يدرك من ذلك في وقت سكون الهواء وهدوء الرياح.
فصل
ثم إن ما دون فلك القمر لطيف وكثيف يجرى عليه التغير والاستحالة؛ وذلك أن النار تستحيل فتصير هواء، والهواء يستحيل فيصير ترابا، والتراب يستحيل فيصير ماء، والماء يستحيل فيصير هواء، والهواء يستحيل فيصير نورا؛ فالنار صار أولها يتصل بالهواء وآخرها يتصل بالنور، وأول طرف الهواء متصل بالماء وآخره متصل بالنار، وأول الماء متصل بالتراب وآخره متصل بالهواء؛ فمن جهة طرفه الأعلى يتصل بما فوقه، وبطرفه الأدنى يتصل بما دونه ويستحيل إليه.
فانظر يا أخي كيف أوجبت الحكمة التغيير والاستحالة والزوال والانتقال من حال إلى حال في الموجودات الطبيعية، والعلة في ذلك هو جزاء النفوس بما كسبت وعقوبتها بما جنت؛ لأن عالم الأرواح لا تغير فيه ولا تبديل ولا زوال ولا انتقال.
ثم اعلم أن كيفية إدراك الحاسة السامعة بجميع أصوات ما في العالم من الإنس وسائر الحيوان والنبات والرياح والأشجار، وما شاكل ذلك من كل شيء له صوت وحركة ينقسم عددها إلى ثلاثة أقسام؛ أحدها حي، والآخر ميت، والثالث لا حي ولا ميت؛ وكلام الإنسان وصوت الحيوان حي ذو حركات نفسانية، وصوت الحجر والخشب والحديد والنحاس وما شاكلها ميت، والقسم الثالث لا حي ولا ميت مثل صوت الهواء إذا تدافع وصدم بعضه بعضا وحدث منه الصفير والزمير، وصوت تدافع الماء في التلاليع وأمواج البحار وجريان الأنهار وصوت زفير النار، فإن هذه لا يقال لها حية كما يقال للإنسان والحيوان إنه حي ذو حركة يقصد لغرض يناله بحركته، ولا يقال إنها ميتة كموت الحجر والخشب؛ لأنها متحركة بالاتفاق لا بالقصد، ولأنها تقوي مرة حركة الهواء ومرة تسكنها، وكذلك الماء والنار، ثم يجمع هذه الأصوات كلها شيء واحد وهو هيولاها ولولاها لما كانت.
فأما كيفية الأصوات التي تعلم الإنسان أنها صدرت عن أجسام حية، فهو أن يكون وصولها إلى حاسة سمعه بسرعة وخفة، ويجد لنفسه التي تفهمها وتقبلها سرعة الإخبار عنها بما هي به، بخلاف تلك الأصوات الصادرة عن الأجسام المائية التي لا يوصل إليها إلا بالفكرة والروية.
وأيضا فإن الإنسان يأنس بالأصوات الحية إذا كان في فلوات بعيدة في موضع منقطع عن العمران فيستوحش، فإذا سمع نباح كلب أو صوت إنسان استأنس وقويت نفسه وعلم أنه بقرب عمران، وبخلاف ذلك إذا سمع صوت الوحش يخاف منه على نفسه، وأيضا صوت هبوب الرياح العواصف وجريان الأودية وأمواج البحار واهتزاز الأشجار ووقع الأحجار، إذا سمعها الإنسان الفريد الوحيد في المواضع النائية عن الناس استوحش منها غاية الاستيحاش.
ولذلك قيل إن في الفلوات والقفار جبالا تنقطع وتنكسر وتخر، فيسمع منها أصوات مرتفعة، فإذا سمع الإنسان ذلك يستوحش ولا يأنس بها.
وقيل أيضا أن النار والهواء والماء لا يحكم عليها بموت ولا حياة، وهي وإن كانت مادة للحياة والحركة، فإن ذلك يكون باجتماعها بقوة طبيعية وحركة نفسانية بمشيئة إلهية، وأما إذا تفردت كل منها بذاته فلا يقال لها حية ولا ميتة، ولكن كل واحد منها ذات طرفين؛ طرف متصل بالحياة، وطرف متصل بالموت، وهو متوسط بين ذلك؛ فالتراب طرفه الأعلى وما لطف منه متصل بالماء، فهو ذو حياة بما يخرجه ويبرزه من النبات الذي به حياة الحيوان، وطرفه الآخر هو ما كثف منه مثل الجبال والصخور والسباخ، فإنها أموات لا تقبل الماء ولا تحس به، ولا يكون منها نبات ولا ينتفع بها حيوان، والطرف المتصل بالماء يقال له عمران، والذي بعد من الماء يقال له خراب، وهو بالموت أشبه من طرفه العامر.
والماء أيضا ذو طرفين؛ طرفه الأعلى متصل بالهواء وهو بالحياة أشبه، وطرفه الأدنى متصل بالتراب، والتراب لا حياة فيه ولا حركة له، فالطرف المتصل بالتراب بالموت أشبه، والطرف المتصل بالهواء بالحياة أشبه، والهواء طرفه الأدنى متصل بالماء والماء بالموت أشبه؛ لأن الماء ربما صار جامدا ثقيلا، وإذا جمد صار مواتا، وكانت منه صخور وجماد، وهو بالموت أشبه، وطرفه الأعلى متصل بالنار، والنار بالحياة أشبه.
والنار أيضا ذات طرفين؛ طرف منها متصل بالهواء، وطرف منها متصل بالنور والضياء؛ وذلك أن النار إذا قدحت خرجت من احتكاك الأجسام بحدوث ذلك القرع في الهواء، وإذا برزت مع الهواء اتصلت بالأجسام النباتية والحيوانية، فأكلتها وأحرقتها وزالت بزوالها واضمحلت باضمحلالها، فيقال خمدت النار وانطفأ السراج، فصار هذا الطرف أشبه بالموت، ولها طرف آخر يطلب العلو أبدا متصل بالإشراق والنور والضياء، وهذا الطرف لاتصاله بالنور ومشاكلته إياه بالحياة أشبه.
وكذلك آخر المعادن متصل بأول النبات، وآخر النبات متصل بأول الحيوان، وآخر الحيوان متصل بأول عالم الإنسان، وآخر الإنسان متصل بأول مرتبة الملائكة، وكذلك آخر التراب متصل بأول مرتبة الماء، وآخر الماء متصل بأول مرتبة الهواء، وآخر الهواء متصل بأول مرتبة النار، وآخر النار متصل بأول مرتبة الضياء.
كذلك ما حدث من الأصوات يجرى على هذا المثال؛ فصوت الأحجار يشبه أصوات النبات؛ لأن النحاس إذا خلط بالحديد وجمع بينهما كان له طنين كطنين العيدان؛ وذلك أن العود نبات صنعه الناس وحركوه، وصارت له نغمة ظاهرة ناطقة معبرة عما في أفكار النفوس.
وكذلك صوت نقرات الأجراس وطنين النحاس، وليس للحجر الغير المعدني مثل ذلك، فالطرف الأعلى من أصوات النبات نغمات العيدان وما شاكلها، وهي لاحقة بأصوات الحيوان وكلام الإنسان، والطرف الآخر الأدنى المتصل بأصوات الحجارة الموات كصوت الدف ودوي الأوتاد في الأرض وما شاكلها.
والطرف الأعلى من أصوات الأحجار المعدنية كما قلنا هو صوت النحاس وما كان له طنين وزمير، وهو اللاحق بأصوات النبات مثل العيدان والطنابير وما شاكل ذلك.
والطرف الأدنى من أصوات الحيوان لاحق بصوت النبات، مثل أصوات البهائم الخرس التي لا يتبين لها صوت يمكن تقطيعه ووزنه مثل النهيق، والحيوانات التي لا أصوات لها لاحقة بالجمادات والموات.
والطرف الأعلى لاحق بكلام الناس مثل كلام الفصحاء من الطيور والهزار داستان والبلبل، وما شاكل ذلك مما حسن صوته من الحيوان.
والإنسان أيضا كلامه ذو طرفين؛ طرفه الأدنى متصل بالحيوان مثل الفأفاء والتمتام والأخرس والألثغ وما شاكل ذلك.
والطرف الأعلى منه متصل بمنطق الملائكة، مثل كلمات الفصحاء والبلغاء وذوي النغمات والألحان المطربة، مثل نغمات داود عليه السلام والقراء والملحنين في المساجد، وقراءة المزامير مثل أصوات قراءة التوراة في الكنائس والبيع، والقرآن في المساجد، والخطباء على المنابر، والرهبان في الصوامع، وما شاكل ذلك. ولكل صوت من هذه الأصوات عند الحاسة السامعة كيفية وماهية؛ فماهية صوت الإنسان أنه غرض مفهوم دال على معنى، فتحتاج القوة المفكرة إلى أن تفكر فيه وتفتش عن معناه. وأصوات الحيوانات غير مفهومة، لكن القوة المفكرة تقضي عليها أنها ما صوتت إلا لحاجة، وما أرادت به إلا سبب أكل وشرب ونكاح، فهذه الأقسام من الصوت مختصة بالأجسام الحية.
فأما صوت الحجارة والخشب، فإن القوة المفكرة لا تقضي عليها بأنها ما بدت لغرض ولا لقصد إلا أن تكون آلية لحركة الإنسان، مثل البوق والزمر والعود وما شاكل ذلك، وأنها تنسبها إلى الحركة التي كانت هي السبب في تصويتها مثل بوق ومزمار وعود وصفار وما شاكل ذلك، وكل هذه أصوات إنسانية أودعتها النفس الجزئية هذه الأشكال النباتية بالصناعة التي اتخذتها حيلة للمعاش والكسب.
وأما صوت هبوب الرياح والرعد وخرير الماء إذا انحدر من علو إلى أسفل واضطراب موج البحار واهتزاز الأشجار، فإن القوة المفكرة لا تعبأ بذلك ولا تفكر فيه، وإنما تمر على الحاسة السامعة شبه الخوار ولا حاجة إليه، وربما ضجر الإنسان منه وتأذى من مداومة سماعه.
وإذ فرغنا من ذكر ماهية الأصوات وكيفية حدوثها وكيف تدركها القوة السامعة، فلنذكر ما بين هذه الحاسة وبين ما تدركه هذه الأصوات من المناسبة والمشاكلة والمجانسة والمطابقة.
فصل
فنقول: اعلم أن إدراك الحاسة السامعة لصوت الحجر والجواهر المعدنية والجمادات الغير النامية والحية كنمو النبات وخوار الحيوانات، فهذا لما بينها وبين تلك من المناسبات والمجانسات من جهة الجسمية والطبيعة الأرضية؛ وذلك أن جسم الإنسان مائل إلى التراب.
وأما إدراكه أصوات الخشب وكل ما يصوت ويتحرك من النبات والأشجار، فلأجل المناسبة بينه وبين ذلك؛ وذلك أن الإنسان يشارك النبات في النمو والزيادة والكبر بعد الصغر.
وأما إدراكه أصوات الحيوان ومعرفته بها وإخباره عنها، فلما بينه وبين الحيوان من المناسبة؛ وذلك أن الإنسان مشارك للحيوان في الحياة والحس، والنفس الحيوانية جارية بينهم، متصل بعضها ببعض أكثر اتصالا من النفس النامية بين النبات والحيوان؛ وذلك أن الإنسان يشارك النبات من جهة واحدة وهي النمو فحسب، ويشارك الحيوان من جهات كثيرة؛ وهي النمو والشهوة والأكل والشرب والنكاح والحس والألم واللذة والأمور الحيوانية، والإنسان إنما يتميز عن الحيوان بالنطق والتمييز والقوة العاقلة، وقيل إن لبعض الحيوانات فكرا وتمييزا، وهي النحل والنمل.
وأما إدراكه أصوات الهواء والنار فلما بينه وبينها من المناسبة؛ لأنه مهيأ منها كما ذكرنا في رسالة الهيولى والصورة.
واعلم يا أخي أنه لولا المناسبة التي بين الحيوان الحي وبين الجمادات الميتة لما كان يدرك من المعرفة بها والإحاطة بخبرها قليلا ولا كثيرا، فإن قال قائل: لم لا يعرف الصبي الصغير هذه الأشياء على حقيقتها وبينه وبينها النسبة موجودة؟ قيل: إن ذلك لعجز في الهيولى عن القبول لا لغلط من الخالق تعالى @QUR04 ذلك تقدير العزيز العليم، يخلق ما يشاء كما يشاء بلا اعتراض عليه، ويحكم ما يريد بلا غرض جل جلاله.
(12) فصل في اختلاف الأصوات في الصغر والكبر
فنقول: اعلم أن حدوث الأصوات يكون من تصادم الأجسام بعضها ببعض، فنقول: إن كل جسمين تصادما برفق لا يسمع لهما صوت؛ لأن الهواء ينسل من بينهما قليلا قليلا، فلا يحدث صوتا، وإنما يحدث الصوت من تصادم الأجسام إذا كانت صدمتها بسرعة، فينضغط الهواء عند ذلك وتتدافع أمواجه وتتموج حركته إلى الجهات الست بسرعة، فيحدث الصوت ويسمع كما بينا فيما تقدم، والأجسام الكبار العظام إذا تصادمت يكون اصطدامها أعظم من أصوات ما دونها؛ لأن تموج هوائها أكثر. وكل جسمين من جوهر واحد مقدارهما واحد وشكلهما واحد إذا تصادما معا فإن صوتاهما يكونان متساويين، فإن كان أملس فإن صوتيهما يكونان أملس من السطوح المشتركة، والهواء المشترك بينهما أملس. والأجسام الصلبة المجوفة كالأواني وغيرها والطرجهارات إذا نقرت طنت زمانا طويلا؛ لأن الهواء يتردد في جوفها ويصدم في حافاتها ويتموج في أقطارها، وما كان منها أوسع كان صوته أعظم؛ لأن الهواء يتموج فيها ويصدم في مروره مسافة بعيدة. والحيوانات الكبيرة الرئة الطوال الحلاقيم الواسعة المناخر والأشداق، تكون جهيرة الأصوات لأنها تستنشق هواء كثيرا وترسله بشدة. فقد تبين بما ذكرنا أن علة عظم الصوت إنما هو بحسب عظم الجسم المصوت وشدة صدمة الهواء وكثرة تموجه في الجهات، وأن أعظم الأصوات صوت الرعد وقد بينا على حدوثه فيما تقدم في رسالة الآثار العلوية. وأما أصوات الرياح وشدة حدوثها فليست شيئا سوى تموج الهواء شرقا وغربا وجنوبا وشمالا وفوقا وتحتا، فإذا صدم بحركته وبجريانه الجبال والحيطان والأشجار والنبات وتخللها، حدثت من ذلك فنون الأصوات والدوي والطنين مختلفة الأنواع، كل ذلك بحسب كبر الأجسام المصدومة وصغرها وتجويفها لعلل يطول شرحها.
فأما أصوات المياه في جريانها وحدوثها وتصادمها بالأجسام، فإن الهواء بلطافة جوهره وسريان عنصره يتخللها كلها، ويكون حدوث تلك الأصوات وفنون أنواعها بحسب تلك الأسباب التي ذكرنا في أمر الرياح.
وأما أصوات الحيوانات من ذوات الرئات واختلاف أنواعها وفنون أقسامها بحسب تلك الأقسام والأسباب التي ذكرناها من أمر الرياح، وبحسب طول أعناقها وقصرها، وسعة حلاقيمها وتركيب حناجرها، وشدة استنشاقها للهواء وقوة إرسال أنفاسها من أفواهها ومناخرها، وكل ذلك لأسباب وعلل يطول شرحها.
وأما أصوات الحيوانات التي لا رئة لها، كالزنابير والجراد والصراصر وأشباهها، فإنها تحرك الهواء بجناحين لها سرعة خفة، فتحدث من ذلك أصوات مختلفة كما يحدث من تحريك الأوتار والعيدان، وتكون فنونها متباينة وأنواعها مختلفة وصغرها وكبرها بحسب لطافتها؛ أعني أجنحتها وغلظها وطولها وقصرها وكبرها وصغرها وسرعة تحريكها لها .
وأما الحيوانات الخرس كالسمك والسلاحف وما شاكلها فإنها صمت؛ لأنها ليست لها رئة ولا جناحان فلا يكون لها أصوات.
وأما أصوات الجواهر المعدنية، كالحديد والنحاس والزجاج والحجارة وما شاكلها، فإن اختلاف الأصوات يكون بحسب يبسها وصلابتها وكمية مقاديرها من الصغر والكبر والطول والقصر والسعة والضيق.
وأما أصوات النبات فبحسب صلابتها ورخاوتها وما يتخذ منها بالصناعة من الآلات المصنوعة كما قدمنا ذكره. وكذلك حال ما يتخذ منها لمثل ذلك من الجواهر المعدنية، واختلافها في الأصوات والطنين، وما يبدو عنها من أنواع النغمات والأصوات كصوت الطبل والبوق والدف والسرناي والزمر، فهو يختلف بحسب أشكالها، فإن كل صوت إنما يبدو مناسبا للجسم الذي يكون منه، وبحسب صفاء جوهره، وكدره الذي يكون متخذا منه، وكبر أجسامه وصغرها، وطولها وقصرها، وسعة أجوافها وضيق ثقبها، ودقة أوتارها وغلظها، وبحسب تحريك المحرك لها والمصوت بها.
ومنها وسائط بين الإنسان والهواء في التصويت، مثل البوق والزمر والصفارة وجميع ما يجعله الإنسان في فيه ويرسل فيه الهواء من جوفه بقوة أنفاسه.
ومنها الوسائط بين الآلة والصوت من حركة الإنسان كصوت الطبل ونقرة الدف وما أشبه ذلك؛ فما يكون من هذه الآلة مصوتا بالفم، فإنه يكوم ممتدا مستطيلا مجتمع الأجزاء لا سكون فيه إلا أن يسكن الصوت مرة واحدة.
وأما الأصوات بحركة اليدين فإن بين أجزائها سكونات ودقة في أثر دقة، ونقرة تعقب نقرة، كما بينا في رسالة الموسيقى. وهذه الأصوات - أعني صوت الزمر والبوق - تشبه أصوات الأحجار والمعادن، إذا نقره المحرك كان له دوي وطنين يمكث في الهواء ممتدا لا ينقطع إلى أن يسكن، لا تقطيع فيه من أصوات الحيوانات مثل أصوات الزنابير وما شاكلها.
فأما أصوات ذوات الأوتار وما يستعمل منها في أنواع الأغاني بحركات اليدين موازية لحركة اللسان والإيقاع، مستوي اللحن، صحيح الوزن، وما كان بخلاف ذلك كان مناسبا لأصوات الطيور الثقال الطبع، كالإوز وما جانسها وككلام الثقيل الكلام من الناس؛ ويكون ذلك لفساد الحركة وبعدها من النسبة الفاضلة، كما عجزت هيولى الإنسان عن قبول ما جعل فيها وعجزها بإظهارها إياه من القوة إلى الفعل، وكان ذلك عجزا من المصنوع لا من الصانع؛ كما أن صانع العود إذا أحكم صنعته وشد أوتاره وأصلح مضاربه وأخذه من لا يعرف الصناعة ولا يحسن العمل به فنقره، فإنه لا يأتي من تصويته مثل ما يأتي به العارف بعلمه وصنعته، ولا ينسب ذلك إلى فساد في الآلة وإلى فساد من الصانع، وإنما ينسب إلى عجز المحرك.
فإذا رأيت آلة العود مفردة، والأوتار مقطعة، وحركة الحاذق بالصناعة لم تساعده على ما يريد بإظهار صناعته؛ فليس ذلك منسوبا إلى عجزه فيه، ولكن إلى عجز الآلة ونقصانها عن التمام، فمن كلا الوجهين الصانع بريء من العجز إذا كانت صنعة الأشياء على النسبة الفاضلة، وقصده في صنعته الإتقان والإحكام.
وإنما حدث النقص والفساد من جهة الهيولى، كما أن المعلم إنما غرضه أن يعلم تلميذه ما يحسنه حتى يكون حاذقا فيه فيكون مثله وحافظا لعلمه، فإذا لم يقبل المتعلم منه وأخذ ألفاظا مستوية فأحالها عن وجهها، فليس ذلك منسوبا إلى المعلم، لكن إلى عجز المتعلم عن البلوغ إلى ما لا يعلمه الأستاذ دفعة واحدة لا بالتدريج ليعرف الشيء بعد الشيء.
(13) فصل في السكون والحركة
فنقول: اعلم أن الحركة هي النقلة من مكان إلى مكان في زمان ثان، وضدها السكون وهو الوقوف والثبات في مكان واحد بين زمانين، والحركة تكون سريعة وبطيئة؛ فالسريعة هي التي يقطع المتحرك بها مسافة طويلة في زمان قصير، والبطيئة هي التي يقطع المتحرك بها مسافة قصيرة في زمان طويل، وعلى هذا المثال تعتبر الحركات والمتحركات.
ثم اعلم أن الحركات تنقسم من جهة الكيفية إلى ثمانية أنواع، كل نوعين منها متقابلان من جنس المضاف؛ فمنها الكبير والصغير، والسريع والبطيء، والدقيق والغليظ، والثقيل والخفيف.
فأما الكبير والصغير من الأصوات فإن المثال فيها أصوات الطبول الكبار والصغار.
وذلك أن أصوات طبول المواكب إذا أضيفت إلى أصوات اللهو كانت كبيرة، وإذا أضيفت إلى أصوات طبول الكوس كانت صغيرة، وإذا أضيف صوت طبول الكوس إلى صوت الرعد كان صغيرا .
وعلى هذا المثال تعتبر الأصوات في الصغر والكبر بإضافة بعضها إلى بعض، وهي التي تكون أزمان السكونات ما بين نقراتها وحركاتها صغيرة بالإضافة إلى غيرها.
والمثال على ذلك أصوات مداق القصارين ومطارق الحدادين فإنها سريعة بالإضافة إلى أصوات مداق الرزازين والحصاصين، فهذه بطيئة بالإضافة إليها، وأما بالإضافة إلى أصوات مجاذيف الملاحين فهي سريعة.
وعلى هذا المثال تعتبر سرعة الأصوات وبطؤها بإضافة بعضها إلى بعض.
وأما الدقيق والغليظ من الأصوات فبإضافة بعضها إلى بعض كأصوات نغمة الزير بإضافتها إلى نغمة اليم، ونغمة المثنى إلى المثلث.
وأما بالعكس فإن صوت اليم بالإضافة إلى المثلث غليظ، وكذلك المثلث إلى المثنى، والمثنى إلى الزير.
ومن وجه آخر فإن صوت كل وتر على غليظ بالإضافة إلى ما دونه أي وتر كان، فعلى هذا القياس تعتبر حدة الصوت وغلظها بإضافة بعضها إلى بعض.
وأما الجهير الخفيف من الأصوات فبحسب قوة الحركة وضعفها.
والمثال في ذلك صوت العليل السقيم بالقياس إلى صوت الصحيح المعافى وصوت العليل إلى من هو أضعف منه وأسقم حتى يكون أجهر الأصوات من الناس ما كان في غاية الصحة وسلامة الحواس واستواء الآلة، وأخفاهن ما كان في الغاية بخلاف هذه الصفة لما به من ضعف القوة وقلة الحركة وفساد الجملة وغير ذلك.
(14) فصل في معرفة قسمة الأصوات من جهة الكمية
فنقول: الأصوات من جهة الكمية نوعان: متصلة ومنفصلة؛ فالمنفصلة هي التي بين أزمان حركاتها في النقرات زمان سكون محسوس، مثل نقرات الأوتار وإيقاع القضبان.
وأما المتصلة من الأصوات مثل أصوات المزامير والنايات والدواليب ونحو ذلك كما ذكرنا في فصل قبل هذا. والأصوات المنفصلة تنقسم نوعان: حادة وغليظة؛ فما كان من النايات والمزامير أوسع تجويفا وثقبا كان صوته أغلظ، وما كان أضيق تجويفا كان صوته أحد.
ومن جهة أخرى أيضا ما كان من الثقب إلى موضع النفخ أقرب كانت نغمته أحد، وما كان أبعد كان أغلظ.
وهكذا تنقسم الأصوات المتصلة أيضا على هذا المثال غليظة وحادة، وقد بينا في رسالة الموسيقى ذلك .
وأما معرفة طبائع الأصوات وائتلافها واختلافها بحسب ما نبين ها هنا، فنقول: إن الأصوات الحادة والغليظة يتضادان، فإذا جمع بينهما على نسبة تأليفية ائتلفت وامتزجت واتحدت، وصارت كلاما موزونا ونظما مؤتلفا، فعند ذلك يستلذه السامع وتسر به الأرواح وتأنس به النفوس.
وإذا كانت على غير هذه النسبة تنافرت وتباينت ولم تأتلف ولم يستلذها السامع، بل ينفر منها ويشمئز. والأصوات الغليظة باردة وهي رطبة، وتنقسم قسمين: ضارة ونافعة.
فأما الضار فهو الذي إذا ورد على السامع يعوقه، وهي الأصوات الخارجة عن الاعتدال.
وقد استعمل الحكماء اليونانيون آلة لذلك كانوا يستعملونها عند ملاقاة الأعداء؛ وهي صوت بلا زعيق. والأصوات المعتدلة المناسبة تعدل مزاج الأخلاط الحارة والكيموسات اليابسة فهذه تابعة لها.
والأصوات الغليظة التي يحدث منها فساد المزاج باردة يابسة؛ لأنه ربما جاء منها ماء يميت الحيوانات الصغار مثل فراخ الطيور والأطفال من الصبيان، والأصوات المناسبة باردة رطبة، والأصوات الحادة حارة، فما كان منها على غير النسبة المعتدلة أفسد المزاج وأحرق الطبيعة، وما كان منها على النسبة الفاضلة والاعتدال أصلح المزاج ولطف البرودة؛ فالقسم الأول حار يابس، والقسم الثاني حار لين.
وقد اتخذ الحكماء لهذه الأصوات ميزانا يعرفون به طبائعها على النسبة الفاضلة بحد الاعتدال، وهي الآلة التي تسمى العود، وقد ذكرنا كيفية بنيته والعمل به في رسالة الموسيقى.
(15) فصل في معرفة الأصوات من جهة طبيعة الإنسان والحيوانات واختلافهم فيها
فنقول: اعلم أن أمزجة الأبدان كثيرة الفنون، وطبائع الحيوانات كثيرة الأنواع، ولكل مزاج وطبيعة نغمة مشاكلة ولحن ملائم لها، لا يحصي عددها إلا الله تعالى، والدليل على ذلك أنك إذا تأملت وجدت لكل أمة من الناس ألحانا ونغمات وأصواتا يستلذونها ويفرحون بها، لا يستلذها غيرهم ولا يسر بها سواهم؛ وذلك لاختلاف لغاتهم وتباين أمزجتهم وطباعهم وما جرت به العادات والأخلاق، وهكذا يجري في أصحاب لغة واحدة؛ أقوام يستلذون ألحانا ونغمات وأصواتا لا يستلذها غيرهم من لغتهم، وهكذا ربما تجد إنسانا واحدا يستلذ وقتا لحنا ما ويعافه وقتا آخر.
وهكذا تجد حكمهم في مأكولاتهم ومشروباتهم ومسموعاتهم وملبوساتهم وسائر الأنواع من الملاذ والزينة؛ كل ذلك بحسب تغيير أمزجتهم واختلاف طبائعهم وما جرت به عاداتهم وما تولاهم من الأسباب الفلكية والأحكام السماوية في أوقات مواليدهم ومساقط نطفهم.
وكذلك تجد الحيوانات ربما استلذت بعض الأصوات وأنست بها، وجاءت إلى المواضع التي تكون فيها، فإن بعض صيادي الطيور ومتخذي آلة الصفير يصفرون ويحاكون بها صوتا لبعض أجناس الطيور، فتجتمع إليه وتدور حوله فربما تقع في شباكهم.
وكذلك ما يستعمله الجمالون من الحداء والنغمات التي إذا سمعتها الجمال في ظلمة الليل أنست بها ونشطت للسير والمشي وخفت عليها الأثقال، ويستعمل مثل ذلك رعاة الأغنام والمواشي والخيل عند ورودها الماء أنواع الصفير، ويستعملون غناء آخر عند حلب ألبانها، وكل ذلك بحسب مناسبات تقع في الطباع واتفاقات في المواليد والأصوات الحسان المعتدلة، تستلذها مسامع الحيوان وتأنس بها الأرواح وتسكن إليها النفوس. والأصوات الخارجة عن الاعتدال عند الحيوانات كلها بالعكس من ذلك وكل جنس من أجناس الحيوان، فإنما يأنس ويسر بما كان من نغمات جنسه ويجتمع به ويألفه بحسب ما جرت عادته وألفت طباعه، وينفر من صوت آخر يكون من جنس غيره ولم تجر عادته سماعه ولا ألفته، وكذلك جميع الأمم من أصناف الناس.
وإذ قد فرغنا من ذكر اختلاف الأصوات وبيانها وصفاتها وحركاتها، والمنفصل منها والمتصل، والفرق بين أصوات الحيوان وكلام الإنسان وأصوات الأشجار والمعادن، وكيفية أصواتها ومصوتاتها، وما يكون منها بالقصد الأول وغير القصد، وأصوات النار والهواء والماء، والحركات الصغار والكبار، الخفيف والجهير، وطبائعها ومضارها ومنافعها، وكيفية حمل الهواء لها وقبول الحاسة السامعة لها، وكيفية اختصاصها بها دون سائر المحسوسات، وما بين الإنسان والأصوات في إدراكه لها من الوسائط والمناسبات، وذكر علل هذه الأشياء ومعلولاتها وجواهرها وأعراضها وبدايتها في الأصوال، وكونها في شكل واحد فيما علا، ووجودها في أشكال كثيرة فيما دنا، واتفاقها في الأصوات، واختلافها في الفروع، وتشكلها بأشكال الأجسام البادية عنها، والآلة المتخذة لها والحاجة الداعية إليها، والمعاني الموضوعة عليها والحقائق المضمنة بها، وما منها مفهوم لا يحتاج سامعه إلى من يعرفه لوضوحه وتمامه، وما يحتاج السامع إلى من يفهمه إياه لانغلاقه وكتمانه.
وإذ قد أتينا على كثير مما يحتاج إليه في هذا الباب، فلنذكر الآن اختلاف اللغات من جهة الحروف والكتابات، وكيف كان مبدؤها، ومن أين كان منشؤها، والعلة في اختلافها وأوزانها، وانفراد كل أمة بشكل منها عمن سواها، وبلغة عن غيرها، ونوضح ذلك إيضاحا يكون لك به الاطلاع على ما أردت منه وسألت عنه.
(16) فصل في معرفة بداية الحروف
فنقول: اعلم أن الله تعالى لما خلق آدم عليه السلام - الذي هو أبو البشر ومبدؤه - جعله ناطقا متكلما فصيحا مميزا بالقوة الناطقة والروح الشريفة والقوة العاقلة القدسية، وجعل صورته أحسن الصور، وشكله أفضل الأشكال، وطبيعته أصفى الطبائع الأرضية، ومزاجه أعدل الأمزجة مما هو خارج عنه، وجعله سيد الحيوانات كلها ومليكا عليها وأميرا ورئيسا فيها، وملكه إياها وألزمها طاعته والسجود له طوعا وكرها كما قال تعالى للملائكة: @QUR05 إني جاعل في الأرض خليفة، فلما جعله بهذا المثال فليس من الحكمة أن يكون صامتا كالجماد ولا سكوتا كالحيوان الذي لا ينطق، بل قائما ناطقا متكلما معلما مفهما عاقلا حكيما؛ لأنه سبحانه وتعالى نفخ فيه من روح قدسه، وأيده بكلمته، وعلمه الأسماء كلها وصفات الأشياء كلها، وجعل له العقل العاقل لها والمحيط بمعرفتها، وأخرج سائر الموجودات من المعادن والنبات والحيوان إليه ليديرها ويسوق إليه منافعها، ويدلها على ما يكون به صلاحها وبقاؤها وتزايدها ونماؤها وسلامتها من الآفات، ويضع كل شيء منها في موضعه ويوفيه قسطه من حفظ النظام وبلوغ التمام، وجمع له هذه الأشياء كلها صغيرها وكبيرها، جليلها وحقيرها، في تسع علامات بأشكال مختلفة مسماة بأسماء قد جمعت أسماء جميع الموجودات وانعقدت بها المعاني كلها، كما اجتمعت أجزاء الحساب كلها والأعداد بأسرها في التسعة الأعداد التي من واحد إلى تسعة، وكذلك وجودها في العالم العلوي على هذه النسبة، وهذه الحروف هي التي علمها الله سبحانه وتعالى آدم عليه السلام، وهي التي يستعملها أهل الهند على هذه الصفة «1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8، 9».
وقد كان بهذه الحروف يعرف أسماء الأشياء كلها وصفاتها على ما هي عليه وبه موجودة من أشكالها وهيئتها، ولم يزل كذلك إلى أن كثر أولاده وتكلم بالسريانية وتشكل الفلك بشكل أوجب التغير والاستحالة بعد مضي آدم عليه السلام. ولم يكن يكتب في زمانه كتابات أو يخط بقلم، وإنما كان تلقين بألفاظ وكلام يحفظ لقلة العدد، ولأنه ما كان في الأرض من العالم الإنساني أكثر من بيت واحد والكلام بينهم فيما يحتاجون إليه فقط، ولم يكن لهم حديث فيما مضى ولا حاجة بهم إليه ولا بقية من آثار من كان قبلهم في كتاب ولا طومار. ولأن كلام الملائكة لا يكتب في الأجسام الطبيعية، وإنما هيولاها الجواهر النفسانية، وكما أن الناس في هذا الوقت لا يحتاج الرجل منهم هو وأهل بيته أن يكتبوا جميع ما يحتاجون إليه، ولا أن يثبتوا جميع ما في بيوتهم من كتاب يذكرون فيه كل ما عندهم من مأكول ومشروب وما ينتفع به، وإنما حاجتهم إلى علم أسماء ذلك، فهم يعلمون ذلك أولادهم حتى يعرفوه وينشئوا عليه بأي لفظ كان.
ثم ذهب السلف وبقي الخلف، وافترقوا في الأقاليم وتقطعوا في الأرض وذهبوا في الأطراف، فأوجبت الحكمة الإلهية والعناية الربانية تقييد تلك الأسماء والألفاظ والحروف بصناعة الكتابة، ولولا ذلك لبعد من الخلق ما كان يستعمل السلف التي كانت حاجتهم إليها، ولما كان اللسان يحيل بينهم وبين ما يحتاجون إليه من ذلك بالكذب. وكانوا لا يعلمون أخبار من كان معهم في الأرض إذا غابوا عنهم بالمكان لأن الرسول لا يمكنه حفظ جميع ما في قلب مرسله.
فلما كان ذلك كذلك أظهر الله تعالى صناعة الكتابة، فزادوا فيها وعرفوها ومهروا فيها وألفوها واعتادوها، وبعث الله فيهم من الأنبياء عليهم السلام وأقام فيهم من الحكماء من أظهر فيهم الصنائع، وكثرت بينهم الصناع والمتعلمون والعلماء والأستاذون، وعمرت الأرض وانتقلت أخبار بعضهم إلى بعض، ولم تزل الحروف تزيد ويظهر الشيء بعد الشيء وصناعة الكتابة تتسع وتتفرع، إلى أن كمل عدد الحروف ثمانية وعشرين حرفا، ثم وقفت على هذا العدد ولم تزد على ذلك.
وذلك أن هذا العدد من الأعداد التامة، والأعداد التامة أفضل من الأعداد الزائدة والناقصة؛ وذلك أن هذا العدد عزيز الوجود، وأنه يوجد منها في كل مرتبة من مراتب الأعداد عدد واحد لا غير؛ كالستة في الآحاد، وثمانية وعشرين في العشرات، وأربعمائة وستة وتسعين في المئات، وثمانية آلاف ومائة وثمانية وعشرين في الألوف، وأيضا أن هذا العدد يمكن أن يقسم بالسوية مرة أو مرتين. وكانت صناعة الكتابة في اللغة العربية خاتمة الكتابات وتمام عدد الحروف، كما أن شريعة الإسلام آخر الشرائع كلها، ومحمد عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين وأصحاب الشرائع، وعلى شريعته تقوم القيامة.
فصل
ثم اعلم أن الحكيم واضع الخط العربي انتفى فيما وضعه من ذلك آثار حكمة الله تعالى وكان حكيما فاضلا، وقيل إن الحكمة هي التشبه بالإله بحسب طاقة البشر، ومعنى هذه الحكمة أن يكون الرجل حكيما في مصنوعاته، متحققا في معلوماته، خبيرا في أفعاله. فوضع ذلك على موجب الحكمة في العالم لتكون حروف «أ، ب، ت، ث» وهي حروف الجمل مشتملة على كل الأشياء مطابقة للأعداد الموجودات في الأصل وما تتفرع منه، ويحدث عنه مما لا يحصي ذلك إلا الله تعالى.
فمن الموجودات التي عدتها ثمانية وعشرون في العالم الكبير منازل القمر، فإنها ثمانية وعشرون منزلا، أربعة عشر فوق الأرض وأربعة عشر تحت الأرض، وهي في موضع اليمين واليسار، منها أربعة عشر في البروج الشمالية وأربعة عشر في الجنوبية من البروج.
وكذلك يوجد في جسم الإنسان أعضاء مشاكلة لهذه العدة؛ لأن اللغة التامة لغة العرب، والكلام الفصيح كلام العرب، وما سوى ذلك ناقص، فاللغة العربية في اللغات مثل صورة الإنسان في الحيوان.
ولما كان خروج صورة الإنسان آخر صور الحيوانية، كذلك كانت اللغة العربية تمام اللغة الإنسانية، وختام صناعة الكتابة، ولم يحدث بعدها شيء ينسخها ولا يغيرها، ولا يزيد عليها ولا ينقصها، وفي كل أمة وبكل إقليم وجزيرة وموضع أهل خط وحروف وكتابات وعلامات، يجمعها كلها هذه الثمانية والعشرون حرفا، ولولا خوف الإطالة لأتينا على ذكر كثير من اللغات وكتابات أهلها وأعداد حروفهم، مثل ما يوجد في اللغة السريانية والعبرانية واليونانية والرومية، وما يتفرع منها ويتكون عنها في سائر الأجناس والأمم من بني آدم.
ثم اعلم أن أصل هذه الحروف كلها والخطط بأجمعها خطابان لا ثالث لهما، ومن بينهما ومنهما وعنهما تركبت هذه الحروف حتى بلغت إلى نهاياتها؛ كحدوث الإنس كلهم من الشخصين اللذين هما آدم وحواء عليهما السلام.
وكذلك العالم بأسره، السموات ومن فيها، والأرض ومن عليها من جوهرين، وهما السابق والتالي أو البسيط والمركب، وهما العقل والنفس، والله تعالى مبدعهما وهو الواحد المنزه عن جميع ما حدث منهما، المتعالي بكبريائه عنهما، وذلك من الخط المستقيم الذي هو قطر الدائرة، والخط المقوس الذي هو محيطها، فأول الحروف هو الخط المستقيم الذي هو الألف والثاني الباء، وبإزائه في العالم العلوي السابق وهو العقل والتام هو النفس.
وذلك أن النفس مرتبة تحت العقل، ومن بينهما كان حدوث الأشياء كلها في العالم السفلي، مثل آدم وحواء، فهما الأبوان الذكر والأنثى، والأنثى مرتبة تحت الذكر، ومن بينهما كان العالم.
وكذلك الحيوانات كلها وأشكال النبات لا تخرج عن هذا الحد والشكل، وصورة الإنسان شبه الخط المستقيم، وصورة الحيوانات شبه الخط المقوس، والنبات والحيوان مرتبان تحت الإنسان.
وهكذا عالم الأفلاك وسكان السموات، أشكالها مستقيمة وصورهما كاملة، فهم الخط المستقيم، وما دون فلك القمر بمنزلة الخط المعوج.
وهكذا يوجد في الأعداد الناشئة من الواحد والاثنين، فالواحد كالخط المستقيم، والاثنان كالمعوج، وهما أصل الأعداد وينبوعها، وعنهما يكون تزايدهما ونماؤها.
فصل
ثم اعلم أن لسان الإنسان إذا كان متحركا إلى جهة كل حرف من هذه الحروف الثمانية والعشرين يخرجه من تلك الجهة ولا يعدل به إلى غيرها ولا يخلط بعضها ببعض ولا يحيلها عما هي به في اللفظ، فهو لسان صحيح وكلام فصيح من جهة بيان الحروف ووضعها على ما هي به في أي كتابة كانت وبأي لغة اتفقت كان الكلام بها.
وأصح الكتابات وأتمها وأحسنها ما كانت على النسبة الفاضلة في وضعها ومقادير حروفها بعضها من بعض.
وقد ذكرنا من هذا الفن طرفا في رسالة الموسيقى، ويختص بهذا المكان شيء من ذلك بعينه، ليكون دلالة على ما قاله أهل صناعة الكتابة في لغة العرب إذ كانت تمام اللغات.
وليس بنا حاجة في وقتنا إلى كتابة غيرها ولا إلى لغة سواها، غير أنا نحب الإحاطة بجميع العلوم ومعرفة سائر اللغات وتعلم سائر أنواع الكتابات.
ولذلك وضعنا لهم هذه الرسالة لتكون مهذبة لنفوسهم مؤدبة لأخلاقهم، وجعلناها مقدمات ومداخل وطرقات إلى سائر المعلومات والمصنوعات من المعقولات والمحسوسات.
ولما كانت اللغة العربية والكتابة بحروفها التامة يحتاج إليها في قراءة كتاب الله تعالى، الذي ختم بنزوله كتب الأنبياء عليهم السلام، وذكر فيه ما كان وما يكون إلى يوم الوقت المعلوم، فإنه لا يجب أن يكتب إلا بأحسن الخطوط وأقومها وأتمها وأكملها، ولا يجب أن يكتب بالخطوط الناقصة التي ليست بموزونة ولا معتدلة؛ لئلا يتصحف على قارئه ويكثر الخطأ واللحن والزلل فيه عند القراءة.
قال المحرر الحاذق المهندس المستبصر في تصحيح كتابة العربية: ينبغي لمن يريد أن يكون جيد الخط صحيح الكتابة أن يجعل له أصلا يبني عليه خطوطه.
ومثال ذلك أن يبتدئ فيخط الألف بأي قدر شاء، ويجعل غلظه مناسبا لطوله، وهو الثمن، ويجعل طوله قطر دائرة ما، ثم يبني سائر الحروف مناسبا لطول الألف، ويلحظ تلك الدائرة التي الألف مناسب لقطرها، فيجعل الباء وأختيها كل واحدة طولا ما، ولطول الألف ورءوسها إلى فوق ثمن طولها، مثل هذا «أ، ب، ت، ث».
ويجعل الجيم وأختيها كل واحدة مدتها من فوق نصف الألف، وتقويسه إلى أسفل نصف محيط الدائرة التي الألف مناسب لقطرها، مثل هذا «ج، ح، خ».
ثم يجعل الدال والذال كل واحدة منها ربع محيط الدائرة مقوسا، مثل هذا «د ذ».
ثم يجعل الراء والزاي كل واحدة ربع تقويس الدائرة، مثل هذا «ر ز».
ثم يجعل السين والشين رأس كل واحد إلى فوق ثمن الألف، ومدتها إلى أسفل نصف محيط الدائرة المقدم ذكرها ، مثل هذا «س ش».
ويجعل الصاد والضاد طول كل واحد إلى فوق ثمن الألف، ومدتها إلى أسفل نصف محيط الدائرة المقدم ذكرها، مثل هذا «ص ض».
ويجعل الطاء والظاء كل واحدة مدتها إلى فوق بطول الألف، وفتحتها مثل ثمن الألف، ورءوسهما إلى فوق بطول الألف، مثل هذا «ط ظ».
ويجعل العين والغين كل واحدة تقويسة ربع الدائرة المذكورة، ومدته إلى خلف نصف الدائرة، مثل هذا «ع غ».
وعلى هذا المثال باقي الحروف، فاجعل هذا دستورك في الكتابة.
(17) فصل في أن الكلام صنعة منطقية
فنقول: إن المصنوعات كلها محكمة متقنة بمقتضى الحكمة، ومنها صنعة الكلام والأقاويل.
وذلك أن أحكم الكلام ما كان أبينه وأبلغه، وأتقن البلاغة ما كان أفصحها، وأحسن الفصاحة ما كان موزونا متفقا، وأصح الموزونات من الأشعار ما كان غير منزحف، والمزحف من الأشعار هو الذي حروفه السواكن متحركة، والمتحركة ساكنة، والمستوي ما كان متفق التأليف.
والمثال في ذلك الطويل والمديد والبسيط، فإنها مركبة من ثمانية مقاطع كما ذكره العروضيون، فالطويل:
فعولن مفاعيلن
فعولن مفاعيلن
وكهذا المصرع الثاني، وهذه الثمانية الأجزاء مركبة من اثني عشر سببا وثمانية أوتاد، وجملتها ثمانية وأربعون حرفا؛ عشرون منها سواكن وثمانية وعشرون متحركات.
والمصراع منه أربعة وعشرون حرفا؛ عشرة سواكن وأربعة عشر متحركات، ونصف المصراع الذي هو ربع البيت اثنا عشر حرفا؛ خمسة منها سواكن وسبعة متحركات، ونسبة سواكن حروف ربعها إلى متحركاتها كنسبة سواكن نصفها إلى متحركاتها، ونسبة سواكن نصفها إلى متحركاتها كنسبة سواكن حروفها كلها إلى متحركاتها كلها.
وهكذا تجد حكم الوافر والكامل؛ فإن كل واحد منها مركب من ستة مقاطع، وهي هذه:
ست مرات، فنسبة سواكن نصف حروفه إلى متحركاته كنسبة حروفه كلها السواكن إلى متحركاته كلها، وعلى هذا المثال يوجد كل بيت من الشعر إذا سلم من الزحف، منصفا كان أو مربعا أو مسدسا، وكذلك حكم الأزمان التي بينها.
وقد وضعت لها دوائر وعلامات لتبين ذلك للناظرين فيها والمتأملين لها في كتب العروض، فأستدل بهذه المقدمة على ما وصفته لك فنقول:
اعلم أن الوقوف على ما تضمنته هذه الصناعة الكلامية والألفاظ المنطقية يكون بها انتباه للنفوس الساهية والأرواح اللاهية الغريقة في بحر الهيولى وأسر الطبيعة وقيد الألف والعادة.
ومن أمثال ذلك أيضا صناعة الكتابة التي هي أشرف الصناعات، وبها يفتخر الوزراء وأهل الأدب في مجالس الملوك والرؤساء، مع كثرة أنواعها وفنون فروعها، وما اختلف فيه الأمم من اللغات وأشكال الكتابات وفنون التأليفات مثل ما لأهل الهند، وهي الحروف التي أخرجت مع آدم عليه السلام من الجنة، وبها يعرف أسماء جميع الموجودات.
وأما كون عدد حروفها تسعة، حسب ما بينا ورسمنا قبل هذا، وذلك لمناسبة الأفلاك التسعة الحاوية لجميع الموجودات بأسرها، ثم تفرعت بعد ذلك واختص بها أهل الهند دون سواهم من الأمم؛ لأن آدم عليه السلام كان هناك لما هبط من الجنة.
والسريانية لغة ولها حروف وكتابة وصناعة ونسبة تجتمع عليها الحروف، ولها أسماء تختص بها موافقة للغتهم، وهكذا أيضا للرومية لغة وكتابة أخرى بشكل موافق لكلامهم ولسانهم، وهكذا لليونانيين ولأهل فارس وغيرهم من الأمم أجناس من اللغات وفنون من العبارات، ولكن أصل الحروف كلها في أي لغة كانت وبأي نقش صورت، وإن كثرت وتنوعت، هو الخط المستقيم الذي هو قطر الدائرة، والخط المقوس الذي هو محيط الدائرة، كما ذكرنا قبلا.
وأما سائر الحروف، فمركبة منها، ولو تأملت عند انفكاك الحروف العربية وجدت بعضها خطا مستقيما كالألف، وبعضها مدورا كالقاف والميم، وبعضها مقوسا كالحاء والخاء، وعلى هذا المثال توجد كتابات سائر الأمم الذين ذكرناهم وغيرهم ممن لم نذكرهم، وقد استغنينا بذكر الأصل والمشهور المعروف عند الجمهور عن ذكر من سواهم لطول الشرح.
فصل
ثم اعلم أن صناعة الكتابة ذات طرفين: طرف كأنه البداية وطرف كأنه النهاية؛ فالطرف الأول هو الكلام والنطق بالحروف التسعة التي يستعملها أهل الهند إلى وقتنا هذا، والطرف الآخر الذي هو النهاية، فهي الحروف الثمانية والعشرون التي هي حروف اللغة العربية، وما سوى ذلك فهو بين هذين الطرفين.
وإنما مثل الحروف كمثل شجرة نبتت وتفرعت وتفرقت فروعها وكثرت أوراقها وثمارها وتقسمها الأقوام، فأخذ كل قوم بحسب ما اتفق لهم في أصول مواليدهم، وبحسب اجتهاد رئيسهم وما أعمل فيه فكرته وأنتجته قريحته وأوجبته رؤيته، بتأييد ربه تعالى وإلهامه، فيأخذ صور هذه الحروف فيلقي عليها أسماء من ذاته، فإن كان حكيما فبتأييد الله له وإلهامه، وإن كان نبيا مرسلا كان بوحي الله إليه وكلامه من وراء حجاب عظمته، أو بوحيه على ألسنة ملائكته، ويقيدها بصورة أخرى من الكتابة، وينطق بلغة أخرى غير اللغة الأولى، وينسخ الأسماء من اللغة الأولى إلى اللغة الثانية.
فإذا تم ذلك له ونطق به وأكمل الصناعة النطقية وقيدها بحروف الكتابة، وضم الأشكال إلى أشكالها والخطوط إلى أمثالها، ثم عرفها أقرب الناس إليه وأكرمهم لديه، فيصطلح عليها هو وأهل بيته وعشيرته، ثم أهل مدينته، وبعد ذلك أهل بقعته، ثم أهل إقليمه، ثم تنتشر في العالم وينشأ عليها الصغير ويأنس بها الكبير من تلك الأمة، وينقل الشريعة والملة من اللغة الأولى إلى الثانية، ويجدد الأحكام والأوامر والنواهي والصلاة وأحكام الشريعة إلى تلك اللغة التي نطق بها والأمة التي أرسل إليها.
وكل حكيم من الحكماء أو ملك من الملوك إذا أراد نقل علم أو حكمة أو دين أو شريعة من لغة إلى لغة أو من أمة إلى أمة، فإنه يتهيأ ذلك له بتوفيق الله تعالى وموجب مولده وسعادته، حتى يتمكن من ذلك ويقدر عليه، مثل ما فعل سليمان عليه السلام لما آتاه الله الملك وجعل له القوة والقدرة كيف نقل العلوم والحكمة من جميع اللغات، حين قهر ملوكها وذلل رؤساءها، إلى اللغة العبرانية.
وكذلك فعل ملك الروم، فإنه لما غلب اليونان وقهرهم نقل علومهم وحكمهم من اللغة اليونانية إلى اللغة الرومية.
وكذلك فعل ملوك يونان بمن غلبوا عليهم؛ فلذلك اختلفت اللغات وتباينت الآراء والديانات، وكان ذلك لعلل وأسباب يطول شرحها، وكل ذلك بأمور فلكية وأحكام سماوية ومشيئة إلهية، ذلك تقدير العزيز العليم.
فصل
ثم اعلم أن لكل أهل ملة وشريعة كتابا بأمر ونهي وحلال وحرام، وقضايا وأحكام وصناعة من الكلام والكتابة والألحان والنغمات، وفيهم من هو عارف بكلية ذلك، ومنهم دونه في المعرفة، ومنهم من قد عدم صناعة الكتابة إلا أنه عارف بالأسماء والمسميات، وينطق بحروف الأسماء ولا يعرف صورها ولا يحسن أن يخطها بيده، ولا أن يؤلف بينها بنظره ويأخذ جميع ما يلقى إليه تلقينا، وربما تجده جيد الخط قليل المعرفة ولا يحسن سوى الخط المسطور من غير تصور ويكون منفعة ذلك لغيره لا له.
ومنهم من يكون جيد المعرفة قليل النسيان، فغرضه أن يعرف الأشياء التي يحتاج إليها مخافة أن ينساها، ويستظهر منها ما تدعو حاجته إليه، وكذلك كان آدم عليه السلام في البداية بهذه الصفة؛ يحفظ أسماء الحروف ويتكلم باللفظ وينطق بالمعنى ويدل عليه، ولم يخط بيده بقلم ما شاء الله، بقي على ذلك إلى أن أظهر الله تعالى صناعة الكتابة، في الوقت الذي قدره والزمان الذي يسره، والخلق لا تدري بصناعة الكتابة لطفا منه بخلقه ورأفة بعباده.
واعلم بأن لهم من الحاجة إلى ذلك ما لا غنى عنه ولا بد لهم منه، فصار يحدث في وقت كل قران وبموجب كل زمان نوع من أنواع الكتابات، وجنس من أجناس اللغات والخطوط والعبارات، ويحدث في ذلك من كل أمة وكل لغة أنواع الكلام والنظم والألحان والنغمات، وأشياء كثيرة لا يحصيها إلا الله عز وجل.
ثم اعلم أنه قيل إن أول من نطق باللغة العربية كان يعرب بن سام، ثم لم تزل تتسع مع الزمان وتتزايد على كثرة العرب وانتشارهم في الأرض، بحسب اتفاقات تقع لهم في مواليدهم وبقاعهم وأمزجتهم وطباعهم وأبدانهم وأهويتهم، حتى صارت أنواعا كثيرة، وصار لكل قبيلة من قبائل العرب لغة يعرفون بها وكلام ينسب إليهم، ويتميزون به عن غيرهم، واختلفوا في أسماء الأشياء حتى صار الشيء الواحد من الموجودات له في لغة العرب أسماء كثيرة يعرف بها ويشار إليه بها كلها؛ ولذلك صار علم اللغة العربية من العلوم الكبار، وصار الناس من الحاجة إليه بحيث لا يسعهم تركه، بل يجب عليهم علمه ولا ينبغي الجهل بشيء منه، وذلك من حكمة البارئ تعالى أنه خلق الموجودات وألقى عليها الأسماء والصفات، وجعل لها في كل طائفة وفي كل لغة أسماء تعرف بها ويشار بها إليها، خلاف ما في لغة أخرى.
ولو تأملت واعتبرت لغات العرب لرأيتها من العجائب الطريفة والحكمة الشريفة، فانظر كيف اختلفوا في كثير من كلامهم وما هم محتاجون إليه من أسماء مأكولهم ومشروبهم، وقد جمعتهم لغة واحدة وشريعة واحدة، حتى إن القراء اختلفوا في قراءاتهم وتباينوا في رواياتهم.
وكذلك تجد في اللغات غير اللغة العربية أكثر، والأمر فيها أصعب، وعلى هذا المثال في الآراء والديانات أيضا، حتى إن كثيرا من العرب الذين يسكنون البراري البعيدة من العمران من يجري في لغته أسماء كثيرة لا يعرفها من باقي العرب أكثرهم، ولا يعرفها العرب الحاضرة إلا بعد البيان والإيضاح، ويحتاج فيه إلى معرفة اشتقاقاتها حتى تتصور له، ثم يسمى ذلك الشيء بذلك الاسم؛ كل ذلك لعلل وأسباب يطول شرحها.
وكذلك اختلفت المذاهب والآراء والديانات والاعتقادات فيما بين أهل دين واحد؛ لافتراقهم في موضوعاتهم، واختلاف لغاتهم وأهوية بلادهم، وتباين مواليدهم وتصور رؤسائهم وعلمائهم وأستاذيهم الذين يختلفون فيما بينهم طلبا لرياسات الدنيا. وقد قيل في المثل «خالف تذكر»؛ لأنه لو لم يقع بين رؤساء علمائهم الاختلاف لم تكن لهم رياسة وكانوا شرعا سواء؛ لأن أكثرهم متفقون في الأصول مختلفون في الفروع.
مثاله أنهم مقرون كلهم بتوحيد الله ووصف الباري تعالى بما يليق به من الصفات، ومقرون بالنبي المبعوث إليهم متمسكون بالكتاب المنزل من جهة الرسول المرسل إليهم، مقرون بإيجاب الشريعة مختلفون في الروايات عنه والمعاني التي وسائطها رجال أخذوها منه، فرواها كل من أخذ بلسانه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وآله - من معجزاته وفضله أنه كان يخاطب كل قوم بما يفهمون به، بحسب ما هم عليه من حيث هم، وبحسب ما يتصورونه في نفوسهم وتدركه عقولهم؛ فلذلك اختلفت الروايات وكثرت مذاهب الديانات، واختلفوا في خليفة الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان ذلك من أكبر أسباب الخلاف في الأمة إلى حيث انتهينا.
وأيضا فإن أصحاب الجدل والمناظرات ومن يطلب المنافسة في الرياسة اخترعوا من أنفسهم في الديانات والشرائع أشياء كثيرة لم يأت بها الرسول عليه السلام وما أمر بها، وابتدعوها وقالوا للعوام من الناس هذه سنة الرسول عليه السلام وسيرته، وحسنوا ذلك لأنفسهم حتى ظنوا أن ما قد ابتدعوه حقيقة، وأن النبي عليه السلام أمر به، وأحدثوا في الأحكام والقضايا أشياء كثيرة بآرائهم وقياسهم، وعدلوا بذلك عن كتاب ربهم وسنة نبيهم عليه السلام، واستكبروا عن أهل الذكر الذين بينهم، وقد أمروا أن يسألوهم عما أشكل عليهم، وظنوا بسخافة عقولهم أن الله قد ترك أمر الشريعة وفرائض الديانة ناقصة حتى يحتاج هؤلاء إلى أن يبينوه بآرائهم الفاسدة وقياساتهم الكاذبة واجتهادهم الباطل، ويخترعوه ويبتدعوه من ذواتهم، وكيف يكون ذلك وهو يقول تعالى: @QUR06 ما فرطنا في الكتاب من شيء، وقال: @QUR03 تبيانا لكل شيء؟! وإنما فعلوا ذلك طلبا للرياسة كما بينا آنفا، وأوقعوا الخلاف والمنازعة في الأمة، فهم يهدمون الشريعة ويوهمون من لا يعلم أنهم ينصرونها.
وبهذه الأسباب تفرقت الأمة وتحزبت ووقعت بينها العداوة والبغضاء أبدا، وصاروا إلى الفتن والحروب، واستحل بعضهم دماء بعض، فإن اتعظ بعض من يعرف الحق من العلماء وخاطب رؤساءهم في ذلك وخوفهم وأرهبهم من عذابه، عدلوا إلى العوام وقالوا لهم هذا فلان، ويغرون به العوام وينسبون إليه من القول ما لم تأت به شريعة ولا قاله عاقل، ولا يتمكن ذلك العالم أن يبين للعوام كيف جرى الأمر في الشريعة، وينبههم على فساد ما هم عليه لما قد غلب عليهم من العصبية التي ألفوها ونشئوا عليها وأخذها خلف عن سلف.
ولما رأى رؤساؤهم ذلك وأن العلماء قد اشمئزوا من العوام، وجعلوا ذلك سوقا لهم عندهم، وأوهموهم أن ذلك انقطاع منهم عن الحجة والقيام بإيرادها، وأن سكوتهم وتخفيهم إنما هو لبطلان ما معهم، وأن الحق ما هو إلا ما اجتمعنا عليه نحن الآن، فلا يزال ذلك دأبهم، والرؤساء الجهال فيهم يتزايدون في كل يوم، واختلافهم يزيد، واحتجاجاتهم ومناظراتهم تكثر ، وجدالهم ينتشر ، حتى ينسخوا أحكام الشريعة ويغيروا كتاب الله بتفسيرهم له بخلاف ما هو به كما قال: @QUR04 يحرفون الكلم عن مواضعه، وفي أصل أمرهم قد حولوا الشريعة من حيث لا يشعرون وأولوا أخبار النبي عليه السلام بتأويلات اخترعوها من تلقاء نفوسهم ما أنزل الله بها من سلطان، وقلبوا المعاني وتكلموا بها على ما يريدون مما يقوي رياستهم، ويقبح أهل العلم عند العوام، وذلك دأبهم يتوارثونه ابن عن أب وخلف عن سلف وكابر عن كابر، إلى أن يشاء الله إهلاكهم ويقضي بانقراضهم وفنائهم. ولم يزل هؤلاء الذين هم رؤساء العوام أعداء للحق في كل بلد وقرية، فكم نبي قتلوه، ووصي جحدوه، وعالم شردوه! وهم بأفعالهم كانوا السبب في نسخ الشرائع وتجديدها في سالف الدهور، إلى أن يتم ما وعد الله تعالى بقوله: @QUR012 إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد * وما ذلك على الله بعزيز، و@QUR02 العاقبة للمتقين، @QUR019 ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون * إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين.
فهذه العلة هي السبب في اختلاف الآراء والمذاهب، وإذا كان كذلك يجب على طالب الحق والراغب في النجاة أن يطلب ما يقربه إلى ربه ويخلصه من بحر الاختلاف والخروج من سجون أهل الخلاف. وما الذي ينبغي له أن يعمل حتى يتخلص من هذه الورطة، وينتبه من هذه الرقدة، ويستيقظ من هذه الغفلة، وينظر في أيام حياته قبل دنو وفاته؟! فإن الأمل مدة ممدودة، وللأعمال أيام معدودة وآجال محدودة، وإنما خلق الإنسان في الدنيا ليكون متوجها إلى ربه تعالى، مستعدا لمقابلته بعمله؛ لأنه ينفذ من غير أن يستأذن، فإن كان معه زاد وجده كما قال تعالى: @QUR08 وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله فإنه الزاد، وإن لم يكن معه زاد كان ممن يقول: يا ليتنا نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل، والله تعالى يقول: @QUR03 قد خسروا أنفسهم، ووبخ قوما فقال لهم: @QUR07 ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة؛ أي صفرا من الزاد، وقال: @QUR08 أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون، وقال تعالى: @QUR09 ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون، وآيات كثيرة في القرآن تدل على أن الديانات والشرائع ووظائف العبادات إنما جعلها الله طرقات ومسالك يسلكها العبد إلى رحمة خالقه، ويمشي القاصد بها طالبا لجنته والقرار بجواره.
وإن غفل عن مصالحه وأعرض عن مقاصده وترك طريق الحق وأهله والدين الذي لا اختلاف فيه، وانضم إلى أهل الخلاف والشقاق وإلى طالبي الرياسة من العوام، واستحسن نسق الكلام وزخرف القول ممن يريد العلو والرياسة في دين الله تعالى تشبها برسوله الذي أرسله ونبيه الذي بعثه، وهو يوهم الناس أنه ركن من أركان الدين والشريعة، وأنه برأيه وقياسه واجتهاده قد أقام معوجها وأبان معجمها، نعوذ بالله من الميل والانضمام إلى هؤلاء، كان ذلك سبب بواره وهلاكه وبعده عن جوار الله وقربه وقرن بالشياطين أعداء الله كما قال تعالى: @QUR011 ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين، فهكذا يكون حاله مع عالمه وغيره، تراه جميع العوام حاله شقية، وكلامه وتهذيبه وألفاظه بعيدة من حيث لا يشعر؛ لأنه إذا حلل بقوله وحرم برأيه فقد عبده كما قال تعالى: @QUR011 إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون، وقال تعالى: @QUR013 إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب، فعليك أيها الأخ بأهل العلم ومواظبة الذين هم أهل الذكر من أهل بيت النبوة المنصوبين لنجاة الخلق، فقد قيل: استعينوا في كل صنعة بأهلها.
ثم اعلم بأن أهل الذكر في بعض الوجوه هو العقل الذي يذكر النفس ما غاب عنها من أمر عالمها الروحاني ومحلها النوراني، ويحرضها على المتاجر الرابحة ويحثها على الأعمال الصالحة، وأن النفس متى عدلت عنه وخالفته وتركت وصية ربها وما أمر مولاها، وأقبلت على الطبيعة ومالت إلى استحسانها وطلب الرياسة والعلو والتعصب والتعدي، أصابها مثل ما أصاب المقعد والأعمى اللذين خالفا وصية صاحب البستان.
**حكاية:** ذكر فيما يروي من الأمثال أنه ببلاد الهند رجلان أعمى ومقعد اصطحبا في طريق، فعبرا بستانا فمالا إليه فرآهما صاحب البستان وشاهد فقرهما ومسكنتهما فرحمهما، وقال لهما: ما تقولان في أن أدخلكما بستاني هذا فتأويا إليه، وتتناولا منه بحسب الحاجة ما يكفيكما مما آتيكما؛ فلا تولعا بالثمار فتفسداها. فقالا: وكيف نؤذيك في بستانك ونحن على ما ترى من الزمانة وسوء الحال؛ أحدنا أعمى والآخر مقعد؟! وأي حيلة لنا في تناول شيء من الثمار وهي على رءوس الأشجار؟! فقال صاحب البستان لهما: ادخلا ذلك المكان وتبوآ مكانا منه. وأوصى بهما الناطور الموكل بالبستان، وقال له: احفظهما وأحسن إليهما وأتهما من ثمرة هذا البستان ما يكون فيه صلاح شأنهما. فقال: سمعا وطاعة. ومضى صاحب البستان لشأنه وأقاما على ذلك مدة والناطور يتعهدهما بما فيه كفاية لهما، وأينعت الثمار وكثرت وحسنت، فقال المقعد يوما للأعمى: ويحك إنك صحيح الرجلين، وإن في هذه الأشجار التي في هذا البستان أنواعا من الثمرات وأجناسا من الطيبات، وهذا الناطور لا يحمل إلينا من هذا الجيد شيئا، فما الحيلة في تناول ذلك؟ فقال الأعمى: قد شوقتني إلى ما ذكرت، وإنك ترى وتعاين من هذه الطيبات وأصناف الثمرات، فما الحيلة في ذلك؟ فلم يزالا يفكران ويعملان الروية أن قال المقعد للأعمى: ويحك أنا صحيح العين أرى ما غاب عنك، فاحملني على كتفك لأطوف بك في البستان، فكلما رأيت ثمرة مليحة طيبة قلت لك قدمني يمنة ويسرة وتطاول وتقاصر فأقطفها لك، فآكل منها وأطعمك، وما اعتذر وصول يدي إليه أضربه بعصاك إلى أن يقع، فتشيله بيدك أنت، وليكن ذلك إذا غفل الناطور.
فقال الأعمى: نعم ما رأيت، وأنا أفعل ذلك غدا. فلما كان الغد ذهب الناطور في حوائجه وأغلق باب البستان، فركب المقعد عنق الأعمى وطاف به البستان، فأفسدا فيه ذلك اليوم ما قدرا عليه ووصل المقعد إليه، ثم رجعا إلى موضعهما ورقدا، فلما جاء الناطور لم يخف عليه ما حدث في البستان من فساد الثمار وما كان غير عليه منها في أشجار معلومة أراد قطافها ليهديها إلى بعض رؤساء الناحية فلم يجده على الشجرة ، فجاء إليهما وسألهما: هل دخل ذلك البستان أحد في غيبتي؟ فقالا له: ما ندري. فقال الأعمى: ترى حالي إني لا أبصر. وقال المقعد: وأنا كنت نائما. فصدقهما الناطور، فلما كان الغد خرج الناطور على الرسم، فقاما وفعلا أقبح من فعلهما الأول، وعاد الناطور ورأى الفساد قد تضاعف عما كان بالأمس، فخاف الملامة من صاحب البستان، وأنه يقول: لعلك تبيع ثماري أو لست تحفظها. فقال: كيف أعمل حتى أعلم من الذي يصيب هذا البستان ومن يفعل ذلك في البستان؟ فلما كان من الغد أوهمهما أنه قد خرج لعادته، واستتر ببعض حيطان البستان، فقاما إلى ما قد عولا عليه من الفساد وارتكاب المحظور، فلما رآهما الناطور علم أن الفساد من جهتهما، وكان رجلا حليما رحيما لطيفا، فتركهما حين رأى ما يعملانه وقبيح ما يصنعانه إلى أن عادا إلى مكانهما، فأقبل عليهما وقال لهما: ويحكما! ما الذي استحق به صاحب البستان ما فعلتماه من هذا العبث والفساد في البستان؟! فبهتا، فقال الناطور: إني نظرت إليكما وقد قمت أيها المقعد في كتف عنق الأعمى ومشى بك تحت الشجرة، فما وصلت إليه أخذته بيدك، وما لم تصل إليه ضربته بعصاك. فلما سمعا منه ذلك تحقق كلاهما أنه قد رآهما، فقالا له: قد فعلنا ذلك فلا تخبر به صاحب البستان، فإنا نتوب على يديك ولا نعاود. فقبل منهما وأقبل الناطور يعظهما وقال: أنا آتيكما بكل ما تريدان من الثمار والفواكه من حيث لا أضر ببستان صاحبي ولا أضر به ولا أرتكب ما نهي عنه لئلا تأكلا إلا من حلة.
فقالا: سمعا وطاعة. وتركاه حتى غاب الناطور وعادا إلى ما كانا عليه بل أقبح، فرجع الناطور ورأى أثر فسادهما، فأعاد عليهما النصيحة ووعظهما وخوفهما بالله تعالى، فلم يقبلا وارتكبا ما نهاهما عنه، فاتفق دخول صاحب البستان إليه ذلك اليوم، فلم يجد الناطور بدا من إعلامه بما كان من أمر الأعمى والمقعد، فقال صاحب البستان: قد كنت أقدر أن يركب المقعد ظهر الأعمى ويطوف به في البستان فيفسدا علي المعيشة.
فقال له الناطور: هكذا عملا وقد نهيتهما فما انتهيا. فقال صاحب البستان: إنهما قد استحقا العقوبة بما فعلا من قبيح ما ارتكباه. ثم أمر عبيده وأعوانه أن يعاقبوا المقعد والأعمى أشد العقوبة، وأن يخرجوهما من البستان إلى برية لا يجدان فيها معتصما ولا ملجأ حتى يأكلهما الوحش ويهلكهما الجوع والعطش، ففعل بهما ذلك وأخرجا من البستان ورمي بهما في البرية كما فعل بآدم وحواء عليهما السلام لما ذاقا الشجرة.
تفسيره؛ فاعلم أيها الأخ أنه إذا ضربت حكماء الهند هذا المثل فما ذلك إلا لأنهم شبهوا النفس بالمقعد؛ وذلك لأنها لا تبطش إلا بالآلة الجسدانية، وبهذه الآلة تتمكن من الطاعة والمعصية. وشبهوا الجسد بالأعمى؛ وذلك أنه ينقاد حيث ما تقوده النفس ويأتمر لما تأمره به. وشبهوا البستان بدار الدنيا، والثمار بطيبات الدنيا من الشهوات، وصاحب البستان هو الله تعالى، وشبهوا الناطور بالعقل الذي هو يدل على المنافع ويأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر والعدوان، وهو ينصح النفس ويدلها على ما يكون لها به من الصلاح والسلامة في الدين والدنيا جميعا وأخذ الأشياء من حيث يجب. فإذا لم تقبل النفس منه وعدلت إلى الشهوات الجسمانية والمحاسن الطبيعية والملاذ الجرمانية التي يكون بها صلاح الجسم وحسن حاله في الدنيا، فبذلك تكون إماتتها وخسران آخرتها، وتحيط بها سيئات ما عملت في البستان وقبائح ما اكتسبته في الدنيا، وتكون من تناول الشهوات غافلة عن مصلحتها متردية في ضلالتها، حتى تأتيها ملائكة الله الغلاظ الشداد وزبانيته وجنوده وتخرجها من دار الدنيا بالكره والإجبار، فعند ذلك تقدم على ما عملت من سوء، ومن قبائح ما اكتسبته من سوء آدابها، وقد خسرت الدنيا والآخرة؛ ذلك هو الخسران المبين. وعند نزع النفس يأتيها الخبر، وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون.
فاحذر أيها الأخ ألا تغتر بهذه الدنيا، ولا بمصاحبة الجسد الفاني المضمحل المتغير الفاسد، وإنما هي أيام يسيرة ولذة حقيرة ومدة قصيرة، واعدل إلى الحق والعقل؛ فإنهما يؤديانك إلى ربك، ويدلانك على الأعمال الصالحة التي يكون لك بها الدرجة العليا، والوصول إلى الجنة المأوى في مقام الكرام؛ حيث لا تحتاج إلى جسدك الفاني، ولا تذوق الموت، ولا يصل إليك الألم، ولا يجديك السقم، ولا تبتلى بمفارقة الأحباب وبمباينة الأصحاب، ولا يلحقك غم الفقر ولا ذل القهر ولا ضيق القبر ولا كرب الاشتياق، وتكون في حظيرة القدس وروضة الأنس، أمنا من المصائب والنكبات وحوادث الزمان، ولا ترى إلا ما تحب وتؤثر، وتأمن من النوائب الزمانية، وما يدفع إليه أهل الدنيا من الكدر والنصب والتعب والعناء والجوع والسغب، ونكد الزمان وجور السلطان وحسد الحيوان، وما هو موجود بين أهل الديانات والمقالات من العدوات والمباغضات والملاعنات، وما يستحل بعضهم من بعض من سفك الدماء وأخذ الأموال وهتك الحرم.
فإذا تأملت في أمور الدنيا وجدتها كدار قد ملئت أجناس حيوانات تعادي بعضها بعضا عداوة طبيعية مركوزة في الجبلة، كعداوة البوم والغربان وعداوة الكلب والسنانير وهي تهر بعضها على بعض وتحسد بعضها بعضا كغلبة السباع والكلاب، وكما يفعل الملوك والسلاطين لمن دونهم إذا غلبوا عليهم وأخذوا أموالهم، وكما تفعل الكلاب بالسنانير التي تخالفها في الصورة إذا وصلت إليها وقدرت عليها؛ حسدا لها على ما تأكله من دور الناس، ومن الدعة والرفاهة التي هي فيها، ومحبة الناس لها وإكرامهم إياها.
فهكذا أمور الدنيا وأهلها؛ الأشرار أعداء الأخيار والفقراء أعداء الأغنياء؛ يتمنون لهم المصائب، وإذا قدموا على شيء من أموالهم أخذوه ونهبوه. وكذلك أهل الشرائع المختلفة يقتل بعضهم بعضا ويلعن بعضهم بعضا، كما يفعل النواصب والروافض والجبرية والقدرية والخوارج والأشاعرة وغير ذلك، وكذلك في الملة العبرانية مثل العينية والسمعية، وفي الملة السريانية كالنسطورية واليعقوبية وما بينهما من الخلاف، وكذلك في الملة الصابئية، وكذلك تجد المختلفين في اللغات؛ يستوحش بعضهم من بعض، ويثقل على كل واحد منهم ما لم يألفه من لغة، وهذا لا يخفى على من تأمله وتفكر فيه.
ثم اعلم أنه لا يصلح بين أهل الديانات ولا يؤلف بين المتعاديات ولا تزيل من النفوس العداوات والأحقاد الطبيعية إلا المعرفة بالحق الذي يجمعهم على كلمة التقوى، ويدعوهم إلى سبيل الله تعالى كما قال سبحانه وتعالى: @QUR013 واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا، وقال تعالى لرسوله عليه السلام: @QUR014 لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم، وقال تعالى: @QUR04 إخوانا على سرر متقابلين، وقال تعالى: @QUR04 يحبون من هاجر إليهم، وقال تعالى: @QUR011 قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني فمن رأى نفسه معادية لطائفة من الطوائف حنق عليها، فهو لا يزدرع الحق في قلبه، ولم تخالط الهداية لبه.
(18) فصل في أن الدين والشريعة هما من الله
ثم اعلم أن الدين والشريعة في أزمان النبي المبعوث عليه السلام إلى قومه هما من الله تعالى، ولا يكون فيهما اختلاف ولا تباغض ولا عداوة، ويكون رأي المؤمنين في زمانه رأيا واحدا، وتكون محبة بعضهم لبعض خالصة لا تشوبها كدورة، ويكونون مطمئنين مساعدين على إقامة الدنيا ومجاهدة الكافرين. وإنما مجاهدتهم الكفار لا لعداوة منهم للكفار، بل ليردوهم إلى الحق ليكون المسلمون فارغي البال من كيدهم ونهبهم، ويقنعوا من الكفار بالجزية إن لم يقبلوا الدين؛ لأنهم لا يأمنوهم إن تركوهم ولم يطلبوهم في بعض الأوقات بالجزية، فقد قيل في المثل إن الروم إن لم تغز غزت، فهذا سبب قتالهم الكفار، وإلا فليس لهم رغبة في سفك الدماء وإتلاف النفوس وخراب الديار. وبالرغم منهم يجري ذلك على أبدانهم ضرورة لما أعلمتك؛ لأن ظاهر هذا الفعل من فعل الأشرار الذين لا رأفة لهم ولا رحمة.
ولذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وآله - إذا أراد قتال المشركين أرسل إليهم من ينذرهم ويحذرهم ويبين لهم فساد ما هم فيه، ويدعوهم إلى ما معه من الحق، كما أمر الله تعالى بقوله: @QUR011 ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن، وأمره بالملاطفة، فقال تعالى: وقولوا لهم قولا سديدا، وقل لهم قولا معروفا.
وقال لموسى عليه السلام لما أرسله هو وهارون عليهما السلام إلى فرعون: @QUR08 فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ففعل النبي عليه السلام ذلك، فلما أبوا واستكبروا وقالوا لا نرضى بدينك وكانوا من أهل الكتاب، أمرهم على بذل الجزية بعد أن تجري عليهم أحكامنا ويكفوا أذيتهم عنا؛ ليكون إذلالا لهم لئلا يحدثوا أنفسهم بغلبتهم على المؤمنين، ويكون ذلك كالغمغمة والمذلة، فإن أبوا الجزية فعند ذلك أمرهم بقتالهم وأمر أصحابه ألا يبدءوا حتى يبدءوهم، وإذا ظفروا بهم ألا يقتلوا أسيرا حتى يعرضوا عليه الدين والإسلام، فإن أبى ألزم الجزية، فإن أبى قتل.
وإذا ملكوا دار الكفر ووضعت الحرب أوزارها، أمرهم ألا يقتلوا شيخا كبيرا ولا صبيا صغيرا ولا امرأة، إلا أن يقاتلوا، ولا راهبا ولا قسيسا ولا شماسا ولا مطرانا ولا جاثليقا ولا من يكون من خدم البيع والكنائس؛ كل ذلك رأفة بهم ورحمة عليهم.
فمن أبى واستكبر وناصب العداوة أمر بجهاده، فقال الله تعالى: @QUR08 يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم.
ألا ترى أيها الأخ إلى هذه الرأفة! إنه لم يأمره بقتالهم إلا بعد إنذارهم وتذكارهم والملاطفة بهم، وذلك سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا كما قال تعالى: @QUR07 سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا، وقال: ما من أمة إلا خلا فيها نذير، وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى.
فما دام هذا الخلاف واقعا في الآراء والمذاهب، فإن العداوة بينها قائمة، والحرب لا تنطفي نارها؛ لأن كل واحد يقيم الحجة والدليل برأيه وقياسه على صحة مذهبه وبطلان مذهب غيره، ولا يبالي أن يكذب على الله تعالى ورسوله ويسخطهما لرضى نفسه وتعجيل منفعته.
وكذلك السلطان الذي إذا رأى في أحد رعيته أو بعض سكان مدينته من له نعمة حال رغب فيها وحسده عليها، وطلبه عليها الحجج حتى يوقع به ويأخذ ذلك الغرض اليسير الحقير في جنب ما ملكه الله تعالى من ذلك البائس ويجعله فقيرا مسكينا متحيرا مغتما، وربما مد عليه الضرب وطالبه بما ليس في وسعه فقتله.
وكذلك إذا علم أن رجلا له امرأة نظيفة أو جارية حسنة حسده عليها، ولا يزال يتحيل إلى أن يفسدها عليه، فإن صح له مراده وإلا عدل عن إفسادها إلى ادعائها في التزوج، ولا يزال يراسلها في ذلك إلى أن يطرح بينها وبين زوجها الشر ويفرق بينهما ويأخذها لنفسه، كما حكي عن داود النبي عليه السلام بامرأة أوريا بن حنان كيف قدمه أمام التابوت حتى قتل وتزوج بامرأته.
وأيضا ذكروا أن تلك المرأة أم سليمان، وكان الأصل في ذلك الهواء والحسد الغالب، ومثل ما فعله حكيم بن هشام - المعروف بأبي جهل - برسول الله صلى الله عليه وسلم وقد علم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن حمله على فعله الحسد، وود أنه لو كان النبي المبعوث. كذلك أبو لهب وجماعة من قريش وبني عبد المطلب الذين خالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وناصبوه العداوة والبغضاء.
وهكذا جرت أحوال الأمم السالفة في الأيام الخالية والأدوار الماضية، ولم تزل الأمم على هذه الصفة التي ذكرنا.
فصل
ثم اعلم أن الاختلاف ينقسم قسمين: محمود ومذموم؛ فالمحمود منه كاختلاف القراء وما جرى مجراه من اختلاف الفقهاء في رواياتهم، إذا لم يختلفوا في المعاني ولم يزيلوا الألفاظ من مواضعها ولم يبدلوها تبديلا مع اعتمادهم على صدق المخبر بين لهم بأن ذلك من صاحب الشريعة.
وإذا صح لهم ذلك كان اختلافهم منفعة؛ لأن في العرب من يخالف بعضها بعضا في كثير من اللغة العربية.
وأما الاختلاف المذموم فهو ما كان منه في المذاهب والآراء، فإذا زال الخلاف ظهر دين الإسلام على جميع الأديان، واللغة العربية على جميع اللغات، ويكون الدين واحدا كما قال الله تعالى: @QUR014 هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. وإظهار دين النبي صلى الله عليه وسلم على جميع الأديان ولغته على سائر اللغات من أجل أن القرآن أكرم قرآن أنزله الله تعالى وأشرف كتاب أحكمه، وأنه لا يقدر أحد من الأمم - على اختلافهم في لغاتهم - أن يحيله عما هو به من اللغة العربية إلى لغة غيرها؛ لأنه لا يمكن أن ينقل البتة إلى لغة على ما هو به من الاختصار والإيجاز، وهذا لا خفاء به، ولا يكون اجتماع الناس على كلمة واحدة إلا بمجاهدة المجاهدين المحقين لأهل الباطل، وأن يكون الخادمون في الناموس آمرين بالمعروف فاعلين له، والناهون عن المنكر منتهين عنه، الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم، وأرجو أن يبلغنا الله ذلك الزمان إنه عليه يسير.
ثم اعلم أنه إنما وقع الخلاف في الشريعة بعد خروج النبي عليه السلام من الدنيا لما تنازعوا فيما بينهم لطلب الرياسة والمنزلة، وكان منهم ما كان إلى أن جرى ما جرى من هتك حرمة النبوة، وقتل آل بيت الرسالة وإهباط الوحي، وما فعله ابن زياد بكربلاء، وما كان من الفتنة التي شملت أهل الشريعة المحمدية والعصبة الهاشمية من قتل بعضهم بعضا.
فلذلك كثرت الآراء والمذاهب، فقال قوم لم يجر ذلك كله إلا بقضاء الله وقدره، ولعمري إن الأمر كما قالوا لكن إنما قصد القائلون بذلك براءة نفوسهم فيما عملوا، فإنهم إنما فعلوا ذلك على ما علمه ربهم، وأنه إذا علمه فقد أراده، وإذا كان ذلك كذلك فلا ذنب لهم ولا وزر ولا لوم ولا وبال.
فصل
إن هذا الرأي يجرئ الإنسان على فعل المعصية وارتكاب الفاحشة، وإنما يستخرج هذا الرأي في الناس أصحاب الكبائر من الذنوب لما علموا أن ذنوبهم إذا ظهرت وانتشرت في العالم، بعد ذهاب أيامهم وانقراض دولهم، يكثر لعنهم وسبهم وشتمهم، فإذا جرى ذلك كان في العالم من يحفظ هذا الرأي منهم، فيذب ذلك عنهم، ويقول لمن يسمع هذا منه: «أمسك، فإن كل شيء إنما كان بقضاء الله وقدره وحكمه عليهم، وإن ما حكمه الله تعالى لا يقدر أحد على دفعه»، فيكون هذا تسكينا لما سمع من ذكرهم وأفعالهم وأعمالهم وقبائح ما أتوه من أفعالهم، فوسوسوا لجهال الناس، والنساء خصوصا، أن ما يفعلونه إنما هو محكوم عليهم به لا يمكنهم دفعه، فجعلوا هذا الاعتقاد مذهبا، وأقدموا على المعاصي بهذه الحجة، وإن رد واحد قولهم، قيل له: «أنت كافر قدري»، فيقول إنما قضاء الله تعالى وقدره يمكن أن يحترز منه، ولم يعلموا ما القضاء والقدر، ولم يطلبوا علمه من أهله. ونشأ على ذلك الصغير، واعتاده الكثير، وإلى حيث انتهينا هو مذهب أكثر العوام وبعض من عنده أنه متميز، وإنما ذكرت هذا بحسب ما أوجبه ذكره في هذا الفصل.
ثم اعلم أن أصل العداوة في الدنيا والدين الحسد، كما قال الله تعالى: @QUR09 أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، وقال تعالى: @QUR05 ومن شر حاسد إذا حسد، فالحسد يخرب الديار ويوقع الفتن ويورث البغضاء والحقد والغضب والتعدي والظلم والجور وما شاكل ذلك، وهو أيضا من أكبر الأسباب في اختلاف الآراء والمذاهب، وذلك إذا اتخذ رجل مذهبا ومال الناس إليه ورغبوا فيما عنده، فيراه آخر من أبناء جنسه فيحسده ويجيل فكره ويعمل رأيه، إلى أن ينحت له من الحجج والكلام ما يفسد به ما أورده، ولا يزال يطعن عليه ويسعى في فساده ويلغط في أصله ووضعه، فهذا يكون سبب الاختلاف، وتكثر المذاهب مع اعتمادهم على صدق صاحب الشريعة الذي أنزل عليه القرآن.
وإذا صح ذلك لهم، كان في اختلافهم منفعة؛ لأن في العرب كثيرا ممن يخالف بعضهم في كثير من اللغة العربية، وإنما أراد الله تعالى إفهام الكل والإفصاح عما تهم الحاجة إليه من أمر الدين والدنيا.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجيب السائل من أمته بلغته ويكلفه ويكلمه بلسانه، فأما غيرهم فإنه يكلمهم صلى الله عليه وسلم بكلامهم، وإنما بعث إليهم وأقام فيهم وعلمهم وأرشدهم وسهل عليهم الألفاظ، وضرب لهم المعاني وأخذهم بالملاطفة حتى فهموا الدين وتعلموا القرآن بلسان فصيح، لا يخطئ فيه ولا يغيره ولا يبدله إذا كان صحيح الحفظ متقن التلقين؛ ولذلك ما يقال في الصلاة وفي الحج من التلبية والإحرام والدعاء والابتهال إلى الله تعالى، يقال فيه ولا يفهم ما سوى ذلك.
ثم اعلم أن مثل الأمة إذا تركت وصية نبيها، واختلفت من بعده، واعتمدت على رأيها، وأرادت أن تملك عليها ملكا، وتنصب فيما بينها خليفة بغير معرفة من الرسول ولا وصية منه ولا إرشاد، ورأت في اجتماعها منفعة لها وصلاحا لأمورها من غير نص ولا إشارة؛ فمثلها كما يذكر مثل الغربان والبزاة فيما قيل في أمثال الهند إن الغربان كان عليهم ملك منهم، وكان بهم رحيما وإليهم محسنا، وإن ذلك الغراب مات واختلفوا من جهة من يملكونه عليهم من بعده، وتحاسدوا وخافوا أن تقع بينهم العداوة.
فقال بعضهم لبعض: تعالوا حتى نجتهد في الرأي ونجمع العلماء وأهل الفضل فينا، ونعقد مجلسا للمشاورة فيمن يصلح لهذا الأمر، وفيمن ينبغي أن يكون ملكا علينا. فاجتمعوا وتشاوروا وقالوا: لا نرضى بأحد من أهل الملك الذي كان فينا؛ مخافة أن يعتقد ويظن أن الملك إنما ناله وارثا من أبيه وأقاربه، فيسومنا سوء العذاب، وإذ كنا نحن نتولى إقامة من نقيمه كنا نحن أصحاب المنة عليه والإحسان عليه.
قال أحدهم: وإذا كان الأمر على هذا، فعليكم بأهل الورع والدين؛ فإن صاحب الورع والدين لا يكاد يهجم على الأمور الدنيوية ولا يرغب في الدنيا.
فقالوا له: كيف لنا بذلك؟ فقال لهم: طوفوا واطلبوا من هذه صفته، فإنكم إن تظفروا به قدموه. وكان بالقرب منهم باز قد كبر وخرف وضعفت قوته عن الصيد، وانحل جسمه وتناثر ريشه من قلة المعيشة، وتعذر القوة، فبلغه خبر الغربان وما أجمعوا عليه، فبرز من وكره إلى حيث ممرهم عليه، وأقبل يكثر التهليل والتسبيح ويظهر التخضع والتورع، فأقبلت الطيور تطير على رأسه فلا يولع بها ولا يمشي إليها، فلما رأته الغربان على تلك الحال ظنوا أنه يفعل ذلك صلاحا وديانة، فاجتمع بعضهم إلى بعض وقالوا: ما نرى في جماعة الطيور مثل هذا البازي وما هو عليه من الديانة والزهد، فهلموا بنا نوله علينا. فأتوا إليه وأخبروه بما عزموا عليه، فانقبض من ذلك وأراهم من نفسه الزهادة فيما عزموا عليه، فلم يزالوا به حتى قبل منهم، فصار خليفة فيهم وملكا عليهم، فقال في نفسه: كنتم تحذرون من البلاء وما أراه إلا وقد وقع بكم!
فلما تمكن منهم وقوي عليهم بما كانوا يأتونه من الرزق ويجعلون له من الأجرة على ذلك، قوي جسمه ونبت ريشه وعادت إليه صحته، أقبل يخرج كل يوم عدة من الغربان فيخرج عيونها ويأكل أدمغتها ويطرح ما سوى ذلك من أجسادها، فأقام فيها مدة، فلما دنت وفاته اعتمد على بعض أبناء جنسه، فملكه عليهم، فكان أشد منه وأعظم بلية وأكبر رزية، فقالت الغربان بعضها لبعض: بئس ما صنعنا بأنفسنا وقد أخطأنا. فندموا من حيث لم تنفعهم الندامة، وكان ذلك سبب الخلف والمنازعة.
فتفكر أيها الأخ في هذا المثل واعتبر به في أحوال من مضى، ولا تغفل هذه الإشارات، وإياك وإظهار المخالفة والعداوة والدخول فيما دخل فيه أهل الخلاف، فتهلك بهلاكهم ويصيبك ما أصاب العقعق؛ حيث وافق الحمام في ذلك الوقت، ونحن نذكر ها هنا ما جرى بينهما.
فصل
يقال إن جماعة من الحمام البري كانت تطير في الهواء لطلب الرعي، فرآها عقعق، وقال في نفسه: ما لي لا أكون معها؟! فلعلها تمضي إلى موضع يكون به معاش. فصار في جملتها وانتهوا إلى موضع أقبح مراح من الأرض، وكان سبق إليه صياد، فنصب شباكه ودفن فخاخه وطرح فيها حبوبا كثيرة وكمن في موضع لا يرى، فقال الحمام بعضه إلى بعض: نمضي إلى مكان. وقال بعضها: بل ننزل في هذا الموضع. واختلفت وتنازعت فيما بينها حتى تضاربت وتحاربت ولم تزل ذلك حتى تقطعت إلى تلك الأرض ورأت تلك الحبوب، فأقبلت الجماعة على التقاطها، فأطبق الصياد عليها شباكه، فهبطن فيها جميعا، فأخذها الصياد وأهلكها عن آخرها وهلك العقعق مع الحمامات جميعا.
وإياك والمكان الذي تكون فيه المنازعة والخلاف، وإن جرى وأنت فيه فاخرج وابعد عنه. وإياك والظلم والتعدي على من هو دونك؛ فإنك إن فعلت ذلك أصابك ما أصاب الذئب الذي جار على الثعالب وغصبها وأراد قتلها وقطع أرزاقها.
فصل
وقد قيل في أمثال الهند أن ثعالب خرجت في طلب ما تأكل فرأت جملا ميتا ففرحت به ، وقلن: قد وجدنا ما نعيش به دهرا، ولكنا نتخوف أن يضرب بعضنا بعضا، ولن ندع قوينا يغلب ضعيفنا، ويجب أن نؤمر علينا في قسمة هذا الرزق من هو أقوى منا؛ ليعطي كل واحد منا حقه ويأخذ لنفسه قسمة كالواحد منا. فرضوا بذلك.
فبينما هم كذلك إذ مر بالثعالب ذئب، فقلن: هذا ذئب قد جاءنا وهو قوي أمين، وكان أبوه ملكا في بعض الأزمان، وكان محسنا إلينا، وقد عولنا في ذلك عليه، وهو لنا رضي. فخاطبوه في ذلك وعرضوا عليه ما أرادوه، فأجابهم إليه بعد مراودات كثيرة، وقال لهم: ستجدون كما تحبون. وتولى أمرهم وقسم في ذلك اليوم بعض ذلك بينهم بالعدل، فلما كان الليل تفكر الذئب في نفسه فقال: إن في قسمة هذا الجمل على هذه الثعالب عجزا وسخافة رأي، وما ينبغي لي أن أفعل ذلك لأني ذو قوة وليس لهم قدرة، وهذا رزق ساقه الله إلي وخصني به دونهم، فما الذي يدعوني إلى إطعامها إياه؟ والله يقسم لهم غيره وأنا أدخره لنفسي.
فلما كان من الغد أصاب الجوع جماعة الثعالب فاجتمعت عليه، فدفع إليها نصف الجمل فقسمه بينها كما فعل بالأمس، وقال: لا تعدن إلى بعد يومكن هذا فلا رزق لكن عندي، وإن عاودتن جرى عليكن مني مكروه. فعند ذلك علمت الثعالب أنها وقعت في بلية، فقال بعضها لبعض: إن صاحبنا هذا خبيث فاجر، ونراه يريد ظلمنا والتعدي علينا لأنه ذو قوة، وقد علم أنه ليس فينا من يقوى عليه، وقد طمع في الفوز بأرزاقنا. وقال بعضهم: لعله أنما حمله على ذلك ما كان فيه من الضر، ولعله إذا شبع منه قسم الباقي علينا، وفي هذا اليوم يشبع؛ فإن جثة الجمل عظيمة، وتلك الساعة يرجع إلى خلق الكرام؛ فقد قيل في المثل لا مروءة لضعيف ولا ضيافة عند جائع، ولا بد لنا من معاودته ومخاطبته.
فلما كان من الغداة أتاه جماعة الثعالب وقلن: يا أبا جعدة إنا جعلناك أميرا علينا وواليا حتى لا يظلم بعضنا بعضا، ورجونا في فعلنا ذلك عدلك، وفي أول يوم عدلت بيننا في أول ولايتك وأطمعتنا في مروءتك، ثم أتيناك أمس فدفعت إلينا النصف مما دفعت في اليوم الأول، وأتبعته باليأس مما لنا عندك دفعة واحدة، وأغلظت القول علينا فانصرفنا عنك، وقد ظننا بك خيرا، فكن عند ظننا بك ولا تقصد ظلمنا ونحن ضعاف وقد أصابنا الجوع الشديد، وقد رزقنا الله تعالى هذا الرزق، فكل منه ما يكفيك وأطعمنا منه وتصدق علينا، إن الله يجزي المتصدقين ولا يضيع أجر المحسنين. فأبى عليها وردها وزاد في الغلظ لها ويأسها من كل خير لها عنده.
فلما لم تجد حيلة اجتمعن وقلن كيف نعمل في أمر هذا الغادر الجائع، فاجتمعت آراؤهن على أن يرفعن أمرهن إلى الأسد؛ إذ هو أقوى منه وهو ملك السباع كلها، وأن يقصصن عليه قصتهن من أولها إلى آخرها، وجعلن له الجمل جعلا على إهلاكه، ثم يذهب كل واحد من هذه الثعالب بعد ذلك في طلب رزقه من ربه كما وعد وله الفضل علينا. فاجتمعت على ذلك وحضرت عند الأسد وقصت عليه القصة وتظلمت من الذئب، فاغتاظ الأسد منه وأمرها أن تسير بين يديه، فأتوه ووجدوه باركا على جثة الجمل يأكلها، فقبض الأسد عليه فقطعه قطعة قطعة ومزقه، ورد جثة الجمل على الثعالب وخلى بينه وبينهن؛ ولذلك قيل ما من طامة إلا وفوقها طامة.
فصل في أن السلطان الجائر قصير العمر
ثم اعلم أن السلطان الجائر قصير العمر؛ لأن الله قاصم كل جبار عنيد، ومهلك كل مارد ومعتد، وهو منصف المظلوم من الظالم، فإنه - جلت قدرته - يقول في بعض الكتب المنزلة: أيها السلطان إنما جعلتك خليفتي في أرضي، وألقيت عليك اسما من أسمائي، وملكتك رقاب عبادي، وبسطت يديك في بلادي؛ لتنصف المظلوم من الظالم، فإذا كنت أنت الظالم وتعديت على الضعفاء من خلقي والمساكين من عبادي، وصرت أنت الظالم وهم المظلومون، فأنا ملك الملوك وسلطان السلاطين، وأنا آخذ الحق منك، ثم آذن للمهلكين في إهلاكك وتخليدك في العذاب الأليم.
ثم اعلم أنك إن أقبلت على شهوات الدنيا وملاذها، واغتررت بما فيها من الطيبات ومحاسن المرئيات، واشتغلت بها عما لك فيه صلاح ونجاح في دار المعاد؛ يوشك أن يؤتيك ما أصاب رجلا اجتاز في طريق كان يسلكه في نهر جرار ينحدر من جبال وعليه جسر يعبر عليه الناس.
وإنه لما صار على ظهر الجسر وقف ينظر إلى جريان الماء، فبينا هو كذلك إذ نظر إلى سمكة كبيرة من أحسن أجناس السمك، فقال في نفسه: ما أنصرف في يومي هذا إلى بيتي بأحسن من هذه السمكة فأشويها وأجمع عليها أهلي وأولادي وآكل منها أكلة طيبة، ولكن أخشى من جريان الماء أن يحول بيني وبين السمكة. ثم قويت شهوته ورام مقام السمكة بحيث يراها، وقويت طبيعته في أخذها، فنزع ثيابه ورمى بنفسه وغاص وراءها إلى أن قبض على السمكة بإحدى يديه، وفرح بظفره بها واشتغل عن السباحة مخافة أن تفلت السمكة منه، فغلبه الماء لشدة جريانه فزحزحه عن الموضع الذي نزل منه وأشرف على الهلكة، وشح على السمكة أن يفلتها وينجو بنفسه، فلم يزل ذلك حاله وهو يروم الخلاص بنفسه مع السمكة، حتى حدره الماء إلى جرف عظيم ينصب إلى وهدة تحت الأرض فغاص به، فأتاه عامر النهر وكان يسكن ذلك الموضع، فقال: ما تفعل في هذا المكان الذي لا يقع فيه أحد إلا غرق وهلك؟
فقال: أنا الذي تركت الطريق الواضح والمحجة اللائحة التي فيها النجاة والسلامة ووقعت في هذه المهلكة من أجل لذة يسيرة وشهوة حقيرة. فقال له: هلا خليت ما في يدك ونجوت بنفسك؟ فقال: الطمع مني في السلامة والفوز بما كنت حدثت به نفسي. فقال: إنك جاهل وما أرى أحدا أولى منك بالغرق. فوضع يده على رأسه فغرقه. فإذا تفكرت يا أخي في هذه الأمثال والإشارات، وقرأت على إخواننا - أيدهم الله - كان ذلك ذكرى لك وقومك، ونعوذ بالله أن تكون ممن تنطبق عليه هذه القصة ولا أحد من إخواننا، ولكن اتباعا لقول الله تعالى حيث يقول لرسوله: @QUR05 وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين.
فصل
وقد حكي أن بعض ملوك الهند لما دنت وفاته، وكان مسلما، قد أحضر ولدا له قد كان أهلا للملك بعده، ولم يكن له ولد سواه، وقد علمه شيئا من الحكمة وعرفه شيئا من سياسة الملك.
فقال له:
يا بني أوصيك بتقوى الله وطاعته وخشيته ومراقبته في أمر دنياك بعشر خصال تنتفع بها في الآخرة: أولها وأولاها الإقرار بالتوحيد والابتهال إليه بالدعاء والتضرع بالليل والنهار. والثانية الإقرار برسله وتصديقهم والقبول منهم. والثالثة التصديق بالكتب المنزلة من عنده عليهم. والرابعة حفظ الناموس وسياسة الناس. والخامسة التواضع لله وترك الفخر. والسادسة ترك الظلم والجور؛ فإن من ظلم عباد الله كان الله تعالى خصمه، ومن كان الله خصمه فهو مخذول لا محالة. والسابعة ترك مخالطة النساء والاجتماع معهن والإصغاء إلى قولهن؛ فإنها تفسد عقول الرجال إذا أصغوا إليهن. والثامنة ترك شرب المسكر؛ فإنه عدو العقل، والعقل خليفة الله الباطن؛ فمن سلط على خليفة الله عدوه دمره الله وذهب عقله بدخول عدوه عليه، فإذا ذهب العقل فلا دين ولا علم ولا مروءة ولا حياء ولا مراقبة، ومن عدم هذه الخصال كان موته صلاحا عاما. والتاسعة الكرم والسخاء وسماحة النفس والتفضل على سائر الناس صديق أم عدو؛ فإنه خلق يشرف صاحبه. والعاشرة صدق القول وأداء الأمانة إلى البر والفاجر.
وعليك يا بني بعشر خصال أخرى تنفعك في دنياك وترى بها الخير والبر والبركة وزيادة الرزق: أولها حسن الخلق. وثانيها حسن الأدب. وثالثها صدق الوعد والوفاء بالعهد. ورابعها العفو عند القدرة. وخامسها اصطناع الرجال وترك الحسد. وسادسها أن تحرص على ألا يكون لك عدو، وإن كان لك عدو فيكون إحسانك إليه عقوبتك له؛ فإن الله يكفيك مئونته ويمكنك من ناصيته. وسابعها ترك التفريط فيما لديك من وديعة الله عندك، وألا تفعل إلا ما يقربك إليه. وثامنها أن تكون مروءتك غالبة لشهواتك. وتاسعها ألا تؤثر دنياك على آخرتك؛ فإن الله سبحانه إذا علم منك ذلك آتاك الدنيا؛ فإنه يقال إن الله عز وجل أوحى إلى الدنيا : يا دنيا من خدمك فاستخدميه، ومن خدمني فاخدميه. وعاشرها ترك النظر فيما لا يعنيك، وألا تشتغل إلا بما يشغلك الله تعالى به.
وعليك يا بني بعشر خصال أخرى يصلح الله تعالى بها ملكك ويثبت بها سلطانك: أولها أن تكون متفقدا لأهل مملكتك حتى لا يغيب عنك شيء من أمور صغيرهم وكبيرهم، بل يكون علمك محيطا بجميع أعمالهم. والثانية أن تقابل كل واحد من رعيتك على قدر عمله. والثالثة أن يكون عدلك شاملا لهم. والرابعة ألا تجور عليهم. والخامسة ألا تسوي بين علمائهم وجهالهم في العطية والمنزلة. والسادسة أن تولي عليهم من قبلك الأخيار والأحرار، وإياك أن تولي عليهم العبيد والسوقة وأولاد الزنى.
ثم اعلم أن أعمال ولاتك إليك منسوبة؛ إن عدلوا قيل عدل السلطان، وإن جاروا قيل جار السلطان. والسابعة ألا تستعمل من أصحاب الرأي والمشورة من هو مخالف لك في دينك؛ فإنه لا ينصحك، وإن نصحك في أول مرة غشك في أخرى. والثامنة أن يكون وزيرك أرفع أهل زمانك درجة في الدين والدنيا جميعا، ويكون من الأخيار؛ فقد قيل إن من لا أصل له فلا فرع له، ومن لا فرع له لا ثمرة له، وكل شجرة لا ثمرة لها فالنار أولى بها. والتاسعة إنصاف المظلوم من الظالم، ومنع القوي من التعدي على الضعيف. والعاشرة رد الحق إلى أهله والانتصار لهم. فإذا كملت لك هذه الخصال الثلاثون رجوت لك كمال الأمور في الدين والدنيا والملك والسلطان، واستوجبت أن تكون ملكا عادلا، فتنال بذلك الحظوة من الله تعالى وحسن العاقبة في المعاد والمنقلب إليه.
فتأمل أيها الأخ هذه الوصية وتدبرها، وانظر شفقة هذا الملك العادل على ولده كيف رضي له ما كان يرضى لنفسه، فهكذا يجب على الحكيم أن يوصي تلامذته، وعلى النبي أن ينصح أمته ومن يخلفه فيهم لمقامه وخلافته من بعده، وكان مما أوصى هذا الملك رعيته ما يأتي ذكره في هذا الفصل.
فصل
ويقال إنه لما فرغ من وصية ولده الذي أهله للملك بعده، جمع علماء أهل مملكته وأولي الفضل والشرف فيهم من أهل المنازل والرتب، الذين هم أصحابه وأسبابه، فقال: أيها العلماء الذين كانوا ولاة أمري وأهل سري وبطانتي، قد كنتم لي نصحاء ومطيعين وحسنت طاعتكم لي بنية صادقة، وكانت ألسنتكم بشكري ودعائي وحسن الثناء علي ناطقة، وكنت لكم مكرما ولحقكم عارفا، وعليكم مشفقا وإلى جماعتكم محسنا، فكونوا لهذا الغلام مثل ما كنتم لي يكن لكم مثل ما كنت لكم.
ثم قال لجمعهم: اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا ولاتكم، وإياكم والخلاف والنفاق والعداوة والمنازعة والمجادلة في أديانكم وآرائكم ومذاهبكم؛ فإن في ترك ذلك صلاحا لكم ولأنفسكم وجمع شملكم ودعة لقلوبكم ودفاعا عن بلادكم، ولا يطمع فيكم عدوكم ما دمتم على ذلك، وإن تركتم ما هو خير لكم واستبدلتم به ما هو شر لكم، فعند ذلك يطمع فيكم عدوكم وتخرب بلادكم، وتكون نفقتكم في ذلك أموالكم وأنفسكم، وربما لا يكون لكم قوة بذلك فتهلكوا عن بكرة أبيكم، ولا تتعادوا في المذاهب ولا تتلاعنوا فتهلكوا عن بكرة أبيكم، واعلموا أن في اجتماع الكلمة وترك الخلاف بركة لمن أقبل عليها وحصنا لمن التجأ إليها؛ فإن القضيبين إذا جمعا وكانا ضعيفين وضم إليهما من جنسهما أضعاف عديدة حتى تكون قبضة فإنه يعسر كسرها، وإذا فرقت كسرت بأهون سعي، وقد علمتم الذي عاهدتموني عليه وما وصيتكم به في أمر هذا الغلام الذي بيني وبينكم، فإياكم والتغيير عليه ونقض العهد له، فليس المنكوث عليه بأسوأ حالا من الناكث، فعليكم بالسمع والطاعة وأوفوا له يوف الله لكم، وقو له يق الله لكم، وتمموا له فيه ما بدأتم يتم الله لكم أفضل أموركم ويحسن حالكم على يديه، فهذا هو ملككم.
وأخذ بعضده ودعا له، وأشهد بعضهم بذلك على بعض وأشهد الله تعالى عليهم، ولحقته سكرة الموت، واعتقل لسانه وضعف جنانه، وعرق جبينه واعتنقه ولده، وفاضت روحه وحزن عليه أهل مملكته، ثم قضى الله فيمن بعده بما أحبه وتصرفت بهم الأحوال. وإنما ذكرت لك ذلك لعلك تنتبه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، وتكون هذه الرسالة تذكرة لك ولجميع من وقف عليها، وعساها تكون تذكرة لمن تذكر وعبرة لمن اعتبر، وفقك الله تعالى وإيانا وجميع إخواننا السداد إنه رءوف بالعباد.
PARATEXT|
(تمت رسالة علل اختلاف اللغات بتمامها، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.)
النفسانيات العقليات
الرسالة الأولى من النفسانيات العقليات في مبادئ الموجودات العقلية على رأي الفيثاغوريين
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
(1) فصل
اعلم أيها الأخ أنا قد فرغنا من بيان علل اختلاف اللغات والكلام والأصوات، ورسوم الخطوط والكتابات، وكيفية مبادئ المذاهب والاعتقادات، والآراء والديانات، وختمنا الكلام في الطبيعيات عند ختمنا تلك الرسالة. ونريد الآن أن نشرح في القسمة الثالثة من النفسانيات العقليات حسبما وعدنا في صدر كتابنا، ونذكر فيها ما يتعلق بتلك الرسائل على التوالي، منها هذه الرسالة الأولى في مبادئ الموجودات.
فنقول على رأي فيثاغورس الحكيم، الذي هو أول من تكلم في علم العدد وطبيعته، قال: إن طبيعة الموجودات بحسب طبيعة العدد، فمن عرف العدد وأحكامه وطبيعته وأجناسه وأنواعه وخواصه، أمكنه أن يعرف كمية أجناس الموجودات وأنواعها وما الحكمة في كمياتها، على ما هي عليه الآن، ولم لم يكن أكثر من ذلك ولا أقل منه؛ وذلك أن الباري تعالى لما كان هو مبدع علة الموجودات وخالق المخلوقات ومخترعها، وهو واحد بالحقيقة من جميع الوجوه، لم يكن من الحكمة أن تكون الأشياء كلها شيئا واحدا من جميع الجهات، ولا متباينة من جميع الوجوه، بل يجب أن تكون الأشياء كلها واحدا بالهيولى، كثيرة بالصورة، ولم يكن أيضا من الحكمة أن تكون الأشياء كلها ثنائية وثلاثية ورباعية وخماسية وسداسية، وما زاد على ذلك بالغا ما بلغ، بل كان الأحكم والأتقن أن تكون على ما هي عليه الآن بحسب الأعداد والمقادير، وكان ذلك هو في غاية الحكمة والإتقان؛ وذلك أن من الأشياء ما هي ثنائية، ومنها ما هي ثلاثية ورباعية وخماسيات ومسدسات ومسبعات ومثمنات ومتسعات ومعشرات، وما زاد على ذلك بالغا ما بلغ.
فالأشياء الثنائية مثل الهيولى والصورة ، والجوهر والعرض ، والعلة والمعلول، والبسيط والمركب، واللطيف والكثيف، والمشف وغير المشف، والمظلم والمنير، والمتحرك والساكن، والعالي والسافل، والحار والبارد، والرطب واليابس، والخفيف والثقيل، والضار والنافع، والخير والشر، والصواب والخطأ، والحق والباطل، والذكر والأنثى؛ وبالجملة من كل زوجين اثنين كما قال الله تعالى: @QUR07 ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون.
وأما الأشياء الثلاثية فمثل الأبعاد الثلاثة التي هي الطول والعرض والعمق، ومثل المقادير الثلاثة التي هي الخط والسطح والجسم، ومثل الأزمان الثلاثة التي هي الماضي والحاضر والمستقبل، ومثل العناصر الثلاثة التي هي الممكن والممتنع والواجب، ومثل الأمور الثلاثة التي منها رياضية وطبيعية وإلهية؛ وبالجملة كل أمر ذي وسط وطرفين.
وأما الأشياء الرباعية فمثل الطبائع الأربع التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، ومثل الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، ومثل الأخلاط الأربعة التي هي الصفراء والدم والبلغم والسوداء، ومثل الأزمان الأربعة التي هي الربيع والصيف والخريف والشتاء، ومثل الجهات الأربع التي هي المشرق والمغرب والشمال والجنوب، والأوتاد الأربعة التي هي الطالع والغارب ووتد الأرض ووتد وسط السماء، ومراتب الأعداد التي هي الآحاد والعشرات والمئون والألوف. وعلى هذا القياس إذا اعتبرت وجدت أشياء كثيرة مخمسات ومسدسات ومسبعات بالغا ما بلغ. وقد توغلت المسبعة في الكشف عن الأشياء السباعية، فظهر لهم منها أشياء عجيبة، فشغفوا بها وأطنبوا في ذكرها وأغفلوا ما سوى ذلك من المعدودات. وكذلك أيضا الثنوية أطنبوا في الكشف عن الموجودات الثنائية فظهر لهم منها أشياء عجيبة، فشغفوا بها وأغفلوا ما سوى ذلك من الموجودات. وهكذا النصارى في التثليث والمثلثات، وهكذا الطبيعيون أطنبوا في الطبائع الأربع والمربعات من الأمور.
وهكذا الخرمية أطنبوا في المخمسات من الأمور، وأهل الهند أيضا أطنبوا في المتسعات من أمور العدد والمعدودات.
فأما الفيثاغوريون فأعطوا كل ذي حق حقه، حتى قالوا إن الموجودات بحسب طبيعة العدد؛ يعنون أن الأشياء الموجودة منها ما هو اثنان اثنان، ومنها ما هو ثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، وخمسة خمسة، وهكذا بالغا ما بلغ.
وقالوا إن الواحد أصل العدد ومشنؤه، ومن الواحد يتألف العدد ؛ قليله وكثيره، وأزواجه وأفراده، وصحيحه وكسوره؛ فالواحد هو علة العدد؛ كما أن الباري جلت أسماؤه علة الموجودات وموجدها، ومرتبها ومتقنها، ومتممها ومكملها؛ وكما أن الواحد لا جزء له ولا مثل، كذلك أن الباري جل ثناؤه لا شريك له ولا شبه ولا مثل؛ وكما أن الواحد موجود في جميع الأعداد محيط بها، كذلك أن الباري جل ثناؤه شاهد على كل موجود محيط به؛ وكما أن الواحد يعطي اسمه لكل عدد ومقدار، كذلك الباري جل ثناؤه أعطى الوجود لكل موجود؛ وكما أنه ببقاء الواحد بقاء العدد، كذلك ببقاء الباري جل ثناؤه بقاء الموجودات ودوامها؛ وكما أن بالواحد بعد كل عدد ومقدار، كذلك علم الباري تعالى محيط بكل شيء شاهد وغائب.
وقالوا كما أن من تكرار الواحد نشوء العدد وتزايده كذلك من فيض الباري وجوده نشأة الخلائق وتمامها وكمالها، وكما أن الاثنين هو أول عدد نشأ من تكرار الواحد كذلك العقل هو أول موجود فاض من وجود الباري عز وجل، وكما أن الثلاثة ترتبت بعد الاثنين كذلك النفس ترتبت بعد العقل، وكما أن الأربعة ترتبت بعد الثلاثة كذلك الهيولى ترتبت بعد النفس، وكما أن الخمسة ترتبت بعد الأربعة كذلك الطبيعة ترتبت بعد الهيولى، وكما أن الستة ترتبت بعد الخمسة كذلك الجسم ترتب بعد الطبيعة، وكما أن السبعة ترتبت بعد الستة كذلك الأفلاك ترتبت بعد وجود الجسم، وكما أن الثمانية ترتبت بعد السبعة كذلك الأركان ترتبت بعد الفلك، وكما أن التسعة ترتبت بعد الثمانية كذلك المولدات ترتبت بعد الأركان، وكما أن التسعة آخر مرتبة الآحاد كذلك المولدات آخر مرتبة الموجودات الكليات؛ وهي المعادن والنبات والحيوان؛ فالمعادن كالعشرات، والنبات كالمئين، والحيوان كالألوف، والمزاج كالواحد. وقالوا: العدد كله أزواج وأفراد وصحيح وكسور، فمراتب الموجودات التي في عالم الأرواح بطبيعة الأفراد أشبه، ومراتب الموجودات التي في عالم الأجساد بطبيعة الأزواج أشبه، ومراتب الموجودات التي في عالم الأفلاك بطبيعة الأعداد الصحيحة أشبه، ومراتب الموجودات التي في عالم الكون والفساد بطبيعة الأعداد الكسور أشبه.
(2) فصل
اعلم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الوجود متقدم على البقاء، والبقاء متقدم على التمام، والتمام متقدم على الكمال؛ لأن كل كامل تام، وكل تام باق، وكل باق موجود، ولكن ليس كل موجود باقيا، ولا كل باق تاما، ولا كل تام كاملا؛ وذلك أن الباري - جلت أسماؤه - الذي هو علة الموجودات ومبدعها ومبقيها ومتمها ومكملها، أول فيض فاض منه الوجود، ثم البقاء ثم التمام ثم الكمال، وقد بينا في الرسالة التي ذكرنا فيها خواص العدد الفرق بين التمام والكمال، فاعرفه من هناك إن شاء الله.
(3) فصل
إنه ينبغي لمن يريد النظر في مبادئ الموجودات ليعرفها على حقائقها أن يقدم أولا النظر في مبادئ الأمور المحسوسة؛ ليروض بها عقله ويقوي بها فهمه على النظر في مبادئ الأمور المعقولة؛ لأن معرفة الأمور المحسوسة أقرب من فهم المبتدئين وأسهل على المتعلمين، فنقول:
إن الجسم أحد الموجودات المحسوسة، وهو جوهر مركب من جوهرين بسيطين معقولين: أحدهما يقال له الهيولى، والآخر يقال له الصورة؛ فالهيولى هو جوهر قابل للصورة، والصورة هي التي بها الشيء ما هو. مثال ذلك: الحديد هيولى لكل ما يعمل منه كالسكين والسيف والمنشار وغير ذلك؛ فالسكين إنما هي اسم للصورة، وكذلك السيف والفأس؛ لأن الحديد في كلها واحد والصورة مختلفة، واختلاف الأسماء بحسب اختلاف الصور. وكذلك أيضا الخشب فإنه هيولى لكل ما يعمل منه كالباب والسرير والكرسي.
وليس كل هيولى تقبل كل صورة؛ لأن الخشب لا يقبل صورة القميص، ولا الشقة تقبل صورة الكرسي، ولا الهيولى تقبل أي صورة تقدمت؛ لأن القطن لا يقبل صورة الشقة، ولا الغزل يقبل صورة القميص. لكن القطن أول ما يقبل صورة الغزل، وبتوسط صورة الغزل يقبل صورة الشقة ثم صورة القميص. وهكذا الطعام أول ما يقبل صورة الدقيق، ثم صورة العجين، ثم صورة الخبز.
وعلى هذا المثال يكون قبول الهيولى للصور المختلفة، الأول فالأول على الترتيب؛ وذلك أن الهيولى الأولى أول ما قبلت صورة الجسم الذي هو الطول والعرض والعمق، ثم بتوسط الجسم تقبل سائر الصور من التدوير والتثليث والتربيع وما شاكل ذلك. والهيولى يقال على أربع جهات: فأقربها إلى الحس هيولى الصناعة مثل الخشب والحديد والقطن بحسب ما بينا، فإن كل صانع لا بد له من هيولى يعمل فيه ومنه صناعته. والثاني هيولى الطبيعة وهي النار والهواء والماء والأرض؛ وذلك أن كل شيء تعمله الطبيعة التي تحت فلك القمر من الموجودات، فإن هذه الأركان الأربعة هيولى لها. والثالث هيولى الكل؛ أعني الجسم المطلق الذي يعم الأفلاك والكائنات أجمع. والرابع الهيولى الأولى وهو جوهر قابل للصورة، فأول صورة قبل هي الطول والعرض والعمق، وكان بذلك جسما مطلقا، وهذه الهيولى من المبادئ الأولى المعقولة.
وذلك أن هذه الهيولى أول معلول النفس، والنفس أول معلول العقل، والعقل أول معلول الباري تعالى، وأن الباري تعالى علة كل موجود ومبدعه ومتقنه ومتممه ومكمله على النظام والترتيب الأشرف فالأشرف، وترتيب الموجودات عنه كترتيب العدد عن الواحد الذي قبل الاثنين، كما بينا في الرسالة التي ذكرنا فيها خواص العدد؛ فالعقل هو أول موجود أوجده الباري تعالى وأبدعه من غير واسطة، ثم أوجد النفس بواسطة العقل، ثم أوجد الهيولى؛ وذلك أن العقل جوهر روحاني فاض من الباري عز وجل وهو باق تام كامل، والنفس جوهرة روحانية فاضت من العقل وهي باقية تامة غير كاملة، والهيولى الأولى جوهر روحاني فاض من النفس وهو باق غير تام ولا كامل.
(4) فصل
اعلم أن علة وجود العقل هو وجود الباري عز وجل وفيضه الذي فاض منه، وعلة بقاء العقل هو إمداد الباري عز وجل له بالوجود والفيض الذي فاض أولا، وعلة تمامية العقل هي قبول ذلك الفيض والفضائل واستمداده من الباري تعالى، وعلة كمال العقل هي إفاضة ذلك الفيض والفضائل على النفس بما استفاده من الباري عز وجل؛ فبقاء العقل إذن علة لوجود النفس، وتمامية العقل علة لبقاء النفس، وكماله علة لتمامية النفس، وبقاء النفس علة لوجود الهيولى، وتمامية النفس علة لبقاء الهيولى؛ فمتى كملت النفس تمت الهيولى، وهذا هو الغرض الأقصى في رباط النفس بالهيولى. ومن أجل هذا دوران الفلك وتكوين الكائنات لتكمل النفس بإظهار فضائلها في الهيولى، وتتم الهيولى بقبول ذلك، ولو لم يكن هذا هكذا لكان دوران الفلك عبثا.
واعلم يا أخي أن العقل إنما قبل فيض الباري تعالى وفضائله التي هي البقاء والتمام والكمال دفعة واحدة، بلا زمان ولا حركة ولا نصب؛ لقربه من الباري عز وجل وشدة روحانيته. فأما النفس فإنه لما كان وجودها من الباري جل ثناؤه بتوسط العقل، صارت رتبتها دون العقل، وصارت ناقصة في قبول الفضائل، ولأنها أيضا تارة تتوجه نحو العقل لتستمد منه الخير والفضائل، وتارة تقبل على الهيولى لتمدها بذلك الخير والفضائل، فإذا هي توجهت نحو العقل لتستمد منه الخير اشتغلت عن إفادتها الهيولى ذلك الخير، وإذا هي أقبلت على الهيولى لتمدها بذلك الفيض اشتغلت عن العقل وقبول فضائله.
ولما كانت الهيولى ناقصة الرتبة عن تمام فضائل النفس وغير راغبة في فيضها، احتاجت النفس إلى أن تقبل عليها إقبالا شديدا، وتعنى بإصلاحها عناية تامة، فتتعب ويلحقها العناء والشقاء في ذلك.
ولولا أن الباري عز وجل بفضله ورحمته أيدها بالعقل وأعانها على تخليصها، لهلكت النفس في بحر الهيولى، كما قال الله تعالى: @QUR011 ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا، وأما العقل فليس يناله في تأييده النفس وفيضه عليها فضائله تعب ولا نصب؛ لأن النفس جوهرة روحانية سهلة القبول، تطلب فضائل العقل وترغب في خيراته وهي حية بالذات علامة بالقوة فعالة بالطبع قادرة صانعة بالعرض.
وأما الهيولى فلبعدها من الباري - تعالى ذكره - صارت ناقصة المرتبة، عادمة الفضائل، غير طالبة لفيض النفس ولا راغبة في فضائلها، ولا علامة ولا مفيدة ولا حية، بل قابلة حسب، فمن أجل هذا يلحق النفس التعب والعناء والجهد والشقاء في تدبيرها الهيولى وتتميمها لها، ولا راحة للنفس إلا إذا توجهت نحو العقل وتعلقت به واتحدت معه، وسنشرح كيف يكون هذا فيما بعد إن شاء الله.
(5) فصل في سؤالات عن المبادئ
كيف سريان الوجود في الموجودات - كيف سريان البقاء في الباقيات - كيف سريان الدوام في الدائمات - كيف سريان التمام في التامات - كيف سريان الكمال في الكاملات - كيف سريان الحياة في الأحياء - كيف سريان العلم في ذوي العلم - كيف سريان القدرة في ذوي القدرة - كيف سريان الرياسة في ذوي الرياسة - كيف سريان الربوبية في ذوي الأرباب - كيف سريان الكثرة من الوحدة المحضة؟
وقال بعضهم، ولنعم ما قيل:
يا منير العالم الحسي بالعقل المنير
أنت مبدي الكل ما زلت على مر الدهور لم يزل في علمك العالم من قبل الظهور
متقن الصنعة كالصورة في وهم الضمير ثم أظهرت إلى الوجدان إظهار البصير
جملة أبدعتها إبداع خلاق قدير
(6) فصل في المبادئ الروحانية والجسمانية معا ومراتبها
اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن أول شيء اخترعه الله جل ثناؤه وأوجده جوهر بسيط روحاني في غاية التمام والكمال والفضل، فيه صور جميع الأشياء؛ يسمى العقل الفعال، وأن من ذلك الجوهر فاض جوهر آخر دونه في الرتبة يسمى «الرتبة الكلية»، وانبجس من النفس جوهر آخر يسمى الهيولى الأولى، وأن الهيولى الأولى قبل المقدار الذي هو الطول والعرض والعمق، فصارت بذلك جسما مطلقا؛ وهو الهيولى الثانية.
ثم أن الجسم قبل الشكل الكري - الذي هو أفضل الأشكال - فكان من ذلك عالم الأفلاك والكواكب ما صفا منه ولطف، الأول فالأول من لدن الفلك المحيط إلى منتهى فلك القمر، وهي تسع أكر بعضها في جوف بعض، فأدناها إلى المركز فلك القمر، وأبعدها وأعلاها الفلك المحيط، ويسمى أيضا الفلك الحامل للكل، الذي هو ألطف الأفلاك جوهرا وأبسطها جسما، ثم دونه فلك الكواكب الثابتة، ثم دونه فلك زحل، ثم دونه فلك المشتري، ثم دونه فلك المريخ، ثم دونه فلك الشمس، ثم دونه فلك الزهرة، ثم دونه فلك عطارد، ثم دونه فلك القمر، ثم دون فلك القمر الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض؛ فالأرض هي المركز وهي أغلظ الأجسام جوهرا وأكثفها جرما.
ولما ترتبت هذه الأكر بعضها في جوف بعض، كما أراد باريها جل ثناؤه، وكما اقتضت حكمته، من لطيف نظامها وحسن ترتيبها، ودارت الأفلاك بأبراجها وكواكبها على الأركان الأربعة، وتعاقب عليها الليل والنهار، والشتاء والصيف، والحر والبرد، واختلط بعضها ببعض، فامتزج اللطيف منها بالكثيف، والثقيل بالخفيف، والحار بالبارد، والرطب باليابس؛ تركبت منها على طول الزمان أنواع التراكيب التي هي المعادن والنبات والحيوان.
فالمعدن هو كل ما انعقد في باطن الأرض وقعر البحار وجوف الجبال من البخارات المتحللة والدخانات المتصاعدة والرطوبات المحتقنة في المغارات، والأهوية والترابية عليها أغلب.
وأما النبات فهو كل ما نجم على وجه الأرض من العشب والكلأ والحشائش والبقول والزروع والأشجار، والمائية عليها أغلب.
وأما الحيوان فهو كل جسم يتحرك ويحس وينتقل من مكان إلى مكان بجثته، والهوائية عليه أغلب.
فالمعادن أشرف تركيبا من الأركان، والنبات أشرف تركيبا من المعادن، والحيوان أشرف تركيبا من النبات، والإنسان أشرف تركيبا من جميع الحيوان، والنارية عليه أغلب.
وقد اجتمع في تركيب الإنسان جميع معاني الموجودات من البسائط والمركبات التي تقدم ذكرها؛ لأن الإنسان مركب من جسد غليظ جسماني ومن نفس بسيطة روحانية.
فمن أجل هذا سمت الحكماء الإنسان عالما صغيرا، والعالم إنسانا كبيرا؛ فالإنسان إذا ما هو عرف نفسه بالحقيقة من غرائب تركيب جسده ولطيف بنية هيكله وفنون تصاريف قوى النفس فيه وإظهار أفعالها به ومنه، من الصنائع المحكمة والمهن المتقنة؛ تهيأ له أن يقيس عليها جميع معاني المحسوسات ويستدل بها على جميع معاني المعقولات من العالمين جميعا.
فينبغي لنا أيها الأخ، أيدك الله وإيانا بروح منه - إذا كنا عازمين على معرفة حقائق الموجودات - أن نبتدئ أولا بمعرفة أنفسنا؛ إذ هي أقرب الأشياء إلينا، ثم بعد ذلك بمعرفة سائر الأشياء؛ لأنه قبيح بنا أن ندعي حقائق الأشياء ولا نعرف أنفسنا.
فصل
اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن النفس الكلية إنما هي قوة روحانية فاضت من العقل بإذن الباري جل ثناؤه، كما ذكرنا قبل، وأن لها قوتين اثنتين ساريتين في جميع الأجسام، من لدن فلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض، كسريان ضوء الشمس في جميع أجزاء الهواء؛ فإحدى قوتيها علامة، والأخرى فعالة، فهي بقوتها الفعالة تتمم الأجسام وتكملها بما تنقش فيها من الصور والأشكال والهيئات والزينة والجمال بألوان الأصباغ، وبالقوة العلامة تكمل ذاتها بما يظهر من فضائلها من حد القوة إلى حد الفعل من العلوم الحقيقية، والأخلاق الجميلة، والآراء الصحيحة، والأعمال الصالحة، والصنائع المحكمة، والمهن المتقنة، بحسب قبول شخص تأثيراتها بصفاء جوهره ولطافة جرمه.
فصل
واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن النفس جوهرها لا يبيد وقواها لا تفنى وأفعالها لا تنقطع؛ لأن مادتها من العقل بالتأييد لها دائم وقبولها منه الفيض سرمدا متصل.
وهكذا تأييد الباري تعالى للعقل دائما وأبدا وفيضه متصل وقبول العقل لذلك متصل دائم؛ لأن فضائل الباري تعالى لا تفنى وعطاياه لا تنقطع وفيضه لا يتناهى؛ لأنه ينبوع الخيرات، مبدأ البركات، ومعدن الجود وسبب كل موجود، فله الحمد والثناء، والشكر والعطاء.
فصل
واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن النفس الكلية رتبتها فوق الفلك المحيط، وقواها سارية في جميع أجزاء الفلك وأشخاصه بالتدبير والصنائع والحكم، وفي كل ما يحوي الفلك من سائر الأجسام، وأن لها في كل شخص من أشخاص الفلك قوة مختصة به مدبرة له مظهرة منه أفعالها، وأن تلك القوة تسمى نفسا جزئية لذلك الشخص؛ مثال ذلك القوة المختصة بجرم زحل المدبرة له المظهرة منه وبه أفعالها يسمى نفس زحل.
وهكذا القوة المختصة بجرم المشتري المدبرة له المظهرة به ومنه أفعالها يسمى نفس المشتري.
وعلى هذا المثال والقياس سائر القوى المختصة بكوكب كوكب وجرم جرم من أجرام الفلك وأشخاصه المدبرة لها المظهرة بها ومنها أفعالها تسمى نفوسا لها.
وهذا هو حقيقة ما قد رمز إليه في الكتب الإلهية أنهم الملائكة والملأ الأعلى وجند الله الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
وهذا هو حقيقة ما قالت الحكماء والفلاسفة في تفصيل النفوس الجزئية في عالم الأفلاك والأركان، المسمون الروحانيين الموكلين بحفظ العالم وتدبير الخلائق بإدارة الأفلاك، وجريان الكواكب، وتصاريف الدهور، وتغاير الأزمان، ومراعاة الأركان، وتربية النبات والحيوان وحفظهما.
فصل
اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن للنفس الكلية التي هي فوق الفلك المحيط قوة مختصة سارية في جميع الأجسام التي دون فلك القمر، وهي مدبرة لها، متصرفة فيها، مظهرة بها.
ومنها أفعالها، ويسميها الفلاسفة والأطباء طبيعة الكون والفساد، ويسميها الناموس ملكا من الملائكة، وهي نفس واحدة ولها قوى كثيرة منبثة في جميع أقسام الحيوان والنبات والمعادن والأركان الأربعة، من لدن فلك القمر إلى منتهى مركز الأرض.
وما من جنس ولا نوع ولا شخص من هذه الموجودات إلا ولهذه النفس قوة مختصة به مدبرة له مظهرة به، ومنه أفعالها، وإن تلك القوة تسمى نفسا جزئية لذلك الشخص.
فصل
اعلم أن أول قوة لهذه النفس في هذه الأركان التي هي النار والهواء والماء والأرض، هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة.
وأن أول أفعال هذه القوى في هذه الأسطقسات هو التحريك والتسكين، والتبريد والتسخين، والتحليل والتجميد، والتصعيد والتقطير، والخلط والمزج، والتأليف والتركيب، والتصوير والتنقيش والتصبيغ وما شاكلها. وكل ذلك بفعل هذه القوى في هذه الأسطقسات بمعاونة قوى الأشخاص الفلكية لها بإذن الله تعالى. مثال ذلك تحريكها لركن النار لتسخين العالم بمعاونة قوة الشمس لها دائما، وتسكينها لركن الأرض بمعاونة قوة زحل لها دائما، وتحليلها لركن الماء بالسيلان بمعاونة قوة المشتري لها دائما، وتلطيفها لركن الهواء بمعاونة قوة المريخ لها دائما، وتقطيرها لركن البخار الرطب بمعاونة قوة الزهرة لها دائما، وتمزيجها لركن البخار اليابس بالبخار الرطب بمعاونة قوة عطارد لها دائما، وإمدادها للمولدات بركن العصارات بمعاونة ركن قوة القمر لها دائما.
فصل
واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن أول فعل هذه القوى - أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة - في تكوين المعادن صنعة الزئبق والكبريت؛ وذلك أن الرطوبات المحتقنة في باطن الأجسام الأرضية والبخارات المحتبسة فيها، إذا تعاقب عليها حر الصيف وحرارة المعدن لطفت وخفت، وتصاعدت علوا إلى سقوف تلك الأهوية والمغارات، وتعلقت هناك زمانا، فإذا تعاقب عليها برد الشتاء غلظت وجمدت وتقاطرت راجعة إلى أسفل تلك الأهوية والمغارات، واختلطت بتربة تلك البقاع ومكثت هناك زمانا طويلا، وحرارة المعادن دائما تعمل في إنضاجها وطبخها وتصفيتها؛ فتصير تلك الرطوبة المائية بما يختلط بها من الأجزاء الترابية وما تأخذ من ثقلها وغلظها بطول الوقت وإنضاج الحرارة لها زئبقا رطبا ثقيلا، وتصير تلك الأجزاء الترابية التي في أسفل المعادن بما يمازجها من الرطوبة الدهنية وإنضاج الحرارة لها كبريتا محترقا، فإذا اختلط الزئبق والكبريت مرة ثانية وتمازجا - والتدبير بحاله - تركب من امتزاجهما أجناس الجواهر المعدنية وأنواعها.
مثال ذلك في تركيب الجواهر الذائبة أن الزئبق إذا كان صافيا والكبريت إذا كان نقيا واختلطا جميعا اختلاطا سويا، وشرب الكبريت رطوبة الزئبق كما شرب التراب نداوة الماء، واتحدت أجزاؤهما على الاعتدال، وكان مقداراهما متناسبين، وحرارة المعدن تنضجهما على اعتدال، ولم يعرض لهما عارض من البرد واليبس، قبل إنضاجهما؛ انعقد من ذلك على طول الزمان الذهب الإبريز، فإن عرض لهما البرد قبل النضج انعقد فصار فضة بيضاء، فإن عرض لهما اليبس من فرط الحرارة صارا نحاسا يابسا، وإن عرض لهما البرد قبل أن تتحد أجزاء الكبريت بأجزاء الزئبق صارا من ذلك رصاصا قلعيا، وإن عرض لهما البرد قبل النضج وكانت أجزاء الكبريت أكثر صارا حديدا، وإن كان الزئبق أكثر والكبريت أقل والحرارة ضعيفة انعقد منهما الأسرب. وعلى هذا القياس تختلف سائر أجناس الجواهر المعدنية بسبب العوارض التي تعرض لها من كثرة الزئبق والكبريت وقلتهما أو فرط الحرارة والبرودة قبل وقت نضجهما والخروج عن الاعتدال وما شاكل ذلك.
فصل
واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الباري جل ثناؤه قد أيد النفس النباتية بسبع قوى فعالة؛ وهي: القوى الجاذبة، والقوة الماسكة، والقوة الهاضمة، والقوة الدافعة، والقوة الغاذية، والقوة المصورة، والقوة النامية. وأنها تفعل بكل قوة من هذه فعلا خلاف ما تفعله بقوة أخرى؛ فأول فعلها في تكوين النبات هو جذبها عصارات الأركان الأربعة، التي هي الأرض والماء والهواء والنار، ومصها لطائفها وما فيها من الأجزاء المشاكلة لكل نوع من أنواع النبات، ثم إمساكها لها بالقوة الماسكة لئلا تسيل وتحلل وتنعكس راجعة، ثم تنضيجها لها بالقوة الهاضمة لتحيلها إلى ذاتها، ثم دفعها لها بالقوة الهاضمة لتحيلها إلى ذاتها، ثم دفعها لها بالقوة الدافعة إلى أقطارها، ثم تغذيتها بالقوة الغاذية، ثم النمو والزيادة فيها بالقوة النامية، ثم التصوير لها بأنواع الأشكال والأصباغ بالقوة المصورة.
مثال ذلك أن القوة الجاذبة إذا امتصت نداوة التراب بعروق النبات وجذبتها كما يمص الحجام الدم بالحجمة، أو كما تمص النار الدهن بالفتيلة؛ انجذبت معها الأجزاء الترابية لشدة اتحادها بها، فإذا حصلت تلك المادة في عروق النبات أنضجتها القوة الهاضمة، وصيرتها مشاكلة لجرم العروق، وتناولتها القوة الغاذية وألزقت بكل شكل من تلك الأعضاء والمفاصل ما يلائمه القوة المصورة، وزادت النامية في أقطارها طولا وعرضا وعمقا، وما فضلت من تلك المادة ولطفت ورقت دفعتها القوة الدافعة إلى فوق في أصول النباتات وقضبانها وفروعها وأغصانها، وجذبتها الجاذبة إلى ما هناك، وأمسكتها الماسكة كي لا تسيل راجعة إلى أسفل، ثم إن القوة الهاضمة طبختها مرة ثانية وصيرتها مشاكلة لجرم الأصول والفروع والأغصان، ومادة لها فزادت في أقطارها طولا وعرضا وعمقا، وما ثقلت من تلك المادة ولطفت ورقت دفعتها الدافعة إلى أعلى الفروع والأغصان، وجذبتها الجاذبة إلى هناك، وأمسكتها الماسكة، ثم أن القوة الهاضمة طبختها مرة ثالثة وصيرتها مشاكلة لجرم الورق والنور والزهر وأكمام الحب والثمر وما شاكل ذلك، ومادة لها وزادت في أقطارها طولا وعرضا وعمقا، وما لطفت من تلك المادة ورقت صيرتها مادة للحب والثمر وأمسكتها الماسكة هناك، ثم إن القوة الهاضمة طبختها مرة رابعة وأنضجتها ولطفتها وميزت منها اللطيف من الكثيف، والغليظ من الدقيق، وصيرت الغليظ والكثيف مادة لجرم القشر والنوى، وزادت في أقطارها طولا وعرضا وعمقا، وصيرت اللطيف والرقيق مادة للب والحب والثمر، وهي الدقيق والشيرج والدهن والدبس والطعم واللون والرائحة.
فإذا تناول الحيوان لب النبات ليتغذى به، وحصلت تلك المادة في المعدة، فأول فعل هذه القوى فيها فعل القوة الهاضمة بالحرارة الغريزية، ثم تصفيتها في المعى وجذب الكيموس إلى الكبد، ثم تنضيجها مرة أخرى، ثم تمييز الأخلاط بعضها من بعض، وهي الدم والبلغم والمرتان، ثم دفعها إلى الأعضاء والأوعية المعدة لقبولها، ثم تقسيط الدم على الأعضاء والمفاصل بالأوراد، ثم تغذيته لكل عضو بما يشاكله من تلك المادة، ثم النمو والزيادة في أقطارها طولا وعرضا وعمقا، ثم استخراج النطفة من جميع أجزاء بدن الفحل عند حركة الجماع، وهي زبدة الدم، ثم نقلها إلى رحم الأنثى بالآلات المعدة لذلك.
وأما فعل هذه القوى في تركيب جسد الإنسان عند حصول النطفة في الرحم، وتدبيرها لها تسعة أشهر حالا بعد حال، إلى أن تستتم بنية الجسد وتستكمل هناك صورته؛ فقد شرحناها في رسالة أخرى غير هذه.
فإذا تمت له المدة المقدرة التي قدرها الباري جل ثناؤه نقلته، قوة النفس الحيوانية الحساسة بإذن الله تعالى من ذلك المكان إلى فسحة هذه الدار استؤنف به تدبير آخر إلى تمام أربع سنين، ثم ترد القوة الناطقة المعبرة لأسماء المحسوسات وتستأنف به تدبيرا آخر إلى تمام خمس عشرة سنة، ثم ترد القوة العاقلة المميزة لمعاني المحسوسات وتستأنف به تدبيرا آخر إلى تمام ثلاثين سنة، ثم ترد القوة الحكمية المستبصرة لمعاني المعقولات وتستأنف به تدبيرا آخر تمام أربعين سنة، ثم ترد القوة الملكية المؤيدة وتستأنف به تدبيرا آخر إلى تمام خمسين سنة، ثم ترد القوة الناموسية الممهدة للمعاد المفارقة للهيولى وتستأنف به تدبيرا آخر إلى آخر العمر. فإن تكن النفس قد تمت واستكملت قبل مفارقة الجسد نزلت قوة المعراج فرقت بها إلى الملأ الأعلى وتستأنف تدبيرا آخر، وإن لم تكن النفس قد تمت واستكملت قبل مفارقة الجسد ردت إلى أسفل سافلين، ثم استؤنف بها التدبير من الرأس كما ذكر الله تعالى فقال: @QUR031 لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون * فما يكذبك بعد بالدين * أليس الله بأحكم الحاكمين، وقال تعالى: @QUR010 كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين، وقال سبحانه: @QUR018 ثم لتكونوا شيوخا، ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا.
مسألة
أترى ماذا يقول ويعتقد من ينظر في مبادئ الأشياء ويتكلم عليها؟ هل اخترعت كلها اختراعا في غاية التمام والكمال والفضل، ثم تناقصت ورذل بعضها، أم اخترعت كلها في غاية النقص ثم زادت وكملت وتمت وتفاضل بعضها على بعض؟ أم بعضها هكذا وبعضها هكذا؟
فصل
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الله تعالى لما كان تام الوجود كامل الفضائل عالما بالكائنات قبل كونها قادرا على إيجادها متى شاء، لم يكن من الحكمة أن يحبس تلك الفضائل في ذاته فلا يجود بها ولا يغيضها، فإذن بواجب الحكمة أفاض الجود والفضائل منه كما يفيض من عين الشمس النور والضياء، ودام ذلك الفيض منه متصلا متواترا غير منقطع، فيسمى أول ذلك الفيض العقل الفعال، وهو جوهر بسيط روحاني نور محض في غاية التمام والكمال والفضائل، وفيه صور جميع الأشياء، كما تكون في فكر العالم صور المعلومات، وفاض من العقل الفعال فيض آخر دونه في الرتبة يسمى العقل المنفعل، وهي النفس الكلية، وهي جوهرة روحانية بسيطة قابلة للصور والفضائل من العقل الفعال على الترتيب والنظام، كما يقبل التلميذ من الأستاذ التعليم.
وفاض من النفس أيضا فيض آخر دونها في الرتبة يسمى الهيولى الأولى، وهي جوهرة بسيطة روحانية قابلة من النفس من الصور والأشكال بالزمان شيئا بعد شيء، فأول صورة قبلت الهيولى الطول والعرض والعمق، فكانت بذلك جسما مطلقا، وهو الهيولى الثانية، ووقف الفيض عند وجود الجسم ولم يفض منه جوهر آخر؛ لنقصان رتبته عن الجواهر الروحانية وغلظ جوهره وبعده من العلة الأولى. ولما دام الفيض من الباري تعالى على العقل، ومن العقل على النفس، عطفت النفس على الجسم، فصورت فيه الصور والأشكال والأصباغ لتتمه بالفضائل والمحاسن بحسب ما يمكن من قبول الجسم وصفاء جوهره.
فأول صورة عملت النفس في الجسم الشكل الكري الذي هو أفضل الأشكال كلها، وحركته بالحركة الدورية التي هي أفضل الحركات، ورتبت بعضها في جوف بعض من لدن الفلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض، وهي إحدى عشرة كرة، فصار الكل عالما واحدا منتظما نظاما كليا واحدا، وصارت الأرض أغلظ الأجسام كلها وأشدها ظلمة لبعدها من الفلك المحيط، وصار الفلك المحيط ألطف الأجسام كلها وأشدها روحانية وأشفها نورا لقربها من الهيولى الأولى التي هي جوهر بسيط معقول، وصارت الهيولى أنقص رتبة من العقل والنفس لبعدها من الباري جل وعز.
وذلك أن الهيولى هي جوهرة بسيطة روحانية معقولة غير علامة ولا فعالة، بل قابلة آثار النفس بالزمان، منفعلة لها. وأما النفس فإنها جوهرة بسيطة روحانية علامة بالقوة فعالة بالطبع، قابلة فضائل العقل بلا زمان، فعالة في الهيولى بالتحريك لها بالزمان. وأما العقل فإنه جوهر بسيط روحاني، أبسط من النفس وأشرف منها، قابل لتأييد الباري تعالى، علام بالفعل مؤيد للنفس بلا زمان. وأما الباري تعالى فهو مبدع الجميع وخالق الكل، فالمبدع لا يشبه المبدع، وكذلك الخالق لا يشبه المخلوق، والفاعل لا يشبه المفعول بوجه من الوجوه وسبب من الأسباب؛ فتبارك الله رب العالمين وأرحم الراحمين.
فانتبه أيها الأخ من نوم الغفلة ورقدة الجهالة قبل أن ينفخ في الصور وتقول يا حسرتى على ما فرطت، وينادي المنادي من الملأ الأعلى ألا قد سعد فلان وشقي فلان! واجتهد أن تكون من السعداء الذين هم من أصحاب اليمين وتكون في سدر مخضود وطلح منضود، واجتهد ألا تكون من الأشقياء الذين هم أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم، واعتصم بحبل الله المتين، واجتنب الشيطان الرجيم؛ عسى أن تصير من الذين أنعم الله عليهم، ولا تصير من المغضوب عليهم ولا الضآلين.
وفقك الله أيها الأخ البار الرحيم وجميع إخواننا للسداد، إنه رءوف بالعباد.
(تمت رسالة مبادئ الموجودات العقلية على رأي الفيثاغوريين، ويتلوها رسالة المبادئ العقلية على رأي إخوان الصفا.)
الرسالة الثانية من النفسانيات العقليات في المبادئ العقلية على رأي إخوان الصفاء
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
(1) فصل
اعلم يا أخي أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه قد بحث الفلاسفة والعلماء والحكماء في مبادئ الموجودات عن أصول الكائنات، فسنح لقوم منهم غير ما سنح للآخرين؛ وذلك أنه سنح لقوم من الثنوية الأمور المثنوية، ولقوم من النصارى الأمور الثلاثية، ولقوم من الطبيعيين الأمور الرباعية، ولقوم آخرين السداسية، ولقوم من الخرمية الأمور الخماسية، ولقوم آخرين الأمور السداسية، ولقوم آخرين الأمور السباعية، ولقوم آخرين من الموسيقيين الأمور الثمانية، ولقوم آخرين من الهند الأمور التساعية. وأطنبت كل طائفة في ذكر ما سنح لها وشغفت به وأغفلت ما سوى ذلك. فأما الحكماء الفيثاغوريون فأعطوا كل ذي حق حقه؛ إذ قالوا إن الموجودات بحسب طبيعة العدد كما سنبين طرفا منه في هذه الرسالة، وهذا مذهب إخواننا - أيدهم الله - وبحسب رأيهم في وضع الأشياء مواضعها وترتيبهم حق مراتبها على المجرى الطبيعي والنظام الإلهي.
(2) فصل في معنى قول الفيثاغوريين إن الموجودات بحسب طبيعة العدد
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن فيثاغورس كان رجلا حكيما موحدا من أهل حران، وكان شديد العناية بالنظر في علم العدد وكيفية نشوئه، كثير البحث عنه وعن خواصه ومراتبه ونظامه، وكان يقول: إن في معرفة العدد وكيفية نشوئه من الواحد الذي قبل الاثنين معرفة وحدانية الله عز وجل، وفي معرفة خواص الأعداد وكيفية ترتيبها ونظامها معرفة موجودات الباري تعالى وعلم مخترعاته وكيفية نظامها وترتيبها، وإن علم العدد مركوز في النفس يحتاج إلى أدنى تأمل ويسير من التذكار حتى يستبين ويعرف بلا دليل.
فصل
في مراتب الموجودات ونظام المخترعات، وأنها مطابقة لمراتب الأعداد المفردات المتتاليات عن الواحد، وأن الكل محتاج إلى الواحد، وعلى رأي الإخوان أن الواحد وما بعده محتاج إلى الغير، وهو العاد.
فصل
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الله جل ثناؤه لما أبدع الموجودات واخترع المخلوقات، نظمها ورتبها في الوجود كمراتب الأعداد عن الواحد لتكون كثرتها دالة على وحدانيته، وترتيبها ونظامها دالين على إتقان حكمته في صنعها، ولتكون أيضا نسبتها إلى الذي هو خالقها ومبدعها كنسبة الأعداد إلى الواحد الذي قبل الاثنين، الذي هو أصلها ومبدؤها ومنشؤها، كما بينا في رسالة الأرثماطيقي، وذلك أن الباري جل ثناؤه لما كان واحدا بالحقيقة من جميع الوجوه والمعاني لم يجز أن يكون المخلوق المخترع واحدا بالحقيقة، بل وجب أن يكون واحدا متكثرا مثنويا مزدوجا؛ وذلك أن الباري جل ثناؤه أول ما بدأ بفعل واحد مفعولا واحدا متحدا بفعله الذي هو علة العلل، فلم يكن واحدا بالحقيقة بل فيه مثنوية؛ فلذلك قالوا إنه أوجد واخترع أشياء مثنوية مزدوجة وجعلها قوانين الموجودات وأصول الكائنات.
فمن ذلك ما قالت الحكماء الفلاسفة الهيولى والصورة، ومنهم من قال النور والظلمة، ومنهم من قال الجوهر والعرض، ومنهم من قال الخير والشر، ومنهم من قال الإثبات والنفي، ومنهم من قال الإيجاب والسلب، ومنهم من قال الروحاني والجسماني، ومنهم من قال اللوح والقلم، ومنهم من قال الفيض والعقل، ومنهم من قال المحبة والغلبة، ومنهم من قال الحركة والسكون، ومنهم من قال الوجود والعدم، ومنهم من قال النفس والروح، ومنهم من قال الكون والفساد، ومنهم من قال الدنيا والآخرة، ومنهم من قال العلة والمعلول، ومنهم من قال المبدأ والمعاد، ومنهم من قال القبض والبسط.
وعلى هذا القياس توجد أشياء كثيرة طبيعية مزدوجة أو متضادة كالمتحرك والساكن، والظاهر والباطن، والعالي والسافل، والخارج والداخل، واللطيف الكثيف، والحار والبارد، والرطب واليابس، والزائد والناقص، والجماد والنامي، والناطق والصامت، والذكر والأنثى من كل زوجين اثنين.
وهكذا توجد تصاريف أحوال الموجودات من الحيوان والنبات؛ كالحياة والممات، والنوم واليقظة، والمرض والصحة، والألم واللذة، والبؤس والنعمة، والسرور والغمة، والحزن والفرح، والصلاح والفساد، والضر والنفع، والخير والشر، والسعادة والمنحسة، والإدبار والإقبال.
وهكذا توجد أحكام الأمور الوضعية والشرعية؛ كالأمر والنهي، والوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، والطاعة والمعصية، والمدح والذم، والعقاب والثواب، والحلال والحرام، والحدود والأحكام، والصواب والخطأ، والحسن والقبيح، والصدق والكذب، والحق والباطل.
وعلى هذه الأمور توجد الأمور المثنوية المزدوجة المتضادة، وبالجملة من كل زوجين اثنين.
واعلم يا أخي أنه لما لم يكن من الحكمة أن تكون الأمور الموجودة كلها مثنوية مزدوجة، جعل بعضها مثلثات وبعضها مربعات ومخمسات ومسدسات ومسبعات، وما زاد بالغا ما بلغ كما سنذكر منها طرفا بعد هذا الفصل إن شاء الله.
واعلم يا أخي أن الموجودات كلها نوعان، لا أقل ولا أكثر، كليات وجزئيات حسب؛ فالكليات تسع مراتب، محفوظ نظامها ثابتة أعيانها، وهي كتسعة آحاد أولها البارئ الواحد الفرد جل ثناؤه، ثم العقل ذو القوتين، ثم النفس ذات الثلاثة الألقاب، ثم الهيولى الأولى ذات الأربع الإضافات، ثم الطبيعة ذات الخمسة الأسماء، ثم الجسم ذو الست الجهات، ثم الفلك ذو السبع المدبرات، ثم الأركان ذات الثمانية المزاجات، ثم المكونات ذات التسعة الأنواع.
فصل
واعلم أن الباري جل ثناؤه هو أول الموجودات، كما أن الواحد هو قبل كل الأعداد؛ وكما أن الواحد هو نشوء الأعداد، كذلك الباري موجد الموجودات؛ وكما أن الاثنين أول الأعداد والأعداد ترتبت عن الواحد، كذلك العقل أول موجود أبدعه الباري جل وعلا واخترعه، فمن غريزي ومكتسب دليل على رتبته في الموجودات؛ وكما أن الثلاثة ترتبت بعد الاثنين، كذلك النفس ترتبت في الوجود بعد العقل وصارت أنواعها ثلاثة؛ نباتية وحيوانية وناطقة، لتكون دالة على رتبتها في الموجودات له، ثم أوجد الباري جل ثناؤه الهيولى كما ترتبت الأربعة بعد الثلاثة.
ومن أجل هذا قيل إن الهيولى أربعة أنواع: هيولى الصناعة، وهيولى الطبيعة، وهيولى الكل، والهيولى الأولى؛ لتكون هذه الأربعة الأركان دالة على مرتبتها في الموجودات، ثم الطبيعة ترتبت بعد الهيولى كما أن الخمسة ترتبت بعد الأربعة.
ومن أجل هذا قيل إن الطبائع خمس: إحداها طبيعة الفلك، وأربع تحت الفلك، ثم ترتب الجسم بعد الطبيعة كما ترتبت الستة بعد الخمسة.
ومن أجل هذا قيل إن الجسم له ست جهات، ثم تركب الفلك من الجسم وترتب بعده كما ترتبت السبعة بعد الستة.
ومن أجل هذا صار أمر الفلك يجري على سبعة كواكب مدبرات ليكون دلالة على رتبته في الموجودات، ثم ترتبت الأركان في جوف الفلك كما ترتبت الثمانية بعد السبعة.
ومن أجل هذا قيل إنها ذات ثمانية مزاجات؛ فالأرض باردة يابسة، والماء بارد رطب، والهواء حار رطب، والنار حارة يابسة؛ لتكون هذه الثمانية الأوصاف دالة على رتبتها في الموجودات، ثم تولدت المولدات الثلاثة الأجناس ذات التسعة الأنواع لتكون دالة على مرتبتها في الموجودات الكليات وهي آخرها كلها، كما أن التسعة آخر مرتبة الآحاد وهي الكائنات المولدات من الأركان الأربعة التي هي الأمهات، وهي المعادن والنبات والحيوان، والمعادن ثلاثة أنواع: ترابية لا تذوب ولا تحترق كالزاجات والكحل، وحجر يذوب ولا يحترق كالذهب والفضة والنحاس وما شاكلها، ومائية تذوب وتحترق كالكبريت والقير وغيرهما. والحيوان ثلاثة أنواع: منه ما يلد ويضع، ومنه ما يبيض ويحضن، ومنه ما يتكون من العفونات. والنبات ثلاثة أنواع: منها ما يغرس كالأشجار، ومنها ما يزرع كالحبوب، ومنها ما ينبت كالحشائش والكلأ.
فقد تبين بما ذكرنا أن الموجودات الكليات هي هذه التسعة المراتب التي ذكرناها وشرحناها، وأما الأمور الجزئيات فداخلة في هذه الكليات التي تقدم ذكرها. وأما الأمور الموجودات المثلثات، فإن من الموجودات الثلاثية الهيولى والصورة والمركب منهما، والجواهر والأعراض والمؤلف منهما، والروحاني والجسماني والمجموع منهما، ومثل المقادير الثلاثة التي هي الخطوط والسطوح والأجسام، ومثل الأبعاد الثلاثة التي هي الطول والعرض والعمق، والأزمان الثلاثة التي هي الماضي والحاضر والمستقبل، والحركات الثلاث من الوسط وإلى الوسط وعلى الوسط، والأعداد الثلاثة التام والزائد والناقص، والعناصر الثلاثة التي هي الممكن والواجب والممتنع، وتقاسيم الأوتاد والزوائل وما يلي الوتد، والمكونات الثلاثة: المعادن والنبات والحيوان، وبالجملة كل أمر ذي واسطة أو طرفين.
ولما كانت الأربعة من الأعداد تالية للثلاثة، وجب أن تكون أشياء رباعية للمثلثات في الوجود، فجعل الباري جل ثناؤه أشياء مربعات تاليات لها في الوجود.
فمنها الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، والطبائع الأربع وهي البرودة واليبوسة والرطوبة والحرارة، والأخلاط الأربعة الصفراء والسوداء والدم والبلغم، والرياح الأربع الصبا والدبور والجرميا والتيمن، والجهات الأربع المشرق والمغرب والشمال والجنوب، والأوتاد الأربعة الطالع والغارب والرابع والعاشر، والأزمان الأربعة الربيع والصيف والخريف والشتاء ، وأيام العمر أربعة فصول أيام الصبا وأيام الشباب وأيام الكهولة وأيام الشيخوخة، ومراتب الأعداد أربع آحاد وعشرات ومئات وألوف.
وعلى هذا القياس إذا تأمل وجد كثيرا من مربعات ومخمسات ومسدسات ومسبعات ومثمنات ومتسعات ومعشرات، وما زاد بالغا ما بلغ من المئات والألوف وعشرات الألوف ومئات الألوف وألوف الألوف.
وبالجملة ما من عدد من الأعداد إلا وقد خلق الباري جل ثناؤه جنسا من الموجودات مطابقا لذلك العدد، قل أو كثر، ونريد أن نبين من ذلك طرفا ليكون دليلا على ما قلنا وحقيقة لما ذكرنا:
أما المسدسات من الموجودات فأولها في طبيعة الأفلاك وأقسام البروج وحالات الكواكب؛ وذلك أن البروج الاثني عشر: ستة منها ذكور وستة منها إناث، وستة نهارية وستة ليلية، وستة شمالية وستة جنوبية، وستة مستقيمة الطلوع وستة معوجة الطلوع، وستة من حيز الشمس وستة من حيز القمر، وستة تطلع بالنهار وستة تطلع بالليل، وستة ترى أنها فوق الأرض وستة لا ترى فهي تحت الأرض.
وأما الأحوال الست التي للكواكب فهي أن تكون في أوجاتها أو حضيضها، أو شرفها أو هبوطها، أو مع رأس جو زهرها أو مع الذنب فهي ست أحوال.
وأما الست الأخرى، فهي أن يكن مقترنات أو متقابلات أو مربعات أو مثلثات أو مسدسات أو سواقط لا ينظر بعضها إلى بعض.
وأما المسدسات من الأمور التي تحت الفلك فهي الجهات الست التي تنسب إلى الأجسام، والستة الأخرى التي وضعت لمقادير الأوزان من الصنجات والأذرع والمكاييل والأرطال؛ كل ذلك بفعل الستة إذا كانت هي أول العدد التام.
وأما السبعات من الأمور الموجودة فتركنا ذكرها؛ إذ كان قوم من أهل العلم قد شغفوا بها وأطنبوا في ذكرها، وهي معروفة موجودة في أيدي أهل العلم.
وأما المثمنات فقد ذكرنا طرفا منها في رسالة الموسيقى لا يحتاج إلى إعادته.
وأما المتسعات من الأمور فقد شغف بها أيضا قوم من أهل الهند وأكثروا من ذكرها، وأيضا رجل من أهل العلم يعرف بالكيال قد شغف بها وأكثر من ذكرها في كتب له معروفة موجودة في أيدي أهل العلم.
وقد ذكرنا أيضا طرفا منها في بعض رسائلنا وفي فصل من هذه الرسالة مما تقدم، وقلنا إن الموجودات الكليات تسع مراتب فحسب، لا أقل ولا أكثر، مطابقة التسع الآحاد المتفق بين الأمم كلها على وضعها؛ لتكون الأمور الوضعية مطابقة مراتبها للأمور الطبيعية التي هي ليست من صنع البشر، بل صنعة خالق حكيم سبحانه وبحمده.
وأما الموجودات المخمسات فالكواكب الخمسة المتحيرة: زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد، وإنما سميت متحيرة لأن لها رجوعا واستقامة، وليس للشمس ولا للقمر رجوع ولا استقامة.
والأجسام الطبيعية الخمسة التي هي جسم الفلك والأربعة الأركان التي دونه من النار والهواء والأرض والماء.
والخمسة الأجناس من الحيوان هي: الإنسان والطير والسائح، والمشاء ذو الرجلين وذو الأربع، والذي ينساب على بطنه.
والحواس الخمس الموجودة في الحيوان التام الخلقة؛ وهي: السمع والبصر والشم والذوق واللمس.
والخمسة الأجزاء الموجودة في النبات، وهي الأصل والعروق والورق والزهر والثمر.
والخمسة الأشكال الفاضلة المذكورة في كتاب إقليدس وهي: الشكل الناري ذو الأربعة السطوح المثلثات، والشكل الأرضي ذو السطوح المربعات، والشكل المائي ذو الثمانية السطوح المثلثات، والشكل الهوائي ذو العشرين قاعدة مثلثات، والشكل الفلكي ذو الاثنتي عشرة قاعدة مخمسات.
والخمس النسب الفاضلة الموسيقية؛ وهي: المثل والجزء، والمثل والأجزاء، والضعف، والضعف والجزء، والضعف والأجزاء.
والخمسة أولو العزم من الرسل: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد - صلى الله عليه وآله وعليهم الصلاة والسلام.
والخمسة الأيام الملقب أسماؤها بالعدد في جميع اللغات؛ وهي بالعربية: الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وبالفارسية مثلها: يك شنبه، دو شنبه، سه شنبه، جهار شنبه، بنج شنبه.
والخمسة الأيام المشرفة من جملة أيام السنة الفارسية في آخر أيار ماه وأسماؤها بالفارسية: أهند كاه، اسهد كاه، اسفيد كاه، همشتر كاه، استورست كاه.
ففي كون هذه الموجودات على هذه الأعداد المخصوصة دلالة لمن كان له عقل راجح وفهم دقيق، وفطنة بأن لله تعالى ملائكة هم صفوته من خلقه وخيرته من بريته، إليهم تقع الإشارة بهذه الموجودات المقدمات المخصوصات، خلقهم لحفظ عالمه، وجعلهم سكان سمواته ومدبري أفلاكه ومسيري كواكبه ومربي نبات أرضه ورعاة حيوانه، منهم السفراء بينه وبين أنبيائه من بني آدم، فمنهم يقع الوحي والنبوات، وهم ينزلون بالبركات من السموات، ويعرجون بأعمال بني آدم وبأرواحهم، وإليهم أشار في أكثر أحكام الشريعة ومفروضات سننها مثل: الصلوات الخمس، والزكاة الخمس، والطهارة الخمس، وشرائط الإيمان الخمس، وبني الإسلام على خمس، والفضلاء من أهل بيت النبوة خمسة، ومراقي منبر النبوات خمس، وفرائض الحج خمس، والأيام المعدودات بمنى وعرفات خمسة، والحروف المستعملة في أوائل سور القرآن من واحد إلى خمسة.
وكل هذه المخمسات إشارات ودلالات على خمسة من الملائكة، مع كل واحد منهم خمسة آلاف من الملائكة إلى خمسين ألفا إلى خمسمائة ألف، وما زاد بالغا ما بلغ، وإليهم أشار في عدة آيات من سور القرآن مثل قوله: @QUR03 تنزل الملائكة والروح، @QUR05 وما نتنزل إلا بأمر ربك، وقوله تعالى: @QUR014 وما منا إلا له مقام معلوم * وإنا لنحن الصافون * وإنا لنحن المسبحون وإلى الخمسة الفاضلة من الملائكة أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «حدثني جبريل عليه السلام عن ميكائيل عن إسرافيل عن اللوح عن القلم»، فقد تبين مما ذكرنا معنى قول الحكماء الفيثاغوريين إن الموجودات بحسب طبيعة العدد.
(3) فصل في بيان نضد العالم وأنه كري الشكل
اعلم يا أخي أن الباري تعالى لما أبدع الموجودات واخترع المخترعات رتبها ونظمها وجمعها كلها في فلك واحد محيط بها من كل الجهات، كما ذكر سبحانه وتعالى بقوله: @QUR04 وكل في فلك يسبحون.
فصل
اعلم أن الفلك المحيط كري الشكل مستدير مجوف، وسائر الأفلاك في جوفه مستديرات محيط بعضها ببعض كحلقة البيض والبصل، وهي إحدى عشرة أكرة، والشمس هي في أوسط الأكر: خمس من فوق أكرتها وخمس من دون أكرتها، فالتي فوق أكرتها أكرة المريخ ثم أكرة المشتري ثم أكرة زحل ثم أكرة الكواكب الثابتة ثم أكرة المحيط، والتي دون أكرتها أكرة الزهرة ثم أكرة عطارد ثم أكرة القمر ثم أكرة الهواء ثم أكرة الأرض التي هي المركز، وهي ليست مجوفة ولكن متخلخلة لكثرة المغارات والكهوف والأهوية، وأما الكوكب فإنه أكريات مصمتات مستديرات كما بين في المجسطي بقياس هندسي.
واعلم يا أخي أن الباري جل ثناؤه جعل شكل العالم كريا؛ لأن هذا الشكل أفضل الأشكال الخمسة من المثلثات والمربعات والمخروطات وغيرها، وهو أيضا أوسعها مساحة وأسرعها حركة وأبعدها من الآفات وأقطاره متساوية ومركزه في وسطه، ويمكنه أن يدور في مكانه ولا يماس غيره إلا على نقطة وأجزاء متقاربة، ويمكنه أن يتحرك مستديرا مستقيما، ولا يمكن أن توجد هذه الخصال والصفات في غيره، وقسم الفلك اثني عشر قسما؛ لأن هذا العدد زائدة أجزاؤه أكثر من كله؛ فقد تبين مما ذكرنا أن هذا الشكل الأكري أفضل الأشكال، وأن الباري عز وجل يفعل الأحكم والأتقن، فنتج من هاتين المقدمتين أن شكل العالم مستدير، وإنما اقتضت الحكمة الإلهية والعناية الربانية أن جعل الباري جل ثناؤه شكل العالم كريا مستديرا والأفلاك والكواكب كذلك لما تبين من فضل هذا الشكل على سائر الأشكال الخمسة، وجعل أيضا حركات الكواكب والأفلاك كرية مستديرة، وذلك أن كل كوكب من السبعة يدور في فلك صغير يسمى أفلاك التداوير، وتلك الأفلاك الخارجة المراكز تدور في سطح فلك البروج المحيط بسائر الأفلاك، وهذا الفلك المحيط أيضا يدور حول الأرض في كل أربع وعشرين ساعة دورة واحدة من المشرق إلى المغرب فوق الأرض، ومن المغرب إلى المشرق تحت الأرض مثل الدولاب.
فلو لم تكن الأرض والفلك وكواكبه كريات مستديرات لما استوى هذا الدوران ولما استمرت حركات كواكبه على ما ذكرنا وبينا في هذا الوصف. وإذ قد تبين مما ذكرنا أن العالم كري الشكل مستدير، فنريد أن نبين أيضا أن تصاريف أموره الجزئيات أيضا مستديرة؛ فمن ذلك أن الأرض بما عليها من البحار والجبال والبراري والأنهار والعمران والخراب أكرة واحدة، والهواء محيط بها من جميع جوانبها وفلك القمر محيط بالهواء، كذلك أن شكل الجبال على بسيط الأرض كل واحدة قطعة قوس من محيط الدائرة، وكذلك شكل الأنهار والأودية ومحيط الأقاليم كل واحد قطعة قوس من محيط الدائرة ، وهكذا حكم جريان مياه الأنهار، فإنها تبتدئ من الأنهار في جريانها نحو البحار وتسقي القرى والسوادات، وينصب الباقي إلى البحار ويختلط بمياهها المالحة، ثم يصير بخارا ويرتفع في الهواء، ويتركب ويتكاثف ويصير غيوما وسحابا تسوقها الرياح إلى رءوس الجبال والبراري والقفار، فتمطر هناك وتسيل منها أودية وأنهار وتجري نحو البحار راجعة من الرأس، ويكون منها البخار والغيوم مثل ما كان عام أول دولاب يدور و@QUR04 ذلك تقدير العزيز العليم وهكذا حكم النبات والحيوان والمعادن، فإنها تتكون من هذه الأركان، وتنشأ وتتم وتكمل ثم تفسد وتبلى وتصير ترابا كما كانت بديا، ثم إن الله تعالى ينشئ منها ما يشاء كما بدأ أولا يعيده مرة أخرى دولابا يدور، وكذلك إذا نظرت وتأملت واعتبرت وجدت أكثر ثمار الأشجار وحبوب النبات وبذورها وأوراقها مستديرات الأشكال أو كريات أو مخروطات قريبة من الاستدارة.
وهكذا الثقب التي في أبدان الحيوان إلى الاستدارة أقرب ما تكون، وهكذا أشكال أواني الناس وأدوات الصناع وأرحيتهم ودواليبهم وآبارهم والكيزان والغضائر والقدور والأقداح والقصاع والخواتم والقلانس والعمائم والحلي والتيجان أقرب إلى التدوير.
فاعلم ذلك أيها الأخ وتفكر فيه، أعانك الله على المعرفة بحقائق الأشياء بمنه ولطفه، وصلى الله على النبي الخاتم وعلى الوصي القائم، وعلى أولاده وبنيه وعترته آباء الأئمة المهتدين وأمراء المؤمنين الموحدين وسلم تسليما، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
(تمت رسالة المبادئ العقلية وتتلوها رسالة في معنى قول الحكماء: إن العالم إنسان كبير.)
الرسالة الثالثة في معنى قول الحكماء إن العالم إنسان كبير
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
(1) فصل
اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنا قد فرغنا من ذكر مراتب المبادئ العقلية على رأي إخوان الصفاء وبينا فيها بكلام مشبع أن الوجود متقدم على البقاء، والبقاء متقدم على التمام، والتمام متقدم على الكمال، ونريد الآن أن نذكر في هذه الرسالة معنى قول الحكماء «إن العالم إنسان كبير» فنقول:
اعلم أن قول الحكماء «إن العالم إنسان كبير» وقولهم «إن الإنسان عالم صغير» يجب أن نشرح معناه لتقف على حقيقته؛ معنى ذلك أن العالم له جسم ونفس يعنون به الفلك المحيط وما يحوي من سائر الموجودات من الجواهر والأعراض، وأن حكم جسمه بجميع أجزائه البسيطة والمركبة والمولدة يجري مجرى جسم إنسان واحد أو حيوان واحد بجميع أعضاء بدنه المختلفة الصور المفننة الأشكال، وأن حكم نفسه بجميع قواها السارية في أجزاء جسمه المحركة المدبرة لأجناس الموجودات وأنواعها وأشخاصها، كحكم نفس إنسان واحد أو حيوان واحد، السارية في جميع أعضاء بدنه ومفاصل جسده، المحركة المدبرة لعضو عضو وحاسة حاسة من بدنه، وذلك قول الله تعالى: @QUR07 ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة، وإذا قلنا نحن في رسائلنا: «الجسم الكلي» فإنما نعني به جسم العالم بأسره، وإذا قلنا «النفس الكلية» فإنما نعني بها نفس العالم بأسرها، وإذا قلنا «العقل الكلي» فإنما نعني به القوة الإلهية المؤيدة للنفس الكلية، وإذا قلنا «الطبيعة الكلية» فإنما نعني بها قوة النفس الكلية السارية في جميع الأجسام المحركة المدبرة لها المظهرة بها ومنها أفعالها وآثارها، وإذا قلنا «الهيولى» فإنما نعني به الجوهر الذي له طول وعرض وعمق فهو بها جسم مطلق، وإذا قلنا «الأجسام البسيطة» فإنما نعني بها الأفلاك والكواكب والأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، وإذا قلنا «الأنفس البسيطة» فإنما نعني بها قوى النفس الكلية المحركة المدبرة لهذه الأجسام السارية فيها، وهذه القوى نسميها الملائكة الروحانيين في رسائلنا، وإذا قلنا «الأنفس الحيوانية والنباتية والمعدنية» فإنما نعني بها قوى النفس البسيطة المحركة المدبرة لهذه الأجسام المولدة السارية فيها المظهرة بها ومنها أفعالها.
فإذا قلنا «الأجسام الجزئية» فإنما نعني بها أشخاص الحيوانات والنبات والمعادن وغيرها من المصنوعات على أيدي البشر وغيرهم من الحيوان.
وإذا قلنا «الأنفس الجزئية المتحركة» فإنما نعني بها قوى النفوس الحيوانية والنباتية والمعدنية السارية في الأجسام الجزئية المحركة المدبرة لها المظهرة بها ومنها أفعالها واحدا واحدا من الأشخاص الموجودة تحت فلك القمر؛ فقد بان بهذا أن مجرى حكم العالم ومجاري أموره بجميع الأجسام الموجودة فيه، مع اختلاف صورها وافتنان أشكالها وتغاير أعراضها، يجري مجرى جسم الإنسان الواحد من الناس أو الحيوان الواحد بجميع أجزائه المختلفة الصور ومفاصله المفننة الأشكال وهيئته المتغايرة الأعراض، وأن حكم سريان قوى نفس العالم في جميع أجزاء جسمه كحكم سريان قوى نفس إنسان واحد في جميع أجزاء بدنه ومفاصل جسده.
(2) فصل
واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن العالم الذي سميناه إنسانا كبيرا، في أجزائه ومجاري أموره، أمثلة وتشبيهات دالات على مجاري أحكام العالم الذي هو إنسان صغير، فنريد أن نذكر من تلك الأمثلة طرفا ليكون أقرب لفهم المتعلمين، ومن يريد أن يفهم حكم العالم ومجاري أموره في فروع الموجودات التي في العالم من أصولها، تلك الأصول من أصول آخر قبلها إلى أن تنتهي إلى أصل يجمعها كلها، كمثل شجرة واحدة لها عروق وأغصان وعليها فروع وقضبان، وعلى تلك الفروع والقضبان أوراق وتحتها نور وثمار لها لون وطعم ورائحة، ومن وجه آخر مجاري حكم الموجودات التي في العالم، فروعها من أصولها وأصولها من أصول أخر، إلى أن تنتهي كلها إلى أصل واحد كمجرى حكم جنس الأجناس الذي تحته أنواع تسمى جنس المضاف، وتحتها أنواع تسمى أنواع المضاف، وتحت تلك الأنواع أشخاص كثيرة مختلفة الصور والأشكال والهيئات والأعراض، لا يحصي عددها إلا الله عز وجل.
ومن وجه آخر مثل هذه الموجودات الجنسية والنوعية والشخصية مع جنس الأجناس كمثل قبيلة لها شعوب، ولشعوبها بطون، ولبطونها أفخاذ، ولأفخاذها عمائر ولها عشائر وأقارب.
ومن وجه آخر مجرى حكم العالم في جميع موجوداته كمجرى حكم شريعة واحدة فيها مفروضات كثيرة، ولتلك المفروضات سنن مختلفة، ولتلك السنن أحكام متباينة، ولتلك الأحكام حدود متغايرة يجمعها كلها دين واحد لأهله مذاهب مختلفة، ولكل أهل مذهب مقالات متغايرة، وتحت كل مقالة أقاويل كثيرة مفننة.
ومن وجه آخر حكم العالم ومجاري أموره من فنون تركيب أفلاكه، واختلاف حركات كواكبه، واستحالة بعض أركانه إلى بعض، وتولد اختلاف الكائنات المختلفة الأشكال، وافتنان أجناس نباته وفنون جواهر معدنه، وسريان قوى النفس الكلية في هذه الأجسام وتحريكها إياها وتدبيرها لها وبها، ومنها كمجرى حكم دكان لصانع واحد وله فيه أدوات وآلات مختلفة الصور وله بها ومنها أفعال وحركات مفننة ومصنوعاتها مختلفات الصور والأشكال والهيئات وقوة نفسه سارية فيها كلها وحكمه جار عليها بحسب ما يليق بواحد واحد منها.
ومن وجه آخر مجاري أحكام الموجودات الجسمانية في العالم مع اختلاف صورها وأعراضها ومنافعها للنفس الكلية كمجرى حكم دار فيها بيوت وخزائن، وفي تلك الخزائن آلات وأوان وأثاث لرب الدار، وله فيها أهل وخدم وغلمان، وحكمه جار فيها وفيهم جميعا، وتدبيره لهم منتظم على أتقن ما تقتضيه السياسة الربانية والعناية الإلهية.
ومن وجه آخر حكم العالم الذي هو إنسان كبير ومجاري أموره في الأجسام الكليات والبسائط والمولدات والمركبات الجزئيات، وارتباط بعضها ببعض وإحاطة بعضها ببعض من تركيب أفلاكه ونظام كواكبه ومقادير أجرامها، وترتيب أركانه واستحالاتها وقرار معادنه واختلاف جواهرها وأنواع نباته وثبات أصولها، وحركات حيوانه وتصرفها لمعايشها وسريان قوى النفس الكلية من أولها إلى آخرها؛ كحكم مدينة حولها أسوار وفي داخلها محال وخانات ونواح فيها شوارع وطرقات وأسواق في خلالها منازل ودور فيها بيوت، وخزائن فيها أموال وأمتعة وأثاث وآلات وحوائج يملكها كلها ملك واحد له في تلك المدينة جيوش ورعية وغلمان وحاشية وخدم وأتباع، وحكمه جار في رؤساء جنده وأشراف مدينته وتناء بلده، وحكم أولئك الرؤساء والأشراف والتناء[1] جار في أتباعهم وحكم أتباعهم فيمن دونهم إلى آخره، وإن ذلك الملك يسوس تلك المدينة وأهلها على أحسنها من مراعاة أمورهم واحدا واحدا؛ صغيرهم وكبيرهم أولهم وآخرهم لا يخل بواحد منها.
فهكذا يجري حكم النفس الكلية في جميع أجزاء العالم من الأفلاك والكواكب والأركان والمولدات والمركبات والمصنوعات على أيدي البشر، كجريان حكم ذلك الملك على تلك المدينة.
وكذلك يسري حكمها في الأنفس البسيطة والجنسية والنوعية والشخصية في تصريفها لها وتحريكها وتدبيرها للموجودات الجسمانية وأجناسها وأنواعها وأشخاصها؛ صغيرها وكبيرها وأولها وآخرها وظاهرها وباطنها.
ثم اعلم أن مثل النفس الكلية كجنس الأجناس ، والأنفس البسيطة كالأنواع لها، والأنفس التي دونها كنوع الأنواع، والأنفس الجزئية كالأشخاص؛ مرتبة بعضها تحت بعض كترتيب العدد.
فالنفس الكلية كالواحد، والبسيطة كالآحاد، والجنسية كالعشرات، والنوعية كالمئات، والأنفس الجزئية الشخصية كالألوف؛ وهي التي تختص بتدبير جزئيات الأجسام والأنفس النوعية مؤيدة لها، والجنسية مؤيدة للنوعية، والنفوس البسيطة مؤيدة للجنسية.
والنفس الكلية التي هي نفس العالم مؤيدة للنفوس البسيطة، والعقل الكلي مؤيد للنفس الكلية، والباري - جل ثناؤه - مؤيد للعقل الكلي؛ فهو مبدعها كلها ومدبر لها من غير ممازجة لها ولا مباشرة، فتبارك الله أحسن الخالقين.
ثم اعلم أيها الأخ كما أن في تلك المدينة رجالا ونساء ومشايخ وشبانا وصبيانا، فمنهم أخيار وأشرار وعلماء وجهال ومصلح ومفسد، وأقوام مختلفو الطباع والأخلاق والآراء والأعمال والعادات؛ فهكذا في العالم الكبير نفوس كثيرة بسيطة كلية وجزئية مختلفات الحالات: فمنها نفوس علامة خيرة فاضلة، ومنها نفوس علامة شريرة رذلة، ومنها جاهلة شريرة، ومنها جاهلة غير شريرة.
فالنفوس العلامة الخيرية الفاضلة هي أجناس الملائكة وصالحو المؤمنين والعلماء من الجن والإنس، والعلامة الشريرة مردة الشياطين وسحرة الجن والفراعنة والدجالون من الناس، والجاهلة الشريرة أنفس السباع الضارية والجهال الأشرار من الناس، والجاهلة غير الشريرة أنفس بعض الحيوانات السليمة كالغنم والحمام وغيرها من الحيوان.
(3) فصل
إن أجساد بعض الحيوانات حبوس لنفوسها ومطامير لها، وبعضها صراط يجوزون عليه، وبعضها برزخ إلى يوم يبعثون، وبعضها أعراف لها، هم عليها واقفون.
وقد بينا هذه المعاني في رسالة أخرى، وكما أن لأهل تلك المدينة فيها مساجد وبيعا وصلوات، ولأهل العلم والدين فيها مجالس وجماعات وأعيادا وصلوات، فهكذا يجري في فضاء الأفلاك وسعة السموات للملائكة جموع وتسابيح ودعوات، كما ذكر الله تعالى: @QUR05 يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وقال الله تعالى: @QUR09 وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم. وكما أن في تلك المدينة لأهلها فيها حبوس ومطامير، عليها شرط وأعوان، فهكذا في العالم الكبير للنفوس الشريرة جهنم ونيران وهاوية، عليها ملائكة غلاظ شداد، وهو عالم الكون والفساد.
ثم اعلم أيها الأخ أنه ليس كل نفس وردت إلى عالم الكون والفساد تكون محبوسة فيه، كما أنه ليس كل من دخل الحبس يكون محبوسا فيه، بل ربما دخل الحبس من يقصد إخراج المحبوسين منه، كما أنه قد يدخل بلاد الروم من يستنقذ أسارى المسلمين، وإنما وردت النفوس النبوية إلى عالم الكون والفساد لاستنقاذ هذه النفوس المحبوسة في حبس الطبيعة الغريقة في بحر الهيولى الأسيرة في الشهوات الجسمانية.
وكما أن المحبوس إذا اتبع من دخل الحبس لإخراج خرج ونجا، كذلك من اتبع الأنبياء في شرائعهم وسننهم ومناهجهم نجا وتخلص من جهنم، وخرج من عالم الكون والفساد، ونجا وفاز ولو كان بعد حين، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يزال يخرج من النار قوم بعد قوم من أمتي بعدما دخلوها حتى لا يبقى في النار أحد ممن قال لا إله إلا الله مخلصا في دار الدنيا»، وذلك قول الله تعالى: @QUR018 وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا * ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا، وكما أن في تلك المدينة لأهلها جنانا وميادين وأنهارا وبساتين وفيها مجالس لنزهة النفوس وبهجة وسرور ولذة ونعيم.
فهكذا في فضاء الأفلاك وسعة السموات لأهلها فيها فسحة وجنان وروح وريحان ونعمة ورضوان، كما ذكر في التوراة والإنجيل والقرآن من وصف الجنان.
فافهم يا أخي هذه الإرشادات والتنبيهات، وانتبه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، وقد روي في الخبر أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنان بالنهار على رءوس أشجارها وأنهارها وأزهارها، وتأوي بالليل إلى قناديل معلقة تحت العرش، وذلك قول الله تعالى: @QUR045 ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون * يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين، وكما أن لأهل تلك المدينة فيها لأهلها صناعا وعمالا لهم أجرة وأرزاق، وفيها باعة وتجار يتعاملون بموازين ومكاييل ، ولهم مظالم وخصومات، ولهم فيها قضاة وعدول، ولهم فقه وأحكام وفصول وقضايا، وإن من سنة القضاة البروز والجلوس لفصل القضايا، في كل سبعة أيام يوم واحد، فهكذا يجري حكم النفس الكلية في الأنفس الجزئية في كل سبعة آلاف سنة مرة تعرض النفوس الجزئية لدى النفس الكلية، فتبرز النفس الكلية لفصل القضايا بينها بالحق، @QUR015 فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عمر الدنيا سبعة آلاف سنة بعثت في آخر ألف منها»، وقال: «لا نبي بعدي»، وعلى آخر هذه المدة تقوم الساعة. وإلى هذه المدة أشار بقوله تعالى: @QUR026 وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، وهذا الخطاب كان يوم الميثاق، وهو يوم العرض الأول، ويوم القيامة هو يوم العرض الثاني الكائن بينهما مدة سبعة أيام، كل يوم كألف سنة كما قال الله تعالى: @QUR08 وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون وإلى هذا اليوم أشار بقوله تعالى: @QUR011 ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون وقال: @QUR015 يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب وقال: @QUR015 كم لبثتم في الأرض عدد سنين * قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين.
وكما أن يوم الحكم يقعد القضاة ويحضرون العدول ويدعى الشهود ويحشرون هم والخصوم، وتخرج الصكوك ويفصل الحكم، فهكذا يوم عرض الحبوس يخرج الوالي ويحضر الأعوان ويخرجون المحبوسين، ونتبين براءة قوم منهم فيطلقون، وقوم تقام عليهم الحدود ويخلون، وقوم يخلدون في الحبس إلى يوم الفصل الثاني. وهكذا يوم عرض النفوس، يخرج الوالي ويخرج الدواوين ويحضر الكتاب ويدعو المنيبين للعرض وتعطى أرزاق المستحقين، ويزاد قوم وقوم ينقصون، ويثبت قوم وقوم يسقطون، وهكذا تجري حكم النفس الكلية في الأنفس الجزئية يوم الدين؛ لأن الله تعالى جعل أحكام الدنيا ومجاري أمورها أمثلة، وأشار بها إلى أحوال القيامة ومجاري أمورها، فاعتبروا يا أولي الأبصار، وتيقنوا يا أولي الألباب @QUR07 ما عندكم ينفد وما عند الله باق، وإنما ذكر الله الميزان والوزن والعدد يوم الحساب لأن النصفة بين الناس لا تتبين لهم إلا بالكيل والوزن والعدد والذرع، وهذه كلها كالموازين تعرف بها مقادير الأشياء؛ فمن أجل هذا ونضع الموازين القسط ليوم القيامة، ولم يقل ونضع الميزان، فإن توهم متوهم أن الذي وعده النبي صلى الله عليه وسلم الناس يوم القيامة من وزن الأعمال من الخير والشر، وهذه أعراض لا تثبت وتتبين، فكيف يكون وزنها؛ فليعلم أن الوزن إنما يحتاج إليه ليعلم مقدار الشيء ليقابل بمثله أو يزداد عليه أو ينقص منه، وهذا المعنى شائع في الأعراض، جار فيها مثل العروض الذي هو ميزان الشعر الذي به يعرف استواؤه وزائده وناقصه.
والشعر عرض من الأعراض، ومثل البنكان والإسطرلاب وأمثالها من الآلات يعرف بها مقادير الزمان من الزيادة والنقصان والاستواء، والزمان عرض من الأعراض، ومثل الذراع الذي يعرف به الطول والقصر والبعد والقرب والكبر والصغر، وهي أعراض كلها، ومثل المسطرة والبركار يعرف بهما الاستواء والاعوجاج وهما عرضان، ومثل الصنجات والأرطال يعرف بهما الثقل والخفة والزيادة والنقصان، وهي أعراض كلها، فالذي ينكره المتوهم أن يكون لأعمال الخير والشر ميزان يعرف به مقدار الخير والشر وله قوم يعرفون كيفية وزن الأعمال وهي صناعتهم، كما أن لتلك الموازين التي ذكرنا، لكل واحد منها قوم هي صناعتهم، وإخواننا الفضلاء هم أهل هذه الصناعة وإليها ندعو إخواننا الباقين.
(تمت الرسالة، وبعد هذه زيادة لم توجد في سائر النسخ ولعلها زيدت من رسائل متقدمة.)
(4) فصل في أن العالم بأسره كرة تنفصل إحدى عشرة طبقة
اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن العالم بأسره كرة واحدة تنفصل إحدى عشرة طبقة؛ تسع منها هي أفلاك كريات مجوفات مشفات وكواكبها أيضا كلها كريات مستديرات مضيئات، وحركتها كلها دورية، وذلك أن الفلك المحيط بجميع ما يحوي من الأفلاك والكواكب يدور حول الأرض في كل أربع وعشرين ساعة دورة واحدة، وكذلك كل كوكب يدور في فلك مختص به أو دائر حركة دورية في زمان معلوم، وكلما دارت دورة استأنفت ثانية كما وصفنا في رسالة مدخل النجوم ورسالة السماء والعالم ورسالة الأدوار والأكوار، ودون فلك القمر كرتان إحداهما النار والهواء، والأخرى الماء والأرض، وكل واحدة منها كرية الشكل، محيطات أواخرها متصلة بأوائلها، بيان ذلك أن النار متصل أولها بفلك القمر وآخرها بطبيعة الزمهرير، والزمهرير آخره متصل محيط بالماء والأرض كما ذكرنا في رسالة الآثار العلوية، وأما الأرض بجميع جبالها وبحارها فهي كرة واحدة، فإذا اعتبر شكل الجبال والأنهار على بسيط الأرض وتأمل، تبين أن كل واحد منها كأنه قطعة قوس من محيط الدائرة، وأما أشكال البحار فكل واحد كأنه قشر من سطح جسم كري.
فصل
وهكذا أحوال الكائنات إذا اعتبرت وتأملت تبين أن أكثرها كريات الشكل ومستديرات؛ من ذلك أن أكثر الأشجار وأوراقها وحب النبات ونوارها كريات الأشكال ومستديرات، وهكذا أكثر مصنوعات البشر كما بينا في رسالة الهندسة، وأما أحوالها فدائرة أيضا بعطف أوائلها على أواخرها مثل دوران الزمان من الشتاء إلى الربيع، ومن الربيع إلى الصيف، ومن الصيف إلى الخريف، ومن الخريف إلى الشتاء، وهكذا دوران الليل والنهار حول كرة الأرض كما بينا في رسالة الهيولى.
وكذلك الحكم في دوران مياه الأنهار والبحار والغيوم والأمطار، فإنها كالدولاب الدائر، وذلك أن الغيوم والسحاب تنشأ من البخار الصاعد من البحار والأنهار، وتسوقها الرياح إلى القفار ورءوس الجبال، وتمطر هناك فتجتمع السيول إلى الأودية والأنهار، فتذهب راجعة إلى البحار ثم تصعد ثانية، وذلك تقدير العزيز العليم. وكذلك حال النبات وتكوينه من التراب والماء والنار والهواء، ورجوعه إليها في دورانها كالدولاب، وذلك أن النبات يبدو وينشأ ويتم ويكمل، حتى إذا بلغ إلى أقصى غاياته ومنتهاها رجع عند البلى والفساد إلى ما تكون منه، وبيان ذلك أن النبات يمتص بعروقه لطائف الأركان ويصير منه ورق وثمار يتناولها الحيوان بالاغتذاء فتستحيل في بعض أبدانه لحما ودما، وبعضها ثقلا وسمادا ، ويرد إلى أصول النبات ليغتذي منه ويصير حبا وثمارا ثانيا ويتناوله الحيوان أيضا، فإذا تأمل هذا من حالها وجد كأنه دولاب دائر.
وأما أجسام الحيوان فإنها كلها تعود إلى التراب وتبلى وتصير ترابا، ويكون منها ثانيا النبات ومن النبات حيوان كما بينا قبل، فإذا تأمل ذلك أيضا وجد كأنه دولاب يدور، وأما أحوال البشر إذا اعتبرت فكلها دائرة كالدواليب؛ وذلك أن الإنسان يبتدئ كونه من النطفة ثم ينشأ وينمو ويتم ويبلغ إلى أن يتولد منه النطفة فينتهي العود إلى حيث خرج لقضاء شهوته ونتاج مثله؛ وكذلك بدء كونه ناقص القوة ضعيف البنية ثم يرتقي ويتزايد إلى أن يبلغ أشده، ثم يأخذ في الانحطاط والنقص إلى أن يرد إلى أرذل العمر، كما كان بديا، وكما ذكر سبحانه فقال: @QUR042 ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين * ثم إنكم بعد ذلك لميتون، وكما قال سبحانه: خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا.
(5) فصل في أن للموجودات نظاما في الوجود والبقاء
واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن لهذه الموجودات التي تحت فلك القمر نظاما وترتيبا أيضا في الوجود والبقاء، وهي مرتبة بعضها تحت بعض، متصل أواخرها بأوائلها كترتيب العدد وترتيب الأفلاك.
بيان ذلك أنه لما كان ترتيب أجزاء العالم محيطات بعضها ببعض، وهي إحدى عشرة كرة، تسع منها في عالم الأفلاك، أولها من لدن فلك المحيط وآخرها إلى منتهى فلك القمر، وأواخرها متصلة بأوائلها كما بينا في رسالة السماء والعالم، وكان اثنان منها دون فلك القمر، وهي كرة النار والهواء وكرة الماء والأرض، وهي مقسومة على أربع طبائع؛ أولها الأثير وهو نار ملتهبة دون فلك القمر، ودونه الهواء وهو جسم سيال، ودونه الزمهرير والبرد المفرط، ودونه الماء المفرط: الرطوبة، ودون الأرض المفرطة اليبس.
وهذه الأربعة محفوظة كلياتها في مراكزها، ومتصلة أواخرها بأوائلها، مستحيلة جزئياتها بعضها إلى بعض، كما بينا في رسالة الكون والفساد.
فأما الكائنات منها التي هي جزئياتها فهي المعادن والنبات والحيوان، ولها نظام وترتيب، متصل أواخرها بأوائلها كترتيب الأفلاك والأركان، بيان ذلك أن المعادن متصلة أوائلها بالتراب وأواخرها بالنبات أيضا، والنبات متصل آخره بالحيوان، والحيوان متصل آخره بالإنسان، والإنسان متصل آخره بالملائكة، والملائكة أيضا لها مراتب ومقامات متصلة أواخرها بأوائلها، كما بينا في رسالة الروحانيات. ونريد أن نذكر في هذا الفصل مراتب الكائنات من الأركان الأربعة التي هي المعادن والنبات والحيوان، فنقول: إن المعادن إذا تأملت وجدت إما مما يلي التراب فهو الجص، وإما مما يلي الماء فهو الملح؛ وذلك أن الجص هو تراب رملي يقبل الأمطار ثم ينعقد ويصير جصا، وأما الملح فإنه ماء يمتزج بالتربة السبخة ثم ينعقد فيصير ملحا.
وأما أواخر المعادن مما يلي النبات فهو الكمأة والفطر وما شاكل ذلك؛ وذلك أن هذا الجنس من الكائنات يتكون في التراب كالمعدن، ثم ينبت في المواضع الندية في أيام الربيع من الأمطار كما ينبت النبات، ولكن من أجل أنه ليس له ثمرة ولا ورقة ويتكون في التراب كما تتكون الجواهر المعدنية وعلى أشكالها صار يشبه المعادن، ومن جهة أخرى يشبه النبات.
فأما باقي أنواع الجواهر المعدنية ففيما بين هذين الحدين - أعني الجص والكمأة - وقد بينا في رسالة أنواعها وأجناسها وخواصها ومنافعها.
وأما النبات فأقول إن هذا الجنس من الكائنات متصل أوله بالمعدن، كما بينا في رسالة المعادن، وآخره بالحيوان أيضا؛ بيان ذلك أن أول مرتبة النباتية وأدونها مما يلي التراب - وهو خضراء الدمن - ليس بشيء سوى غبار يتلبد على الأرض والصخور والأحجار، ثم يصيبه بلل الأمطار وندا الليل فتصبح بالغداوات خضراء كأنها نبت زرع وحشائش، فإذا أصابها حر الشمس نصف النهار رجعت، ثم تصبح من غد مثل ذلك من نداوة الليل وطيب النسيم، ولا تنبت الكمأة ولا خضراء الدمن إلا في أيام الربيع في البقاع المتجاورة لتقارب ما بينهما؛ لأن هذا معدنه نباتي، وذلك نبات معدني.
فصل
وأما النخل فهو آخر مرتبة النباتية مما يلي الحيوانية؛ وذلك أن النخل نبات حيواني لأن بعض أفعاله وأحواله مبائن لأحوال النبات وإن كان جسمه نباتا؛ بيان ذلك أن القوة الفاعلة فيه منفصلة من القوة المنفعلة.
والدليل على ذلك أن أشخاص الفحولة منه مباينة لأشخاص الإناث، وللفحولة من أشخاصه لقاح في إناثها كما يكون ذلك في الحيوان.
وأما سائر النبات فإن القوة الفاعلة منه ليست بمنفصلة من المنفعلة بالشخص بل بالفعل حسب كما بينا في رسالة النبات.
وأيضا فإن النخل إذا قطعت رءوسها جفت وبطل نموها ونشوءها وماتت، وكذلك موجود في الحيوان، فهذا الاعتبار يبين أن النخل نبات بالجسم حيوان بالنفس؛ إذ كانت أفعاله أفعال النفس الحيوانية وشكل جسمه شكل نباتي.
وفي النبات نوع آخر فعله أيضا فعل النفس الحيوانية، ولكن جسمه جسم نباتي وهو الكثوث؛ وذلك أن هذا النوع من النبات ليس له أصل ثابت في الأرض كما يكون لسائر النبات ولا له أوراق كأوراقها، بل إنما يلتف على الأشجار والزروع والشوك، فيمتص من رطوبتها ويتغذى كما يفعل الدود الذي يدب على ورق الأشجار وقضبان النبات ويقرضها فيأكلها، ويتغذى هذا النوع من النبات، وإن كان جسمه يشبه النبات فإن فعل نفسه فعل الحيوان، فقد بان مما وصفنا أن آخر رتبة النباتية متصل بأول الحيوانية، وأما سائر مراتب مرتبة النباتية ففيما بين هذين.
(6) فصل في أن أول مرتبة من الحيوانية متصلة بآخر النبات
واعلم يا أخي بأن أول مرتبة من الحيوانية أيضا متصلة بآخر النبات، كما أن أول النباتية متصل بآخر المعدنية، وأول المعدنية متصل بالتراب والماء، كما بينا قبل.
فأدون الحيوان وأنقصه هو الذي ليس له إلا حاسة واحدة فقط؛ وهو الحلزون، وهي دودة في جوف أنبوبة تنبت تلك الأنبوبة على الصخر الذي في سواحل البحار وشطوط الأنهار، وتلك الدودة تخرج نصف شخصها من جوف تلك الأنبوبة وتنبسط يمنة ويسرة تطلب مادة يتغذى بها جسمها، فإذا أحست برطوبة ولين انبسطت إليه، فإن أحست بخشونة أو صلابة انقبضت وغاصت في جوف تلك الأنبوبة حذرا من مؤذ لجسمها أو مفسد لهيكلها، وليس لها سمع ولا بصر ولا شم ولا ذوق إلا اللمس فحسب، وهكذا أكثر الديدان التي تتكون في الطين في قعور البحار وأعماق الأنهار ليس لها سمع ولا بصر ولا ذوق ولا شم؛ لأن الحكمة الإلهية لا تعطي الحيوان عضوا لا يحتاج في جر المنفعة أو دفع المضرة؛ لأنه لو أعطاها ما لا تحتاج إليه كان وبالا عليها في حفظها لبقائها، فهذا النوع حيوان نباتي لأنه ينبت جسمه كما ينبت بعض النبات، ويقوم على ساقه قائما، وهو من أجل أنه يحركه حركة اختيارية حيواني، ومن أجل أنه ليست له إلا حاسة واحدة فهو أنقص الحيوانات رتبة في الحيوانية.
أما تلك الحاسة فقد شارك بها النبات؛ وذلك أن النبات له حس اللمس حسب، والدليل على ذلك إرساله العروق نحو النهر في المواضع الندية وامتناعه عن إرسالها نحو الصخور واليبس وأيضا، فإنه متى اتفق منبته في مضيق مال وعدل عنه طالبا للفسحة والسعة، فإن كان فوقه سقف يمنعه من الذهاب علوا وترك له ثقب من جانب مال إلى نحو تلك الناحية التي إذا طال طلع من هناك، وهذه الأفعال تدل على أن له حسا وتمييزا بمقدار الحاجة. فأما حس الألم فليس للنبات؛ وذلك لأنه لم يلق بالحكمة الإلهية أن تجعل للنبات ألما وهي لم تجعل له حيلة الدفع، كما جعلت للحيوان، وذلك أن الحيوان لما جعل له أن يحس بالألم جعلت له أيضا حيلة الدفع؛ إما بالفرار والهرب، وإما بالتحرز، وإما بالممانعة. فقد بان مما وصفنا كيفية مرتبة الحيوانية مما يلي النبات، فنريد أن نذكر ونبين كيفية مرتبة الحيوانية مما يلي الإنسانية - ليست من وجه واحد ولكن من عدة وجوه - وذلك أن رتبة الإنسانية لما كانت معدن الفضائل وينبوع المناقب لم يستوعبها نوع واحد من الحيوان، ولكن عدة أنواع؛ فمنها ما قارب رتبة الإنسانية بصورة جسده مثل القرد، ومنها بالأخلاق النفسانية كالفرس في كثير من أخلاقه وكالطائر الأنسي أيضا، ومثل الفيل في ذكائه وكالببغاء والهزار ونحوهما من الأطيار الكثيرة الأصوات والألحان والنغمات، ومثل ذلك النحل اللطيف الصنائع إلى ما شاكل هذه الأجناس؛ وذلك أنه ما من حيوان يستعمله الناس أو يأنس بهم إلا وله في نفسه شرف وقرب من نفس الإنسانية.
فأما القرد فلقرب شكل جسده من شكل جسد الإنسان صارت نفسه تحاكي أفعال النفس الإنسانية، وذلك منه متعارف بين.
وأما الفرس الكريم فإنه قد بلغ من كرم أخلاقه أن صار مركبا للملوك، وذلك أنه ربما بلغ من حسن أدبه ألا يبول ولا يروث ما دام بحضرة الملك أو حامله.
وله أيضا مع ذلك ذكاء وإقدام في الهيجاء وصبر على الطعن والجراح، كما يكون للرجل الشجاع كما وصف الشاعر حيث يقول:
وإذا شكى مهري إلي جراحه
عند اختلاف الطعن قلت له اقدما لما رآني لست أقبل عذره
عض الصميم على اللجام وحمحما
وأما الفيل فإنه يفهم الخطاب بذكائه، ويمتثل الأمر والنهي كما يمتثل الرجل العاقل المأمور المنهي. وهذه الحيوانات في آخر مرتبة الحيوانية مما يلي رتبة الإنسان لما يظهر منها من الفضائل الإنسانية.
وأما باقي أنواع الحيوانات ففيما بين هاتين المرتبتين، وإذ قد فرغنا من ذكر مراتب الحيوانية مما يلي رتبة الإنسانية، فينبغي أن نذكر أول مرتبة الإنسانية مما يلي الحيوانية.
(7) فصل
اعلم يا أخي أن أدون رتب الإنسانية مما يلي الحيوانية هي رتبة الذين لا يعلمون من الأمور المحسوسات ولا يعرفون من الخيرات إلا الجسمانيات، ولا يطلبون إلا إصلاح الأجساد ولا يرغبون إلا في الدنيا، ولا يتمنون إلا الخلود فيها مع علمهم أنهم لا سبيل لهم إلى ذلك! ولا يشتهون من اللذات إلا الأكل والشرب مثل البهائم، ولا يتنافسون إلا في الجماع والنكاح كالخنازير والحمير، ولا يحرصون إلا في جمع الذخائر متاع الحياة الدنيا، يجمعون ما لا يحتاجون إليه كالنمل، ويخبئون ما لا ينتفعون به كالعقائق، ولا يعرفون من الزينة إلا صباغ اللباس كالطواويس، يتهارشون على حطام الدنيا كالكلاب على الجيف، وإن كانت صورتهم الجسدانية صورة الإنسان فإن أفعال نفوسهم أفعال النفوس الحيوانية والنباتية.
فصل
اعلم أيها الأخ ما علمت واعمل بما أودعت، أعاذك الله أيها الأخ البار الرحيم من نزغات الشيطان الرجيم، ووفقك الله وإيانا وجميع إخواننا بمنه الكريم.
(تمت رسالة معنى قول الحكماء «إن العالم إنسان كبير»، ويليها رسالة العقل والمعقول.)
الرسالة الرابعة من النفسانيات العقليات في العقل والمعقول
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
اعلم أيها الأخ، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنا قد فرغنا من بيان قول الحكماء «إن العالم إنسان كبير»، وأوردنا المثالات والإشارات والتشبيهات حسب ما جرت عادة إخواننا الكرام قد سبق منا ذكر المبادئ العقلية وبينا فيه كيفية اختراع الموجودات وتكوين المخلوقات، وكذلك قد سبق منا في رسالة الحاس والمحسوس بينا أن المحسوسات كلها أعراض جسمانية وهي كلها في الهيولى الجسماني، وأن إدراك النفس لها بطريق الحواس بقوتها الحاسة، وأن الحواس كلها آلات جسدانية، وأن الحس هو تغيير مزاج تلك الحواس عند مباشرة المحسوسات لها، وأن الإحساس هو شعور القوى الحساسة بتغيير تلك الأمزجة، فنريد أن نذكر في هذه الرسالة الملقبة بالعقل والمعقول ونبين أن المعقولات أيضا كلها صور روحانية تراها النفس في ذاتها وتعاينها في جوهرها بعد مشاهدتها لها في الهيولى بطريق الحواس إذا هي انتبهت من نوم الغفلة ورقدة الجهالة ونظرت بعين البصيرة إلى نور العقل واستضاءت بضيائه وتجملت ببهائه.
واعلم يا أخي أن العقل اسم مشترك يقال على معنيين: أحدهما ما تشير به الفلاسفة إلى أنه أول موجود اخترعه الباري جل وعز، وهو جوهر بسيط روحاني محيط بالأشياء كلها إحاطة روحانية، والمعنى الآخر ما يشير به جمهور الناس إلى أنه قوة من قوى النفس الإنسانية التي فعلها التفكر والروية والنطق والتمييز والصنائع وما شاكلها ، فنريد أن نتكلم في هذه القوة ونبين أقسامها ونصف أفعالها وكيفية إدراكها صور المعلومات في ذاتها وجوهرها.
واعلم يا أخي أنه لما كان العقل الذي نحن في ذكره قوة من قوى النفس الإنسانية هي أيضا قوة من قوى النفس الكلية، والنفس الكلية هي فيض فاض من العقل الكلي الذي هو أول فيض فاض من الباري جل وعز، وهي كلها تسمى موجودات أولية احتجنا أن نذكر أولا أقسام الموجودات وما معنى الموجود، ومعنى الوجود والعدم وطرق العلم بها.
واعلم يا أخي أن لفظة الموجود مشتقة من وجد يجد وجدانا، فهو واجد وذاك موجود، فالموجود يقتضي الواجد؛ لأنهما من جنس المضاف، وقد بينا معنى جنس المضاف في رسالة المنطق.
واعلم أن كل واجد من البشر شيئا، إذا وجد شيئا، فإن وجدانه له لا يخلو من إحدى الطرق الثلاث: إما بإحدى القوى الحساسة كما بينا في رسالة الحاس، وإما بإحدى القوى العقلية التي هي الفكرة والروية والتمييز والفهم والوهم الصادق والذهن الصافي، وإما بطريق البرهان الضروري كما بينا في رسالة البراهين التي هي طريق الاستدلال، وليس إلى الإنسان طريق إلى المعلومات غير هذه.
وأما معنى العدم فهو ما يقابل كل نوع من هذه الطرق الثلاث، فيقال معدوم من درك الحس له، ومعدم من تصور العقل، ومعدوم من إقامة البرهان عليه. وأما علم الباري جل ثناؤه بالأشياء فليس من هذه الطرق الثلاث بل أشرف وأعلى من هذه كلها؛ وذلك أنه لا يقال للباري سبحانه إنه واجد للأشياء، بل يقال إنه موجد ومحدث ومخترع ومبدع ومبق ومتمم ومكمل.
واعلم أيها الأخ إنما علم الإنسان بالباري عز وجل ووجدانه له بإحدى طريقتين؛ إحداهما عموم والأخرى خصوص: فالعموم هي المعرفة الغريزية التي في طباع الخليقة أجمع بهويته؛ وذلك أن الناس كلهم، العالم والجاهل والخير والشرير والمؤمن والكافر، كلهم يفزعون عند الشدائد إلى الله ويستغيثون به ويتضرعون إليه، حتى البهائم أيضا في سني الجدب ترفع رءوسها إلى السماء تطلب الغيث، فهذا العلم منهم يدل على معرفتهم بهويته.
وأما معرفة الخصوص فهي بالوصف له والتجريد والتنزيه والتوحيد، وهي التي بطرق البرهان، ويختص بها فضلاء الناس؛ وهم الأنبياء والأولياء والحكماء والأخيار والأبرار كما وصفهم، فقال في محكم تنزيله: @QUR04 سبحان الله عما يصفون، @QUR04 إلا عباد الله المخلصين وهي معرفة ضرورية.
واعلم يا أخي بأن الموجودات كلها التي أوجدها الباري سبحانه وتعالى، بأي طريق كان وجدانها، ليست تخلو من أن تكون جواهر أو أعراضا أو مجموعا منهما، هيولى أو صورة أو مركبا منهما، عللا أو معلولات، أو مشارا إليهما جسمانيا روحانيا أو مقرونا بينهما، بسيطا أو مركبا أو جملتهما. ولما كانت هذه الأقسام محتوية على الموجودات كلها احتجنا أن نبين نفس معاني هذه الألفاظ الغامضة التي تاه فيها أكثر العلماء عن الوقوف على حقائق معانيها.
واعلم يا أخي بأن الموجودات كلها صور وأعيان غيريات أفاضها الباري عز وجل على العقل الذي هو أول موجود جاد به الباري وأوجده، وهو جوهر بسيط روحاني فيه جميع صور الموجودات غير متراكمة ولا متزاحمة، كما يكون في نفس الصانع صور المصنوعات قبل إخراجها ووضعها في الهيولى وهو فائض تلك الصور على النفس الكلية دفعة واحدة بلا زمان، كفيض الشمس نورها على الهواء. وأن النفس قابلة لتلك الصورة تارة وفائضة على الهيولى تارة، كما يقبل القمر نور الشمس تارة ويفيض على الهواء تارة. وأن الهيولى قابلة لتلك الصور من النفس الكلية شيئا بعد شيء على التدريج بالزمان، كما يقبل الهواء نور القمر في وقت دون وقت ومن مسامتة دون مسامتة، كما يقبل التلميذ من الأستاذ شيئا بعد شيء.
واعلم يا أخي أن صور الموجودات كلها يتلو بعضها بعضا في الحدوث والبقاء عن العلة الأولى التي هي الباري عز وجل، كما يتلو العدد أزواجه أفراده بعضها بعضا في الحدوث والنظام عن الواحد الذي قبل الاثنين. ثم اعلم أن هذه الألفاظ كلها ألقاب وسمات يشار بها إلى الصور ليميز بين إضافات بعضها إلى بعض، كما يميز بين الأعداد بالألفاظ؛ وذلك أن الصورة الواحدة تارة تسمى هيولى وتارة تسمى جوهرية وتارة تسمى عرضية، وتارة بسيطة وتارة مركبة، وتارة روحانية وتارة جسمانية، وتارة علة وتارة معلولة، وما شاكل هذه الألفاظ، كما يسمى العدد الواحد تارة نصفا وتارة ضعفا وتارة ثلثا وتارة ربعا، وتارة غير ذلك لإضافة بعضها إلى بعض؛ مثال ذلك أيضا أن القميص هو أحد الموجودات الجسمانية الصناعية المدركة بالحس، وماهيته أنه صورة في الثوب والثوب هيولى لها، وماهية الثوب أيضا أنها صورة في الغزل والغزل هيولى لها، والغزل أيضا ماهيته أنه صورة في القطن والقطن هيولى لها، والقطن أيضا ماهيته أنه صورة في النبات والنبات هيولى لها، والنبات أيضا ماهيته أنه صورة في الأجسام الطبيعية التي هي النار والهواء والماء والأرض، وكل واحد منها أيضا صورة في الجسم المطلق كما بينا في رسالة الكون والفساد، والجسم المطلق أيضا صورة في الهيولى الأولى كما بينا في رسالة الهيولى، والهيولى الأولى هي صورة روحانية فاضت من النفس الكلية، والنفس الكلية أيضا هي صورة روحانية فاضت من العقل الكلي الذي هو أول موجود أوجده الباري عز وجل كما بينا في رسالة المبادئ العقلية.
فقد بان لك بهذا المثال أن الموجودات كلها صور متعلقة حدوثها وبقاؤها يتلو بعضها بعضا إلى أن تنتهي إلى المبدع الأول الذي هو الباري عز وجل، كتعلق حدوث العدد أزواجه وأفراده عن الواحد الذي قبل الاثنين.
واعلم يا أخي أن هذه الصور كل واحدة منها مقومة لشيء، إما جوهرية له متممة لشيء آخر أو عرضية له، والفرق بينهما أن الصورة الجوهرية المقومة للشيء هي التي إذا انخلعت عن الهيولى بطل وجدان الشيء، والصورة العرضية المتممة هي التي إذا انخلعت عن الهيولى لم يبطل وجدان الهيولى. مثال ذلك أن الخياطة هي صورة مقومة لذات القميص جوهرية له؛ لأنها بها يكون الثوب قميصا ومتممة للثوب عرضية فيه؛ بيان ذلك أنه إذا انخلعت الخياطة عن الثوب بطل وجدان القميص ولم يبطل وجدان الثوب، وهكذا النساجة صورة في الثوب جوهرية ومقومة له وعرضية في الغزل ومتممة له، فإذا انسلت صورة الثوب التي هي النساجة بطل وجدان الثوب ولم يبطل وجدان الغزل، وهكذا الفتل في الغزل صورة جوهرية مقومة لذات الغزل وعرضية متممة لذات القطن، فإذا نكث الغزل من إبرامه بطل وجدان القطن، وهكذا صورة الزئير[1] جوهرية في القطن مقومة له عرضية في النبات متممة له، فإذا بطل الزئير بطل وجدان القطن ولم يبطل وجدان الجسم النباتي، وهكذا إذا بطلت صورة النبات صار ترابا أو نارا أو ماء أو هواء، فإذا أطفئت النار صارت هواء، والهواء أحد أجسام الطبيعة، وعلى هذا القياس إذا انخلعت صورة من صور الأركان الأربعة بطل أن يكون موجودا ذلك الركن ولكن لم يبطل أن يكون جسما، وإذا انخلعت الصورة الجسمية من الهيولى الأولى لم تبطل الهيولى أن تكون جوهرا بسيطا معقولا، وإن بطلت الهيولى لم تبطل النفس، وإن بطلت النفس لم يبطل العقل، وإن بطل العقل لم يبطل المبدع الأول الذي هو الباري جل وعز، ومثال هذا من العدد أن العشرة هي صورة واحدة ترتبت فوق التسعة، فإذا أسقط الواحد منها بطلت صورة العشرة ولم تبطل صورة التسعة، وإن أسقط من التسعة واحد بطلت صورة التسعة ولم تبطل صورة الثمانية، وعلى هذا القياس تنحل صورة العدد واحدا واحدا إلى أن ينتهي إلى اثنين الذي هو أول العدد، وإذا أخذ منها واحد بطلت صورة الاثنين أيضا، وأما الواحد الذي هو قبل الاثنين فلا يمكن أن يؤخذ منه شيء؛ لأن صورته من ذاته، وهو أصل العدد ومنشؤه، وإليه يرجع العدد عند التحليل، كما منه نشأ عند التركيب.
فقد بان بهذا المثال أن الموجودات كلها صور غيريات، وهي أعيان الأشياء، وأنها متتاليات في الحدوث والبقاء كتتالي العدد من الواحد ... وأنها كلها من الله مبدؤها وإليه مرجعها، كما ذكر في كتابه على لسان نبيه فقال: @QUR04 إلى الله مرجعكم جميعا، وقال: @QUR04 وإلى الله ترجع الأمور، وقال الله تعالى: @QUR05 كما بدأنا أول خلق نعيده، كما أن العدد إلى الواحد ينحل، كما أن منه تركب في الأصل حسب ما بينا، كذلك الموجودات كلها مرجعها ومصيرها إلى الله الواحد الأحد.
(1) فصل في أن الموجودات نوعان جسماني وروحاني
فاعلم يا أخي أن الموجودات كلها نوعان: جسماني وروحاني؛ فالجسماني ما يدرك بالحواس، والروحاني ما يدرك بالعقل ويتصور بالفكر.
فأما الجسماني فهو على ثلاثة أنواع: منها الأجرام الفلكية، ومنها الأركان الطبيعية، ومنها المولدات الكائنة.
والروحاني أيضا على ثلاثة أنواع: منها الهيولى الأولى الذي هو جوهر بسيط منفعل معقول قابل لكل صورة، والثاني النفس التي هي جوهرة بسيطة فعالة علامة، والثالث العقل الذي هو جوهر بسيط مدرك حقائق الأشياء.
وأما الباري جل وعز فليس يوصف لا بالجسماني ولا الروحاني، بل هو علتها كلها، كما أن الواحد لا يوصف بالزوجية ولا الفردية بل هو علة الأزواج والأفراد من الأعداد جميعا.
واعلم أن الموجودات كلها علل ومعلولات، فنبدأ أولا بذكر العلل الجسمانية لأنها أقرب لفهم المتعلمين وأسهل على المبتدئين بالنظر في العلل والمعلومات الروحانية.
واعلم أن الموجودات الجسمانية لكل واحد منها أربع علل: علة فاعلة، وعلة صورية، وعلة تمامية، وعلة هيولانية؛ مثال ذلك السرير فإنه أحد الموجودات الجسمانية له أربع علل: فعلته الفاعلة النجار، والهيولانية الخشب، والصورية التربيع، والتمامية القعود عليه؛ وهكذا السكين فإن علتها الفاعلية الحداد، والهيولانية الحديد، والصورية الشكل الذي هو عليه، والتمامية ليقطع به اللحم أو الحبل أو شيء ما آخر. وعلى هذا القياس - إذا اعتبر - وجد لكل شخص من الأجسام الموجودة هذه العلل الأربع.
وأما الجسم المطلق فعلته الهيولانية هو الجوهر البسيط الذي قبل الطول والعرض والعمق فصار بها جسما، وعلته الفاعلية هو الباري عز وجل، وعلته الصورية العقل لأن الطول والعرض والعمق إنما هي صورة عقلية، وعلته التمامية هي النفس لأن الهيولى من أجلها خلق وموضوع لها لكيما تفعل فيه، ومنه ما يعمل ويصنع ليتم الهيولى ويكمل النفس الذي هو الغرض الأقصى في رباط النفس مع الهيولى كما بينا في رسالة المبادئ.
وأما الهيولى الأولى الذي هو جوهر بسيط روحاني فله ثلاث علل: الفاعلية وهو الباري عز وجل، والصورية وهو العقل، والتمامية وهي النفس.
وأما النفس فلها علتان : وهما الباري عز وجل والعقل؛ فالباري علتها الفاعلة المخترعة لها، والصورية هي العقل الذي يفيض عليها ما يقبل من الباري عز وجل من الفضائل والخير والفيض.
وأما العقل فله علة واحدة فاعلة الذي هو الباري عز وجل، الذي أفاض عليه الوجود والتمام والبقاء والكمال دفعة واحدة بلا زمان.
أردنا بالعلة الفاعلة أنه أبدعه بلا واسطة، فهذا العقل هو الذي أشار إليه بقوله في كتابه على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر أو هو أقرب، وإليه أشار بقوله سبحانه: @QUR014 ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا، وقال: @QUR08 ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين؛ فالخلق هو الأمور الجسمانية، والأمر هو الجواهر الروحانية.
واعلم يا أخي أن أكثر أهل العلم ظنوا أن الموجودات ليست إلا نوعين حسب: أحدهما الباري عز وجل، والآخر الجسم وما يحله من الأعراض، وليست لهم خيرة بالجواهر الروحانية والصور المجردة؛ ومن أجل هذا نسبوا كل ما يظهر من الأفعال والصنائع والعلوم والحكم على أيدي البشر باختياراتهم، وما يظهر من الحيوانات من الأفعال الطبيعية إلى الجسم المؤلف من اللحم والدم على بينة مخصوصة، وإلى أعراض حية فيها بزعمهم مثل الحياة والقدرة والعلم وما شاكلها، ولا يدرون أن مع الجسد جوهرا آخر هو المحرك له والمظهر به ومنه أفعاله.
فأما الذي يظهر في الأجسام من الأفعال الطبيعية التي لا يمكنهم أن ينسبوها إلى الحيوان، مثل إحراق النار لأجسام الحيوان والنبات، ومثل ما يستحيل في أجوافها من الغذاء إلى الروث والسرقين،[2] ومثل ما يظهر في طباعها من السرور، وما شاكله من الأفعال الطبيعية؛ نسبوها كلها إلى الباري جل ثناؤه، ومنهم من نزه الباري سبحانه عن ذلك ونسبها إلى البخت والاتفاق، ومنهم من نسبها إلى الطبيعة ولا يدري ما الطبيعة! ومنهم من يعللها بعلل مستمرة، ووقع بينهم في ذلك من التنازع والتناقض ما يطول شرحه.
وأما الحكماء والنجباء الراسخون في العلم، فإنهم شاهدوا بصفاء نفوسهم ونور عقولهم جواهر أخر غير جسمانية علامة بقوتها، سارية في الأجسام بلطافتها، فعالة فيها برويتها، هي جند الله ولب الخليقة؛ نسبوا هذه الأفعال الطبيعية إليها، ونزهوا الباري سبحانه عنها إلا ما يليق به من الحكمة والسياسة والتدبير.
واعلم يا أخي أن الحكماء الذين عرفوا الجواهر الروحانية إنما وصلوا إلى معرفتها بعد اعتبار حال الجسم والأعراض التي تحله؛ وذلك أن الجسم من حيث هو جسم ليس بفاعل ولا متحرك، بل هيولى، منفعل قابل للصورة والأعراض الحالة فيه، وكذلك الأعراض التي تحل الجسم لا فعل لها؛ لأنها أنقص حالا من الجسم إذ كان لا وجود لها إلا بتوسط الجسم.
وأما الحياة والقدرة والعلم وما شاكلها، التي زعموا أنها أعراض حالة في الجسم وبها يفعل هذه الأفعال - وها هنا وقع اللبس - فإنها ليست هي أعراضا جسمانية، بل هي أعراض روحانية توجد في بعض الأجسام بمقارنة النفس إياها لها، وتفقد عند مفارقتها إياها.
فصح بهذا الاعتبار أن مع الأجسام الحيوانية جواهر أخرى غير جسمانية؛ هي الفعالة في الأجسام هذه الأمارات التي تظهر في بعضها دون بعض، وسموها نفوسا.
ولما رأوا أن النفوس تتفاضل بعضها على بعض بأمر آخر مؤيد لها ومفيض عليها الخير والفضائل، علموا أنه جوهر أشرف وأفضل من جوهر النفس وسموه العقل.
ولما كان العقل هو المقر على نفسه بأنه مربوب، وله مدبر خالق صانع حكيم نزهه من جميع صفات النقص فحينئذ صح لهم، وبهذه الاعتبارات ما قالوه ووصفوه من مراتب هذه الموجودات الروحانية التي تقدم وصفها وذكرها؛ وهي: الهيولى الأولى، والنفس، والعقل، والباري جل ثناؤه.
واعلم يا أخي أنه قد بان بما ذكرنا أن النفس الكلية هي جوهرة روحانية فاضت من العقل الذي أشارت إليه الفلاسفة، وأنها كالهيولى الموضوع له لما يفيض عليها من الصور والفضائل والخيرات لتكمل هي، وأنها كالصانع المصور للجسم بما تنقش فيه من الصور والأشكال لتتمه بذلك.
واعلم أن النفس الكلية هي صورة فيها جميع الصور، كما أن الجسم الكلي شكل فيه جميع الأشكال، غير أن الصور في ذات النفس لا تتراكم ولا تتزاحم؛ لأنها جوهرة روحانية لطيفة حية علامة فعالة.
وأما الجسم فإن الأشكال تتراكم فيه وتتزاحم من أجل أنه جوهر غليظ كثيف ميت جاهل منفعل، كما بينا في رسالة المبادئ.
فصل
واعلم أن النفس هي في ذاتها جوهرة، ولكن كونها مع الجسم بالعرض لغرض ما، والغرض هو أمر سابق إلى وهم الفاعل، فإذا بلغ الفاعل إليه قطع الفعل.
فصل
وإذ قد فرغنا من ذكر النفس الكلية والعقل الكلي، فنريد أن نذكر النفس الإنسانية إذ هي قوة من قوى النفس الكلية.
ونذكر أيضا العقل الإنساني؛ إذ هو قوة من قوى النفس الكلية ونصف أفعال النفس وقواها إذ كانت النفس جوهرة روحانية.
ولما كانت الجواهر الروحانية لا تدرك بالحواس ولا تعرف إلا بما يصدر عنها من الأفعال والأعمال بحسب القوى، احتجنا إلى أن نذكر كمية قواها، ونصف فنون أفعالها، وعجائب صنائعها، وغرائب علومها، وظرائف أخلاقها، واختلاف آرائها.
واعلم يا أخي أن للنفس الإنسانية قوى كثيرة لا يحصي عددها إلا الله جل ثناؤه، وأن لها بكل قوة في عضو من أعضاء الجسد فعلا خلاف عضو آخر، قد بينا طرفا من ذلك في رسالة تركيب الجسد، وطرفا في رسالة الحاس والمحسوس، وطرفا في رسالة الإنسان عالم صغير؛ ووصفنا فيها أن نسبة القوى الحساسة إلى النفس فيما يأتون به إليها من أخبار محسوساتها كنسبة أصحاب الأخبار للملك قد ولى كل واحد منهم ناحية من مملكته ليأتوه بالأخبار من تلك النواحي.
وذكرنا فيها أيضا أن لها خمس قوى أخرى، نسبتهن إليها كنسبة الندماء إلى الملك؛ وهي: القوة المفكرة، والقوة المتخيلة، والقوة الحافظة، والقوة الناطقة، والقوة الصانعة.
واعلم أن القوة المفكرة التي مسكنها وسط الدماغ من بين هذه القوى كالملك، وسائرها لها كالجنود والأعوان والخدم والرعية، يتصرفون بأمرها ونهيها فيما يفعلون في أعضاء الجسد من الحركات وما يظهرون من الصنائع والأعمال، وأن موضعها من بين مواضع سائر القوى في أشرف عضو من الجسد وأخص مكان منه، كما أن دار الملك في أشرف مدينة من بلدان مملكته، وفي أجل موضع من المدينة وفي أشرف بقعة منها.
واعلم يا أخي أن أفعال هذه القوى الخمس أشرف وأكرم من أفعال سائر القوى.
وقد بينا في رسالة الحاس والمحسوس أن القوة المتخيلة التي مسكنها مقدم الدماغ نسبتها إلى القوة المفكرة بما تجمع إليها من أخبار المحسوسات كنسبة صاحب الخريطة إلى الملك، ونسبة القوة الحافظة التي مسكنها مؤخر الدماغ إلى المفكرة كنسبة الخازن الحافظ ودائع الملك، ونسبة القوة الناطقة التي مجراها على اللسان إلى المفكرة كنسبة الحاجب والترجمان إلى الملك، ونسبة القوة الصانعة التي مجراها اليدان والأصابع إلى المفكرة كنسبة الوزير المعين له في تدبير مملكته والمساعد له في سياسته لرعيته.
(2) فصل فيما تتولى القوة المفكرة بنفسها من الأفعال
واعلم يا أخي أنه إذا أوصلت القوة المتخيلة رسوم المحسوسات إلى القوة المفكرة بعد تناولها من القوى الحساسة وغابت المحسوسات عن مشاهدة الحواس لها، بقيت تلك الرسوم في فكر النفس مصورة صورة روحانية، فيكون جوهر النفس لتلك الرسوم المصورة فيها كالهيولى وهي فيها كالصورة.
والمثال في ذلك أن الإنسان إذا دخل مدينة من البلدان، وطاف في أسواقها ومحالها، وعاين طرقاتها وشاهد أهلها، ورأى هيئاتهم وسمع أقاويلهم وعرف شمائلهم، ثم خرج منها وغابت مشاهدة حواسه لها؛ فإنه كلما فكر في تلك المدينة وما شاهد فيها، تخيلها كأنه يراها معاينة على مثل ما كان شاهد في وقت كونه فيها، لو كان ذكر لها بعد حين من الدهر.
فتلك الفكرة ليست شيئا سوى لمحات النفس إلى ذاتها، وتخيلها لصورة تلك المدينة، وما رأى فيها من الموجودات ليس شيئا سوى صور تلك الموجودات انطبعت في جوهر نفسه كما ينطبع نقش الفص في الشمع المختوم.
وعلى هذا القياس حكم سائر المحسوسات؛ من أول استعمال آلات الحواس إلى وقت تركها لها عند الممات، الذي هو ترك النفس استعمال الجسد.
واعلم يا أخي أنه إذا حصلت رسوم المحسوسات في جوهر النفس، فإن أول فعل القوة المفكرة فيها هو تأملها واحدة واحدة لتعرف معانيها وكمياتها وكيفياتها وخواصها ومنافعها ومضارها، فإذا حصل العلم بهذه المعاني أودعتها القوة الحافظة إلى وقت التذكار، فإذا أراد الإنسان الإخبار عن معلوماته للمخاطبين له والجواب للسائلين له عن متصوراته ومفهوماته، استعانت عند ذلك القوة المفكرة بالقوة الناطقة في النيابة عنها في الجواب لغيرها كما يستعين الملك بحاجبه وترجمانه في النيابة عنه في الخطاب لغيره. ولهذه القوة المفكرة في معلوماتها المحفوظة أفعال أخر، ذكرنا طرفا منها في رسالة المنطق، وطرفا آخر في رسالة الموسيقى، وطرفا آخر في رسالة الإنسان عالم صغير، حسب ما يليق بكل رسالة منها؛ لان العلوم كلها لا يمكن أن تجمع في دفتر واحد جسماني، فأما النفس فإنها تجمع علوما شتى وصنائع عدة وأخلاقا مختلفة وآراء متفاوتة؛ لأنها دفتر روحاني لا تتزاحم فيها صور المعلومات كما تتزاحم في الهيولى الجسماني؛ مثال ذلك أن السواد والبياض لا يجتمعان في محل واحد في زمان واحد، ولا الحلاوة والمرارة في جسم ذي طعم، ولا التدوير ولا التربيع في شكل واحد مجسم، وما شاكلها من الصور والأعراض المتضادة؛ فإن بعضها يفسد بعضا إذا كانت من جنس واحد.
فأما في جوهر النفس فلا تتزاحم فيها الصور، بل كلها تجمع في نقطة واحدة كما تلتقي الخطوط في مركز الدائرة في نقطة واحدة، وكما تلتقي صور المرئيات كلها مع اختلاف أجناسها في المرآة وفي الحدقة التي هي نقطة من العين، كما بينا في رسالة الحاس والمحسوسات، فليطلب هناك.
(3) فصل فيما يختص بالقوة الناطقة من الأفعال
فنقول: اعلم أن من شأن القوة الناطقة، إذا استعانت بها القوة المفكرة في النيابة عنها في الجواب والخطاب، أن تؤلف ألفاظ من حروف المعجم بنغمات مختلفة السمات التي هي الكلام، ثم تضمن تلك الألفاظ المعاني التي هي مصورة عند القوة المفكرة، فتدفعها عند ذلك إلى القوة المعبرة لتخرجها إلى الهواء بالأصوات المختلفة في اللغات، لتحملها إلى مسامع الحاضرين بالقرب، فتكون تلك الألفاظ المؤلفة من الحروف المختلفة الأشكال والسمات كالأجساد المركبة من الأعضاء المختلفة، وتكون تلك المعاني المضمنة في تلك الألفاظ كالأرواح لها ؛ لأن كل لفظة لا معنى لها فهي بمنزلة جسد لا روح فيه، وكل معنى في فكر النفس ليس له لفظة تعبر عنه بمنزلة روح لا جسد له، وقد بينا كيفية حمل الهواء صور الأصوات وحفظها بهيئتها إلى أن توردها وتؤديها إلى السمع في رسالة الحاس والمحسوس. وذكرنا أيضا أن الأصوات لما كانت لا تمكث في الهواء إلا ريثما تأخذ المسامع حظها ثم تضمحل، احتالت الحكمة الإلهية بأن قيدتها بالقوة الصناعية التي هي الكتابة؛ وذلك أن القوة المفكرة لما رأت أن الكلام لا يثبت في الهواء دائما، لأنه جسم سيال، احتالت حيلة أخرى واستعانت بالقوة الصناعية أن نقشت حروفا خطوطية بالقلم تحاكي معاني حروف لفظية، ثم ألفتها ضروبات التأليف، حتى صارت كتابا مكتتبا وأودعتها وجوه الألواح وبطون الطوامير؛ لكيما يبقى العلم مفيدا فائدة من الماضين للغابرين، وأثرا من الأولين للآخرين، وخطابا للحاضرين من الغائبين، وبالعكس. وهذا من جسيم نعم الله تعالى على الإنسان كما ذكر الله تعالى في كتابه: @QUR013 اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم.
ثم اعلم أن للقوة الصناعية أفعالا كثيرة لا يحصي عددها إلا الله تعالى، وقد ذكرنا طرفا من ذلك في رسالة الصنائع. وكذلك القوة الناطقة لها لغات كثيرة وألفاظ مختلفة ونغمات مفننة لا يحصي عددها إلا الله عز وجل، وقد ذكرنا منها طرفا في رسالة اختلاف اللغات، وطرفا في رسالة الموسيقى. ثم اعلم أن القوة المفكرة لها أفعال كثيرة تستغرق فيها أفعال سائر القوى.
وذلك أن أفعالها نوعان؛ فمنها ما يخصها بمجردها، ومنها ما يشترك مع قوى أخرى؛ فمنها الصنائع كلها فإنها مشتركة بينها وبين القوة الصناعية، ومنها الكلام وأقاويل اللغات فإنها مشتركة بينها وبين القوة الناطقة، ومنها تناول رسوم المعلومات المحفوظة فإنها مشتركة بينها وبين القوة الحافظة، وأما التي تخصها من الأفعال فالفكر والروية والتصور والاعتبار والتركيب والتحليل والجمع والقياس، ولها الفراسة والزجر والتكهن والخواطر والإلهام وقبول الوحي وتخييل المنامات.
وتفصيل ذلك: فأما بالفكر فاستخراج الغوامض من العلوم، وبالروية تدبير الملك وسياسة الأمور ، وبالتصور درك حقائق الأشياء، وبالاعتبار معرفة الأمور الماضية من الزمان، وبالتركيب استخراج الصنائع أجمع، وبالتحليل معرفة الجواهر البسيطة والمبادئ، وبالجمع معرفة الأنواع والأجناس، وبالقياس درك الأمور الغائبة بالزمان والمكان، وبالفراسة معرفة ما في الطبائع من الأمور الخفية، وبالزجر معرفة حوادث الأيام، وبالتكهن معرفة الكائنات بالموجبات الفلكية، وبالمنامات معرفة الإنذارات والبشارات، وبقبول الخواطر والإلهام والوحي معرفة وضع النواميس وتدوين الكتب الإلهية وتأويلاتها المكنونة التي لا يمسها إلا المطهرون من أدناس الطبيعة، الذين هم أهل البيت الروحانيون.
وقد بينا في رسالة الناموس أن وضع النواميس وتدوين الكتب الإلهية أعلى رتبة ينتهي إليها الإنسان بالتأييد الرباني، وهي أشرف صناعة تجري على أيدي البشر مثل شريعة صاحب التوراة والإنجيل والزبور والفرقان.
واعلم يا أخي أن الباري جل جلاله جعل الأمور الجسمانية المحسوسة كلها مثالات ودلالات على الروحانية العقلية، وجعل طرق الحواس درجا ومراقي يرتقى بها إلى معرفة الأمور العقلية التي هي الغرض الأقصى في بلوغ النفس إليها.
فإذا أردت يا أخي أن تبلغ إلى أفضل المطلوبات وأشرف الغايات التي هي الأمور العقلية، فاجتهد في معرفة الأمور المحسوسة؛ فإنك بذلك تنال الأمور العقلية، وقد بينا في رسائلنا الطبيعية طرفا من ذلك. ثم اعلم أن معرفة الأمور الجسمانية المحسوسة هي فقر النفس وشدة الحاجة، ومعرفة الأمور المعقولة الروحانية هي غناؤها ونعيمها، وذلك أن النفس في معرفة الأمور الجسمانية محتاجة إلى الجسد وحواسها وآلاتها لتدرك بتوسطها الأمور الجسمانية.
وأما إدراكها الأمور الروحانية فيكفيها ذاتها وجوهرها بعدما تأخذها من الحواس بتوسط الجسد، وإذا حصل لها ذلك فقد استغنت عن الجسد وعن التعليم بالجسم بعد ذلك.
فاجتهد يا أخي في طلب الغنى الأبدي بتوسط هذا الهيكل وآلاته ما دام يمكنك ذلك قبل فناء العمر وتصرم المدة وفساد الهيكل وبطلان وجوده، واحذر كل الحذر أن تبقى نفسك فقيرة محتاجة إلى هيكل ليتم به ما فاته من الكمال؛ فتكون ممن يقول: يا ليتنا نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل، وتبقى في البرزخ إلى يوم يبعثون، ومن أين لهم أن يشعروا أيان يبعثون ما دامت هي ساهية لاهية غافلة مقبلة على الشهوات الجسمانية من اللذات الجرمانية والزينة الطبيعية والغرور بالأماني في هذه الحياة الدنيا المذمومة، التي ذمها رب العالمين فقال: @QUR017 أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته إلى قوله: @QUR06 وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور، وقال في قصة قارون: @QUR021 فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم.
ثم حكي قول الربانيين العلماء العارفين بالأمر الأشرف في المراتب العالية @QUR06 ويلكم ثواب الله خير لمن آمن؛ يعنون به الدار الآخرة التي هي @QUR04 الحيوان لو كانوا يعلمون؛ يعني به عالم الأرواح الذي كله روح وريحان وتحية ورضوان.
ثم ذم الذين لا يعرفون من هذه الأمور المعقولة إلا المحسوسات حسب، فقال: @QUR010 ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون؛ يعني أمر الآخرة ودار النعيم ودار السلام التي ترتقي إليها نفوس الأخيار بعد مفارقتها أجسادها كما ذكر في كتابه: @QUR04 إليه يصعد الكلم الطيب؛ يعني روح المؤمن @QUR03 والعمل الصالح يرفعه؛ أي يرغبه فيها وهمته ترقيه إلى هناك @QUR03 ومغفرة من الله وروح ورضوان وغير ذلك من الآيات المذكورة في القرآن وأخبار الأنبياء عليهم السلام في ذم الدنيا والاجتناب عنها، وكذلك إشارات الحكماء شعرا:
فاجهد على النفس واستكمل فضائلها
فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
فعليك ألا تغتر بزخارف هذه الدنيا الدنية، وعليك أن تتبع الآراء الحسنة، وتهذب النفس، وفقك الله وإيانا وإخواننا للسداد، وهداك وإيانا سبيل الرشاد، إنه رءوف بالعباد.
(تمت رسالة العقل والمعقول، ويليها رسالة في الأدوار والأكوار.)
الرسالة الخامسة من النفسانيات العقليات في الأدوار والأكوار
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
اعلم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنا قد فرغنا من رسالة العقل والمعقول، وبينا فيها تعريف جواهر النفوس بحقيقتها وكيفية اجتماع صور المعقولات في العقل المنفعل، وكنا قد بينا قبل ذلك في رسالة ماهية الطبيعة ذكر كيفية تأثيرات الأشخاص العلوية الفلكية في الأشخاص السفلية الكائنة تحت فلك القمر الذي هو عالم الكون والفساد، وبينا فيها معنى قول القدماء في روحانيات الكواكب، وبينا قول واضع الناموس في أجناس الملائكة وكيفية سريان قواها في العالم وإظهار أفعالها في الأجسام الموجودة فيه، فنريد أن نبين الآن ونذكر في هذه الرسالة أدوار الأشخاص الفلكية وأكوارها وقراناتها، فنقول:
إن للفلك وأشخاصه حول الأركان الأربعة التي هي عالم الكون والفساد أدوارا كثيرة لا يحصي عددها إلا الله تعالى، ولأدوارها كور، ولكواكبها في أدوارها وأكوارها قرانات، ويحدث في كل دور وكور وقران في عالم الكون والفساد حوادث لا يحصي عدد أجناسها إلا الله تعالى، ونريد أن نذكر من ذلك طرفا مجملا مختصرا ليكون مثالا ودليلا على الباقية، فنقول:
اعلم أن الأدوار خمسة أنواع، فمنها أدوار الكواكب السيارة في أفلاك تداويرها، ومنها أدوار مراكز أفلاك التداوير في أفلاكها الحاملة، ومنها أدوار أفلاكها الحاملة في فلك البروج، ومنها أدوار الكواكب الثابتة في فلك البروج، ومنها أدوار الفلك المحيط بالكل حول الأركان، وأما الأكوار فهي استئنافاتها في أدوارها وعودتها إلى مواضعها مرة بعد أخرى.
وأما القرانات فهي اجتماعاتها في درج البروج ودقائقها، وهي ستة أجناس: مائة وعشرون نوعا، فمنها واحد وعشرون قرانا ثنائية، وثلاثون قرانا ثلاثية، وخمسة وثلاثون قرانا رباعية، وواحد وعشرون قرانا خماسية، وواحد وثلاثون قرانا سداسية، وقران واحد سباعي فجملتها مائة وعشرون قرانا نوعية مضروبة في ثلاثمائة وستين درجة يكون جملتها ثلاثة وأربعين ألفا ومائتي قران شخصية.
وأما أدوار الألوف فأربعة أنواع؛ فمنها سبعة آلاف سنة، ومنها اثنا عشرة ألف سنة، ومنها واحد وخمسون ألف سنة، ومنها ثلاثمائة ألف وستين سنة.
ثم اعلم أن من هذه الأدوار والقرانات ما يكون في كل زمان طويل مرة واحدة، ومنها ما يكون في كل زمان قصير مرة واحدة؛ فمن الأدوار التي تكون في الزمان الطويل أدوار الكواكب الثابتة في فلك البروج، وهو في كل ستة وثلاثين ألف سنة مرة واحدة. ومن الأدوار التي تكون في كل زمان قصير أدوار الفلك المحيط بالكل حول الأركان الأربعة في كل أربع وعشرين ساعة مرة واحدة، كما ذكر الله تعالى فقال: @QUR04 وكل في فلك يسبحون وباقي الأدوار فيما بينهما. ومن القرانات ما يكون في كل ثلاثمائة وستين ألف سنة مرة واحدة، وهو أن تجمع الكواكب السيارة كلها بأوساطها في أول دقيقة من برج الحمل إلى أن تجتمع فيها مرة أخرى، ويسمى هذا الدور في زيج السند هندسية يوم واحد من أيام العالم الكبير. ومن القرانات ما يكون في كل شهر مرة واحدة، وهو اجتماع القمر مع كل واحد من الكواكب السيارة.
فأما باقي القرانات ففيما بين هذين الوقتين، ومن الأدوار القصار ما يكون في كل أربعة عشر يوما مرة واحدة، وهي دورة مركز الفلك: التدوير والقمر في فلكه الحامل له؛ ومنها ما يكون في كل سبعة وعشرين يوما وسبع ساعات ونصف مرة واحدة، وهي أدوار للقمر في فلك البروج؛ ومنها أدوار الفلك الجو زهر في كل إحدى وعشرين سنة في كل ثمانية عشر سنة وسبعة شهور وتسعة عشر يوما مرة، وهو أدوار عطارد في فلك تدويره؛ ومنها ما يكون في كل ثلاثمائة وخمسة وستين يوما وربع يوم مرة واحدة، وهي أدوار الشمس والزهرة وعطارد في فلك البروج؛ ومنها ما يكون في ثلاثمائة وثمانية وسبعين يوما مرة واحدة، وهي أدوار زحل في فلك تدويره؛ ومنها ما يكون في كل ثلاثمائة وتسعة وتسعين يوما مرة واحدة، وهي أدوار المشتري في فلك تدويره؛ ومنها ما يكون في كل خمسمائة وأربعة وستين يوما مرة واحدة، وهي أدوار الزهرة في فلك تدويرها؛ ومنها ما يكون في كل ثمانمائة وسبعين يوما مرة واحدة، وهي أدوار المريخ في فلك البروج؛ ومنها ما يكون في كل خمسمائة وسبعة وثمانين يوما مرة واحدة، وهي أدوار المريخ في فلك تدويره؛ ومنها ما يكون في كل أربعة آلاف وثلاثمائة وأربعة وثلاثين يوما مرة واحدة، وهي أدوار مركز المشتري في فلك البروج؛ ومنها ما يكون في عشرة آلاف وسبعمائة وواحد وأربعين يوما مرة واحدة، وهي أدوار مركز زحل في فلك البروج، وجملة هذه أربعة عشر نوعا.
وأما القرانات القصيرة الزمان فمنها ما يكون في كل مائة وستة عشر يوما مرة واحدة، وهو قران عطارد مع الشمس؛ ومنها ما يكون في كل ثلاثمائة وواحد وثمانين يوما مرة واحدة، وهي اقتران الشمس والزهرة وعطارد مع زحل؛ ومنها ما يكون في كل ثلاثمائة وتسعين يوما مرة، وهو اقتران المشتري والزهرة عطارد والشمس؛ ومنها ما يكون في كل سبعمائة وخمسة وثمانين يوما مرتين، وهو اقتران الزهرة مع الشمس؛ ومنها ما يكون في كل سبعمائة وثمانين يوما مرة واحدة، وهو اقتران الشمس مع المريخ؛ ومنها ما يكون في كل سنتين ونصف سنة بالتقريب مرة واحدة، وهو اقتران المريخ مع زحل والمشتري؛ ومنها ما يكون في كل عشرين سنة بالتقريب مرة، وهو اقتران المشتري وزحل.
ومن القرانات الطويلة الزمان ما يستأنف الدور في كل مائتين وأربعين سنة مرة واحدة، وهو أن يستوفي زحل والمشتري اثني عشر قرانا في المثلثة الواحدة؛ ومنها ما يكون في كل تسعمائة وستين سنة مرة واحدة، وهو يستوفي زحل والمشتري ثمانية وأربعين قرانا في المثلثات الأربعة؛ ومنها ما يكون في كل ثلاثة آلاف وثمانمائة وأربعين سنة مرة واحدة، وهو أن يستأنف زحل والمشتري القرانات في المثلثات، وشرحها طويل ويخرج بنا عما نحن فيه.
وإذ قد فرغنا من ذكر كمية دوران الفلك وعدد قرانات كواكبه في أبراجها في الأدوار والألوف واستئنافها أعدادها بالكور، ونريد أن نذكر ونلوح بظرف مما يتبعها من الحوادث الكائنات في عالم الكون والفساد التي دون فلك القمر، فنقول: إنا قد بينا في رسالة السماء والعالم أن الفلك المحيط تديره النفس الكلية بتأييد العقل الكلي الفعال بإذن الله تعالى، وقد بينا في رسالة المبادئ العقلية أن النفس والعقل هما أمران مبدعان للباري، وهو مبدعهما وعلتهما ومثبتهما ومكملهما كيف شاء، فتبارك الله رب العالمين.
ثم اعلم أن كل الحوادث التي تكون في عالم الكون والفساد هي تابعة لدوران الفلك وحادثة عن حركات كواكبه ومسيرها في البروج وقرانات بعضها مع بعض واتصالاتها بإذن الله تعالى، فمن ذلك الحوادث ما هو ظاهر جلي لكل إنسان، ومنها ما هو باطن خفي يحتاج في معرفتها إلى تأمل وتفكر واعتبار.
ثم اعلم أن كل حادث في هذا العالم سريع النشوء، قليل البقاء، سريع الفساد، فذلك عن حركة في الفلك سريعة قصيرة الزمان قريبة الاستئناف، وكل حادث بطيء النشوء، طويل الثبات، بطيء البلى، فذلك عن حركة بطيئة طويلة الزمان، بعيدة الاستئناف. ونحتاج في هذا الفصل إلى شرح طويل، وقد ذكرنا طرفا من ذلك في رسالة تكوين المعادن، وطرفا في رسالة النبات، وطرفا في رسالة الحيوان.
ونريد أن نذكر في هذه الرسالة طرفا منه ليتبين الصدق ويتضح الحق ويتجلى الخفي للباحثين عن حقيقة هذا الأمر، ثم نذكر تأثيرات الأشخاص العالية في الأشخاص السافلة؛ فمن ذلك الحركات السريعة القصيرة الزمان القريبة الاستئناف أدوار الفلك المحيط بالكل حول الأركان في كل أربع وعشرين ساعة مرة واحدة، كما ذكر الله تعالى: @QUR04 وكل في فلك يسبحون، وهي التي بها يكون الليل والنهار في هذا العالم الذي نحن فيه.
ومن الحوادث الكائنة التي لا تخفى على أحد من العقلاء من هذه الحركة نوم أكثر الحيوان بالليل ويقظتها بالنهار؛ وذلك أنه إذا طلعت الشمس مع دوران الفلك على جانب الأرض أضاء الهواء بنورها وأشرق وجه الأرض بضيائها، فانتبهت أكثر الحيوانات من نومها، وتحركت بعد سكونها، وترنمت بعد عجمتها وهدوئها، وانتشرت في طلب معايشها، وتصرفت في مذاهبها، وفتحت أيضا أكثر أكمام النبات وفاح نسيم روائحها، وذهب الناس في مطالبهم وسعوا في حوائجهم، وإذا غابت الشمس أظلم الهواء أو اسود الجو، وامتلأ وجه الأرض من الظلام، واستوحش أكثر الحيوانات وتراجعت عن متصرفاتها إلى أوطانها وأماكنها، وانصرف الناس عن أسواقهم إلى منازلهم وعن مواضع أعمالهم إلى بيوتهم، ووقع عليهم النوم والنعاس والكسل بعد الانتشار والنشاط في الأعمال، والسكون بعد الحركة، والهدوء بعد الجلبة. فإذا تأمل المتفكر في حال هذا العالم بالنهار رآه كأنه حيوان منتبه متحرك حساس ، وإذا تأمله بالليل رآه كأنه نائم أو ميت أو جامد من السكون والهدوء.
ثم اعلم أنه ما دامت هذه الحركة محفوظة في الفلك فهذه الحالة موجودة في الحيوان، فإذا سكنت تلك الحركة بطل ذلك النظام والترتيب، وهذه الحركة من أعظم نعم الله تعالى على خلقه كما ذكر تعالى: @QUR041 قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون * قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون، ومن الحوادث الكائنة عن هذه الحركة في هذه المدة كون بعض النباتات الناقصة كخضراء الدمن، فإنها تصبح بالغدوات ريانة من نداوة الليل وطيب نسيم الهواء، فإذا أشرقت عليها الشمس نصف النهار جفت، ثم تصبح من الغد مثل ذلك، وترى هذا خاصة في أيام الربيع في أكثر المواضع.
ومن الكائنات الحادثة عن هذه الحركة في هذه المدة المذكورة كون بعض الحيوانات الناقصة الخلقة الضعيفة البنية، كالديدان والبق والبراغيث التي تتولد من العفونات وفي الزبل والسماد والورث وجثة الجيف وما شاكلها، فإذا أصابها أدنى حر من الشمس أو برد من الهواء هلكت.
وبالجملة فكل كائن عن هذه الحركة التي تستأنف الدور في كل أربع وعشرين ساعة مرة واحدة، وكل حادث عنها من أشخاص الحيوانات والنبات الناقص الخلقة الضعيف البنية، فإنها لا تبقى سنة تامة؛ لأنه يهلكها إما حر الشمس في الصيف أو برد الشتاء، وقد بينا علتها في رسالة الحيوان والنبات.
وما دامت هذه الحركة محفوظة في الفلك فإن صورة هذه الكائنات عنها الحادثات في هذا العالم تكون موجودة في الهيولى، ومتى وقف الفلك فسد النظام وبطل الكون، وذلك كائن لا محالة إذا بلغت النفس الكلية أقصى غرضها؛ لأن الغرض هو غاية سبق إليها الوهم، ومن أجل البلوغ إليها يفعل الفاعل فعله، وإذا بلغ إليه قطع الفعل.
(1) فصل
ثم اعلم يا أخي أن دوران الفلك أكرم الأفعال وأشرفها، فغرض فاعله أيضا أشرف الأغراض وأكرمها كما بينا في رسالة البعث والقيامة. ومن الحركات السريعة القصيرة الزمان، القريبة الاستئناف، ما يكون في كل شهر مرتين، وهي حركة مركز فلك تدوير القمر في الفلك الحامل في كل أربعة عشر يوما مرة واحدة، وفي هذه المدة يكون القمر مقبلا بوجهه الممتلئ من النور نحو مركز الأرض، يعرف حقيقة ما قلنا أهل الصناعة الذين يعرفون علم ما في المجسطي، والذي يتبع هذه الحركة من الحوادث والكائنات في هذا العالم كثرة الربو والزيادة في الأشياء، وسرعة النشوء في الأشياء المبتدئة الحادثة من الحيوان والنبات والمعادن، والزيادة أيضا في المدود والرطوبات والأنداء، يعرف ذلك أهل التجارب والعلماء المتيقظون المتفكرون في الآفاق، المعتبرون أحوال الموجودات. وفي النصف الثاني من الشهر يدور هذا المركز في الفلك الحامل مرة أخرى، ولكن يكون القمر موليا بوجهه الممتلئ من النور عن مركز الأرض نحو فلك عطارد، يدور القمر في الفلك الحامل مرة واحدة في هذه المدة، والذي يحدث عن هذه الحركة في هذه المدة في هذا العالم الذبول والهزال والنقصان في الأشياء النامية، والنضج والجفاف واليبس في الأشياء البالغة إلى التمام من الحب والثمر.
يعرف صحة ما قلنا أهل الصناعة المتقدم ذكرهم، وفي هذه المدة عن هذه الحركة يتكون بعض الجواهر المعدنية كالملح والكمأة وأمثالهما.
واعلم يا أخي أن الكمأة نبات معدني، والملح معدن نباتي، كما بينا في رسالة المعادن، وفي هذه المدة أيضا عن هذه الحركة قد يتم كون بعض النبات ويبلغ وينتفع به كالبقول، وفي هذه المدة أيضا قد يتم كون بعض الحيوانات كالطيور ودود القز وزنابير النحل، فإن أكثرها يتم في خلقتها في أربعة عشر يوما، ويخرج بعد واحد وعشرين يوما، ويتولى في ثمانية وعشرين يوما ويخرج.
وهذا المدة هي مقدار مسير القمر من يوم الحضانة إلى يوم الخروج من البرج الذي كان فيه إلى البرج التاسع، الذي هو بيت النقلة والسفر، فينتقل من هذه الحيوانات الكائنة من حال إلى حال في هذه المدة. وما دامت هذه الحركة محفوظة في الفلك فصور هذه الكائنات موجودة في الهيولى في هذا العالم، وإليها أشار جل ثناؤه فقال: @QUR07 والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم.
واعلم يا أخي أن كل الكائنات عن هذه الحركة من الحيوانات والنبات؛ فمنها ما هي طويلة البقاء، ومنها ما هي قصيرة المدة، ولكن أطولها بقاء لا يتجاوز مائة وعشرين شهرا والقصيرة المدة ما دون ذلك.
وعلة نهاية بقاء أشخاص هذا النوع في الهيولى المقدار من الزمان هو أن علة حدوثها حركة القمر في فلك البروج المقسوم بثمانية وعشرين منزلا لدورة واحدة؛ وذلك أن القمر إذا كان في برج من الأبراج في منزل من المنازل يوم حضانة الطير، فإنه يوم يخرج الفرخ يكون في المنزل العشرين من ذلك المنزل، وفي البرج التاسع من ذلك البرج، وقد قطع مائتين وأربعين درجة في الفلك وبقي له تسعة منازل، مائة وعشرون درجة إلى أن يعود إلى الدرجة التي كان فيها يوم ابتداء الحضانة فيستأنف هذا الكائن العمر الطبيعي في الدنيا لكل درجة شهر، وهذا هو العمر الطبيعي.
وأما ما يهلك قبل هذه المدة أو يعيش أكثر من هذا المقدار، فذلك لأسباب وعلل وأغراض يطول شرحها.
وعلى هذا البيان لكل كائن تحت فلك القمر حركة لشخص من الأشخاص الفلكية لاستئنافه الدور في مدة معلومة، طالت أو قصرت، فيكون بقاء تلك الكائنات عنها على هذا المثال الذي ذكرنا من الكائنات من حركة القمر.
ومثال آخر نذكر في أمر الإنسان، وذلك أنه إذا سقطت النطفة في الرحم من جنس البشر أو بعض الحيوانات التي تلد لتسعة أشهر، فلا بد من أن تكون الشمس في تلك الساعة في درجة في برج من الفلك.
فإذا كان أول الشهر التاسع يكون قد قطعت الشمس بسيرها ثمانية أبراج، وقد استوفت طبائع البروج المثلثات مرتين وبلغت إلى أول البرج التاسع بيت السفر والنقلة، فينتقل المولود من مكان إلى مكان ومن حال إلى حال أخرى، وتكون قد سارت الشمس في فلك البروج من يوم مسقط النطفة إلى ذلك اليوم مائتين وأربعين درجة لها مائة وعشرون درجة إلى أن تعود إلى الدرجة التي كانت فيها يوم مسقط النطفة بها، فجعل نهاية بقاء أشخاص هذا النوع وعمرها الطبيعي في الهيولى لكل درجة سنة، فإن زاد أو نقص فلأسباب أو علل، وعلى هذا القياس يعتبر كل مولود من أنواع الحيوان، فيكون عن حركة شخص من الأشخاص الفلكية مما يكون ولادته وكونه الطبيعي لستة عشر يوما أو لواحد وعشرين يوما أو لأربعين يوما، أو لأربعة أشهر أو لخمسة أو لستة أو لسبعة أو لتسعة أو لعشرة، أو لسنة أو لسنتين؛ فإنه يستوفي ذلك الشخص الموجب لكونه، المحمل في الفلك بعض الدائرة قبل الولادة الطبيعية لذلك النوع، ويكون مدة العمر الطبيعي لهذا النوع بمقدار ما بقي لذلك المتحرك من المسير في الفلك إلى إتمام دورة واحدة بروجا كانت أو درجا أو دقائق أو ساعات وأياما، وذلك أن الحيوانات الناقصات الخلقة الضعيفة البنية التي سبب كونها وعلة حدوثها حركة ذلك الشكل الذي يستأنف الدور في أربع وعشرين ساعة كما ذكرنا قبل، فإن أشخاص النوع أكثر بقائها وعمرها الطبيعي تسعة أيام، وإن زاد أو نقص فلأسباب أخر؛ وذلك أنها تتم خلقتها وتكمل صورتها في ست عشرة ساعة؛ مقدار ما يدور من الفلك ثمانية أبراج، وإذا ابتدأ البرج التاسع بالطلوع نهض وتحرك وانتقل في طلب القوت والغذاء الذي هو مادة بقاء شخصها في الهيولى أو تبقى إلى تمام الدور تسع ساعات، فيستأنف العمر في الدنيا تسعة أيام، لكل ساعة يوم، ثم يهلك ويتكون غيرها ويكون ذلك النوع محفوظا والأشخاص في السيلان.
واعلم يا أخي أن لكل كائن تحت فلك القمر من الحيوان والنبات والمعادن، له عن وقت كونه وحدوثه إلى وقت فنائه وعدمه، مقدارا من الزمان؛ وهو دورة واحدة من أدوار الأشخاص الفلكية.
بيان ذلك أن كل كائن في هذا العالم له أربع أحوال متباينة؛ أحدها ابتداء كون الوجود، ومنها زيادته ونموه وارتقاؤه إلى نهاية ما، ومنها توقفه وانحطاطه ونقصه، ومنها زمان بواره وعدمه. وعلة ذلك أن كل شخص في الفلك له حركة دائرة تخصه، فإن لحركته في دائرته أربع أحوال؛ منها صعود من الحضيض، ومنها صعود إلى الأوج، ومنها هبوطه من الأوج، ومنها هبوطه إلى الحضيض.
يعرف حقيقة ما قلنا أصحاب المجسطي. ومن الحركات السريعة القصيرة الزمان، القريبة الاستئناف، ما يدور في كل أربعة أشهر مرة واحدة، وهي حركة عطارد في فلك تدويره؛ تارة مستقيمة، وتارة راجعا، وتارة مشرقا، وتارة مغربا، وتارة محترقا، وتارة صاعدا في ذروته، وتارة هابطا إلى حضيضه، وتارة واقفا من موازاة درجة واحدة، والذي يحدث ويتم من هذه الحركة في هذه المدة في هذا العالم كون بعض النبات كالسمسم والذرة والشعير وأمثالها، كما بينا في رسالة النبات، وعن هذه الحركة في هذه المدة قد يتم كون بعض الجواهر المعدنية كما يتم بالصنعة.
يعرف ما قلنا أصحاب المعادن، والذين يسبكون الزجاج، والذين يتعاطون صناعة الكيمياء، عن هذه الحركة في هذه المدة في هذا العالم قد يتم خلقة بعض الحيوانات وتولدها كبعض السباع والوحوش والغزلان وببعض الغنم كما بينا في رسالة الحيوانات. ومما يكون عن هذه الحركة في هذه المدة في هذا العالم ما يعرض لبعض الناس من الحوادث عند اختلاف أحوال عطارد في دورانه مما يذكره أصحاب أحكام النجوم في مواليدهم.
وبيان ذلك أن إذا خلف عطارد يعرض لبعض الناس أمراض وأعلال وأوجاع - وخاصة للصبيان - وما يعرض لبعض الكتاب والعمال وأصحاب الدواوين والوزراء من العزل والاعتقال والمصادرات، ولبعض الصناع من العطلة والكسل، ولبعض التجار من الخسران والمحق، ولبعض الناس من الحبس والاستتار والعسرة، وعند استقامته وتشريفه ما يعرض لهم من الخلاص والسلامة والظهور والولاية والنشاط واستقامة الأحوال، وعند وقوفه ورجوعه ما يعرض لهم من الحيرة والشكوك والظنون والريبة والتوقف والتخلف من سقوط الجاه وذو العز ونقصان المراتب، وكل ذلك بحسب ما أوجب شكل الفلك في أصل المواد وطبقات أحواله، يعرف بعضها لطبقات أجناسهم ويعلم تفصيلها أصحاب النجوم.
ومن الحركات السريعة القصيرة الزمان، القريبة الاستئناف، ما يكون في كل مرة واحدة، وهي حركة الشمس في فلك تدويرها ، والزهرة وعطارد في فلك البروج؛ تارة في البروج الشمالية وتارة في الجنوبية، وتارة في المستقيمة الطلوع وتارة في المعوجة، وتارة في النارية وتارة في الترابية، وتارة في الهوائية وتارة في المائية، وتارة صاعدة وتارة هابطة، وتارة في بيوتها، وتارة في وبالها وتارة في حظوظها، وتارة في إغرابها وتارة في إشراقها، وتارة في هبوطها وتارة في أوجاتها وتارة في حضيضها، وتارة مسرعة وتارة بطيئة، وتارة عند رءوس جو زهراتها وتارة عند ذنب جو زهراتها، وتارة متيامنة بعضها من بعض وتارة متياسرة، وتارة شرقية وتارة غربية، وتارة مناظرة وتارة ساقطة وتارة خالية، وتارة وحشية وتارة في الأوتاد وتارة فيما يليها وتارة زائلة عن الأوتاد، وتارة في البروج المنقلبة وتارة في الثابتة، وتارة في ذوي الأجسام وما شاكل هذه الدلالات.
(2) فصل
واعلم يا أخي أن الذي يحدث عن هذه الحركات في هذه المدة في هذا العالم، وعن أحوال هذه الكواكب من الفنون المختلفة والحالات المتغايرة، أشياء لا يحيط علما بكثرتها إلا الله تعالى، ولكن نذكر منها طرفا ليكون دليلا على الباقية، ونبدأ أولا بذكر الزمان وأحواله وأرباعه وتغيرات الهواء؛ وذلك أنه إذا ابتدأت الشمس بحركتها في أول برج الجدي، صاعدة من الجنوب نحو الشمال، ومن الحضيض نحو الأوج مرتفعة في الفلك، أخذت الطبيعة عند ذلك بمعاونتها بإذن الباري جل وعز في جذب الرطوبات المختلفة بالتراب من الأمطار وامتصاصها في عروق الشجر والنبات إلى أصولها وقضبانها وإمساكها هناك بالقوة الماسكة، وذلك دأبها إلى أن تبلغ الشمس آخر الحوت.
فإذا نزلت أول دقيقة من برج الحمل فهو الربع الربيعي، استوى الليل والنهار في الأقاليم، واعتدل الزمان، وطاب الهواء، وهب النسيم، وذابت الثلوج، وسالت الأودية، ومدت الأنهار، ونبعت العيون، وارتفعت الرطوبات إلى أعلى فروع الأشجار، ونبت العشب، وطال الزرع، ونما الحشيش، وتلألأ الزهر وأوراق الشجر، وتفتح النور، واخضر وجه الأرض، وتكونت الحيوانات والدبيب، ونتجت البهائم، ودرت الضروع، وانتشرت الحيوانات في البلاد عن أوطانها، وطاب عيش أهل الوبر، وطلب أعلى السطوح أهل المدن، وأخذت الأرض زخرفها، وفرح الناس والحيوان أجمع بطيب نسيم الهواء، وازينت الأرض وصارت كأنها جارية شابة قد تزينت وتحلت للناظرين، فلا تزال تلك حال الدنيا وأهلها من الحيوان والنبات إلى أن تبلغ الشمس آخر الجوزاء؛ رأس أوجها.
فإذا نزلت الشمس أول السرطان تناهى طول النهار وقصر الليل في الأقاليم كلها، وأخذ النهار في النقصان والليل في الزيادة، وانصرف الربيع ودخل الصيف، واشتد الحر وحمى الجو وهبت السمائم، ونقصت المياه ويبس العشب، واستحكم الحب وأدرك الحصاد والثمار، وأخصبت الأرض وكثر الريف، ودرت أخلاف النعم وسمنت البهائم، واتسع للناس القوة من الثمار وللطير من الحب وللبهائم من العلف، وصارت الدنيا كأنها عروس منعمة بالغة تامة كاملة كثيرة العشاق، فلا يزال ذلك دأبها ودأب أهلها إلى أن تبلغ الشمس آخر السنبلة وأول الميزان.
فإذا نزلت الشمس أول الميزان استوى الليل والنهار مرة أخرى، ثم ابتدأ الليل بالزيادة على النهار، وانصرف الصيف ودخل الخريف، وبرد الهواء وهبت الشمال وتغير الزمان، ونقصت المياه وجفت الأنهار، وغارت العيون وجف النبت، وفنيت الثمار ودبست البيادر،[1] وأحرز الناس الحب والثمار، وعرى وجه الأرض من زينتها، وماتت الهوام وانحجرت الحشرات، والطير والوحش تنصرف لطلب البلدان الدافئة، وأحرز الناس القوت للشتاء، ودخلوا البيوت ولبسوا الجلود والغليظ من الثياب فرارا من البرد، وتغير الهواء وصارت الدنيا كأنها كهلة مدبرة قد تولت عنها أيام الشباب.
فإذا بلغت الشمس آخر القوس وأول الجدي تناهى طول الليل وقصر النهار، ثم أخذ النهار في الزيادة على الليل، وانصرف الخريف ودخل الشتاء، واشتد البرد وخشن الهواء، وتساقط ورق الشجر ومات أكثر النبات، وانحجز أحسن الحيوانات في باطن الأرض وكهوف الجبال من شدة البرد وكثرة الأنداء، وكثرت ونشأت الغيوم، وأظلم الجو وكلح وجه الزمان، وهزلت البهائم وضعفت قوى الأبدان، ومنع الناس البرد عن التصرف، وتمرمر[2] كثير عيش الحيوان وضعفاء الناس، وصارت الدنيا كأنها عجوز هرمة قد دنا منها الموت.
ومن الحركات السريعة القصيرة الزمان، القريبة الاستئناف، ما يكون في كل ثلاثة عشر شهرا بالتقريب مرة، وهي حركة جرم زحل والمشتري في فلكي تدويرها .
ومن الحوادث في هذه المدة - عن حركتهما واختلاف أحوالهما ما يعرض لطبقات من الناس المستولى عليهم - اليبس والبرد نحو المشايخ والعجائز والأكرة[3] والتناء والأشراف والقضاة والعدول والعلماء والتجار، ومن شاكلهم من الناس من المستولي عليه في مولوده أحد الكوكبين مثل ما يعرض لأصحاب عطارد كما ذكرنا قبل، وقد يعرض من حركة هذين الكوكبين وأحوالهما لكثير من الحيوان والنبات والمعادن أعراض وأسباب قد ذكرنا كيفيتها في الرسائل التي ذكرنا فيها هذه الأجناس.
ومن الحركات القصيرة الزمان، السريعة الاستئناف، حركة الزهرة في فلك تدويرها في كل خمسمائة وأربعة وثمانين يوما مرة واحدة، وحركة المريخ في فلك تدويره في كل سبعمائة وثمانين يوما مرة واحدة، والذي يحدث ويتبع هذين الكوكبين في عالم الكون والفساد ما يعرض لبعض طبقات الناس في عالم الكون والفساد من النساء والمخانيث وأصحاب اللذات واللهو والملهين وأصحاب المريخ[4] من الشباب والشطار والعيارين والجند وأصحاب السلاح وساسة الدواب ومن شاكلهم، مثل ما يعرض لأصحاب عطارد كما ذكرنا قبل. ومن الحركات السريعة القصيرة الزمان، القريبة الاستئناف، حركة فلك المشتري في الفلك الحامل في كل أربعة آلاف وثلاثمائة وأربعة وثلاثين يوما مرة واحدة، والذي يحدث في عالم الكون والفساد عن هذه الحركة اعتدال أهوية بعض البلاد بعد فسادها، وعمارة بعض البقاع بعد خرابها، وتكوين بعض المعادن، ونشوء بعض النبات، وذكاة بعض الثمر، وصلاح حال بعض الحيوانات، والرخص في بعض المدن، وتجديد النعم على أقوام، وما شاكل ذلك من الصلاح والخير في هذا العالم. ومن الحركات السريعة القصيرة الزمان، القريبة الاستئناف، ما يكون في كل خمسة وعشرين سنة مرة واحدة، وهو أن يحصل المريخ في اثني عشر برجا اثنتي عشرة رجعة، ومن الحوادث في هذا العالم عن هذه الحركة أن يقع نضج بعض المعادن، وسرعة النسوء في بعض النبات، وزيادة القوة في بعض الحيوانات، وظهور الدولة في بعض الناس والأمم، وزيادة القوة في بعض السلاطين، وخروج بعض الخوارج وتجديد ولايات في اللمك، وما شاكل ذلك من تأثيرات قوة المريخ وظهورها في العالم، والقصد منها وفيها هو صلاح شأن الكائنات، والغرض منها هو إبلاغها إلى الكمال والتمام، ولكن ربما تعرض أسباب الفساد، مثل إثارة الحروب والفتن والنصب، في طلب الغارات؛ فيخرب بعض البلدان، وتزول دولة قوم، ويذهب نعيمهم، ولكن عاقبتها تعود إلى الصلاح.
وبالجملة، ما يعرض منها من الفساد عند هذه الحركة في جنب ما يكون منها من الصلاح في العلام شيء يسير.
مثال ذلك حركة الشمس بالطلوع والغروب ليكون بها الليل والنهار، ومسيرها في البروج ليكون الشتاء والصيف كما بينا قبل، ولكن ربما حدث من إسخانها حر شديد؛ فيهلك بعض النبات، ويقتل بعض الحيوانات الضعيفة البنية بلا قصد من الطبيعة ولا عناية من الحكمة.
وكذلك الأمطار القصد منها إحياء البلاد والعشب والكلأ، أو سقي الزروع والثمر لتكون قوتا للحيوان، ولربما كانت مهلكة لبعض الزروع مفسدة لبعض الثمار، وربما خرب السيل بعض البلاد، لكن ذلك في جنب ما يكون من صلاح عامة البلاد والحيوان والنبات شيء يسير.
وهكذا حكم المريخ وزحل والذنب، وما يذكر من مناحسها شيء يسير في جنب ما يكون عن حركاتها من الصلاح في العالم.
ثم اعلم يا أخي أن كثيرا ممن يقر بصحة أحكام النجوم أو يتكلم فيها يظن أن زحل والمريخ والذنب نحوس بالكلية، والزهرة والقمر والمشتري سعود بالكلية، وليس الأمر على ما ظنوا؛ لأنه ربما عرض عن إفراط القوة المنبثة منها في العالم فساد من الرطوبات والبرودات المفرطة، مثل ما يعرض عن إفراط حر الشمس وبرد زحل ويبس المريخ ورطوبة الزهرة والقمر، وأكثر العفونات منها كما يعرض عن المريخ وزحل.
ومن الحركات السريعة القصيرة الزمان، القريبة الاستئناف، حركة فلك تدوير زحل في فلك الحامل الممثل بفلك البروج في كل خمسة آلاف وسبعمائة وواحد وأربعين يوما مرة واحدة، والذي يحدث عن هذه الحركة في هذه المدة تتميم بعض المعادن؛ كالكحل والزرنيخ والحديد وثمار بعض النبات كالزيتون والجوز وبلوغ الإنسان أشده، وعمارة بعض البلاد واستحداث بعض المدن والقرى وانتقال الملك من قوم إلى قوم وما شاكل ذلك.
ومن الحركات البطيئة الطويلة الزمان، البعيدة الاستئناف، حركات الكواكب الثابتة في فلك البروج في ستة وثلاثين ألف سنة مرة واحدة.
وأوجات الكواكب السيارة وحضيضها وجو زهراتها، والذي يحدث عن هذه الحركات في هذه المدة في عالم الكون والفساد، تقل العمارة على سطح الأرض من ربع إلى ربع، وأن تصير مواضع البراري بحارا، ومواضع البحار جبالا، كما بينا في رسالة المعادن كيفية ذلك. وإذ قد فرغنا من ذكر حوادث الأدوار، فنريد أن نذكر طرفا من القرانات وألوفها.
(3) فصل في أن الكائنات التي يستدل عليها المنجمون سبعة أنواع
فنقول: اعلم أن الكائنات التي يستدل عليها المنجمون سبعة أنواع: فمنها الملل والدول اللتان يستدل عليهما من القرانات الكبار التي تكون في كل ألف سنة بالتقريب مرة واحدة؛ ومنها تنقل المملكة من أمة إلى أمة، أو من بلد إلى بلد، أو من أهل بيت إلى أهل بيت آخر، وهي التي تكون ويستدل على حدوثها من القرانات التي تكون في كل مائتين وأربعين سنة مرة واحدة؛ ومنها تبدل الأشخاص على سرير الملك وما يحدث بأسباب ذلك من الحروب والفتن التي يستدل عليها من القرانات التي تكون في كل عشرين سنة مرة واحدة؛ ومنها الحوادث الكائنات التي تحدث في كل سنة من الغلاء والرخص والخصب والجدب والوباء والموت والقحط والأمراض والعلل والحدثان والسلامة؛ ومنها يستدل على حدوثها من تحاويل سني العالم التي عليها تؤرخ التقاويم، ومنها حوادث الأيام شهرا بشهر ويوما بيوم، التي يستدل عليها من أوقات الاجتماعات والاستقبالات التي تؤرخ في التقاويم؛ ومنها أحكام المواليد لواحد واحد من الناس في تحاويل سنيهم من حيث ما يوجب لهم تشكيل الفلك ومواضع الكواكب في أصول مواليدهم وتحاويل سنيهم؛ ومنها الاستدلال على الخفيات من الأمور الجزوية كالخبء والسرقة واستخراج الضمير، والمسائل التي يستدل عليها من طالع وقت المسألة والسؤال عنها.
ثم اعلم أن في كل ثلاثة آلاف سنة تنقل الكواكب الثابتة وأوجات الكواكب السيارة وجو زهراتها في البروج ودرجاتها، وفي كل تسعة آلاف سنة تنتقل من ربع إلى ربع من أرباع الفلك، وفي كل ستة وثلاثين ألف سنة تدور في البروج الاثني عشر دورة واحدة، فبهذا السبب تختلف شعاعات الكواكب على بقاع الأرض وأهوية البلاد، ويختلف تعاقب الليل والنهار والشتاء والصيف عليها؛ إما باعتدال واستواء، وإما بالزيادة والنقصان، وإفراط الحرارة والبرودة واعتداله بينهما، ويكون هذا أسبابا وعللا لاختلاف أحوال أرباع الأرض، وتغيرات أهوية البلاد والبقاع وتبدلها بالصفات من حال إلى حال - يعرف حقيقة ما قلنا المتحذلقون في المجسطي وأحكام القرانات - ويصير بهذه العلل والأسباب زوال الملك والدول وانتقاله من قوم إلى قوم وتغييرات العمارات من ربع إلى ربع آخر، وتكون هذه بموجبات أحكام القرانات الكائنة في الوقت والزمان من جهة القرانات والأدوار في كل ألف سنة مرة واحدة، وفي كل اثنين وعشرين ألف سنة أو في كل ستة وثلاثين ألف سنة مرة، والقرانات الدالة على قوة النحوس وفساد الزمان وخروج الناس عن الاعتدال وانقطاع الوحي وقلة العلماء وموت الأخيار وجور الملوك وفساد الأخلاق للناس وشر أعمالهم واختلاف آرائهم، ويمنع نزول البركات من السماء بالغيث؛ فلا تزكى الأرض ويجف النبات ويهلك الحيوان وتخرب المدن والبلاد؛ إذ هي بروز آخر القران! والقرانات الدالة على قوة السعود واعتدال الزمان واستواء طبيعة الأركان والحدوث بوحي الأنبياء - صلى الله عليهم وسلم - وتواتره وكثرة الأنبياء وعدل الملوك وبركات السماء بالغيث، وتزكو الأرض والنبات، ويكثر تولد الحيوان، وتعمر البلاد، ويكثر بنيان المدن والقرى، وكل ذلك بأمر بارئها على حسب أفعال العباد من الخير والشر جزاء لأعمالهم، فانتبه أيها الأخ من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، واعلم وتيقن أن ما وراء عالمك المحسوس هي جهنم وجحيم عالم آخر، وأمور أخر هي عالم الأرواح ومقر الملائكة والكرويين والروحانيين الموكلين بحفظ هذا العالم ومراتبها. وفقك الله وإيانا بروح منه وجميع إخواننا السداد، إنه رءوف بالعباد.
(تمت رسالة الأدوار والأكوار ويليها رسالة في ماهية العشق.)
الرسالة السادسة من النفسانيات العقليات في ماهية العشق
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
اعلم أيها الأخ أنا قد فرغنا من رسالة الأدوار والأكوار، وبينا فيها كيفية أحوال القرانات - حسب ما جرت عادة إخواننا الكرام - ونريد أن نذكر الآن في هذه الرسالة ماهية العشق ومحبة النفوس والمرض الإلهي، وما حقيقة ذلك ومن أين مبدؤه، فنقول:
اعلم أن الحكماء قد أكثروا القيل والقال في فنون العلوم وطرق المعارف وغرائب الحكم من الرياضيات والطبيعيات والفلسفيات والإلهيات، ولكن بعض تلك العلوم والمعارف ألطف من بعض، وقد عملنا في كل منها رسالة شبه المدخل والمقدمات ليقرب تناوله على المتعلمين، ويسهل أخذه على المبتدئين، ونريد أن نذكر في هذه الرسالة طرفا مما قالت الحكماء والفلاسفة في ماهية العشق وكمية أنواعه وكيفية نشوئه ومبدئه، وما علله الموجبة لكونه، والأسباب الداعية إليه، وما الغرض الأقصى منه إذا كان هذا أمرا موجودا في العالم مركوزا في طباع النفوس دائما لا يعدم ألبتة ما دامت الخليقة موجودة.
واعلم يا أخي أن من الحكماء من قد ذكر العشق وذمه، وذكر مساوئ أهله وقبح أسبابه، وزعم أنه رذيلة؛ ومنهم من قال إن العشق فضيلة نفسانية، ومدحه وذكر محاسن أهله وزين أسبابه؛ ومنهم من لم يقف على أسراره وعلله وأسبابه بحقائقها ودقة معانيها، فزعم أنه مرض نفساني؛ ومنهم من قال: إنه جنون إلهي؛ ومنهم من زعم أنه همة نفس فارغة؛ ومنهم من زعم أنه فعل البطالين الفارغي الهمم الذين لا شغل لهم.
ولعمري إن العشق يترك النفس فارغة من جميع الهم إلا هم المعشوق وكثرة الذكر له والفكرة في أمره وهيجان الفؤاد والوله به وبأسبابه، ولكن ليس ذلك من فعل البطالين الفراغ، كما زعم من لا خبرة له بالأمور الخفية والأسرار اللطيفة ولا يعرف من الأمور إلا ما تجلى للحواس وظهر للمشاعر، وأما الذي يدرك منها بصفاء الذهن وجوة التمييز وكثرة الفكر وشدة البحث ودقة النظر فهم عنها بمعزل.
وذلك أن الذين زعموا أن العشق هو مرض نفساني، أو قالوا إنه جنون إلهي، فإنما قالوا ذلك من أجل أنهم رأوا ما يعرض للعشاق من سهر الليل ونحول الجسم وغور العيون وتواتر النبض والأنفاس الصعداء مثل ما يعرض للمرضى، فظنوا أنه مرض نفساني.
وأما الذين زعموا أنه جنون إلهي فإنما قالوه من أجل أنهم لم يجدوا لهم دواء يعالجونهم به ولا شربة يسقونها إياهم، فيبرءون مما هم فيه من المحنة والبلوى إلا الدعاء لله بالصلاة والصدقة والقرابين في الهياكل ورقي الكهنة وما شاكل ذلك، كما حكى العاشق بقوله، وهو عروة بن جزام، قتيل الحب:
بذلت لعراف اليمامة حكمه
وعراف نجد إن هما شفياني فما تركا من سلوة يعرفانها
ولا رقية إلا بها رقياني فقالا: شفاك الله! والله ما لنا
بما ضمنت منك الضلوع يدان
وأشعار كثيرة للعشاق في هذا المعنى.
وأما الحكماء والأطباء من اليونانيين، فكانوا إذا أعياهم علاج مريض أو مداواة عليل وأيسوا منه، حملوه عند ذلك إلى هيكل المشتري، وتصدقوا عنه وصلوا لله تعالى وقربوا قربانا، وسألوا الكهنة أن يدعوا الله بالشفاء، فإذا برئ سموا ذلك طبا ومرضا وجنونا إلهيا.
ومن الحكماء من زعم أن العشق هو إفراط المحبة وشدة الميل إلى نوع من الموجودات دون سائر الأنواع، وإلى شخص دون سائر الأشخاص، أو إلى شيء دون سائر الأشياء بكثرة الذكر له وشدة الاهتمام به أكثر مما ينبغي، فإن كان العشق هو ذا، فليس إذن أحد من الناس يخلو منه؛ إذ كان لا يوجد أحد إلا وهو يحب ويميل إلى شيء دون سائر الأشياء أكثر مما ينبغي، وكثير من الحكماء والأطباء يسمون هذه الحال ماليخوليا! وقد أكثر الأطباء القيل والقال في هذه العلة وأعياهم علاجها.
وقد ذكرت في كتب أحكام المواليد علل ذلك، تركنا ذكرها مخافة التطويل؛ لأنا نريد أن نتكلم في العشق المعروف عند جمهور الناس؛ وذلك أنهم لا يسمون العشق إلا ما كان من هذه الحال نحو شخص من أبناء الجنس، ذكرا كان أو أنثى.
ومن الحكماء من قال إن العشق هو هوى غالب في النفس نحو طبع مشاكل في الجسد أو نحو صورة مماثلة في الجنس، ومنهم من قال إن العشق هو شدة الشوق إلى الاتحاد؛ ولهذا فأي حال يكون عليها العاشق يتمنى حالا أخرى أقرب منها؛ ولهذا قال الشاعر:
أعانقها والنفس بعد مشوقة
إليها، وهل بعد العناق تدان؟! وألثم فاها كي تزول صبابتي
فيزداد ما ألقى من الهيمان كأن فؤادي ليس يشفي غليله
سوى أن ترى الروحين يمتزجان
وهذا القول أرجح ما قيل فيه وألطف ما أشير إليه، ونحتاج أن نشرح هذا الباب لتتضح حقيقته وتعرف أسبابه، ولكن لما كان الاتحاد هوى نفسانيا وتأثيرا روحانيا احتجنا إلى أن نذكر أنواع النفوس وأنواع معشوقاتها، وعلل تلك وأسبابها.
وأما الفرق بين العلل والأسباب، فهو أن العلل كائنة في طباع النفوس والأسباب خارجة منها، كما سنبين بعد هذا الفصل.
واعلم يا أخي أن النفوس المتجسدة لما كانت ثلاثة أنواع، كما قالت الحكماء والفلاسفة، صارت معشوقاتها أيضا ثلاثة أنواع: فمنها النفس النباتية الشهوانية، وعشقها يكون نحو المأكولات والمشروبات والمناكح؛ ومنها النفس الغضبية الحيوانية، وعشقها يكون نحو القهر والغلبة وحب الرياسة؛ ومنها النفس الناطقة، وعشقها يكون نحو المعارف واكتساب الفضائل.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه ليس أحد من الناس يخلو من نوع من هذه الأنواع الثلاثة التي ذكرناها، أو يكون آخذا بنصيب من كل واحد منها، قل أو كثر؛ والعلة في ذلك أنه لما كان من شأن النفوس أن تتبع أمزجة الأبدان في إظهار أفعالها وأخلاقها ومعارفها، وبخاصة ما كان أغلب منها في المزاج وأقوى في أصل التركيب، كما بينا في رسالة الأخلاق ورسالة مسقط النطفة؛ وذلك أن كل إنسان يكون المستولي عليه في أصل مولده القمر أو الزهرة وزحل؛ فإن الغالب على طبيعته قوة النفس الشهوانية نحو المأكولات والمشروبات والجمع والادخار لها؛ وإن يكن المستولي المريخ والزهرة أو القمر، فإن الغالب على طبيعته شهوة الجماع والمناكح؛ وإن كان المستولي على أصل مولده الشمس والمريخ، فإن الغالب على طبيعته تكون شهوة النفس الغضبية نحو القهر والغلبة وحب الرياسة؛ وإن كان المستولي عليه في أصل مولده الشمس وعطارد والمشتري، فإن الغالب على طبيعته تكون شهوات النفس الناطقة نحو المعارف واكتساب الفضائل والعدل.
وقد بينا في رسالة مسقط النطفة كيف يتقرر في جبلة الجنين وطبع المولود تأثيرات هذه الكواكب، وبينا في رسالة الأخلاق كيف يعتاد الإنسان باكتساب تلك الطباع والأخلاق التي في الطباع قبولها وتهيئها أو ضد ذلك. وإذ قد فرغنا من ذكر ما احتجنا إلى أن نذكره، فنرجع الآن إلى تفسير قول من قال من الحكماء إن العشق هو شدة الشوق إلى الاتحاد، فنقول: إن الاتحاد هو من خاصية الأمور الروحانية والأحوال النفسانية؛ لأن الأمور الجسمانية لا يمكن فيها الاتحاد، بل المجاورة والممازجة والمماسة لا غير، فأما الاتحاد فهو في الأمور النفسانية كما سنبين في هذه الفصول.
واعلم يا أخي أن مبدأ العشق وأوله نظرة أو التفات نحو شخص من الأشخاص، فيكون مثلها كمثل حبة زرعت أو غصن غرس أو نطفة سقطت في رحم بشر، وتكون باقي النظرات واللحظات بمنزلة مادة تنصب إلى هناك، وتنشأ وتنمي على ممر الأيام إلى أن تصير شجرة أو جنينا؛ وذلك أن همة العاشق ومناه هو الدنو والقرب من ذلك الشخص، فإذا اتفق[1] في ذلك وسهل تمنى الخلوة والمجاورة، فإذا سهل ذلك تمنى المعانقة والقبلة، فإذا سهل ذلك تمنى الدخول في ثوب واحد والالتزام بجميع الجوارح أكثر ما يمكن. ومع هذه كلها الشوق بحاله لا ينقص شيئا بل يزداد وينمو كما قيل:
أعانقها والنفس بعد مشوقة
إليها وهل بعد العناق تدان؟! وألثم فاها كي تزول صبابتي
فيزداد ما ألقى من الهيمان كأن فؤادي ليس يشفي غليله
سوى ما يرى: زوجان ممتزجان
ثم اعلم أن روح الحياة إنما هو بخار رطب يتحلل من الرطوبة والدم وينشأ في جميع البدن، ومنها تكون حياة البدن والجسم، ومادة هذه الروح من استنشاق الهواء بالتنفس، دائما لترويح الحرارة الغريزية التي في القلب، فإذا تعانق العاشق والمعشوق جميعا وتباوسا وامتص كل واحد منهما ريق صاحبه وبلعه، وصلت تلك الرطوبة إلى معدة كل واحد منهما، وامتزجت هناك مع الرطوبات التي في المعدة، ووصلت إلى جرم الكبد واختلطت بأجزاء الدم هناك ، وانتشر في العروق الواردة إلى سائر أطراف الجسد، واختلطت بجميع أجزاء البدن، وصارت لحما ودما وشحما وعروقا وعصبا وما شاكل ذلك.
وهكذا أيضا إذا تنفس كل واحد منهما في وجه صاحبه، خرج من تلك الأنفاس شيء من نسيم روح كل واحد منهما واختلط بأجزاء الهواء، فإذا استنشقا من ذلك الهواء دخلت إلى خياشيمهما أجزاء ذلك النسيم مع الهواء المستنشق، ووصل بعضه إلى مقدم الدماغ، وسرى فيه كسريان النور في جرم البلور، واستلذ كل واحد منهما ذلك التنسيم، ووصل أيضا من أجزاء ذلك الهواء المستنشق بعض إلى جرم الرئة في الحلقوم، ومن الرئة إلى جرم القلب مع النبض في العروق الضوارب إلى جميع أجزاء الجسد، واختلط هناك بالدم واللحم وما شاكل ذلك من أجزاء الجسد، وانعقد في بدن هذا ما تحلل من جسد هذا! وفي بدن هذا ما تحلل من جسد ذاك.
فيكون من ذلك ضروب، ومن المزاجات من تلك الأمزجة ضروب الأخلاط، ومن تلك الأخلاط ضروب الأخلاق، كل ذلك بحسب أمزجة أبدانها، ومن شأن النفس أن تتبع مزاج البدن في إظهار أفعالها وأخلاقها؛ لأن مزاج الجسد وأعضاء البدن ومفاصله للنفس بمنزلة آلات وأدوات للصانع الحكيم يظهر بها ومنها أفعاله، فلهذه الأسباب والعلل التي ذكرناها يتولد العشق والمحبة على ممر الأيام بين المتحابين وينشأ وينمو، فأما الذي يتغير من المحبة ويفسد بعد التأكيد فلأسباب يطول شرحها، ولكن نذكر أولا ما العلة في محبة شخص لشخص دون سائر الأشخاص، فنقول:
إن العلة في ذلك اتفاق مشاكلة الأشخاص الفلكية في أصل مولدهما بضرب من الضروب الموافقة من بعض لبعض، وهي كثيرة الفنون، ولكن نذكر منها طرفا ليكون دليلا على الباقية؛ فمنها أن يكون مولدهما ببرج واحد أو رب البرجين كوكب واحد، أو يكون البرجان متفقين في بعض المثاني كالمثلث، أو تكون مطالعهما متساوية، أو ساعات نهارهما متفقة، وما شاكل ذلك مما يطول شرحه، يعرف حقيقة ما قلنا أصحاب الأحكام الناظرون في مواليد الناس. وأما تغير العشق بعد ثباته زمانا طويلا فهو تغير أشكال الفلك في تحاويل سني مواليد الناس وسير درجة الطالع وتنقلها في حدود البروج والوجوه، وهكذا تسييرات شعاعات الكواكب في أبراج الانتهاءات في مستقبل السنين.
واعلم يا أخي أن كل الكائنات التي دون فلك القمر فهي مربوطة الأحوال بحركات الأشخاص الفلكية، كما بينا في رسالة ماهية الطبيعة ورسالة الأدوار والأكوار ورسالة الأفعال الروحانية.
(1) فصل في ماهية علة فنون المعشوقات
اعلم يا أخي أن كثيرا من الناس يظنون أن العشق لا يكون إلا للأشياء الحسنة حسب! وليس الأمر كما ظنوا؛ فإنه قد قيل: يا رب مستحسن ما ليس بالحسن! ولكن العلة في ذلك هي الاتفاقات التي بين العاشق والمعشوق، وهي كثيرة لا يحصي عددها إلا الله جل ثناؤه، ولكن نذكر منها طرفا ليكون دليلا على الباقية.
وذلك أن الاتفاقات بحسب المناسبات التي بين أجزاء المركبات، فمن تلك المناسبات ما هي بين كل حاسة ومحسوساتها؛ وذلك أن القوة الباصرة لا تشتاق إلا إلى الألوان والأشكال، ولا تستحسن منها إلا ما كان على النسبة الأفضل، وهكذا القوة السامعة لا تشتاق إلا إلى الأصوات والنغم، ولا تستلذ منها إلا ما كان على النسبة الأفضل، كما بينا في رسالة الموسيقى.
وعلى هذا القياس سائر الحواس كل واحدة منها لا تشتاق إلا إلى محسوساتها، ولا تستحسن ولا تستلذ إلا ما كن منها على النسبة الأفضل بينهما في الآفاق، ولما كان تراكيب أمزجة الحواس والمحسوسات كثيرة الفنون وكثيرة التغيير غير ثابتة على حالة واحدة، صارت القوى الحساسة في إحساسها لمحسوساتها مفننة متغيرة؛ وذلك أنك تجد واحدا من الناس أو من الحيوان يستلذ مأكولا أو مشروبا أو مسموعا أو مشموما والآخر لا يستلذه، بل ربما كان يكرهه ويتألم منه، وهكذا تجد الإنسان الواحد يستلذ في وقت ما شاء ويستحسنه، وفي آخر يكرهه ويتألم منه، كل ذلك بحسب اختلاف التراكيب وفنون الأمزجة، وما يعرض لها وما يحدث بينها من المناسبات والمنافرات، وشرحها طويل.
واعلم يا أخي أن الحكمة الإلهية والعناية الربانية قد ربطت أطراف الموجودات بعضها ببعض رباطا واحدا، ونظمتها نظاما واحدا.
وذلك أن الموجودات لما كان بعضها عللا وبعضها معلولات، ومنها أوائل ومنها ثوان، جعلت في جبلة المعلولات نزوعا نحو علاتها واشتياقا إليها، وجعلت أيضا في جبلة علاتها رأفة ورحمة وتحننا على معلولاتها كما يوجد ذلك في الآباء والأمهات على الأولاد، ومن الكبار على الصغار، والأقوياء على الضعفاء؛ لشدة حاجة الضعفاء إلى معاونة الأقوياء، والصغار إلى الكبار، كما أجاب رئيس قريش وحكيمها لما سأله كسرى: أي أولاد أحب إليك؟ فقال: صغيرهم حتى يكبر، وعليلهم حتى يبرأ، وغائبهم حتى يرجع.
فصل
ثم اعلم أن الأطفال والصبيان إذا استغنوا عن تربية الآباء والأمهات فهم بعد محتاجون إلى تعليم الأستاذين لهم العلوم والصنائع ليبلغوا بهم إلى التمام والكمال، فمن أجل هذا يوجد في الرجال البالغين رغبة في الصبيان ومحبة للغلمان؛ ليكون ذلك داعيا لهم إلى تأديبهم وتهذيبهم وتكميلهم للبلوغ إلى الغايات المقصودة بهم، وهذا موجود في جبلة أكثر الأمم التي لها شغف في تعلم العلم والصنائع والأدب والرياضات مثل أهل فارس وأهل العراق وأهل الشام والروم وغيرها من الأمم. وأما الأمم التي لا تتعاطى العلوم والصنائع والأدب مثل الأكراد والأعراب والزنج والترك، فإنه قلما يوجد فيهم ولا في طباعهم الرغبة في نكاح الغلمان وعشق المردان.
وأما محبة النساء للرجال وعشقها فإن ذلك في طباع أكثر الحيوانات التي لها سفاد.
وإنما جعلت تلك في طبائعها لكيما يدعوها إلى الاجتماع والسفاد ليكون منها النتاج، والغرض منها بقاء النسل وحفظ الصورة في الهيولى بالجنس والنوع؛ إذ كانت الأشخاص دائما في السيلان، والغرض من هذه كلها بعيد من أفكار أكثر العقلاء، وقد بينا ذلك في رسالة المبادئ ورسالة البعث.
(2) فصل في أنواع المحبوبات وما الحكمة فيها
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن المحبة مفننة، والمحبوبات كثيرة لا يحصي عددها إلا الله، ولكنا نذكر منها طرفا ليكون دليلا على الباقية؛ فمن أنواع المحبوبات محبة الحيوانات الازدواج والنكاح والسفاد لما فيه من بقاء النسل؛ ومنها محبة الأمهات والآباء للأولاد وتحننهم على الصغار وتربيتهم لهم وإشفاقهم عليهم، كأنها مجبولة في طباعهم مركوزة في نفوسهم لشدة حاجة الصغار إلى الكبار؛ ومنها محبة الرؤساء والرياسات وحرصهم على طلبها ومراعاتهم لمرءوسيهم وحفظهم لهم وإشفاقهم عليهم، ومحبتهم للمدح والثناء والشكر كأنها مجبولة في طباعهم مركوزة في نفوسهم؛ ومنها محبة الصناع في إظهار صنائعهم وحرصهم على تتميمها وشهوتهم لتحصيلها وتركيبها، كأنه شيء مجبول في طباعهم مركوز في نفوسهم لشدة حاجتهم إليها؛ ومنها محبة التجار لتجاراتهم ورغبة الراغبين في الدنيا وحرصهم على الجمع والادخار لها وحفظها، ومحبة عمارة الأرض وإصلاح الأمتعة وجمعها وحفظها، كأنه شيء مجبول في طباعهم مركوز في نفوسهم لما فيه من الصلاح لغيرهم ومن يأتي من بعدهم؛ ومنها محبة العلماء والحكماء لاستخراج العلوم ووصف الآداب وتعليم الرياضات والبحث عن الغوامض والفحص عنها وتدوينها في الكتب والأدراج، أمة بعد أمة، وقرنا بعد قرن، كأنه شيء مجبول في طباعهم مركوز في نفوسهم لما فيه من إحياء النفوس وإصلاح الأخلاق وصلاح الدين والدنيا جميعا؛ ومنها محبة البر والإحسان وما يقال فيهما من المدح والثناء، كأنه شيء مجبول في طباع البشر مركوز في نفوسهم لما فيه من الحث على مكارم الأخلاق؛ ومنها محبة أبناء الجنس وما يسمى العشق وما يصف العشاق من أحوالهم وأحوال معشوقهم، وما يجدون في نفوسهم من الأفكار والهموم والأحزان والفرح والسرور والنشاط، وما يذكرون من الأخلاق الجميلة والطرائق الحميدة، وما يذمون من الأخلاق المذمومة والأحوال المرذولة، قالوا: لو لم يكن العشق موجودا في الخليقة لخفيت تلك الفضائل كلها، ولم تظهر ولم تعرف تلك الرذائل أيضا! فقد بان وتبين إذن بما ذكرنا أن المحبة والعشق فضيلة ظهرت في الخليقة، وحكمة جليلة وخصلة نفيسة عجيبة، ذلك من فضل الله على خلقه وعنايته بمصالحهم، ودلالة لهم عليه وترغيبا لهم فيما أمر به من المزيد.
واعلم يا أخي أن محبوبات النفوس ومعشوقاتها مفننة، وهي بحسب مراتبها في العلوم ودرجاتها في المعارف؛ وذلك أن النفس الشهوانية لا يليق بها محبة الرياسة والقهر والغلبة، ولا النفس الحيوانية يليق بها محبة العلوم والمعارف واكتساب الفضائل، ولا النفس الملكية يليق بها محبة الأجساد والكون مع الأجسام اللحمية والدموية، بل الذي يليق بها محبة فراق الأجساد والارتقاء إلى ملكوت السماء، والسيحان في سعة فضاء الأفلاك والتنسم من ذلك الروح والريحان المذكور في القرآن.
ومن أجل هذا الذي ذكرنا من مراتب النفوس وما يليق بها من المعشوقات، أنك لا تجد ولا ترى نفسا تحب وتعشق وتشتاق إلا لأبناء جنسها وما شاكلها من المحبوبات والمعشوقات؛ مثال ذلك أنفس الصبيان والناقصين من الناس، فإنهم لا يحبون ولا يعشقون إلا اللعب والتماثيل المصورة والمزينة المشاكلة لمرتبة نفوسهم، فإذا عقلوا وتعلموا وارتاضوا ارتفعت هممهم وشغلت نفوسهم بغيرها مما هو أشد تحقيقا مما كانوا فيه؛ وهو الصورة من الأشكال والمحاسن والزينة الموجودة في الأشكال والأجساد اللحمية من الحيوان والناس، وهي المحبوبة المرغوبة فيها، المشتهاة المعشوقة عند أكثر الناس من البالغين العقلاء، فإذا ارتاضت نفوسهم في العلوم الإلهية والمعارف الربانية ارتفعت نفوسهم أيضا عن هذه الصور والتماثيل المزوقة الموجودة في اللحم والدم إلى ما هي أشرف منها وأفضل؛ وهي الصورة للنفوس ذوات الحسن والبهاء والكمال والجمال التي تراها النفوس الناطقة الناجية[2] في عالم الأرواح.
ثم اعلم أنه لما قصرت أفهام كثير من الناس عن تصورها، وقلت معرفتهم بها، رضوا بهذه الصورة والأشباح الجسمية الجسدانية المؤلفة من اللحم والدم والصديد، واطمأنوا إليها وسكنوا إليها، وتمنوا الخلود بها لنقص نفوسهم، كما ذكر الله تعالى: @QUR010 ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون، وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى.
ثم اعلم يا أخي أنه مقرر في طباع الموجودات وجبلة النفوس محبة البقاء والدوام السرمدي على أتم الحالات وأكمل الغايات، وأتم حالات النفس الشهوانية بأن تكون موجودة أبدا، تتناول شهواتها وتتمتع بلذاتها، التي هي مادة وجود أشخاصها من غير عائق ولا تنغيص.
وهكذا من أتم حالات النفس الحيوانية أن تكون موجودة أبدا، رئيسة على غيرها، قاهرة لمن سواها، منتقمة ممن يؤذيها من غير عائق ولا تنغيص.
وهكذا أيضا من أتم حالات النفس الناطقة أن تكون موجودة أبدا، مدركة لحقائق الأشياء، متصورة لها، ملتذة بها، مسرورة فرحانة بلا عائق ولا تنغيص.
وإنما صارت النفوس الناطقة تلتذ بالعلوم والمعارف؛ لأن صور المعلومات في ذاتها هي المتممة لها، المكملة لفضائلها، المبلغة لها إلى أتم غاياتها وأفضل نهاياتها عند باريها جل ثناؤه كما قال تعالى: @QUR06 في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
ثم اعلم أن هذه الأحوال لا تليق بالنفس الشهوانية ولا بالنفس الغضبية، ولكن تليق بالنفس الناطقة إذا هي انتبهت من نوم الغفلة واستيقظت من رقدة الجهالة، وانفتحت لها عين البصيرة وعاينت عالمها وعرفت مبدأها ومعادها، واشتاقت عند ذلك إلى باريها وتاقت وحنت إليه كما يحن العاشق إلى معشوقه، وإلى هذا أشار بقوله تعالى: @QUR05 والذين آمنوا أشد حبا لله؛ يعني من كل محبوب سواه.
ثم اعلم أن كل نفس إذا أحبت شيئا اشتاقت وحنت نحوه وطلبته وتوجهت نحوه حيث كان، ولم تلتفت إلى شيء سواه، ولم تعرج عليه كما قال الشاعر:
أحب حبيبا واحدا لست أبتغي
مدى الدهر عنه ما حييت بديلا فإن ظفرت كفي به فهو بغيتي
وإن فات ما أبغي سواه خليلا
ثم اعلم أن كل محب لشيء من الأشياء مشتاق إليه هائم به، وأنه متى وصل إليه ونال ما يهواه منه وبلغ حاجته من الاستمتاع به والتلذذ بقربه، فإنه ولا بد يوما من أن يفارقه، أو يمله، أو يتغير عليه وتذهب تلك الحلاوة وتتلاشى تلك البشاشة ويخمد لهب ذلك الاشتياق والهيجان، إلا المحبين لله تعالى من المؤمنين والمشتاقين إليه من عباده الصالحين، فإن لهم كل يوم من محبوبهم قربة ومزيدا أبد الآبدين بلا نهاية ولا غاية، وإلى المحبين لسواه عز وجل أشار بقوله: @QUR011 كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، ثم عطف نحو محبيه فذكر حالهم وكنى عن ذكرهم، وإلى نحو ذكرهم فقال تعالى: @QUR05 ووجد الله عنده فوفاه حسابه؛ يعني عند المحب.
وكما روي في الخبر عن موسى عليه السلام أنه نادى ربه فقال: «يا رب أين أجدك؟» فقال: «عند المنكسرة قلوبهم من أجلي.» وقال عليه السلام: «اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.»
ثم اعلم أن رؤية أولياء الله تعالى - جل اسمه - ليست كرؤية الأشخاص والأشباح والصور والأجناس والأنواع والجواهر والأعراض والصفات والموصوفات في الأماكن والمحاذيات، ولكن بنوع أشرف منها وأعلى، وفوق كل وصف جسماني ونعت جرماني، وهي رؤية نور بنور لنور في نور من نور كما قال الله تعالى: @QUR025 الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية؛ أي لا صورية ولا هيولانية.
ثم اعلم أن الغرض الأقصى من وجود العشق في جبلة النفوس ومحبتها الأجساد واستحسانها لها ولزينة الأبدان واشتياقها إلى المعشوقات المفتنة، كل ذلك إنما هو تنيبه لها من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، ورياضة لها وتعريج لها، وترقية من الأمور الجسمانية المحسوسة إلى الأمور النفسانية المعقولة، ومن الرتبة الجرمانية إلى المحاسن الروحانية، ودلالة على معرفة جوهرها وشرف عنصرها ومحاسن عالمها وصلاح معادها، وكل ذلك أن جميع المحاسن والزينة وكل المشتهيات من المرغوب فيها الذي يرى على ظواهر الأجرام وسطوح الأجسام، إنما هي أصباغ ونقوش ورسوم قد صورتها النفس الكلية في الهيولى الأولى، وزينت بها ظواهر الأجرام وسطوح الأجسام؛ كيما إذا نظرت إليها النفوس الجزئية حنت إليها وتشوقت نحوها، وقصدت لطلبها بالنظر إليها والتأمل لها والتفكر فيها والاعتبار لأحوالها؛ كل ذلك كيما تتصور تلك الرسوم والمحاسن والنقوش في ذاتها وتنطبع في جوهرها، حتى إذا غابت تلك الأشخاص الجرمانية عن مشاهدة الحواس لها، بقيت تلك الرسوم والصور المعشوقة المحبوبة مصورة فيها أعين النفوس الجزئية صورة روحانية صافية باقية معها، معشوقاتها متحدة بها لا تخاف فراقها لا فواتها أبدا.
والدليل على ما قلنا وصحة ما وصفنا معرفة من عشق يوما من أيام عمره لشخص من الأشخاص ثم تسلى عنه أو فقده أو تغير عليه، ثم إنه وجده من بعده وقد تغير عما كان عليه وعهده من الحسن والجمال وتلك الزينة والمحاسن التي كان رآها على ظاهر جسمه، فإنه متى رجع عند ذلك فنظر إلى تلك الرسوم والصور التي هي باقية في نفسه منذ العهد القديم، وجدها بحالها تلك ولم تتغير ولم تتبدل ورآها برمتها، فتشاهد النفس في ذاتها حينئذ من تلك المحاسن والصور والرسوم والأصباغ ما كانت من قبل تراها على غير تغير، وتجد في جوهرها ما كانت قبل ذلك تطلبه خارجا عنها، فعند ذلك تبين له وعلم أن المعشوق والمحبوب بالحقيقة إنما هي تلك الرسوم والصور التي كان يراها على ذلك الشخص، وهو اليوم يراها منقوشة في نفسه مرسومة في جوهره مصورة في ذاته باقية لم تتغير! فإذا فكر العاقل اللبيب فيما وصفنا انتبهت نفسه من نوم غفلتها، واستيقظت من رقدة جهالتها، واستقلت بذاتها، وفازت بجوهرها، واستغنت عن غيرها، وكان حالها كما وصف المحب بقوله:
قد كنت آلف موطنا وتشوقني
نحو الأحبة لوعة ما تنكر والآن ما لي مصدر عن موردي
ما للعبيد عن الموالي مصدر
فاستراحت نفسه عند ذلك من تعبها وعنائها ومقاسات صحبة غيرها، وتخلصت من السقام الذي لا يزال يعرض لعاشقي الأجرام ومحبي الأجسام حسب ما وصفوه في أشعارهم وشكوه من أحوالهم كما قال بعضهم:
وما في الأرض أشقى من محب
وإن وجد الهوى حلو المذاق تراه باكيا في كل حين
مخافة فرقة أو لاشتياق فيبكي إن نأى شوقا إليه
ويبكي إن دنا خوف الفراق فتسخن عينه عند التنائي
وتسخن عينه عند التلاقي
فصل
ثم اعلم أن من ابتلي بعشق شخص من الأشخاص ومرت به تلك المحن والأهوال وعرضت تلك الأحوال، ثم لم تنتبه نفسه من نوم غفلتها فيتسلى ويفيق، أو نسي وابتلي من بعد بعشق ثان لشخص آخر؛ فإن نفسه نفس غريقة في عمائها، سكرى في جهالتها كما قيل:
تسلت عمايات الرجال عن الصبي
وما إن أرى عنك الغواية تنجلي
ثم اعلم أن في الناس خواص وعوام؛ فالعوام من الناس هم الذين إذا رأوا مصنوعا حسنا أو شخصا مزينا تشوقت نفوسهم إلى النظر إليه والقرب منه والتأمل له ، وأما الخواص فهم الحكماء الذين إذا رأوا صنعة محكمة أو شخصا مزينا تشوقت نفوسهم إلى صانعها الحكيم ومبدئها العليم ومصورها الرحيم، وتعلقت به وارتاحت إليه، واجتهدوا في التشبه به في صنائعهم والاقتداء به في أفعالهم؛ قولا وفعلا وعلما وعملا.
ثم اعلم أن النفوس الناقصة تكون قصيرة الهمم لا تحب إلا زينة الحياة الدنيا، ولا تتمنى إلا الخلود فيها؛ لأنها لا تعرف غيرها ولا تتصور سواها! فأما النفس الشريفة المرتاضة فهي تأنف من الرغبة في الدنيا، بل تزهد فيها وتريد الآخرة، وترغب فيها وتتمنى اللحوق بأبناء جنسها وأشكالها من الملائكة، وتشتاق إلى الترقي إلى ملكوت السماء والسيحان في سعة فضاء الأفلاك، ولكن لا يمكن إلا بعد فراق الجسد على شرائط محدودة، كما ذكرنا في رسالة البعث والقيامة.
واعلم أن نفوس الحكماء تجتهد في أفعالها ومعارفها وأخلاقها في التشبه بالنفس الكلية الفلكية وتتمنى اللحوق بها، والنفس الكلية أيضا كذلك فإنها تتشبه بالباري في إدارتها الأفلاك وتحريكها الكواكب وتكوينها الكائنات، كل ذلك طاعة لباريها وتعبدا له واشتياقا إليه، ومن أجل هذا قالت الحكماء: «إن الله هو المعشوق الأول، والفلك إنما يدور شوقا إليه ومحبة للبقاء والدوام المديد على أتم الحالات وأكمل الغايات وأفضل النهايات.»
ثم اعلم أن الباعث للنفس الكلية على إدارة الفلك وتسيير الكواكب هو الاشتياق منها إلى إظهار تلك المحاسن والفضائل والملاذ والسرور التي في عالم الأرواح التي تقصر ألسن الوصف عنها إلا مختصرا كما قال تعالى: @QUR06 وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
ثم اعلم أن تلك المحاسن والفضائل والخيرات كلها إنما هي من فيض الله وإشراق نوره على العقل الكلي، ومن العقل الكلي على النفس الكلية، ومن النفس الكلية على الهيولى، وهي الصورة التي ترى الأنفس الجزئية في عالم الأجسام على ظواهر الأشخاص والأجرام التي من محيط الفلك إلى منتهى مركز الأرض.
ثم اعلم أن مثل سريان تلك الأنوار والمحاسن من أولها إلى آخرها كمثل سريان النور والضياء التي في ليلة البدر منبعثا من جرم جوهر القمر على الهواء، والذي على جرم القمر من الشمس، والذي على جرم الشمس والكواكب جميعا من إشراق النفس الكلية، والذي على النفس الكلية من العقل الكلي، والذي على العقل الكلي من فيض الباري وإشراقه كما قال الله تعالى: @QUR04 الله نور السماوات والأرض فقد تبين بما ذكرنا أن الله هو المعشوق الأول وأن كل الموجودات إليه تشتاق، ونحوه تقصد، وإليه يرجع الأمر كله؛ لأن به وجودها وقوامها وبقاءها ودوامها وكمالها؛ لأنه هو الموجود المحض، وله البقاء والدوام السرمد، والتمام والكمال المؤيد، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاهلون علوا كبيرا، بلغك الله أيها الأخ إليه وتمم نورك كما وعد أولياءه وأصفياءه من عباده، وذلك قوله تعالى: يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير. وفقك الله وإيانا وجميع إخواننا الكرام إلى طريق السداد، وهداك وإيانا وجميع إخواننا سبيل الرشاد إنه رءوف بالعباد.
(تمت رسالة ماهية العشق ويليها رسالة البعث والقيامة.)
الرسالة السابعة من النفسانيات العقليات في البعث والقيامة
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
اعلم أيها الأخ أنا قد فرغنا من بيان ماهية العشق ومحبة النفوس ما هو أشرف وأحسن وأكمل وأجمل وأتم وأدوم منها، ونريد الآن أن نذكر في هذه الرسالة ماهية البعث والقيامة وكيفية المعراج، فنقول:
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن العلوم كثيرة، وكلها شريفة، وفي معرفتها عزة، وفي طلبها نجاة من الهلكة، ونيلها حياة للنفوس وراحة للقلوب، وتعلمها هدى ورشد وخروج من ظلمات الجهالة وصلاح في الدين والدنيا جميعا، ولكن بعض العلوم أشرف من بعض وأهلها يتفاضلون، وذلك أن أفضل العلماء هم أهل الدين والورع، الذين هم من أمر الآخرة على يقين وبصيرة، لا على تقليد ورواية.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن معرفة حقيقة الآخرة والعلم بالمعاد محجوب عن إبليس وذريته المنكرين لما غاب عن رؤية الأبصار وعن أهل التقليد الذين لا يعرفون حقيقة ما هم مقرون به من أمر الآخرة والبعث والقيامة والحشر والحساب والميزان والصراط والمعاد والجزاء هناك: إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا؛ لأن هذا العلم هو لب الألباب وسر لأولياء الله دون سواهم؛ لأن أولياء الله هم المصطفون الأخيار الذين أخلصوا بخالصة ذكرى الدار، ونريد أن نلوح من هذا العلم طرفا في هذه الرسالة الجليلة القدر بإشارات مرموزة وأمثال مضروبة للمريدين لله عز وجل الطالبين دار الآخرة؛ إذ كان الإخبار عن حقيقتها يدق عن البيان، ويبعد عن التصور بالأفكار والتخيل بالأوهام، إلا لأنفس زاكية وأرواح طاهرة وقلوب واعية وآذان سامعة، ولكن قبل ذلك نحتاج أن نذكر النفس والروح وحقيقتهما وماهيتهما وتصاريف أمرهما؛ إذ كان معرفة حقيقة الآخرة وأمر المعاد بعد معرفة البعث والقيامة بعد معرفة النفس والروح، وعلة أخرى أيضا أن قوما من علماء الإسلام يتعاطون العلوم والكلام والجدل، وينكرون أمر النفس ووجودها، ويجهلون حقيقة الروح وتصاريف أحوالها.
من أجل هذا احتجنا إلى أن ندل أولا على وجود النفس وماهية جوهرها وتصاريف أمورها بطريق السمع والإخبار، وما ذكر في الأخبار والكتب النبوية المنزلة، ثم نذكر حججا عقلية حكمية؛ لأن قوما من هؤلاء المجادلة لا يرضون طريق السمع والإخبار، ولا يقنعهم ذلك لشكوك في نفوسهم وريبة في قلوبهم، بل يريدون دلائل عقلية وحججا فلسفية، فنقول:
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الحكماء والفلاسفة قد أكثرت في كتبها وفي مذكراتها ذكر النفوس، وحثت تلاميذها وأولادها على طلب علم النفس ومعرفة جوهرا؛ لأن في علم النفس ومعرفة جواهرها معرفة حقائق الأشياء الروحانية من أمر المبدأ والمعاد والباري تعالى عز وجل وملائكته، وخاصة معرفة البعث وحقيقة القيامة والنشر بعد الموت والحشر والحساب والجزاء وثواب المحسنين وعقاب المسيئين.
وذلك أن كل إنسان لا يعرف نفسه ولا يعلم ذاته ولا يعلم ما الفرق بين النفس والجسد تكون همته كلها مصروفة إلى إصلاح أمر الجسد ومرافق أمر البدن من لذة العيش والتمتع بنعيم الدنيا وتمني الخلود فيها مع نسيان أمر المعاد وحقيقة الآخرة ! وإذا عرف الإنسان نفسه وحقيقة جوهرها، صارت همته في أكثر الأحوال في أمر النفس، وفكرته أكثرها في إصلاح شأنها، وكيفية حالها بعد الموت، واليقين بأمر المعاد، والاستعداد للرحلة من الدنيا والتزود للمعاد، والمسارعة في الخيرات والتوبة، وتجنب الشر والمنكر والمعاصي.
فإذا فعل ذلك يزول عنه خوف الموت، وربما تمنى لقاء الله تعالى، وهذه صفة أولياء الله تعالى وعباده الصالحين كما ذكر الله سبحانه وأشار إليهم بقوله في كتابه على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في توبيخه لليهود لما زعموا أنهم أولياء الله من دون الناس فقال لهم: @QUR05 فتمنوا الموت إن كنتم صادقين بأنكم أولياء الله من دون الناس، وإنما يتمنى أولياء الله الموت إذا تذكروا ما وعدهم الله وأعده لهم من التحية والسلام كما قال جل ثناؤه: @QUR08 تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما، وقال تعالى أيضا: @QUR033 ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وقد علم كل عاقل علما يقينا أن أجساد هؤلاء قد بليت في التراب، وأن هذه الكرامة والتحية والسلام هي لأرواحهم ونفوسهم الطاهرة الزكية كما ذكر جل ثناؤه بقوله تعالى: @QUR017 يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي، وقال تعالى: @QUR017 ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها، وقال تعالى: @QUR015 يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون، وقال أيضا: @QUR08 إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، وقال جل وعز: @QUR020 الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى، وآيات كثيرة في القرآن في ذكر النفس وخطابها بالتأنيث ليعلم كل عاقل أنها هي شيء غير الجسد؛ لأن الجسد مذكر لا يخاطب بالتأنيث، فكفى بهذا فرقا وبيانا بين النفس والجسد.
وقد يعلم كل عاقل إذا تأمل وتفكر في أمر الجسد أنه جسم مؤلف من اللحم والدم والعروق والعصب والعظام وما شاكلها، وأصله نطفة ودم انطمس، ثم اللبن والغذاء والمأكولات والمشروبات، ثم آخر الأمر الموت وبعد مفارقة النفس إياه يبلي ويصير ترابا، ثم يعاد خلقا جديدا إذا شاء الله كما وعد جل ثناؤه.
فأما النفس، يعني الروح، فهي جوهرة سماوية نورانية حية علامة فعالة بالطبع، حساسة دراكة لا تموت ولا تفنى بل تبقى مؤبدة، إما ملتذة وإما مؤتلمة؛ فأنفس المؤمنين من أولياء الله وعباده الصالحين يعرج بها بعد الموت إلى ملكوت السموات وفسحة الأفلاك وتخلى هناك، فهي تسبح في فضاء من الروح وفسحة من النور وروح وراحة إلى يوم القيامة الطامة الكبرى، فإذا انتشرت أجسادها ردت إليها لتحاسب وتجازى بالإحسان إحسانا والسيئات غفرانا.
وأما أنفس الكفار والفساق والأشرار فتبقى في عماها وجهالاتها معذبة متألمة مغتمة حزينة خائفة وجلة إلى يوم القيامة، ثم ترد إلى أجسادها التي خرجت منها لتحاسب وتجازى بما علمت من سوء.
والدليل على صحة ما قلنا وحقيقة ما وصفنا قول الله سبحانه: @QUR013 النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب، وقال أيضا: @QUR016 ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون، وقال أيضا: @QUR06 وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين، وقال: @QUR012 ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار، وقال أيضا: @QUR08 يصلونها يوم الدين * وما هم عنها بغائبين، وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى تدل على بقاء النفوس بعد الموت؛ إما منعمة ملتذة وإما معذبة متألمة.
وفيما ذكرنا كفاية لمن أنصف عقله ونصح نفسه، واهتم لما بعد الموت وتفكر في أمر المعاد، واستعد للرحلة وتزود للسفر، وزهد في الدنيا ورغب في الآخرة قبل فناء العمر وتقارب الأجل والفوت. وفقك الله أيها الأخ للسداد، وهداك للرشاد وإيانا وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد.
اعلم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الذين أنكروا أمر البعث والقيامة والنشر والحشر، والوقوف والحساب ووضع الموازين لوزن الحسنات والسيئات، والجواز على الصراط وما شاكل هذه الأمور المذكورة في كتب الأنبياء عليهم السلام؛ لشكوك في نفوسهم وحيرة في قلوبهم، والعلة في ذلك طلبهم حقيقة معرفتها وكيفيتها وأبنيتها وماهيتها وكميتها قبل معرفتهم أنفسهم وحقيقة جوهرها وكيفية كونها مع الجسد، ولم ربطت به وقتا ما ولم تفارقه وقتا آخر، ومن أين كان مبدؤها وإلى أين يكون معادها بعد مفارقتها جسدها، وهذ المباحث علم غامض وسر لطيف ليس إليها طريق للمبتدئين في العلوم الحكمية إلا التسليم والإيمان والتصديق للمخبرين عنها، الصادقين عن الله جل ثناؤه، الذين أخذوا هذا العلم عن الملائكة وحيا وإلهاما بتأييد من الله جل ثناؤه.
وأما الذين لا يرضون أن يأخذوا هذا العلم تسليما وتصديقا، بل يريدون براهين عقلية وحججا فلسفية، فيحتاجون إلى أن تكون لهم نفوس زكية وقلوب صافية وأذن واعية وأخلاق طاهرة، وأن يكونوا غير متعصبين في الآراء والمذاهب المختلفة، ومع ذلك يكونوا قد ارتاضوا في الرياضات الفلسفية من علم العدد والهندسة والمنطق والطبيعيات، ثم نظروا في علوم الإلهيات.
وقد ذكرنا في رسائلنا طرفا من ذلك، وبينا فيها ما يحتاج إخواننا من هذه العلوم إليها والمعرفة بها، فانظر يا أخي فيها واعتبرها وتأملها ترشد إن شاء الله.
ثم اعلم يا أخي أن معنى القيامة مشتق من قام يقوم قياما، والهاء فيه للمبالغة، وهي من قيامة النفس من وقوعها في بلائها، والبعث هو انبعاثها وانتباهها من نوم غفلتها ورقدة جهالتها، وهي بالفارسية رست خيزاي؛ قياما مستويا.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن كل عاقل لبيب إذا تفكر في أمر الدنيا وتأمل تصرف حالاتها بأهلها من الكون والفساد والتغير والاستحالة، وخاصة أمر الحياة والممات اللذين مرهون بهما جميع الحيوان، واعتبر أحوال الماضين من القرون السالفة تيقن أنه لا محالة ميت وصائر إلى ما صاروا إليه، فيود عند ذلك ويتمنى أن يعرف حقيقة أمر الآخرة على صحة وبيان ليكون على يقين منها. واعلم يا أخي بأن الناس في أمر الآخرة على رأيين ومذهبين: فطائفة مقرة بها وطائفة منكرة؛ فالمنكرون أمر الآخرة هم الذين يظنون أن حكم الإنسان بعد الممات كحكم النبات والحيوان؛ وذلك أنهم لما تأملوا أمرهما وتفكروا في كونهما وفسادهما واعتبروا أحوالهما، وجدوا النبات يتكون وينشأ ويبلغ إلى غاية ما، ثم يبلى ويضمحل ويتكون مثله آخر، وهكذا أمر الحيوان يتوالد ويتربى ثم يبلغ إلى غاية ما، ثم يموت ويهلك ويبلى ويتكون آخر مثله.
فلما وجدوا حكم النبات والحيوان على ما وصفنا، جعلوا ذلك قياسا على حال الإنسان فقالوا: @QUR06 نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر، فقال الله تعالى: @QUR05 وما لهم بذلك من علم؛ لأنهم لو سئلوا ما الدهر، لعجزوا عن ما هو الدهر في البيان، وما دروا ما الدهر.
واعلم يا أخي أن المقرين بالآخرة طائفتان من الناس: إحداهما الذين يقرون بها بألسنتهم من غير تصور منهم لها بقلوبهم ولا معرفة بحقيقتها بعقولهم، فإقرارهم إيمان وتسليم لقول الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وتقليد لهم فيما يقولون ويخبرونهم عنها؛ والطائفة الأخرى الذين هم مع إقرارهم بها وتصديقهم للأنبياء عليهم الصلاة والسلام متصورون لها بقلوبهم عارفون حقيقتها بعقولهم، وقد مدح الله تعالى كلتا الطائفتين جميعا، وأثنى عليهم بقوله جل ثناؤه: @QUR09 يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات، ولكن فضل الله إحداهما على الأخرى بقوله: @QUR07 هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون.
واعلم يا أخي أن العلم هو تصور الشيء على حقيقته وصحته، فأما الإيمان فهو الإقرار بذلك الشيء والتصديق لقول المخبرين عنه من غير تصور له.
فالأنبياء عليهم السلام وأولياؤهم هم المخبرون عن الآخرة المتصورون لها بقلوبهم والعارفون حقيقتها بعقولهم، والمؤمنون هم المقرون بالآخرة بألسنتهم، المصدقون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في أخبارهم، المنتظرون لكشفها لهم.
واعلم يا أخي أن المنتظرين لأمر الآخرة طائفتان من الناس: إحداهما تنتظر كونها وحدوثها في الزمان المستقبل عند خراب السموات والأرضين، هم لا يعلمون من الأمور إلا المحسوسات، ولا من الجواهر إلا الجسمانيات، ولا من أحوالها إلا ما ظهر؛ والطائفة الأخرى ينتظرونها كشفا وبيانا واطلاعا عليها، وهم الذين يعرفون الأمور المعقولة والجواهر الروحانية والحالات النفسانية.
واعلم يا أخي أن معرفة أمر الآخرة على الحقيقة في معرفة أمر الدنيا؛ لأنهما من جنس المضاف، ومن خاصة جنس المضاف أن في معرفة أحد المضافين معرفة الآخر؛ فالدنيا باسمها تدل على اسم الأخرى؛ أن الدنيا مشتق من الدنو، والآخرة مشتق من التأخر.
فالدنيا هي أول معلوماتنا وأحوالها أول محسوساتنا، وشعورنا من أجسادنا ومشاهدتنا أحوال أجسامنا وأبناء جنسنا.
وهذه كلها قبل معرفتنا بنفوسنا ومشاهدتنا عالمها وعرفاننا أبناء جنسها ووجداننا لذات معقولاتها؛ لأن هذه تحصل لنفوسنا بعد مفارقتها أجسادها، كما حصلت تلك لنا بعد ولادة أجسادها؛ لأن مفارقة النفس الجسد هي ولادة لها، كما أن مفارقة الجنين للرحم ولادة الجسد.
واعلم يا أخي أن الحياة الدنيا إنما هي مدة كون النفس مع الجسد في عالم الأجسام إلى وقت المفارقة التي هي الممات.
وأما الدار الآخر فهي عالم الأرواح، التي هي الحيوان لو كانوا يعلمون، أي أبناء الدنيا، وهو كون النفس في عالمها بعد مفارقتها جسدها ما بقيت السموات والأرض، كما ذكر الله تعالى في كتابه فقال الله تعالى: @QUR011 وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض، @QUR016 فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق * خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض.
وقد بينا في رسالة الآلام كيف يكون عذاب الأشقياء في الآخرة وكيف تكون لذات السعداء هناك.
واعلم يا أخي أن الموت ليس هو شيئا سوى ترك النفس استعمال الجسد، وأن النفس تترك استعمال الجسد لسببين اثنين: أحدهما طبيعي، والآخر عرضي.
والسبب الطبيعي هو أن يهرم الجسد على طول الزمان، وتضعف البنية وتكل آلات الحواس، وتسترخي الأعصاب والعضلات المحركات للأعضاء، وتجف الرطوبة المغذية للبدن، وتطفأ الحرارة الغريزية كما يطفأ السراج إذا فني الدهن، فعند ذلك لا يمكن أن يعيش الإنسان ولا يفعل شيئا من الأفعال والأعمال؛ لأن البدن للنفس بمنزلة الدكان للصانع، والأعضاء بمنزلة الأدوات؛ فإذا كلت آلات الصانع أو انكسرت أو خرب الدكان وانهدم ، فإن الصانع لا يقدر على عمل شيء من صنعته إلا أن يتخذ دكانا آخر وأدوات مجددة.
وأما ترك النفس استعمال الجسد لسبب عرضي فهو كثير الفنون، ولكن يجمعها نوعان: فمنها أسباب من داخل الجسد بلا اختيار، كالأمراض والأعلال المتلفة للجسد؛ ومنها أسباب من خارج، كالذبح والقتل. والقتل ليس هو شيئا سوى أن يقصد قاصد فيهدم بنية الجسد بضرب من الفساد والخراب، كما يقصد إنسان فيخرب دار إنسان أو دكانه.
واعلم يا أخي أن كل صانع حكيم إذا فكر في أمره ونظر في العواقب، علم أنه لا بد أن يخرب يوما دكانه، وتكل أدواته، وتضعف قوة بدنه، وتذهب أيام شبابه؛ فمن بادر واجتهد قبل خراب الدكان وكلال الأدوات وذهاب القوة، فاكتسب مالا بصنعته في دكانه واستغنى عن السعي؛ فإنه لا يحتاج بعد ذلك إلى دكان آخر ولا أدوات مجددة، بل يستريح من العمل ويشتغل بالتمتع واللذات بما قد كسب، فهكذا يكون حال النفس بعد خراب الجسد.
فانظر يا أخي وتفكر وبادر واجتهد وتزود قبل خراب هذا الدكان وانهدام هذه البنية @QUR04 فإن خير الزاد التقوى.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن مواهب الله عز وجل لعباده كثيرة لا يحصي عددها إلا الله تعالى، فمن جليل مواهبه وعظيم نعمه وجزيل إحسانه ومننه على الإنسان العقل الراجح والرأي الرصين والتمييز الصحيح، التي لها نتائج العلوم الحقيقية ووجدان المعارف الروحانية والتأله الرباني.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن من أجل نتائج العقول وأشرف وجدانها الآراء الجيدة والاعتقادات الصحيحة المصلحة لنفوس معتقديها؛ وذلك أن الآراء الجيدة والاعتقادات الصحيحة المعينة لنفوس معتقديها على الانبعاث من نوم الغفلة ومن رقدة الجهالة، ومحيية من موت الخطيئة ومنجية لها من نيران جهنم وعذاب الهاوية - عالم الكون والفساد - وموصلة إلى نعيم الجنان في دار الحيوان - عالم الأفلاك وسعة السموات - ومقربة لها إلى خالقها ومنشئها ومتممها ومكملها ومبلغها أتم غاياتها وأكمل نهاياتها عند باريها في دار الخلود والمقام هناك، متنعمة ملتذة في دائم الأوقات مسرورة أبد الآبدين ودهر الداهرين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، ذلك الفضل من الله.
ثم اعلم أن أحد الآراء الصحيحة المنجية لنفوس معتقديها اعتقاد الموحدين بأن العالم محدث مخترع، مطوي في قبضة باريه، محتاج إليه في بقائه، مفتقر إليه في دوامه، لا يستغني عنه طرفة عين، ولا عن إمداد الفيض عليه ساعة فساعة، وأنه لو منعه ذلك الفيض والحفظ والإمساك لحظة واحدة؛ لتهافتت السموات، وبادت الأفلاك، وتساقطت الكواكب، وعدمت الأركان، وهلكت الخلائق، ودثر العالم دفعة واحدة بلا زمان! كما ذكر الله تعالى بقوله: @QUR015 إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده، وبقوله تعالى: @QUR09 والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه.
واعلم يا أخي أن من يعتقد هذا الرأي ويتحقق هذا الاعتقاد في أمر السموات والأرض؛ فهو في دائم الأوقات يكون متعلق القلب بربه، معتصما بحبله، متوكلا عليه في جميع أحواله، مسندا ظهره إليه في جميع تصرفاته، داعيا له في جميع أوقاته، سائلا منه كل حوائجه، مفوضا إليه سائر أموره؛ فيكون له بهذه الأوصاف قربة إلى ربه، وحياة لنفسه، وهدوء لقلبه، ونجاة من المهالك، كما ذكر الله تعالى بقوله حكاية عن عبد من عباده وهو مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه في آخر خطاب طويل مع فرعون: @QUR019 وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد * فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب، فأما من يظن أو يتوهم أن العالم مستقل بذاته ومستغن في وجوده عن فيض باريه عليه بالمادة والبقاء والحفظ والإمساك، فهو يكون معرضا عن ربه ناسيا ذكره، غافلا عن دعائه مشغولا بما حوله من أعراض دنياه وما كان له فيها وملكه منها! فهو لا يذكر ربه إلا ساهيا، ولا يدعوه إلا لاهيا، ولا يسأله إلا بطرا ورياء أو مضطرا عند الشدائد والبلوى والمصائب والضراء على كره منه وشكوك في حيرة وضلال! لا يدري لم ابتلي ولا كيف عوفي هو، ويكون جاهلا بربه حق معرفته فيبقى محجوبا عن ربه طول عمره في دنياه @QUR05 في الآخرة أعمى وأضل سبيلا. ومن الآراء الجيدة والاعتقادات النافعة لنفوس معتقديها المعينة لها على الانبعاث من نوم الغفلة، المقيمة لها من رقدة الجهالة، المحيية لها من موت الخطيئة، المنجية لها من نيران الهاوية - عالم الكون والفساد - الموصلة لها إلى الجنة (عالم الأفلاك وسعة السموات) المقربة لها إلى باريها لديه زلفى؛ اعتقاد الإنسان العاقل وعلمه اليقين أنه متوجه إلى ربه، وقاصد نحوه منذ يوم خلقه نطفة في قرار مكين، ينقله ربه وخالقه حالا بعد حال من الأنقص إلى الأتم والأكمل، ومن الأدون إلى الأشرف والأفضل، إلى أن يلقى ربه ويراه ويشاهده فيوفيه حسابه، كما ذكر الله جل ثناؤه بقوله: @QUR013 فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا، وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى. وقال الله تعالى وعيدا وذما وتوبيخا لمن لا يعتقد هذا الرأي: @QUR08 أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون، @QUR022 إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون * أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون، وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن ملاك أمر الآخرة وزمام أمر المعاد هي معرفة حقيقة البعث والقيامة كلها هو في معرفة الإنسان نفسه وحقيقة جوهرها؛ وذلك أن كل إنسان لا يعرف نفسه ولا يميز بينها وبين الجسد تكون همته أكثرها مصروفة إلى أمر الجسد وإصلاح شأنه والتمني للخلود في الدنيا والتمتع بلذة شهواتها. فأما كل من كان يعرف نفسه على الحقيقة، فإن أكثر همته تكون مصروفة إلى حال النفس، وإصلاح شأنها، والتفكر له في أمر معادها ودار قرارها، والاستعداد للرحلة من الدنيا، والتزود للمعاد واليقين بلقاء الله تعالى، وقلة الخوف من الموت؛ وهذه صفة أولياء الله تعالى، وإليهم أشار بقوله في توبيخه لليهود: @QUR08 قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله، وقال: @QUR017 يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين؛ يعني في قولهم: @QUR04 نحن أبناء الله وأحباؤه.
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن من أفضل مناقب العقلاء كثرة العلوم والمعارف، وأن من أشرف العلوم وأجل المعارف التي يبلغها العقلاء العلماء، ويهدي الله أولياءه إليها من المؤمنين المصدقين ويكرمهم بها؛ علم البعث ومعرفة حقيقة القيامة وكيفية تصاريف أحوالها، وقد ذكر الله سبحانه في القرآن تصاريف أحوالها في نحو من ألف وسبعمائة آية، وأشار إليها بأوصاف شتى وإشارات مفننة؛ مثل قوله تعالى: يوم القيامة، ويوم يبعثون، ويوم الدين، ويوم الفصل، ويوم الحساب، ويوم الآزفة، ويوم التناد، ويوم التغابن، ويوم الحشر، ويوم يخرجون، ويوم تقوم الساعة، وما شاكل هذه الأوصاف والإشارات التي قد تاهت عقول أكثر العلماء في طلب حقائقها وتصور كيفياتها بكنه صفاتها، ولا يعلم تأويلها إلا الله والراسخون في العلم من أولياء الله وأصفيائه، الذين يقولون: كل من عند ربنا، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، ولا يطلع على غيبه أحدا، إلا من ارتضى من رسول، وهم من خشيته مشفقون.
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن علم البعث وحقيقة القيامة محجوب عن إبليس وذريته وأتباعه وجنوده من شياطين الجن والإنس، وهو سر الله الأعظم لا يطلع عليه أحدا من خلقه إلا من ارتضى من أوليائه وأصفيائه وأهل مودته من ذرية آدم ومن ذرية نوح وذرية إبراهيم وإسرائيل، وممن هدى واجتبى! @QUR08 إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا، جعلكم الله أيها الأخ وإيانا منهم برحمته، إنه ودود رءوف رحيم.
ونريد أن نلوح من هذا السر طرفا ونشير إليه إشارة ما؛ إذ لا يجوز التصريح به اقتداء بسنة الله عز وجل @QUR07 والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وقال عليه السلام: «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون» إشارة إلى مثل هؤلاء القوم الذين هم ظالم لنفسه.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه لما كان العقلاء متفاوتي الدرجات في ذكاء نفوسهم وصفاء أذهانهم وجودة تمييزهم، صاروا أيضا متفاوتي الدرجات في العلوم والمعارف، كما بينا في رسالة الآراء والمذاهب.
ولما كان الأمر كما وصفنا، لم يكن أن يخاطبوا بصريح الحقائق خطابا واحدا إلا بألفاظ مشتركة المعاني؛ ليحمل كل ذي لب وعقل وتمييز بحسب طاقته واتساعه في المعارف والعلوم، كما ذكر الله جل ثناؤه بقوله، على سبيل المثل: @QUR07 أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها، قال المفسرون معنى هذه الآية وتأويلها: أنه أنزل القرآن من السماء إلى الأرض كما أنزل المطر من الغيم، فاحتملت القلوب من علم القرآن بحسب اتساعها في المعارف وصفاء جواهر النفوس، كما تحمل الأودية من سيل المطر بحسب سعتها وجريانها.
ثم افهم أن لفظ القلب ليس هو قطعة اللحم الصنوبري الشكل المعلقة من الصدر الموجود في أكثر الحيوانات، وليس المراد من القلب ههنا ذاك، بل مراد إخواننا أمر وراء ذلك؛ وهي النفس.
واعلم يا أخي أن لفظ البعث اسم مشترك في اللغة العربية يحتمل ثلاثة معان؛ فمنها قول القائل: «بعثت»؛ يعني أرسلت، كما قال الله تعالى: @QUR03 فبعث الله النبيين يعني أرسلهم؛ ومنها ما يكون معنى البعث هو بعث الأجساد الميتة من القبور ونشر الأبدان من التراب، كما وعد الكفار والمنكرين بقولهم: @QUR010 أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون * أوآباؤنا الأولون قال الله تعالى: @QUR02 قل نعم؛ ومنها بعث النفوس الجاهلة من نوم الغفلة وإحياؤها من موت الجهالة كما ذكر الله جل ثناؤه بقوله: @QUR018 أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها وقوله تعالى: @QUR07 ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون وقوله لمحمد صلى الله عليه وسلم: @QUR06 عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا.
واعلم يا أخي أن من لا يوقن ببعث الأجساد ولا يتصوره فليس من الحكمة أن يخاطب ببعث النفوس؛ لأن بعث الأجساد يمكن تصوره ويقرب فهمه وعلمه، فأما من لا يقر به ولا يتصوره فهو لبعث النفوس أنكر وبه أجهل ومن تصوره أبعد؛ لأن بعث النفوس هو من علم الخواص ولا يتصوره إلا المرتاضون بالعلوم الإلهية والمعارف الربانية، وإنما وعد الكفار أن يبعث أجسادهم ليوافقهم على تكذيبهم ويجازيهم بسوء أفعالهم، ووعد الله المؤمنين أن يحيي نفوسهم ويبعث أرواحهم ليجازيهم على حسناتهم ويثيبهم بأعمالهم.
فلا تكن يا أخي ممن ينتظر بعث الأجساد ويؤمل نشر الأبدان؛ فإن ذلك ظلم عظيم في حقك إذا كنت تتوهم ذلك، ولكن إن استوى لك فكن من الذين ينتظرون بعث النفوس ويؤملون حياتها ووصولها إلى عالمها الروحاني ودار قرارها الحيواني مخلدا في النعيم أبد الآبدين ودهر الداهرين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
(1) فصل في بعث الأجساد
واعلم يا أخي أن بعث الأجساد من القبور الدارسات وقيامها من التراب إنما يكون ذلك إذا ردت إليها تلك النفوس والأرواح التي كانت متعلقة بها وقتا من الزمان فيما سلف من الدهر، فتنتعش تلك الأجساد وتحيا تلك الأبدان وتتحرك وتحس بعدما كانت جمودا، ثم تحشر وتحاسب وتجازى؛ لأن الغرض من البعث هو المجازاة والمكافأة.
واعلم يا أخي أن رد النفوس الناجية إلى الأجسام الفانية في التراب من الرأس ربما يكون موتا لها في الجهالة واستغراقا في ظلمات الأجسام وحبسا في أسر الطبيعة وغرقا في بحر الهيولى.
فأما بعث النفوس وقيام الأرواح فهو الانتباه من نوم الغفلة، واليقظة من رقدة الجهالة، والحياة بروح المعارف، والخروج من ظلمات عالم الأجسام الطبيعية، والنجاة من بحر الهيولى وأسر الطبيعة، والترقي إلى درجات عالم الأرواح والرجوع إلى عالمها الروحاني ومحلها النوراني ودارها الحيواني، كما ذكر الله تعالى بقوله: @QUR08 وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون؛ يعني أبناء الدنيا، فإذا كانت الدار هي الحيوان فما ظنك يا أخي بأهل الدار كيف تكون صفاتهم ونعيمهم ولذاتهم إلا كما ذكر الله تعالى بقوله: @QUR09 وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون لا يموتون فيها ولا يمرضون.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن العلوم كلها شريفة، ونيلها عز لصاحبها، وعرفانها نور لقلوب أهلها وهداية وحياة لنفوسهم وشفاء لصدورهم ويقظة لها من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، ولذة للأرواح وصلاح للأجساد وتمام وكمال للأجسام وقوام للعالم ونظام للخلائق وترتيب للموجودات وزينة للكائنات، ولكن قيل بعض العلوم أشرف وأفضل وأكرم، فأشرف العلوم وأجل المعارف التي ينالها العقلاء المكلفون، معرفة الله جل ثناؤه والعلم بصفات وحدانيته وأوصافه اللائقة به.
ثم بعد هذا معرفة جوهر النفس وكيفية تصاريف أحوالها في جميع الأزمان الماضية والآتية والحاضرة، ثم كيفية تعلقها بالأجسام وتدبيرها للأجساد واستعمالها الأبدان مدة، ثم كيفية تركها لها ومفارقتها إياها وتفردها بذاتها ولحوقها بعالمها وعنصرها وجوهرها الكلي، ثم معرفة البعث والقيامة والحشر والحساب والميزان والصراط ودخول الجنان ومجاورة الرحمن، ذو الجلال والإكرام.
واعلم يا أخي أن هذا الفن من العلوم هو لب الألباب، وإليه ندب ذوي العقول الراجحة والحكمة الفلسفية دون غيرهم من الناس؛ لأن هذا الفن من العلم والمعارف آخر مرتبة ينتهي إليها الإنسان في المعارف مما يلي رتبة الملائكة، ومن أجل هذا هو مكلف متعبد وقاصد نحوه منذ يوم خلقه الله تعالى إلى يوم يلقاه فيوفيه حسابه، وهو الغرض الأقصى في وجود النفس وتعلقها بالأجساد ونشوئها معها وتتميمها وتكميلها.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنك إذا أردت النظر في هذا العلم الشريف والبحث عن هذا السر اللطيف، فستحتاج إلى أن تقصد إلى أهله وتسألهم عنه، كما يقصد في سائر العلوم والصنائع إلى أهلها، كما قيل: استعينوا على كل صناعة بأهلها.
واعلم يا أخي أن أهل هذه الصناعة وعلماء هذه الأسرار هم إخواننا الكرام الفضلاء، فانظر يا أخي فيما قالوا وتأمل ما وصفوه من حقائق الأشياء التي أنت مقر بها بلسانك وتؤمن بقلبك، ثم تفكر فيما تسمع وتأمل ما يوصف لك وميزه ببصيرتك واعرضه على عقلك الذي هو حجة الله عليك والقاضي بينك وبين أبناء جنسك، فإن اتضحت لك حقيقة ما تسمع وتصورت ما يصفون وتيقنت ما يخبرون، فبتوفيق من الله وهداية منه، وإن تكن الأخرى كنت قد بذلت المجهود وأزلت العذر فيما أنت مكلف له @QUR07 والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وإن لم يتفق لك يا أخي لقاء أحد من أهل هذه الصناعة بحيث أن تسأله عن حقيقة هذا السر ويعرفك ما تطلب، وتريد أن تعلم أنت باجتهادك وعقلك وبصيرتك وتمييزك، فاسلك في هذا البحث، والنظر طريقة الحكماء النجباء، واستعمل القياس البرهاني الذي هو ميزان العقول - كما وصف في المنطق - وقد بينا من علم المنطق في رسائل شبه المدخل والمقدمات ما فيه كفاية، ولكن نذكر في هذا الفصل مثالا واحدا ليقرب به عليك مأخذه.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن علم الإنسان المعلومات؛ بعضها بطريق الحواس، وبعضها بطريق السمع والروايات والأخبار، وبعضها بطريق الفكر والروية والتأمل والعقل الغريزي، وبعضها بطريق الوحي والإلهام - وليس هذا الفن باكتساب من الإنسان ولا باختيار منه بل هو موهبة من الله تعالى - وبعضها بطريق القياس والاستدلال، وهو العقل المكتسب، وبهذا العقل يفتخر العقلاء، وبه يتفاضل الحكماء والفلاسفة.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنك إذا طلبت علم البعث ومعرفة حقيقة القيامة وما يوصف من أحوالها، فليست تخلو معرفتها من أحد هذه الطرق التي تقدم ذكرها؛ فإن أردت أن تعرفها بطريق القياس والبرهان، فاعمل في هذه المسألة وابحث - أعني معرفة البعث وعلم حقيقة القيامة - كما يعمل أصحاب المجسطي عند طلبهم معرفة عظم جرم الشمس؛ وذلك أنهم قالوا لا يخلو جرم الشمس من أن يكون مساويا لجرم الأرض أو أعظم أو أصغر منها في المقدار؛ إذ ليس في القسمة العقلية غير هذه، ثم بحثوا عن واحد واحد من هذه الأقسام الثلاثة حتى عرفوا حقيقتها كما هو مذكور في كتبهم بشرح طويل.
فاعمل أنت يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، في هذه المسألة مثل ما عمل هؤلاء في مسألتهم؛ وهو أن تقول: لا يخلو أمر البعث ومعنى القيامة أن تبعث الأجساد دون النفوس، أو النفوس دون الأجساد، أو الجميع؛ إذ كان ليس في القسمة غير هذه الوجوه الثلاثة، ثم ابحث وتصفح عن حقيقة واحد واحد من هذه الوجوه الثلاثة كما نبين في هذا الفصل.
واعلم يا أخي ، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن من يرى ويعتقد بأن الإنسان ليس هو شيئا سوى هذه الجملة المحسوسة - أعني الجسد المؤلف من اللحم والدم والعظم والعروق وما شاكلها، التي هي كلها أجسام طويلة عريضة عميقة وما يحلها من الأعراض على البنية المخصوصة التي هي صورة الإنسانية - فهو لا يتحقق أمر البعث ولا يتصور حقيقة القيامة إلا إعادة هذه الأجساد برمتها وتلك الأجرام والأعراض بعينها، على هذه الحال التي هي عليها الآن، ثم يحشرون ويحاسبون الجسمانية والنوازع الجاذبة لها إلى الأسباب الضرورية، من الجوع والعطش والغذاء والحر والبرد والآلام والأوجاع والأمراض والأسقام والأحزان والمصائب والحدثان؛ من جور السلطان، وحسد الإخوان، وعداوة الجيران، ومقاساة غيظ الأقران، ووساوس الشيطان، وما هو مكلف به من حمل ثقل الطاعات، والجهد في العبادات من الصوم والصلوات، ومنع النفس عن الشهوات، المركوزة في الجبلة والعادات المطبوعة وما على النفس في البدن من الكلية، مع شدة هذه كلها يرى ويعتقد بأنه محبوس في هذه الدنيا إلى وقت معلوم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر»؛ لأن المؤمن المحق قد سجن نفسه بالمنع لها عن الشهوات والملاذ التي تراد الدنيا من أجلها. ومن كان يرى ويعتقد أمر الحياة في الدنيا على هذه الحال، فهو لا يتصور أمر البعث ولا يتحقق أمر القيامة إلا مفارقة النفس الجسد بعد استقلالها بذاتها وتفردها بجوهرها ومشاهدتها عالمها، ولا يسأل ربه إلا اللحوق بأبناء جنسها من الماضين من عباد الله الصالحين من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؛ كما سأل إبراهيم خليل الرحمن ربه في آخر دعائه فقال: @QUR02 وألحقني بالصالحين يريد بعد الموت؛ وهكذا يوسف الصديق: @QUR04 توفني مسلما وألحقني بالصالحين يريد بعد الموت؛ فقال الله تعالى لمحمد نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى جميع النبيين: @QUR05 وللآخرة خير لك من الأولى؛ وقال عليه السلام: «أبى الله أن يجعل لأوليائه الخلود في الدنيا.»
فمن كان هذا رأيه واعتقاده فهو لا يتصور البعث والقيامة إلا مفارقة النفس الجسد، كما حكي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من مات فقد قامت قيامته.»
ويحكى عن بعض من كان يعتقد هذا الرأي أنه لقي أخا له من أهل رأيه فقال له: «كيف أصبحت يا أخي؟ فكيف حالك في هذه الدنيا؟» فقال: «بخير ونرجو خيرا من هذا أن سلمنا من آفاتها وبلياتها إن شاء الله تعالى، فكيف أنت وكيف حالك؟» قال: «كيف تكون حال من يصبح في دار غربة أسيرا فقيرا لا يقدر على جر نفع ما يرجو، ولا دفع ضر ما يكره؟!» قال أخوه: «كيف ذلك؟» قال: «لأنهم قد يجازون بما عملوا من خير أو شر أو عرفان أو انكار.»
واعلم يا أخي أن هذا الرأي والاعتقاد جيد للنساء والصبيان والجهال والعوام ومن لا ينظر في حقائق العلوم ولا يعرفها.
وذلك أنهم إذا اعتقدوا هذا الرأي وتحققوا هذا الاعتقاد، يكون ذلك حثا لهم على عمل الخير وترك الشرور، واجتناب المعاصي وفعل الطاعات، وأداء الأمانات وترك الخيانات، والوفاء بالعهود وصحة المعاملة والنصيحة فيها وحسن الخلق، وخصال كثيرة محمودة تتبعها، ويكون ذلك صلاحا لهم ولمن يعاملهم ويعاشرهم في الحياة الدنيا إلى الممات.
وأما من كان فوق هذه الطوائف في العلوم والمعارف فهو يرى ويعتقد بأن مع هذه الأجساد جواهر أخر أشرف منها وأفضل، وليست بأجسام تسمى أرواحا أو نفوسا، فهو لا يتصور أمر البعث ولا يتحقق أمر القيامة إلا برد تلك النفوس والأرواح إلى تلك الأجساد بعينها أو أجساد أخر تقوم مقامها، ثم يحشرون ويحاسبون ويجازون بما عملوا من خير أو شر، وهذا الرأي أجود وأقرب إلى الحق، وفي اعتقادهم له صلاح لهم ولغيرهم كما تقدم من قبل.
وأما من كان فوق هذه الطائفة في العلم والمعارف والدراية فهو يرى ويعتقد بأن الغرض من كون هذه النفوس والأرواح مع هذه الأجساد في الدنيا مدة ما، هو من أجل أن تستقيم ذواتها وتكمل صورها وتخرج من حد القوة والكمون إلى الفعل والظهور، ولتستكمل أيضا فضائلها من عرفانها أمر المحسوسات، وتخيلها رسوم المعقولات، وتخرج بالآداب والرياضات، والنظر في العلوم الطبيعيات والإلهيات، وبالاعتبار والتجارب والتدبير والسياسات، وليكون ذلك سببا لانتباه النفوس من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، وتحيا بروح المعارف وتنفتح لها عين البصيرة لتنظر إلى عالمها الروحاني، وتشاهد دارها الحيواني، ويتبين لها أنها في عالم الغربة وموضع المحنة والبلوى، غريقة في بحر الهيولى مبتلاة في أسر الطبيعة، مشتعلة فيها نيران الهاوية الموقدة، المطلعة على الأفئدة، من حريق الشهوات أصبحنا في الدنيا معذبين في صورة المنعمين، مجبورين في صورة المختارين، مغرورين في صورة المغبوطين، أحرارا كراما في صورة عبيد مهانين، مسلطا علينا خمسة حكام يسوموننا سوء العذاب، ينفذون أحكامهم علينا شئنا أو أبينا، ليست لنا حيلة في الخروج عن أحكامهم، ولا دفع سلطانهم، ولا الخلاص من جورهم إلى الممات.
قال: أخبرني من هؤلاء الحكام؟ قال: نعم، أولهم هذا الفلك الدوار الذي نحن في جوفه محبوسون، وكواكبه السيارة التي لا تزال تدور علينا ليلا ونهارا لا تقر؛ تارة تجيئنا بالليل وظلمته وتارة بالنهار وحرارته، وتارة بالصيف وسمائمه وتارة بالشتاء وزمهريره، وتارة بالرياح العواصف في زعازعها وتارة بالغيوم وأمطارها، وتارة بالرعود والزوابع وصواعقها وتارة بالجدب والغلاء والموتات والبلاء، وتارة بالحروب والفتن وتارة بالهموم والأحزان. ليس منها نجاة إلا بجهد وبلوى وكدر وعناء وخوف ورجاء إلى الممات.
ثم قال: فهذا واحد، وأما الآخر فهو هذه الطبيعة وأمورها المركوزة في الجبلة من حرارة الجوع ولهب العطش ونار الشبق وحريق الشهوات والآلام والأمراض والأسقام وكثرة الحاجات! ليس لنا شغل ليلا ولا نهارا إلا طلب الحيلة لجر المنفعة أو لدفع المضرة عن هذه الأجساد المستحيلة التي لا تقف على حالة واحدة طرفة عين! فنفوسنا منها في جهد وبلاء وكدر وعناء وبؤس وشقاء! ليس لنا راحة إلى الممات، فهذان اثنان.
وأما الثالث فهو هذا الناموس وأحكامه وحدوده وأوامره ونواهيه ووعيده وزجره وتهديده وتوبيخه، إن خرجنا من أحكامه فضرب الرقاب والحدود، وإن فررنا منه لم نجد لذة العيش ولا صلاح الوجود في الوحدة، وإن دخلنا تحت أحكامه فما نقاسي من الجهد والبلوى في إقامة حدوده أكثر مما يحصى من ألم الجوع عند الصيام، وتعب الأبدان عند القيام للصلاة، ومقاساة برد الماء عند الطهارات، ومجاهدة شح النفوس عند إخراج الزكاة والصدقات الواجبات، ومشقة الأسفار والأحكام عند قضاء الحج والجهاد، وما نقاسي من الألم عند ترك اللذات والشهوات المحرمات! وإن لم نأتمر ولم ننته، فالحدود والأحكام بحسب الجنايات، ومع هذه كلها @QUR028 كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون * كلا لو تعلمون علم اليقين * لترون الجحيم * ثم لترونها عين اليقين * ثم لتسألن يومئذ عن النعيم، فهذه حالنا ليس لنا منها خلاص ولا نجاة إلى الممات! فهذه ثلاثة.
وأما الرابع فهذا السلطان المسلط الجائر الذي قد ملك رقاب الناس بالقهر والغلبة واستعبدهم جبرا وكرها، يتحاكم عليهم كما يشاء، ويرفع ويكرم من يريد ممن يخدمه ويطيعه ويتصرف بين يديه ويمتثل أمره ونهيه، ويضع ويبعد من خالفه، ويعذب ويقتل من خانه أو غشه! فإذا خرجنا من مملكته وفررنا من سلطانه فلا عيش لنا في الوجود في هذه الدنيا إلا عيشا نكدا؛ لأننا قد نحتاج في لذة العيش وصلاح المعاش إلى الجم الغفير من المتعاونين في المدن والقرى في إصلاح أمر المعاش، ولا بد لهم من سلطان يملكهم ويرأسهم ويحكم بينهم فيما يختلفون فيه ويتنازعون، ويمنع الظالم القوي من التعدي على الضعيف المظلوم، ويؤمن لخوفه السبل، ويأخذ الناس بلزوم سنة الناموس وتأدية موجبات فرائضه التي في إقامتها وحفظها صلاح الجميع، فلهذه العلة وبهذا السبب لا يمكنا الخروج من المملكة ولا الفرار من سلطانه، فإن خدمناه وقمنا بواجب طاعته فما نقاسي من الجهد والبلوى أكثر مما يحصى من تعب الأبدان، وهموم النفوس، وعناء الأرواح، وتلف الأجساد، واحتمال الذل، وشماته الحساد، ومداراة الإخوان، وعداوة الأقران، ومشقة الأسفار، ومخاوف الحروب، وما يتكلف من التعب والعناء في جمع الآلات والأثاث من السلاح والدواب وحوائجها ومرافقها مما لا يحصى عدها كثرة، وليس لنا منها راحة إلى الممات فهذه أربعة.
وأما الخامس فهو شدة الحاجة إلى المواد التي لا قوام لهذا الهيكل إلا بها من المأكولات والمشروبات واللباس والمسكن والمركب والأثاث، وما لا بد منه في قوام الحياة الدنيا، وما نقاسي من الجهد والبلوى في طلبها ليلنا ونهارنا في تعلم الصنائع والتجارات المتعبة والمكاسب المكدة؛ من الحرث والزرع والبيع والشراء والمناقشة في الحساب والحرص والشره وجمع الأموال وحفظها من حيل اللصوص ومكابرة القطاع، وأخذ السلطان لها بالجور والظلم، وحراستها من الآفات العارضة التي لا يحصى عددها، كل ذلك بالكد والعناء والهموم والغموم وتعب الأبدان وعناء الأرواح وشقاء النفوس التي لا راحة لنا منها إلى الممات.
فهذه حالنا يا أخي وحال أكثر أبناء جنسنا في هذه الحياة الدنيا؛ فأما من يريد المقام في الدنيا ويتمنى الخلود فيها مع هذه الآفات كلها، فهو من أجل إحدى خلتين: إما أنه لا يؤمن بالآخرة ولا يصدق بالمعاد ولا يتصور الوجود إلا هكذا، ويظن ويتوهم أن بعد الموت عدما أو شرا محضا! فمن أجل هذا الرأي وهذا الاعتقاد يريد المقام في الدنيا ويتمنى الخلود فيها مع هذه الآفات كلها، ويكون معذورا في تمنيه وإرادته الخلود؛ لأن في جبلة الخلائق وفي طبائع الموجودات محبة البقاء وكراهية الفناء مذكور ذلك.
فمن أجل هذه الخصال والشرائط يرضى أكثر أبناء الدنيا المقام فيها ويتمنون الخلود! فأما من قد تصور كيفية الدار الآخرة وتحقق أمر المعاد وعرف فضلها وشرفها وسرورها ولذاتها ونعيمها، فأي عذر له في التمني للخلود في الدنيا مع ما قد عرف من آفاتها وشرورها وأحزانها ومصائبها وبلياتها؟! فاجتهد يا أخي في طلب معرفة الدار الآخرة وحقيقة أمر المعاد؛ لكيما تساق نفسك إليها بعد الفراق مع أهلك زمرا، كما ذكر الله جل ثناؤه بقوله: @QUR07 وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنك إن لم تعرف الدار الآخرة ولم تتحقق أمر المعاد قبل الممات، وكانت نفسك في الدنيا عمياء؛ فهي بعد الممات في الآخرة أعمى وأضل سبيلا، وحوشيت يا أخي من ذلك إن شاء الله تعالى.
واعلم يا أخي أن المقر بالآخرة المؤمن بالمعاد المصدق بها، لا يتصورها ولا يعرف حقيقتها إلا بعدما تنتبه نفسه من نوم الغفلة، وتنبعث من موت الجهالة، وتحيا بروح المعارف، وتنفتح عين البصيرة؛ فتبصر عند ذلك بنور الهداية ما هو مقر به ومصدق له، ويكون عند ذلك من أهل الأعراف، كما حكي عن مستبشر لما سئل فقيل: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت مؤمنا حقا! قيل: وما حقيقة إيمانك؟ قال: أرى كأن القيامة قد قامت، وكأني بعرش ربي بارزا، وكأن الخلائق في الحساب، وكأني بأهل الجنة فيها منعمين، وأهل النار فيها معذبين. فقيل له: قد أصبت فالزم عين الطريق. وإليه وإلى أمثاله أشار جل ثناؤه بقوله: @QUR030 وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون * وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين وهم الرجال الذين @QUR08 لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله (تعالى) @QUR09 في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه.
فهل لك يا أخي أن ترغب في صحبتهم وتسلك طريقهم وتطلب منهاجهم وتتخلق بأخلاقهم وتسير بسيرتهم وتنظر في علومهم؛ لتعرف مذهبهم وتعتقد رأيهم وتعمل مثل عملهم؛ لعلك تحشر معهم وتفوز بمفازتهم @QUR06 لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون، وهم أولياء الله وعباده الصالحون الذين استثناهم بقوله في قصة إبليس: @QUR06 إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وقوله: @QUR04 إلا عبادك منهم المخلصين.
فإذا أردت يا أخي أن تعرف وتعلم أأنت منهم أم من غيرهم، فاعلم أن لهم علامات يعرفون بها، وسمات يستدل عليهم بها: فمن علامات أولياء الله المبعوثين من موت الجهالة، المنبهين من رقدة الغفلة، المستبصرين بعين اليقين ونور الهداية، العارفين بحقائق الأشياء، الشاهدين حساب يوم الدين؛ أنهم قوم تستوي عندهم الأماكن والأزمان وتغاير الأمور وتصاريف الأحوال؛ فقد صارت الأيام كلها عندهم عيدا واحدا وجمعة واحدة، وصارت الأماكن كلها لهم مسجدا واحدا، والجهات كلها قبلة ومحرابا، أينما تولوا فثم وجه الله، وصارت حركاتهم كلها عبادة لله وسكوناتهم طاعة له، استوى عندهم مدح المادحين وذم الذامين، لا يأخذهم في الله لومة لائم، قياما لله بالقسط ، شهداء لله بالحق، وهم على صلواتهم دائمون، وإنما استوت عندهم الأماكن كلها وصارت مسجدا وقبلة ومحرابا واحدا لتصديقهم قول الله تعالى: @QUR05 فأينما تولوا فثم وجه الله، وصاروا شهداء بمشاهدتهم له وتصديقهم قوله: @QUR036 ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم.
وإنما استوت عندهم الأيام كلها فصارت جمعة وعيدا لمشاهدتهم يوم القيامة الذي هو من أول ما بعث الله محمدا عليه السلام إلى تمام ألف سنة كما قال صلى الله عليه وسلم: «بعثت أنا والقيامة كهاتين.»
وأيضا فإنما استوى عندهم تغاير الأزمان وتصاريف الأحوال لتصديقهم قول الله تعالى: @QUR032 ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير * لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم، وصار دعاؤهم مستجابا لأنهم لا يسألونه إلا ما يكون، ولا يكون إلا ما قدر في سابق العلم، فقلوبهم في راحة من التعلق بالأسباب، وأبدانهم فارغة من تكلف ما لا يعنى به، ونفوسهم ساكنة عن الوسواس، وهم في راحة من أنفسهم والناس منهم في راحة وأمان، لا يريدون لأحد سوءا ولا يضمرون شرا لأحد من الخلق، عدوا كان أو صديقا، مخالفا كان أو موافقا.
وهذه أيضا حكاية أخرى، فهذه محاورات جرت بين رجلين أحدهما من أولياء الله تعالى وعباده الصالحين الذين نجاهم الله من نار جهنم، وأعتقهم من أسرها، وأخلص نفوسهم من عداوة أهلها، وأراح قلوبهم من ألم المعذبين فيها؛ والآخر من الهالكين المعذبين فيها بألوان العذاب، المحرقة قلوبهم بحرارة عداوة أهلها، المتألمة نفوسهم بعقوباتها. قال الناجي للهالك: كيف أصبحت يا فلان؟ قال: أصبحت في نعمة من الله، طالبا للزيادة، راغبا فيها حريصا على جمعها، ناصرا لدين الله معاديا لأعداء الله محاربا لهم. قال الناجي: ومن أعداء الله هؤلاء؟ قال: كل من خالفني في مذهبي واعتقادي. قال : وإن كان من أهل لا إله إلا الله؟ قال: نعم. قال: إن ظفرت بهم ماذا تفعل بهم؟ قال له: أدعوهم إلى مذهبي واعتقادي ورأيي. قال: فإن لم يقبلوا منك؟ قال: أقاتلهم وأستحل دماءهم وأموالهم وأسبي ذراريهم. قال: فإن لم تقدر عليهم، ماذا تفعل؟ قال: أدعو عليهم ليلا ونهارا وألعنهم في الصلاة؛ كل ذلك تقربا إلى الله تعالى. قال: فهل تعلم أنك إذا دعوت عليهم ولعنتهم يصيبهم شيء؟ قال: لا أدري! ولكن إذا فعلت ما وصفت لك وجدت لقلبي راحة، ولنفسي لذة، ولصدري شفاء. وقال له الناجي: أتدري لم ذلك؟ قال: لا، ولكن قل أنت. قال: لأنك مريض النفس معذب القلب معاقب الروح؛ لأن اللذة إنما هي خروج من الآلام، ثم اعلم أنك محبوس في طبقة من طبقات جهنم، وهي الحطمة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة إلى أن تخلص منها وتنجو نفسك من عذابها إذا لقيت الله عز وجل كما وعد بقوله: @QUR08 ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا. ثم قال الهالك للناجي: أخبرني أنت عن رأيك ومذهبك وحال نفسك كيف هي؟ قال: نعم، أما أنا فإني أرى أني قد أصبحت في نعمة من الله وإحسان لا أحصي عددها ولا أؤدي شكرها، راضيا بما قسم الله لي وقدر، صابرا لأحكامه، لا أريد لأحد من الخلق سوءا، ولا أضمر لهم دغلا، ولا أنوي لهم شرا، نفسي في راحة، وقلبي في فسحة، والخلق من جهتي في أمان! أسلمت لربي، مذهبي وديني دين إبراهيم عليه السلام! أقول كما قال: @QUR09 فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم، @QUR011 إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم.
فصل
ثم اعلم أن جهنم لها طبقات كثيرة، وهي الأهواء المختلفة والجهالات المتراكمة التي النفوس فيها محبوسة ومعها موقوفة، وقلوب أهلها معذبة منها بألوان من الآلام وهم في العذاب مشتركون، كلما مضت منهم أمة فانقرضت خلفها قوم آخرون من تلاميذهم وأتباعهم في تلك المذاهب والآراء، وكلما دخلت من الآراء أمة لعنت أختها المخالفة لها، كما ذكر الله تعالى في عدة سور من القرآن، قوله في سورة الأعراف: @QUR05 كلما دخلت أمة لعنت أختها، أو في سورة أخرى يلعن بعضهم بعضا ويتعايرون ويتنادرون ويتباغضون وهم في العذاب مشتركون، فهذه حالهم في الدنيا وفي الآخرة سواء وأشر لو كانوا يعلمون، وقاك الله وإيانا شرهم برحمته.
وأما ما قيل من تتعاطى علم النفس والطبيعة ما تقول يا أخي[1] أن الصانع الذي بنى هذه المدينة - أعني جسد الإنسان - أهو الساكن فيها والمستعمل لها في هذه الساعة أو غيره؟ فإن كان المستعمل لها في هذه الساعة هو الذي بناها، فلم لا يدري كيف بناها؟! ولم لا يذكر كيف كانت؟! فإنا نرى أصحاب التشريح لم تعرف[2] كيفية بنية هذا الجسد إلا بعد هدمه ونقضه وخرابه، وإن كان هذا الذي بنى هذه البنية هو غير المستعمل لها هذه الساعة، فترى بناؤها بناها بنفسه أو بناها على يدي غيره، ثم سلمها إلى المستعمل لها دون ما فيها؟ أترى أن هذا المستعمل لهذه البنية هو تلميذ ذلك الصانع الذي بنى هذه المدينة، أو ابن له كان في ذلك الوقت صبيا جاهلا وصار الساعة بالغا عاقلا حكيما، وإنما كان بالقوة فيخرج الآن إلى الفعل والظهور؟ أفتنا، أيدك الله في ذلك، واهدنا إلى سواء الصراط مأجورا.
فصل
ذكروا أن ملكا كان عظيم الشأن عزيز السلطان واسع المملكة كثير الجنود والعبيد ولد له ولد ذكر، كان أقرب الخلق شبها به وإلى والديه، طبعا وخلقا.
فلما تربى ونشأ وكمل ولاه أبوه بعض مملكته، وأمر جنوده وعبيده بطاعته، وأوصاه بحسن سياستهم، وأباحه جميع النعمة، غير أنه نهاه عن مرتبته فمكث الابن زمانا طويلا قدر نصف يوم متنعما ملتذا، إلا أنه كان غارا ساهيا، فحسده بعض عبيد أبيه ممن كان رئيسا قبله، فقال له: إنك لست تعرف نعمة ولا تجد لذة لأنك منهي عن أرفع لذة ونعمة وممنوع من ألذ شهوة، فإن بادرت وطلبت الملك سبقت إليه. فاغتر بقوله لأنه كان غرا جهولا وطلب ما ليس له أن يتناوله قبل حينه ويطلبه قبل وقته، فسقطت مرتبته وانحطت درجته عند أبيه، وبدت له سوأته واستبانت له خطيئته، فهرب خوفا من أبيه ذاهبا في مملكته شبه المستتر، فلقي العناء وأصابته البأساء والضراء، وقاسى الجهد والبلاء، فتذكر يوما ما كان فيه من نعمة أبيه، فحزن على ما فاته وبكى أسفا ثم نعس فنام فحمل إلى أبيه، فقال: دعوه نائما إلى يوم الجمعة. ثم رزق في اليوم الثاني ابنا آخر أشبه الناس بأخيه، فتربى ونشأ وكمل ونما وكان حليما وقورا شكورا صبورا، فولاه أبوه بعض مملكته وأمرهم بطاعته وأوصاه بسياستهم ودعاهم وأمرهم ونهاهم، فلم يسمعوا له ولم يطيعوا أمره لأنه كان شبه زحل! بل آذوه فصبر زمانا ثم شكى إلى أبيه فغضب عند ذلك عليهم ورمى أكثرهم إلى الماء.
فلما رأى ما أصابهم اغتم وحزن ونعس ونام وحمل إلى أبيه، فقال: اتركوه نائما إلى يوم الجمعة. ثم إنه رزق في اليوم الثالث ابنا آخر، وكان أشبه الناس بأخويه اللذين تقدم ذكرهما، فتربى ونشأ وكمل ونما، وكان خيرا فاضلا عالما محجاجا، فولاه أبوه مكان أخويه وأمر الرعية بطاعته وأوصى إليه مما أوصى إلى أخويه، فدعاهم وأمرهم ونهاهم، فلم يسمعوا له ولم يطيعوه؛ لأنه كان أشبه بالمشتري، وفزعوه بالنار، فذهب إلى أبيه وبنى له هيكلا ونذر له قربانا وعمل مناسك، ونادى في الناس هلموا تعالوا لتروا ما لم تروا وتسمعوا ما لم تسمعوا، ثم نام وحمل إلى أبيه، فقال: اتركوه نائما إلى يوم الجمعة. وبقي نداؤه في مسامع النفوس؛ يتوارثونه من غير أن يسمعوه، ويذهبون إلى هيكله فيرون ظاهره ومرآه ما لا يبصرون، ويفعلون سنة مناسكه ولكنهم معناها لا يفهمون؛ لأنهم صم بكم عمي فهم لا يعقلون.
وأعيذك أيها الأخ أن تكون منهم، وانظر بنور عقلك في رسالة أفعال الروحانية لعلك تعرف ما قلنا وتفهم ما أشرنا إليه، ثم إنه رزق في اليوم الرابع ابنا آخر، فتربى ونشأ وكمل ونما، وكان جلدا قويا جريئا مقداما، فولاه أبوه مكان إخوته وأمر الرعية بطاعته وأوصى إليه بما كان أوصى إلى إخوته، فدعاهم وأمرهم ونهاهم فلم يسمعوا له ولم يطيعوه؛ لأنه كان شبه المريخ! وبارزوه وبارزهم وناوشوه وناوشهم، وكان مؤيدا بقوة أبيه، فغلبهم وبدد شملهم وفرق جمعهم وشتت ألفتهم ورماهم في البر والبحر.
ثم بقي وحيدا كالغريب يدعو فلا يجاب ويأمر فلا يهاب! فاغتم وحزن ونعس ونام وحمل إلى أبيه، فقال: دعوه نائما إلى يوم الجمعة. ثم إنه رزق في اليوم الخامس ابنا آخر أشبه الناس بأخيه الأول، فتربى ونشأ وكمل ونما، وكان هاديا رشيدا طيبا رفيقا، فولاه أبوه مكان إخوته وأمر الرعية بطاعته وأوصى إليه بما أوصى إلى إخوته، ودعاهم وأمرهم ونهاهم فلم يتبعوه إلا قليلا، ولم يطيعوه إلا يسيرا، إلا أنه كان يشبه الزهرة.
ثم وثبوا عليه فأخذوا منه القميص الذي خاطت أمه، فذهب إلى أبيه فاستنفر عليهم بجنوده وأيده بروح منه، فسرى في نفوسهم وتحكم في لاهوتهم بدلا وقصاصا لما تحكموا في ناسوته! وأراد أن ينزل من الرأس، فقال أبوه: اصبروا إلى يوم الجمعة. ثم قال أبوهم في اليوم السادس للنجوم: اختاروا لابني الذي يشبه عطارد يوما لينزل إلى عالم الكون والفساد، فينبه إخوته النيام ويناديهم إلى حقه، فقد رضيت عنهم، ويأمرهم بالاستعداد للصلاة، فإن غدا هو العيد يوم الجمعة. فيبرز القضاة ويحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، فاجتمعت سادة النجوم ورؤساء الكواكب في بيت المريخ وتشاوروا بينهم.
فقال رئيس الكواكب وملكها الشمس: أنا أختار له من قوتي وأزوده من فضائلي العظمة والرياسة والسلطان والعز والرفعة والبهجة والبهاء والمدح والثناء والبذل والعطاء. وقال شيخهم كيوان: أنا أختار له من قوتي الحلم والوقار والصبر والثبات وبعد الغور وعلو الهمة والحفظ والأمانة والفكر والروية.
وقال برجيس القاضي العدل: أنا أختار له من قوتي وأزوده الدين والورع والخير والصلاح والعدل والإنصاف والحق والصواب والصدق والوفاء والصيانة والمروءة. قال بهرام صاحب الجيوش: أنا أختار له من قوتي وأزوده من فضائلي العزم والصرامة والنجدة والشجاعة والهمة والبسالة والظفر والغلبة والبذل والسخاء والتيقظ. وقالت الناهيد أخت النجوم: أنا أختار له من قوتي وأزوده من فصائلي الحسن والجمال والتمام والكمال والرأفة والرحمة والزينة والنظافة والحب والمودة والسرور واللذة.
وقال أخوهم الأصغر، وهو أخفاهم منظرا، وأجلهم مخبرا، الذي صنعته أظهر، وعلومه أكثر، وعجائبه أشهر وأزهر: أنا أختار له من قوتي وأزوده من فضائلي وأسوي[3] إليه من مناقبي الفصاحة والنطق والتمييز والفطنة والنظر واللطافة والقراءة والنغمة والعلوم والحكمة. وقالت أم النجوم وهي القمر: أنا أرضعه وأربيه وأختار له من قوتي وأزوده من فضائلي النور والبهاء والزيادة والنماء والحركة في الأقطار الثلاثة والتنقل في الأسفار وبلوغ الآمال والسير والأخبار وعلم مواقيت الآجال.
ثم إنه دارت الأفلاك وتمخضت قوى الروحانيات واستبشر أهل السموات، ونزل إلى عالم الكون في ليلة القدر قبل طلوع الفجر صاحب النشور لينفخ في الصور، فمكث هذا المولود في الرحم أربعين يوما من أيام الشمس، وعشرين يوما في الرضاع حتى تربى ونشأ وكمل ونما، وكان أشبه الناس بأخيه الثالث شبها لأنه كان يشبه عطارد الذي هو أخو المشتري لتقابل بينهما وتربيعهما وتقابل فلكهما، فصار هذا المولود من بين إخوته أتمهم جثة وأكملهم صورة، وكان أديبا عالما حكيما ملكا عزيزا إماما عادلا نبيا مرسلا، فولاه أبوه مملكته ومملكة إخوته كلها؛ فظهر وقهر من خالفه، ورفع وأعز من وافقه، وتحكم في مملكته نحوا من ثلاثين يوما من أيام الشمس، ثم أعجبته نفسه فأصابته العين، فاعتل وبقي على الفراش نحو ألف يوم من أيام القمر مرفه الجسم عليل النفس، ثم تحول إلى دار أخرى ونهض قليلا ومشى وقوي ونشط وانبسط وشرب من حب الدنيا وغرورها وأمانيها، فسكر من خمر شهواتها ودخل إلى كهف أبيه ونام مع إخوته فمكثوا زمانا طويلا، فلما انقضى دور الرقاد وتقارب الميعاد ناداهم أبوهم: ألم يأن لكم أن تنتبهوا من نومكم وتستيقظوا من غفلتكم وتذكروا ما نسيتم من أمر مبدئكم، وترجعوا إلى معادكم من أسفاركم؛ إذ لكل ابتداء انتهاء، ولكل حياة فناء، ولكل موت ونائم انتباه؟ وبادروا إلى معادكم من غربتكم؛ فقد تم خلق السموات السبع في ستة أيام وغدا يوم الجمعة يستوي ربكم على العرش يحمله يومئذ ثمانية!
فانتبهت لذلك الإخوة الذين قيل لهم إنهم سبعة وثامنهم كلبهم بعد رقدتهم ثلاثمائة سنة وأربعة وخمسين يوما من أيام الشمس بحساب القمر يتذاكرون كم لبثوا في كهفهم! فقال أبوهم لأخيهم: @QUR011 فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا، فأخفوا وكتموا أسرارهم لأنه @QUR031 ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة.
فافهم يا أخي هذه الإشارات والتنبيهات وقس على ذلك نظائرها، ولا تفش الأسرار لعلك تنتبه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة قبل أن ينفخ في الصور وقبل أن ينادي مناد للصلاة من يوم الجمعة @QUR09 فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم، وقبل أن يحشر المجرمون إلى جهنم وردا، وتزود من الدنيا فإنك راحل وإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب، ولا تبغ الفساد في الأرض، قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها.
وفقك الله وإيانا وجميع إخواننا إلى طريق السداد، إنه رءوف بالعباد.
(تمت رسالة البعث والقيامة ويليها رسالة في كمية أجناس الحركات.)
الرسالة الثامنة من النفسانيات العقليات في كمية أجناس الحركات
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
اعلم أيها الأخ أنا قد فرغنا من رسالة البعث والقيامة، وكنا قد بينا قبل ذلك ماهية الأجسام وكمية أنواعها، وبينا أيضا أن الأجسام لا تنفك من الحركة والكون، وقد بينا أن المحرك والمسكن للأجسام هي النفس في رسائلنا الطبيعيات والإلهيات، ونريد الآن أن نبين في هذه الرسالة ماهية الحركات وكمية أنواعها والجهات التي تتحرك المتحركات إليها، وفيها فنقول:
أولا ما الحركة وما السكون؟ وذلك أن العلماء والحكماء قد اختلفوا في ماهية الحركة والسكون وحقيقتهما؛ فمنهم من أثبتهما، ومنهم من نفاهما وقال لا حقيقة لهما ولا معنى، ومنهم من قال إن الحركة لا تكون إلا من حي قادر، ومنهم من قال إنها هي الحياة نفسها، ويطول ذلك لو شرحنا اختلاف أقاويلهم واحتجاجاتهم، ولكن نقول:
إن الحركة هي صورة روحانية تجعلها النفس في الأجسام، فبها تكون الأجسام متحركة، كما تجعل الأشكال والنقوش والصور والألوان في الأجسام، وبها تكون الأجسام مصورة منقشة مشكلة متحركة، فالنفوس هي المحركة للأجسام، والأجسام هي المحركات والمسكنات بتحريك النفوس لها وتسكينها إياها، كما بينا في رسالة الهيولى والصورة، والتحريك هو فعل النفس، والحركة هي صورة تجعلها النفس في الجسم بها يكون الجسم متحركا، وأما التسكين فهو أيضا فعل من أفعال النفس تحرك الجسم تارة وتسكنه أخرى؛ مثال ذلك أن الإنسان يحرك يده تارة ويسكنها أخرى.
وإذ قد تبين مما ذكرنا ما الحركة وما السكون، فنريد الآن أن نذكر كمية أنواعها وماهية كل نوع منها، فنقول:
اعلم أن الحركة نوعان: جسماني وروحاني - كما سنبين - فالحركة الجسمانية ستة أنواع؛ وهي: الكون والفساد والزيادة والنقصان والتغير والنقلة. ونريد أن نتكلم أولا في الحركات التي هي النقلة إذ كانت هي أبين وأظهر للحواس، ثم نذكر الخمسة الباقية إذ كانت هي أدق وألطف، فنقول: إن الحركة التي هي النقلة ثلاثة أنواع؛ مستقيمة ومستديرة ومركبة منهما. فالحركة المستقيمة نوعان؛ من المركز إلى المحيط ومن المحيط إلى المركز؛ يعني مركز العالم ومحيط العالم أو بين ذلك. وأما المستديرة فهي التي تكون حول المركز.
وإذ قد تبين بما ذكرنا كمية أنواع الحركات التي هي النقلة، فنريد أيضا أن نذكر المحركات؛ إذ كانت هي أبين وأظهر للحواس، فنقول:
إن المحركات اثنا عشر نوعا حسب، لا أقل ولا أكثر؛ منها حركات الأفلاك التسعة، ومنها حركات الكواكب السيارة، ومنها حركات الكواكب ذوات الأذناب، ومنها حركات الشهب، ومنها حركات الهواء والرياح، ومنها حركات حوادث الجو والسحاب والغيوم، ومنها حركات مياه البحار والأنهار والأمطار، ومنها حركات ما يحدث في بواطن الأرض من الزلازل والخسوف، ومنها حركات الكائنات من الجواهر المعدنية في باطن الأرض، ومنها حركات النبات والأشجار على وجه الأرض، ومنها حركات الحيوانات في الجهات الست من البحر والبر والهواء.
وأما جهات الحركات فمختلفة جدا، كثيرة الضروب والصور، ولكن لا تخلو كلها إما أن تكون من مركز العالم نحو المحيط أو من المحيط نحو المركز أو حول المركز أو مؤربا بين ذلك.
(1) فصل في تفصيل ذلك
فنقول: أما حركات الأفلاك التسعة فكلها حول الأرض؛ لأنها مركزها، والأرض مركز العالم بأسره، وهكذا أيضا حركات الكواكب الثابتة حول مركز العالم، وأما حركات الكواكب السيارة السبعة فحول مركز أفلاكها المستديرة، وأما حركات الأفلاك حول مراكز أفلاك أخر تسمى الأفلاك الحاملة، وحركات تلك الأفلاك حول مركز الأفلاك الخارجة المركز من مركز الأرض، كما بين ذلك في المجسطي ببراهين هندسية ضرورية بشرح طويل.
وأما الحركات التي ترى الكواكب السيارة على توالي فلك البروج، وبالميل والعرض والرجوع والاستقامة وما شاكلها، فقد بينا حقيقتها في رسالة السماء والعالم بمثالات ذكرناها، وأما شرحها فتجدها في المجسطي، وأما كمية تلك الحركات فتسع وأربعون حركة للسيارة، لكل واحد سبع حركات، وللكواكب الثابتة سبع أخرى، ولفلك البروج حركة واحدة، فذلك سبع وخمسون حركة. وأما الكواكب التي تسمى ذوات الأذناب فليست هي بكواكب بل هي نيرات تظهر دون فلك القمر في كرة الأثير، وأما حركاتها فمختلفة؛ تارة تكون نحو كرة المغرب مع دوران الفلك المحيط، وتارة على توالي فلك البروج نحو المشرق أو مائلا طولا وعرضا بحسب ما يوجبه شكل الفلك وأحكام النجوم، وإن حدوثها يكون دون فلك القمر في كرة الأثير كما يكون حدوث الشهب ما بين كرة الأثير وكرة الزمهرير، والذي يكون من حدث البروق في كرة النسيم دون كرة الزمهرير.
وكل هذه حوادث تكون في عالم الكون والفساد بحسب موجبات أحكام النجوم يطول فيها القول في كيف وكم ومتى ولماذا، وأما كمية أنواع حركات الرياح فهي إلى ست؛ وذلك أن الرياح ليست شيئا سوى تموج الهواء؛ لأن الهواء بحر لطيف ما بين السماء والأرض؛ فإذا تموج من المشرق إلى المغرب سمي الصبا، وإن تموج بالعكس سمي دبورا، وإن تموج من الجنوب إلى الشمال سمي التيمن، وإن تموج بالعكس فهي الجربى، وإن تموج من أسفل إلى فوق سمي الزوائغ،[1] وإن تموج بالعكس سمي الزمهرير، وبالفارسية أباددمه، وهي التي هلكت بها عاد، كانت نفخت عليهم من كرة الزمهرير @QUR07 سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما.
وأما التي تتحرك من غير هذه الجهات فتسمى النكباوات، وهي كثيرة الجهات، والمعروف منها أربع: نكباء الشمال، ونكباء الجنوب، ونكباء المشرق، ونكباء المغرب.
وأما الأسباب المحركة للهواء المموجة لها فمنها ما هو من جهة مطارح الشعاعات من الكواكب ونزول القمر منازله الثمانية والعشرين واتصالاته بالكواكب، وقد ذكرنا طرفا من كيفية ذلك في رسالة الآثار العلوية فيطلب من هناك.
وأما حركات الشهب فهي أيضا إلى الجهات الأربع أو نكباواتها بحسب القوة الدافعة لها من مطارح شعاعات الكواكب، وليست حركاتها بأسرع من حركات الكواكب في أفلاكها، ولكن لقربها منا نراها أسرع حركة من الكواكب.
وأما حركات السحاب والغيوم فإلى هذه الجهات الأربع أيضا نكباواتها، وهي بحسب مهب الرياح التي تسوقها من سواحل البحار والآجام والأنهار إلى البلدان المقصود بها من البراري والقفار ورءوس الجبال منتصبا أو مؤربا.
وأما حركات قطر الأمطار فكلها تجري من جو الهواء إلى الأرض والبحار منتصبا أو مؤربا.
وأما حركات الأرض فهي ثلاثة أنواع؛ منها الزلازل ومنها الخسوف ومنها الأرجحنان، فأما سبب الزلزلة فهو البخار المحتقن في باطن الأرض يطلب الخروج فيهز بعض بقاع الأرض وتضطرب وترتعد كما يرتعد المحموم عند شدة الحمى؛ وسبب ذلك هو رطوبة عفنة في خلل الأبدان، فتشتعل منها الحرارة العرضية فتذيبها وتحللها وتصيرها دخانا وبخارا يخرج من مسام خلل الأبدان، فيهتز من ذلك البدن كله أو عضو منه ويرتعد، ولا يزال البدن كذلك إلى أن تخرج تلك البخارات والدخانات من هناك وتفنى مادتها وتخمد تلك وتسكن، وكذلك حركات بقاع الأرض عند الزلازل وربما ينشق ظاهر الأرض وتخرج تلك الرياح والدخانات والبخار المحتقن المحتبس دفعة واحدة وتنخسف الأرض والبقاع ويقع في تلك الأهوية كما ينخسف سقف البيت ويقع في أرضه.
وأما حركات الأرجحنان فعند الحكماء أنها تترجح تارة من الجنوب إلى الشمال، وتارة بالعكس، ولكن الناس لا يحسون بها لكبر الأرض وعظمها كما لا يحس أهل المراكب في البحر بحركاتها عند شدة سوق الرياح لها. وذكر هذا الحكيم أن علة تلك الحركة هي مرور الشمس، تارة من البروج الجنوبية إلى البروج الشمالية، وتارة من الشمالية إلى الجنوبية، وإنما تجذبها إلى حيث دارت ومعها كيف مالت كما تجذب نباتها من باطنها إلى ظاهرها، وكما تجذب أصول النبات وفروعها إلى الهواء، ومن الحكماء من قال إن سبب ذلك هو أنه من دوران الشمس فوق الأرض في ناحية الشمال ستة أشهر في الصيف، كما ذكر في المجسطي، سخنت أهوية تلك البلاد ومياهها وتحللت رطوبة تلك البلاد، وخلا ذلك الجانب وتحركت الأرض وترجحت وثقل الجانب الآخر وتحركت الأرض، وينقل المراكز البعد والثقل جميعا، وترجحت الأرض ولكن لا يحس بها لكبرها، ولهم في هذا احتجاجات وكلام وأقاويل يطول شرحها.
فأما الذين أنكروا ذلك من الحكماء ودافعوا أن تترجح الأرض، فقالوا: لو كان القول كما قيل وكما زعموا، لكان يجب أن تختلف مسامتات الكواكب الثابتة لبقاع الأرض في الشتاء والصيف، وكان يجب أن يرتفع القطبان تارة وينخفضا تارة، وكان يجب أن يكون موضع خط الاستواء الذي تحت معدل النهر مختلفا، ولسنا نجد الأمر كذلك، فدل على أن ما قالوه من أرجحنان الأرض باطل. وقد روي في الخبر أن الأرض في بدء الخلق كانت تترجح كما قال هؤلاء الحكماء، فلما أرساها الله تعالى وشيدها بالجبال الثقال، استثقلت وسكنت حركاتها.
وأما حكم حركات باطن أجزاء الأرض، فقد قدمنا طرفا منها في رسالة المعادن، ولكن نذكر في هذا الفصل ما لا بد منه.
(2) فصل
اعلم أن الأرض جسم كري بجميع ما عليها من الجبال والبحار والعمران والخراب، وهي واقفة في مركز العالم وليست مستدير ملساء ولا مصمتة صماء، بل كثيرة الارتفاع والانخفاض من الجبال والتلال والأودية والأهوية، كثيرة التخلخل والتجويفات والكهوف والغارات والمنافذ والظواهر والبواطن، وكلها ممتلئة مياها ورطوبات وبخارات دهنية وكبريتية تنعقد منها الجواهر المعدنية .
وتلك البخارات والدخانات والرطوبات في دائم الأوقات في الاستحالة والتغير والكون والفساد.
وهكذا حكم ظاهرها فإنها كثيرة البحار والأنهار والأودية والجداول والبطائح والآجام والغدران، وفيها منافذ وخليجات يجري بعضها إلى بعض في دائم الأوقات وأمواج البحار متصلة في دائم الأوقات ليلا ونهارا، لا تقر ولا تهدأ، وتصاريف الرياح كذلك، والغيوم والأمطار والسحاب والضباب دائمات الكون والفساد، والأمطار متصلة في دائم الأوقات في بلدان مختلفة البقاع شرقا وغربا وجنوبا وشمالا، بل حكم الليل والنهار والشتاء والصيف الموجودات في الأوقات في بلدان شتى يتعاقب على بقاع الأرض من كل جانب، والنبات والحيوان والمعادن في الكون والفساد متصل لا ينقطع، والسفاد والنكاح والتوالد والحس والحركة والنوم واليقظة والموت والحياة متصلة في الخليقة!
وما في الأرض موضع شبر إلا وهناك معدن أو نبات أو حيوان، قل أم كثر، صغر أم كبر، مختلف الأجناس والأنواع والأشخاص والأشكال والصور والطباع والمزاج والأخلاق والألوان والأصوات، لا يعلم أحد كنهها وكثرتها وتفصيلها إلا الله تعالى الذي خلقها وصورها ودبرها كما شاء وكيف شاء، فتبارك الله رب العالمين.
وإذا تأملت يا أخي واعتبرت ما وصفنا من أحوال الحركات والمتحركات التي في العالم، علمت وتبين لك أن حكم العالم بجميع أجزائه ومجاري أموره تجري مجرى مدينة واحدة أو حيوان واحد أو إنسان واحد لا ينفك من الحركة والسكون، إما بكليته أو بجزئيته.
وقد بينا في رسالة ماهية الطبيعة ورسالة السماء والعالم أن سبب حركات الأركان ومولداتها هو حركات الكواكب، وسبب حركات الكواكب دوران الأفلاك، والمحرك والمدبر للأفلاك هي النفس الكلية الفلكية، فإن النفس الكلية الفلكية هي ملك من الملائكة المقربين وجنوده وأعوانه، وهو الذي أشير إليه بقوله تعالى: @QUR012 يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن، وقال تعالى: @QUR07 ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة، وهذا الملك وكله الله تعالى بإدارة الأفلاك وحركات الكواكب وما تحت فلك القمر من سائر الأركان ومولداتها من المعادن والنبات والحيوان أجمع، وهذا الملك هو أكبر من الفلك وأقوى منه وأعظم وأقدم وأشرف وأجل وأعلى من سائر الخلائق الجسمانيين، وهو يقدر على تسكين الأفلاك والكواكب كما يقدر على تحريكها؛ لأن التسكين أسهل من التحريك يعلمه كل عاقل منصف بحكم العقل.
وأما حركات أشخاص الحيوانات فهي مختلفة الجهات والأشكال والهيئات والصور، لا يعلم عددها إلا الله الواحد القهار، ولا يقدر أحد على تفصيلها إلا هو.
ولكن نذكر منها طرفا من فنون حركات أعضاء بدن الإنسان ومفاصل جسده ليكون دلالة على حركات أبدان سائر الحيوانات وأعضائها كلها المختلفة الأشكال والصور.
(3) فصل في أن حركات أعضاء البدن نوعان
فنقول: اعلم أن حركات أعضاء البدن نوعان؛ طبيعية وإدارية، فالطبيعية مثل حركات نبض العروق الضوارب وحركات أضلاع صدره وفؤاده ورئته وحلقومه عند استنشاقه الهواء وإرساله في حال النوم واليقظة من غير إرادة منه ولا اختيار.
وأما الحركات الإرادية والاختيارية فمثل القيام والقعود والذهاب والمجيء والصنائع والأعمال والكلام والإشارات بأعضاء بدنه، فإنه لا يكون إلا بإرادة واختيار منه، وهي مائة ونيف وعشرون حركة، منها حركات لجفن العين بالفتح والإطباق.
ومنها حركة نقل حدقتيه إلى أربع جهات، فوق وتحت ويمين ويسار، يحركها بأعصاب ممتدة من الدماغ إلى جرم العين وبالعضلات المتصلة بالعين، فهو يقلب عينه بتلك العضلات والأعصاب متى شاء إلى الجهات كلها، كما يجذب الفارس لجام فرسه يمنة ويسرة ويصرفه كيف يشاء في تقلب عينه ويحركها إلى حيث يريد أن ينظر إليه بتلك الأعصاب.
ومنها حركات اللسان إلى ست جهات لمضغ الطعام وتقليبه تحت أسنانه للقطع والكسر والدق والطحن والقطع بالثنايا والكسر بالرباعيات والأنياب والدق والطحن بالأضراس والطواحن.
وأما حركات اللسان عند الكلام فإنا نذكرها في فصل آخر، منها حركات اللسان أيضا عند قطع الشفتين لحدوث الحروف التي مجراها على اللسان، وهي أربعة عشر حرفا في لغة العرب، وهي هذه «ت، ث، د، ذ، ر، ز، س، ش، ص، ض، ط، ظ، ل، ن». والأربعة عشر حرفا الأخرى، فمخارجها مختلفة ليس للسان فيها مدخل.
ثم اعلم أن هذه الأحرف لا تحدث إلا بإرسال النفس المستنشق من الهواء وإرساله وقطع اللسان لها في مخارجها ومجاريها كما نبين ذلك في فصل آخر.
ومنها حركتان للشفتين بالفتح والضم، ومنها حركات عصبات الخياشم عند استنشاق الهواء والروائح بالمنخرين.
ومنها حركات المريء للبلع وازدراد الطعام والشراب وإيصالهما إلى المعدة، ومنها حركة الفك السفلاني إلى أربع جهات، ومنها حركات الرأس والرقبة إلى أربع جهات، ومنها حركات الكفين إلى أربع، ومنها حركات العضدين مثل ذلك، ومنها حركات الذراع إلى جهتين، ومنها حركات الكرسوع إلى أربع جهات، ومنها حركات الأصابع الأربع كل واحدة إلى جهتين، إلا الإبهام فإنها تتحرك إلى الجهات الأربع، ومنها حركات الظهر إلى أربع جهات، ومنها حركات الفخذين إلى أربع جهات، ومنها حركات الساقين إلى جهتين، ومنها حركات أصابع الرجل إلى جهتين، ومنها حركات السبيلين عند إطلاق البول والغائط؛ فهذه جملة مختصرة من تعديد أعضاء بدن الإنسان. فأما عللها فيطول شرحها، مذكور بعضها في كتب التشريح، وبعضها في كتاب منافع سائر الأعضاء لجالينوس. وأما حركات أعضاء أبدان سائر الحيوانات، فيطول شرحها لكثرة اختلافها وصورها وأشكال أعضائها، وقد ذكرنا طرفا منها في رسالة الحيوانات على لسان رسول النحل عند ملك اللحن في الخطاب.
فأما حركات الصناع وأصحاب الحرف في صنائعهم وأعمالهم، فقد ذكرنا طرفا منها في رسالة الصنائع العملية. فأما حركات الحواس الخمس عند إدراكها محسوساتها، فقد ذكرنا طرفا منها في رسالة الحاس والمحسوس.
وأما حركات عصبات مقدم الدماغ ووسطه ومؤخره فقد ذكرناها في رسالة الآراء والمذاهب والديانات، وأما حركات النبات فقد بينا طرفا منها في رسالة النبات، وأما حركات الجواهر المعدنية ففي رسالة أخرى، وأما حركات الجو والهواء ففي رسالة الآثار العلوية، وأما حركات الأركان الأربعة فقد بيناها في رسالة الكون والفساد، وأما حركات الأفلاك والكواكب ففي رسالة السماء والعالم، وأما حركات الأصوات ففي رسالة الموسيقى، وحركات الآلام واللذات في رسالة أخرى؛ فقد ذكرنا في كل رسالة ما يليق بحسبه، وإنما طولنا ذكر الحركات وزدنا في شرحها لأنها هي حياة العالم؛ وذلك أن حياة كل شيء من نبت وحيوان بالماء ، وحياة الماء بالحركة، وحياة الأبدان بالنفس، وحياة النفس بالفكر والجولان والخواطر، كما ذكرنا طرفا منها في رسالة الإيمان، وهي لا تهدأ - أعني النفس - لا في النوم ولا في اليقظة عن الحركات والجولان.
فصل
ثم اعلم أن غرضنا من ذكر حركات العالم وحركات أجزائه الكليات والجزئيات وفنون تصاريفها هو بيان بطلان قول من يقول بقدم العالم؛ وذلك لأن الحركات المختلفة تدل على اختلافها، والمتحرك والمختلف الأحوال لا يكون قديما؛ لأن القديم هو الذي يكون على حالة واحدة لا يتغير ولا يستحيل ولا يحدث له حال، وذلك ليس يوجد موجود هذا شأنه إلا الله الواحد الأحد، ولا يمكن أن يوجد شيء سوى الله تعالى هذا شأنه.
ثم اعلم أن الذين قالوا بقدم العالم ظنوا بأنه ساكن، والساكن لا تختلف أحواله، وليس الأمر كما ظنوا وتوهموا من سكون العالم كما بينا فيما تقدم بكثرة حركات كلياته وجزئياته ما لا تنكره العقول السليمة؛ فمنها حركات الكواكب، ودوران الأفلاك، واستحالات الأركان، وتكوين المولدات مما لا خفاء به.
ولعمري أن الفلك المحيط هو جسم كروي محيط بسائر الأشياء والأفلاك، وهو ساكن في مقره لا ينتقل منه، ولكنه متحرك أجزاؤه كلها، وكل فلك من الأفلاك المستديرة والأفلاك الخارجة المراكز يدور كل واحد حول مركزه الخاص، لا يقر ولا يهدأ طرفة عين، ولا يمكن أن يتوهم بسرعة حركتها إلا شيء نذكره، وذلك أن الدوارة هي أسرع شيء حركة نشاهدها، وقد ذكر أصحاب المجسطي أن حركات الأفلاك والكواكب أسرع من ذلك، وقد بينوها ببراهين هندسية ضرورية؛ فمن ذلك ما قالوه في حركة الشمس أنها تتحرك في مقدار ما يشيل الإنسان رجله بخطوة من خطواته ويضعها تمشي فراسخ.
ثم اعلم أن كل حركة في متحرك فهي متحركة له، وهي سبب لشيء آخر، فمتى عدمت تلك الحركة بطل ذلك السبب.
مثال ذلك: حركة الرحى عن الدابة التي تديرها أو الماء، وهي سبب الطحن، فمتى وقفت الدابة وانقطع الماء سكنت الرحى وعدم الطحن! فهكذا حكم الدولاب متى وقفت الدابة سكن دوران الدولاب وعدم الاستقاء ، وهكذا حكم الرياح وتحريكها المراكب والسفن والمياه، فمتى سكنت الرياح وقفت مراكب البحر عن السير وسكنت الأمواج، وهكذا أيضا مراكب الأنهار والسماريات في جريانها، متى توهم عدم الماء ووقوفها وجريان الأنهار، وقفت المراكب والسماريات والسفن، واقفة عن الانحدار والأصعاد، وهكذا متى سكنت حركات قوائم الحيوان ماتت، وهكذا متى سكنت حركات أبدانها وأعضائها عن النبض والتنفس ماتت وبطلت حياتها، وهكذا متى وقفت الكواكب السبعة السيارة في البروج عن دورانها وقفت الأمور التي تحت عالم الكون والفساد من الحيوان والنبات عن حركاتها وتكوينها، يعرف حقيقة هذا من كان حاذقا بصناعة النجوم وتكلم عليها.
والمثال في ذلك كرواحة متى وقفت عن الدوران سقطت بعدما كانت قائمة منتصبة عند حركاتها، فهكذا حكم العالم متى وقف الفلك المحيط عن الدوران وقفت الكواكب عن المسير والحركات، ووقفت عند ذلك مجاري الليل والنهار والشتاء والصيف، فيبطل عند ذلك الكون والفساد، ويبطل نظام العالم وتذهب الخلائق وتفارق النفس الكلية الجسم الكلي وتقوم القيامة الكبرى، وذلك أن العالم هو إنسان كبير، فإذا فارقت نفس العالم الجسم الكلي فقد مات الإنسان الكبير وقد قامت قيامته الكبرى، كما أن كل إنسان إذا فارقت النفس جسده فقد مات الإنسان الذي هو عالم صغير، وقد قامت قيامته؛ لأن القيامة قيامتان: قيامة كبرى وقيامة صغرى، كما قال عليه السلام: «من مات فقد قامت قيامته»، ثم بعد ذلك تبين للمنكرين ما كانوا يوعدون.
(4) فصل في بيان مقدمات عقلية ضرورية تدل على أن العالم محدث مصنوع
فنقول: اعلم أن معنى قول الحكماء العالم هو إشارة إلى الفلك المحيط وما يحويه من سائر الأفلاك والكواكب والبروج والأركان الأربعة مولداتها التي هي الحيوان والمعاد. ثم نقول: اعلم أن الفلك المحيط وما يحويه من جميع ما ذكر كلها أجسام، ومما لا شك فيه عند الحكماء أن الجسم عبارة عن الشيء الطويل العريض العميق، وقولهم «الشيء» إشارة إلى الهيولى وهو الجوهر، والطول والعرض والعمق إشارة إلى الصورة التي صارت بها الهيولى جسما طويلا عريضا عميقا. ثم اعلم أن من الأجسام ما هو متحرك دائما، وهي الأفلاك والكواكب، ومنها ما هي ساكنة بكليتها متحركة بأجزائها، وهي الأركان الأربعة؛ وذلك أن النار التي دون فلك القمر لا تبرح من مكانها، وهي المسمى الأثير؛ وهو هواء حار لين ليس له ضوء ودونه هواء بارد يسمى الزمهرير، وليس يبرح أيضا من مكانه، ودونه النسيم المحيط بالأرض والبحار، وهو هواء معتدل بين الحرارة والبرودة، وكل هذه الأكر الثلاثة لا تبرح من مكانها، بل هي متحركة بأجزائها، ومنها ما هي متحركة تارة بكليتها وجزئيتها وتارة ساكنة بكليتها وجزئيتها، وهي المولدات الكائنة من الحيوان والنبات، وكل هذه الأجسام المتحركات والساكنات يقتضي محركا ومسكنا.
بيان ذلك أن الفلك لما كان أجساما كريات مستديرات مشفات محيطات بعضها ببعض، الصغير منها في جوف الكبير والكبير في جوف ما هو أكبر منه إلى أن ينتهي إلى الفلك التاسع لمحيط بالكل.
وكل هذه الأفلاك متحركات حركات مستديرة مختلفة في السرعة والإبطاء، والجهات المختلفة شرقا وغربا وجنوبا وشمالا وطولا وعرضا.
وهكذا حكم حركات الكواكب فإنها كلها أجسام كريات مستديرات مضيئات بحركات مستديرة مختلفة، كما بين في المجسطي ببراهين هندسية عقلية ضرورية تدل هذه من أحوالها المختلفة الأشكال من الصغر والكبر والإبطاء والسرعة وغير ذلك، على أنها واقفة بقصد قاصد وصنع صانع وجعل جاعل وفعل فاعل حكيم قادر عالم.
وهكذا حكم الأركان الأربعة ومولداتها من الحيوان والنبات والمعادن، من اختلاف أحوالها وفنون تصاويرها وتغير أوصافها، تدل على أنها كلها من صنع صانع حكيم بصير قادر؛ وهو الله الواحد القهار العزيز الغفار.
فعند ذلك بطل قول المنجمين فيما يدعونه من تأثير الكواكب لقيام الأدلة بأنها مضطرة مسخرة؛ إذ المضطر لا فعل له، والفعل لمن يضطره ويبعد عليه قدرته! ومن تعدى هذا الحكم فقد ظلم، ولا يبعد الله إلا لظالم قال بما لا يعلم.
(5) فصل في بيان مشاهدة العلماء الحكماء العارفين المستبصرين الذين هم أولياء الله المصطفون الذين يرون صانع العالم بعين البصيرة
فنقول: اعلم أن الجسم ذو جهات لا يمكنه أن يتحرك إلى جميع جهاته دفعة واحدة، وليست حركته إلى جهة أولى من جهة إلا لسبب أو علة بها تكون تلك الحركة من تحريك غيره إياه.
فاعلم أن صانع العالم، لما كان محتجبا عن أبصار الناظرين الذين هم به جاهلون، أثر الصنعة في مصنوعاته ظاهر جلي بين لا يخفى على كل عاقل منصف لعقله، وإن كان لا يدري الصنعة لمن هي، ومن عملها، ومتى صورها، ومن أي شيء خلقها، وكيف صورها، وواحد عمله أو أكثر، وإن كان العمل لواحد فعلى مثال احتذاه بفعله إياه أو يعرف مثال عمله، ولم فعل بعد أن لم يكن فعل؛ فمشاهدتهم أثر الصنعة في المصنوع - وهي التي ذكرنا من اختلاف أحوالها - دلالة على أنها كلها بقصد قاصد وصنع صانع وفعل حكيم قادر، وإن كانوا ليسوا يرونه ولا يدرون من هو لجهلهم به وقلة معرفتهم له، وهي الحجاب الذي بينه وبينهم، كما ذكر الله تعالى في ذمهم: @QUR06 كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون، والحجاب ها هنا هو جهالتهم وقلة معرفتهم به.
وأما أولياء الله وأصفياؤه والعلماء العارفون المستبصرون فإنهم يرونه ويشاهدونه في جميع أحوالهم ومتصرفاتهم ليلهم ونهارهم، لا يغيب عنهم طرفة عين، كما لا تغيب مصنوعاته ومخلوقاته ومصوراته عن أبصار الناظرين، كما وصفهم تعالى بقوله: @QUR012 شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط، وقال: @QUR06 إلا من شهد بالحق وهم يعلمون، سماهم شهداء لمشاهدتهم لله تعالى في جميع أحوالهم كما قال: @QUR05 فأينما تولوا فثم وجه الله، وقال: @QUR05 هو الأول والآخر والظاهر والباطن ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا هو معهم أينما كانوا @QUR013 ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم، وقال: @QUR06 ونحن أقرب إليه من حبل الوريد.
ولما تحقق أولياء الله تعالى فهم هذه الآيات وعرفوها حق معرفتها، شرح الله قلوبهم ونور أبصارهم وكشف الغطاء عنهم حتى رأوه وشاهدوه بأبصارهم كما عرفوه بقلوبهم، وكما ادعى أسد الله في الأرض «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا» أراد بذلك: إني أراه في هذا الوقت مثل ما أراه في الآخرة.
(6) فصل في أن وجود العالم عن الله
فنقول: اعلم أن وجود العالم عن الباري ليس كوجود الدار عن البناء أو كوجود الكتاب عن الكاتب الثابت المستقل بذاته المستغني عن الكاتب بعد فراغه من الكتابة وعن البناء بعد فراغه من أبنية الدار، ولكن كوجود الكلام عن المتكلم، الذي إن سكت بطل وجود الكلام، فالكلام يكون موجودا ما دام المتكلم يتكلم به، ومتى سكت بطل وجوده؛ أو كوجود نور السراج في الهواء ما دام السراج باقيا، فالنور باق موجود؛ أو كوجود ضوء الشمس في الجو، فإن غابت الشمس بطل وجدان الضوء من الجو؛ أو كوجود الحرارة المسخنة في جسم النار لو انطفأت بطل ضوءها وحرارتها؛ أو كوجود العدد عن الواحد قبل الاثنين، كما بينا في رسالة الأرثماطيقي.
ثم اعلم أن كلام المتكلم ليس هو جزءا منه، بل فعل فعله أو عمل عمله وأظهره بعد أن لم يكن، وهكذا حكم النور الذي يرى في الجو عن جرم الشمس ليس هو جزءا منها، بل هو أشخاص منها وفيض وفضل منها، وهكذا حكم حرارة النار المنتشرة منها حولها ليست بجزء منها، بل هي فيض يفيض منها، وهكذا الحكم والمثال في وجود العالم عن الباري، وذلك أن العالم ليس بجزء منه، بل فضل تفضل به وفيض جود أفاضه وفعل فعله بعد أن لم يكن فعل، كما أن المتكلم أظهر الكلام بعدما لم يكن تكلم، وليس الكلام جزءا من المتكلم، بل فعل فعله وصنع أظهره. فقد تبين إذن بما ذكرنا من هذه المثالات التي تقدمت كيفية وجود العالم عن الله تعالى، ولا تقدر أيضا ولا ينبغي أن تظن أن وجود العالم عن الله تعالى طبعا بلا اختيار منه، مثل وجود نور الشمس في الجو طبعا لا اختيارا منها، ولا تقدر أن تمنع نورها وفيضها لأنها مطبوعة على ذلك، طبعها رب العالمين.
فأما الباري تعالى فمختار في فعله إن شاء فعل وإن شاء أمسك عن الفعل تركا، مثل المتكلم القادر على الكلام إن شاء تكلم وإن شاء أمسك وسكت، وهكذا حكم إيجاد الباري تعالى واختراعه، إن شاء أفاض جوده وفضله ونعمته وإحسانه وإظهار رحمته وحكمته، وإن شاء أمسك عن الفعل تركا، وإن شاء لم يمتنع عن إيجاده فعله صنعا؛ إذ هو قادر على الفعل وترك الفعل مختارا، كما ذكر في كتابه: @QUR015 إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده، وقال: @QUR05 كل يوم هو في شأن ولا يشغله شأن عن شأن.
وإذ قد تبين بما ذكرنا حدوث العالم وكيفية حدوثه عن الله تعالى، فنريد الآن أن نذكر ونبين أيضا كيفية بوار العالم وخراب الأفلاك وطي السموات كطي السجل للكتب بمقدمات عقلية ضرورية صادقة، ينتج عنها ما ذكرنا من بوار العالم وخراب الأفلاك.
فصل
فنقول: اعلم أن الفاعل المختار هو الذي يقدر على الفعل وتركه متى شاء، فهذه مقدمة موجبة صادقة. ومقدمة أخرى: كل فاعل حكيم مختار فله في فعله غرض، فهذه موجبة صادقة. ومقدمة أخرى نشرحها، فنقول: الغرض هو عناية سابقة في علم الصانع قبل إظهار صنعته ومن أجله يفعل ما يفعله، فإذا بلغ إلى غرضه قطع الفعل وأمسك عن العمل.
فهذه مقدمات ثلاث موجبات صادقات. ومقدمة أخرى: كل حكيم صانع إذا علم علما يقينيا أنه لا يبلغ إلى غرضه في فعله، فإنه لا يعمل شيئا ولا يطلبه، وهذه مقدمة كلية موجبة صادقة. ومقدمة خامسة: محرك الأفلاك والكواكب فاعل مختار حكيم قادر، وهذه مقدمات موجبة.
فينتج من هذه المقدمات أن العالم سيخرب يوما؛ بيان ذلك أنه إن كان قد يبلغ محرك الأفلاك إلى غرضه في تحريكها فسببه أن يمسك عن تحريكها وإدارتها، وإن كان لم يبلغ إلى الغرض فالغاية في ذلك بلوغ الغرض، وإن كان يعلم أنه لا يبلغ غرضه ومطلبه فسبيله أن يمسك عن فعله إن كان حكيما، وإن كان يعلم أنه سيبلغه، فإذا بلغ غرضه ومطلبه قطع الفعل وأمسك عن العمل.
وإذا أمسك محرك الأفلاك عن التحريك لها وقفت الأفلاك عن الدوران، ووقفت الكواكب عن المسير في البروج، ووقفت مجاري الليل والنهار والشتاء والصيف، وبطل ترتيب الزمان، ووقف الكون والفساد في المولدات الثلاثة، وفسد النظام. وفي ذلك يكون بطلان العالم وبوار الكل؛ لأنا قد بينا في فصول قبل هذه أن قوام العالم وصلاح الخلائق هو بالحركة التي هي حياة العالم وصلاحه، وبها يكون الخير والشر والسعود والمعارف أجمع.
فقد تبين بما ذكرنا كيفية بوار العالم وطي السموات والأرضين التي هي القيامة الكبرى. فأما حديث عالم الأرواح وبقائها ودوامها وكيفية تصاريف أهلها، فقد ذكرنا طرفا منها في رسالة البعث والقيامة بشرحها.
(7) فصل في بيان الضرر لمن يعتقد أن العالم قديم غير مصنوع
فنقول: إن من يعتقد أن العالم قديم غير مصنوع أو يظن ذلك، فإن نفسه نائمة نوم الغفلة ويموت بموت الجهالة؛ وذلك أنه لا يخطر بباله ولا يجول في خلده ولا في فكره كيفية صنعة العالم وتكوينه، ولا يسأل عن صانعه من هو ولا من خلقه، أو متى أحدثه، ومن أي شيء خلقه، وكيف صوره، ولم فعل بعد أن لم يكن فعل، وما الذي أراد بما فعله، وما شاكل هذه المباحث والسؤالات التي فيها وفي أجوبتها انتباه النفس من نوم الغفلة، وحياة لها وخلاص من البؤس والشدة. فإذا لم يخطر بباله لا يسأل عنه، وإذا لم يسأل عنه لا يجاب، وإذا لم يجب لا يعلم، وإذا لم يكن عالما فنفسه تنام في غفلتها، وتعمى عن الاعتبار للمشاهدات، وتصم عن استماع الأذكار والخطاب، وتموت في ظلمات الجهالة التي هي ظلمات بعضها فوق بعض، ويشتغل حينئذ بالأكل والشرب والجماع وطلب الشهوات الجسمانية واللذات الجرمانية؛ إذ هو جاهل بنفسه، مصر على سوء فعله، مستكبر في حياته إلى الممات، ثم يفارق الدنيا على رغم منه كارها حزينا خاسرا، لا يرجى له بعد الموت ثواب، ولا يؤمل له إحسان؛ إذ لم يكن له ما يجازى به إحسانا، وهو قوله: @QUR07 خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين.
فأما من يعتقد خلاف ذلك - وهو يعتقد أن العالم محدث مصنوع بقصد قاصد وفعل حكيم - فإنه يعرض له عند ذلك خواطر عجيبة وفكر وروية واعتبار وبصيرة وسؤالات طريفة ومباحث لطيفة عن العلوم الشريفة، ويكون في ذلك النجاة والسبب لانتباه النفس من نوم الغفلة، وتنفتح له عين البصيرة، ويحيا حياة العلماء ويعيش عيش السعداء في الدنيا والآخرة جميعا؛ وذلك أنه يخطر بباله ويعرض في فكره أن يبحث ويسأل، فيقول: من هذا الصانع الذي خلق العالم؟ ومتى خلق؟ ومن أي شيء عمل؟ وكيف صنع وصور؟ ولم فعل بعد أن لم يكن فعل ما فعل؟ وما الذي أراد بذلك؟ ولماذا؟ وما شاكل هذه المباحث والسؤالات التي في أجوبتها حياة النفس من موت الجهالة، ويقظة لها من الغفلات، والخروج من ظلمات الخطيئة. وإن وفق لفهمها بإلهام من الله تعالى فذلك هو الوحي والنبوة، وإن عز عليه فعليه بمجالسة الحكماء والمباحثة معهم، فإذا فهم ما قالوه - حسبما بينا في رسائلنا الإلهيات - صارت نفسه مثل نفوسهم، ويكون معهم حيث كانوا في درجات الجنان، وتنتبه نفسه من نوم الغفلة، ويحيا حياة العلماء ويعيش عيش السعداء، ويرفع إلى ملكوت السماء، ويصير في زمرة الأنبياء الذين أخلصوا بخالصة ذكرى الدار، وتصير نفسه من ورثة جنة النعيم وسكان السموات وقاطني الأفلاك، ويبقى هنالك خالدا مخلدا منعما ملذذا أبد الآبدين.
فصل
ثم اعلم أن لكل شيء من الموجودات قسطا من السعادة، قلت أم كثرت، وهي أن يبقى ذلك الشيء موجودا أطول ما يمكن على أحسن حالاته وأتم نهاياته، ولكن أسعد السعادات وأتم النهايات وأرفع المقامات ما يناله أولياء الله الذين هم صفوته وأهل مودته، وهو ثلاث خصال؛ أولها: معرفتهم بربهم. والثانية: قصدهم نحوه بهممهم. والثالثة: طلابهم مرضاته بسعيهم وأعمالهم.
فأما معرفتهم بربهم فهو أن يعلم أن كل نفس جزئية هي قوة منبجسة فائضة من النفس الكلية، ويعلم أن النفس الكلية هي أيضا قوة منبجسة فائضة من العقل الكلي، ويعلم أن العقل الكلي هو أيضا نور فائض من وجود الباري تعالى، ويعلم أن الله تعالى هو نور الأنوار ومحض الوجود ومعدن الجود ومعطي الفضائل والخيرات والسعادات، وهو باق أبدا سرمدا، وأن النفس الجزئية هي أيضا أنوار وضياء وإشراقات فائضة من النفس الكلية منبثة منها في العالم سارية في الأجسام من لدن فلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض؛ فهذا أصل علم أولياء الله تعالى ومعرفتهم بربهم.
وأما قصدهم نحوه بهمم نفوسهم فإنه فكرتهم آناء الليل وأطراف النهار في عجائب مصنوعاته وغرائب مخترعاته وأصناف خلائقه، واعتبارهم تصاريف أحوالها وكيفية الوصول إليها وإلى صانعها وبارئها، ومحبتهم له واشتياقهم إليه من كثرة ما يرون من إحسانه وإنعامه عليهم وعلى الخلق أجمعين، وقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها. وأما طلابهم مرضاته بسعيهم وأعمالهم فهو قبولهم وصايا ربهم تعالى التي جاءت بها الأنبياء والرسل عليهم السلام، والعمل بجميع ما أشاروا إليه، فهم في ليلهم ونهارهم لا يغفلون عنه ولا يسهون عن أسراره في القيام والقعود والممر والمجيء والأكل والشرب والأفعال والأعمال والانقلاب في جميع أحوالهم ومتصرفاتهم؛ فهم في جميع أعمالهم كأنهم يرون ربهم بعين القلب لا شك ولا ريب، كما قال سيد المرسلين عليه السلام لما سئل عن الإحسان؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا @QUR08 إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، @QUR06 إن الله لا يضيع أجر المحسنين.
وفقك الله وإيانا وجميع إخواننا إلى طريق السداد، وهداك وإيانا وجميع إخواننا سبيل الرشاد، إنه رءوف بالعباد.
(تمت رسالة كمية أجناس الحركات، ويليها رسالة في العلل والمعلولات.)
الرسالة التاسعة من النفسانيات العقليات في العلل والمعلولات
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
اعلم أيها الأخ أنا قد فرغنا من بيان كمية أجناس الحركات وكيفية اختلافها، وأشرنا في ذلك أن العالم محدث مصنوع، ونريد الآن أن نذكر في هذه الرسالة بيان العلل والمعلولات، فنقول:
إن نعمة الله تعالى على عباده جمة لا تفنى، ومواهبه كثيرة لا تحصى ، ولكن يتفاضل بعضها بعضا بحسب جزالتها وغزارتها، فمن مواهب الله الجزيلة وعطاياه الجميلة لبعض عباده، التي خص بها قوما دون قوم، وهي الحكمة البالغة كما ذكر بقوله: @QUR07 ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا؛ يعني به علم القرآن خاصة وتفسير آياته ومعاني أسراره وإشاراته اللطيفة التي لا يمسها إلا المطهرون من العيوب والذنوب والكذب في حق الله وآياته؛ حيث يفسر قوم آيات الله على خلاف ما هو معناه؛ كما فسروا الاستواء بالجلوس والتمكن على العرش، والرؤية بالنظر إلى الجسم المشار إليه، وبالسمع والبصر فسروا الأعضاء الإلهية، وفسروا الكلام بالنطق والحروف، وبالنزول الانتقال من السماء السابعة إلى السماء الدنيا، وغير ذلك من الآيات التي لا يعرف تأويلها إلا الله والراسخون في العلم، وهؤلاء هم الذين يعلمون ويعرفون تأويل آياته وأسراره ويقولون: @QUR06 آمنا به كل من عند ربنا، فهذا قول الحكماء الربانيين والعلماء المتفلسفين.
ثم اعلم أن لفظ الفيلسوف عند اليونانيين معناه الحكيم، والفلسفة تسمى الحكمة، والحكيم هو الذي أفعاله تكون محكمة، وصناعته متقنة، وأقاويله صادقة، وأخلاقه جميلة، وآراؤه صحيحة، وأعماله زكية، وعلومه حقيقية؛ وهي معرفة حقائق الأشياء، وكمية أجناسها، وأنواع تلك الأجناس، وخواص تلك الأنواع واحدا واحدا، والبحث عن عللها: هل هي، وما هي، وكم هي، وأي شيء هي، وكيف هي، وأين هي، ومتى هي؟ ولم كانت ومن هي؟ ويحسن أن يسأل عن هذه الوجوه أو يجيب عنها إذا سئل، ويفهم معانيها إذا فكر فيها وبحث عنها، كما قلنا في رسالة أجناس العلوم.
ثم اعلم أن أصعب الأجوبة عن هذه السؤالات التسعة جواب اللمية؛ لأنه سؤال عن العلل، والعلل كثيرة دقيقة غامضة، تحتاج إلى بحث شديد وفهم صادق ونفس زكية ونظر دقيق.
ثم اعلم أن المباحث والمطالب في معرفة حقائق الأشياء تسعة أنواع؛ أولها: هل هو؟ والثاني: ما هو؟ والثالث: لم هو؟ والرابع: كم هو؟ والخامس: أي شيء هو؟ والسادس: كيف هو؟ والسابع: أين هو؟ والثامن: متى هو؟ والتاسع: من هو؟ ولكل سؤال من هذه السؤالات جواب خاص لا يشبه الآخر ؛ فمن يتعاطى معرفة حقائق الأشياء ويخبر عن عللها وأسبابها يحتاج إلى أن يكون قد عرف هذه المباحث التسعة والجواب عن هذه السؤالات واحدا واحدا بحقه وصدقه.
ثم اعلم أن معرفة الكيفية قبل معرفة الكمية؛ فمن لا يدري كيفية الأشياء وترتيبها ونظامها لا يوثق بقوله إذا أخبر عن عللها وأسبابها بأن ذلك منه عن معرفة، بل هو حكاية وإخبار عن غيره ولا يكون إلا مبلغا! وينبغي لمن يطلب حقائق الأشياء ويبحث عن عللها وأسبابها أن يبتدئ أولا بمعرفة الأصول والقوانين والأجناس الكليات، ثم ينظر في الفروع والأنواع والأشخاص التي هي الحروف.
ثم اعلم أن ملاك الأمر في معرفة حقائق الأشياء هو في تصور الإنسان حدوث العالم، وكيفية إبداع الباري، تعالى، العالم واختراعه إياه، وكيفية ترتيبه للموجودات ونظامه للكائنات بما عليه الآن ولم كان ذلك.
ثم اعلم أن كل عاقل إذا سمع كلام العلماء في حدوث العالم، وأقاويل الحكماء في كيفية إبداع الباري، تعالى، العالم واختراعه له بعد أن لم يكن، وتفكر فيما قالوه؛ فإنه يشتهي ويتمنى أن لو علم كيف صنعه، ومتى عمله، ولم فعل ذلك بعد أن لم يكن قبل. فإن فكر في هذه الثلاثة من المباحثات، ولم يتصور كيفية ذلك، ولا متى، ولا لم لصعوبتها ودقتها؛ فربما تحير عقله وتشككت نفسه فيما قالت الحكماء وارتابت بها وتبلبلت.
ثم اعلم أن العلة في صعوبة التصور لحدوث العالم وكيفية إبداع الباري تعالى له من غير شيء هو من أجل جريان العادة في الشاهد أن كل مصنوع فإن صانعه يعمله من هيولى ما، في مكان ما، في زمان ما، بحركات وأدوات.
وليس حدوث العالم وصنعته وإبداع الباري تعالى له هكذا، بل أخرج من العدم إلى الوجود هذه الأشياء كلها؛ أعني الهيولى والمكان والزمان والحركات والأدوات والأعراض، فمن أجل هذا لا يتصور كيفية حدوث العالم وإبداعه.
(1) فصل
ثم اعلم أن الله تعالى قد علم بأنه يعرض للعقلاء هذه الشكوك والحيرة، حيث تفكروا في كيفية حدوث العالم، ولا يتصور بهذه الطريقة لصعوبتها ، فجعل له طريقا آخر أسهل من هذه وأقرب، وركزها في نفوسهم كأنها مكتوبة فيها كتابة إلهية لا يمكن لأحد من العقلاء إنكارها إذا أنصف عقله؛ لأنه يجد صدقها في نفسه شاهدا له بها، وهي كيفية صورة العدد ومنشؤه من الواحد الذي قبل الاثنين كما في رسالة الأرثماطيقي.
ثم اعلم أن الحكماء والعلماء هم ورثة الأنبياء، والأنبياء هم سفراء الله بينه وبين خلقه، ليعبروا عنه المعاني ويفهموها الناس بلغات مختلفة، لكل أمة ما تعرفه على قدر احتمال أفهامهم، فإذا مضت الأنبياء لسبلها خلفهم العلماء والحكماء وقاموا مقامهم ونابوا منابهم فيما كانوا يقولون ويفعلون، ويعلمون الناس من معالم الدين وطريق الآخرة ومصالح الدنيا، فمن قبل منهم ما قالوه وعمل بما أمروه فهو على طريق النجاة والفوز، ومن أبى وكفر به فهو على خطر عظيم وخوف من الهلاك، فاحذر يا أخي مخالفة الحكماء ومعاندة العلماء، بل كن منهم إذا استوى لك، وينبغي ألا ترضى لنفسك إلا بأعلى مرتبة في العلم والحكمة، فإن بذلك يكون القربة إلى الله تعالى كما ذكر بقوله: @QUR012 قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب، وإذ قد بان بما ذكرنا طرف من فضيلة العلماء ومناقب الحكماء فنقول الآن: قد قالت الحكماء كلمة كلية صادقة، وهي قولهم «إن الطبيعة لم تفعل شيئا باطلا»؛ ومعنى هذا القول أنه ليس شيء في الموجودات بلا فائدة ولا عائدة، بل ما من شيء إلا وفيه جر لمنفعة أو دفع لضر.
فإذا كان الأمر كما ذكرت يحتاج كل من يدعي أنه يعرف الحكمة أو يتعاطى التحقيق أن يخبر إذا سئل عن علة كل موجود، ولماذا وكيف وما الحكمة في كونه وما الفائدة في وجوده - إن كان يحسن ذلك - وإلا ينبغي له أن يقول: «الله ورسوله أعلم»، ولا يأنف أن يقول: «لا أدري»، فنقول: قبل كل شيء إنه ينبغي لمن يريد النظر في حقائق الأشياء، والبحث عن عللها، والسؤال عن أسبابها ولم وكيف ولماذا وما الحكمة فيها؛ أن يكون له قلب فارغ من هموم الدنيا وأمورها، ونفس زكية وفهم دقيق وعقل واضح وأخلاق طاهرة وصدر سليم من الدغل والغش والآراء الفاسدة، ويكون مرتاضا بالرياضيات الحكمية الأربع والنظر في المنطق والطبيعيات، ويكون قد عرف السؤالات وأجوبتها - كما بينا في رسالة الأجناس من العلوم - ثم ينظر في هذا الفن الذي يسمى علم الأنبياء، الملقب بعلم الإلهيات؛ لأن هذا العلم هو الغاية القصوى التي ينتهي إليها الإنسان في علم المعارف التي تلي رتبة الملائكة، الذين هم الملأ الأعلى وسكان السموات وملوك الأفلاك.
(2) فصل في أن الأشياء هي أعيان؛ أي صور غيريات أبدعها الباري
ثم اعلم أن الأشياء هي أعيان؛ أي صور غيريات أفاضها وأبدعها الباري تعالى، كما أن العدد هو أعيان أي صور غيريات فاض من الواحد بالتكرار في أفكار النفوس، والأشياء كانت في علم الباري تعالى قبل إبداعه واختراعه لها، كما أن الواحد لم يتغير عما كان عليه قبل ظهور العدد منه في أفكار النفوس.
ومن أخص أوصاف الباري أنه غير الوجود وأصل الموجودات وعلتها، كما أن الواحد أصل العدد ومبدؤه ومنشؤه، فلو كان الباري تعالى ضدا لكان العدم، ولكن العدم ليس بشيء، والباري تعالى في كل شيء ومع كل شيء من غير مخالطة لها ولا ممازجة معها، كما أن الواحد في كل عدد ومعدود، فإذا ارتفع الواحد من كل الموجود توهمنا ارتفاع العدد كله، وإذا ارتفع العدد فلم يرتفع الواحد، كذلك لو لم يكن الباري لم يكن شيء موجودا أصلا، وإذا بطلت الأشياء لا يبطل هو ببطلان الأشياء، ومن الموجودات ما هو أقرب إلى الباري تعالى رتبة ومنزلة وهو العقل، كما أن من الأعداد ما هو أقرب إلى الواحد رتبة ونسبة، وهو الاثنين ثم الثلاثة ثم الأربعة، ثم ما زاد بالغا ما بلغ، فهكذا حكم الموجودات من الله تعالى مرتبة ومنتظمة كترتيب العدد ونظامه، كما بينا في رسالة العدد، وفي رسالة المبادئ العقلية.
ثم اعلم أن كثيرا ممن ينظرون ويتفكرون في مبادئ الأمور يظنون ويتوهمون بأن المعلومات في علم الله لم تزل مثل صور المصنوعات في أنفس الصناع قبل إخراجهم لها ووضعهم في الهيولى المعروفة في صنائعهم، أو مثل صورة المعقولات في أنفس العقلاء وتصورهم لها، وليس الأمر كما ظنوا وتوهموا، بل مثل كون العدد في الواحد كما بينا قبل؛ لأن صورة المصنوعات حصلت في أنفس الصناع بعد النظر منهم في مصنوعات أستاذيهم والتأمل لها والتفكر فيها والاعتبار لها، والتي في أنفس أستاذيهم الذين أبدعوا الصناعات واخترعوها حصلت في نفوسهم بعد النظر منهم إلى المصنوعات الطبيعية والتأمل لها والتفكر فيها، وهكذا حكم صورة المعقولات في أنفس العقلاء حصلت فيها بعد النظر إلى المحسوسات وتأملهم لها والفكر منهم فيها، وليس حكم الله تعالى كذلك، بل علمه من ذاته، كما أن العدد من ذات الواحد.
والمثال ينبغي أن يكون مطابقا لما يمثل به في أكثر المعاني لا في أقلها، فمثال الباري تعالى بالواحد في نسبته إلى المبروزات بالأعداد أكثر مطابقة له من غيرها من المثالات.
ثم اعلم أن كل موجود تام فإنه يفيض منه على ما دونه فيض ما، وأن ذلك الفيض هو من جوهره أعني صورته المقومة التي هي ذاته؛ والمثال في ذلك حرارة النار، فإنها تفيض منها على ما حولها من الأجسام من التسخين والحرارة، وهي جوهرية النار التي هي صورتها المقومة لها، وهكذا أيضا يفيض من الماء الترطيب والبلل على الأجسام المجاورة له، والرطوبة جوهرية في الماء، وهي صورة مقومة لذاته، وهكذا أيضا يفيض من الشمس النور والضياء على الأفلاك والهواء؛ لأن النور جوهري في الشمس، وهي صورته المقومة لذاته، وهكذا أيضا تفيض من النفس الحياة على الأجسام؛ لأن الحياة جوهرية لها، وهي الصورة المقومة لذاتها.
فصل
ثم اعلم أنه ما دام الفيض من الفائض، يكون متواترا متصلا ما دام ذلك المفاض عليه، ومتى لم يتواتر متصلا عدم وبطل وجوده؛ لأنه يضمحل الأول فالأول. والمثال في ذلك الضوء في الهواء، إذا تواتر البرق واتصل بقي الهواء مضيئا مثل النهار؛ لأن الشمس تفيض الفيض منها على الهواء متواترا متصلا، فإذا حجز بينهما حاجز ، عدم ذلك الضوء من الهواء لأنه يضمحل ساعة ساعة ولا يتواتر الفيض عليه، وهكذا الحياة من النفس على الأجسام ما دامت متصلة متواترة تدوم الحياة، فإذا فارقت النفس الجسد بطلت حياة الجسد من ساعته واضمحلت، وهكذا حكم وجود العالم وبقائه من الباري تعالى، فما دام الفيض والجود والعطاء متواترا متصلا، دام وجود العالم من الله تعالى.
واعلم أن أكثر العقلاء يظنون ويتوهمون أن وجود العالم من الله تعالى كوجود الدار المبنية من البناء، المستقلة بذاتها، المستغنية عن البناء بعد بنائه، وليس الأمر كما ظنوا وتوهموا؛ لأن بناء الدار تركيب وتأليف من أشياء هي موجودة بأعيانها، قائمة بذواتها، كالتراب والماء والحجارة والآجر والجص واللبن والخشب وما شاكلها، وليس الإبداع والاختراع تركيبا وتأليفا، بل إحداث واختراع من العدم إلى الوجود، والمثال في ذلك كلام المتكلم وكتابة الكاتب، فإن أحدهما يشبه الإبداع وهو الكلام، والآخر يشبه التركيب وهو الكتابة، فمن أجل هذا صار إذا سكت المتكلم بطل وجدان الكلام، فإذا أمسك الكاتب لا يبطل الموجود من الكتابة، فوجود العالم من الله تعالى كوجود الكلام من المتكلم، إذا أمسك عن الكلام بطل وجدان الكلام، والدليل على ما قلنا وحقيقة ما وصفنا قول الله تعالى: @QUR010 إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا ... الآية و@QUR05 كل يوم هو في شأن ولا يشغله شأن عن شأن.
ثم اعلم أن كل لبيب عاقل إذا فكر في كيفية حدوث العالم، وإبداع الباري له، وخلقه أطباق السموات والأرض، وتركيبه أكر الأفلاك، وتدويره أجرام الكواكب البسيطة والأركان الأربعة، وتكوينه المولدات الثلاثة منها؛ فلا بد أن يعتقد فيها أحد الآراء الثلاثة: إما أن يظن ويتوهم بأنها أبدعت دفعة واحدة وأخرجها الباري تعالى من العدم إلى الوجود على ما هي عليه الآن، أو يظن ويتوهم بأنها أبدعت على تدريج فأخرجت على ترتيب أولا فأولا إلى آخرها على ممر الدهور والأزمان، أن يقول بعضها دفعة وبعضها على التدريج! إذ ليس في القسمة العقلية غير هذه الثلاثة. فأما من يظن ويقول إنها أبدعت دفعة واحدة بلا زمان فلا يجد لما يقول عليه دليلا من الشاهد فيتشكك فيما يقول.
وأما من يقول إنها أبدعت وأخرجت من العدم إلى الوجود على تدريج ونظم وترتيب، فهو يجد على ما يقول شواهد كثيرة من الموجودات باستقراء واحد.
وأما من يقول إن بعضها أبدع وأحدث دفعة واحدة وبعضها على التدريج، فهو يحتاج إلى أن يبينها ويشرحها ويفصلها.
(3) فصل في أن الأمور الطبيعية أحدثت على تدريج ممر الدهور والأزمان
فنقول: إن الأمور الطبيعية أحدثت وأبدعت على تدريج ممر الدهور والأزمان؛ وذلك أن الهيولى الكلي - أعني الجسم المطلق - قد أتى عليه دهر طويل إلى أن تمخض وتميز اللطيف منه من الكثيف، وإلى أن قبل الأشكال الفلكية الكرية الشفافة وتركب بعضها في جوف بعض، وإلى أن استدارت أجرام الكواكب النيرة وركزت مراكزها، وإلى أن تميزت الأركان الأربعة وترتبت مراتبها وانتظمت نظامها.
والدليل على ذلك قوله تعالى: @QUR06 خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وقوله تعالى: @QUR08 وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون.
فأما الأمور الإلهية الروحانية، فحدوثها دفعة واحدة مرتبة منتظمة بلا زمان ولا مكان ولا هيولى ذات كيان، بل بقوله: @QUR02 كن فيكون والأمور الروحانية الإلهية هي العقل الفعال والنفس الكلية والهيولى الأولى والصور المجردة، والعقل هو نور الباري تعالى وفيضه الذي فاض أولا، والنفس هي نور العقل وفيضه الذي أفاضه الباري منه، والهيولى الأولى هي ظل النفس وفيئها، والصور المجردة هي النقوش والأصباغ والأشكال التي عمتها النفس في الهيولى بإذن الله تعالى وتأييده لها بالعقل.
وهذه الأمور كلها بلا زمان ولا مكان، بل بقوله: @QUR02 كن فيكون كما قال: @QUR06 وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر.
والمثال حدوث البرق، وإشراق نور الشمس في الهواء، وإضاءة الإبصار ورؤية الأشياء دفعة واحدة بلا زمان.
ثم اعلم أن الأركان الأربعة متقدمة الوجود على مولداتها بالأيام والشهور والسنين، كما أن الأفلاك متقدمة الوجود على الأركان بالأزمان والأدوار والقرانات، وعالم الأرواح متقدم الوجود على عالم الأفلاك بالدهور الطوال التي لا نهاية لها، والباري تعالى متقدم الوجود على الكل، كتقدم الواحد على جميع العدد.
ثم اعلم أنه قد أتى على النفس دهر طويل قبل تعلقها بالجسم ذي الأبعاد، وكانت هي في عالمها الروحاني ومحلها النوراني ودارها الحيوانية مقبلة على علتها، العقل الفعال، تقبل منه الفيض والفضائل والخيرات، وكانت منعمة ملتذة مستريحة مسرورة فرحانة.
فلما امتلأت من تلك الفضائل والخيرات أخذها شبه المخاض، فأقبلت تطلب ما تفيض عليه تلك الخيرات والفضائل، وكان الجسم فارغا قبل ذلك من الأشكال والصور والنقوش، فأقبلت النفس على الهيولى تميز الكثيف من اللطيف، وتفيض عليه تلك الفضائل والخيرات.
فلما رأى الباري تعالى ذلك منها مكنها من الجسم وهيأ لها، فخلق من ذلك الجسم عالم الأفلاك وأطباق السموات من لدن فلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض، وركب الأفلاك بعضها في جوف بعض، وركز الكواكب مراكزها، ورتب الأركان مراتبها على أحسن النظام والترتيب بما هي عليه الآن؛ لكيما تتمكن النفس من إدارتها وتسيير كواكبها، ويسهل عليها إظهار أفعالها وفضائلها والخيرات التي قبلتها من العقل الفعال.
فهذا الذي كان سبب كون العالم - أعني عالم الأجسام - بعد أن لم يكن، من يرد أن يتصور كيفية تمخض الهيولى وتميز أجزاء الجسم اللطيف منها من الكثيف، وقبولها الأشكال الكرية الفلكية الشفافة، وكيف تركب بعضها في جوف بعض في مراتبها ودورانها، وكيف استدارت أجرام الكواكب النيرة وركزت مراكزها في أفلاكها في مسيراتها، وكيف تمخضت أجزاء الأركان الأربعة بعضها مع بعض، وتميز بعضها من بعض، وترتبت على ما هي عليه الآن كلها من هيولى واحد من حيث الجسمية مع اختلاف صورها وفنون أشكالها؛ فليعتبر تركيب جسده من دم الطمث في الرحم كيف تمخض وتميز، وصار بعضها عظاما بيضا صلبة، وبعضها لحما أحمر، وبعضها شحما دسما أصفر، وبعضها عروقا مجوفة، وبعضها أعضاء آلية، وبعضها أعضاء متشابهة الأجزاء، وكيف صار بعضها قلبا، وبعضها جرم الكبد، وبعضها جرم الرئة، وكذلك المعدة والطحال والدماغ والأمعاء، وكيف صار بعضها جلدا وشعرا وظفرا، وما شاكل هذه الأشياء المختلفة الأشكال والصور والألوان والطعوم والروائح والطباع.
وإن عجز فهمه عن تصور كون هذه من دم الطمث ومن النطفة وتركيبها منه وكيفية قبولها هذه الصور والأشكال والطعوم والألوان، التي هي أقرب إليه ومعرفتها أسهل عليه، فهو عن تصور كيفية الأفلاك وخلق أطباق السموات والأراضين أبعد، وهو بها أجهل وأقل فهما.
(4) فصل في أن النفس الكلية سترجع إلى عالمها الروحاني
ثم اعلم أنه سترجع النفس الكلية إلى عالمها الروحاني ومحلها النوراني وحالتها الأولى التي كانت عليها قبل تعلقها بالجسم، كما قال تعالى: @QUR010 كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين، ولكن لا يكون ذلك إلا بعد مضي الدهور والأزمان الطوال والأدوار، وسيخرب العالم الجسماني إذ فارقته النفس وسكن الفلك عن الدوران، والكواكب عن السير، والأركان عن الاختلاط والمزاج، ويبلى النبات والحيوان والمعادن ويخلع الجسم الصور والاشكال والنقوش ويبقى فارغا كما كان بديا إذ أعرضت عنه النفس وأقبلت نحو عالمها ولحقت بعلتها الأولى وصارت عنده واتحدت به؛ لأن مثل النفس في إقبالها على الجسم واشتغالها به في إصلاح شأنه - بعدما كانت مقبلة على علتها في عالمها مستفيدة منها الفيض من الفضائل والخيرات - كمثل الرجل الخير العاقل المحب المقبل على أستاذه، المحب الحريص في تعلمه العلم والحكم والمعارف، المتخلق بأخلاقه الجميلة وآدابه الصحيحة مدة من الزمان، حتى إذا امتلأ من الخيرات والفضائل والعلوم والحكم أخذه عند ذلك شبه المخاض، واشتهى وتمنى وطلب من يفيض عليه من تلك الخيرات والفضائل ويفيده إياها.
فإذا وجد تلميذا يعلم أنه يقبل منه تأديبه ويفهم علمه وحكمته، أقبل عليه بالفيض والإفادة طمعا في إصلاحه وحرصا في تعليمه ورغبة في تأديبه، تشبها بأستاذه في أفعاله وصنائعه، مثل ما كان يفعل أستاذه به تشبها بأستاذه ومعلمه ومخرجه الأول الذي أدبه وخرجه وهذب جوهره وصفى عنصره.
فإذا فرغ من تعليمه وتثقيفه بتأديبه، أقبل عند ذلك على عبادة ربه، وطلب الخلوات لمناجاة باريه، وتمنى اللحوق بأسلافه وأقاربه والدخول في زمرة ملائكته. وهكذا سيرة الأنبياء، صلوات الله عليهم، وكذلك أيضا كانت سيرة الحكماء والقدماء الربانيين، كل ذلك تشبها بالله تعالى في إظهار حكمته وفيض فضائله على بريته إذ أوجدهم بعد أن لم يكونوا، فأفاض عليهم من فنون نعمه وألوان الخيرات والبركات مما لا يحصي عددها إلا الله، فافهم يا أخي هذه الإشارات والتنبيهات، لعل نفسك تنتبه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة.
فصل
حكي في بعض الأخبار أن نبيا من أنبياء الله تعالى قال في مناجاته مع ربه: يا رب لم خلقت الخلق بعد أن لم تكن خلقته؟ فقال له ربه على سبيل الرمز: كنت كنزا مخفيا من الخيرات والفضائل، ولم أكن أعرف فأردت أن أعرف.
معناه لو لم أخلق الخلق لخفيت هذه الفضائل والخيرات التي أفضتها وأظهرتها من عجائب خلقي ومصنوعاتي المحكمات التي كلت الألسن عن البلوغ إلى كنه صفاتها، وحارت عقولهم عن كنه معرفتها بحقائقها.
وأنت يا أخي، فاحذر من سوء الفهم من كلام العقلاء والحكماء، ولطيف أقاويلها وإشاراتها إلى المعاني الدقيقة! فإن سوء الفهم يؤدي صاحبه إلى سوء الظن بالحكماء؛ فمن ذلك ما يتوهمه كثير من الناس في حق الحكماء أنها تقول بقدم العالم وأزليته، وهذا هو سوء الظن منهم لسوء فهمهم لأقاويلها وإشاراتها، وذلك أنهم لما سمعوا قول الحكماء «إن العالم لم يخلق في زمان ولا هو في مكان» ظن من سمع هذا القول منهم أنهم يقولون بقدم العالم ولم يفهم ما أرادوا، وإنما أرادوا بقولهم: لا زمان ولا مكان أفضل؛ لأن الزمان عدد حركات الفلك والمكان سطحه الخارج، فإذا لم يكن فلك فلا زمان ولا مكان، بل لما أبدع الباري تعالى الفلك وأداره وأوجد المكان والزمان معا بعد وجود الفلك.
ومن ذلك أيضا قولهم: إن الجوهر جوهر لنفسه، والعرض عرض لنفسه. فظن من سمع هذا القول ولم يفهم المراد أنهم يقولون إنها ليست بجعل جاعل أو بصنع صانع إذ كان لنفسه! وليس الأمر على ما ظنوا وتوهموا، وإنما قالت الحكماء هذا القول لما تأملت الموجودات وتصفحت أحوالها وجدت بعضها صفات وبعضها موصوفات مختلفات، وعرفت أن علة اختلاف الموصوفات هي من أجل اختلاف الصفات، وأما اختلاف الصفات فهي لأنفسها لأن الله تعالى أبدعها مختلفة بأعيانها لا لعلة فيها.
والمثال في ذلك اختلاف حال الأسود والأبيض، فإنه من أجل اختلاف السواد والبياض في ذاتيهما لا لعلة أخرى.
فمن ظن أن السواد والبياض لهما علة أخرى تمادى إلى غير النهاية! وذلك أن الأسود هو موصوف، وإنما كان أسود لكون السواد فيه، فهكذا الأبيض إنما كان أبيض لكون البياض فيه، فأما السواد والبياض فإنهما في أنفسهما مختلفان، لا لصنعة فيهما، بل بذاتيهما مختلفان؛ لأن الله تعالى أبدعهما هكذا مختلفي الذاتين، فهذا معنى قول الحكماء: إن السواد سواد لنفسه لا لصفة فيه، ولم يريدوا أن السواد ليس بجعل جاعل ولا بصنع صانع، كما توهم كثير من الناس الذين هم غير مرتاضين بالحكمة ولا متحققين بالشريعة.
ثم اعلم أن العجز هو أحد الأسباب التي تعوق الفاعل عن إظهار أفعاله والصانع عن إحكام صنعه، ولكن ربما يكون من الفاعل لضعف قوته ولقلة معرفته، وربما كان من عدم الأدوات والآلات التي يحتاج إليها الصانع في إحكام صنعته أو من عدم المكان والزمان والحركات وما شاكلها، أو ربما يكون العجز من قبل الهيولى وعسر قبولها الصورة من الصانع الحكيم. مثال ذلك تعسر قبول الحديد من الحداد أن يفتل من الحديد البارد حبلا طويلا كما يفتل الحبال من القنب، فليس العجز من الحداد ولكن من الحديد لعسر قبوله للفتل، ومثل الهواء لا يقبل كتابة الكاتب فيه لسيلان عنصره، ومثل النجار لا يقدر أن يعمل سلما يبلغ السماء لعدم الخشب، لا لعجز فيه، ومثل رجل حكيم لا يقدر أن يعلم الطفل لا لعجز في الحكيم، بل لأن الطفل غير مستعد لقبول ذلك في حال الطفولية. وعلى هذا القياس يوجد العجز من الهيولى وعسر قبولها للصور لا لعجز في الصانع الحكيم.
ثم اعلم أن كثيرا من العلماء لا يعرفون كيفية العجز من الهيولى ولا يعتبرونه، فينسبون العجز كله إلى الفاعل القادر الحكيم، ذلك أنهم ربما يظنون ويتوهمون ذلك على الله تعالى فيقولون إنه يعجز عن أشياء كثيرة مثل قولهم: إنه لا يقدر أن يخرج إبليس من مملكته، ولا يعتبرون[1] أن العجز من عدم ما ليس من مملكته ليس من عدم القدرة من الله تعالى! ويقولون: إنه لا يقدر أن يدخل الجمل في سم الخياط، ولا يعتبرون العجز من الإبرة! ويقولون: إن الله لا يقدر أن يجعل أحدا قائما قاعدا في وقت واحد، ولا يدرون أن العجز من الواحد منا؛ إذ إن القيام والقعود لا يكون في وقت واحد معا! ثم يطلقون القول بأن هذه الأشياء لا يصح القول بها في مقدوره، فإذا سئلوا ما معنى قوله: @QUR05 والله على كل شيء قدير قالوا: هذه خصوص لا على العموم خلاف ما قال الله تعالى؛ لأنه ذكره على العموم مطلقا فقال: @QUR04 على كل شيء قدير ثم إنهم يدخلون الشبهة على من يقول إنه عموم بقولهم: أترى أنه قادر على أن يخلق مثل نفسه، ولا يدرون أن هذا العجز هو من عدم وجدان المثل، لا في قدرته؛ لأن العجز هو العدم لا الوجود.
(5) فصل في ما العلة؟ وما المعلول؟ وكم العلل؟ وكم المعلول؟
ما العلة؟ هي السبب الموجب لكون شيء آخر. ما المعلول؟ هو الذي لكونه سبب من الأسباب. كم العلل؟ أربعة أنواع: فاعلية وهيولانية وصورية وتمامية. كم المعلول؟ أربعة أنواع وهي: المصنوعات كلها؛ فمنها مصنوعات بشرية حيوانية، ومنها طبيعية وهي المعادن والنبات والحيوان، ومنها نفسانية بسيطة وهي الأفلاك والكواكب والأركان، ومنها الروحانية الإلهية وهي الهيولى والصورة المجردة والنفس والعقل. ما الصنعة؟ هي إخراج الصانع ما في نفسه من الصور ونقشها في الهيولى، وكل صانع حكيم فله في صنعته غرض ما، والغرض هو غاية تسبق في علم العالم أو في فكر الصانع، ومن أجله يفعل ما يفعله، فإذا بلغ إليه قطع الفعل وأمسك عن العمل.
ثم اعلم أن كل مصنوع فله أربع علل: علة فاعلية، وعلة هيولانية، وعلة صورية، وعلة تمامية. مثال ذلك السرير؛ فإن علته الفاعلية النجار، والهيولانية الخشب، والصورية التربيع، والتمامية القعود عليه. وكل صانع بشري يحتاج في صناعته إلى ستة أشياء حتى يتم صنعته: هيولى ما، ومكان ما، وزمان ما، وأدوات ما كاليد والرجل، وآلات ما كالفأس والمنشار، وحركات ما. وكل صانع طبيعي يحتاج إلى أربع منها: وهي الهيولى والمكان والزمان والحركة. وكل صانع نفساني يكفيه اثنان منها: هيولى وحركات ما. والباري تعالى لا يحتاج إلى شيء منها؛ لأن فعله إبداع واختراع لهذه الأشياء؛ أعني الهيولى والزمان والحركات والآلات والأدوات.
واعلم أن كل صانع حكيم من البشريين يجتهد أن يحكم صنعته إحكاما أجود ما يقدر عليه، ولكن ربما عرض له عوائق؛ إما لعلة المادة أو لعسر الهيولى عن قبول الصورة، أو لعدم الأدوات والآلات، أو ضعف القوة والنسيان والغفلة والسهو وقلة المعرفة بالحذق في الصنعة، والله تعالى منزه عن جميع ذلك كله.
(6) فصل في أن الموجودات نوعان كليات وجزئيات
ثم اعلم أن الموجودات كلها نوعان: كليات وجزئيات، فالكليات رتبها الباري من أشرفها إلى أدونها، كما بينا في رسالة المبادئ والجزئيات، ابتدأها من أدونها إلى أتمها وأكملها رتبة، كما بينا في رسالة الطبيعيات.
ثم اعلم أنه ربما يكون في المسألة الواحدة عدة أجوبة، ولكن ليس كل جواب يصلح لكل واحد؛ وذلك أن في الناس خواص وعوام؛ أما جواب الخاص إذا سأل عن حدوث العالم وعلته الموجبة، فجوابه على ما سنذكره ونشرحه من بعد. وأما جواب العامة إذا سألوا لم خلق الله العالم بعد أن لم يكن، فجوابه أن في خلقه العالم حكمة وخيرا، وفعل الحكمة عن الحكيم واجب! فلو لم يخلق العالم لكان تاركا للحكمة وفعل الخيرات، وهذا هو الجواب. فإن قال: لم خلق في وقت دون وقت؟ فيقال: لأنه كان عالما أنه سيخلق في الوقت الذي خلق فيه، فلو خلق قبل ذلك لكان فعله مخالفا لعلمه - تعالى عن ذلك علوا كبيرا. فإن قيل: لم خلق الله تعالى العالم على هذه الصورة التي هو عليها الآن ولم يخلقه على غيرها من الصور؟ فيقال: لأن هذا أحكم وأتقن. فإن قيل: بل غيره أحكم وأتقن! فيقال له: بين كيفية ذلك، فإن الحكماء الربانيين قالوا لا يجوز ولا يمكن أحكم من هذا ولا أتقن منه. فإن قال: أوليس زيد الزمن قد كان يمكن أن يكون أحكم بنية وأحسن صورة مما هو عليه الآن؟ فيقال: سألتنا عن صورة العالم بكليته لا عن صورة حروف أجزائه، بل ماذا تقول في صورة الإنسانية؛ هل يجوز أن تكون أحكم وأتقن مما هي عليه الآن؟
ثم اعلم أن الله تعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم بالقصد الأول، فأما صورة زيد الزمن وعمرو المفلوج للأسباب الفلكية والعلل الطبيعية، ويطول شرح ذلك؛ وذلك أن الحكماء بحثوا عن علل الأشياء وخبروا عن أسبابها، فإنما كان ذلك عن علل الكليات، فأما علل الجزئيات فلا يبلغ فهم البشر معرفتها، بل تقصر عقولهم عن معرفتها وعن عللها وأسبابها الدقيقة الخفية.
ونريد أن نذكر عن تلك العلل والأسباب، التي أدركها الحكماء بدقة نظرهم وشدة بحثهم وجودة فكرهم واعتقادهم، طرفا ليكون دلالة على الباقية وقياسا لما نريد النظر فيها والحث عليها والاعتبار لها تشبها بهم واقتداء بمذاهبهم. وإذ قد ذكرنا ما يحتاج إليها فنريد الآن أن نبين طرفا من كيفية السؤال والجواب عن علل الأشياء وماهية الحكمة فيها.
(7) فصل في علة خلق العالم
وكيف إذا قيل لم خلق الله تعالى بعد إن لم يكن؟ فيقال: لأن الله حكيم وخلقه العالم حكمة، وفعل الحكمة عن الحكيم واجب، وبواجب الحكمة إذن خلق العالم. وإذا قيل: لم خلق الله في وقت ولم يخلق قبل ذلك؟ قيل: لعلمه السابق أنه سيخلق في هذا الوقت لا قبل. فإن قيل: لم خلقه على هذه الصورة التي عليها الآن ولم يخلقه على صورة غيرها؟ فيقال: لعلمه أن هذه الصورة أحكم وأتقن، ففعل كما علم ليكون فعله موافقا لعلمه. وإذا قيل: كيف خلق الله العالم؟ وكيف ابتدأه من أوله إلى آخره؟ فقد أوردنا لهذا العالم أربع رسائل: رسالتين في المبادئ، ورسالتين في العالم، بينا فيها كيف أبدع الباري تعالى الموجودات وجميع الكائنات، وكيف رتبها ونظمها بعضها يتلو بعضا في الوجود والبقاء كترتيب العدد عن الواحد الذي قبل الاثنين .
وينبغي لمن يريد النظر في هذه الرسالة أن يكون قد نظر في رسالة الأربعة الموصوفات قبل هذا؛ لأن معرفة كيف هو قبل معرفة لم هكذا، كما بينا في رسالات أجناس السؤالات التسعة وأجوبتها للحكماء.
ثم اعلم أن لله تعالى عالمين: أحدهما جسماني والآخر روحاني؛ فالعالم الجسماني هو الفلك المحيط وما يحويه من سائر الأفلاك والكواكب والأركان والمولدات الثلاثة، والعالم الروحاني هو عالم العقل وما يحويه من النفس والصور التي ليست بأجسام ذوات الأبعاد الثلاثة التي هي ظل ذي ثلاث شعب.
ثم اعلم أن العالم الروحاني محيط بعالم الأفلاك، كما أن عالم الأفلاك محيط بعالم الأركان الذي دون فلك القمر، وقد جعل الله تعالى عالم الأفلاك كريات الأشكال مستديرات الحركات؛ لأن هذا الشكل هو أفضل الأشكال من عدة وجوه ومعان، والحركة المستديرة أفضل الحركات من جهات شتى، وقسم الله تعالى الفلك اثني عشر قسما؛ لأن هذا العدد أفضل الأعداد، وذلك أنه أول عدد زائد، وجعل عدد الأفلاك تسعة مطابقة لأول عدد فرد مجذور، وجعل عدد الكواكب السيارة سبعة مطابقة لأول عدد كامل، وجعل فيها نيرين، واثنين سعدين، واثنين نحسين، وواحد ممتزج. وجعل أيضا في الفلك عقدتين، وجعل بعض البروج منقلبة وبعضها ذا جسدين وبعضها ثابتة، وبعضها نارية وبعضها ترابية؛ كل ذلك - لما فيه من وجوه الحكمة وإتقان الصنعة، لا يبلغ فهم البشر كنه معرفتها إلا من ألهمه الله تعالى وهدى قلبه وشرح صدره بنور حكمته كما ذكر بقوله: @QUR08 ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، فإذا قيل: لم جعل الباري تعالى عالم الأجسام قسمين اثنين، أحدهما علوي وهو عالم الأفلاك وما فيها من أصناف الأكر والكواكب، والآخر سفلي وهو عالم الأركان وما فيها من أجناس الخلائق؟ فيقال له: لعلل شتى وأسباب عدة، ولما فيه من إتقان الحكمة وأحكام الصنعة ما لا يبلغ فهم البشر كنه معرفتها، ولكن نذكر منها طرفا، فنقول:
ليكون في ذلك تبصرة للعقلاء وبيانا لأولي الأبصار، فإن لله تعالى دارين اثنتين، إحداهما هي الدنيا التي هي عالم الأجسام ومسكن الأجرام، والأخرى هي دار الآخرة التي هي عالم الأرواح ومحل النفوس، فإن قيل لم جعل الباري تعالى في عالم الأفلاك نيرين وسعدين ونحسين وعقدتين وقد كان في واحد واحد كفاية؟ قيل له: ليكون ذلك دلالة على تحقيق ما قلنا وصحة ما وصفنا من أن له دارين اثنتين وهما الدنيا والآخرة، وذلك أن حالات أحد النيرين تشبه حالات أمور الدنيا وأبنائها وهو القمر، والآخر تشبه حالاته حالات الآخرة وأبنائها وهي الشمس النير الأكبر؛ ولذلك أن أمور الدنيا وحالات أبنائها تعد من أنقص الوجوه وأدون المراتب مرتبة إلى أتمها وأكملها، فإذا بلغت إلى غاياتها أخذت في الانحطاط والنقصان إلى أن تضمحل وتتلاشى، وهذا حال القمر من أول الشهر ثم إلى نصفه، ومن نصف الشهر إلى آخره تشاهد في كل سنة اثنتي عشرة مرة.
وهكذا حكم السعدين ودلائلهما، أحدهما تدل على سعادة أبناء الدنيا، والآخر يدل على سعادة أبناء الآخرة، وذلك أن الزهرة التي هي السعد الأصغر إذا استولت على مواليد أبناء الدنيا، دل لهم على حسن الرتبة والعز والكرامة والسرور واللذة والنعمة والرفاهة واللعب واللهو والغناء، وما يتنافس فيه أبناء الدنيا من هذه الخصال ويعدونها سعادة وليست هي سعادة بالحقيقة، بل هي محنة وشقاء وبلوى.
وأما إذا استولى المشتري الذي هو السعد الأكبر على مواليد الناس؛ دل لهم على حسن الأخلاق، وجودة النفس، ومحبة الخير والعمل به، والعدل والإنصاف في المعاملات، والتمسك بالدين وكثرة العبادة، وذكر الميعاد وترك اللذات والشهوات الدنياوية، والتفكر في أمر الآخرة والتقلب بعد الموت، وما شاكل هذه الخصال المتضادة لما يدل عليه أبناء الآخرة. وهكذا حكم النحسين وذلك أن أحدهما يدل على محنة ومنحسة أبناء الدنيا، وهو زحل، إذا استولى على المواليد دل على الفقر والبؤس والشدائد والذل والهوان والعلل والأمراض والتعب والعناء والمصائب والغموم والأحزان ونوائب الحدثان، التي هي أكثر من أن تحصى، وأبناء الدنيا مرهونون بها لا ينفك أحد منها.
وإذا استولى المريخ على المواليد وتقوى فدلالته على أنواع الشرور: على الفسق والفجور وقتل الأنفس وقطع صلة الرحم وإهراق الدماء وهتك الحرم وانتهاك المحارم والخروج عن الطاعة والحمية الجاهلية والسرعة والعجلة وترك النظر في العواقب وقلة الورع والإنكار لأمر المعاد والمنقلب بعد الموت! ومن كانت هذه حاله في الدنيا فليس له في الآخرة إلا العذاب. وأما كون عطارد ممازجا للكواكب ففيه دلالة على أن أمور الدنيا معلقة بأمور الآخرة ممازجة لها، وهكذا حكم البروج المنقلبة يدل على تقلب أمور الدنيا وحالات أهلها، والبروج الثوابت تدل على ثبات أمور الآخرة وحالات أهلها، والبروج ذوات الجسدين تدل على أن أمور الدنيا متصلة بأمور الآخرة وممازجة لها.
وأما كون العقدتين في الفلك اللتين أحدهما رأس الجوزهر والأخرى ذنب الجوزهر، وهما خفيتا الذات وظاهرتا التأثيرات في الفلك، فتدلان على أن في العالم جواهر لطيفة خفيات الذوات ظاهرات الأفعال والتأثيرات، وهم أجناس الملائكة وقبائل الجن وأحزاب الشياطين وأرواح الحيوانات ونفوسها. فإن قيل: لم جعل الكسوف للنيرين دون سائر الكواكب؟ قيل: لتزول الشكوك عن قلوب المرتابين الذين يظنون أنهما إلهان اثنان، فإنهما لو كانا إلهين لما انكسفا.
ثم اعلم أن الله تعالى جعل في جبلة الحيوان أربعة أسباب: آلامها، ودواعي عطب أبدانها، وشقاوة نفوسها، وهلاك هياكلها؛ وهي الجوع والعطش والشهوات المختلفة واللذات الذليلة. أما قصد الباري الحكيم في فعله ذلك كله فهو لبقاء نسلها وصلاح معاشها. وأما الذي يعرض لها من الآلام والنكب فليس بالقصد الأول، ولكن بالعرض من أجل النقص الذي هو في الهيولى، وذلك أن الله تعالى جعل لها الجوع والعطش لكيما تدعو بهما إلى الأكل والشرب ليخلف على أبدانها من الكيموس بدل ما يتحلل من البدن؛ لأن البدن في التحلل دائما من أسباب خارجة وأسباب داخلة. وأما الشهوات فلكيما تدعو إلى المأكولات المختلفة الموافقة لأمزجة أبدانها وما تحتاج إليه طباعها. وأما اللذة فلكيما تأكل بقدر الحاجة من غير زيادة ولا نقصان، فإن قيل: لم جعل للنفوس من الآلام والأوجاع والأفزاع عند الآفات العارضة لأجسادها؟ قيل له: لكيما تحرص نفوسها على حفظ أجسادها من الآفات العارضة لها إلى وقت معلوم؛ إذ كانت الأجساد لا تقدر على جر منفعة ولا دفع مضرة عنها. فإن قيل: لم جعل بعض الحيوانات أكلة لحوم بعض؟ قيل: لكيما لا يضيع شيء مما خلق الله بلا نفع؛ وذلك أنه قد تاهت أوهام العلماء وتحيرت عقولهم في طلب علة أكل الحيوانات بعضها بعضا، وما وجه الحكمة منه إذ كان الباري تعالى جعل ذلك طباعها جبلة، وهيأ بها آلات وأدوات تتمكن بها كأنياب ومخاليب وأظافر حداد، التي تقدر بها على القبض والبسط والضبط والخرق والنهش والأكل والشهوة واللذة والجوع، وما شاكل ذلك مهما يلحق المأكولات منها من الآلام والأوجاع والفزع عند الذبح والقتل والأمراض!
فلما تفكر في ذلك ولم تسنح لهم العلة ولا ما وجه العلة والحكمة، اختلفت عند ذلك بهم الآراء، والتبست بهم المذاهب حتى قال بعضهم: إن تسلط الحيوانات بعضها على بعض وأكل بعضها لبعض ليس من فعل الحكيم، بل فعل شرير قليل الرحمة، فلهذا قالوا إن للعالم فاعلين خير وشرير! ومنهم من نسب ذلك إلى النجوم، ومنهم من قال عقوبة لها لما سلف منها من الذنوب في الأدوار السالفة - وهم أهل التناسخ - ومنهم من قال بالعرض، ومنهم من قال إن هذا أصلح، ومنهم من أقر على نفسه بالعجز وقال: لا أدري ما العلة في أكل الحيوانات بعضها بعضا ولا ما وجه الحكمة فيه! غير أنه قال: الباري الحكيم لا يفعل شيئا إلا بحكمته. ومنهم من قال: بل لا حكمة فيه.
وكل هذه الأقاويل قالوها في طلبهم الحكمة والعلة، وإنما لم يقفوا عليها لأن نظرهم كان جزئيا، وبحثهم عن علل الأشياء خصوصيا، وليس يعلم علل الأشياء الكليات بالنظر الجزئي؛ لأن أفعال الباري إنما الغرض منها النفع الكلي والصلاح العمومي، وإن كان قد نقص من ذلك ضرر جزئي ومكاره خصوصية وليس يعلم علل الأشياء الكليات أحيانا.
والمثال في ذلك أحكام الشريعة النبوية وحدوده فيها، وذلك لحكم القصاص في القتل، قال تعالى: @QUR07 ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب وإن كان موتا وألما للذي يقتص منه ، وكذلك قطع يد السارق منه نفع عمومي وصلاح الكل وإن كان يناله حزن وألم، وكذلك غروب الشمس وطلوعها والأمطار كان النفع منها عموميا والصلاح كليا، وإن كان قد يعرض لبعض الناس والحيوان والنبات من ذلك ضرر جزئي.
وهكذا أيضا قد ينال الأنبياء والصالحين وأتباعهم شدائد وجهد وآلام في إظهار الدين وإفاضة سنن الشريعة في أول الأمر.
ولكن لما كان الباري، تعالى، غرضه في إظهار الدين وسنة الشريعة هو النفع العام وصلاح الكل من الذين يجيئون من بعدهم إلى يوم القيامة ولا يحصى عددهم ونفعهم وصلاحهم، سهل في جنب ذلك وصغر ما نال النبي صلى الله عليه وسلم من أذية المشركين وجهاد الأعداء المخالفين، وما لاقوه من الحروب والقتال في الغزوات وتعب الأسفار وقيام الليل وصيام النهار وأداء الفرائض، وما فيها من الجهد على النفوس والتعب على الأبدان.
ولما كان نزول الأمر في المنقلب إلى الصلاح العمومي والنفع الكلي كانت الشدائد والجهد والبلوى في جنبه أمرا صغيرا جزئيا، فعلى هذا المثال والقياس ينبغي أن يعتبر من يريد أن يعترض، ما العلة وما وجه الحكمة في أكل الحيوانات بعضها بعضا ليتبين له الحق والصواب، ونحن نريد أن نبين ما العلة وما وجه الحكمة في الكل وفي أكل الحيوانات بعضها بعضا، ولكن لا بد أن نقدم أشياء لا بد من ذكرها.
(8) فصل في إنكار أكل الحيوانات لما ينالها من الآلام عند الذبح والقتل
فنقول: اعلم أن عقول القوم إنما أنكرت أكل الحيوانات لما ينالها من الآلام والأوجاع عند الذبح والقتل، ولولا ذلك لما أنكروا كما لا ينكرون أكل الحيوان والنبات؛ إذ ليس ينال النبات الآلام والأوجاع، فنقول: قصد الله وغرضه في الألم الحيوانات ما جبلت عليه طباعها، والأوجاع التي تلحق نفوسها عند الآفات العارضة ليس عقوبة لها وعذابا كما ظن أهل التناسخ، بل حثا لنفوسها على حفظ أجسادها وصيانة لها كلها من الآفات العارضة لها؛ إذ كانت الأجساد لا تقدر على جر منفعة ولا دفع مضرة عنها، ولو لم يكن ذلك كذلك لتهاونت النفوس بالأجساد وخذلتها وأسلمتها إلى الهلاك قبل فناء أعمارها وتقارب آجالها، ولهلكت كلها دفعة واحدة في أسرع مدة.
فلهذه العلة جعلت الآلام والأوجاع للحيوان دون النبات، وجعل فيها حبا للبقاء إما بالحرب والقتال، وإما بالهرب والفرار والتحرز لحفظ جثتها من الآفات العارضة إلى وقت معلوم، فإذا جاء أجلها فلا ينفع القتال ولا الهرب ولا التحرز، بل التسليم والانقياد، ولو كان ينالها بعض الآلام والأوجاع.
وإذ قد ذكرنا ما يحتاج إليه، فنقول الآن: إن الله تعالى لما خلق أجناس الحيوانات التي في الأرض وعلم أنها لا تدوم بذاتها أبد الآبدين، جعل لكل نوع منها عمرا طبيعيا أكثر ما يمكن منه، ثم يجيئه الموت إن شاء أو أبى، وقد علم الله تعالى أنه يموت كل يوم منها في البر والبحر والسهل والجبل عدد لا يحصيه إلا الله تعالى، ثم جعل بواجب الحكمة جثة جيف موتاها غذاء لأحيائها ومادة لبقائها؛ لئلا يضيع شيء مما خلق الله تعالى بلا نفع ولا فائدة، وكان في هذا منفعة لأجسادها ولم يكن فيه ضرر على الموتى. وخصلة أخرى لو لم تكن الأحياء تأكل جيف الموتى منها لبقيت تلك الجيف واجتمع منها على ممر الأيام والدهور حتى تمتلئ منها الأرض وقعر البحار وتنتن، ويفسد الهواء والماء من نتن روائحها، فيصير ذلك سببا لكونها وهلاكها للأحياء، فأي حكمة أكثر من هذه أن جعل الباري تعالى في أكل الحيوانات بعضها بعضا من المنفعة للأحياء ودفع المضرة عنها كلها، وإن كانت تنال بعضها الآلام والأوجاع عند الذبح والقتل؟ وليس قصد القابض من القاتل من ذبحها وقبضها إدخال الألم والوجع عليها، بل لينال المنفعة فيها لدفع مضرة بها.
فصل
ثم اعلم أن الله تعالى لما أبدع الموجودات واخترع الكائنات قسمها قسمين اثنين: كليات وجزئيات، ورتب الجميع ونظمها مراتب الأعداد المفردات، كما بينا في رسالة المبادئ. وكانت مرتبة الكليات أن جعل الأشرف منها علة لوجود أدونها، وسببا لبقائها، ومتمما لها، ومبلغا إلى أقصى غاياتها وأكمل نهاياتها. وكانت مرتبة الجزئيات أن جعل الناقص منها علة للناقل[2] وسببا لبقائه، والأدون خادما للأشرف ومعينا ومسخرا له، وبيان ذلك من النبات الجزئي؛ لما كان أدون رتبة من الحيوان الجزئي، وأنقص حالة منه، جعل جسم النبات غذاء لجسم الحيوان ومادة لبقائه، وجعل النفس النباتية في ذلك خادمة للنفس الحيوانية ومسخرة لها. وهكذا أيضا لما كانت رتبة النفس الحيوانية أنقص وأدون من رتبة النفس الإنسانية جعلت خادمة ومسخرة للنفس الإنسانية الناطقة. وهذه الحكمة التي ذكرناها كلية بينة ظاهرة للعقول السليمة، فنقول على هذا الحكم والقياس: لما كان بعض الحيوانات أتم خلقة وأكمل صورة، كما بينا قبل هذا، جعلت النفس الناقصة منها خادمة ومسخرة للتامة منها الكاملة، وجعلت أجسادها غذاء ومادة للأجساد الناطقة منها وسببا لبقائها، لتبلغ إلى أتم غاياتها وأكمل نهاياتها، كما جعل جسم النبات غذاء لجسم الحيوان ومادة لبقائه وسببا لكماله. وكما أنه لما كانت النفس النباتية - إذ هي - أدون رتبة من النفس الحيوانية، جعلت خادمة للنفس الحيوانية ومسخرة لها في رتبتها غذاء لها ومادة لأجسادها، فهكذا جعل حكم نفوس الحيوانات الناقصة خادمة لنفوس الحيوانات التامة الخلقة الكاملة ومسخرة لها لكيما تربي جسمها وتنميها وتسلمها إلى الحيوانات التي هي أكمل منها وأشرف؛ ليكون ذلك غذاء لأجسادها ومادة لأبدانها وسببا لبقاء أشخاصها زمانا ما أطول ما يمكن، وعلة لتوالد نسلها وبقاء صورتها؛ لأن هيولى الأشخاص دائما في الذوبان والسيلان، فيحتاج إلى بدل ما يتحلل من الأشخاص.
فإذن قد تبين بما ذكرنا ما العلة في أكل الحيوانات بعضها بعضا، فأما المنفعة العامة والصلاح الكلي في أكل الحيوانات بعضها بعضا فهو أنه لو لم يكن لامتلأ وجه الأرض وقعر البحار وجوف الأنهار من جيف الحيوانات المنتنة في كل يوم على ممر الدهور، ولفسد جو الهواء وعرض من ذلك الوباء للأحياء منها وهلكت كلها دفعة. وعلة أخرى، وذلك أن الله تعالى لما خلق الأحياء، إما لجر منفعة أو لدفع مضرة عنا، لم يترك شيئا بلا نفع ولا عائدة، فلو لم يجعل أكل بعض الحيوانات بعضها بعضا، لكان بعض الحيوان باطلا بلا فائدة ، وكان يعرض منها ضرر عام وهلاك كلي، كما ذكرنا آنفا، فأما الآلام والأوجاع والفزع الذي يعرض لها عند الذبح والقتل والموت والأمراض، فلم يجعل ذلك الباري تعالى تعذيبا لنفوسها ولا عقوبة ساقها لها - كما ظن ذلك أهل التناسخ - بل جعل ذلك حثا لنفوسها على حفظ أجسادها من الآفات العارضة لها إلى أجل معلوم، وإذا لم يكن كذلك لتهاونت النفس بالأجساد، وتركتها هذه الآفات، وأسلمتها إلى المهالك والتلف، وكانت تهلك جميعا قبل مجيء آجالها وفناء أعمارها وقبل تمامها وكمالها.
وإذا قيل: ما العلة في محبة الحيوانات الحياة وكراهيتها الموت؟ قيل: ذلك لعلل شتى وأسباب عدة؛ أحدها أن الحياة تشبه البقاء والموت يشبه الفناء، والبقاء محبوب في جبلة الخلائق كلها؛ إذ كان البقاء قرين الوجود والفناء قرين العدم، والعدم والوجود متقابلان، والله تعالى لما كان هو علة الموجودات وهو باق أبدا، صارت الموجودات كلها تحب البقاء وتشتاق إليه؛ فمن أجل هذا قالت الحكماء إن الله تعالى هو المعشوق الأول المشتاق إليه سائر الخلائق، وعلة أخرى لكراهية نفوس الحيوانات الموت وهو ما يلحقها من الآلام والأوجاع والفزع عند مفارقة نفوسها أجسادها، وعلة أخرى أن نفوسها لا تدري أن لها وجودا خلوا من الأجساد، فإن قيل: فلم لا تدري نفوسها بأن لها وجودا خلوا من الأجسام؟ قلنا: لأنه لا يصلح لها أن تعلم هذه المعاني؛ لأنها لو علمت لفارقت أجسادها قبل أن تتم وتكمل، وإذا فارقت أجسادها قبل ذلك بقيت فارغة عطلاء بلا فعل ولا عمل، وليس من الحكمة أن يكون كذلك إذ كانت علتها التي هي خالقها لم تخل من تدبير ليكون فارغا بلا فعل البتة، بل كل يوم هو في شأن.
(9) فصل في أن النفوس التامة إذا فارقت الأجساد تكون مشغولة بتأييد النفوس الناقصة
ثم اعلم أن النفوس التامة الكاملة إذا فارقت الأجساد تكون مشغولة بتأييد النفوس الناقصة المجسدة؛ لكيما تتم هذه وتكمل تلك، وتتخلص هذه من حال النقص وتبلغ تلك إلى حال الكمال، وترتقي هذه المؤيدة أيضا إلى حالة هي أكمل وأشرف وأعلى @QUR04 وأن إلى ربك المنتهى.
والمثال في ذلك الأب الشفيق والأستاذ الرفيق في تعليمهما التلامذة والأولاد وإخراجهما إياهم من ظلمات الجهالات إلى فسحة العلوم وروح المعارف؛ ليتمم التلامذة والأولاد ويكمل الآباء والأستاذون بإخراج ما في قوة نفوسهم من العلوم والمعارف والصنائع والحكم إلى الفعل والظهور اقتداء بالله تعالى وتشبها به في حكمته؛ إذ هو العلة والسبب والمبدأ في إخراج الموجودات من القوة إلى الفعل والظهور، وكل نفس هي أكثر علوما وأحكم صنائع وأجود عملا فهي أقرب تشبها بربها وأشد تشبها، وهذه هي مرتبة الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون @QUR06 يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب؛ ولهذا المعنى قالت الحكماء: الحكمة هي التشبه بالله بحسب طاقة البشر.
معناه أن تكون علومه حقيقية، وصناعته محكمة، وأعماله صالحة، وأخلاقه جميلة، وآراؤه صحيحة، ومعاملته نظيفة، وفيضه على غيره متصلا؛ والله سبحانه تعالى كذلك.
ثم اعلم أنه قد اختلف الحكماء في ماهية الإنسان وما حقيقة معناه اختلافا كثيرا، والبحث في ذلك القيل والقال، ولكن يجمعها كلها ثلاث مقالات؛ وذلك أن منهم من قال: إن الإنسان هو هذه الجملة المرئية المبنية بنية مخصوصة من اللحم والدم والعظم وما شاكل ذلك لا شيء آخر سواها. ومنهم من قال: إن الإنسان هو هذه الجملة المجموعة من جسد جسماني، ومن روح نفساني؛ أي روحاني مقترني المجموعة. ومنهم من قال: إن الإنسان بالحقيقة هو هذه النفس الناطقة، والجسد لها بمنزلة قميص ملبوس أو غلاف مغشى عليه. فهذه ثلاث مقالات في كلام الحكماء في ماهية الإنسان. فأما اختلافهم في ماهية النفس فنبينه أيضا ويجمعها ثلاث مقالات؛ وذلك أن منهم من قال إن النفس هي جسم لطيف غير مرئي ولا محسوس، ومنهم من قال إنما هي جوهرة روحانية غير جسم معقولة وغير محسوسة باقية بعد الموت، ومنهم من قال إن النفس عرض يتولد من مزاج البدن وأخلاط الجسد، يبطل ويفسد عند الموت إذا بلي الجسد وتلف البدن، ولا وجود لها إلا مع الجسم البتة، وهؤلاء قوم يقال لهم الجسميون، لا يعرفون شيئا سوى الأجسام المحسوسة والأعراض ذات الأبعاد الثلاثة التي هي الطول والعرض والعمق، والأعراض التي تحلها مثال الألوان والطعوم والروائح والأشكال ذوات الأضلاع من الأقطار والزوايا، وليس عندهم علم من الأمور الروحانية والجواهر النورانية والصور العقلية والقوى النفسانية السارية في الأجسام المظهرة فيها ومنها أفعالها وتأثيراتها حسب.
(10) فصل في معرفة الإنسان نفسه
ثم اعلم أن من العلوم الشريفة والمعارف النفيسة معرفة الإنسان نفسه؛ لأنه قبيح بكل عالم أن يدعي معرفة حقائق الأشياء، وهو لا يعرف نفسه ويجهل حقيقة ذاته وهو يتعاطى الحكمة؛ لأن مثل ذلك كمثل من يطعم غيره وهو جائع، أو يكسو غيره وهو عريان، ويهدي غيره وهو ضال في الطريق الأنهج. وقد علم كل عاقل ذاته في هذه الأشياء بأنه ينبغي للإنسان أن يبتدي أولا بنفسه ثم بغيره.
ثم اعلم أن الإنسان لا يمكنه أن يعرف نفسه على الحقيقة إلا أن ينظر ويبحث، وذلك من ثلاث جهات: أحدها الجسد بمجرده عن النفس، والثاني النظر في أمر النفس والبحث عن جوهرها بمجردها عن الجسد، والثالث النظر والبحث عن الجملة المجموعة من النفس والجسد جميعا> وقد بينا في رسالة تركيب الجسد هذه الأبواب الثلاثة بشرح طويل، ولكن نذكر طرفا منها ها هنا مما لا بد منه، فنقول:
إن الجسد هو جسم مؤلف من لحم وعظم وعروق وعصب وما شاكل ذلك، وهذه كلها أجسام طويلة عريضة عميقة، وجملة ذلك تدرك بالحس ولا يشك فيها عاقل.
وأما النفس فهي جوهرة سماوية روحانية حية بذاتها، علامة دراكة بالقوة، فعالة بالطبع لا تهدأ ولا تقر عن الجولان ما دامت موجودة، وهكذا خلقها ربها يوم خلقها وأوجدها، والدليل على ما قلنا وصحة ما وصفنا حسب ما بينا من أمر النفس آنفا، وكذلك نبين أيضا فيما بعد هذا.
وأما الجملة المجموعة من الجسد والنفس بهذا المحسوس المشاهد المخاطب المتكلم السائل المجيب العالم العارف ما دام حيا، فإذا مات بطل منه ظهور هذه الأشياء؛ لأن الموت ليس هو شيئا سوى مفارقة نفسه جسدها ، وعند ذلك يعدم منه جميع فضائله الظاهرة من العلوم والصنائع والكلام والحركات والحواس وما شاكلها.
ثم اعلم أن أكثر العقلاء وكثيرا من العلماء ممن يقر بوجود النفس أو يتكلم في أمرها يظنون ويتوهمون أنها شيء متولد من مزاج الجسد، وليس الأمر كما ظنوا وتوهموا؛ لأن المتولد من الشيء يتكون من جوهر ذلك الشيء، والجسم جسم لا شك فيه، والنفس ليس بجسم ولا عرض من الأعراض.
والدليل على ذلك أنها ليست بجسم، وهو أن الجسم لا يعقل إلا متحركا أو ساكنا؛ فلو كان متحركا من حيث هو جسم لكان يجب أن يكون كل جسم متحركا، ولو كان ساكنا لكان يجب أن يكون كل جسم ساكنا، وليس يوجد الأمر كذلك، بل قد يوجد بعض الأجسام متحركا دائما، وبعضها متحركا تارة وساكنا أخرى، مثل الهواء والماء والنار والحيوان والنبات، فيدلنا بأن شيئا آخر هو الذي يحركها ويسكنها.
وليست النفس بجسم ولا بعرض من الأعراض القائمة بالجسم المتولد منه أو فيه؛ لأن العرض هو شيء لا يقوم بنفسه، وهو أنقص حالا من الجسم، والمحرك للشيء المسكن له هو أقوى منه وأشرف.
ودليل آخر أن العرض لا فعل له؛ لأن الفعل عرض من الأعراض قائم بفاعله، ولو كان للعرض فعل لكان يجب أن يكون العرض قائما به، ولا هو يقوم بنفسه فكيف يقوم بغيره.
فهذا دليل على أن العرض لا فعل له، وقد بينا أيضا أن الجسم لا فعل له؛ لأن الفاعل بالحقيقة هو الذي يقدر على أخذ الفعل وتركه، لأن ترك الفعل أسهل من أخذه، فلو كان للعرض فعل لكان يقدر على تركه كما يقدر على أخذه، فمن ظن أن النفس الناطقة الفاعلة الحساسة الدراكة العلامة الصانعة الحكيمة المتكلمة العارفة المجردة من الكائنات: من تركيب الأفلاك وأقسام البروج والحركات والمولدات المركبات من الحيوان والنبات والمعادن وأنواعها وخواصها ومنافعها ومضارها؛ إنما هي عرض أو مزاج متولد من أخلاط البدن، من غير دليل على ما زعم أو حجة بينة دعته إلى ما هو عليه ويتوهم، فهو جاهل بأمر نفسه لم يعرف حقيقة ذاته، فكيف يوثق بقوله إنه يعرف حقائق الأشياء ويعبر عن علل الموجودات الغائبات عن الحواس، وإنه يعلم أسباب الكائنات الخفيات التي لا تعلم إلا بدليل عقلي وبراهين حكمية ومقدمات ونتائج منطقية أو هندسية؟! وهذا يظن أن نفسه العالمة الناطقة الصانعة الحكيمة جسم أو مزاج أو عرض من الأعراض، لا قوام لها ولا حس ولا حركة ولا شعور @QUR04 هيهات هيهات لما توعدون، بعيد عن الحق، ونودي به من مكان بعيد، ضل عن طريق الصواب من يظن بنفسه هذه الظنون، وما قدر الله حق قدره؛ إذ من جهل نفسه كيف يتيسر له معرفة الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من عرف نفسه فقد عرف ربه، وأعرفكم بنفسه أعرفكم بربه»، وقال تعالى: @QUR05 بل الإنسان على نفسه بصيرة، وقال: @QUR04 وفي أنفسكم أفلا تبصرون، وقال: @QUR08 وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا، وقال: @QUR08 ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم، قال أهل المعارف: أشار بقوله تعالى @QUR010 شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم يعني العارفين بأنفسهم لينتبه الجاهل من نوم غفلته.
فإن قيل: ما الحكمة في اختلاف أنواع النبات وأوراقها وثمارها وفنونها وألوانها وطعومها وروائحها وطباعها المختلفة؟ قيل: لما فيها من كثرة المنافع للحيوانات المختلفة الصور، المتغايرة الطباع، المفننة الأخلاق، الكثيرة المتصرفات. فإن قيل: لم جعل في طباع بعض الحيوانات وجبلتها الألفة والأنس والمودة؟ يقال: ليدعوها ذلك إلى اجتماع المعاون لما فيه من صلاحها وكثرة منافعها. وإن قيل: فما الحكمة في كون النفور والوحشة والعداوة في جبلة بعض الحيوانات؟ يقال: لكيما يدعو ذلك إلى التباعد في الأماكن والانتشار في البلاد مما فيه من صلاح حالها وسلامتها من الآفات، ولكيما تتزاحم في الأماكن ويضيق بها التصرف والفسحة ورغدة العيش، ثم اجتمع الناس في المدن والقرى وتزاحموا لشدة حاجتهم إلى معاونة بعضهم بعضا؛ لأن الإنسان لم يقدر أن يعيش وحده إلا عيشا نكدا.
(11) فصل في علة اختلاف لغات الناس وألوانهم وأخلاقهم وصورهم
ما العلة في اختلاف لغات الناس وألوانهم وأخلاقهم، وصورهم واحد وكلهم أبوهم واحد؟ فنقول: اختلاف أماكن أبدانهم وألوانهم واختلاف تربها وتغيرات أهويتها وطوالع البروج عليها ومسامتات الكواكب وفنون آرائهم مع كثرة العداوة منهم في ذلك؛ لكيما يدعوهم إلى استخراج فنون العلم والاجتهاد في تهذيب النفس، أو الانتباه من نوم الغفلة والخروج من ظلمات الجهالة والبلوغ إلى التمام والكمال والبقاء على أتم الأحوال ما أمكن واستوى.
وأيضا لما حكم على نفوس الحيوانات كلها بالموت؟ لتنتقل إلى حالة هي أتم وأكمل وأفضل.
(12) فصل في أن الموجودات مرتبة مراتب الأعداد
ثم اعلم أنه ينبغي لمن يريد أن يعرف حقائق الأشياء أن يبحث أولا عن علل الموجودات وأسباب المخلوقات، وأن يكون له قلب فارغ من الهموم والغموم والأمور الدنياوية، ونفس زكية طاهرة من الأخلاق الردية، وصدر سليم من الاعتقادات الفاسدة، ويكون غير متعصب لمذهب أو على مذهب؛ لأن العصبية هي الهوى، والهوى يعمي عين العقل، وينهي عن إدراك الحقائق، ويعمي النفس البصيرة عن تصور الأشياء بحقائقها، فيصدها ذلك عن الهوى ويعدل عن طريق الصواب.
ونحن نريد أن نبحث في هذه الرسالة عن علل الموجودات وأسبابها، فنريد أن نبين من ذلك طرفا حسبما جرت عادة إخواننا، وعلى حسب جهدنا وطاقتنا فيما وهب الله لنا من الهداية، ولكن نبدأ أولا بتوطئة أصول لا بد من ذكرها مقدمات ينتج عنها ما نريد أن نبين من هذه العلل والأسرار، فنقول:
إن العلماء الراسخين والحكماء الربانيين قالوا إن الله تعالى لما أبدع الموجودات واخترع المخلوقات رتبها مراتب الأعداد المتواليات ونظمها نظاما واحدا يتلو بعضها بعضا في الموجودات إلى الأعداد المتناسبات؛ إذ كان ذلك أحكم وأتقن، كما بينا في رسالة المبادئ العقلية.
وأما فعل الباري تعالى حسب ما ذكرنا؛ وذلك أنه جعل كل جنس من الموجودات على أعداد مخصوصة مطابقة بعضها لبعض، إما بالكمية وإما بالكيفية، ليكون ذلك دليلا للعلماء وبيانا للعقلاء إذا بحثوا عنها واعتبروا واستدلوا بشاهدها الجلي على غائلها الخفي، فيبين لهم ويعلمون أنها كلها من صنع بارئ حكيم؛ فيزدادون بذلك بصيرة ويقينا، وإلى لقاء الله تعالى اشتياقا، ويعبدون ربهم ليلا ونهارا.
ثم اعلم أن من الأشياء الموجودة ما هي على أعداد مخصوصة، ومنها ما هي في البروج والأفلاك، ومنها ما هي في الأركان والأمهات، ومنها ما هي في خلقة النبات، ومنها ما هي في تركيب جثة الحيوانات، ومنها ما هي في سنن الشرائع من المفروضات، ومنها ما هي في الخطاب والمحاورات.
فمن ذلك أن الله تعالى أنزل القرآن بلغة فصيحة هي أفصح اللغات، وجعل هذا الكتاب مهيمنا على كل كتاب أنزله قبله، وجعل هذه الشريعة أتم الشرائع وأكملها، وحكم في سنن المفروضات أمورا مثنويات ومثلثات ومربعات ومخمسات ومسدسات ومسبعات ومثمنات، وما زاد بالغا ما بلغ؛ ليكون إذا تأمل أولو الألباب وتفكر فيها أولو الأبصار واعتبروا فيها، وجدوا في سنتها وأحكامها أمورا معدودة مطابقة لأمور من الرياضيات والطبيعيات والإلهيات، ويتعلمون ويتيقنون أن هذا الكتاب هو من عند الصانع الحكيم الذي هو صانع المخلوقات وبارئ الموجودات، وأن هذه الشريعة هي التي وضعها وشرحها فيزول الشك العارض عن قلوب هؤلاء المتعاطين الحكمة من تلك الأمور المعدودة، وهذه الحروف التي في أوائل السور أن الله تعالى أورد من جملة الحروف المعجمة الثمانية والعشرين حرفا أربعة عشر حرفا حسب، ولم يزد عن أربعة عشر، وهي: «ا، ح، ر، س، ص، ط، ع، ق، ك، ل، م، ن، ه، ي»، فجعل منها في بعض السور حرفا حرفا، وفي بعضها حرفين، وثلاثة، وأربعة، وخمسة، ولم يزد على ذلك.
ثم اعلم أن العلماء المفسرين تناظروا وشرعوا في القيل والقال في معاني هذه الحروف التي في أوائل سور القرآن، وما حقيقة تفسيرها، والغرض منها ما هو، وهي عدة سور في القرآن أولها @QUR07 الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه، @QUR07 الم * الله لا إله إلا هو، @QUR01 المص، @QUR05 الر تلك آيات الكتاب الحكيم، @QUR04 الر كتاب أحكمت آياته، @QUR05 الر تلك آيات الكتاب المبين، @QUR04 المر تلك آيات الكتاب، @QUR03 الر كتاب أنزلناه، @QUR06 الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين، @QUR01 كهيعص، @QUR04 طه * ما أنزلنا ، @QUR01 طسم، @QUR01 طس ، @QUR01 طسم، @QUR06 الم * أحسب الناس أن يتركوا، @QUR04 الم * غلبت الروم، @QUR06 الم * تلك آيات الكتاب الحكيم، @QUR06 حم * تنزيل الكتاب من الله، @QUR04 يس * والقرآن الحكيم، @QUR04 ص والقرآن ذي الذكر، @QUR04 حم * تنزيل الكتاب، @QUR06 حم * تنزيل من الرحمن الرحيم، @QUR03 حم * عسق، @QUR04 حم * والكتاب المبين، @QUR04 حم * والكتاب المبين، @QUR04 حم * تنزيل الكتاب، @QUR04 حم * تنزيل الكتاب، @QUR03 ق والقرآن المجيد، @QUR04 ن والقلم وما يسطرون؛ فذلك تسع وعشرون سورة، منها ما جاء في أولها حرف واحد مثل «ق، ص، ن»، ومنها ما جاء في أولها حرفان مثل «طه، يس، حم»، ومنها ما جاء في أولها ثلاثة أحرف مثل «الم، طسم، الم، الر»، ومنها ما جاء في أولها أربعة أحرف «المر، المص»، ومنها ما جاء في أولها خمسة أحرف مثل «كهيعص، حم عسق»، ولا يزيد على خمسة أحرف.
فمن العلماء من قالوا إن هذه الحروف قسم أقسم الله تعالى بها. ومنهم من قال إن كل حرف منها كلمة قائمة بنفسها مثل: ألف الله، لام جبرائيل، ميم محمد عليه السلام. ومنهم من قال إنها حروف حساب الجمل، كما جاء في الخبر أن علماء التوراة ورؤساء اليهود اجتمعوا في المدينة وزعموا أنهم يعلمون حد هذه الأمة كم هو بحساب الجمل، ولأن لها قصة معروفة مشهورة تركنا ذكرها. ومنهم من قال إن هذه الحروف سر القرآن، ولا يعلم تأويل ذلك إلا الله. ومنهم من قال إن الراسخين في العلم أيضا يعلمون تفسير ذلك لما علمهم الله تعالى كما ذكر بقوله: @QUR08 ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، @QUR08 وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم. ومنهم من قال إن معرفتها أسرار لا يصلح أن يعلمها كل أحد إلا الخواص من عباد الله الصالحين.
ثم اعلم أن كل هذه الأقاويل مقنع لنفوس أقوام دون أقوام؛ وذلك أن في الناس أقواما عقلاء لا يرضون بالتقليد، بل يريدون البراهين والكشف عن الحقائق وطلب العلة، ولم، وكيف، ولماذا. ولا يغنيهم من جوع ما يتأولون من التفسير في هذا المعنى، بل يطلبون وراء ذلك ما هو أحسن تأويلا وأبين تفسيرا، ونحن نذكر الآن من ذلك طرفا ونشير إليها إشارة حسبما تحتمل عقول هؤلاء القوم من أهوائها.
فصل
فنقول: اعلم أن من يريد أن يعلم لم لم ترد من جملة الثمانية والعشرين حرفا إلا أربعة عشر حرفا ولم يزد على خمسة أحرف منها، وما المراد والحكمة في ذلك، فينبغي له أن يبحث ويعتبر جميع المحسوسات المفروضات في سنن الشريعة؛ مثل الصلوات الخمس والزكوات الخمس، وأن شرائط الإيمان خمس إذ بنى الإسلام على خمس، والفضلاء من أهل بيت النبوة خمسة، وواضعو الشريعة خمسة، ومراقي منبر النبي خمسة، وما شاكل هذه المخمسات في أمور الدين والشريعة وأحكامها. وما يحققها أيضا من المعدودات المخمسات مثل الكواكب الخمس السيارة التي لها رجوع واستقامة، ومثل الحواس الخمس في الحيوانات التامة الخلقة، ومثل المخمسات في خلقة النبات، وما في أسماء الأيام الخمسة من جملة السبعة، والخمسة المسترقة من جملة أيام السنة، وما شاكل هذه المخمسات في الموجودات المطابقة بعضها بعضا. ويعتبر أيضا خاصية الخمس من العدد لأنها عدد كري، ويقال إنها عدد دوائر وأنها تحفظ نفسها وما يتولد منها، كما بينا في رسالة الأرثماطيقي والاشكال الخمسة الفاضلة المذكورة في كتاب إقليدس، والنسبة الخمسة الفاضلة في الموسيقى وما شاكل هذه الأمور من المخمسات. فإذا اعتبر اللبيب العاقل هذه الأشياء التي ذكرنا وتأملها، فعسى الله أن يفتح قلبه ويشرح صدره ويوفقه لعلمه علل الموجودات وأسباب المخلوقات وما الحكمة في كونها على ما هي عليه الآن.
وهكذا ينبغي لمن يريد أن يعرف سر هذه الحروف التي هي في أوائل السور لم كان منها أربعة عشر من جملة ثمانية وعشرين حرفا، أن يعتبر الموجودات التي عددها ثمانية وعشرون فإنه يجدها تنقسم قسمين حيث ما وجد؛ فمن ذلك ثمانية وعشرون عدد مفاصل اليدين للإنسان فإنها في اليد اليمنى أربعة عشر وأربعة عشر في اليد اليسرى، وأن عددها مطابق لعدد ثمانية وعشرين خرزة هي في عمود ظهر الإنسان، منها أربعة عشر في أسفل الصلب وأربعة عشر في أعلاه، وهكذا توجد خرزات العمود التي في أصلاب الحيوانات التامة الخلقة كالبقر والجمل والإبل والحمر والسباع.
وبالجملة كل حيوان ترضع وتلد منها أربعة عشر في مؤخر الصلب وأربعة عشر في مقدم البدن، وهكذا وجد عدد الريشات التي في أجنحة الطير المعتمدة عليها في الطيران، فإنها أربعة عشر ظاهرة في كل جناح، وهكذا توجد عدد الخرزات التي في أذناب الحيوانات الطويلة الأذناب كالبقرة والسباع وكل ما له ذنب طويل، وهكذا يوجد في عموم صلب الحيوانات الطويلة الخلقة كالسمك والحيات وبعض الحشرات، وهكذا يوجد عدد الحروف التي في لغة العرب التي هي أتم اللغات وأفصحها ثمانية وعشرون حرفا منها أربعة عشر حرفا تدغم فيها لام التعريف، وهي:
وأربعة عشر لا تدغم فيها، وهي: «الألف والباء والجيم والحاء والخاء والعين والغين والفاء والقاف والكاف والميم والهاء والواو والياء»، وهكذا يوجد حكم الحروف التي تخط بالقلم قسمين: أربعة عشر منها معلم، وهي «الباء والتاء والثاء والجيم والخاء والذال والزاي والشين والضاد والظاء والغين والفاء والقاف والنون والياء»، وأربعة عشر غير معلم، وهي «الألف والحاء والدال والراء والسين والصاد والطاء والعين والكاف والميم والواو واللام»، وهكذا حكم الحكيم الواضع للخط العربي فإنه اقتفى في وضعه الخط العربي حكمة الباري تعالى، فإنه كان حكيما فيلسوفا، وقد قيل: إن الحكمة هي التشبه بالإله بحسب طاقة البشر، ومعنى هذه الكلمة أن يكون الإنسان حكيما مصنوعاته محققا في معلوماته خيرا في أفعاله. ومن التي عددها ثمانية وعشرون هي منازل القمر في الفلك، فإن عددها ثمانية وعشرون، منها في البروج الشمالية أربعة عشر، وفي البروج الجنوبية أربعة عشر.
فقد علم مما ذكرنا وصدق بما قلنا أن الموجودات التي عددها ثمانية وعشرون تنقسم قسمين أي موضع وجدت، كل أربعة عشر منها لها حكم ليست للأربعة عشر الأخرى، فلهذه العلة أورد من جملة الثمانية والعشرين حرفا حروف الجمل أربعة عشر حرفا، ولم يورد الأربعة عشر الأخرى؛ لأن لهذه حكما ليس لتلك، وهي السر المكتوم الذي لا يصلح أن يعلمه كل أحد إلا الخواص من عباد الله المخلصين.
وإذ قد ذكرنا طرفا من الإشارة إلى هذه الحروف، ودللنا على أنها سر القرآن ولا يجوز الإفصاح عنها؛ إذ لم يأذن لنا الحكماء والأنبياء - صلوات الله عليهم - وفيما ذكرناه كفاية لمن كان له قلب زكي ونفس زكية وأخلاق طاهرة، فلنذكر الآن طرفا من فضيلة ثمانية وعشرين على سائر الأعداد، فنقول:
اعلم أنه ما من عدد من الخليقة إلا وله فضيلة ليست لشيء آخر غيره، وقد ذكرنا طرفا من فضيلة الأعداد في رسالة الأرثماطيقي؛ فمن فضيلة الثمانية والعشرين أنه من الأعداد التامة، والأعداد التامة هي أفضل من الأعداد الناقصة والزائدة، أو أنها قليلة الوجود؛ وذلك أنه يوجد في كل مرتبة من مراتب الأعداد واحدة لا غير كالستة في الآحاد وثمانية وعشرين في العشرات، وأربعمائة وستة وتسعين في المئات، وثمانية آلاف ومائة وعشرين في الألوف، فنقول:
إنه أيضا لما كان الاثنان أول عدد الزوج والثلاثة أول عدد الفرد، والأربعة أول العدد المجذور يجمع بين ذلك، وكانت السبعة التي هي عدد كامل، وعدد الكواكب السيارة مطابقها، ثم ضرب الثلاثة في الأربعة، وكان اثنا عشر الذي هو أول عدد زائد، وجعل برج الفلك اثنا عشر مطابقا له، ثم ضربت السبعة في أربعة وكان ثمانية وعشرين، التي هي عدد تام، وجعل منازل القمر مطابقا له، وجعل سائر الموجودات الاثنا عشرية مطابقة لعددها مثل الثقب للإنسان التي هي اثنا عشر، والأعضاء الاثنا عشر وشهور السنين الاثنا عشر عددها.
وعلى هذا القياس يوجد أشياء كثيرة اثنا عشريات وسبعيات وستيات وخمسيات وأربعيات وثلاثيات ومثنويات مطابقة بعضها لبعض، ليدل ذلك على أنها كلها من صنع صانع كريم، كما قال تعالى: @QUR06 إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار، وفقك الله وإيانا وجميع إخواننا إلى طريق السداد وهداك وإيانا سبيل الرشاد إنه رءوف بالعباد.
(تمت رسالة العلل والمعلولات، ويليها رسالة في الحدود والرسوم.)
الرسالة العاشرة من النفسانيات العقليات في الحدود والرسوم
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
اعلم أيها الأخ أنا قد فرغنا من بيان العلل والمعلولات وبينا فيها أقاويل جميع الحكماء، حسب ما جرت به عادة إخواننا، ونريد الآن أن نذكر في هذه الرسالة بيان الحدود والرسوم، فنقول:
إن الأنبياء - عليهم السلام - هم سفراء الله تعالى بينه وبين خلقه، والعلماء هم ورثة الأنبياء، والحكماء هم أفاضل العلماء، وقد قيل إن الحكيم هو الذي يوجد فيه سبع خصال محمودة، إحداها أن تكون أفعاله محكمة وصنائعه متقنة وأقاويله صادقة وأخلاقه جميلة وآراؤه صحيحة وأعماله زكية وعلومه حقيقية.
واعلم أن معرفة حقيقة الأشياء هي معرفة حدودها ورسومها، وذلك أن الأشياء كلها نوعان: مركبات ووسائط.
فأما المركبات فتعرف حقائقها إذا عرفت الأشياء التي هي مركبة منها، والبسائط تعرف حقائقها إذا عرفت الصفات التي تخصها.
مثال ذلك إذا قيل لك ما حقيقة الطين؟ فيقال: ماء وتراب مختلطان. والسكنجبين؟ فيقال: خل وعسل ممزوجان. والسرير؟ خشب وصورة مركبان. والكلام؟ ألفاظ ومعان مؤلفات. واللحن؟ نغمات حادة وغليظة متحدتان. والحيوان؟ نفس وجسد مقرونان.
وعلى هذا القياس تجيب إذا سئلت عن هذه الأشياء المركبة فلا بد من ذكر تلك الأشياء التي هي مركبة ومؤلفة منها، فأما الأشياء البسيطة فتعرف حقائقها إذا عرفت الصفات التي تخصها.
مثال ذلك إذا قيل لك: ما الهيولى؟ فيقال: جوهر بسيط قابل للصورة. فإن قيل: ما الصورة؟ فيقال: ماهية الشيء، وله الاسم والفعل والقيامة. فإن قيل: فما الجوهر؟ فيقال: هو قائم بنفسه القابل للصفات. فإن قيل: فما الصفة؟ فيقال: عرض حال في الجوهر لا كالجزء منه. فإن قيل: ما الشيء؟ فيقال: هو المعنى الذي يعلم ويخبر عنه. فإن قيل: ما الموجود؟ قيل: هو الذي وجده أحد الحواس أو تصوره العقل أو دل عليه الدليل. فإن قيل: ما المعدوم؟ فيقال: ما قابل هذه الأشياء المذكورة في الوجود. فإن قيل: ما الوجود؟ فيقال: إيس. فإن قيل: ما العدم؟ فيقال: ليس. فإن قيل ما القديم؟ فيقال: ما لم يكن ليس. فإن قيل: ما المحدث ؟ فيقال: ما كونه غيره. فإن قيل: ما الأحداث؟ فيقال: تكوين المكون. فإن قيل: ما العلة؟ فيقال: هي سبب لكون شيء آخر إيجادا. فإن قيل: ما المعلول؟ فيقال: هو الذي لوجوده سبب من الأسباب. فإن قيل: ما العالم؟ فيقال: هو المتصور للشيء على حقيقته. فإن قيل: ما العلم؟ فيقال: صورة المعلوم في نفس العالم.
فإن قيل ما الحي؟ فيقال: المتحرك بذاته. فإن قيل: ما القادر؟ فيقال: هو الذي لا يتعذر عليه الفعل متى شاء. فإن قيل: ما الفعل؟ فيقال: أثر من مؤثر. فإن قيل: ما معنى الباري تعالى؟ فيقال: علة كل شيء، وسبب كل موجود، ومبدع المبدعات، ومخترع الكائنات ومتقنها ومتممها ومكملها ومبلغها إلى أقصى مدى غاياتها ومنتهى نهاياتها، بحسب ما يتأتى في كل واحد منها. فإن قيل: ما القدرة؟ فيقال: إمكان إيجاد الفعل. فإن قيل: ما الصنعة؟ فيقال: هو إخراج الصانع من فكره ووضعه في الهيولى. فإن قيل: ما المصنوع؟ فيقال: مركب من هيولى وصورة. فإن قيل: ما العقل الفعال؟ فيقال: هو أول مبدع أبدعه الله تعالى، وهو جوهر بسيط نوراني فيه صورة كل شيء. فإن قيل: ما النفس؟ فيقال: جوهرة بسيطة روحانية حية علامة فعالة، وهي صورة من صور العقل الفعال. فإن قيل: ما الإرادة؟ فيقال: إشارة بالوهم إلى تكوين أمر ممكن كونه وكون خلافه. فإن قيل: ما العقل الإنساني؟ فيقال: التمييز الذي يخص كل واحد من أشخاصه دون سائر الحيوانات. فإن قيل: ما الجنس؟ فيقال: صفة جماعة متفقة بالصورة يعمها معنى واحد. فإن قيل: ما الشخص؟ فيقال: كل جملة يشار إليها دون غيرها مميزة من غيرها بالأفعال والصور. فإن قيل: ما الخاصة؟ فيقال: صفة مخصوصة لما دون غيره بطيئة الزوال.
فإن قيل: ما النور؟ فيقال: جوهر مرئي يضيء من ذاته ويرى به غيره. فإن قيل: ما الظلمة؟ فيقال: عدم النور عن الذات القابلة للنور. فإن قيل: ما النهار؟ فيقال: هو ضوء الشمس. فإن قيل: ما الليل؟ فيقال: هو ظل الأرض. فإن قيل: ما الحرارة؟ فيقال: غليان أجزاء الهيولى . فإن قيل : ما البرودة؟ فيقال: جمود أجزاء الهيولى. فإن قيل: ما الرطوبة؟ فيقال: سيلان أجزاء الهيولى. فإن قيل: ما اليبوسة؟ فيقال: تماسكها. فإن قيل: ما اللون؟ فيقال: هو بروق شعاعات الأجسام. فإن قيل: ما الرائحة؟ فيقال: بخارات ذوات كيفيات تتحلل من الأجسام المركبة. فإن قيل: ما الصوت؟ فيقال: قرع في الهواء من تصادم الأجسام. فإن قيل: كم الحركات؟ فيقال: ستة أنواع هي «الكون، والفساد، والزيادة، والنقصان، والتغير، والنقلة». فإن قيل: كيف حالتهن في الأفعال؟ فيقال: إن الكون هو قبول الهيولى والصورة، وخروجه من حيز العدم، والفساد هو خلق الصورة وخلعها من الهيولى، والزيادة تباعد نهايات الشيء، والنقصان تقاربها، والتغير تبدل الصفات على الموصوف، والنقلة خروج من مكان إلى مكان.
فإن قيل: ما المكان؟ فيقال: إنه كل موضع تمكن فيه المتمكن، وهو نهايات الجسم. فإن قيل: ما الزمان؟ فيقال: عدد حركات الفلك وتكرار الليل والنهار. فإن قيل: ما الفلك؟ فيقال: إنه جسم شفاف كري محيط بالعالم. فإن قيل: ما العالم؟ فيقال: جميع الموجودات المتكونات التي يحويها الفلك. فإن قيل: ما الكواكب؟ فيقال: أجسام منيرة مستديرة كالجامدة من دوام ثباتها في موضع معروف بها. فإن قيل: ما الجسم؟ فيقال: ما له طول وعرض وعمق. فإن قيل: ما الجسم الشفاف؟ يقال: كل جسم يرى ما وراءه. فإن قيل: ما النار؟ فيقال: نير حار يبدد الأشياء ويفرق أجزاءها ويردها إلى ذاتها البسيطة. فإن قيل: ما الهواء؟ فيقال: جسم لطيف خفيف سيال شفاف سريع الحركة إلى الجهات الست؛ وهي فوق وتحت وغرب وشرق وجنوب وشمال. فإن قيل: ما الماء؟ فيقال: جسم سيال قد أحاط حول الأرض. فإن قيل: ما الأرض؟ فيقال: جسم غليظ أغلظ ما يكون من الأجسام وتواقف في مركز العالم. فإن قيل: ما الجهات؟ فيقال ستة أنواع: شرق وغرب وجنوب وشمال وفوق وتحت؛ وذلك أن الشرق حيث تطلع الشمس، والغرب حيث تغيب، والشمال حيث مدار الجدي، والجنوب حيث مدار سهيل، والفوق هو مما يلي المحيط، والأسفل هو مما يلي الأرض.
فإن قيل: ما الطين؟ يقال : ماء وتراب. فإن قيل: ما الزبد؟ يقال: ماء وهواء. فإن قيل: ما البخار؟ يقال: ماء ونار. فإن قيل: ما الدخان؟ يقال: نار وتراب. فإن قيل: ما البرق؟ يقال: نار وهواء. فإن قيل: ما المعادن؟ يقال: ما الغالب عليه الترابية. فإن قيل: ما النبات؟ يقال: ما الغالب عليه المائية. فإن قيل: ما الحيوان؟ يقال: ما الغالب عليه الهوائية. فإن قيل: ما الإنسان؟ يقال: ما الغالب عليه النارية. فإن قيل: ما الملائكة؟ يقال: ما الغالب عليها طبيعة الفلك. فإن قيل: ما الجن؟ فيقال: ما الغالب عليها النارية والهوائية. فإن قيل: ما الشياطين؟ يقال: ما الغالب عليها الترابية والنارية. فإن قيل: ما الرياح؟ يقال: هي تموج الهواء وسيلانه إلى إحدى الجهات. فإن قيل: ما الطبيعة الفاعلة؟ يقال: هي قوة من قوى النفس الكلية الفلكية سارية في الأركان. فإن قيل: ما الأثير؟ يقال: الهواء الحار الذي يلي فلك القمر. فإن قيل: ما النسيم؟ يقال: هو الهواء المعتدل الذي يلي وجه الأرض.
فإن قيل: ما الزمهرير؟ يقال: هو الهواء الذي هو فوق كرة النسيم ودون الأثير، وهو بارد مفرط البرودة. فإن قيل: ما الشعاع؟ يقال: نور الشمس والقمر والكواكب السيارة في الهواء نحو مركز الأرض. فإن قيل: ما انعكاس الشعاع؟ يقال: هو رجوع تلك الأنوار من سطح الأرض والبحار والأنهار والجبال في الهواء. فإن قيل: ما البخار؟ يقال: هو أجزاء مائية رطبة ترتفع في الهواء مع تلك الشعاعات الراجعة من سطوح المياه. فإن قيل: ما الدخان؟ يقال: هو أجزاء أرضية لطيفة ترتفع في الهواء مع الحرارة. فإن قيل: ما الغيم والسحاب؟ يقال: الأجزاء المائية والترابية إذا كثرت في الهواء وتراكمت، والغيم منها هو الرقيق، والسحاب هو المتراكم.
فإن قيل: ما المطر؟ يقال: تلك الأجزاء المائية إذا التأم بعضها مع بعض وبردت وثقلت ورجعت نحو الأرض. فإن قيل: ما الرياح؟ يقال: تلك الأجزاء الأرضية إذا بردت ورجعت نحو مركزها. فإن قيل: ما البرق؟ يقال: هو النار تنقدح من احتكاك تلك الأجزاء الدخانية في جوف السحاب. فإن قيل ما الرعد؟ يقال: هو الصوت الذي يدور في جوف السحاب ويطلب الخروج. فإن قيل: ما الصاعقة؟ يقال: هي صوت يحدث من خروج تلك الرياح دفعة واحدة مع تلك البروق. فإن قيل: ما الصوت؟ يقال: هو قرع يحدث في الهواء من تصادم الأجسام بعضها بعضا.
فإن قيل: ما الضباب؟ يقال: هو البخار الرطب يثور من وجه الأرض بعقب الأمطار. فإن قيل: ما الهالة؟ يقال: دائرة تحدث فوق سطح الغيم من انعكاس شعاع الشمس والقمر والكواكب. فإن قيل: ما قوس قزح؟ يقال: هو نصف محيط تلك الدائرة إذا حدثت في كرة النسيم منصبة. فإن قيل: كم عدد الألوان المتناهية من ذلك بأصباغها؟ يقال: أربعة؛ الحمرة في أعلاها، والصفرة دونها، والخضرة دون الاصفرار، والزرقة دون الخضرة.
ونحن قد ذكرنا طرفا في كيفية حدوث هذه الأشياء في رسالة الآثار العلوية بشرحها. فإن قيل ما الثلوج؟ يقال: قطر صغار تجمد في خلل الغيم تنزل برفق. فإن قيل: ما البرد؟ يقال: قطر تجمد في الهواء بعد خروجها من سلك السحاب. فإن قيل: ما الغيم؟ يقال: ما كان بسيطا رقيقا، يقال له الغيم، وما كان متراكما بعضه فوق بعض كأنه جبال من قطن يقال له السحاب. فإن قيل: ما السيول؟ يقال: مياه أودية تجري من كثرة الأمطار. فإن قيل: ما مدود الأنهار؟ يقال: من ماء العيون الذي ينزل من أصول الجبال فينصب ويجري في بطون الأودية، زيادتها من كثرة السيول. فإن قيل: من أي موضع تجري الأنهار كلها؟ يقال: تبتدئ من عيون في رءوس الجبال أو أسافلها وتلال في البراري، وتمر بجريانها نحو الآجام والغدران والبطائح. فإن قيل: ما الزلازل؟ يقال: هي حركة بعض بقاع الأرض من رياح محتبسة في جوف الأرض. فإن قيل: ما الخسوف؟ يقال: هي سقوط سطح بقاع الأرض على أهوية تحتها إذا انشقت وخرجت منها تلك الرياح المحتبسة. فإن قيل: ما الجبال؟ يقال: أوتاد الأرض ومسنيات الرياح والبحار. فإن قيل: ما الجزائر؟ يقال: بقاع من الأرض في وسط البحار. فإن قيل: ما البراري؟ يقال: هي بقاع من الأرض ليس فيها نبات ولا بناء. فإن قيل: ما الآجام والبطائح؟ يقال: بقاع فيها مياه ونبات. فإن قيل: ما الغدران؟ يقال: مواضع تجتمع فيها مياه الأمطار. فإن قيل: ما الأرض؟ يقال: جسم كري الشكل واقف في الهواء بإذن الله تعالى بجميع ما عليها من الجبال والبحار.
فإن قيل: ما الهواء؟ يقال: ما هو محيط بالأرض من جميع الجهات، فإن قيل: ما الفلك؟ يقال: هو محيط بالهواء مثل ذلك. فإن قيل: ما مركز الأرض؟ يقال: نقطة في وسط عمقها، ومن ذلك النقطة إلى ظاهر سطحها ثلاثة ونصف من اثنين وعشرين/المحيط. فإن قيل: ما البحار؟ يقال: هي مستنقعات على وجه الأرض حاصرة للمياه المجتمعة فيها. فإن قيل: ما زيادة البحر؟ فيقال: هي انصباب مياه الأنهار والأودية فيها. فإن قيل: ما العلة في مد بحر فارس وجزره في اليوم والليلة؟ يقال: علة كون المد عند طلوع القمر، فإنه يؤثر في غليان أجزاء المياه في قعره وثوران انتفاخها ورجوع تلك الأنهار المنصبة إلى خلف، فيظهر المد فعله كون الجزء هي عند مغيب القمر ورجوع تلك الأجزاء إلى قرارها، ويؤثر بإزالة الغليان؛ وهو الفوران والانتفاخ السكون، فيظهر الجزر. فإن قيل: ما العلة في أن مياه البحار كلها مالحة مرة غليظة ومياه الأمطار والأنهار وأكثر الآبار عذبة لطيفة؟ وقد ذكرنا طرفا من تلك وأسبابها في رسالة لنا قد تقدم ذكرها. فإن قيل: ما الطبائع الأربع؟ يقال: هي البرودة والحرارة والرطوبة واليبوسة. فإن قيل: ما الأركان الأربعة؟ يقال: هي النار والهواء والماء والأرض. فإن قيل: ما الأخلاط الأربعة؟ يقال: هي الصفراء[1] والسوداء والدم والبلغم. فإن قيل: ما المولدات الكائنات؟ يقال: هي المعادن والنبات والحيوان. فإن قيل: ما المعادن؟ يقال: ما يكون في عمق الأرض من الجواهر وغيرها مما يجري مجرى الموات. فإن قيل: ما النبات؟ يقال: ما هو ظاهر ويظهر على وجه الأرض من نبت الاشجار وما ينجم. فإن قيل: ما الحيوان؟ يقال: كل جسم متحرك حساس مؤلف من نفس حيوانية وبدن موات وتكوينها على ضربين: فمنها ما يتكون ويتولد في الرحم، ومنها ما تخرجه البيض، ومنها ما يتولد من أشياء، ومنها ما يجتمع من الطرفين يتوالد ويتولد.
فإن قيل: ما الإرادة؟ يقال: هي إشارة بالوهم إلى تكون شيء ما يمكن كون ذلك ويمكن الكون في غير. فإن قيل: ما القدرة؟ يقال: هي إمكان شيء من الأفعال اختيارا. فإن قيل: ما الاختيار؟ يقال: هو قبول أحد الأمرين بالوهم من ذوات الباطن وذوات الظاهر بالحس. فإن قيل: ما الجهل؟ يقال: تصور الشيء بغير صورته. فإن قيل: ما الاعتقاد؟ يقال: هو عقد الاحتمال على تحقيق شيء. فإن قيل: ما الوهم؟ يقال: هو قوة من قوى النفس الحيوانية متخيلة بها الأشياء. فإن قيل: ما الإيمان؟ يقال: هو التصديق مما يخبر به المخبر. فإن قيل: ما الإسلام؟ يقال: هو التسليم بلا اعتراض. فإن قيل: ما الدين؟ يقال: هو الطاعة من جماعة لرئيس ينتظر منه نيل الجزاء. فإن قيل: ما الكفر؟ يقال: هو الغطاء. فإن قيل: ما الشرك؟ يقال: هو إثبات ربوبية اثنين. فإن قيل: ما الجحود؟ يقال: هو إنكار الحق. فإن قيل: ما المعصية؟ يقال: هي الخروج عن الطاعة. فإن قيل: ما الطاعة؟ يقال: هي الانقياد لأمر الآمر ونهي الناهي. فإن قيل ما المعاد؟ يقال: هو رجوع النفوس الجزئية إلى النفس الكلية. فإن قيل: ما الثواب؟ يقال: هو ما تجد كل نفس من الراحة واللذة والسرور والفرح بعد مفارقتها للجسد. فإن قيل: ما العقاب؟ يقال: هو ما ينالها من الخوف والحزن والآلام بعد المفارقة للأجسام، وكل نفس بحسب ما اكتسبت تنال من الخير إن كان خيرا، أو من الشر إن كان شرا. فإن قيل: ما المعروف؟ يقال: هو فعل ما جرت به العادة ولم تنه عنه الشريعة والسنة. فإن قيل: ما المنكر؟ يقال: فعل ما لم تجر به العادة، لا في السنة ولا في الشريعة. فإن قيل: ما أجرة الأجير؟ يقال: هي جزاء لما يستحق كل عامل بما يعمله.
(1) فصل في أن الشكل هو صورة جسمانية واللون صورة روحانية
الشكل هو صورة جسمانية، واللون صورة روحانية، وهما جميعا موجودان في الأشياء كلها إذا تأملها المتأمل، فيكونان في جنس الثمار يعني في شكل الثمرة موجود لنضجها واستحالة الرطوبة اللطيفة الرقيقة إلى ما قد بدت لها، إما من ذوات الرطوبة السيالة وذوات الرطوبة المكتثرة، فتقدم السيالة لانحفاظ كالآلة تقوم مقام لحاء الشجر لحفظ رطوبتها وتمنع أن يلحقها الفساد والذوات الدهانة في ترتيبها أن نفس الثمرة تقبلها وتحفظها لئلا يلحقها الفساد، و@QUR04 ذلك تقدير العزيز العليم ليطبخ الحرارة الغريزية الكائنة في جميع الثمار وبلاغا لها، فهي لتصير من لا هيئة غير نافعة إلى هيئة نافعة؛ لأن غرض الطبيعة إنضاج كل شيء تطبخه بالحرارة الغريزية لرطوبات الهيولى على ما هي مرتبة ترتيب الإله للمنافع التي من أجلها صار كذلك.
فإذا لم تقدر على ذلك لعرض يعرض لذلك إما لكون الرطوبات غالبة على الشيء فتتولد فيه العفونة فيكون دليلا لفساد، وإما لكون الرطوبات في الشيء ناقصة فيصير ما يتولد فيه اليبوسة والخشن، فيكون من ذلك الفساد وبذور النبات عند ظهورها وبذور الزرع والشجر كلها حارة رطبة؛ لأن الحرارة في ذلك أكثر من الرطوبة، والرطوبة التي فيها مانعة للحرارة؛ فلذلك يحدث الطراوة في بدئها.
ألا ترى إلى فعل الأنفحة التي تجمد اللبن الحليب بفضل حرارته وإتباع اللبن لها القبول منها؛ لأن في الحرارة قوى جاذبة تجذب الرطوبات إليها لتتغذى بها وتعيش ما دامت المادة من ذلك باقية.
فإذا ازدادت البرودة والرطوبة عليها اختفت الحرارة في باطن الأجسام فأحرقتها؛ لأن الحرارة هي الفاعلة والرطوبة هي الهيولى القابلة للصورة، والحرارة أيضا بتمدد الحركة إلى فوق تكون في مخرجها نحو اليمين والقدام وإلى فوق من ناحية القلب؛ لأن القلب أفضل أجزاء البدن وليس بأفضل من البدن، وعروق الشجرة أفضل أجزائها وليس أفضل منها، فالصغار بكثرتها تقاوم الكبار لقلتها، ومن أجل أن المحرك الأول واحد صار لكل كائن فعله في مثله مماثلا للأول الواحد، وكل مبدئ واحد أول ما ينبعث من القلب في بدن الحيوان ، فإنه يبدو منه عرقان اثنان: واحد لأعلى البدن، والآخر لأسفله.
ومن بدن النبات يبدو عرقان: أحدهما ينزل إلى أسفل ويتناول المادة من الأرض والماء بحسب ما يكون سبب حياته، والآخر يرقبه إلى فوق ليتغذى به فتكون منه تربية البدن والورق والثمر.
(2) فصل في أن العدد هو أحد الرياضيات الحكيمة
ثم اعلم أن العدد هو أحد الرياضيات الحكيمة، وذلك أن الوحدة الموجودة في الواحد الموهوم هي أصل العدد ومنشؤه، وهو لا جزء له، والعدد هو كثرة الآحاد المجتمعة، وهو صورة تطبع في نفس العاد من تكرار الوحدة.
والمعدودات هي الأشياء التي تعد، والحساب هو جمع العدد وتفريقه، والمحسوبات هي الأشياء التي عرفت مقاديرها.
فالعدد منه أزواج ومنه أفراد، والزوج هو كل عدد له نصف صحيح، والفرد هو كل عدد يزيد على الزوج بواحد، والعدد منه صحيح ومنه كسور؛ فالعدد الصحيح هو كلما يشار إليه بإحدى عشرة لفظة أصلية، وهي اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة ثمانية تسعة عشرة مائة ألف، وما تركب منها، وهي هذه: عشرون ثلاثون أربعون خمسون ستون سبعون ثمانون تسعون، مائة مائتان ثلاثمائة أربعمائة خمسمائة ستمائة سبعمائة ثمانمائة تسعمائة، ألف ألفان ثلاثة آلاف أربعة آلاف خمسة آلاف ستة آلاف سبعة آلاف ثمانية آلاف تسعة آلاف.
وعلى ذلك تكرار اللفظ بالغا ما بلغ، والعدد الكسور هو كلما يشار إليه بتسعة ألفاظ مشتقة من نفسه، وهي هذه: النصف والثلث والربع والخمس والسدس والسبع والثمن والتسع والعشر، أو ما تركب منها مثل: نصف وثلث وربع ربع وخمس خمس وسبع سبع وما شاكلها من الألفاظ المركبة من هذه التسعة. والعدد الذي مبدؤه من واحد في جميع أموره ومنتهاه إلى أربعة، وهذه صورة ذلك «1، 2، 3، 4»، وهذه الأربعة ثبات أصله وما يتولد منه في كيفية فرع، ثم الباقي مركب منها كما بينا في رسالة الأرثماطيقي، وللعدد مراتب أربع: مراتب آحاد ومراتب عشرات ومراتب مئات ومراتب الألوف، وله أيضا نظام وترتيب ذو فنون تجدها عند التصرف فيها.
فمنها نظم طبيعي، مثل: 1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8، 9، 10.
ومنها نظم الأزواج على الولاء ، مثل هذه: 2، 4، 6، 8، 10، 12، 14، 16، 18، 20.
ومنها نظم الأفراد على الولاء، مثل هذه: 1، 3، 5، 7، 9، 11.
ومنها نظم زوج الفرد، مثل هذه: 6، 15، 14، 18.
ومنها نظم زوج الزوج والفرد، مثل هذه: 12، 25، 28.
ومنها نظم زوج الزوج، مثل هذه: 2، 4، 8، 16، 32.
ومنها نظم الأفراد الأول الأول، مثل هذه: 3، 5، 7، 9.
ومنها المجذورات، مثل هذه: 4، 9، 16، 25.
ومنها نظم المكعبات، مثل هذه: 6، 2، 2، 4، 6.
ومنها نظم المربعات غير المجذورات، مثل هذه: 6، 15، 14، 18، 25، 62.
ولكل نوع من هذه الكيفية نشوء وكمية أنواع، ولتلك الأنواع خواص قد ذكرنا طرفا منها في رسالة العدد، والنسبة هي قدر أحد العددين عند الآخر، والنسبة المتصلة هي التي تكون قدر الأول إلى الثاني كقدر الثاني إلى الثالث، والمنفصلة هي التي تكون قدر الأول إلى الثاني كقدر الثالث إلى الرابع، والضرب هو تضعيف أحد العددين بقدر ما في الأول من الآحاد، والقسمة عكس الضرب، والجذر هو العدد المضروب في نفسه، والمجذور هو المجتمع من ذلك، والمكعب هو المجتمع من ضرب المجذور في الجذر.
ثم اعلم أن الهندسة أصل الرياضات الحكمية، وعلم الهندسة هو معرفة الأبعاد والمقادير؛ فالأبعاد ثلاثة أنواع: الطول والعرض والعمق. والمقادير ثلاثة أنواع: خطوط وسطوح وأجسام؛ فالخط هو مقدار ذو بعد واحد، والسطح هو مقدار ذو بعدين، والجسم ذو ثلاثة أبعاد. والخطوط ثلاثة أنواع: مستقيم ومقوس ومنحنى؛ وهو المركب منهما. والسطوح ثلاثة أنواع: البسيط والمقعر والمقبب. والأجسام كثيرة الأنواع؛ فمنها من كثرة السطوح، ومنها من جهة كثرة الأشكال، ومنها من جهة الجميع.
فأما التي اختلافها من جهة كثرة السطوح، فنذكر منها ثمانية أنواع؛ أولها: الكرة وهي جسم يحيط به سطح واحد، ونصف الكرة يحيط به سطحان، وربع الكرة يحيط به ثلاثة سطوح، والشكل الناري يحيط به أربعة سطوح، والشكل الأرضي وهو المكعب يحيط به ستة سطوح، والشكل الهوائي يحيط به ثمانية سطوح، والشكل المائي يحيط به عشرون سطحا، والشكل الفلكي يحيط به اثنا عشر سطحا.
والسطوح كثيرة الأنواع: تارة من جهة الأضلاع، وتارة من جهة الزوايا، وتارة من الجميع. ولكن يجمعها كلها أربعة أنواع: المثلث والمربع والمدور والكثير الزوايا؛ فالسطح المثلث ما يحيط به ثلاثة خطوط وله ثلاث زوايا، والسطح المربع ما يحيط به أربعة خطوط وأربع زوايا، والدائرة سطح يحيط به خط واحد في داخله نقطة كل الخطوط المستقيمة الخارجة منها إليه متساوية من المركز إلى المحيط، مساو بعضها لبعض، والشكل الكثير الزوايا مثل المخمس والمسدس والمسبع وما زاد بالغا ما بلغ. والزوايا ثلاث: قائمة وحادة ومنفرجة؛ فالزاوية القائمة هي التي بجنبها مثلها، والحادة أصغر من القائمة، والمنفرجة أكبر من القائمة.
(3) فصل في تعريف النبات والحيوان والإنسان والجسم والصوت وغير ذلك
النبات هو كل جسم يتغذى وينمو، والحيوان كل جسم متحرك حساس، والإنسان حي ناطق مائت، وهو جملة مركبة من نفس ناطقة وبدن مائت، والجسم جوهر لطيف طويل عريض عميق، والصوت قرع يحدث في الهواء من تصادم الأجسام، واللفظ كل صوت له هجاء، والكلام كل لفظ يدل على معنى. وإن قيل: ما الصدق؟ فيقال: إيجاب صفة الموصوف هي له، أو سلب صفة عن موصوف ليست له. والكذب؟ فهو عكس ذلك. ويقال أيضا الصدق والكذب في الأقاويل، والصواب والخطأ في الضمائر، والخير والشرفي الأفعال، والحق والباطل في الأحكام، والضر والنفع في الأشياء المحسوسة.
والدنيا هي مدة بقاء النفس مع الجسد إلى وقت افتراقها الذي يسمى الموت، والموت هو ترك النفس استعمال البدن، والآخرة هي نشوء ثان بعد الموت.
ويقال أيضا الموت هو بقاء النفس بعد مفارقة الجسد وخلوها في عالمها، والجنة هي عالم الأرواح، وجهنم هي عالم الأجسام، والجنة أيضا هي المرتبة العليا، وجهنم أيضا هي المرتبة السفلى.
فجنة نفس النباتية صورة الحيوانية، وجنة نفس الحيوانية صورة الإنسانية، وجنة نفس صورة الإنسانية صورة الملائكة، ولصورة الملائكة مقامات ودرجات عند الله تعالى، وبذلك يكون بعضهم أشرف من بعض، كالمقربين منهم وغير المقربين، والبعث هو انتباه النفس من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، والنوم هو اشتغال النفس عن الجسد بغيره مع شمول عنايتها به، والقيامة قيام النفس من قبرها، وهو الجسد الكائن الذي كانت فيه فزهدت وأبعدت عنه.
والحشر هو جمع النفوس الجزئية نحو النفس الكلية واتحاد بعضها ببعض؛ إذ الجزء أحد أجزاء الكل، والكل مجمع الأجزاء المنفصلة منه.
وقولنا الاتحاد امتزاج الجواهر الروحانية كامتزاج صوت الزير والبم، والحساب موافقة النفس الكلية النفوس الجزئية بما عملت عند كونها مع الأجساد، والصراط هو الطريق المستقيم القاصد إلى الله تعالى.
(4) فصل في الألوان المفردة
الألوان المفردة هي البياض والسواد والحمرة والصفرة والخضرة والزرقة والكدرة، والأشياء البيض إنما تراها بيضاء لأسباب ثلاثة: أحدها لأن النور محبوس فيها لغلبة الرطوبة، والرطوبة لونها كاللبن. والثاني لأن النور مولج فيها لكثرة التخلخل كالملح. والثالث لأن النور محبوس فيها لجمود رطوبتها كالفضة.
على أن النور من وراء الأجسام المشفة يرى أبيض، فإن عرض له عارض يرى أصفر، والأشياء الصفر ترى صفراء لأسباب تمنع النور أن يرى صافيا، كالنار يراها صفراء لأن حرارتها تسد مسام البصر فلا تقدر قوة الباصرة إدراكها على التمام.
ومنها ما يرى أصفر لأن الحرارة تسد مسامها كالأشياء البيض إذا طبخت اصفرت.
فأما علة رؤية الأشياء حمرا فلشيئين: أحدهما الأسباب المعفنات، والآخر الأسباب المذوبات؛ فالمعفنات لكثرة الرطوبة، والمذوبات لكثرة الحرارة، كالشمس تراها حمراء عند كثرة البخارات الصاعدة إليها من جملة المياه والرطوبات وعند النضج والأزهار والثمار تؤدي من شدة الحرارة المذوبة.
فقد تبين بهذا أن البصر إذا رأى النور من وراء الأجسام المشفة وغلبها أحد الأسباب الثلاثة، رآها حمراء.
وأما الخضرة فهي من أجل غلبة الرطوبة الأرضية على النور، ومنع البصر إياها أو منع النور أن يصير إلى البصر صرفا.
وأما السواد فهو منع الرطوبة الأرضية وصول النور إلى البصر، أو منع البصر الوصول إلى النور؛ لأن السواد يجمع البصر والبياض يفرقه.
وكل الألوان الباقية متوسطة بين هذين الطرفين وفعلها في البصر بحسب غلبة أحد هذين عليها.
والطعوم تسعة أنواع: وهي العفوصة والقبوضة والحموضة والحلاوة والملاحة والمرارة والحرافة والعذوبة والدسومة. والحلاوة تجعل اللسان أملس، والمرارة تجعل أجزاءه متفرقة خشنة، والحريف يزيد في ذلك، والمالح يفرق ويجفف، والعفوصة تجمع وتقبض، والحموضة تفرق وتقبض.
ثم اعلم أيها الأخ بأنك قاصد إلى ربك منذ خلقت نطفة في الرحم وربطت بها نفسك تنقل كل يوم من حالة هي أدون إلى حالة أتم وأكمل وأشرف، ومن مرتبة هي أنقص إلى مرتبة أخرى هي أعلى وأشرف، وإلى منزلة هي أرفع، إلى أن تلقى ربك وتشاهده ويوفيك حسابك، وتبقى عنده نفسك ملتذة فرحانة مسرورة مخلدة أبد الآبدين ودهر الداهرين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، وفقك الله وإيانا وجميع إخواننا إلى السداد، وهداك وإيانا وجميع إخواننا سبيل الرشاد إنه رءوف بالعباد.
PARATEXT|
(تم القسم الثالث في العلوم النفسانيات العقليات من كتاب إخوان الصفاء وخلان الوفاء ويتلوه القسم الرابع في الناموسيات الإلهيات، أوله رسالة في الآراء والديانات.)
العلوم الناموسية الإلهية والشرعية
الرسالة الأولى في الآراء والديانات في العلوم الناموسية الإلهية والشرعية
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
اعلم أيها الأخ أنا قد فرغنا من رسالة الحدود والرسوم التي هي آخر رسائل النفسانيات العقليات، حسبما وعدنا في فهرست صدر كتابنا هذا، فنريد الآن أن نذكر في هذا القسم الرابع الكلام في الإلهيات، وهو الغرض الأقصى والغاية القصوى، فنبدأ أولا بالرسالة الأولى منها في الآراء والديانات، فنقول: اعلم أن الناس مختلفون في آرائهم ومذاهبهم كما هم مختلفون في صور أبدانهم وأخلاق نفوسهم وأعمالهم وصنائعهم.
واعلم أن سبب اختلاف أخلاقهم هو من أربع جهات: إحداها من جهة اختلاف تركيب أبدانهم ومزاج أخلاطها، والأخرى من جهة اختلاف ترب بلادهم وتغيرات أهويتها والأزمان التي تنشأ فيها، والأخرى من جهة نشوئهم على عادات آبائهم في سنن دياناتهم، وعلى عادات من يربيهم ويؤدبهم، والأخرى من جهة أشكال الفلك ومواضع الكواكب في أصول مواليدهم ومساقط نطفهم، وقد بينا طرفا من هذا العلم في رسالة الأخلاق، ونريد أن نذكر في هذه الرسالة طرفا من فنون اختلافات العلماء الذين هم أصلوا الآراء والمذاهب وفرعوا منها أنواع المقالات والأحكام، وكم هي تلك الآراء والمذاهب، وما هي تلك الأسباب التي أدت بالعلماء إلى الاختلاف، وكم هي. ولكن قبل ذلك نحتاج أن نذكر أجناس الأشياء التي اختلفوا فيها: كم هي، وما هي، فنقول: إن الأشياء المختلف فيها ثلاثة أنواع: أولها في الترتيب هي الأمور المحسوسة، وبعدها الأمور المعقولة، وبعدها الأمور الإلهية المبرهنة.
أما الأمور المحسوسة فهي صور في الهيولى تدركها الحواس المباشرة لها وتنفعل عنها كما بينا في رسالة الحاس والمحسوس.
وأما الأمور المعقولة فهي رسوم تلك المحسوسات التي أدتها الحواس إلى القوة المتخيلة إذا بقيت مصورة في الأوهام بعد غيبة المحسوسات عن مباشرة الحواس لها، كما بينا في رسالة العقل والمعقولات.
وأما الأمور الإلهية المبرهنة فهي أشياء لا تدركها الحواس ولا تتصورها الأوهام، ولكن الدليل والبراهين الصادقة باعثة للعقول إلى الإقرار بها والقبول لها، كما نبين ذلك في كتب الهندسة وبيان المنطقية جميعا.
مثال ذلك أنه قد قام البرهان في كتاب إقليدس على أن كل مقدار ذي نهاية أي مقدار كان جسما كان أو سطحا أو خطا، فإنه يمكن أن يوجد منه ظل دائما أبدا لا يفنى، وهذه الحكمة مما لا تدركها الحواس ولا تتصورها الأوهام البتة، وأمثال هذه الحكمة كثيرة في هذه الكتب وفي غيرها من كتب الهندسة، وهكذا أيضا قد قام البرهان بطريق المنطق الحكمي الفلسفي على أن خارج العالم لا خلاء ولا ملاء، وهذه الحكمة أيضا مما لا تدركها الحواس ولا تتصورها الأوهام، وأمثال هذه الأشياء كثيرة معروفة عند العلماء بخاصة إقرار الموحدين لله والعارفين به بأن الله تعالى حي قادر عالم حكيم خالق، لا يوصف بالقيام ولا بالقعود، ولا الدخول ولا الخروج، ولا الحركة ولا السكون، وما شاكل ذلك من الأوصاف مما يوصف بها النفس والعقل الفعال والصور المجردة من الهيولى وما شاكلها من الجواهر البسيطة المسمين الملائكة والروحانيين، وذلك أن الحواس لا تدركها ولا تتصورها الأوهام بوجه من الوجوه ولا سبب من الأسباب.
فأما أوصاف الجاهلين بالله فهي أنهم يصفون الله تعالى بصفات المخلوقين بعد أن نزه الله تعالى نفسه عن ذلك بقوله: @QUR09 سبحان الله عما يصفون * إلا عباد الله المخلصين، فقد تبين إذن مما ذكرنا أن الأمور المبرهنة التي لا تدركها الحواس ولا تصورها الأوهام، ولكن البرهان الضروري والحجة القاطعة يضطران العقول إلى الإقرار بها مقررة.
ثم اعلم أن البراهين هي ميزان العقول، كما أن الكيل والذرع والشاهين موازين الحواس، وكما أن الناس إذا اختلفوا في حزر شيء وتخمينه من الأشياء المحسوسة، رجعوا إلى حكم الكيل والذرع ورضوا بها وارتفع الخلف من بينهم، فهكذا العقلاء الذين يعرفون البراهين الضرورية إذا اختلفوا في حكم شيء من الأشياء التي لا تدرك بالحواس ولا تتصور بالأوهام، رجعوا عند ذلك إلى دليل وبرهان وما ينتج من المقدمات الضرورية وأقروا بها وقبلوها، وإن كانت لا تدركها الحواس ولا تتصورها الأوهام لأنهم يرون الإقرار بالحق أولى من التمادي في الباطل، وقد تبين مما ذكرنا أن الأمور المختلفة فيها ثلاثة أجناس حسب، التي هي المحسوسة أو المعقولة أو المبرهنة، ونريد أن نذكر الآن كمية أسباب اختلاف الناس في إدراكهم من كم وجه يكون.
(1) فصل في بيان اختلاف كمية إدراك المعلومات
فنقول: اعلم أن أسباب اختلاف الناس في إدراك هذه الأمور الثلاثة التي تعلم وتعرف من ثلاث جهات: إحداها دقة المعاني ولطافتها وخفاها، والثانية فنون الطرق المؤدية إليها الأسباب المعينة على إدراكها، والثالثة تفاوت قوى نفوسهم الدراكة لها في الجودة والرداءة، وهي الأصل والسبب في اختلافهم في الآراء والمذاهب وسائرها فروع عليها ونحتاج أن نشرح هذا الباب، فنقول:
لما كان الإنسان إنما هو جملة مجموعة من جسد جسماني ونفس روحانية، صار يقوي نفسه الروحانية بدرك المعقولات، كما أن بأعضاء جسده الجسماني يعمل الصنائع؛ لأن كلية العلوم موضوعة بإزاء قوى نفوس جميع الناس، كما أن كلية الصناعات البشرية موضوعة بإزاء قوى أجساد جميع الناس؛ وذلك لأنه لا يتهيأ لإنسان واحد بقوته الجزئية الاستنباط بجميع العلوم والاحتمال لسائر الصنائع، وذلك أن لنفسه قوى كثيرة، وله بكل قوة منها أفعال عجيبة، كما أن لجسده مفاصل كثيرة وأعضاء طريفة، وله بكل عضو من جسده حركات مختلفة، كما بينا طرفا من هذا الفن في رسالة تركيب الجسد.
ولكن نريد أن نذكر هنا ثمانية أنواع منها: وهي القوة الدراكة للمعلومات، ونبدأ أولا بذكر القوى الحساسة الخمسة؛ إذ كانت هي أول قوى النفس التي ينال بها الإنسان العلوم والمعارف، ثم نذكر القوة المتخيلة التي مسكنها مقدم الدماغ، ثم القوة المفكرة التي مسكنها وسط الدماغ، ثم القوة الحافظة التي مسكنها مؤخر الدماغ.
ثم اعلم أن الناس متفاوتون في الدرجات في هذه القوى بين الجودة والرداءة في إدراكهم المعلومات تفاوتا بعيدا، وهي أحد أسباب اختلافهم في الآراء والمذاهب، وذلك أن من الناس من يكون حاد البصر يرى الأشياء الصغيرة البعيدة، ومنهم من يكون دون ذلك، ومنهم من لا يبصر شيئا البتة.
وهكذا تجد حالهم في القوة السامعة، وذلك أن منهم من يكون جيد السمع يسمع الأصوات الخفية ويميز بين النغمات الموزونة والمنزحفة، ومنهم من يحتاج في ذلك إلى مفاعيل العروض، ومنهم من لا يحس بشيء من ذلك.
وعلى هذا القياس يكون حكمهم في سائر قوى حواسهم من الذوق واللمس والشم، وهكذا حكمهم في ذكاء نفوسهم وجودة قرائحهم وصفاء أذهانهم؛ وذلك أنك تجد كثيرا من الناس من يكون جيد التخيل دقيق التمييز سريع التصور ذكورا حفوظا، ومنهم من يكون بليدا بطيء الذهن أعمى القلب ساهي النفس، فهذا أيضا أحد أسباب اختلاف العلماء في الآراء والمذاهب؛ لأنه إذا اختلفت إدراكاتهم اختلفت آراؤهم واعتقاداتهم بحسب ذلك.
(2) فصل في بيان علة اختلاف إدراك القوى العلامة
فنقول: اعلم أن هذه التفاوتات التي ذكرنا من هذه القوى الداركة العلامة ليست هي من أجل أنها مختلفة في ذواتها بين الجودة والرداءة، ولكن من أجل اختلاف أحوالها في إدراكها صور المعلومات، وأن علة اختلاف أفعالها هو من أجل اختلاف أدواتها واختلاف آلاتها في الجودة والرداءة؛ وذلك أنه لما كان كل عضو من الجسد هو آلة وأداة لقوة من قوى النفس، وكانت أعضاء الجسد مختلفة الهيئات المتفاوتة في الجودة والرداءة في بعض الناس أو في بعض الأحايين؛ اختلفت أفعال هذه القوى بحسب تلك الاختلافات، مثال ذلك الحدقتان فإنهما عضوان من الجسد، وهما أداتان للقوة الباصرة، فإذا كانتا سليمتين من الآفات العارضة صحيحتين صافيتين مجليتين، تراءت فيهما صور المرئيات المقابلات لهما كما يتراءى في المرايا صور الأشياء المقابلة لها، فأدركت هذه القوة تلك المبصرات على حقائقها. فأما إذا كانتا على غير ما ذكرنا لعارض من الآفات، عاقت القوة الباصرة عن إدراكها محسوساتها.
وهكذا أيضا القوة السامعة، وذلك أنه متى كانت أدواتها التي هي صماخا الأذنين مفتوحتين نقيتين من الأوساخ سليمتين من الآفات العارضة، طنت فيهما الأصوات بهيئتها، فأدركتها القوة السامعة بحقائقها، وإذا كانت على غير ما ذكرنا لعارض من الآفات عاقت عن إدراكها المسموعات. وهكذا أيضا القوة الشامة، متى كانت خياشيم المنخرين مفتوحة نقية من البخارات الغليظة سليمة من الآفات العارضة، أدركت القوة الشامة الروائح وميزت بينها وعرفتها، أو متى عرض هناك بخار أو زكام أو آفة عوقت عن إدراكها وتمييزها. وهكذا أيضا القوة الذائقة، متى كانت الرطوبة المستبطنة التي في جرم اللسان معتدلة سليمة من الآفات العارضة، أدركت طعوم الأشياء المذوقة بحقائقها، وعرفت التمييز بينها، ومتى غلب على تلك الرطوبة خلط أو مزاج خارج عن الاعتدال، عوقت عن إدراكها الطعوم والتمييز على حقائقها. وهكذا أيضا القوة اللامسة فإنه متى عرضت آفة للأعصاب المنتسجة بين خلل اللحم والجلد، عوقت عن إدراكها الملموسات. وهكذا أيضا حالات القوة المتخيلة، فإنه متى كان مقدم الدماغ معتدلا سالما من الآفات، تخيلت فيه رسوم المحسوسات التي أدتها إليها القوة الحساسة بحقائقها وقبلتها بهيآتها، ومتى عرضت آفة كما يعرض في الأمراض الحادثة المفرطة - كما ذكر في كتب الطب - عوقتها عن فعلها وتخيلها رسوم المحسوسات كما يعترض للمبرسمين[1] وصاحب الماليخوليا.
وهكذا أيضا حكم القوة المفكرة المستبطنة وسط الدماغ متى كان معتدلا على الأمر الطبيعي سالما من الآفات العارضة، كان فكر الإنسان ورؤيته وتمييزه وفهمه على ما ينبغي، ومتى عرضت هناك آفة لعارض من الأعراض أو خروج عن الاعتدال، عوقت النفس عن أشراف أحوالها وأفعالها، التي هي الفكر والتمييز والروية والتحصيل وما شاكلها؛ لأن هذا العضو من أشرف الأعضاء بعد القلب . وهكذا أيضا حكم القوة الحافظة المستبطنة مؤخر الدماغ في التذكار والنسيان، وإنما ذكرنا في هذا الفصل هذه الأشياء لأن من هذه القوى تكون معارف الحيوان كلها، ومن تعاون أدوات هذه القوى بالمعاونات اللائقة تزيد في قواها، ومن تفاوتها يكون اختلاف معارفها في الجودة والذكاء أكثر وأقل، وهي الأصل في جميع العلوم والمعارف، ومن تفاوت أفعال هذه القوى يكون أكثر اختلاف الناس في معلوماتهم ومنازعات العلماء في آرائهم ومذاهبهم، وخصلة أخرى أيضا أن كثيرا من العلماء ممن ينظر في علوم النفس ويتكلم في أحوالها، يظن أن لها قوى وأفعالا وأخلاقا مختلفة تفعل بها اختلافات مختلفة ولا يدرون اختلاف أحوالها وأخلاقها إنما هو من جهة اختلاف أدواتها في الهيئة والجودة والرداءة، التي كل واحد منها عضو من الجسد - كما بينا ذكرها - وخصلة أخرى أن كثيرا من العلماء الطبيعيين والمنطقيين لما اعتبروا هذا الرأي الذي ذكرنا من أن النفس إنما هي مزاج البدن لما رأوا أن تغيير أفعال الحيوان وأخلاقها عند تغيير مزاج الأعضاء واختلاف هيئاتها، وخاصة تغيير أفعال الإنسان وأخلاقه عند الأمراض وعند تغيير مزاج هذه الأعضاء واحدا واحدا.
فأما الإلهيون فيرون خلاف ذلك، وقد ذكرنا أقاويلهم في خلال رسائلنا الإحدى والخمسين، وذكرنا البراهين عليها في الرسالة الجامعة، فهذا الذي ذكرنا في هذا الباب هو أحد أسباب اختلاف الناس في معارفهم ومعلوماتهم المؤدية بهم إلى اختلاف الآراء والمذاهب.
وأما السبب الثاني الذي هو من جهة دقة المعاني ولطافتها وجلائها وظهورها، فهو مثل التفاوت الذي بين الأمور الجسمانية الظاهرة المدركة بالحواس، وبين الأمور الروحانية الخفية عن إدراك الحواس، التي لا تعلم إلا بدلائل العقول ونتائج البراهين، كما تقدم ذكرها. وهذا الباب هو أكثر أسباب اختلاف العلماء في آرائهم ومذاهبهم.
وأما الوجه الثالث من الأسباب المؤدية للناس إلى اختلافهم في معلوماتهم فهو استعمالهم القياسات المختلفة وطرقات استدلالاتهم المتفاوتة، وهذا الباب هو أكثرها تفرعا وتشعبا، وهو اكتساب منهم، وعليه يجازون من الذم والمدح والثواب والعقاب.
وأما الوجهان الأولان فليس باختيار منهم ولا اكتساب لهم فيه .
(3) فصل في بيان كمية القوى العلامة
وإذ قد تبين مما ذكرنا أسباب اختلاف الناس في مدركاتهم من الأمور المختلفة فيها من كم وجه يكون، وكان أحد الوجوه تفاوت القوى الداركة العلامة التي هي أربعة أنواع: الحساسة والمتخيلة والمفكرة والحافظة. وقد تقدم شرح تفاوتها في الجودة والرداءة قبل هذا، فنريد أن نذكر في هذا الفصل الأسباب المعينة لها على إدراكها مدركاتها والمعوقة لها عن ذلك، ونبدأ أولا بذكر القوى الحساسة، ثم نذكر القوى المتخيلة، ثم المفكرة، ثم الحافظة.
فأما بيان ما تحتاج كل حساسة من الشرائط في إدراكها محسوساتها حسبما نبين ها هنا، فنقول: إن كل حاسة من الحواس الخمس تحتاج في إدراكها محسوساتها إلى شرائط معدودة، لا زايدة ولا ناقصة، فمتى عدم واحدة من تلك الشرائط أو بعض، أو زاد أو نقص على المقدار الذي ينبغي، عوقها عن إدراك محسوساتها على حقائقها.
مثال ذلك القوة الباصرة، فإنها تحتاج في إدراكها المبصرات إلى ضوء ما، وإلى بعد ما، وإلى محاذات ما، وإلى وضع ما؛ فمتى عدم شيء منها، عاقها ذلك عن إدراك المبصرات بحقائقها؛ وذلك أنه لا يمكنها إدراك الضياء المفرط والنور الباهر، كما لا يمكنها إدراك المبصرات في الظلمة الظلماء؛ وذلك أن الإنسان لا يمكنه النظر إلى عين الشمس نصف النهار في يوم صائف، كما لا يمكنه رؤية الأشياء الصغار في الظلمة الظلماء ولا رؤيتها في البعد الأبعد، ولا في القرب الأقرب إذا وضعت يده مثلا قرب الجفن، ولا رؤيتها من غير محاذاة ولا رؤية الأشياء المتحركة الشديدة الحركة كالنبل المار متى رمي عن قوس شديدة.
وعلى هذا القياس حكم سائر الحواس، فإنها تحتاج في إدراكها محسوساتها إلى شرائط معدودة، فمتى عدمت واحدة منها، أو نقصت عن المقدار أو زادت عليه، عوقها عن إدراك محسوساتها.
(4) فصل في بيان ما لكل حاسة من المحسوسات بالذات
فاعلم أن لكل حاسة محسوسات مختصة لها بالذات ومحسوسات بالعرض، وهي لا تخطئ في المدركات التي هي لها بالذات، ولكن في التي لها بالعرض.
مثال ذلك البصر، فإن المبصرات لها بالذات هي الأنوار والضياء والظلم.
وأما الألوان فإن ذلك لها بتوسط النور والضياء.
وأما سائر الأجسام وسطوح أشكالها وأوضاعها وأبعادها وحركاتها فهو بتوسط اللون، وذلك أن كل جسم لا لون له لا يرى ولا يدركه البصر.
ثم اعلم أن البصر هو أشرف الحواس وأشدها تحقيقا لمدركاته، كما يقال: ليس الخبر كالمعاينة، وبين الحق والباطل أربع أصابع؛ يعني بين العين والأذن. ولكن مع شرفه وتحقيقه لمدركاته عظيم الخطأ كثير الزلل؛ وذلك أن الإنسان ربما يرى الشيء الصغير كبيرا أو الكبير صغيرا، أو القريب بعيدا أو البعيد قريبا، كما يرى الدرهم في قعر بركة صافي الماء قريبا كبيرا.
وهكذا يرى فيما وراء البخار الرطب يرى الشيء أعظم مما هو، فكذلك ربما يرى الإنسان الشيء المتحرك ساكنا والساكن متحركا، كما يرى من يكون في الزورق إذا نظر إلى الشطوط فإنه يرى الأشخاص الساكنة متحركة ويرى نفسه ومن معه ساكنا.
وهكذا ربما يرى الشيء المستقيم معوجا والمنتصب منكوسا، كما يرى العود المنتصب في الماء. وربما يرى الشيء المرتفع منخفضا والمنخفض مرتفعا، كما يرى سقف الرواق وأرضه في البعد متقاربين وما شاكل هذه الفنون، كما ذكر عللها في كتاب المناظر بشرح طويل، وإذا كان الخطأ والزلل الذي يدخل على الإنسان العاقل المميز من جهة مدركات البصر، الذي هو أشرف الحواس وأجل القوى الداركة، هذا القدر فما ظنك يا أخي بما دونها من سائر الحواس والقوى الداركة على هذا المثال.
(5) فصل في بيان الحواس التي لا تخطئ في إدراكاتها المدركات التي هي لها بالذات
فنقول: اعلم أن لكل حاسة مدركات بالذات ومدركات بالعرض، وهي لا تخطئ في مدركاتها التي لها بالذات، وإنما يدخل عليها الخطأ والزلل في المدركات التي لها بالعرض.
مثال ذلك البصر، فإن الذي له من المدركات بالذات هي الأنوار والظلمة، وهي التي لا تخطئ في إدراكها في جميع الأوقات البتة.
فأما إدراكها الألوان والأشكال والأوضاع والأبعاد والحركات وما شاكلها، فهي تدركها بتوسط النور والضياء على الشرائط التي ذكرناها، وقد يدخل عليها الخطأ والزلل في ذلك إذا نقصت الشرائط التي تحتاج إليها.
وعلى هذا القياس يجري حكم سائر الحواس ومحسوساتها، فتعقل يا أخي في هذا الباب، فإن الذين دفعوا حقائق الأشياء وكيفياتها والنظر فيها وأنكروها، من هذا الباب أتوا.
أما القوة السامعة التي لها بالذات هي بالأصوات والنغمات حسب، والتي للذائقة هي الطعوم حسب، والتي للشامة هي الروائح حسب، والتي للامسة فهي عدة أشياء، قد ذكرناها في رسالة الحاس والمحسوس، فاعرفها من هناك.
ثم اعلم أ، لكل قوة من هذه الحواس الخمس خاصية ليست للأخرى، ولكن الخاصية التي تعمها هي أنها لا تخطئ في مدركاتها إذا تمت شرائطها ولم يعرض لها عائق، وخاصة أخرى أنها لا يدرك كل واحد منها محسوسات أخواتها التي لها بالذات.
مثال ذلك البصر، فإنه لا يدرك الأصوات ولا الروائح ولا الطعوم! وهكذا أخواتها، ولكن بما تشترك في المحسوسات اللاتي لهن بطريق العرض؛ مثل الحركة، فإنها تدرك وتعلم بالبصر واللمس بالسمع جميعا.
(6) فصل في بيان زيادة القوى التي في حواس الإنسان
فنقول: اعلم أن الله تعالى خلق في حواس الإنسان زيادة قوة وجودة تمييز ما لم يجعل في حواس سائر الحيوانات، وبخاصة في القوة اللامسة فضله عليها وكرمه بها، كما جعل في قوة يديه من الصنائع العجيبة، وفي قوة لسانه من اللغات المختلفة ما لم يجعل في أيديها ولا في ألسنتها، كما هو بين ظاهر جلي لا يخفى على أحد من العقلاء. وقد يظن كثير من الناس العقلاء أن بعض الحيوانات يفهم معاني الكلام ويمتثل الأمر والنهي، ولكن لا يقدر على الكلام كمثل الفيل والفرس الجواد والجمل والغنم والبقر والكلب والسنور والقردة والببغاء، وأمثالها من الحيوانات المسخرة للإنسان المستأنسة به المنقادة لخدمته.
ولعمري أنها تفهم معاني بعض الكلام كالزجر والأمر والنداء وما شاكلها التي هي بعض أقسام الكلام.
فأما أن تفهم معاني الخبر والسؤال والجواب والاستفهام فلا، وقد بينا علة ذلك في رسالة الحيوانات.
ثم اعلم أن الإنسان مع استماعه الأصوات وتمييزه بالنغمات يفهم معاني اللغات والأقاويل والكلمات ، كما أنه عند نظره إلى الخطوط والكتاب يفهم ما تتضمنه من معاني الكلام والعبارات ما لا يفهم عليها غيره من الحيوانات.
ثم اعلم أن من هاتين الطريقتين أكثر معلومات الإنسان التي ينفرد بها دون سائر الحيوانات.
واعلم أن بني الإنسان في هاتين القوتين متفاوتو الدرجات تفاوتا بعيدا جدا؛ وذلك أن من الناس من لا يفهم إلا لغة واحدة ولا يعرف أيضا من معاني تلك اللغة من الأشياء والألفاظ والأقاويل إلا شيئا قليلا، ومن الناس من يفهم عدة لغات ويحسن أن يقرأ عدة كتابات، ويفهم من كل لغة أسماء وألفاظا وأقاويل كثيرة، ويفهم معاني دقيقة ما لا يفهم غيره من الناس، وهذه أحد أسباب اختلاف الناس في المعارف واختلاف العلماء في الآراء والمذاهب.
فأما بيان كمية معلومات الإنسان حسبما نذكره ها هنا فنقول: إنه لما كان جميع معلومات الإنسان من جهة الزمان ثلاثة أنواع فحسب، فمنها ما قد كان مع الزمان الماضي، ومنها ما سيكون في المستقبل، ومنها ما هو كائن في الوقت والزمان والحاضر.
ولما كان أحد الطرق التي تعلم الإنسان الأمور الماضية مع الزمان استماع الأخبار، وكان رب مخبر كذاب ورب مستمع له مصدق، وهكذا أيضا مخبر صدوق ورب مستمع له مكذب.
وعلى هذا القياس أيضا حكم الأخبار عن الكائنات قبل كونها وعن الأشياء الموجودة في الزمان الغائبة بالمكان، فهذا أيضا أحد أسباب اختلاف الناس في المعلومات واختلاف العلماء في الآراء والمذاهب.
(7) فصل في بيان ما يخص الإنسان من المعلومات
فنقول: إن الله لما خلق الإنسان الذي هو آدم أبو البشر، عليه السلام، وفضله على كثير ممن خلق قبله تفضيلا، جعل أحد فضائله كثرة العلوم وغرائب المعارف وجعل له إليها عدة طرقات؛ فمنها طرق الحواس الخمس التي بها يدرك الأمور الحاضرة في المكان والزمان، كما بينا في رسالة الحاس والمحسوس، ومنها طريق استماع الأخبار التي ينفرد بها الإنسان دون سائر الحيوانات، يفهم بها الأمور الغائبة عنه بالزمان والمكان جميعا، كما ذكر الله تعالى ومن به عليه، فقال : @QUR05 خلق الإنسان * علمه البيان، ومنها طريق الكتابة والقراءة يفهم بها الإنسان معاني الكلام واللغات والأقاويل بالنظر فيهما عمن لم يره من أبناء جنسه مع الزمان أو من هو غائب عنه بالمكان، كما قال الله ومن به على الإنسان، فقال لنبيه محمد عليه السلام: @QUR013 اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم. وبهذه الفضيلة شارك الإنسان الملائكة الكرام كما قال الله تعالى: @QUR010 وإن عليكم لحافظين * كراما كاتبين * يعلمون ما تفعلون.
واعلم أن فهم القراءة والكتابة ومعرفتها متأخرة عن فهم الكلام والأقاويل، كما أن فهم الكلام والأقاويل معرفتها إنما هي متأخرة عن فهم المحسوسات كما هو بين ظاهر لا يخفى على العقلاء؛ وذلك أن الطفل إذا خرج من الرحم فإنه في الوقت والساعة تدرك حواسه محسوساتها، فيحس بالقوة اللامسة الخشونة واللين، وبالقوة الباصرة النور والضياء، وبالقوة الذائقة طعم اللبن، وبالقوة الشامة الروايح، وبالقوة السامعة الأصوات، ولكنه لا يعلم معاني الكلام والأصوات إلا بعد حين؛ فأول شيء يحس باللمس فيتألم؛ لأن حساسة اللمس أعم الحواس، ثم يحس بالطعم فيميز لبن أمه من غيره، ثم يميز بين الروائح فيعرف الشم، ثم يميز بين الصوت الشديد الجهير، وبين الصوت الضعيف الخفيف، ثم يفرق بين الصور، ثم يميز على ممر الأوقات بين نغمة الأم ونغمة الأب والإخوة والأخوات والأقرباء وغيره. ثم شيئا بعد شيء على التدريج، وعلى هذا المثال فهمه ومعرفته بسائر الحواس ومحسوساتها إلى أن تتم سن التربية ويغلق باب الرضاع ويفتح الكلام والنطق. ثم بعد ذلك تجيء أيام الكتابة والقراءة والآداب والصنايع والرياضيات وإسماع الأخبار والروايات، والفقه في الدين، والنظر في العلوم والمعارف، وطلب حقائق الموجودات، والبحث عن الكائنات، والاستدلال بالحاضرات على الغائبات، والمحسوسات على المعقولات، وبالجسمانيات على الروحانيات، وبالرياضيات على الطبيعيات، وبالطبيعيات على الإلهيات، التي هي الغاية القصوى في العلوم والمعارف والسعادة الأبدية والدوام السرمدية، بلغك الله وإيانا إلى هذه الغاية، وشرح صدرك، وفتح قلبك، ونور فهمك، وصفى نفسك، وحسن أخلاقك، وأصلح شأنك، وزكى أعمالك، وأنعم بالك، وأكرمك مما أنعم به على أوليائه وأنبيائه بما علمهم من البيان والكتاب، كما قال تعالى: @QUR07 ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا.
(8) فصل في بيان القوة المتخيلة
فنقول: إنا قد ذكرنا طرفا من أحوال القوة الحاسة وكيفية التفاوتات التي بينها في إدراكها محسوساتها، وما الأسباب المعينة لها على ذلك والمعرفة لها عنها فيما تقدم، فنريد أن نذكر طرفا في هذا الفصل من أحوال القوة المتخيلة التي مسكنها الدماغ؛ إذ كانت التالية للقوى الحساسة في تناولها رسوم المحسوسات منها، ونذكر أيضا بعض الأسباب المعينة على أفعالها والمعوقة عن ذلك، ونذكر تفاوت درجات الناس في هذه القوة؛ إذ كان ذلك أحد أسباب اختلافهم في العلوم والمعارف والآراء والمذاهب، ولكن من أجل أن هذه القوة أكثر القوى الحساسة متخيلات وأعجبها أفعالا، احتجنا أن نذكر علة ذلك، فنقول: إن لهذه القوى خواص عجيبة وأفعالا ظريفة، فمنها تناولها رسوم سائر المحسوسات جميعا وتخيلها بعد غيبة المحسوسات عن مشاهدة الحواس لها، ومنها أيضا أنها تتخيل وتتوهم ما له حقيقة وما لا حقيقة له بعد أن عرف بسائطها بالحس؛ إذ له من القوة ما يقدر أن يوافي الصور التي أداها الحس إلى النفس في هيولاه كيف شاء؛ لأنه كان يجدها مجردة عن الهيولى التي هي ماسكة للصور ومختفية بعضها دون بعض، فإذا أخذها مجردة لا إمساك لها ولا ربط، أمكنه أن يؤلف بينها كما شاء ويركبها ويصل بعضها ببعض ما لم تكن متصلة بالهيولى، مثال ذلك أن الإنسان يمكنه أن يتخيل بهذه القوة جملا على رأس نخلة، أو نخلة ثابتة على ظهر جمل، أو طائرا له أربع قوائم، أو فرسا له جناحان، أو حمارا له رأس إنسان، وما شاكل هذه مما يعمله المصورون والنقاشون من الصور المنسوبة إلى الجن والشياطين وعجائب البحر، مما له حقيقة ومما لا حقيقة له. وإنما يستوي للإنسان بهذه القوة المتخيلات والتصور لها لعلتين اثنتين: إحداهما من أجل أن هذه المتخيلات يجتمع عندها مواد كثيرة من رسوم المحسوسات مع اختلاف أجناسها وفنون أنواعها وسائر أشخاصها، فهي يمكنها بهذا السبب أن تركب منها ضروب التراكيب مما له حقيقة في الهيولى ومما لا حقيقة له.
والعلة الأخرى من أجل شرف جوهر النفس ولطافتها وشدة روحانيتها وسهولة قبولها رسوم المعلومات في ذاتها وتصورها لها؛ وذلك أن كل هيولى تكون ألطف جوهرا وأشد روحانية فإنه يكون لقبول الصور أسرع انفعالا وأسهل قبولا؛ مثال ذلك الماء العذب، فإنه لما كان ألطف جوهرا من التراب، صار لقبول الطعوم والأصباغ أسرع انفعالا وأسهل قبولا، لنظافته وعذوبته وسيلانه. وهكذا لما كان الهواء ألطف جوهرا من الماء وأشد سيلانا، صار قبوله للأصوات والروائح أسرع انفعالا وأسرع قبولا. وهكذا لما كان الضياء والنور ألطف من الهواء، صار قبولهما للألوان والأشكال أسرع وأشد روحانية. فكيف لطافة النفس وروحانيتها! ولعل هذا الباب يخفى على كثير ممن ينظر في دقائق العلوم من المحسوسات، فكيف بالنظر في الأمور الروحانية! وذلك أن جوهر النفس ألطف وأشد روحانية بكثير من جوهر النور والضياء، والدليل على ذلك قبولها رسوم سائر المحسوسات والمعقولات جميعا، فلهاتين العلتين صار الإنسان بالقوة المتخيلة يقدر على أن يتخيل ويتوهم ما لا يقدر عليه بالقوى الحساسة؛ لأن هذه روحانية وتلك جسمانية، ولأنها تدرك محسوساتها في الجواهر الجسمانية من خارج.
وأما القوة المتخيلة فهي تتخيلها وتتصور في ذاتها، والدليل على صحة ما قلنا أفعال الصناع البشريين؛ وذلك أن كل صانع يبتدئ أولا يتفكر ويتخيل ويتصور في وهمه صورة مصنوعة بلا حاجة إلى شيء من خارج، ثم يقصد بعد ذلك إلى هيولى ما، في مكان ما في زمان ما، فيصور فيها ما هو مصور في فكره بأدوات ما وبحركات ما، كما بينا في رسالة الصنائع العملية.
ومن خاصة هذه القوة أنها تعجز عن تخيل شيء لم تؤد إليه حاسة من الحواس؛ وذلك أن كل حيوان لا بصر له فهو لا يتخيل الألوان، وما لا سمع له فلا يتخيل الأصوات، ولا يتوهمها؛ لأن التخيل أبدا في تصوره للأشياء تبع للإدراك الحسي، والعقل في استنباطها تبع الدليل النفسي، فأما الإنسان فإنه لما كان يفهم الكلام أمكنه أن يتخيل المعاني إذا وصفت له.
(9) فصل في عجائب هذه القوة المتخيلة وتفاوت الناس فيها
فنقول: اعلم أن الناس في هذه القوة متفاوتو الدرجات تفاوتا بعيدا جدا، والدليل عليه أنك تجد كثيرا من الصبيان يكون أسرع تصورا لما يسمعون وأجود تخيلا لما يصف لهم كثير من المشايخ والبالغين؛ وذلك أن كثيرا من العلماء والعقلاء والمرتاضين في العلوم والآداب تعجز نفوسهم عن تصور أشياء كثيرة قد قامت الحجة والبراهين على صحتها.
ثم اعلم أن العلة في تفاوت درجات الناس في هذه القوة ليست من اختلاف جواهر نفوسهم، ولكن من أجل اختلاف تركيب أدمغتهم واعتدال أمزجتها أو فسادها وسوء مزاجها، كما ذكر ذلك في كتب الطب. ومن عجائب أفعال هذه القوة أيضا، وما يتأتى للإنسان أن يعمل بها أعمالا عجيبة، ما يحكى عن قوم من الكهنة من أهل الهند أنهم يؤثرون في غيرهم بأوهامهم أشياء عجيبة ينكرها أكثر الناس، فأما حكماء بلاد اليونان وفلاسفتها فيرون ذلك يمكن ويتأتى للإنسان في نفسه، فأما في غيره فبعيد جدا، ونحن قد بينا ذلك في رسالة الزجر.
ومن عجائب أفعال هذه القوة أيضا أنها تركب القياسات وتحكم بها على حقائق الأشياء بلا روية ولا اعتبار، مثل ما يفعل الصبيان والجهال وكثير من العقلاء أيضا، مثال ذلك أن الصبي الطفل إذا نشأ ورأى والديه وتأملهما وميز بينهما، ثم رأى صبيا آخر مثله حكم بتوهمه بأن لذلك الصبي والدين أيضا قياسا على نفسه، وإن يكن له أيضا أخ أو أخت يظن ويتوهم بأن لذلك الصبي مثل ما له قياسا على نفسه من غير فكرة ولا روية ولا تأمل.
وأنت يا أخي ما تقول في هذا، هل هذا قياس صحيح أو خطأ؟ حتى إنه ربما رأى في دار والديه دابة أو متاعا أو أصابه حر أو برد أو جوع أو عطش أو وجع أو غم، ظن وتوهم أن سائر الصبيان قد أصابهم مثل ذلك، قياسا على أحوال نفسه من غير فكر ولا روية في صوابه وخطائه ، حتى إذا كبر وتفكر وميز تبين له صوابه من خطائه في قياسه.
ثم اعلم أنك تجد كثيرا من الناس العقلاء ومن يتعاطى العلم هذا حكمهم في قياساتهم؛ وذلك أن كثيرا من الناس من إذا رأى في بلده ليلا أو نهارا، أو شتاء أو صيفا، أو حرا أو بردا، أو ريحا أو مطرا؛ ظن وتوهم بأن سائر البلاد مثله في ذلك الوقت، قياسا على ما وجد في بلده، فإذا نظر في علم الرياضيات من الهندسيات والطبيعيات تبين له أن قياسه كان خطأ أو صوابا. وهكذا تجد كثيرا من المرتاضين بهذه العلوم يتوهمون ويظنون بأن خارج العالم فضاء بلا نهاية، قياسا على ما يجدون خارج بلدانهم من بلادهم من سعة الأرض، ومن ورائها سعة الهواء، ومن ورائها سعة الأفلاك.
وهكذا أيضا إذا فكروا في كيفية حدوث العالم وخلق السموات والأرض، ظنوا وتوهموا أن ذلك كان في زمان ومكان، قياسا على أفعال البشريين، وإذا سمعوا من أهل البصائر قولهم بأن العالم لا في مكان لا يتصورون كيفية ذلك، فإذا قيل لا في زمان ظنوا وتوهموا أنه قديم بلا حجة ولا برهان.
(10) فصل في بيان فضيلة هذه القوة
فنقول: اعلم أنا قد ذكرنا أن لهذه القوة المتخيلة عجائب كثيرة، ووصفنا خواص أحوالها من أجل أنها من أعجب القوى الداركة، وأن أكثر العلماء تائهون في بحر هذه القوة وعجائب متخيلاتها؛ وذلك أن الإنسان يمكنه بهذه القوة في ساعة واحدة أن يجول في المشرق والمغرب والبر والبحر والسهل والجبل وفضاء الأفلاك وسعة السموات، وينظر إلى خارج العالم، ويتخيل هناك فضاء بلا نهاية، وربما يتخيل من الزمان الماضي وبدء كون العالم، ويتخيل فناء العالم ويرفع من الوجود أصلا، وما شاكل هذه الأشياء مما له حقيقة ومما لا حقيقة له.
وهذا الباب أحد الأسباب من جهة اختلاف العلماء في آرائهم ومذاهبهم في المعلومات؛ وذلك أنك تجد كثيرا من العقلاء إذا تفكروا وتخيلوا بهذه القوة شيئا ما، ظنوا أن ذلك حق وحكموا عليه حكما حقا بلا حجة ولا برهان .
وأيضا أن كثيرا منهم إذا سمع شيئا من العلوم فلم يتصوره - لعجز هذه القوة ونقصان فعلها فيه - أنكر وجحد ولم ينظر إلى الدليل والبرهان البتة.
فأما العقلاء المنصفون في الحكومة، الطالبون للحق، غير المعجبين بأنفسهم؛ إذا سمعوا بالأخبار عن شيء متوهم وتخيلوا شيئا، غالبا لم يحكموا على صحته وعلى بطلانه إلا بعد الحجة والبرهان على تحقيقه أو بطلانه كما يفعل المهندسون والمنطقيون.
وإذ قد ذكرنا طرفا من خواص هذه القوة المتخيلة وعجيب أفعالها نريد أن نذكر طرفا من خواص القوة المفكرة التالية في تناولها رسوم المحسوسات المتخيلات منها، التي هي أشرف أفعالا وأكثرها عجائب.
(11) فصل في بيان أفعال القوة المفكرة
فنقول: اعلم أن للقوة المفكرة خواص كثيرة وأفعالا عجيبة تستغرق فيها أفعال هذه القوة المتخيلة وأفعال سائر القوى الحساسة الدراكة؛ وذلك أن أفعال هذه القوة نوعان: فمنها ما يخصها بمجردها، ومنها ما تشترك هي مع قوة أخرى من قوى النفس، فمن ذلك الصنائع فإن أكثرها أفعال مشتركة بين هذه القوة المفكرة التي آلتها وسط الدماغ، وبين القوة الصناعية التي آلتها اليدان، ومنها الكلام والأقاويل واللغات أجمع فإنها أفعال مشتركة بين هذه القوة وبين القوة الناطقة التي آلتها اللسان، ومنها تناول رسوم المحسوسات المتخيلات فإنها أفعال مشتركة بين هذه وبين المتخيلة التي آلتها مقدم الدماغ، ومنها تناول رسوم المعلومات المحفوظة فإنها المشتركة بين هذه وبين القوة الحافظة التي آلتها مؤخر الدماغ.
وأما الأفعال التي تخصها بمجردها فهي الفكر والروية والتمييز والتصور والاعتبار والتركيب والتحليل والجمع والقياس البرهاني، ولها أيضا الفراسة والزجر والتكهين والخواطر والإلهام والوحي ورؤية المنامات وتأويلها.
أما بيان ذلك فنقول: إن الإنسان بالتفكر يستخرج غوامض العلوم بالروية، ويمكن له تدبير الملك والسياسة، وبالاعتبار يعرف الأمور الماضية مع الزمان، وبالتصور يدرك حقائق الأشياء، وبالتركيب يستخرج الصنائع، وبالتحليل يعرف الجواهر البسيطة والمركبة، وبالجمع يعرف الأنواع والأجناس، وبالقياس يدرك الأمور الغامضة الغائبة بالزمان والمكان، وبالفراسة يعرف ما في الطبائع، وبالزجر يعرف الحوادث وتصاريف الأحوال، وبالتكهين يعرف الكائنات بموجبات الأحكام الفلكيات، وبالمنامات وتأويلها يعرف الكائنات والبشارات والإنذارات، وبقبول الوحي والإلهام يعرف الوضع للنواميس الإلهية وتدوين الكتب المنزلة.
فأما فضائل هذه القوة وقضاياها على ما بين ها هنا وذلك أن هذه القوة المفكرة من بين سائر القوى الحساسة والمتخيلة ومدركاتها كالقاضي بين الخصماء ودعاويهم؛ وذلك أن من سنة القاضي ألا يحكم بين الخصوم إلا على سبيل معرفة شرعية وضعية معروفة بينهم، أو مقاييس عقلية متفق عليها بين الخصمين، ولا يقبل الدعاوى إلا بالشهود والصكوك وموازين ومكاييل معلومة معروفة بين الخصماء.
فهكذا حكومة هذه القوة المفكرة اتي مسكنها وسط الدماغ وقضاياها بين مدركات الحواس ومتخيلات الأوهام فيما يدعي العقلاء بينهم من المنازعات والخصومات في الآراء والديانات والمذاهب، فهي لا تحكم لأحد بين الخصمين بالصواب ولا بالخطأ إلا بعدما شهد شاهدان من الحواس الخمس أو نتائج مقدمات جزئية من أوائل العقول.
مثال ذلك في رجلين اختلفا في الحكومة في لون الشراب؛ يحكم أحدهما بأن ذلك لون الماء والآخر أبى، ثم تحاكما إلى القوة المفكرة، فلم تحكم هي لأحدهما بالصواب ولا بالخطأ إلا بعد شهادة شاهدين من الحواس؛ وهما القوة الذائقة والباصرة.
وهكذا لو أنهما اختلفا في رؤية الماورد أو خل مصاعد[2] أو نفط أبيض أو ما شاكلها من الأجسام التي يشبه لونها لون الماء ولمسها لمس الماء، فإن القوة المفكرة لا تحكم لأحدهما إلا بعدما تشهد القوة الذائقة والشامة بماهيتها.
وعلى هذا المثال والقياس ينبغي أن يكون سائر قضايا القوة المفكرة بين الناس فيما يختلفون فيه من الحكومة على المحسوسات والمتخيلات في الحكومات والقضايا جميعا.
فتفقد يا أخي هذا الباب واعتبر؛ فإنه أول طريق العلوم وأول الاختلافات التي وقعت بين الناس في المدركات من المحسوسات والمتخيلات.
وإذ قد ذكرنا طرفا من أسباب الاختلافات التي وقعت بين الناس في المدركات من المحسوسات والمتخيلات أجمع، فنريد أن نذكر طرفا من أسباب الاختلافات التي وقعت بين العقلاء في الأشياء التي تعلم بأوائل العقول؛ إذ كان هذا الباب تالي المحسوسات في النظام والترتيب؛ وذلك أن المعقولات التي هي في أوائل العقول ليست شيئا سوى رسوم المحسوسات الجزئيات الملتقطة بطريق الحواس من الأشخاص المجتمعة في فكر النفس المسمى أنواعا وأجناسا، كما بينا في رسالة القاطيغورياس.
ثم اعلم أن العقلاء متفاوتو الدرجات في معرفتهم هذه الأشياء التي تعلم بأوائل العقول تفاوتا بعيدا جدا، والدليل على ذلك بما قلنا أنك تجد كل إنسان يكون أكثر تأملا من المحسوسات وأجود اعتبارا للمتخيلات، فإن الأشياء التي تعلم بأوائل العقول تكون في نفسه أكثر عددا وأشد تحقيقا من غيره من الناس مثل المشايخ والمجربين للأمور المحسوسة.
والدليل على ذلك قوله تعالى: @QUR08 والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا، وقال: @QUR05 علم الإنسان ما لم يعلم، وقال: @QUR07 وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم، وقال: @QUR05 وفوق كل ذي علم عليم، وقال: @QUR09 يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات.
(12) فصل في بيان ما يعلم بأوائل العقول
فنقول: اعلم أن الأشياء التي تعلم بأوائل العقول، بعضها ظاهر جلي لكل العقلاء، وبعضها غامض خفي يحتاج إلى تأمل قليل، وبعضها يحتاج إلى تدقيق النظر وتأمل شديد؛ مثال ذلك قولهم: الكل أكثر من الجزء، إن هذا عند الحكماء ظاهر في أوائل العقول السليمة.
وأما قولهم إن الأشياء المختلفة إذا زيدت عليها أشياء متساوية كانت كلها في جميع أوائل العقول السليمة مختلفة يحتاج فيها إلى تأمل قليل.
وأما قولهم إذا كانت أربعة مقادير على نسبة واحدة، فإن في الأول من أضعاف الثاني مثل ما في الثالث من أضعاف الرابع، فهذا أيضا من الأشياء التي تعلمها بأوائل المعقول، ولكن يحتاج إلى بحث أشد ونظر أدق، وعلى هذا المثال يكون تفاوت المعقولات والأشياء التي تعلم بالعقول الثاقبة.
ثم اعلم أن كثيرا من العقلاء يظنون أن الأشياء التي تعلم بأوائل العقول مركوزة، فنسبتها لما تعلقت بالجسم، فهي تحتاج إلى التذكار، ويسمون العلم تذكرا ويحتجون بقول أفلاطون: «التعليم تذكر»، وليس الأمر كما ظنوا، وإنما اراد أفلاطون بقوله «العلم تذكر» أن النفس علامة بالقوة فتحتاج إلى التعليم حتى تصير علامة بالفعل، فسمي العلم تذكرا، ثم إن أول طريق التعاليم هي الحواس ثم العقل ثم البرهان، فلو لم يكن للإنسان الحواس لما أمكنه أن يعلم شيئا؛ لا المبرهنات ولا المعقولات ولا المحسوسات البتة.
والدليل على صحة ما قلنا أن كل ما لا يدركه الحواس بوجه من الوجوه لا تتخيله الأوهام، وما لا تتخيله الأوهام لا تتصوره العقول.
وإذا لم يكن شيء معقول، فلا يمكن البرهان عليه؛ لأن البرهان لا يكون إلا من نتائج مقدمات ضرورية مأخوذة من أوائل العقول، والأشياء التي هي في أوائل العقول إنما هي كليات أنواع وأجناس ملتقطة من أشخاص جزئية بطريق الحواس.
والدليل على ذلك الصبي لولا أنه قدر أن عشر جوزات أكثر من خمس، أو خشبة طولها عشرة أذرع أطول من أخرى لها ستة أذرع، فمن أين كان يمكنه أن يعلم أن الكل أكثر من الجزء؟
وعلى هذا القياس حكم سائر المعقولات، فإنها مأخوذة أوائلها من الحواس، والدليل على ذلك أيضا أنك تجد من كان أكثر محسوسات ولها أكثر تأملا وللمتخيلات أجود اعتبارا، فإن الأشياء المعقولة عنده أكثر عددا، ونفسه لها أكثر تحققا، فقد تبين بما ذكرنا أن الأشياء المعقولة ليست بشيء سوى رسوم المحسوسات الجزئيات الملتقطة بطريق الحواس من الأشخاص مجموعة في فكر النفس المسمى أنواعا وأجناسا، وأن العقل للإنسان - إذا تبين - ليس هو شيئا سوى النفس الناطقة، إذا تصورت رسوم المحسوسات في ذاتها، ميزت بفكرها بين أجناسها وأنواعها وأشخاصها، وعرفت جواهرها وأعراضها، وجربت أمور الدنيا واعتبرت تصاريف الأيام بين أهلها.
ثم اعلم أن كل من كان أكثر تأملا للمحسوسات، وأدق نظرا في أمور الموجودات، وأجود بحثا عن الخفيات، وأكثر تجارب للأمور الدنياوية، وأحسن اعتبارا لأهلها؛ كان أرجح عقلا من أبناء جنسه وأكثر علما من أهل طبقته.
ثم اعلم أن العقلاء متفاوتو الدرجات في عقولهم تفاوتا بعيدا جدا، لا يقدر قدره إلا الله تعالى، الذي خلقهم وفضل بعضهم على بعض كما اقتضت حكمته وسبق علمه في خلقه.
ثم اعلم أن لتفاوت الناس في درجات عقولهم عللا شتى وأسبابا عدة، فمن إحدى تلك العلل كثرة فضائل العقول ومناقب العقلاء التي لا يحصي عددها إلا الله تعالى، ولا يمكن أن تجتمع تلك الفضائل في شخص واحد موفرة، كما بينا، من امتناع ارتياض النفس الواحدة بجميع أصناف العلوم مع قصر العمر واعتراض العوائق؛ ولأن كلية العلوم موضوعة بإزاء قوى جميع الناس، كما أن كلية الصناعات موضوعة بإزاء قوى جميع الصناع.
ولكن يجب للإنسان أن يختار الأولى والأشرف والأفضل؛ وذلك أن العقلاء هم أفاضل الناس، والإنسان أفضل من الحيوانات، والحيوان أشرف من النبات، والنبات الأركان ومخ طبائعها، والإنسان صورة مختصرة من جميع صور الحيوان، وهو المجموع فيه أمزجة قوى النبات وخواص المعادن وطبائع الأركان والمولدات الكائنات منها أجمع.
وهذه كلها لا يمكن أن تجتمع في شخص واحد، فتفرقت في جميع الأشخاص هذه الصور، فمكثر ومقل، حتى عمرت الدنيا بهم، فهذا أحد أسباب اختلاف طبائعهم، واختلاف طبائعهم أحد أسباب اختلاف تفاوت عقولهم.
والعلة الثانية في تفاوت الناس في درجاتهم في عقولهم هي خواص جواهر نفوسهم التابعة في إظهار أفعالهم لأمزجة أبدانهم. والثالثة هي كثرة غرائب علومهم ومعارفهم التي لا يمكن أن يحويها كلها إنسان واحد. الرابعة عجائب أفعالهم وفنون أعمالهم واختلاف صنائعهم وتصاريفهم في طلب معاشهم، وأحكام تدبيرهم في سياستهم كثيرة لا تحصى، ولا يمكن أن ينهض بها كلها إنسان واحد. والخامسة اختلاف أخلاقهم المتضادة في الحسن والقبح ومجاري عاداتهم بين الجودة والرداءة مما لا يمكن أن تجتمع كلها في إنسان واحد. والسادسة نشوءهم على اختلاف سنن دياناتهم وتباين مذاهب آبائهم وآراء أستاذيهم ومعلميهم.
ثم اعلم أن هذه الخصال والمناقب كلها لا يمكن أن تجتمع في شخص واحد، فمن أجل هذا فرقت في جميع أشخاص الإنسان كلها، مع كثرتها، ولا تخرج من صور الإنسان البتة التي هي إحدى الصور التي تحت فلك القمر، وهي صورة الصور، فلأجل ذلك تراه في غاية الاعتدال في حال الفطرة، ثم تخرجه عن ذلك عاداته الحسنة والرديئة فتصير كالطبع له، والعادة توأم الطبيعة، وقيل طبيعة منتزعة، وقيل صعب عادة منتزعة، كما قيل صعب طلب ما ليس في الطبع.
ثم اعلم أن هذه الصورة هي خليفة الله في أرضه متحكمة فيها مع كثرتها على حيواناتها ونباتاتها ومعادنها حكم الأرباب على خولها إذ سجدوا لها بجملتها، وهي صورة واحدة، وإن كانت أشخاصها كثيرة فإن حكم جميع الأشخاص في هذه الصورة كحكم جميع أعضاء بدن الإنسان الواحد لصورة نفسه، وهي المتحكمة في جميع البدن، على عضو عضو ومفصل مفصل وحاسة حاسة، من يوم الولادة إلى يوم الفراق - كما بينا في رسالة تركيب الجسد - فهكذا حكم هذه الصورة في جميع أشخاص البشر الأولين والآخرين من يوم خلق الله تعالى السموات والأرض. وآدم أبو البشر الترابي له الحكم في هذه الأرض والربوبية على جميع ما فيها إلى يوم القيامة الكبرى @QUR04 فسجد الملائكة كلهم أجمعون، كما بينا في رسالة البعث والقيامة. وإذ قد تبين مما ذكرنا طرف من علل تفاوت العقلاء في درجات عقولهم، نريد أن نذكر أيضا كيف تبين فيهم رجحان العقول والمعقول، وكيف يعرف ذلك فيهم.
(13) فصل في بيان رجحان العقول للعقلاء
فنقول: إن ذلك يتبين فيهم ويعرف منهم بحسب طبقاتهم في أمور الدنيا ومراتبهم في أمر الدين، وهي كثيرة لا يحصي عددها إلا الله تعالى، ولكن نجمعها كلها في هذه التسعة الأقسام للتقرب من الفهم ونحصرها للحفظ، فنقول: إن منهم أهل الدين والشرائع والنبوات وأصحاب النواميس ومن دونهم من الموسومين بحفظ أحكامها ومراعاة سننها والمعروفين بالتعبد فيها، ومنهم أهل العلم والحكماء والأدباء وأصحاب الرياضات الموسومين بالتعاليم والتأديب والرياضات والمعارف، ومنهم الملوك والسلاطين والأمراء والرؤساء وأرباب السياسات والمتعلقين بخدمتهم من الجنود والأعوان والكتاب والعمال والخزان والوكلاء ومن شاكلهم، ومنهم البناء والزارعون والأكرة والرعاة للشاة وساسة الدواب ورعاة الحيوان أجمع، ومنهم الصناع وأصحاب الحرف والمصلحون للأمتعة والحوائج جميعا، ومنهم التجار والباعة والمسافرون والجلابون للأمتعة والحوائج من الآفاق، ومنهم المتعيشون الذين يعيشون في خدمة غيرهم وقضاء حوائجهم يوما بيوم، ومنهم الضعفاء والسؤال والمكديون ومن شاكلهم من الفقراء والمساكين.
ثم اعلم أن كل إنسان من أهل هذه الطبقات - كائنا من كان - لا يخلو من أن يكون فيها رئيسا سائسا لغيره، أو يكون مرءوسا مسوسا فيها بغيره. ورجحان عقل كل رئيس سائس يتبين فيها ويعرف منه في حسن سياسته وتدبير رياسته وحسن عشرته مع أبناء جنسه، ما لم يخرج من سنة شريعته وحكم الناموس. ورجحان عقل كل مرءوس مسوس يتبين فيه ويعرف منه في حسن طاعته لرئيسه، وسهولة انقياده لأمر سائسه، وحسن عشرته مع أبناء جنسه، ما لم يكن ذلك قدحا في دينه أو نقصا لاعتقاده. ورجحان عقل كل متدين يتبين فيه ويعرف منه في حسن قيامه بواجبه عليه في أحكام شريعته وسنة دينه، وحسن عشرته مع أبناء جنسه، ما لم يكن تاركا للأفضل، ولا غاليا في دينه، ولا متقلبا في مذهبه. ورجحان عقل كل عالم أو أديب أو حكيم يتبين فيه ويعرف منه في حسن كلامه وتحصيل أقاويله وجودة تأديبه وحسن عشرته مع أبناء جنسه، ما لم يدع ما لا يحسنه أو ينكر فضل غيره. ورجحان عقل كل صانع وصاحب حرفة يتبين فيه ويعرف منه في محكمات صنعته وحسن عشرته مع أبناء جنسه، ما لم يتعاط ما لا يحسنه أو يتكلف ما ليس في صناعته. ورجحان عقل كل تاجر بائع مشتر يتبين فيه ويعرف منه في صحة معاملته وحسن عشرته مع أبناء جنسه، ما لم يكذب في بيعه وشرائه. ورجحان عقل كل فقير مسكين أو ضعيف أو مبتلى يتبين فيه ويعرف منه في حسن عشرته وقلة جزعه وإجماله في الطلب وحسن عشرته مع أبناء جنسه، ما لم يلح في السؤال ويتسخط عند الحرمان.
(14) فصل في بيان فضل الفقراء والمساكين وأهل البلوى
فنقول: اعلم أن هذه الطائفة هي رحمة للأغنياء وموعظة للمترفين ولمن كان معافى ولأرباب النعم؛ ليكون كل عاقل معافى، إذا فكر بهم واعتبر بأحوالهم، علم بأن الذي أعطاه وعافاه هو الذي منعهم وابتلاهم، ويعلم إن لم يكن للغني المعافى عند الله يد وإحسان جازاه بها ولا لواحد عند الله إساءة كافأه عليها، فإذا فكروا في هذه الأحوال واعتبروا أحوال الفقراء وأهل البلوى، عرفوا حسن موقع النعم عندهم، فيزدادون لله شكرا يستوجبون به المزيد، كما قال الله تعالى: @QUR03 لئن شكرتم لأزيدنكم، فبهذا الوجه والاعتبار صاروا هم رحمة للأغنياء وموعظة لمن كان معافى. وخصلة أخرى أيضا أن أهل الدين ومن يؤمن بالآخرة إذا نظروا إلى هؤلاء واعتبروا أحوالهم يزدادون يقينا من الآخرة، ويعلم كل عاقل أن من بعد هذه الحياة الدنيا دارا أخرى يجازى بها هؤلاء المبتلون بما صبروا على مصائبهم من أمور الدنيا، كما قال تعالى: @QUR06 إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.
ثم اعلم أن لهذه الطائفة - أعني الفقراء وأهل البلوى - فضائل كثيرة، ولله تعالى في إيجادهم حكمة جليلة تخفى على كثير من العقلاء والمترفهين من أبناء الدنيا؛ فمنها أنهم أشد الناس يقينا بالآخرة من غيرهم من المترفين، وأنهم أسرع الناس إجابة لدعوة الأنبياء، عليهم السلام، من غيرهم من المترفين من أرباب النعم والأغنياء، وأنهم أقل من غيرهم من الأغنياء، وأنهم أخف مؤنة وأقل حوائج وأقنع باليسير وأرضى بالقليل من غيرهم من الناس، وأنهم أكثر ذكرا لله تعالى في السر والعلانية، وأرق قلوبا في الفكرة والتذكر، وأخلص في الدعاء لله في السراء والضراء، وخصال أخر كثيرة لو عددناها لطال الكلام ويخرج بنا عما نحن فيه. وإنما ذكرنا طرفا من فضائلهم لأن كثيرا من العقلاء المترفين إذا نظروا إليهم يظنون بالله ظن السوء؛ فمنهم من يرى أن الذي نالهم من ذلك من سوء اختيارهم وشؤمهم وخذلانهم، ومنهم من يرى أن الصواب لو أنهم لم يخلقوا لكان ذلك خيرا لهم، ومنهم من يرى أنهم معاقبون بما سلف منهم في الأدوار الماضية من الذنوب، وهذا رأي أصحاب التناسخ، ومنهم من يرى أن الله تعالى ليس يفكر بهم ولا يهمه أمرهم، وإلا كان قادرا على أن يغنيهم أو يميتهم ويريحهم مما هم فيه من الجهد والبلوى، ومنهم من يرى أن هذا ليس يجري بعلم عالم أو حكم حكيم، بل هو بحسب سوء اتفاق رديء، ومنهم من يرى أن هذه موجبات أحكام الفلك من غير قصد قاصد ولا صنع صانع، ومنهم من يرى أن هذا إنما يفعل بهم ليجازوا به ويثابوا عليه، ومنهم من يرى أن هذه الحال أصلح لهم وأنفع من غيرها، ومنهم من يرى أن هذا كان في سابق العلم والقدر المحتوم لم يكن بد من كونه، ومنهم من يرى أنه إظهار القدرة وتحكم في الملك وإنفاذ المشيئة، ومنهم من يرى أن هذه موعظة ووعيد وتهديد وتخويف لغيرهم، ومنهم من يرى أن هذا هو الأحكم والأتقن، وإن كان لا يدري ما وجه الحكمة في ذلك، فليس إلا الإيمان والتسليم والصبر والرضا بما يجري به القضاء والمقادير، كما قال تعالى: @QUR04 ليبلوكم أيكم أحسن عملا، وقال: @QUR05 أم حسبتم أن تدخلوا الجنة.
وإنما ذكرنا في شرح هذا الباب لأن هذا البحث والنظر من إحدى أمهات الخلاف بين العلماء المتفرع منها فنون الآراء والمذاهب، وهي محنة لعقول ذوي الألباب، ورجحان عقل كل صاحب مذهب يتبين فيه ويعرف منه في نصرته لدينه بحجج متقنة ومساعدة لأهل مذهبه مما يتعلق به وحسن عشرته مع أبناء جنسه، ما لم يكن معتقدا للرأيين المتناقضين، فإنه عند ذلك يكون مخالفا لنفسه في مذهبه ومناقضا لمذهبه باعتقاده، وهذا من أكبر العيوب عند العقلاء ومن أشنع اعتقادهم عند العلماء.
ثم اعلم أنه ليس على العقلاء كثير عيب في مخالفة بعضهم بعضا؛ لأن ذلك من أجل تفاوت درجاتهم كما ذكرنا قبل.
وأما مخالفة الإنسان الواحد في نفسه في رأيه ومذهبه، فإنها تدل على قلة التحصيل ورداءة التمييز وسخف الرأي، التي بأضدادها يفتخر العقلاء بعضهم على بعض، وخصلة أخرى في عذر العقلاء فيما يختلفون في الفروع؛ وذلك أنه عسر جدا اجتماع العقلاء على رأي واحد كلهم في شيء واحد، وإنما يتفقون في الأصول ويختلفون في الفروع، فأما إنسان واحد فليس يعسر أن يعتقد في شيء رأيا واحدا، وألا يعتقد رأيين متناقضين. وإذ قد تبين مما ذكرنا طرف من كيفية رجحان عقول العقلاء في تصرفاتهم في أمور الدين والدنيا، وكيف يعرف ذلك منهم، فنريد أن نذكر طرفا من أحوال العلماء الذين هم أفضل العقلاء، ونبين مراتبهم في العلوم والصنائع والمعارف، وكيفية معلوماتهم التي في أوائل العقول المتفق عليها بين أهل كل صناعة وعلم ومذهب فيما يخصهم وما يتميزون به عن غيرهم.
(15) فصل في الفرق بين أصول الصنائع والعلوم وفروعها
فنقول: اعلم أن لكل علم وأدب وصناعة ومذهب أهلا، ولأهلها فيه أصولا، فهم فيها متفقون كلها في أوائل عقولهم ولا يختلفون فيها، وإن كانت عند غيرهم بخلاف ذلك، وإن لتلك الأصول أيضا فروعا وهم فيها يختلفون، ولهم في كل أصل قياسات عليها يتفرعون، وموازين بها يتحاكمون فيما يختلفون، وهي كثيرة لا يحصي عددها إلا الله الواحد القهار، ولكن نذكر منها طرفا ليكون إرشادا لمن يريد النظر فيها والباحثين عنها، فنبدأ أولا بصناعة العدد التي هي أول الرياضيات، فنقول:
إن الأصل المتفق عليه بين أهلها هو معرفتهم لماهية العدد وكيفية نشوئه من الواحد الذي قبل الاثنين، وعلمهم بأن العدد ليس هو شيئا سوى كثرة الآحاد، يتصورها الإنسان في نفسه من تكرار الواحد في التزايد بلا نهاية، وعلمهم بأن تلك الكثرة كم بلغت لا تخلو من أن تكون أزواجا وأفرادا؛ آحادها وعشراتها ومئاتها وألوفها بالغا ما بلغ.
وهذا هو الأصل المتفق عليه بين أهل صناعة الأرثماطيقي الذين لا يختلفون فيه.
وأما كمية أنواعها وخواص تلك الأنواع فهم في معرفتها متفاوتو الدرجات، كل ذلك بحسب تفاوتهم في قوى نفوسهم وجودة بحثهم ودقة نظرهم وحسن تأملهم وكثرة اعتبارهم.
وهكذا أيضا صناعة الهندسة فإن الأصل المتفق عليه بين أهلها ومعرفتهم بالمقادير الثلاثة، التي هي الخط والسطح والجسم، والأبعاد الثلاثة التي هي الطول والعرض والعمق وما يعرض فيها من الزوايا والأشكال والأوضاع وما شاكلها، فإن هذه الأشياء كلها كانت في أوائل عقولهم، وإن كانت عند غيرهم بخلاف ذلك.
فأما أنواع هذه الأصول وخواص تلك الأنواع وما يعرض فيها من المناسبات العجيبة وما ينتج عنها من المباحث الدقيقة، فهم فيها متفاوتو الدرجات بحسب تفاوت قوى نفوسهم فيها وجودة بحثهم عنها ودقة نظرهم فيها وشدة تأملهم لها.
وهكذا أيضا حكم صناعة التنجيم، الذي يسمى علم الهيئة، فإن الأصل المتفق عليه بين أهلها هو معرفتهم بأن السماء كرية الشكل، وأن الأرض كرية أيضا موضوعة في وسط السماء، وأن المركز واحد مشترك بها، وأن الأرض ثابتة، والسماء متحركة حولها على استدارة كدورة الدولاب في كل يوم وليلة دورة تامة.
وتركيب الأفلاك التسعة وتخطيط الدوائر العظام وقسمة البروج الاثني عشر، والكواكب السبعة السيارة والثابتة الباقية، وكيف تكون الأرض في مركز العالم؛ فإن هذه الأشياء كلها كأنها في أوائل عقولهم؛ إما تسليما أو استبصارا أو برهانا، وإن كان عند غيرهم بخلاف ذلك.
فإن هذه الأشياء أوائل في هذه الصنعة لتقررها واتفاق أهلها عليها، سواء كانوا في اعتقاد صحتها مقلدين لغيرهم مسلمين لهم، أو مستبصرين في ذلك يعلمونه ببراهين، وإن كان عند غيرهم بخلاف ذلك.
وأما معرفتهم بكيفية تركيب أفلاك التداوير والأفلاك الخارجة المراكز والأوج والحضيض والجيب والميل والعرض والطول، وما توصف به البروج من الأوصاف المختلفة، وما توصف به الأقاليم السبعة وأحوالها في الطول والعرض واختلاف الليل والنهار فيها، وما شاكل هذه المباحث؛ فإنهم في معرفتها متفاوتو الدرجات، كل ذلك بحسب تفاوت قوى نفوسهم وجودة بحثهم عنها ودقة معرفتهم فيها وشدة تأملهم لها.
وأيضا حكم صناعة التأليف الذي يسمى الموسيقى، فإن الأصل المتفق عليه بين أهلها هو معرفتهم بالنسب التي هي العددية والهندسية والتأليفية؛ وذلك أن كل مصنوع مركب من أشياء مختلفة؛ لأنه لا يخلو تركيب أجزائه وتأليف بنيته من إحدى هذه الثلاث، فما كان منها تأليفه على النسبة الأفضل فإنه يكون أحكم إتقانا وأجود هنداما وأحسن نظاما، وما كان على النسبة الأدون فهي بخلاف ذلك، وما كان بينهما فهو متوسط.
والناظرون في هذا العلم والصناعة هم في معرفته متفاوتو الدرجات بحسب تفاوت قوى نفوسهم وجودة قرائحهم، وصفاء أذهانهم وكثرة رياضاتهم، وطول دربتهم ونظرهم وبحثهم عنها وتأملهم لها.
وهكذا أيضا حكم علم الطبيعيات؛ يعني بها الأجسام وما يعرض فيها من الأعراض المتفننة، وما يوصف بها من الصفات المختلفة ، وهي كثيرة الفنون، ولكل فن منها أصول ولها فروع، ولكن الأصل الأول فيها كلها المتفق عليه بين أهلها هو معرفة خمسة أشياء؛ وهي: الهيولى والصورة والمكان والزمان والحركة؛ لأن هذه الأشياء الخمسة محتوية على كل جسم، فلكيا كان ذلك الجسم أو ما دونه من الأركان.
فأما الذي يتفرع من هذا الأصل فنوعان: أحدهما عالم السموات والأفلاك، والآخر عالم الكون والفساد الذي هو تحت فلك القمر. والأصل المتفق عليه بين أهل هذا العلم هو معرفتهم بأن حكم العالم بجميع أفلاكه وطبقات سمواته والقوى السارية فيها تجري مجرى جسم إنسان واحد وحيوان واحد، يتحرك عن محرك واحد بحركة واحدة.
وأما كيفية تركيبها وفنون حركاتها وما يختص كل واحد منها، فهم في معرفتها متفاوتو الدرجات بحسب قوى نفوسهم وشدة بحثهم عنها وجودة نظرهم فيها وشدة تأملهم لها.
وهكذا حكم الكون والفساد، فإن الأصل المتفق عليه بين أهلها فيها هو معرفتهم بالطبائع الأربع، التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، والأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، وكيفية استحالة بعضها إلى بعض في بعض الأزمان وبعض المكان.
وأما فنون الكائنات منها في تلك الأماكن وفي تلك الأزمان وفي تلك الأجناس، فإنهم في معرفتها متفاوتو الدرجات بحسب قوى نفوسهم وجودة بحثهم ونظرهم وتأملهم.
واعلم يا أخي أن الكائنات التي هي من استحالة هذه الأركان أربعة أنواع: فمنها حوادث الجو وتغيرات الهواء، ومنها الكائنات التي في باطن الأرض المسماة المعادن، ومنها الكائنات على وجه الأرض التي تسمى النبات، ومنها الكائنات التي تسمى الحيوان، وكل جنس من هذه الأربعة فإن النظر فيه هو صناعة قائمة بنفسها.
فأما الأصل المتفق عليه في حوادث الجو بين أهل هذه الصناعة، فهو معرفتهم بطبيعة كرة النسيم وكرة الزمهرير وكرة الأثير والبخارين الصاعدين: الرطب واليابس من البحار والبراري.
فأما كيفية حوادث الكائنات منها والرياح والأمطار والبروق والرعود والبرود والثلوج والهالات والشهب وذوات الأذناب في هذه الأكروبين سطوحها المشتركة، فإنهم في معرفتها متفاوتو الدرجات، كل ذلك بحسب تفاوت قوى نفوسهم وجودة بحثهم ونظرهم وتأملهم.
وهكذا الأصل المتفق عليه في كون المعادن، وهو معرفتهم بالزئبق والكباريت اللذين هما عنصران ولباب جواهر المعدنية كلها.
وأما علة اختلاف بقاع الأرض والمواضع المخصوصة لها وفنون أنواعها، مثل: الذهب والفضة والنحاس والرصاص والأسرب والحديد والكحل والزرنيخ والشبوب والزاجات والأملاح والنفط والقار والإسفيذاج، وما شاكلها، وخواصها وتصاريفها؛ فهم في معرفتها وعلمها متفاوتو الدرجات بحسب قوى نفوسهم وجودة تأملهم لها.
وهكذا أيضا حكم النبات؛ فإن منه ما له حب أو بذر يزرع، ومنه ما هو أشجار تغرس، ومنه ما هو حشائش تنبت. وكذلك حكم الحيوان؛ فإن منها ما يتولد في الأرحام، ومنها ما يخرج من البيض، ومنها ما يكون من العفونات، فهذا هو الأصل المتفق عليه بين أهلها.
وأما معرفتهم بعلة اختلاف أنواعها وخواصها واختلافها وأفعالها ومتصرفاتها ومنافعها ومضارها، فإن أهلها فيها متفاوتو الدرجات، كل ذلك بحسب قوى نفوسهم فيها وجودة بحثهم عنها ودقة نظرهم وتأملهم فيها.
وأما علوم المنطق فهي نوعان: لغوي وفلسفي؛ فاللغوي مثل صناعة النحو، والأصل المتفق عليه بين أهلها هو معرفتهم بالأسماء والأفعال والحروف وإعرابها من الرفع والنصب والخفض، ومثل صناعة الخطب التي الأصل فيها هو معرفة السجع والفصاحة وضرب الأمثال والتشبيهات، ومثل صناعة الشعر التي الأصل فيها معرفة المفاعيل والأسباب والأوتاد والحروف المتحركات والسواكن.
فأما النظر في فروعها ومعرفة المنزحفات منها والعويص وعللها، فهم فيها متفاوتو الدرجات بحسب نفوسهم وطول دربتهم ودوام رياضتهم.
وهكذا أيضا المنطق الحكمي هو فنون شتى؛ منه صناعة البرهان، ومنه صناعة الجدل، ومنه صناعة السفسطائي، يعني المغالطين.
فأما صناعة البرهان، فإن الأصل المتفق عليه بين أهلها هو معرفتهم بمعاني الستة الألفاظ التي في إيساغوجي، والعشرة التي في كتاب قاطيغورياس والعشرين كلمة التي في باريميناس، والسبعة التي في أنولوطيقا.
فأما ما يتفرع من فنون المعاني وما يعرض فيها من غرائب المباحث، فبحر عميق قد تاه فيه أفهام كثير من الناظرين فيها، وتحيرت عقول كثير من المباحثين عنها، لدقة المعاني لهذه الصناعة وعجيب أصولها وكثرة فروعها وبعد مرامي أهلها؛ لأن من هذه الصناعة تعرف آداب الفلسفة وأدب الحكم وميزان العقل ومقاييس الحقائق التي تسمى البرهان.
فقد تبين مما ذكرنا أن لكل علم وصناعة أصولا متفق عليها بين أهلها، وكأنها في أوائل عقولهم ظاهرة بينة، وإن كان غيرهم بخلاف ذلك، مثال ذلك قول المهندسين: إن كل ضلعين من أضلاع المثلث مجموعين هما أطول من الباقي؛ أي من الضلع الثالث، فإن هذه الحكومة عندهم كأنها في أولية عقولهم ظاهرة بينة، وأما قولهم «إن الضلع الأطول من كل مثلث يوتر الزاوية العظمى فهو أدق وأخفى قليلا» فيحتاج فيه إلى تأمل، وأما قولهم «إن الزوايا الثلاث من كل مثلث مساوية لزاويتين قائمتين» فيحتاج فيه إلى برهان ومقدمات.
وهكذا أيضا صناعة المنطق، فإن فيها أشياء كأنها في أوائل عقولهم ظاهرة بينة، وهو قولهم: الضدان لا يجتمعان في شيء واحد في زمان واحد، فإن هذه الحكومة بينة ظاهرة.
وأما التي هي أدق من هذا ويحتاج فيها إلى البرهان، فهي مثل قولهم: كون كل شيء فساد لشيء آخر.
وعلى هذا المثال يكون حالهم في المقولات عند أهل كل صناعة وعلم وأدب ومذهب، يوجد أشياء كأنها في أوائل عقولهم وأشياء أخر مثل ثوان وثوالث وروابع بالغا ما بلغ، مثال ذلك أن الحكومات التي في كتاب المجسطي على هيئة الأفلاك في تركيبها هي بعد النظر في علم المناظر ومعرفة الأبعاد والأجرام، وعلم المناظر بعد علم الهندسة والنظر في كتاب إقليدس، وعلى هذا المثال أوائل كل صنعة مأخوذ من صناعة أخرى قبلها، وأن علم البرهان بعد المعقولات والمحسوسات.
واعلم أن كل صناعة مأخوذة من صناعة أخرى كما تقدم ذكره، وأن أهل كل صناعة أو علم أو مذهب هم بصناعتهم وأصولها وفروعها أعلم وأعرف من غيرهم؛ وإنما ذلك لتعلمهم لها ودربتهم فيها وطول تجاربهم إياها.
فأما سبب اختلافهم في فروعها فهو من أجل تفاضلهم فيها، وأن المتعلم المبتدي بها لا يمكنه أن يسأل الفاضل الكامل فيها ويعارضه ويطالبه بالدليل والحجة، ويناقضه من غير بصيرة ولا بيان، وهذه البلية العظمة في الصنايع والعلوم والمحنة على أهلها الفاضلين فيها، ولكن من أشد بلية على الصناعة وأعظم محنة على أهلها، هو أن يتكلم عليها من ليس من أهلها ويحكم في فروعها ولا يعرف أصلها؛ فيسمع منه قوله، ويقبل منه حكمه، وهذا الباب من أجل أسباب الخلاف الذي وقع بين الناس في آرائهم ومذاهبهم؛ وذلك أن قوما من القصاص وأهل الجدل يتصدرون في المجالس، ويتكلمون في الآراء والمذاهب، ويناقضون بعضها بعضا، وهم غير عالمين بماهيتها، فضلا عن معرفتهم بحقائقها وأحكامها وحدودها، فيسمع قولهم العوام، ويحكمون بأحكامهم، فيضلون ويضلون وهم لا يشعرون.
واعلم أن الجدل هو أيضا صناعة من الصنائع، ولكن الغرض منها ليس هو إلا غلبة الخصم والظفر به كيف كان؛ ولذلك يقال: الجدل فتل الخصم عما هو عليه؛ إما بحجة أو شبهة أو شعبة، وهو الثقافة في الحرب، والحرب - كما قيل - خدعة، وهو يشبه الحرب والمعركة؛ إذ الحرب خدعة.
فصل
ثم اعلم أن الأصل في هذه الصناعة المتفق عليها بين أهلها هو معرفة الدعاوى والسؤالات والجوابات والدليل.
فأما كيفية السؤالات وأجوبتها والاستدلالات بالشاهد على الغائب، وبالظاهر على الباطن، وبالمحسوسات على المعقولات، والحكم على الكل باستقراء الأجزاء في أي شيء يجوز، وفي أي شيء لا يجوز، وكيف اطراد العلة في معلولاتها، وكيفية قياس الفروع على الأصول ومعارضة الدعوى بالدعوى، والدليل بالدليل، وقلب المسألة على الأصل، ومناقضة أصلها لفروعها، ومقايسة الأصل بالأصل والفرع بالفرع، ولوازم الشناعات وما يعرض فيها وفي معرفتها لأهلها من الانقطاع والشكوك والحيرة؛ فهم فيها متفاوتو الدرجات كل ذلك بحسب قوى نفوسهم وجودة ذكائهم ودقة نظرهم وبحثهم ومكابرتهم ووقاحتهم وشغبهم.
ثم اعلم أنه ليس من صناعة ولا علم ولا أدب يعرض لأهله فيها من الحيرة والدهشة والشكوك والظنون والخطأ والعدوان والبغضاء بينهم، ما يعرض لأهل صناعة الجدل فيما يعتقدون فيها ويجادلون عنها؛ والعلة في ذلك أسباب شتى: منها أن جميع الصنايع والعلوم والمذاهب والآراء موضوعة لهم، يتكلمون عليها، ويعارضون فيها، ويجادلون عنها قبل النظر والبحث عنها والعلم فيها. وعلة أخرى أنه يمكن أن يداخلهم في صناعتهم من ليس منهم بالسؤال لهم والمعارضة في دعاويهم والمناقضة لأجوبتهم؛ لأن السؤال أسهل من الجواب، والمعارضة دعوى تحاذي دعوى، والمناقضة أسهل من إثبات الحجة؛ لأنها إفساد، والإفساد أسهل من الإصلاح في أكثر الأشياء. وخصلة أخرى أنهم ربما يكونون مقلدين في أصول ما يجادلون فيه من المذاهب، فيبصرون الفروع، ومن يكون في الأصل على التقليد كيف يمكنه أن يبصر الفروع على تبصرة. وخصلة أخرى، أن أكثرهم ربما جادل فيصر الرأي والمذاهب، لا على سبيل الورع والتدين وطلب الحق، لكن على سبيل التعصب والحمية، والتعصب والحمية يعميان عن الحق ويضلان عن الصواب.
ثم اعلم أنه ليست من طائفة تتعاطى العلم والأدب والكلام أشر على العلماء، ولا أضر على الأنبياء، ولا أشد عداوة لأهل الدين، وأفسد للعقول السليمة من كلام هذه الطائفة المجادلة الظلمة، وخصوماتهم في الآراء والخصومات والمذاهب؛ وذلك أنهم أن كانوا في أزمان الأنبياء عليهم السلام وعند مبعثهم، فهم الذين يطالبونهم بالمعجزات ويعارضونهم بالخصومات، مثل ما قالوا للنبي عليه السلام: @QUR09 لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا، وقالوا لنوح عليه السلام: @QUR07 وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا وهم الذين إذا مروا بالمؤمنين يتغامزون، وقال تعالى في ذمهم: @QUR09 ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون، فهذه حال من كانوا يعارضون أهل الدين في أزمان الأنبياء عليهم السلام.
فأما إذا كانوا في غير أزمان الأنبياء فهم الذين يعارضون أهل الدين والورع بالشبهات، وينبذون كتب الأنبياء عليهم السلام وراء ظهورهم، يفرعون الآراء والمذاهب بعقولهم الناقصة وآرائهم الفاسدة، ويضعون لمذهبهم قياسات مناقضة واحتجاجات مموهة، ويعارضون بها العقلاء من الأحداث والعامة، فيضلونهم عن سنن دياناتهم النبوية، ويعدلون بهم عن موضوعات الشرائع الناموسية.
ثم اعلم أنه ليس من صناعة بين أهلها من التفاوت ما بين أهل هذه الصناعة؛ وذلك أنك تجد فيهم من يكون له جودة عبارة وفصاحة كلام وسحر بيان، يقدر معه على أن يصور بوصفه البليغ الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق، وهو مع ذلك جاهل القلب عن حقائق الأشياء ، بعيد الذهن عن المعارف.
وروي عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أخوف ما أخاف على أمتي رجل منافق، عليم اللسان غير حكيم القلب، يغيرهم بفصاحته وبيانه، ويضلهم بجهله وقلة معرفته.»
وتجد فيهم أيضا من يجادل ويحتج ويناظر، كلامه ينقض بعضه بعضا ولا يدري بذلك، فإذا نبه عليه لم يشعر به، وتجد فيهم أيضا الرجل العاقل الذكي المحصل في أشياء كثيرة من أمور الدنيا، فإذا فتشت اعتقاده في أشياء بينة ظاهرة في العقول السليمة من الآراء الفاسدة، وجدت رأيه واعتقاده في تلك الأشياء أسخف وأقبح من رأي كثير من الجهال والصبيان.
والعلة في ذلك أسباب شتى: منها شدة تعصبه فيما يعتقده بقلبه من غير بصيرة؛ وأخرى إعجابه بنفسه في اعتقاده؛ وأخرى اعتقاده الأصول، خفي فيها خطؤه، بين ظاهر الشناعة في فروعها، فهذا يلزم ذلك الشناعات في الفروع مخافة أن تنتقض عليه الأصول، ويطلب لها وجوه المراوغة عن إلزام الحجة عليه، تارة يشغب، وتارة يموه، وتارة يروغ في الجواب والإقرار بالحق، ويأنف أن يقول: «لا أدري، والله ورسوله أعلم!» كما كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سئلوا عما لا يدرون قالوا: «الله ورسوله أعلم» اقتداء بأمر الله كما قال: @QUR08 وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله، وقال: @QUR012 ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم.
ولكن كثيرا من المجادلة يعتقد أن لا رجوع له إلى الله على الحقيقة، ولا يرجو لقاءه، ولا يجوز رؤيته؛ لما نظر بعقله الناقص أداه اجتهاده إلى هذا الرأي، فترك ما ذكر الله في كتابه في عدة مواضع، وذلك قوله: @QUR06 ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق، وقوله: إلى الله مرجعكم جميعا ثم يحكم بينكم يوم القيامة، وقوله: @QUR08 أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون، وقال: @QUR09 من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت، وقال: @QUR07 ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم، @QUR010 ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق، وقال المسيح عليه السلام: @QUR09 أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون، وآيات كثيرة في هذا المعنى.
ولكن من هؤلاء من يحتج ويقول معنى الرجوع إلى الله أي إلى ثوابه، ولو أنهم اعتبروا سنن الديانات النبوية والموضوعات الناموسية الإلهية؛ كيف فرض فيها واضعوها في كل سبعة أيام يوما لترك الأعمال والاشتغال لأمور الدنيا، والفراغ للعبادة والاجتماعات في بيوت العبادات من المساجد والبيع والكنائس والهيكل، بالصوم والصلاة والقرابين في الأعياد، والبروز إلى الصحراء والمنابر والخطب، والسكوت والاستماع للمواعظ والتذكار للأمر المعاد بأن هذه كلها إشارات ومرامي أحوال القيامة، التي في سبعة آلاف سنة تعرض للنفوس الجزئية المتجسدة لدى النفس الكلية، لفصل القضاء ليحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، فلو تركوا جدالهم واشتغلوا بما ينفعهم من أعمالهم الصالحة، والتخلق بالأخلاق الجميلة، وطلبوا الآداب المحمودة؛ لكان خيرا لهم من الجدال والخصومات والغضب والتعصب والعداوات.
ولكن لاستيلاء المريخ عليهم في مواليدهم يحثهم على ذلك، وقوة المرارة تنمي إلى أمزجتهم فيقيمهم على مثلها، فتطول صحبتهم مع أستاذيهم ورسائلهم معودون ذلك ودوامهم فيما يتدربون به، فيصير عادة لهم لا يصبرون عنها!
فلا تطمع يا أخي في صلاحهم، وإنما أكثرنا ذكر هذه الطائفة المجادلة لأن كثيرا من أسباب الخلاف في الآراء والمذاهب من قبلهم يقع، وهم السبب فيه لأنهم يتكلمون الكلام والجدال والحجاج في دقائق العلوم، ويتركون تعلم أشياء واجب عليهم تعلمها وهي بينة ظاهرة جلية وهم يجهلونها جملة.
(16) فصل في بيان آداب الجدال
فنقول: اعلم أن كل مسألة تنازع فيها اثنان أو جماعة فلا يخلو من أن يكونوا من أهل تلك الصناعة التي المسألة منها أو يكونوا من غير أهلها؛ فإن كانوا من غير أهلها فكلامهم فيها على غير أصل مقرر منهم، وكل كلام ومنازعة في شيء على غير أصل مقرر منهم فلا تحصيل لكلامهم فيه ولا حجة لدعاويهم؛ وإن كان أحدهما من غير أهلها فإن منازعته لصاحبه تعد منه وظلم، وكلام صاحبه معه أيضا تخلف منه؛ إذ كان يجادل مع من ليس من أهل صناعته. وإن كان من أهل تلك الصناعة فلا يخلو من أن يكونا متساويي الدرجة فيها أو متفاوتين؛ فإن كانا متفاوتين فحكمهما مثل ما تقدم ذكرهما من ذكر حكم الأولين؛ وإن كانا متساويي الدرجة في تلك الصناعة، فسبيلهما أن يؤاخذا فيما اختلفا فيه إلى قوانين تلك الصناعة وأصولها، ويقيسا عليها تلك المسألة وإن كانت من فروعها.
وإن لم يكن في قوة نفوسهم استخراجها، فسبيلهما أن يتحاكما إلى من هو أعلى درجة منهما في تلك الصناعة ليحكم بينهما.
وإن لم يجدا من يحكم بينهما فيرضيان بحكمه ولا في قوة نفوسهم استخراجها من الأصول، فليس لهما إلا الترك لتلك المسألة والسكوت عنها. فإن لم يفعلا ما وصفنا في الجدال والخصومة، فسيكون ذلك سبب العداوة والبغضاء بينهما، كلما ازدادوا إلحاحا ازدادوا خلافا على خلاف، وعداوة على عداوة، وبغضا إلى يوم القيامة، وتكون تلك حالهم، وهذا من أحد أسباب اختلاف العلماء في الآراء والمذاهب.
فأما بيان فنون القياسات، فاعلم حسب ما نبين ها هنا؛ وذلك أن الأمور التي يعلمها الإنسان ثلاثة أنواع: ماض ومستقبل وحاضر، فعلمه بما هو حاضر في الوقت موجود في طريقة إحدى الحواس، والحواس قد تخطئ وتصيب في إدراكاتها محسوساتها لعلل شتى، قد بينا طرفا فيما قد تقدم ذكره.
وعلمه بما كان من الأمور ومضى مع الزمان، وانقضى مع الأيام أو غاب عنه بالمكان، فهو بطريق السمع والإخبار، والمخبر قد يكون صدوقا وقد يكون كذوبا، وهكذا أيضا رب مستمع مكذب بالصدق، ورب مستمع مصدق بالكذب. فأما علمه بما سيكون أو غائب عنه بالمكان، فقد يكون بعضا بالقياس، والقياس قد يكون صحيحا وقد يكون سقيما.
وهكذا المستعمل للقياس قد يكون جاهلا باستعماله كما بينا في قياس الصبيان والجهال والعوام وكثير من الخواص، وهذا أيضا أحد أسباب اختلاف العلماء في الآراء والمذاهب.
ثم اعلم أنك إذا اعتبرت ودققت النظر تبين أن أكثر علم الإنسان إنما هو بطريق القياس، والقياسات مختلفة الأنواع، كثيرة الفنون، كل ذلك بحسب أصول الصنائع والعلوم وقوانينها.
مثال ذلك أن قياسات الفقهاء لا تشبه قياسات الأطباء ، ولا قياس المنجمين يشبه قياس النحويين ولا المتكلمين، ولا قياسات المتفلسفين تشبه قياسات الجدليين، وهكذا قياسات المنطقيين في الرياضات لا تشبه قياسات الجدليين ولا تشبه قياساتهم في الطبيعيات ولا في القياسات والإلهيات.
وهكذا الحكم في سائر الصنائع والعلوم، وسنذكر طرفا من ذلك في موضعه، ولكن نقول أولا: ما القياس؟ وذلك أن القياس هو الحكم على الأمور الكليات الغائبات بصفات قد أدركت جميعها في بعض جزئياتها.
مثال ذلك: لما أدرك الإنسان أن النيران الجزئية حارة، حكم بأن كل نار حارة أيضا الغائبة قياسا على ما أدرك حسا، وهكذا حكم على رطوبة الماء من جزئياتها على كلياتها بالحسن جزئية والعقل كليا.
واعلم أن هذا الحكم وهذا القياس لا يطرد في كل شيء ولا في كل مكان؛ وذلك أن يكون في كثير من البلدان أناس عقلاء لا يجدون من الماء إلا عذبا، فإذا حكموا بما أدركوا على أن كل ماء في الأرض عذب، فقد أخطئوا وهم لا يشعرون، وعلى هذا المثال يكون الخطأ والصواب في القياس الذي يطرد في كل شيء.
وإذا تأملت يا أخي، وجدت أكثر اختلاف العلماء وخطئهم إنما في استعمال القياس من هذا الفن، يكون ويخفى وهم لا يشعرون، وإن علموا أيضا لا يحسنون كيف يميزون من الأشياء التي يطرد فيها.
والقدماء الحكماء قد تعبوا في استخراج هذا حتى عرفوه ووضعوه في كتبهم بخطب طويل، لا يصبر على طلب معرفته كل أحد من الناس إلا المحبون للحكمة الطالبون للحقائق، وقد ذكرنا طرفا من ذلك في رسائلنا المنطقية، ولكن نذكر منها طرفا في هذا الفصل مثالا واحدا.
اعلم يا أخي أن القياس الذي يطرد الحكم فيه بالجزء على الكل، إنما هو في الصفات الذاتية للشيء لا في الصفات العرضية، والصفات الذاتية هي التي إذا بطلت بطل الموصوف، وإذا ثبتت ثبت الموصوف؛ وهي الصورة المقومة، والصفة العرضية هي التي إذا بطلت لم يبطل الموصوف.
والمثال في ذلك رطوبة الماء وعذوبته، فإن الرطوبة إذا بطلت لا يكون الماء موجودا.
فأما العذوبة فليس من الضروري إذا بطلت بطل الماء، فالرطوبة هي الصورة المقومة للماء، والعذوبة هي الصورة المتممة له.
فعلى هذا المثال ينبغي أن يعتبر الحكم في القياس لا يصيب ولا يخطئ.
واعلم أن الحكماء الأولين لما أثبتوا الذي ذكرنا، وعلموا أن أكثر علمهم إنما هو بطريق القياس، وقد يدخل الخطأ والزلل في القياس - كما بينا - طلبوا لذلك حيلة يأمنون بها الخطأ والزلل في القياس، وسموها البرهان وميزان العقل من أجل طلب الحقائق وإصابة الصواب وتجنب الزور والغرور بما لا حقيقة له، لكن منهم مصيبا ومنهم مخطئا @QUR07 والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
ثم اعلم أن كثيرا من أهل الجدل يظنون ويحكمون بحكمهم، وظنونهم أن الله سبحانه وتعالى كلف عباده طلب الحقائق وإصابتها جميعا، وجعل لهم وعيدا إن أخطئوا أو لم يصيبوا، وليس الأمر كما ظنوا؛ لأنه قال: @QUR06 لا يكلف الله نفسا إلا وسعها والوسع دون الجهد والطاقة، وإصابة الحق ليس في وسع الطاقة، فكيف؟! ولا في وسعها، وإنما كلف الله العباد طلب الحقائق والجهد في الطلب.
فأما إصابتها فالله يهدي من يشاء إليها، كما وعد جل جلاله: @QUR05 والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وإنما شرط بقوله فينا لأن من الناس من لا يكون جهده في الطلب لوجه الله، ولكن لأسباب أخر يطول شرحها، فمن أجل ذلك لا يستحق الهداية ولا يستأهل الإصابة.
ثم اعلم أن هذه المسألة من إحدى مسائل أمهات الخلاف؛ وذلك أن كثيرا من الناس من يقول أو يظن أنه مستغن عن العلوم في طلب الحقائق بما رزقه الله تعالى من الفهم والتمييز والذكاء والاستطاعة، فيتكل على حوله وقوته وينسى ربه والاستعانة به والسؤال له والتوفيق، فيخذل ويحرم التوفيق كما قال الله تعالى: @QUR04 نسوا الله فأنساهم أنفسهم.
(17) فصل في بيان أنواع القياسات
فنقول: اعلم أن الموازين التي وضعها الحكماء ليعرف بها الخطأ والزلل في القياس مختلفة الفنون، وذلك بحسب الصنائع والعلوم والقوانين كما هو موجود في اختلاف موازين أهل البلدان النائية، ومكاييلهم معروفة بينهم بحسب موازين أهل البلدان في موضوعاتهم، ولكن مع اختلافها كلها فالغرض المطلوب منها هو إصابة الحق والعدل والإنصاف فيما يتعاملون بينهم في الأخذ والإعطاء، فهكذا أيضا غرض الحكماء في استخراج البرهان الذي يسمى ميزان العقل، وهو طلب الحقائق وإصابة الصواب وتجنب الزور والخطأ باستعمال القياسات، ولكن منهم من يصيب ومنهم من يخطئ أيضا في استعمال هذه الموازين، وذلك من إحدى ثلاث خصال: إما بجهله بحقيقة هذه الموازين وكيفية استعمال هذا الميزان، أو لغرض من الأغراض في موازين الناس ومكاييلهم المعروفة بينهم والمستعملين لها كيف يدخل الخطأ والزلل عليهم، وإما بجهلهم بصحة الميزان وبكيفية استعمالهم له أو لغرض من الأغراض، فأما واضعوها فما قصدوا في وضعها إلا لطلب الحق والصواب والعدل والإنصاف.
واعلم أن الموازين التي وضعها الحكماء في طلب حقائق الأشياء في العلوم والصنائع كثيرة لا يحصي عددها إلا الله الواحد القهار، ولكن كلها لا تخرج عن ثلاثة أنواع: إما أن يستعمل بالأيدي أو باللسان أو بالضمير، والتي تستعمل بالأيدي كالقبان والشاهين والمكاييل والموازين والأذرع وما شاكلها، وبالجملة كل مقياس يستعمله الناس في معاملاتهم في الأخذ والإعطاء في طلب العدل والإنصاف بينهم.
ومنها ما يستعمله المنجمون وأصحاب الرصد وقسام المياه، كالبركار والإصطرلاب وآلات الرصد، كل ذلك في طلب معرفة أجزاء الزمان ومقادير الأوقات.
ومنها ما يستعمله المساح والقسام والمهندسون في طلب معرفة الأجرام والأبعاد كالذراع والباب والأشل وذوات الشفتين وما شاكلها.
ومنها ما يستعمله الصناع في صنائعهم كالبركار والمسطرة والكونيا والشاقول والزاوية وما شاكلها، كل ذلك لمعرفة الاستواء والاعوجاج.
ومنها ما يستعمله أهل كل صناعة على حدتها، فأما الذي يستعمله باللسان فمثل العروض التي يستعملها الشعراء والخطباء والنحويون والموسيقيون، فأما التي تستعمل بالضمير فهي مثل ما يستعمله الفقهاء الحكماء عند تفكرهم في المعلومات المحسوسات والمشاهدات، واستخراجهم بها الخفيات المعقولات وصحة القياسات في إدراك المبرهنات.
ثم اعلم أن هذه المقاييس كلها طرقات إلى المعلومات، وهذه الموازين حكام وعدول، نصبها الباري تعالى بين خلقه ليتحاكموا إليها في طلب العدل والإنصاف والحقائق والاستواء، ويجتنبون الزور والخطأ والظلم والجور ، ويرفعون بها الخلاف والمنازعة من بينهم بحرز الظنون وتخمين الرأي.
ثم اعلم أنه قد يقع الخلاف والمنازعة بين المستعملين للقياس والموازين أيضا من جهات أربعة: إما بقصد من المستعملين لها دغلا وغشا لأغراض لهم، وإما بسهو منهم، وإما بجهلهم بكيفية استعمال الميزان، وإما أن يكون القياس والميزان معوجا غير مستو. أجل هذه الوجوه يقع الخلاف والمنازعة بين أهلها، فهذه أيضا أحد أسباب الخلاف بين العلماء في آرائهم ومذاهبهم.
ثم اعلم أن هذه الموازين والمقاييس التي تقدم ذكرها كلها دلالات ومثالات وإشارات إلى الموازين التي ذكرها الله تعالى بقوله: @QUR09 ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا.
ثم اعلم أن هذا الميزان هو آخر الموازين كلها، فمن رجحت حسناته في هذا الميزان فقد أفلح وربح سعادة أبدية وفاز فوزا عظيما، ومن خفت موازينه فقد خاب وخسر خسرانا مبينا.
فانظر لنفسك يا أخي وبادر واعمل عملا صالحا، وتزود فإن خير زادك التقوى، وحاسب اليوم نفسك قبل أن تحاسب، فهو أيسر لحسابك، وكن وصيها تأمن تفريط وصيك بعدك، وزن أعمالك اليوم ولا تغفل قبل أن تحاسب بموازين الغد، فهو أثقل لوزن حسناتك، إن كنت تحسن هذا الوزن وهذا الحساب كيف يكون، وإن كنت لا تدري ولا تحسن فهلم إلى مجلس إخوان لك نصحاء أصدقاء كرام فضلاء ليعرفوك كيفية محاسبة نفسك ووزن حسناتك، فإنهم أهل هذه الصناعة وقد قيل: «استعينوا في كل صنعة بأهلها.»
وقد وضعنا هذا الحساب وهذا الميزان في رسالة البعث والقيامة، فاعرفها من هناك، إذا وقفت على جبل الأعراف مع أهل المعارف الذين ذكرهم الله تعالى ووصفهم بقوله: @QUR012 وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم، ثم وصفهم بقوله: @QUR09 رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله.
فلا تغتر يا أخي بقول من يقول ويظن بأن هذا يعرف بعد الموت هيهات هيهات أولئك ينادون من مكان بعيد كيف يعرف بعد الموت والله تعالى يقول: @QUR011 ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا .
نبهك الله أيها الأخ من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، وأحيا قلبك بنور المعارف وجعلك من الذين ذكرهم بقوله: @QUR018 أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها، وظلمات الجهالات المتراكمات بعضها فوق بعض على قلوب الغافلين، كما ذكر في كتب النبوات من المعارف الشريفة والأسرار المكنونة التي لا يمسها إلا المطهرون من أدناس الشهوات الطبيعية والغرور باللذات الجرمانية الذين ذمهم الله بقوله: @QUR06 أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة، وقال: @QUR03 تريدون عرض الدنيا، وقال: @QUR05 ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، وقال: @QUR012 تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا، وآيات كثيرة في القرآن في ذم المريدين للدنيا ومدح المريدين للآخرة، وفقك الله لإفادة الدار الآخرة وجعلك من أهلها وجميع إخواننا.
وإذ قد تبين بما ذكرنا طرفا من مقاييس أهل الصنائع والعلوم وموازين الحكماء فيها، نريد أن نذكر طرفا من مذاهبهم وآرائهم، وبخاصة ما كان في أمر الدين؛ إذ كان هذا الفن من المباحث والمطالب ومن أشرف الصنائع البشرية، وألطف العلوم الإنسانية، وأعجب المعارف وأعرف الإدراكات، وأهلها أعقل الناس، ومدركاتهم أكثر من المعلومات؛ وذلك أن هذه الدرجة أحق درجة يبلغ إليها العقلاء في طلبهم العلوم والمعارف، وهذا البحر من العلم أوسع أقطارا، وقعره ولجه أعمق إغمارا، وجواهره أنفس أقدارا، وسالكوه أبعد مراما، وربحهم أكثر تزايدا وأحزانهم أعظم مصيبة من سائر ما تقدم ذكره؛ لأن من أرشد في هذا الطريق فسيرته سيرة الملائكة، ومن ضل عنه سلك به مسلك الشياطين، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وسنبين صحة ما قلنا وحقيقة ما وصفنا عند ذكرنا الآراء الحكمية والمذاهب البدعية الفرقية والديانات النبوية والمنهاجات السنية والسير الملكية والمقاصد الربانية.
(18) فصل في أجناس الآراء والمذاهب
فنقول: اعلم أن الآراء الفاسدة واختلاف العلماء فيها منها ما هو من أمر الدين والشريعة وسننها وما يتعلق بها من العلوم والأحكام، ومنها ما هو في الآداب والرياضيات والعلوم والصنايع مما ليس له تعلق بأمر الدين، مثل الحساب والهندسة والنجوم والنحو والطب وما شاكلها.
فأما التي لها تعلق بأمر الدين فهي كثيرة لا يحصي عددها إلا الله، ولكن يجمعها كلها نوعان: حكمية ونبوية. ونريد أن نذكر أصول هذه الآراء والمذاهب وبعض فروعها مختصرا أوجز مما يمكن، وإذ كان الشرح والاستقصاء يطول فنبدأ أولا في بيان الآراء الحكمية ومذاهبها، إذ كنا قد بينا طرفا من الآراء النبوية في رسالة النواميس الإلهية والمذاهب الربانية، ولكن نريد أن نذكر من ذلك ما لا بد في هذا الفصل جملا قبل ذكرنا الآراء الحكمية والمذاهب البدعية؛ ليكون الناظر فيها يحفظها ويعتقدها، ويتعلق بقلبه قبل نظره في الآراء الحكمية والمذاهب البدعية والبحث عنها والاحتجاجات عن أهلها المفسدة للعقول السليمة الغير المرتاضة.
فأما بيان ماهية الخصال المانعة للإنسان عن الشرور حسبما نبين ها هنا، وذلك أن الناس مختلفون في طباعهم وأخلاقهم وأعمالهم وعاداتهم وعلومهم وصنائعهم، ذوو فنون شتى لا يحصي عددهم إلا الله تعالى، ولكن منهم خير وشرير، فنقول: أشر الناس من لا دين له ولا يؤمن بيوم الحساب.
والعلة في ذلك أن الإنسان لما خلق مستطيعا لعمل الخير ممكنا به، وهو بتلك الاستطاعة بعينها يقدر أن يعمل الشر لأسباب شتى ويمنعه عنه علل عدة، وقد بيناها في رسالة الأخلاق، ولكن أمنع الخصال للإنسان عن الشر وأقمعها عنه الدين وتوابعه من الورع والتقى والحياة والمروءة والرحمة والخوف، وما شاكلها من خصال الدين والإيمان؛ فمن لا يؤمن بيوم الحساب ولا يرجو الثواب ولا يخاف العقاب، فهو لا يمتنع عن الشر جهده وطاقته، سيما إذا دعته إليه الأسباب وأمكنه تجنبها في الظاهر مخافة للناس، فهو لا يتجنبها في السر.
واعلم أن الدين هو شيئان اثنان: أحدهما هو الأصل وملاك الأمر، وهو الاعتقاد في الضمير والسر؛ والآخر هو الفرع المبني عليه القول والعمل في الجهر والإعلان، ونحتاج أن نشرحهما جميعا حسب ما جرت عادة إخواننا الكرام الفضلاء، فنبدأ أولا بذكر الاعتقادات؛ إذ كانت هي الأصول والقوانين فيما هو غرضنا ومقصودنا في هذا المقام، كما قيل: «إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى.»
(19) فصل في بيان ماهية أجود الآراء وخير الاعتقادات
فنقول: اعلم أن اعتقادات الناس كثيرة لا يحصي عددها إلا الله تعالى، ولكن لا تخرج كلها من ثلاثة أنواع: فمنها ما يصلح للخاص دون العام، ومنها ما للعام دون الخاص، ومنها ما بين الخاص والعام.
ونريد أن نذكر في هذا الفصل ما يصلح للخاص والعام جميعا أن يعتقدوه؛ إذ كان القسمان الآخران كثيري الأنواع والفروع التي يطول شرحها، فنقول:
اعلم أن من أجود الآراء وأنفع الاعتقادات وما يصلح لجميع الناس من الخاص والعام أن يعتقدوه ويقروا به؛ القول بحدوث العالم، وأنه مصنوع، وأنه له بارئ حكيم، وصانع قديم، وخالق رءوف رحيم، وأنه قد أحكم أمر عالمه وأتقن أمر خلقه على أحسن النظام والترتيب، ولم يترك فيه خللا واعوجاجا البتة، فإنه لا يجري في عالمه أمر، ولا يحدث حدث صغير ولا كبير، دقيق ولا جليل؛ إلا هو يعلمه قبل كونه، لا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة، وأن له ملائكة هم خالص عباده وصفوة بريته، نصبهم لحفظ عالمه، ووكلهم بتدبير خلائقه، لا يعصونه طرفة عين مما نهاهم عنه ويفعلون ما يؤمرون، وأن له خواص من بني آدم اصطفاهم وقربهم، وجعلهم وسائط بين الملائكة وبين خلقه من الجن والإنس وسفراء له، وأنه أمر عباده بأشياء إذا فعلوها فهو خير لهم وأنفع للجميع، ونهاهم عن أشياء إن لم ينتهوا عنها صرفهم عن الأنفع وفاتهم الأفضل، وأنه لم يأمرهم شيئا لا يطيقونه ولا يفعلون شيئا مما هو لا يعلمه، وأنهم قاصدون نحوه متوجهون إليه، منذ يوم خلقهم ينقلهم حالا بعد حال من الأنقص إلى الأتم، والأدون إلى الأكمل، ومن الأدنى إلى الأفضل، إلى يوم يلقونه ويشاهدونه فيوفيهم حسابهم.
ثم اعلم أنه ليس إلى معرفة هذا الرأي سبيل، وإلى هذا الذي ذكرنا وحقيقة ما وصفنا طريق إلا شيئان اثنان؛ أحدهما الاستبصار والمشاهدة بعين البصيرة، واليقين بالقلب الصافي من الشوائب للنفس الزكية النقية من الذنب، بعد تأمل شديد للمحسوسات، ودقة نظر في المعقولات ، ودراية بالرياضيات، وبحث عن القياسات، كما فعلت القدماء الحكماء الموحدون الربانيون، وإقرار باللسان وإيمان بالقلب وتسليم بالقول، كإقرار الملائكة بها إلهاما وتأييدا، وكإقرار الأنبياء للملائكة وحيا وأنباء، أو كإقرار المؤمنين للأنبياء إيمانا وتسليما، وكإقرار العامة والأتباع للخواص والعلماء تقليدا وقولا، أو كإقرار الصبيان للآباء والمعلمين تعليما وتلقينا.
فهذا الذي ذكرناه هو أحد أركان الدين، وهو الاعتقاد الصحيح، وأما الركن الآخر الذي هو الطاعة، فهو الانقياد من المأمورين والمرءوسين للآمرين الناهين.
ثم اعلم أن الأوامر والنواهي تختلف بحسب مراتب الآمرين والمأمورين في أحوالهم، فمن ذلك طاعة الأولاد للآباء والأمهات فيما يأمرونهم به مما فيه صلاحهم، وينهونهم عنه مما فيه فسادهم وهلاكهم @QUR04 وقل لهما قولا كريما، @QUR013 وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما، ومنه طاعة الصبيان للمعلمين في قبول التأديب فيما هو صلاح لهم، ومنها طاعة التلامذة للأستاذين في قبولهم تعليم الصنائع لهم، ومنها طاعة الأزواج لبعولتهن فيما يأمرونهن من لزوم المنزل والتصون الذي فيه صلاحهن.
ومنها طاعة المرضى للأطباء في الحمية وشرب الأدوية مما فيه صلاحهم وبرءهم، ومنها طاعة الجهال للعلماء فيما يأمرونهم بالتمسك بأمر الدين واجتناب المحارم بما هو صلاح لهم، ومنها طاعة الرعية للسلطان العادل فيما يأمرهم به من المعروف وينهاهم عن المنكر ومنعهم من ظلم بعضهم بعضا مما فيه صلاحهم، ومنها طاعة السلاطين والأمراء والملوك لخلفاء الأنبياء عليهم السلام فيما يولونهم من البلدان وجباية الخراج ومحاربة الخوارج والأعداء، وحفظ الثغور وتحصين البيضة فيما فيه صلاح لهم وصلاح الرعية منهم.
ومنها طاعة الخلفاء للأنبياء عليهم السلام فيما رسموا لهم من حفظ الشريعة على الأمة وإقامة السنة على أهل الملة.
ومنها طاعة الأنبياء عليهم السلام للملائكة فيما تلقي إليهم من الوحي والأنباء في تدوين الكتب المنزلة، ووضع الشريعة، وإيضاح السنة، وجمع شمل الأمة، وتأليف قلوب الجماعة بإبلاغ الوصية وبإظهار الدعوة فيما فيه صلاح الكل ونفع الجميع؛ ومنها طاعة الملائكة لرب العالمين فيما قضت من عبادته، ووكلت به من تدبير بريته وحفظ خليقته ، مما فيه صلاح للجميع ونفع للعموم وبقاء للعالم ودوام الخليقة والبلوغ بها إلى أقصى مدى غاياتها التي هي السعادة العظمى.
فهذا هو الدين النبوي الحنيفي والمنهاج السني والسيرة الملكية، وهو أن يكون كل مرءوس ينقاد لطاعة رئيسه، ولا يعصيه فيما يأمره به وينهاه عنه فيما فيه صلاح للجميع.
وإذ قد تبين مما ذكرنا ما الدين الحنيفي والمذهب الرباني، والاعتقاد الجيد والرأي الصواب، والطريقة المختارة التي تصلح أن يتدين بها كل الناس ويعتقدها كل أحد من الخاص والعام جميعا، نريد أن نذكر طرفا من المذاهب المختلفة والآراء الذائعة، وما الأسباب الداعية لأهلها إليها، ومن أين انحرفوا عن الطريقة المستقيمة وضلوا عن الصواب ووقعوا في الأباطيل، ونبدأ أولا بذكر الآراء الحكمية والمذاهب البدعية، ثم نذكر علل اختلاف أهل الديانات والنواميس الإلهية في فروعها من السنن والأحكام.
(20) فصل في بيان الآراء الحكمية؛ وهي نوعان: دهرية أزلية ومحدثة معللة
فنقول: اعلم أن من هذين تفرعت سائر الآراء الحكمية ومذاهبها، فلنبدأ أولا بذكر الدهرية، ثم نقول هؤلاء كانوا أقواما قد كان لهم من الفهم والتمييز قدرا ما، فنظروا إلى الموجودات الجزئية المدركة بالحواس، وتأملوا واعتبروا لها أحوالها، فوجدوا لكل مصنوع أربع علل: علة هيولانية، وعلة صورية، وعلة فاعلية، وعلة تمامية.
فلما فكروا في حدوث العالم وصنعته طلبوا لها هذه الأربع العلل وبحثوا عنها، وهي هذه، ترى من عمله؟ ومن أي شيء عمله؟ وكيف عمله؟ ولم عمله؟ وأيضا متى عمله؟ فلم يبلغ فهمهم إلى ذلك، ولم يتصوروه لقصور نفوسهم عن فهم دقة معانيها؛ لأن الباحث عنها يحتاج إلى نفس زكية فاضلة في العلم والعمل، ويحتاج إلى ذهن صاف خلو عن الغش أو الدغل، ونظر دقيق وبحث شديد ليدرك هذه العلل ومعانيها وحقائقها، كما بينا في رسالة المعارف.
ولما نظروا في هذه المباحث ولم يعرفوها، دعاهم جهلهم وإعجابهم بآرائهم إلى القول بقدم العالم وأزليته، وأنكروا العلة الفاعلية لما جهلوا الثلاث الباقية ولم يعرفوها.
ثم اعلم أن كل ناظر في مصنوع متأمل له يطلب بتأمله وفكره أربع علل : من عمل ؟ ومتى عمل؟ وكيف عمل؟ ولم عمل؟ فإنما يطلب هذه المباحث لأنه يرى ويعاين بأول نظرة في ذلك المصنوع أشياء ثلاثة ظاهرة جلية من أثر الصنعة لا تخفى على كل عاقل سليم العقل من الآفات العارضة للعقول؛ وهي الثلاثة المخصوصة، والشكل والنقش، والتصاوير والأصباغ وما شاكلها. فلولا أن هؤلاء الذين زعموا وقالوا بقدم العالم قد رأوا هذه الأشياء بنظرهم إلى هذا العالم، وبتأملهم بنيته وشكله وما فيه من أنواع التصاوير والنقوش والأصباغ، لما طلبوا الفاعل له، ولا بحثوا عنه كيف عمل، ومتى عمل، ومن أي شيء عمل، ولم عمل. وأيضا لو أنهم حين لم يعرفوا هذه العلل ولم يفهموا، رجعوا إلى قول من هو أعلم منهم وأعرف بماهياتها وحقائقها، وأقروا على أنفسهم بالعجز؛ لما قالوا هذا القول ولا اعتقدوا هذا الاعتقاد، ولكنهم لإعجابهم بأنفسهم واتكالهم على بحثهم ودقة نظرهم دعاهم إلى القول بقدم العالم.
وذلك أنهم تكلفوا ما لم يطيقوا، وتعاطوا ما لم يكن من صناعتهم، فوقعوا فيها وتحيروا فيه، وأصابوا ما أصاب القرد من النجار.
فهذا الباب من اختلاف الناس، وأعظمها بلية أن يتعاطى الصناعة من ليس من أهلها.
(21) فصل في بيان مناقب العقلاء والآفات العارضة للعقول
فنقول: اعلم أن هؤلاء القوم لم يرتابوا ولم يضلوا من قلة العقل ولا رداءة التمييز ولا من ترك النظر، ولكن من الآفات العارضة للعقول؛ وذلك أن العقل وإن كانت له مناقب كثيرة فإن له أيضا آفات كثيرة تعرض لها، وقد ذكرنا طرفا منها في رسالة الأخلاق، ولكن لا بد أن نذكر في هذا الفصل طرفا منها، فنقول: أولا ما العقل الإنساني؟ وذلك أن العقل الإنساني ليس هو شيئا سوى النفس الناطقة إذا هو كبر وشاخ بعد أيام الصبا؛ وذلك أن النفس يوم ربطت بالجسد، أعني الجنين في الرحم، كانت ساذجة لا علم لها من العلوم، ولا خلق من الأخلاق، ولا رأي ولا مذهب ولا تدبير ولا سياسة ولا رياضة في أدب، كما ذكر الله تعالى: @QUR08 والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا ، وإنما كانت جوهرة روحانية حية بالذات، علامة بالقوة، فعالة بالطبع؛ فإذا حصلت فيها رسوم المحسوسات التي تسمى أنواعا وأجناسا مصورة بعد غيبة المحسوسات عن مشاهدة الحواس لها، فميزتها وتأملتها ونظرت فيها، وعرفت أعيانها ومنافعها ومضارها وجربتها واعتبرتها، سميت عند ذلك عاقلة علامة بالفعل، كما بينا في رسالة الحاس والمحسوس.
فأما مناقب العقل وأفعاله فكثيرة لا يحصي عددها إلا الله الواحد القهار، وقد ذكرنا طرفا في رسالة العقليات وشرحا، ولكن نريد أن نشير إليها في هذا الفصل إشارة، فنقول: إن جميع الأفعال البشرية المحكمة وجميع الآراء والمذاهب المختلفة العقلية والوضعية؛ من أفعال العقل الإنساني، لكن له مع هذه الفضائل والمناقب كلها آفات عارضة كثيرة؛ فمن تلك الآفات الهوى الغالب نحو شيء ما، والعجب المفرط من المرء برأي نفسه، والكبر المانع عن قبول الحق، والحسد الدائم للأقران وأبناء الجنس، والحرص الشديد على طلب الشهوات، والعجلة وقلة التثبت في الأمور، والبغض والعداوة عند الحكومة والخصومات، والميل والتعصب لمن يهوى، والحمية الجاهلية عند الافتخار، والأنفة من الانقياد للطاعة، وحب الرياسة من غير استحقاق، وما شاكل هذه الآفات العارضة للعقلاء، المضلة لهم عن سنن الهدى، المانعة عن الانتفاع بفضائل العقل ومنافعه.
ثم اعلم أنه ليس من مرتبة في الدنيا أرفع ولا فضيلة أحسن من الرياسة في العقلاء لذوي السياسات والتدبير، ولا نعمة ألذ ولا رتبة أحسن من انقياد العقلاء للرئيس وطاعتهم له، ولا محنة أعظم ولا بلية أشد من عصيان العقلاء للرئيس الفاضل وعدواتهم له، وهذه الخصال من إحدى أمهات الخلاف والمعاصي؛ وهي كبر إبليس، وحرص آدم عليه السلام وعجلته حين بادر، وحسد قابيل.
فأما الكبر فهي الخصلة التي سنها إبليس، فرعون آدم كفراعنة الأنبياء الذين هم جنوده، يوم أمر بالسجود لآدم والطاعة والانقياد لأمره.
والخصلة الأخرى التي هي أيضا إحدى أمهات المعاصي حرص آدم وعجلته حين بادر وطلب ما ليس له تناوله قبل حينه واستحقاقه، فلما ذاقها بدت له عورته وسقطت مرتبته، وانحطت درجته وانكشفت عورته وشمتت به أعداؤه!
فلولا أنه كانت سبقت كلمة من ربه تفضلا منه عليه ورحمة منه، لكان لزاما له العقوبة وكل من عصى من ذريته كأن يتعاجل بالعقوبة من ساعته، ولكن أمهل إلى وقت ما، فلما تاب وندم استحق الغفران والعفو @QUR011 ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
فأما إبليس فإنه لما أنكر السجود والانقياد للطاعة واستكبر وتمرد ولم يندم ولم يرجع، أيس من الرحمة، ولكن أنظر أيضا وأمهل وأخرت العقوبة والعذاب إلى يوم الوقت المعلوم @QUR026 قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم * قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين.
وهذه سنة الفراعنة وحالهم في الدنيا والدين، الذين هم جنود إبليس أجمعون، الذين يأنفون من الدخول تحت أمر الأنبياء والطاعة لهم ويؤخرون ويمهلون إلى يوم يموتون، فإذا ماتوا قامت قيامتهم وأخسئوا بالعذاب فلا يزال ذلك دأبهم إلى يوم يبعثون، كما قال تعالى: @QUR013 النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب.
فقد تبين بما ذكرنا أن القائلين بقدم العالم لم يرتابوا ولم يضلوا عن الصراط من قلة العقل والبلاهة أو ترك النظر والبحث، ولكن من الآفات العارضة والأخلاق الرديئة للنفوس والأسباب المختلفة والأمور المشكلة والقصور عن التمام، وتركهم ما كان أخذه عليهم أوجب، وفعله بهم أولى، وتعاطيهم ما لم يكن من صناعتهم وتكلفهم ما لم يكن من قوة نفوسهم.
فصل وأما الآخر من الخطأ الذي يطرأ عليهم
وذلك أنهم أرادوا أن يعرفوا العلة الفاعلة قبل معرفتهم المعلول، وإنما يعرف الصانع المحتجب الغائب عن إدراك الحواس إذا عرف المصنوع المكشوف الظاهر، وإنما يعرف المصنوع بالنظر إلى الهيولى واعتبار أحوالها؛ لأن في معرفة حقيقة الهيولى ومعرفة أحوالها معرفة المصنوع، وفي معرفة المصنوع معرفة الصانع.
وقد بينا في رسالة سمع الكيان ماهية الهيولى وحقيقتها وأحوالها، ولكن تذكر ها هنا من أمرها ما لا بد منه.
ثم اعلم أن الهيولى وحقيقتها هو جوهر ساذج لا كيفية له ولا النقش ولا الصورة ولا الأشكال ولا الأصباغ ولا الأعراض ، بل هو متهيئ لقبولها ولا يقبلها إلا بقصد قاصد وجعل جاعل.
مثال ذلك الخشب، فإنه متهيئ لقبول صورة الألواح والسرير والكرسي والباب وغيرها، ولكن بقصد من النجار وعناية منه.
وهكذا قطعة من حديد، فإنها لا تقبل الصورة إلا بعد قصد قاصد من الحداد، وكذلك سائر الهيوليات الموضوعة في سائر الصنائع البشرية.
وهكذا أيضا الهيولى الطبيعية التي هي الأركان الأربعة التي لا تجمع ولا يكون منها المعدن والنبات والحيوان إلا بقسر قاسر أو صنع صانع.
والعلة الفاعلة لها هي قوة من قوى النفس الكلية الفلكية بإذن الله تعالى.
وهكذا الجسم المطلق الذي هو جوهر طويل عريض عميق حسب، لا يصبر على الأشكال كريات مدورات بعضها ببعض، وبعضها كواكب صغار وكبار، وبعضها أركان مختلفة الطبائع من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، وخفيف وثقيل ولطيف وغليظ، وبعضها متحرك وبعضها ساكن، وبعضها أسرع حركة وبعضها أبطأ حركة، وما شاكل هذه الحالات التي هي موجودة عليها إلا بقصد قاصد وجعل جاعل، وهو الله العزيز الغفار الواحد القهار تعالى وتقدس.
وكفى بهذا دليلا وبيانا وحجة للعقول الغريزية على أن العالم مصنوع، والمصنوع يقتضي الصانع، وهذه قضية موجبة في أوائل العقول، بينة ظاهرة جلية لا تخفى على كل عاقل متأمل سليم القلب والعقل من الآفات العارضة، وإن لم يعلم من عمله، ومتى عمله، وكيف عمله، ولم عمله.
فأما النظر في أمر الهيولى والدليل والحجة على حدوثه، فيحتاج إلى نظر أدق من هذا، وبحث أشد، وتأمل أجود، وتمييز ألطف، كما بينا في رسالة المبادئ العقلية.
وإذ قد تبين بما ذكرنا بطلان قول القائلين بقدم العالم، نريد أن نذكر طرفا من أقاويل القائلين بحدوثه، وفنون مذاهبهم، واختلاف طبقاتهم، والأسباب المؤدية لهم إليها، وفي ماذا أصابوا وفي ماذا أخطئوا.
(22) فصل في بيان العلة الداعية إلى القول بحدوث العالم عن علة واحدة
فنقول: اعلم أن القائلين بحدوث العالم طائفتان: إحداهما تعتقد أن العالم محدث مصنوع وله علة واحدة مبدعة مخترعة وهو حي قادر حكيم، وهذا رأي الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم وبعض القدماء الموحدين والحكماء منهم؛ والأخرى ترى وتعتقد أن العالم محدث مصنوع، ولكن ترى وتعتقد أن له علتين اثنتين قديمتين أزليتين، وهذا الخلاف من إحدى أمهات الآراء والمذاهب المتفرعة بها، ونحتاج أن نذكر الاعتبار والقياس الذي أداهم إلى هذا الرأي والاعتقاد كيف كان، فنقول:
اعلم أن السبب في ذلك هو نظرهم إلى الشرور التي تجري في عالم الكون والفساد الذي هو دون فلك القمر؛ وذلك أنهم رأوا من القبيح الشنيع أن يكون صانع العالم واحدا ثم يترك عالمه مملوءا من الشرور والفساد ولا يمنع من ذلك ولا بغيره، وإن كان لا يقدر عليه فقد وجب علة أخرى لأن الشرور أفعال، والفعل لا يكون إلا من فاعل ومنفعل.
هذا كان نظرهم، وإلى ها هنا كان مبلغهم من العلم، وإلى هذا أداهم اجتهادهم في البحث والتمييز والقياس.
وهذه المسألة، أعني طلب علة كون الشرور في العالم، هي من إحدى أمهات أسباب الخلاف من العلماء في الآراء والمذاهب؛ وذلك أنه منذ كان الناس في الدنيا والعلماء مختلفون في علة كون الشرور في هذا العالم، لمن هو؟ ومن الفاعل لها بالحقيقة؟ ومن أين كان أصلها؟ وسنذكر بعد هذا الفصل ما قالوه وتكلموا فيه.
(23) فصل في بيان أسباب العلة الداعية للقائلين بالأصلين
فنقول: اعلم - وفقك الله - أن القائلين بالأصلين طائفتان: إحداهما ترى وتعتقد أن لهما فاعلين من إحداهما نور خير، والآخر ظلمة شرير، وهذا رأي زرادشت وماني وأتباعهما وبعض الفلاسفة؛ والطائفة الأخرى ترى وتعتقد أن إحدى العلتين فاعل والأخرى منفعل، يعنون به الهيولى، وهذا رأي بعض الحكماء اليونانية، والذي دعاهم إلى هذا الرأي هو نظرهم إلى الشرور التي تجري بين كل اثنين متنازعين من الناس والحيوان من القتل والحروب والخصومات والعداوات، وما يحدث بينهما من الأسباب والأحوال، فبهذا الاعتبار قالوا، وبهذا القياس حكموا بأن حدوث العالم كان سببه من فاعلين اثنين متنازعين، لكن أحدهما خير والآخر شرير، فهذا كان قياسهم، وإلى هذا الموضع كان مبلغهم من العلم، وإلى ها هنا أداهم اجتهادهم، ولهم أيضا في كيفية حدوث العالم كلام وأقاويل يطول شرحها، إلا أنها مذكورة في كتبهم؛ فلذلك تركناها إذ لا فائدة في بيان ذلك.
فأما القائلون بأن أحد الأصلين فاعل والآخر منفعل، فإنما دعاهم إلى هذا الرأي ما رأوا أنه يلزم القائلين بالفاعلين من الشنعة والقبح، وما يوجب لهما من العجز والنقص من فعالهما وتناقضهما، وما يقتضي دون ذلك من قلة النظام في تركيب العالم وخلق السموات، وما يعرض من الفساد العام والبوار الكلي.
وقد يوجد الأمر بخلاف ما يلزم من هذه الحكومة؛ وذلك أنهم قد تبينوا نظام العالم وعرفوا إتقان خلق السموات مع سعتها وكبر أجزائها وكثرة خلائقها التي هناك، وليس فيها شيء من الفساد والشرور البتة، وأنها كلها على أحسن النظام وأجود الترتيب والهندام، وأن الشرور لا توجد إلا في عالم الكون والفساد التي تحت فلك القمر، ولا توجد الشرور أيضا في عالم الكون والفساد إلا في النبات والحيوان دون سائر الموجودات، ولا في كل وقت أيضا، ولكن في وقت دون وقت وأسباب عارضة لا بالقصد الأول من الفاعل، بل من جهة نقص الهيولى وعجز فيه عن قبول الخير في كل وقت أو على كل حال.
وقياسهم في ذلك أعني كون الشرور من قبل الهيولى واعتبارهم الموجودات في الشاهد؛ وذلك أنهم قالوا إنا نجد في ود كل صانع أن تكون مصنوعاته على أتقن ما يمكن، ولكن ربما لا يتأتى في ذلك المادة والهيولى الموضوع في صناعته إلا على قدر ما، فهو يفعل فيها بحسب ما يتأتى فيها، ويعمل عليها ما يجيء عنها، وليس العجز منه بل هو من الهيولى الناقص العسر القبول.
ومثال ذلك أن الحكيم منا في الشاهد في وده أن يعلم كل علم وكل حكمة يحسنها لأولاده وتلامذته، وأن يجعلهم حكماء فضلاء مثله في أسرع ما يكون، ولكنهم لا يقبلون ذلك إلا على التدريج وفي ممر الأيام والأوقات شيئا بعد شيء، لنقص فيهم لا لعجز في الحكيم، والنقص في الكمال يسمى شرا، وليس الشر سوى عدم الخير والتمام والكمال، فهذا كان مبلغ علمهم وإلى ها هنا أدى اجتهادهم.
فأما القائلون بالعلة الواحدة وأنها واحدة قديمة، فإنهم نظروا أدق من نظر أولئك، وبحثوا أجود من بحثهم، وتأملوا غير تأملهم، فرأوا من القبيح الشنيع أن يكون محدث العالم قديمين، واعتبارهم وقياسهم كان في ذلك هكذا:
قالوا لا يخلوا الأصلان القديمان من أن يكونا متفقين في كل شيء من المعاني، أو مختلفين في جميع المعاني، أو متفقين في شيء ومختلفين في شيء؛ فإن كانا متفقين في جميع المعاني فواحد لا اثنين، وإن كانا مختلفين في المعاني فأحدهما عدم، وإن كانا متفقين في شيء ومختلفين في شيء فالشيء الثالث، وقد بطلت المثنوية فيجب أن يكون أصل العالم ثلاثة، والقائلون بالثلاثة أو أكثر لازمة لهم هذه الحكومة والشنيعة أيضا، فأما العلة الواحدة فمتفق عليها بأن من يقول بالاثنين وأكثر فقد قال بالواحد، ثم ادعى إلى مادة الزيادة.
(24) فصل في بيان البحث عن حدوث الهيولى
فنقول: أما المقرون بحدوث الهيولى من الحكماء القدماء، فإنهم لما أرادوا البحث عن ذلك ابتدءوا أولا بالنظر في العلوم الرياضية فأحكموها، ثم بحثوا عن الأمور الطبيعية فعرفوها معرفة صحيحة، ثم تفكروا عند ذلك في الأمور الإلهية وبحثوا عنها بحثا شديدا، بنفوس صافية وأفهام زكية وعقول وافية، فأدركوا ما طلبوا وتصوروا ما بحثوا عنها عن قوة معرفة صحيحة، وسكنت صدورهم إلى ذلك.
وقد بينا في رسائلنا الإلهية طرفا من ذلك، ولكن نذكر أيضا في هذا الفصل مثلا واحدا؛ ليكون دليلا على صحة ما قلنا، وذلك أنهم لما أرادوا النظر في حدوث العالم كيف كان بعد أن لم يكن، وما ذلك الصانع الذي صنعه، نظروا أولا إلى المصنوعات فتأملوها فوجدوها أربعة أنواع: فمنها مصنوعات بشرية نحو ما يعمله الصناع في أسواق المدن، ومنها مصنوعات طبيعية مكونة من الأركان الأربعة مثل أشخاص الحيوانات والنباتات والمعادن، ومنها مصنوعات نفسانية كالأفلاك والكواكب والأركان، ومنها مصنوعات إلهية كالعقل الفعال والنفس الكلية والهيولى الأولى والصورة المجردة.
ثم نظروا إلى المصنوعات البشرية فوجدوا كل صانع من البشر محتاجا في صناعته إلى ستة أشياء ليتم بها صنعته وهي: الهيولى والمكان والزمان والحركة والأدوات والآلة. وكل صانع طبيعي محتاج إلى أربعة منها وهي: الهيولى والمكان والزمان والحركة. ووجدوا كل صانع نفساني محتاجا إلى اثنين منها، وهي الهيولى والحركة، فعند ذلك تبين لهم أن الباري تعالى غير محتاج إلى شيء منها؛ لأن فعله وصنعته إنما هي اختراع وإبداع بلا حركة ولا زمان ولا مكان ولا أدوات؛ وذلك أن الله تعالى أول شخص اخترعه وأوجده - جوهرا شريفا بسيطا روحانيا - يسمى العقل الفعال، ثم أبدع بتوسط هذا الجوهر جوهرا آخر دونه في الشرف يقال له النفس الكلية.
ثم ابتدأ النفس الكلية بتوسط العقل الفعال فحركت الهيولى الأولى طولا وعرضا وعمقا، وكان منها الجسم المطلق، ثم ركب من الجسم عالم الأفلاك والكواكب والأركان الأربعة جميعا، ثم أدار الأفلاك حول الأركان واختلطت بعضها ببعض، وكان منها المولدات الكائنات من المعادن والنبات والحيوانات، فتبارك الله رب العالمين، فقد تبين بهذا الاعتبار وبهذا القياس العلة الفاعلة والعلة الهيولانية والعلة الصورية.
فأما الدليل على صحة ما قلنا وحقيقة ما وصفنا فلا يتبين إلا بعد معرفة النفس ذاته؛ فإنه أشرف جوهرا من الجسم، وقد بينا طرفا من ذلك في رسائلنا: الرياضيات والطبيعيات والإلهيات بما فيه كفاية، ولكن نذكر في هذا الفصل طرفا منها بعون الله.
(25) فصل في أوصاف الجسم
فنقول أولا: إن الجسم جوهر طويل عريض عميق إيجاب غير حي ولا متحرك ولا حساس، سلم هذا بإجماع من العلماء.
فأما النفس فإنها جوهر ليست بجسم، وهي حية بذاتها علامة بالقوة فعالة بالطبع، والدليل على ذلك ما قد بان من تأثيراتها في الأجسام؛ وذلك أنها هي المحركة للجسم المدبرة المكسبة له الحياة والقدرة، وهي المصورة فيه الأشكال والنقوش المتحكمة عليه المتصرفة بحسب ما يتأتى في شخص واحد من الأجسام الكليات والجزئيات أجمع، وكفى بهذا دليلا على وجود النفس وشرف جوهرها.
وأما الدليل على أن العقل أشرف من جوهر النفس فهو بين ظاهر لكل عاقل؛ وذلك أن الإنسان لما كان أفضل من سائر الحيوانات التي تحت فلك القمر وكان فضله إنما هو من قبل عقله لا من جهة النفس؛ لأن سائر الحيوانات لها نفوس أيضا فكفى بهذا دليلا على أن العقل أشرف من النفس.
ولما تبين أن العقل أشرف الموجودات وأفضلها - بعد الباري تعالى - وكان العقل هو المقر على نفسه وعلى ما دونه من الموجودات بأن كلها مبدعات محدثات مكونات، وأنه عبد لربه، وأن ربه علة لها، وهو الذي أبدع الهيولى واخترعها بعد أن لم تكن، فوجب الرجوع إلى حكم العقل وقضيته، فإن قال قائل: إن الذين قالوا بقدم الهيولى وأزليته فبقضية العقل حكموا، فلم لا يجب النزول على قضيتهم والرضى بحكمهم؟ فنقول: إن عقل الإنسان نوعان: غريزي ومكتسب، فأما الغريزي فيحصل للإنسان بعد تأمله للمحسوسات، وأما الغرض المكتسب فكل من كان أكثر تأملا للمحسوسات وأصفى نفسا كان أعقل.
وبهذا العقل يعلم أن العالم مصنوع مركب من هيولى وصورة إذا تأمل جزئياته من الأفلاك والأركان والمولدات والمصنوعات؛ وذلك أن في كل مصنوع آثار الصنعة باقية فيه يضطر العقل الغريزي إلى الإقرار به، وإن لم يعلم متى عمل؟ وكيف عمل؟ ولم عمل؟ ومن عمل؟
وأما حدوث الهيولى فليس يعلم بهذا العقل الغريزي ولكن بالعقل المكتسب، والعقلاء متفاوتو الدرجات في هذا العقل كتفاوتهم في العقل الغريزي. @QUR05 وفوق كل ذي علم عليم.
وذلك أن كل من كان أكثر تأملا وأكثر رياضات للمعقولات الغريزية المأخوذة أوائلها من المحسوسات وأصفى نفسا؛ كان أعقل وأعلى درجة في المعارف.
وإذا تأملت يا أخي وجدت أكثر اختلاف العلماء في أحكام هذا العقل المكتسب: إما من أجل تفاوتهم في درجات عقولهم، وإما من أجل اختلافات قياساتهم وفنون استعمالهم لها.
وذلك أن منهم من يستعمل في البحث عن دقائق العلوم القياس الجدلي، ومنهم من يستعمل القياس الخطابي أو البرهان الهندسي أو المنطقي أو العددي، فتختلف نتائجها بحسب اختلافها، وتختلف أحكام العقول بتفاوتها اختلافا كثيرا لا يحصي عددها إلا الله الواحد القهار، وقد ذكر في كتب المنطق طرف من ذلك بشرح طويل، ولكن نذكر لذلك مثالا واحدا ليكون دليلا على ما وصفنا فنقول:
اعلم أن العقلاء إنما وضعوا القياسات العقلية ليستخرجوا بها المجهولات بالمعلومات فيما اختلفوا فيه بتحرز العقول، كما وضعوا الموازين والمكاييل والأزرع؛ ليستخرجوا بها مقادير الأشياء المجهولة بالأشياء المعلومة؛ لما اختلفوا فيه بالحذر والتخمين فيما يتعاملون، كما أن هذه الموازين مختلفة بحسب بلدانهم وسنن شرائعهم، كذلك قياسهم العقلي يختلف بحسب مراتبهم في درجات العقول المكتسبة.
والذين قالوا بقدم الهيولى أداهم إلى هذا الحكم طريق القياس الذي استعملوه؛ وذلك أنهم نظروا في هذه الهيولى كنظرهم في هيولى الصناعة وهيولى الطبيعة وهيولى الكل فقاسوا بها، ومن ها هنا انحرفوا عن الصواب وأخطئوا القياس، وما مثلهم في ذلك إلا كمثل أولئك الصبيان الأغبياء الذين ذكرناهم في رسالة المعارف؛ وذلك أن هيولى الصناعة مصنوع الطبيعة فهي شيء موجود، وهيولى النفس هو مصنوع الباري تعالى مبدع مخترع لا من شيء آخر، فلو أنهم سلكوا في البحث عن حدوث العالم مسلك الفلاسفة الربانيين لما اختلفوا؛ وذلك أن هؤلاء الحكماء الربانيين لما أرادوا البحث عن حدوث العالم والهيولى الأولى ابتدءوا أولا بالفكر في الأمور الرياضية فأحكموها، ثم بحثوا عن الأمور الطبيعية فعرفوها معرفة صحيحة، ثم تفكروا في الأمور الإلهية وبحثوا عن حدوث العالم وحدوث الهيولى كيف كان فأدركوا ما طلبوا، وفهموا ما أدركوا، وتصوروا ما بحثوا عنه، وبحثوا عما تصور لهم وسكنت نفوسهم إلى ذلك، ونحن قد بينا طرفا من ذلك في رسالة المبادئ العقلية.
(26) فصل في بيان أقاويل العلماء في ماهية الهيولى
فنقول: اعلم أن القائلين في ماهية الهيولى وحدوثها مختلفون في ماهيتها وكيفية حدوث الأجسام منها، وهذا الخلاف هو من إحدى أمهات الآراء والمذاهب المفرعة عنها.
وذلك أن منهم من يرى ويعتقد أنها أجزاء صغار لا تتجزأ، فإن ألفت ضربا من التأليف كانت منها الأجسام المختلفة الأشكال، كما ذكرنا في رسالة الهندسية الحسية؛ فإنها مختلفة الكيفيات؛ يعنون أن منها أجزاء نارية وأجزاء ترابية وأجزاء هوائية، فإذا اختلطت ضروبا من الاختلاط كانت منها المولدات الكائنات من المعادن والنبات والحيوان وسائر الأفلاك والكواكب، والذي أداهم إلى هذا الرأي اعتقادهم للأمور وقياسهم هيولى الصناعة، وذلك أن منهم لما رأوا هيولى الصنائع مختلفة الكيفيات، فإذا ألفت كانت منها جزئيات من المصنوعات المختلفة كالسرير والباب المؤلف من الخشب، وهكذا حروف الكتابة ونغمات الألحان وأصوات الموسيقار وعقاقير الأطباء وأصباغ المصورين وحوائج الطباخين والحلاويين وما شاكلها؛ فإنها كلها مختلفة الكيفيات، إذا اجتمعت وألفت وركبت كانت منها ضروب المصنوعات كما بينا في رسالة نسب الموسيقى؛ فبهذا الاعتبار والقياس حكموا على تلك الأجزاء التي زعموا أنها لا تتجزأ بكيفيات مختلفة الصور، وإلى هذا الموضع كان علمهم وإليه أداهم اجتهادهم.
ومنهم من كان أدق نظرا من هؤلاء وأشد تمييزا وبحثا، فزعموا أن تلك الأجزاء كلها متماثلة فيسد بعضها مسد بعض وينوب منابه.
فإذا ألفت ضروبا من التأليف وشكلت ضروبا من الأشكال واختلطت ضروبا من الاختلاط حدثت منها أعراض ثم كيفيات وهيئات وصفات وألوان وطعوم وروائح وما شاكلها. والذي أداهم إلى هذا الرأي والاعتقاد اعتبارهم هيولات الصنائع؛ فإنها متماثلة الأجزاء، فإذا صورت ضروبا من الأشكال اختلفت أسماؤها وأفعالها كما بينا طرفا في رسالة الهيولى والصورة.
مثال ذلك: قطعتان من حديد صورت إحداهما بشكل تسمى سكينا والأخرى منشارا، وفعل السكين خلاف فعل المنشار والحديد واحد؛ لأن الذي عمل من هذه كان جائزا أن يعمل من تلك الأجزاء متماثلة، والمؤلف المركب مختلف، وإلى هذا الموضع كان مبلغ علمهم ودقة نظرهم.
ومنهم من كان أدق نظرا وأشد بحثا وألطف، وقالوا: إن الهيولى إنما هي جوهر بسيط روحاني معرى من جميع الكيفيات قابل لها على النظام والترتيب الأول فالأول، كما بينا في رسالة المبادئ العقلية.
فقد تبين بما ذكرنا وشرحنا أن العالم مصنوع يعلم ذلك بالعقل الغريزي إذا اعتبر هذا الاعتبار، ويعلم أن الهيولى مبدع مخترع بالعقل المكتسب إذا اعتبر هذا الاعتبار، ويعلم أن الهيولى على ما ذكرنا.
ولما تبين لهؤلاء الحكماء ما العلة الفاعلة وما العلة الهيولانية وما العلة الصورية؛ بحثوا عن العلة التمامية التي هي الغرض الأقصى الذي من أجله يفعل الفاعل فعله، وهذه المسألة أيضا من إحدى أمهات المباحث التي منها تتفرع سائر الآراء والمذاهب.
والذي أداهم إلى هذا البحث هو نظرهم إلى الصنائع البشرية؛ وذلك أنهم وجدوا لكل صانع بشري في فعله غرضا، والغرض هو الغاية التي يسبق إليها فهم الفاعل أولا، وهو من أجله يفعل الفاعل فعله، فإذا فعله وبلغ إليه قطع ذلك الفعل. وهما طائفتان: فمنهم من يرى ويعتقد أن الباري تعالى خلق العالم لعلة ما، والأخرى تعتقد وترى أنه لا لعلة.
والذي أداهم إلى الرأي هو نظرهم وبحثهم واعتبارهم على هذا الوجه الذي نقرره نحن: وهو أنهم قالوا: لا تخلو تلك العلة من أن تكون هي الله تعالى أو غيره، فإن كانت غيره وجب القول بالمثنوية، وقد قام البرهان على فساد هذا الرأي، وإن كانت ليس غيره فهذا الذي قلنا، وإلى هذا كان علمهم وإلى ها هنا كان اجتهادهم.
والذين قالوا بالعلة التمامية طائفتان: إحداهما ترى وتعتقد أن تلك العلة هي إرادة الباري تعالى ومشيئته، ومنهم من يرى ويعتقد أنها علمه السابق؛ والقائلون بالإرادة طائفتان: فمنهم من يرى ويعتقد أنها علمه السابق، وأن إرادة الله صفة من صفاته، ومنهم من يرى ويعتقد أنه فعل من أفعاله؛ والذين قالوا إنه صفة من صفاته طائفتان: فمنهم من يرى ويعتقد أنها صفة ذاتية، ومنهم من يرى أنها صفة عرضية؛ والذين يرون أنها صفة عرضية: فمنهم من يرى أنها قائمة به، ومنهم من يرى أنها قائمة بغيره، ومنهم من يرى أنها قائمة بنفسها.
وبين هؤلاء منازعات ومناقضات يطول شرحها مذكورة في كتب جدالهم وخصوماتهم.
والذين قالوا إن تلك العلة هي علمه السابق طائفتان: فمنهم من يرى ويحتج بأنه خلق العالم؛ لأنه كان عالما بأنه سيخلق، فلو لم يخلق لكان مخالفا للعلم والمخالف للعلم جاهل، وهو تعالى منزه عن أمثال الخلق.
ومنهم من يرى أنه سيخلق لأن خلقه للعالم حكمة، وفعل الحكمة عند الحكيم واجب، فإذا لم يفعل الحكيم الحكمة يكون سفيها، فلو لم يخلق إذن العالم لكان تاركا للحكمة، وتارك الحكمة سفيه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وهذا أرجح الأقاويل وأحق الصواب.
(27) فصل في بيان قول القائلين: إن أسباب الشرور في العالم بالعرض لا بالقصد
وأما القائلون بأن الشرور هي عارض في العالم من قبل الهيولى الذي هو جوهر منفعل ناقص القبول للفضائل فطائفتان: إحداهما ترى وتعتقد قدمها فيما مضى دهرا طويلا وهي عادمة للصورة والأشكال والكيفيات أجمع.
ثم إن الباري تعالى قصد وصور في تلك الهيولى عالم الأجسام ذا الثلاثة الأبعاد وجعلها على أشكال كريات مستديرات محيطات بعضها ببعض كما ذكر في كتاب المجسطي وكتاب بانياس الحكيم في تركيب الأفلاك وأطباق السموات، وجعلها مسكنا لعبيده ومأوى لجنوده، وهي النفوس السارية في العالم من أعلى الفلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض، وهي أجناس الملائكة وقبائل الجن وأحزاب الشياطين وأرواح بني آدم والحيوانات أجمع، وهم سكان سمواته وقاطنو أرضه العامرون عالمه، المديرون أفلاكه المسيرون كواكبه المعيشون حيوانات أرضه المربون نباتها والمكونون معادنها، كل ذلك بإذن الله تعالى وتقدس، ولله جنود السموات والأرض ولكن أكثرهم لا يعلمون.
ومن أجلهم خلق السموات ومن أجلهم بسط الأرض، وبهم تدبير العالم، كل ذلك ليبلغهم أقصى درجات غاياتهم التي هي البعث والخلود في النعيم أبد الآبدين، وقالوا: هذا كله حكمة وجود وفضل ونعم وإحسان وخيرات، والله تعالى خالقها وجاعلها وعلتها ومبقيها ومتممها.
فأما الشرور فهي عدم هذه الخيرات عن الهيولى ونقصانها عنه؛ وذلك أنها لو خليت بطبيعتها لرجعت إلى حالتها الأولى وخلعت الصورة عن ذاتها، وبطل نظام العالم واضمحل وجود الخلائق، وكان من ذلك بوار الكل والفساد وهو الشر المحض، ولكن من حكمة الله لا يقتضى تركها؛ لأن تصويره الهيولى إيجاد وتركيب العالم منه حكمة، والنشوء وجود منه وتفضل عليهم ورحمة لهم، والعدم بعد الوجود شر، ونقض الحكمة سفه، واسترجاع الفضل لؤم، وترك الرحمة قساوة. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
ثم اعلم يا أخي أن ليس مما حكى هؤلاء من أحوال الهيولى، ووصفوا من أسباب الشرور ونسبوها إلى الهيولى بمنكر عند خصمائهم غير قولهم بقدمها، وإن كانوا أرادوا بقولهم: قدم الهيولى الأولى، أنها أقدم من الشيء الموضوع المصنوع منها؛ فهذا قول صحيح، وإن أرادوا أنها ليست مبدعة ولا مخترعة فالمنازعة في هذه الحكومة وقعت، فقد بينا في رسالة المبادئ حقيقتها وكيف هي مبدعة ومخترعة.
ثم اعلم أن كثيرا من أهل العلم ومن تكلم في حقائق الأشياء لا يعرفون الفرق بين الشيء المخلوق والمصنوع، وبين المخترع والمبدع، وهذا أحد أسباب الخلاف بين العلماء في آرائهم ومذاهبهم في قدم العالم وحدوثه.
ثم اعلم أن الخلق هو تقدير كل شيء من شيء آخر، والمصنوع ليس هو بشيء غير كون الصورة في الهيولى.
وأما الإبداع والاختراع فهو إيجاد شيء من لا شيء، وهذه المعرفة. وتصور هذه الحكومة يبعد عن كثير من المرتاضين بالرياضات الحكمية فكيف على غيرهم؟!
ثم اعلم أن الذين قالوا بقدم الهيولى إنما دعاهم إلى هذا النظر والرأي، نظرهم إلى الموجودات الجزئيات التي دون فلك القمر، واعتبارهم هذه الكائنات الفاسدات من المعادن والنبات والحيوان؛ وذلك أنهم وجدوا كل مصنوع بشري وطبيعي مركبا من هيولى ساذج لا شكل فيه قبل تصوير الصانع له بذلك الشكل، وإذا خلا ذلك المصنوع زمانا طويلا اندرس واضمحل وانخلعت الصورة عنها ورجعت إلى حالتها الأولى ترابا.
مثال ذلك: البنايات المتخذة في المدن والقرى؛ وذلك أنهم رأوا صناعها جمعوا التراب والخشب وبنوها، ثم يحفظونها بالمرمات لتدوم زمانا، فإذا خلت زمانا طويلا تهدمت واندرست واضمحلت وصارت ترابا وحجارة كما كانت بديا، وهكذا حكم النبات والحيوان والمعادن التي هي مصنوعات طبيعية فإنها تصير كلها يوما ترابا وإن طال الزمان.
فعلى هذا القياس والاعتبار حكموا على الهيولى الأولى، وصنعة الباري فيها العالم، وحفظه على ما هو عليه الآن من النقش والتصاوير والأشكال والهيئات المختصة بفلك فلك، وكوكب كوكب، وركن ركن، وأجناس الحيوانات أجمع، والنبات والمعادن واحدا واحدا.
وأما الهيولى التي لا كيفية فيها فليست هي محتاجة في وجودها إلى صانع وفاعل، بزعمهم، فهذا كان اعتبارهم، وإلى هذا الموضع كان مبلغ اجتهادهم، فأما الذين قالوا بحدوث الهيولى فإنهم نظروا أدق نظر من أولئك، وتأملوا أجود من تأملهم، وبحثوا أشد بحثا منهم، كما بينا فيما تقدم ذكر ذلك فاطلبه من هناك.
(28) فصل في بيان كمية أنواع الخيرات والشرور في هذا العالم
فنقول: اعلم أن الخير والشر على أربعة أنواع: فمنها ما ينسب إلى سعود الفلك ونحوسه، ومنها ما ينسب إلى الأمور الطبيعية من الكون والفساد وما يلحق الحيوانات من الآلام والأوجاع، ومنها ما ينسب إلى ما في جبلة الحيوانات من التآلف والتنافر والمودة والتباغض وما في طباعها من التنازع والتغالب، ومنها ما ينسب إلى ما يلحق النفوس التي تحت الأمر والنهي في أحكام النفوس من السعادة والمنحسة في الدنيا والآخرة جميعا.
ثم اعلم أن لهذه الأنواع من الخيرات والشرور التي ذكرناها أسبابا وعللا يطول شرحها، وقد ذكرنا طرفا في رسالة العلل والمعلولات، ولكن نذكر في هذا الفصل منها ما لا بد منه فنقول: إن الخيرات التي تنسب إلى سعود الفلك هي بعناية من الله تعالى وقصد منه لا شك فيه، وأما الشرور التي تنسب إلى نحوس الفلك فهو عارض لا بالقصد.
مثال ذلك: إشراق الشمس وطلوعها على بعض البقاع تارة وتسخينها الماء مدة، ومغيبها عنها تارة أخرى كيما تبرد تلك البقاع مدة ما؛ فهو بعناية من الله تعالى وواجب حكمته لما فيه من الصلاح والنفع للعموم كما قال تعالى: @QUR019 قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون وقال: @QUR013 ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون وإنما ذكر الله تعالى إنعامه على عباده وإحسانه إليهم وأفضاله عليهم.
فأما التي تعرض لبعض الحيوانات ولبعض النبات من الحر المفرط والبرد المتلف في بعض الأوقات وفي بعض الأحايين وفي بعض البقاع فليس ذلك بالقصد الأول.
وهكذا أيضا حكم الأمطار؛ فإنما يرسلها لكيما يحيي بها البلاد ويصلح بها شأن العباد، فإن عرض من ذلك أذية لبعض الحيوانات أو تلف النبات أو تحزنت به العجائز فليس ذلك بالقصد الأول.
وعلى هذا القياس حكم جميع ما ينسب إلى نحوس الفلك من الأمور العارضة للحيوان والنبات والمعادن ومواليد الناس، وما يحكم في تحاويل من السنين وأحكام القرانات وما شاكل ذلك، وما ينسب إلى نحوس الفلك من الشرور والفساد جميعا عارضا بالقصد الأول.
وأما الخيرات التي تنسب إلى الأمور الطبيعية فهي كون الحيوان والنبات والمعادن والأسباب المعينة لها على النشوء المبلغة إلى أتم حالاتها وأكمل نهاياتها؛ فهي كلها بقصد من الله تعالى وعناية من تفضله وإنعامه.
وأما الشرور التي هي الفساد والبلى الذي يلحقها بعد الكون والفساد والأسباب التي تعوقها عن البلوغ إلى التمام والكمال فهي عارض لا بالقصد الأول ولكن بالقصد الثاني؛ وذلك أن هذه الكائنات التي هي دون فلك القمر لما لم يكن أن تبقى أشخاصها في الهيولى دائما في هذا العالم تلطفت الحكمة الإلهية والعناية الربانية أن يكون بقاؤها بصورها وإن كانت الأشخاص في الذوبان والسيلان دائما.
والمثال في ذلك صورة الإنسانية التي هي خليفة الله في أرضه؛ فإنها باقية منذ خلق الله تعالى آدم أبا البشر إلى يوم القيامة، وإن كانت الأشخاص في الذهاب والمجيء فهكذا حكم سائر الحيوانات والنبات والمعادن وأنواعها باقية بصورها وإن كانت الأشخاص في السيلان والذوبان.
وإنما كان ذلك بواجب الحكمة؛ لأن في القوة فضائل وخيرات بلا نهاية لا يمكن خروجها من القوة إلى الفعل والظهور دفعة واحدة في وقت واحد؛ لأن الهيولى لا تتسع لقبولها الأشياء شيئا بعد شيء على التدرج وممر الأوقات والزمان دائما أبدا.
والمثال في ذلك: أنه لو خلق الله بني آدم كلهم - من مضى منهم ومن هو موجود الآن ومن يحيا من بعد إلى يوم القيامة - في وقت واحد لم تكن تسعهم الأرض برحبها، فكيف حيوانهم ونبات غذائهم وأمتعتهم وما يحتاجون إليه في أيام حياتهم، فمن أجل هذا خلقهم قرنا بعد قرن وأمة بعد أمة؛ لأن الأرض لا تسعهم، والهيولى لا تحملهم دفعة واحدة، فقد تبين مما ذكرنا أن النقصان ليس من قبل الله تعالى ، وعلة أخرى أيضا لأسباب الشرور.
وذلك أنه لما كانت هذه الكائنات يبتدئ كونها من أنقص الوجود وأضعف القوى مترقية إلى أتم الحالات وأكمل الغايات بأسباب معينة لها على النشوء والنمو ومبلغة إلى أكمل غاياتها بعناية من الله تعالى سميت تلك الأمهات خيرات، وكذلك كل سبب عارض بلوغها عن ذلك يسمى شرا وهي عارضة لا بالقصد الأول، والمثال في ذلك ما تقدم ذكره من أمر الشمس والمطر.
(29) فصل في بيان الفرق بين القصد الأول والقصد الثاني على قول الحكماء
فنقول: أما الخيرات التي تنسب إلى جبلة الحيوانات وما في طباعها وأخلاقها وأفعالها بقصد منها وإرادة فهي بالقصد الثاني لا بالقصد الأول.
ثم اعلم أن معنى قول الحكماء: القصد الأول والقصد الثاني أن الفرق بينهما هو أن ما كان من قبل الباري تعالى من الإبداع والإيجاد والاختراع والبقاء والتمام والكمال والبلوغ وما شاكل ذلك من الأوصاف يسمى القصد الأول، والقصد الثاني هو كل ما كان من قبل نقص الهيولى، إنه لم يجئ منها إلا هذا ولم يقبل إلا هذا وما شاكل ذلك من الأوصاف.
وأما بيان أنواع الشرور والمنسوب إلى بعض الحيوانات وإلى الجبلة المركوزة فيها فنقول: إن الشرور التي تنسب إلى جبلة الحيوانات وما في طباعها هي ثلاثة أنواع: فمنها الآلام التي تعرض لها دون سائر الموجودات، ومنها العداوة التي في جبلتها، ومنها أفعالها التي بقصد منها وإرادة.
فأما آلامها فتكون من ثلاثة أوجه: أحدها ألم الجوع والعطش عند حاجة أجسادها إلى المادة والغذاء، والثاني ألم الضرب والصدم والكسر المضر بأجسادها المتلف لهياكلها، والثالث ألم الأمراض والأسقام المفسدة لمزاج أجسادها وأخلاط أبدانها.
فأما الآلام التي تعرض لنفوسنا عند الجوع والعطش فإن ذلك بالقصد الثاني؛ وذلك أنه لما كانت هذه الأشخاص كل واحد منها مركب من جسد جسماني ونفس روحاني، وكانت الأجسام مركبة من الأخلاط المركبة المتضادة وهي دائمة في الذوبان والسيلان ومحتاجة في بقائها إلى المادة والغذاء جعلت لنفوسها آلام عند حاجتها إلى الغذاء والمادة؛ لتكون تلك الآلام باعثة لنفوسها لتنهض بأجسادها في طلب الغذاء، فلو لم تكن تعرض لها تلك الآلام لتهاونت بها وتركتها بلا غذاء، وكانت تذوب وتضمحل كلها وتبطل لأقرب مدة وأهون سعي، وكانت تبقى تلك النفوس إما بأجساد أو بلا أجساد ناقصة غير تامة ولا كاملة، وكانت تعوقها المآرب التي هي مقصودة بها كما بينا في رسالة البعث والقيامة، وجعل لها أيضا عند تناول الغذاء لذة وشهوة.
أما الشهوة فلأن لا تتناول من الغذاء ما لا يصلح لها، وأما اللذة فلأن تأكل وتشرب ما دامت الطبيعة محتاجة لها، وإذا اكتنفت زالت اللذة؛ فهذه كلها بقصد من الله الواحد القهار، ومن أجل النقص الذي في الهيولى كيما تتم النفوس وتكمل، وأما الضرب والكسر والصدم والجرح والحر والبرد والأمراض والأسقام، وبالجملة كل أمر مضر بالجسد مفسد فإنما جعل للنفوس ألما لكيما تحثها تلك الآلام على حفظ أجسادها وصيانة هياكلها؛ إذ كانت الأجساد لا حيلة لها في جر منفعة ولا دفع مضرة عنها.
ومن الدليل على صحة ما قالوه ما تبين منها أنها كيف تنتبه من حال النوم؟ وكيف تتيقظ من حالة الغفلة؟ وكيف تحس وتشعر بالأشياء المؤذية المفسدة من الجسد؟ وكيف تدفع تلك الأشياء عن جسدها إما بالفرار والانقباض عنها وإما بالقوة والجلادة والمجاهدة وإما بالحيلة والمداراة؟ ولو لم تفعل ذلك لهلكت الأجساد في أقرب مدة وأهون سعي قبل التمام والكمال، فإذا جاءتها المقادير والوقت المعلوم والأسباب الغالبة القاهرة فانظر كيف تسلمها إليها؟ وكيف تفارقها على غير اختيار منها؟
فأما ما دام له طمع في دفع تلك الآلام المواردة المؤذيات فهي في العلاج والجهاد رجاء للصلاح وحرصا على البقاء ومحبة على الوجود على أتم ما يمكن؛ إذ كان هذا هو الخير وكراهية منها للفناء على هذا النقص؛ إذ كان هو الشر لأن العدم المطلق ليس للأجسام ولا للنفوس ما دام العالم موجودا، فقد تبين من ذلك أن الآلام أيضا بقصد وعناية واقتضاء الحكمة.
(30) فصل في بيان أن الشرور التي في جبلة الحيوانات المختلفة الصور والأشكال هي بالقصد الثاني
فنقول : أما الخيرات التي في جبلة الحيوانات وأخلاقها التي هي الإلف والمحبة والشرور التي هي العداوة والغلبة والقهر فهي أيضا بالقصد الثاني؛ وذلك أنه لما كانت الحيوانات مختلفة الصور والأشكال والطباع والعادات والأخلاق والأفعال لأسباب يطول شرحها - وقد بينا طرفا في رسالة العلل والمعلولات - جعل بين بعضها وبعض ألفة ومحبة ومودة؛ لكيما يكون ذلك سببا لاجتماعها واتفاقها؛ لما في ذلك من صلاح الكل والنفع على العموم، وجعل أيضا بين بعضها وبين بعض نفورا وعداوة؛ ليكون سببا لتباعدها وتفرقها؛ لما في ذلك أيضا صلاح الكل والنفع على العموم.
مثال ذلك: إلف بعض الحيوانات للإنسان وانقيادها للطاعة كالبقر والغنم والخيل والبغال والحمير والجمل والفرس؛ لما في ذلك صلاح ونفع للناس المعروف المشهور، ولا حاجة إلى تفصيل كيفية ذلك، ولما لها أيضا من النفع في مراعاة الناس بالعلف والسقي والسكن من الحر والبرد ومنع السباع عنها، ومداواتها من الآفات العارضة وما شاكل ذلك، ومثال نفور بعض الحيوانات من الإنسان وتباعدها عن طاعته مثل السباع والحيات وجملة الحيوانات القليلة النفع الكثيرة الضر؛ لما فيه من صلاح الكل والنفع للعموم.
وعلى هذا القياس حال سائر الحيوانات بعضها مع بعض فيما بينها من الإلف والمحبة والبغض والعداوة؛ لما فيها من النفع والصلاح.
وأما الشرور التي تنسب إلى بعض أفعال الحيوانات بالقصد منها والإرادة فمنها أيضا عارضة من أجل الهيولى التي هي مادة لأجسادها وقوام لهياكلها؛ وذلك أن المنافع لما كانت مشتركة بين الجميع وكان في جبلتها طلب المنافع ودفع المضار بالقصد الأول من الله تعالى، كما تقدم ذكرها، وقعت بينها هذه المنازعة في طلب تلك المنافع ودفع تلك المضار بالعرض لا بالقصد.
وأما علة كون الحيوانات بعضا آكلة وبعضها مأكولة فقد بينا طرفا منها في رسالة الحيوانات.
(31) فصل في بيان أنواع الشرور التي تنسب إلى الأنفس الإنسانية من جهة أحكام الناموس
فنقول: اعلم أن الخيرات والشرور التي تنسب إلى الأنفس الإنسانية الجزئية من جهة أحكام الناموس هي نوعان: فمنها ما هي أعمال لها واكتساب منها، ومنها ما هي جزاء لأعمالها ومكافأة لها.
فأما التي هي الاكتساب فهي خمسة أنواع: منها ما هي علوم ومعارف، ومنها ما هي أخلاق وسجايا، ومنها ما هي آراء واعتقادات، ومنها ما هي كلام وأقاويل، ومنها ما هي أعمال وحركات، وهذه الخصال الخمس تسمى خيرات وشرور من وجهين: إما عقلية وإما وضعية. والوضعية منها هو كل شيء أمر به الناموس أو حث عليه أو مدحه، فيسمى ذلك خيرا، وكل شيء نهى عنه أو زجر عنه، يسمى ذلك شرا.
أما العقلية من هذه الخصال فهي كل شيء إذا فعل منه ما ينبغي على الشرائط التي تنبغي في المكان الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي من أجل ما ينبغي، يسمى ذلك خيرا، ومتى نقص من هذه الشرائط واحد يسمى ذلك الأمر شرا. ومعرفة هذه الشرائط ليس في وسع كل إنسان في أول مرتبته إلا بعدما تتهذب نفسه وتترقى في العلوم والآداب.
ومن أجل هذا يحتاج كل إنسان إلى معلم ومؤدب أو أستاذ في تعلمه وتخلقه وأقاويله واعتقاده وأعماله وصنائعه.
ثم اعلم أن أصحاب الناموس هم المعلمون والمؤدبون والأستاذون للبشر كلهم ومعلمو أصحاب النواميس هم الملائكة، ومعلم الملائكة هو النفس الكلية ومعلمها العقل الفعال، والله تعالى معلم الكل.
وإنما طولنا الخطاب في الكشف عن الخيرات والشرور؛ لأن هذه المسألة من إحدى مسائل أمهات الخلاف بين العلماء المتشعبة منهم الآراء والمذاهب الكثيرة، كل ذلك لقلة معرفة من يتكلم منها وهو لا يدري ما الخير، على الحقيقة؟ وما الشر؟ وما السبب العارض؟
وإذ قد تبين مما ذكرنا علل اختلاف العلماء في الآراء والحكمة وحدوث العالم وقدمه نريد أن نذكر أيضا طرفا من عبادة الأصنام التي هي أقدم الديانات وأغلبها من الكل.
(32) فصل في بيان طباع الناس في الرغبة في الدنيا والآخرة
فنقول: اعلم يا أخي أن الناس - وإن كان أكثرهم مطبوعين على الرغبة في الحياة الدنيا والحرص على طلب شهواتها والميل إلى التمتع بلذاتها - غافلون عن أمر الآخرة ونعيمها وسرور أهلها ودوام لذاتها، وإن كثيرا من الناس أيضا كلهم مجبولون على التدين والورع والخير والزهد في الدنيا وترك شهواتها، والرغبة في الآخرة وطلب نعيمها، وكثرة التفكر في أمر المعاد بعد الموت، والرغبة في معرفته وحقيقة الحال في المنقلب، وهم في دائم الأوقات يسألون الله الرحمة والمغفرة، ويطلبون منه حسن التوفيق وخير الآخرة، ويتقربون إليه بالصلاة والصوم والتسبيح والقرآن والدعاء وفنون العبادات، كل ذلك بحسب ما يمكنهم ويؤدي إليه اجتهادهم ويحسن في عقولهم ويتحقق في نفوسهم.
ثم اعلم أن الله تعالى ما بعث الرسل والأنبياء عليهم السلام إلى الناس إلا بالتأكيد لما في نفوسهم من أمر الدين بطلب الآخرة؛ إرشادا لهم إلى ما هو أصلح مما اختاروه بعقولهم، وأقرب مسلكا وأفضل سيرة وأحسن طريقة فيما أداهم إليه اجتهادهم وتحقق في نفوسهم بآرائهم، والدليل على صحة ما قلنا قوله تعالى لنبيه عليه السلام: @QUR08 قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم؛ وذلك أن القوم الذين بعث إليهم النبي، عليه الصلاة والسلام والتحية والرضوان، كانوا يتدينون بعبادة الأصنام، وكانوا يتقربون إلى الله تعالى بالتعظيم لها والسجود والاستسلام والبخورات، وكانوا يعتقدون أن ذلك يكون قربة لهم إلى الله وزلفى. والأصنام هي أجسام خرس لا نطق لها ولا تمييز ولا حس ولا صورة ولا حركة، فأرسلهم الله ودلهم على ما هو أهدى وأقوم وأولى مما كانوا فيه؛ وذلك أن الأنبياء عليهم السلام وإن كانوا بشرا فهم أحياء ناطقون مميزون علماء مشاكلون للملائكة بنفوسهم الزكية، يعرفون الله حق معرفته، والتقرب إلى الله تعالى بهم أولى وأهدى وأحق من التوسل بالأصنام الخرس التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عنك شيئا.
ثم اعلم أنا نبين ها هنا بدء عبادة الأصنام فنقول بأن بدء عبادة الأمم للأصنام أولا كان عبادة الكواكب، وبدء عبادة الكواكب كان عبادة الملائكة، وسبب عبادة الملائكة كان التوسل بهم إلى الله تعالى وطلب القربة إليه؛ وذلك أن الحكماء الأولين لما عرفوا بذكاء نفوسهم وصفاء أذهانهم أن للعالم صانعا حكيما؛ وذلك لتأملهم عجائب مصنوعاته وتفكرهم في غرائب مخلوقاته واعتبارهم تصاريف أحوال مخترعاته، ولما تحققت في نفوسهم هويته، أقروا له عند ذلك بالوحدانية ووصفوه بالربوبية، وعلموا أن له ملائكة هم صفوته من خلقه وخالص عباده من بريته، طلبوا عند ذلك إلى الله القربة، وتوسلوا إليه بهم وطلبوا الزلفى لديه بالتعظيم لهم كما يفعل أبناء الدنيا ويطلبون القربة إلى ملوكهم بالتوسل إليهم بأقرب المختصين بهم، وكان من الناس من يتوسل إلى الملك بأقاربه وندمائه ووزرائه وكتابه وخواصه وقواده وبمن يمكنه بحسب ما يتأتى له - الأقرب فالأقرب والأدنى فالأدنى - كل ذلك طلبا للقربة إليه والزلفى لديه.
فهكذا وعلى هذا المثال فعلت الحكماء وأهل الديانات ومن عرف الله وآمن به وأقر به، فإنهم طلبوا القربة إليه والزلفى عنده، كل واحد بحسب ما أمكنه وتأتى له وأدى إليه اجتهاده وتحقق في نفسه.
فلما مضى أولئك الحكماء والربانيون العارفون بالله حق معرفته وانقرضوا خلفهم قوم آخرون لم يكونوا مثلهم في المعرفة والعلم، ولم يعرفوا مغزاهم في دياناتهم، فأرادوا الاقتداء بهم في سيرتهم، واتخذوا أصناما على مثل صورتهم، وصوروا تماثيل على مثل ما فعلت النصارى في بيعهم من التماثيل والصور مثل أشباه المسيح عليه السلام، ومثل روح القدس وجبرائيل ومريم، عليها السلام، وكذلك أحوال المسيح في متصرفاته؛ ليكون ذلك تذكارا لهم بأحواله كيف ما يمحو تلك التصاوير والتماثيل.
(33) فصل في بيان من يتقرب إلى الله بأنبيائه ورسله
ثم اعلم يا أخي أن من الناس من يتقرب إلى الله بأنبيائه ورسله وبأئمتهم وأوصيائهم أو بأولياء الله وعباده الصالحين، أو بملائكة الله المقربين والتعظيم لهم ومساجدهم ومشاهدهم والاقتداء بهم وبأفعالهم، والعمل بوصاياهم وسننهم؛ على ذلك بحسب ما يمكنهم ويتأتى لهم ويتحقق في نفوسهم ويؤدي إليه اجتهادهم.
فأما من يعرف الله حق معرفته فهو لا يتوسل إليه بأحد غيره، وهذه مرتبة أهل المعارف الذين هم أولياء الله.
وأما من قصر فهمه ومعرفته وحقيقته فليس له طريق إلى الله تعالى إلا بأنبيائه، ومن قصر فهمه ومعرفته بهم فليس له طريق إلى الله تعالى إلا بالأئمة من خلفائهم وأوصيائهم وعباده الصالحين، فإن قصر فهمه ومعرفته بهم فليس له طريق إلا اتباع آثارهم والعمل بوصاياهم والتعلق بسننهم والذهاب إلى مساجدهم ومشاهدهم، والدعاء والصلاة والصيام والاستغفار وطلب الغفران والرحمة عند قبورهم وعند التماثيل المصورة على أشكالهم؛ لتذكار آياتهم وتعرف أحوالهم من الأصنام والأوثان وما يشاكل ذلك طلبا للقربة إلى الله والزلفى لديه.
ثم اعلم أنه على كل حال من يعبد شيئا من الأشياء ويتقرب إلى الله تعالى بأحد فهو أصلح حالا ممن لا يدين شيئا ولا يتقرب إلى الله البتة؛ وذلك أن قوما قد رزقوا من الفهم والتمييز قدرا فخرجوا بذلك من جملة العامة، ولم يحصلوا في جملة الخاصة، فهم لا يعرفون الله حق معرفته ولا يتحققونه بصفات وحدانيته، ولا يعرفون الآخرة علما واستبصارا، ولا يرضون الدين تقليدا وإيمانا، فهم مذبذبون بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فاحذر أنت يا أخي أن تكون من جملتهم فإنهم جنود إبليس وإخوان الشياطين @QUR07 يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا يعيبون الديانات ويزرون على أهلها ويهلكون أنفسهم ولا يشعرون.
ثم اعلم أنهم أسوأ حالا من عابدي الأصنام على كل حال؛ لأن عابدي الأصنام يدينون بشيء ويتقربون إلى الله ويخافونه ويرجونه، فأما هؤلاء فلا دين لهم ولا يعتقدون شيئا ولا يعبدون ولا يخافون ولا يرجون شيئا.
ثم اعلم أن علة تركهم الدين أصلا من أجل أنهم لما تأملوا بعقولهم اختلاف أهل الديانات وجدوا دين كل قوم معيوبا عند قوم آخرين، فلم يجدوا مذهبا ولا دينا بلا عيب، تركوا الدين جملة من أجل هذا، ولم يتأملوا ولا فكروا بأن كون العاقل بلا دين أعيب وأقبح من كل عيب.
ثم اعلم أن في ذكر أهل الديانات عيوب بعضهم بعضا حكمة جليلة قد بيناها في رسالة العلل والمعلولات، وليس ذلك بأن الدين معيوب، ولكن كانت مفروضات واضعي الشريعة وسننهم مختلفة لأغراض شتى، والأغراض يطول شرحها، وتكون تلك السنن عند قوم محمودة صالحة؛ لسبب نشوئهم عليها ودربتهم في طول الزمان وجريان عاداتهم عليها، ويكون الدين معيوبا ومنكرا عند قوم آخرين؛ لأنهم نشئوا على غيره واعتادوا سواه وألفوا خلافه، لا بأن الدين معيوب وسنن الديانات قبيحة.
ثم اعلم أنه لما كانت طباع الناس مختلفة وأخلاقها متغايرة وإراداتها مفننة، والنفوس يعرض لها أمراض مختلفة بحسب الزمان والأمكنة والطباع والأمزجة والعادات، وكان واضعو النواميس هم أطباء النفوس ومنجموها كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن مثل أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم.» وغرض كلهم اكتساب الصحة وحفظ السلامة عليها من الآفات العارضة.
فمن أجل هذا اختلفت مفروضاتهم وتغايرت سننهم حسب ما يليق بأمة أمة، وطائفة طائفة من الناس والأمم، من المداواة لنفوسهم، والحمية لها من المحرمات عليهم كما يفعل أطباء الأجسام في العلاجات المختلفة بالبلدان المختلفة لأجل الأمراض المختلفة في الأزمان المختلفة، من تغيير الأشربة وتبديل الأدوية وتقليل الأوزان وتكثيرها بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة، ولا سيما بحسب اختلاف أمزجة الإنسان ومراعاة العادات؛ وذلك أن غرضهم حفظ الصحة الحاصلة واسترداد الصحة المفقودة.
فهكذا أفعال الأطباء من النواميس واختلاف سننهم وترتيب أوضاعهم وأمرهم وإجازتهم في شيء ونهيهم وتحريمهم عن شيء تشبه بعينها أفعال أطباء الأجسام ومداواتهم قطعا.
ولا يخفى عليك أيها الأخ مداواة المسيح لأقوام شتى وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص حتى نجت نفوس قوم ضالين من أمراض الجهالة المزمنة العسرة الزوال بشربات الأسرار والحكم ومعاجين التوحيد والتمجيد ومسهلات الحلم والاستغفار، وحسن تحمية ترك الشهوات وبرحلة الشتاء والصيف من غليان نار الغضب وبرد البلادة.
وكذلك إبراء الأكمه بالمداواة اللائقة بالعين؛ إذ العمى عمى القلب لا عمى العين، كما أن الغنى غنى القلب لا غنى المال.
وكيف داوى الأكمه، فيا عجبا كل العجب إنه أبرأ الأكمه باكتحال الجواهر الروحانية وبتأليف الأسرار الربانية وبذر البذورات المفردات الهيولانية، وبسائط الأركان الناموسية، والمائعات التي أنزلت من السماء فسالت أودية بقدرها، فلا جرم أنه يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص بهذه المداواة بإذن الله وتوفيق الله!
فانتبه يا أخي من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، ولا تظن بالله ظن السوء، واطلب أولياء الله الكرام ومجالسة واضعي النواميس لتنجو بشفاعتهم وتنال ببركاتهم سرورا ونعيما في دار القرار .
(34) فصل في بيان علة الاختلافات التي بين أهل الديانات النبوية بعضها في الأصول وبعضها في الفروع
وذلك لأسباب شتى نحتاج إلى أن نذكرها، ولكن من أجل أن كثيرا ممن ينظر في الآراء ويتكلم في المذاهب لا يعرف الفرق بين ذلك، لكنا نذكر ها هنا طرفا فنقول:
إن معنى الدين في لغة العرب هو الطاعة من جماعة لرئيس واحد، ولما كانت الطاعة لا تتبين إلا بالأوامر والنواهي، والأمر والنهي لا يعرفان إلا بالأحكام والحدود والشرائط في المعلومات سميت هذه كلها شريعة الدين وسنن أحكامه.
فلما كان الإنسان هو جملة مركبة من جسد جسماني ظاهر جلي، ومن نفس روحانية باطنة خفية، صارت أحكام الدين والإسلام وحدود الشريعة على وجهين: ظاهر وباطن. والظاهر هو أعمال الجوارح، والباطن هو اعتقادات الأسرار في الضمائر، وهو الأصل كما قال عليه السلام: «الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى.»[3]
ثم اعلم أن الأنبياء عليهم السلام لا يختلفون فيما يعتقدون من الدين سرا وعلانية ولا في شيء منه البتة كما قال تعالى: @QUR05 أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه، وقد بينا أنها اثنتا عشرة خصلة يعتقدها الأنبياء وأصحاب النواميس الإلهية أجمعين لا يختلفون فيها، كما بينا في رسالة النواميس.
وأما الشرائع التي هي أوامر ونواهي وأحكام وحدود وسنن، فهم فيها مختلفون كما قال تعالى: @QUR05 لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا وقال: @QUR06 لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه.
ثم اعلم أن اختلاف الشرائع ليس بضار؛ إذ كان الدين واحدا؛ لأن الدين هو طاعة وانقياد للرئيس الآمر فيما يأمر وينهى المرءوسين بحسب ما يليق بواحد واحد، وما يرى أنه يصلح له ويصلح فيه؛ لأن أوامر أصحاب النواميس ونواهيهم مماثلة لأمر الطبيب الرفيق الشفيق فيما أمر العليل من الحمية في الصيف من تناول الأشياء الحارة بالطبع، وإجازته شرب المبردات في البلدان الحارة وفيما يرى ويأمر له.
فمن أجل هذا اختلفت شرائع الأنبياء عليهم السلام. وكذلك إن اختلفت سنن الدين وقواعد النواميس؛ لأنهم أطباء النفوس ومنجموها؛ وذلك أن في الأدوار والقرانات والألوف قد تعرض للنفوس من أهل كل زمان أمراض وأعلال مختلفة من الأخلاق الرديئة والعادات الجائرة والآراء الفاسدة من الجهالات المتراكمة، كما يعرض للأجساد من الأمراض والأعلال من تغييرات الزمان والأهوية والأغذية، فبحسب ذلك يجب أن يكون اختلاف علاجات الأطباء ومداواتهم.
فهكذا شرائع الأنبياء واختلاف سننهم بحسب أهل كل زمان وما يليق بهم أمة أمة وقرنا قرنا مثل شريعة نوح عليه السلام، في زمانه، وشريعة إبراهيم عليه السلام، بعده في زمان آخر وقوم آخرين، وشريعة موسى عليه السلام، في زمان آخر وقوم آخرين، وشريعة المسيح بعده في زمان آخر وقوم آخرين، وشريعة سيد الأنبياء محمد، عليه الصلاة والسلام والتحية والرضوان، في زمان آخر وقوم آخرين، كما قال تعالى: @QUR011 شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك، فهؤلاء كلهم دينهم واحد وإن كانت شرائعهم مختلفة، وإنما ذكرنا في هذا الفصل من هذه الأشياء؛ لأن الذين أنكروا نسخ الشرائع من هذا الباب لم يعرفوا الفرق بين الدين والشريعة.
وأما الاختلافات التي وقعت بين شريعة واحدة بعضهم مع بعض كالذي بين طوائف اليهود فيما بينهم وبين طوائف النصارى، وكما بين طوائف المسلمين كذلك فهي خمسة أنواع: منها اختلاف في ألفاظ التنزيل كالذي بين القراء، ومنها اختلاف المعاني كالذي بين المفسرين، ومنها اختلاف في أسرار الدين وحقائق معانيه الخفية كالذي بين المقلدين والمستبصرين، ومنها اختلاف في الأئمة الذين هم خلفاء الأنبياء كالذي بين الشيعة، ومنها اختلاف في أحكام الشريعة وسنن الدين كالذي بين الفقهاء.
فعلة اختلاف القراء هي من أجل الألفاظ المشتركة المعاني والمترادفة والمتباينة والمتواطئة والمشتقة، كما بينا معاني هذه الخمسة الأنواع في رسالة المنطق، وإنما يستعمل صاحب النواميس هذه الألفاظ في تنزيله وخطبه؛ لأن كلامه على العموم للناس الخاص والعام، وفي المخاطبين نساء وصبيان وعلماء وجهال وعقلاء وأغبياء، ما بين ذلك إلا لكي يعقل ويكمل كل إنسان منهم معاني ألفاظه بحسب فهمه وذكائه وصفاء جوهره، فلا يخلو أحد منهم من فائدة إذا سمعوا قراءة التنزيل، وهذا هو من أجل المعجزات في كتب الأنبياء وخاصة القرآن منها ، ومن أجل هذا قال النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «نزل القرآن على سبعة أحرف[4] كلها شاف كاف، كل آية لها ظاهر وباطن.»
أما سبب اختلاف المفسرين المقرئين في معاني ألفاظ التنزيل فهو من جهتين: إحداهما احتمال الألفاظ لتلك المعاني، والأخرى من جهة مراتبهم في المعارف وصفاء جوهر نفوسهم وذكاء أفهامهم فيسنح لكل واحد شيء خلاف ما يسنح للآخر إذا نظر في معاني كتب الأنبياء عليهم السلام، بحسب اجتهاده وفهمه ودقة نظره ومبلغ علمه، كما قال تعالى: @QUR09 يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات وقال: @QUR05 وفوق كل ذي علم عليم.
وهكذا حكم اختلاف العلماء والفقهاء الذين أصلوا الآراء والمذاهب في فقه الدين والأحكام والحدود، فمنها معان أخذوها من ظاهر ألفاظ التنزيل، ومنها معان أخذوها من أقاويل المفسرين، ومنها قياسات واجتهادات، ومنها أخبار وروايات أخذوها من طريق السمع، واجتهاد كل واحد منهم بحسب قوة نفسه وصفاء جوهره واجتهاده وبحثه، سنح له شيء خلاف ما سنح لصاحبه، فتعلقوا واجتهدوا واحتجوا على صحتها.
وهذا الذي كلف عباده معنى الاجتهاد في الطلب كما قيل: لكل مجتهد نصيب؛ يعني في اجتهاده، وكما قال: @QUR06 لا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
وأما سبب اختلافهم في الأئمة الذين هم خلفاء الأنبياء عليهم السلام في أممهم بعدهم، فمن أجل أن صاحب الناموس يحتاج في وضعه للناموس وتتميمه وتكميله إلى نيف وأربعين خصلة من الفضائل البشرية والملكية جميعا، كما بينا في رسالة لنا، فإذا أحكم صاحب الناموس أمر الشريعة وسنن الدين ومنهاجه وبين المنهاج وأوضح الطريق ومضى لسبيله بقيت الخصال وراثة في أصحابه وأنصاره الفضلاء من أمته، ولكن لا تكاد تجتمع كلها أجمع وراثة في واحد منهم، ولا يخلو أحد من شيء منها.
فإذا اجتمعت تلك الأمة بعد وفاة نبيها وتعاونت وتعاضدت وتناصرت مع ائتلاف القلوب كما أمرها صاحبها وأوصى بها بقوا هادين راشدين منصورين على أعدائهم سعداء في الدنيا والآخرة جميعا.
ثم إذا مضى أولئك على منهاج الذين تقدموهم خلفهم من بعدهم قوم آخرون من ذرياتهم وتلامذتهم متمسكين بسننهم في أي بلد كانوا وأي منازل نزلوا هادين راشدين، كما قال، عليه السلام: «إن مثل أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم.» فإذا ما تنازعوا وتخاصموا وتقاطعوا وتركوا وصية نبيهم وتفرد كل واحد برأيه معجبا بنفسه، شتت شمل ألفتهم وتفرقت جماعتهم وضعفت قوتهم، فأفسد عليهم أمر دينهم، وشمت بهم حسادهم، وظفر بهم عدوهم إذا تفرقوا في البلدان النائية، وشرع كل واحد لنفسه مذهبا واعتقد رأيا وتفرد به، وربما دعا الناس إليه، فبهذا السبب تصير الأمة بعد نبيها فرقا وأعداء وخوارج. ولكن من أجل أن هذه المذاهب إنما هي فروع على الدين تفرعها أصحاب الناموس على أصله تكون تلك الملة واحدة بذلك السبب والمذاهب مختلفة، وإلى هذا أشار تعالى: @QUR017 ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله.
ثم اعلم أن في اختلاف العلماء في الآراء والمذاهب فوائد كثيرة تخفى على كثير من العقلاء، فمن أجل ذلك تجد إلى العقول بتفاوتها اختلافات كثيرة لا يحصي عددها إلا الله الواحد القهار. وقد ذكرنا - في كتب المنطق طرفا من ذلك بشرح طويل - ولكن نذكر لذلك مثالا واحدا ليكون دليلا على ما وصفنا.
فنقول: اعلم أن العقلاء كما وضعوا القياسات إلى كل من أحدث مذهبا واعتقد رأيا من الآراء فإن ذلك يصير داعيا إلى طلب الحجة عند خصمائه وعذرا عند العقلاء، ويكون سببا لغوص النفوس في طلب المعاني الدقيقة والنظر إلى الأسرار الخفية، ووضع القياسات واستخراج النتائج واتساعا في المعارف، وتكون سببا ليقظة النفوس من نوم الجهالة، وانتباها لها من السهو والغفلة وخصلة أخرى من الفوائد في اختلاف العلماء.
وذلك أنه لما كان الإنسان لا يخلو من محاسن وفضائل ولا ينفك عن مساوئ ورذائل أيضا في أخلاقه وسيرته ومذهبه وأفعاله، وكان أكثر الناس تجدهم يتزينون بمحاسنهم ويفتخرون بفضائلهم ويغفلون عن رذائلهم، وينسون عيوبهم ومساوئهم، صار يدعوهم اختلافهم في الآراء والمذاهب إلى كشف عيوب بعضهم وذكر مساوئ بعضهم لبعض، ويكون ذلك تنبيها للجميع على ترك الرذائل وحثا لهم على اكتساب الفضائل، ويكون في ذلك صلاح الكل إذا فعلوا ما يؤمرون به وتركوا ما يعابون عليه.
ومن أجل هذا قيل: اختلاف العلماء رحمة، وخصلة أخرى من فوائد العلماء في الاختلاف في أحكام الدين وشرائعها وفنون المذاهب، وهو ألا يكون أمر الدين ضيقا حرجا لا رخصة فيه ولا تأويل كما قال تعالى: @QUR07 ما جعل عليكم في الدين من حرج وقال عليه السلام: «ادرءوا الحدود بالشبهات.» فبهذا الوجه أيضا اختلاف العلماء رحمة واختلاف أهل الديانات في أمر الدين وسنن أحكامه حكمة جلية لا يعرفها إلا المحققون المستبصرون.
(35) فصل في بيان أنه لا يمكن وصول الأنفس الجزئية إلى الآخرة إلا بعد الورود إلى الدنيا
فنقول: اعلم، أيدك الله، أن الله تعالى لما خلق الإنسان وجعل أقصى غرضه بلوغه إلى دار الآخرة، وكان لا يمكن أن يصل إلى هناك إلا بعد أن يمكث في الدنيا زمانا كما لا يمكن أن يمكث في الدنيا على أتم الحالات إلا بعد أن يمكث في الرحم زمانا.
ولما كان الغرض من المكث في الرحم هو تتميم بنية الجسد وتكميل الصورة حتى إذا خرج إلى الدنيا من الرحم كاملا تاما انتفع في الحياة الدنيا والتمتع بلذاتها ونعيمها؛ فلهذا كان الغرض من الكون في الدنيا والمكث فيها زمانا ما هو إلا لتتميم صورة النفس وتكميل فضائلها، ولم تكن تتم فضائلها إلا بهذا الجسد المملوء من آثار حكمة الله كما بينا في رسالة تركيب الجسد ورسالة الإنسان عالم صغير.
ثم اعلم أن النفس إن لم تتم صورتها ما دامت مع الجسد ولم تكمل فضائلها مع الجسد ما دامت في الدنيا لم تنتفع في الدار الآخرة بعد الموت على التمام والكمال، كما أنه إن لم تتم بنية الجسد في الرحم ولم تكمل هناك صورته؛ لم ينتفع الإنسان في الحياة الدنيا.
واعلم أن الله تعالى جعل الدين طريقا من الدنيا إلى الآخرة، وجعل في قوام الدين صلاحا للدنيا والآخرة جميعا؛ وذلك أن الدين له ظاهر وباطن، وقوامه بهما جميعا، فمن الناس من لا يريد بتمسكه بالدين إلا صلاح الدنيا ومنافعها، فيحرص في أحكام الدين وشريعته من الصلاة والصوم وما شاكلها ويرائي الناس، وبذلك يطلب منافع الدنيا فيكون في حفظه ظاهر أحكام الدين قوام له، كما قيل: «إن الله ينصر هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم.» ومن الناس من يريد الدنيا لطلب الآخرة وصلاح المعاد، فهم يزهدون في الدنيا ويتركون الشرور ويؤدون الأمانات سرا وإعلانا، ويعاملون الناس بالصدق والورع من غير غش ولا دغل، وفي ذلك صلاح أمر الدنيا والآخرة جميعا.
ثم اعلم أن كل من أحدث في شريعة أصحاب النواميس حدثا من تغيير في أحكامها وتبديل في حدودها، وطلب بذلك عرض الدنيا فإن صاحب الناموس هو خصمه يوم القيامة، ومن فعل شيئا من ذلك وأراد به صلاح ذات البين - ولكن دخلت عليه شبهة من غير عناد ونفي أو طلب في سبب عرض الدنيا - فإن ذلك يغفر له ولا يؤاخذ به.
(36) فصل في بيان سبب اختلاف العلماء في الإمامة
فنقول: اعلم أن مسألة الإمامة هي أيضا من إحدى أمهات مسائل الخلاف بين العلماء، قد تاه فيها الخائضون إلى حجاج شتى وأكثروا فيها القيل والقال، وبدت بين الخائضين فيها العداوة والبغضاء، وجرت بين طالبيها الحروب والقتال، وأبيحت بسببها الأموال والدماء وهي باقية إلى يومنا هذا لم تنفصل، بل كل يوم يزداد الخائضون المختلفون فيها خلافا على خلاف، وتتشعب فيها ومنها آراء ومذاهب حتى لا يكاد يحصي عددها إلا الله، فنحتاج أن نذكر أولا ما الأصل المتفق عليه بين أهلها، ثم نذكر أسباب الخلاف في فروعها فنقول:
اعلم أن الأمة كلها تقول: إنه لا بد من إمام يكون خليفة لنبيها في أمته بعد وفاته، وذلك لأسباب شتى وخصال عدة: أحدها هو أن يحفظ الإمام الشريعة على الأمة ويحيي السنة في الملة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتكون الأمة تصدر عن رأيه.
وقوم آخرون يكونون خلفاءه في سائر البلدان للمسلمين بالنيابة عنه في جباية الخراج وأخذ الأعشار والجزية وتفريقها على الجند والحاشية ؛ ليحفظ بهم ثغور المسلمين ويحصن بهم البيضة، ويقهر الأعداء ويحفظ الطرقات من اللصوص والقطاع، فيمنع الظالم ويردع القوي عن الضعيف المظلوم، وينصف ويعدل بين الناس فيما يتعاملون به، وما شاكل هذه الخصال التي لا بد للمسلمين من قيم بها في ظاهر أمور دنياهم، وخصلة أخرى هي أن يرجع فقهاء المسلمين وعلماؤهم عند مشكلاتهم في أمر الدين إله، وعند مسائل الخلاف فيحكم هو بينهم فيما هم فيه يختلفون من الحكومة في الفقه والأحكام والحدود والقصاص والصلوات والجمعات والأعياد والحج والغزو وتولية القضاة والعدول وفتوى الفقهاء، ويصدرون كلهم عن رأيه وتدبيره وأمره ونهيه؛ فهذا هو الأصل المتفق بينهم في حاجاتهم إلى الإمام.
وأما ما ينبغي أن يكون الإمام ومن هو؟ فهم فيه مختلفون على رأيين ومذهبين: فمنهم من يرى ويعتقد أنه لا ينبغي إلا أن يكون أفضلهم كلهم بعد نبيها وأقربهم إليه نسبة ويكون قد نص عليه، ومنهم من يرى بخلاف ذلك.
ولهم في هذين الرأيين منازعات وخصومات يطول شرحها مذكورة في كتبهم، ولكن نحتاج إلى أن نذكر علة اختلافاتهم من أين كان بدؤها؟ ومن أين أشكل الأمر عليهم فيه؟
واعلم أن الإمامة إنما هي خلافة، والخلافة نوعان: خلافة النبوة، وخلافة الملك. والكلام في خصال الإمامة وتعديد شرائطها قبل معرفة خصال النبوة وتحصيل شرائطها، وقبل معرفة خصال الملك وشرائطه والفرق بينهما، كلام على غير أصله، وكل كلام على غير أصل هذيان لا تحقيق له، ونحتاج إلى أن نذكر أولا خصال النبوة قبل خصال الملك فنقول:
إن أول خصال النبوة الوحي، والأنبياء من الملائكة، ثم إظهار الدعوة في الأمة، ثم تدوين الكتاب المنزل بالألفاظ الوجيزة وتبيين قراءته في الفصاحة، ثم إيضاح تفسير معانيه وبلوغ تأويله، ثم وضع السنن المركبة ومداواة النفوس المريضة من المذاهب الفاسدة والآراء السخيفة والعادات الرديئة والأعمال السيئة والأفعال القبيحة.
ثم نقلها من تلك العادات وتلك الآراء ومحوها عن ضمائرها بذكر عيوبها ومداواتها من أسقام تلك العادات بالحمية لها من العود إليها وإشفائها بالرأي الرصين والعادات الجميلة والأعمال الزكية والأخلاق الحميدة بالمدح والترغيب في جزيل الثواب ليوم المآب.
وأيضا من خصال النبوة معرفة كيفية سياسة النفوس الشريرة عن قصد سبيل الرشاد، وردها عن سلوكها في وعور طريقة البغي بالتمادي ومعرفة كيفية سياسة النفوس الساهية والأرواح اللاهية من طول الرقاد ونسيانها ذكر المعاد بالتذكار لها يوم المعاد؛ لئلا يقولوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير ولا كتاب.
ومن خصال النبوة أيضا إجراء السنة في الشريعة، وإيضاح المنهاج في الملة، وتبيين الحلال والحرام، وتفصيل الحدود والأحكام في أمور الدنيا جميعا، ثم التزهيد في الدنيا وذم الراغبين فيها وتفصيل أحكام الخاص والعام وما بينهما من سائر طبقات الناس، وما شاكل هذه الخصال المعروفة بين أهل العلم الموجود وضعها في الكتب المنزلة من التوراة والإنجيل والقرآن وصحف الأنبياء عليهم السلام.
فأما خصال الملك فأولها أخذ البيعة على الأتباع المستجيبين، وترتيب الخاص والعام مراتبهم، وجباية الخراج والعشر والجزية من الملة، وتفريق الأرزاق على الجند والحاشية، وحفظ الثغور وتحصين البيضة وقبول الصلح والمهادنة من الملوك والرؤساء من الأمور المستحبة، والهدايا لتأليف القلوب وشمل الألفة وما شاكل هذه الخصال المعروفة بين الرؤساء والملوك.
ثم اعلم أنه ربما تجتمع هذه الخصال في شخص واحد منه البشر في وقت من الزمان، فيكون هو النبي المبعوث وهو الملك، وربما تكون في شخصين اثنين: أحدهما النبي المبعوث إلى تلك الأمة والآخر المسلط عليهم.
واعلم أنه لا قوام لأحدهم إلا بالآخر، كما قال ملك الفرس أزدشير في وصيته: إن الملك والدين أخوان توأمان لا قوام لأحدهما إلا بالآخر؛ وذلك أن الدين أس الملك والملك حارسه، فما لا أس له مهدوم، وما لا حافظ له ضائع، ولا بد للملك من أس ولا بد للدين من حارس.
ثم اعلم أن الله تعالى قد جمع لنبيه محمد، عليه الصلاة والسلام والتحية، خصال الملك والنبوة جميعا، كما جمعها لداود وسليمان، عليهما السلام، وكذلك جمع ليوسف الصديق عليه السلام؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة في أول مبعثه نحوا من اثنتي عشرة سنة يدعو الناس ويعلمهم معالم الدين حتى استوفى خصال النبوة وأحكمها، ثم هاجر بعد ذلك إلى المدينة وأقام بها نحوا من عشر سنين في ترتيب أمر الأمة وتحذير الأعداء وجباية الخراج والعشر ومصالحة الأعداء والمهادنة وقبول الهدايا وحملها والتزويج منهم وإليهم حتى أحكم أمر الملك.
ثم اعلم أن الله تعالى لما أضاف إلى نبوته الملك لم يضفها لرغبته في الدنيا وحرصه عليها، ولكن أراد الله تعالى أن يجمع لأمته الدين والدنيا جميعا، وكان القصد الأول هو الدين، والملك عارض لأسباب شتى: أحدها أنه لو كان الملك في غير أمته لم يكن يؤمن أن يردهم عن دينهم أو يسومهم سوء العذاب من كان مسلطا عليهم مثل ما كان يفعل فرعون ببني إسرائيل.
والخصلة الأخرى ما قال أزدشير: إن «الملك والدين أخوان توأمان». وخصلة أخرى هي أن الناس في طباعهم وجبلتهم لا يرغبون إلا في دين الملوك ولا يرهبون إلا منهم، وبهذه الخصال - وخصال أخرى يطول شرحها - جمع الله الملك والنبوة لنبيه محمد، عليه الصلاة والسلام والتحية والرضوان، ولما أشكلت هذه المسألة على اليهود والنصارى ارتدوا وشكوا في نبوته لما رأوا أن الملك والنبوة لمحمد عليه السلام. فلما أنزل الله عز وجل قصة داود وسليمان ليحاج بها اليهود والنصارى؛ إذ كانوا مقرين بنبوتهما، وقد جمع الله لهما من الملك والنبوة ولم يكن الملك قادحا في نبوتهما، فهكذا كان حكم محمد عليه السلام، فإن الملك لم يكن قادحا في نبوته.
واعلم يا أخي أن الله تعالى قد جمع لمحمد عليه السلام، الملك والنبوة وأيده بروح منه، حتى إنه قام بواجب حقهما لما خصه الله به من الجبلة القوية والقوة المتينة، كما قال تعالى: @QUR04 وإنك لعلى خلق عظيم وقل من يكون كذلك؛ لأن النبوة تتم بنيف وأربعين خصلة من فضائل البشرية، والملك يحتاج إلى شرائط أخر غيرها.
(37) فصل في أن بعض أخلاق الملوك مضادة لخصال النبوة
فاعلم أن في بعض أخلاق الملوك مضادة لخصال النبوة؛ وذلك أن الملك أمر دنيوي والنبوة أمر أخروي والدنيا والآخرة كأنهما ضدان، وأكثر الملوك يكونون راغبين في الدنيا حريصين عليها تاركين لذكر الآخرة ناسين لها. والأنبياء عليهم السلام من خصالهم التزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة، يأمرون بها ويحثون عليها. فعلى هذه الدرجة يكون بعض حال الملوك مضادا لحال النبوة، ولكن الأنبياء عليهم السلام الذين جمع الله لهم الملك والنبوة لم يكونوا شديدي الرغبة في الدنيا ولا حريصين على شهواتها، كما حكى الله تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام، حين قال: @QUR09 رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث ... الآية؛ فهذا يدل على أنه كان من الزاهدين في الدنيا، فهكذا كان داود عليه السلام، وسليمان عليه السلام.
ولقد ذكر الله تعالى في قصة داود عليه السلام، أنه كان أوابا حليما، وفي قصة سليمان @QUR08 هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر وهكذا كان النبي عليه السلام، زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة، وقد روي في الخبر أن جبريل عليه السلام، عرض عليه مفاتيح خزائن الأرض فقال: خذها ولا ينقصك ما عند الله شيئا، فقال عليه السلام: «لا حاجة لي في شيء من ذلك؛ حلالها حساب وحرامها عذاب.» وإنما جعل ذلك إشفاقا على أمته؛ لئلا يرغبوا فيها ويحتجوا إليها بقول الله تعالى: @QUR06 تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة وقوله: @QUR08 بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى وقال: @QUR05 وللآخرة خير لك من الأولى.
(38) فصل في مسألة الجبر
فنقول: اعلم أن مسألة الجبر هي أيضا من إحدى مسائل الخلاف بين الناس المنبثة منها الآراء والمذاهب؛ وذلك أنه منذ كان العلماء وأهل الجدل هم فيها مختلفون فيما مضى من الأزمان والدهور، وهم طائفتان: الجبرية والقدرية، فأما الجبرية فإن الذي أداهم إلى ما يعتقدون في هذه المسألة هو نظرهم واعتبارهم إلى عواقب الأمور وخواتيمها؛ وذلك أنهم لما تبين لهم أن الأمور كلها التي تخرج إلى الكون والفساد والوجود والعدم فعلى ما في مقدور الله وسابق علمه لا يكون خلاف ذلك شيء، وزعموا عند ذلك وظنوا أنهم لا يقدرون على شيء من الأفعال التي تظهر على أيديهم، ولا يستطيعون الامتناع عن شيء من ذلك ولا الترك لها بالحقيقة، ونسبوها كلها إلى القضاء والقدر.
وأما خصماؤهم ومخالفوهم فكان نظرهم واعتبارهم في هذه المسألة الأوامر والنواهي والمدح والذم والوعد والوعيد المتوجهة على الإنسان العاقل المستطيع، ورأوا أنه محجوج بها مزاح العلة فيها، وليس له أن يحتج على أحد لا عند الله ولا عند الناس بالقضاء والقدر! وعلم الله السابق في الكائنات؛ لأنه لا يدري أحد في مبدأ أمره وأول أفعاله قضاء الله وقدره وعلمه السابق، وإنما تبين له ذلك بعد فراغه مما قد فعل أو ترك ما أمر الله به، وهذا النظر نظر أولئك واعتبارهم، فلا جرم أن المسألة قائمة بحالها والخلاف باق والحكومة لم تنفصل إلى يومنا هذا، بل كلما ازدادوا فيها نظرا واعتبارا وبحثا وجدالا ازدادوا خلافا على خلاف إلى يوم القيامة، إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون.
ثم اعلم أن ليس أحد من المخلوقين بقادر على شيء من الأشياء ولا عمل من الأعمال إلا ما أقدره الله تعالى عليه وقواه ويسره له.
واعلم أن إقدار الله القادرين وتقويته الأقوياء وتيسير الأمور ليس بمجبر لأحد منهم على فعل من الأفعال ولا عمل من الأعمال ولا تركه.
واعلم أن كل قدرة في أحد من القادرين أو قوة في أحد من الأقوياء على فعل من الأفعال وعمل من الأعمال فهو بتلك القدرة وتلك القوة بعينها التي يقدر بها على الفعل ويقدر أيضا على ترك الفعل بعينه.
مثال ذلك القوة التي جعلت في لسان المتكلم على الكلام؛ فهو بتلك القوة بعينها يقدر على السكوت، وبالقوة التي في الرجلين كذلك، وفي العينين على فتحهما كذلك؛ فإنه بتركه ذلك الفعل أيضا قادر.
وعلى هذا القياس حكم سائر القوى التي يقدر على الأفعال بها، ولكن رب فعل تركه أسهل من أخذه، ورب فعل أخذه أسهل من تركه، ويوجد ذلك بحسب الأسباب الداعية إلى الأمور المسيرة بها.
مثال ذلك اللص وسرقته بالليل، فإن النوم على الفرش الوطيئة على كل حال أسهل من الذهاب في ظلم الليالي إلى المواضع البعيدة الشاقة ونقب الدور وتسلق الحيطان العالية مع الخوف والوجل، ولكن الحرص والرغبة وشدة الحاجة وطول الأمل وشهوات النفوس وترك النظر في العواقب والغرور بالأماني ووساوس الشيطان وما شاكل هذه من الأسباب، تدعوهم إلى فعل ما هو أصعب وعمل ما هو أشق وترك ما هو أيسر وأسهل.
وعلى هذا المثال حكم سائر الأعمال الصعبة والأفعال الشاقة التي يفعلها الفاعلون، فإن تركها أسهل من أخذها، ولكن قيل: «كل ميسر لما خلق له.» فمن الناس من تيسر له أخذ الفعل ومنهم من تيسر له تركه.
فلا تظن يا أخي أنه قد يقع من أحد فعل ولا ييسر له عمل ولا ترك شيء مما هو مندوب إليه إلا ما قد سبق له في علم الله الذي يسمى القضاء المبرم والقدر المحتوم، اللذان هما موجبات أحكام النجوم وتأثيرات الإشكال الفلكي، كما بينا في رسالة الإيمان فليعرف من هناك.
(39) فصل في أن أحكام النجوم هي من إحدى أمهات الخلاف
ثم اعلم أن أحكام النجوم هي أيضا من إحدى أمهات الخلاف بين الناس مذ كانوا، والعلماء في حكمها على ثلاثة أقاويل: فمنهم من يرى ويعتقد أن للأشخاص الفلكية دلالة على الكائنات قبل كونها في هذه الأشخاص السفلية، ولها أيضا فيها أفعال وتأثيرات، ومنهم من يرى ويعتقد أن لها دلالات ولكن ليس لها فعل ولا تأثيرات، ومنهم من يرى ويعتقد أنه لا تأثير لها ولا دلالة البتة، ولكن حكمها حكم الجمادات والأحجار المطروحة في البراري والقفار، وإنما قالوا هذا وأنكروا دلالتها وأفعالها؛ لتركهم النظر في علم أحكام النجوم وإغفالهم عن تعليمها وإعراضهم عن البحث عنها.
وأما الذين قالوا بأن لها دلالات فإنما عرفوا ذلك وتبين لهم صحته لطول التجارب وكثرة الاعتبار في مرور الأيام والشهور والسنين الكثيرة أمة بعد أمة وقرنا بعد قرن، كما تبين ذلك في كتب الأحكام.
وأما الذين قالوا: إن لها دلالات وأفعال وتأثيرات، وإنهم أحياء ناطقون، وهم ملائكة الله وملوك أفلاكه وسكان سمواته ، فإن ذلك عرفوه بعد النظر في العلوم الإلهية وأحكامها، والعلوم الإلهية عرفوها بعد النظر في العلوم الطبيعية وأحكامها، والعلوم الطبيعية عرفوها بعد النظر في علوم الرياضة وأحكامها، وعلوم الرياضة عرفوها بعد التعلم لها والتدرب بطول الزمان من الدهور والأيام، فسموا المؤثرات روحانيات الكواكب في الكائنات.
ثم اعلم أن العلماء لا يشكون في علم وأدب قد تعلموه وفكروه بقول المنكرين له والجاهلين به، وهكذا العقلاء مجبولون على ألا يترك أحدهم دينا ومذهبا قد نشأ عليه وأنس به، وقد اعتاد التعبد بطول الزمان على سنته وأخذه عن آبائه وشيوخه وأستاذيه من غير أن يتبين له بطلانه وينكشف له عواره، وهكذا لا يرغب أحد منهم في الدخول في دين أو مذهب لم تتبين له صحته ولم تصح له حقيقته ولا قامت عنده حجته، فلا تلم الناس على تمسكهم بدين آبائهم ومذاهب أسلافهم.
فاعلم أن الحق في كل دين موجود وعلى كل لسان جار، وأن الشبهة دخولها على كل إنسان جائز ممكن، فاجتهد يا أخي أن تبين الحق لكل صاحب دين ومذهب مما هو في يده أو مما هو متمسك به، وتكشف عنه الشبهة التي دخلت عليه إن كنت تحسن هذه الصناعة، وإلا فلا تتعاطاها ولا تدعها إن كنت لا تحسنها ولا تمسك بما أنت عليه من دينك ومذهبك واطلب خيرا منه، فإن وجدت فلا يسعك الوقوف على الأدون، ولكن واجب عليك الأخذ بالأخير الأفضل والانتقال إليه، ولا تشتغلن بذكر عيوب مذاهب الناس ولكن انظر هل لك مذهب بلا عيب؟
واعلم أن الإنسان العاقل قد تخفى عليه عيوب مذهبه كما تخفى عليه مساوئ أخلاقه وقبائح أفعاله وسيئات أعماله، وتسنح له عيوب غيره ومساوئ أخلاقه وقبيح أفعاله، كما قيل في المثل: «يا ابن آدم لك محلان: أحدهما فيه عيوب نفسك، وفي الآخر عيوب غيرك، وأنت قد جعلت التي فيها عيوب غيرك قدام وجهك ولا تزال تطلع عليها، والتي فيها عيوب نفسك تجعلها خلف ظهرك فلا تلتفت إليها.» قال حكيم اليونانيين: «الإنسان يعمى ويصم عن عيوب نفسه؛ لأن نفسه أحب الأشياء، وحب الشيء يعمي ويصم.»
ثم اعلم أن العلوم أجناس كثيرة، ولكل جنس أنواع متفننة، وكل نوع منها يحرز آخر، وأهل كل علم متفاوتو الدرجات، فيها مبتدئ متعلم وعالم راسخ وما بينهما من الطبقات، ولأهل كل علم ومذهب أدلة قد نصبها لهم الباري تعالى، فهم يصيبون ويخطئون في أحكامهم والاستدلال بها فمقل ومكثر.
كل ذلك بحسب قوى نفوسهم وطول دربتهم ودقة نظرهم فيها، ولا يظن أن الصناعة تبطل أو تكون الأدلة غير صحيحة من أجل خطاياهم وزلتهم في الاستدلالات! فعلم النجوم وأدلتها صحيحة وحق، وهي الأشخاص الفلكية التي نصبها الباري تعالى وأجراها مجاريها، وإن كان المنجمون يخطئون في بعض استدلالاتهم أو في أكثرها فلا تبطل صناعة علم النجوم من أجل ذلك، وهو علم جعله الله تعالى معجزة لإدريس النبي، آمن به ملك زمانه، وله قصة يطول شرحها، كذلك الطب صناعة، فإن دلالته صحيحة، وقد يصيب الأطباء ويخطئون في قضاياهم باستدلالاتهم التي نصبوها في أكثرها، فلا تبطل صناعة الطب من أجل ذلك، والأدلة التي نصبها الباري سبحانه وتعالى هي اختلاف حركات النبض وأصباغ البول وتغير أحوال المريض للعلل، وهكذا أيضا الفقهاء والحكام والمفتون في أحكام الدين من الحلال والحرام قد يصيبون ويخطئون في قضاياهم واستدلالاتهم التي نصبها لهم الباري من آيات كتبه المنزلة وسنن أحكام الشريعة ومفروضات النواميس الإلهية، فخطؤهم وزللهم لا يبطل العلم والصناعة والأدلة المنصوبة، ولكن التقصير والعجز موكولان بالإنسان لنقصه عن التمام.
ثم اعلم أن مسألة الوعيد هي أيضا إحدى أمهات مسائل الخلاف بين العلماء؛ وذلك أن منهم من يرى ويعتقد أنه واجب في حكم الله وعدله أن يفي بوعيده كما وفى بوعده؛ لأنه إن لم يفعل كان كاذبا، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، ومنهم من يرى ويعتقد أنه لا يكون كاذبا؛ لأن الكذب هو الخبر بأنه قد فعل ولم يكن فعل، أو يقول: ما فعلت وقد كان فعل، فأما إذا قال: سأفعل، ثم لم يفعل فيكون مخالفا، والمخالف في الوعد يكون مذموما غير وفي ، فأما في الوعيد فربما كان الخلاف عفوا وصفحا ورحمة وتحننا وإشفاقا وكرما وسماحة وإنعاما، وكذلك هذه الخصال ممدوحة محمودة تليق بفضل الله ورحمته وكرمه وإحسانه، ومنه قول بعض العرب:
وإني إذا أوعدته أو وعدته
لمخلف إبعادي ومنجز موعدي
فإن إخلاف الوعيد مكرمة افتخر بها؛ وذلك أن وعيد الله تعالى لعبيده مماثل لوعيد الأب الشفيق الطيب العالم للولد الجاهل العليل يقول: لا تأكل ولا تشرب كيت وكيت وافعل كيت وكيت؛ فإنك إن لم تفعل ولم تقبل نصيحتي ضربتك وحبستك وعاقبتك. فإن لم يفعل الولد ولم يقبل نصيحة والده ولم يأتمر له ولم ينته عما نهاه عنه، وأكل شرب ما نهاه عنه وترك ما كان مأمورا به؛ بقي عليلا سقيما وفاتته الصحة والأنفع والأصلح، وبقي متألما وجيعا، فإن الأب الشفيق يشفق عليه أن يفي بوعيده فيضربه ويزيده ألما وعذابا، فهكذا يكون حكم عذاب الله ووعيده لعباده، وهذا أليق به وبرحمته وجوده وكرمه وإحسانه.
وأما وقت وفاء الوعد لثواب المحسنين متى يكون وكيف يكون؟ فإن هذه المسائل هي من غوامض العلوم ودقائق الأسرار، وقد أكثر العلماء فيها القال والقيل، وتحيرت فيها عقول كثير من الناس أولي الألباب.
فمنهم من يرى ويعتقد أنها في الدنيا قبل الممات، ومنهم من يرى أنها تكون في الآخرة بعد الممات، وأما كثير من الناس فينكرون أمر الآخرة فلا يعرفونها ولا يقرون بها، وأما المقرون بها فمختلفون أيضا فيها وفي ماهيتها وكيفيتها وأبنيتها على مذاهب شتى: فمنهم من يرى ويعتقد أن الآخرة ودار الجزاء إنما تكون بعد خراب السماء وفناء الخلق أجمعين، ثم إن الله تعالى يعيدهم مرة ثانية خلقا جديدا فيثيبهم ويجازيهم ما كانوا يعملون في الدنيا من خير أو شر أو عرف أو نكر، وهذا جيد للعامة ولمن لا يعرف من الأمور شيئا ويرضى الدين تقليدا وإيمانا، وأما الخاص ومن قد نظر في بعض العلوم الرياضية والطبيعية، فإن هذا الرأي لا يصلح لهم؛ وذلك أن كثيرا من العقلاء الحكماء ينكرون خراب السموات ويأبون ذلك إباء شديدا، والجيد لهم إذن أن يعتقدوا أمر الآخرة أن لها وجودا متأخرا عن الكون في الدنيا، كما كان في الدنيا موجودا متأخرا عن الكون في الرحم، وكما كانت أيام الشيخوخة متأخرة عن أيام الشباب، وأيام العقل والتمييز والحكمة والكمال كانت متأخرة عن أحوال الجهل، وهي أحوال تطرأ على النفس بعد مفارقتها الجسد إذا هي انتبهت من نوم غفلتها في الدنيا واستيقظت من رقدة جهالتها قبل الممات، ونظرت إلى الدنيا واعتبرت أحوالها وتصاريف أمورها؛ ليكون ذلك دلالة على معرفة الآخرة، فإذا لم تفعل وماتت ميتة جاهلية بعمائها فتكون بعد بأمر الآخرة أعمى وأضل سبيلا، وقد بينا في رسالة الآلام واللذات طرفا في كيفية ثواب المحسنين وجزاء المسيئين بعد الممات، وطرفا آخر منها بيناها في رسالة البعث والقيامة، ونريد أن نذكر ها هنا طرفا آخر.
(40) فصل في جزاء المحسنين
فنقول: اعلم يا أخي أن جزاء المحسنين يتفاضل في الآخرة بحسب درجاتهم في المعارف واجتهادهم في الأعمال الصالحة، والناس متفاوتو الدرجات في أعمالهم كل على شاكلته، وأجود أحوال العامة والجهال كثرة الصوم والصدقة والصلاة والقراءة والتسبيح، وما شاكل ذلك من العبادات المفروضة والمسنونة في الشرائع، المشغلة لهم عن فضول وبطالة وما لا ينبغي لهم كيلا يقعوا في الآفات.
وأفضل أعمال الخواص التفكر والاعتبار بتصاريف أمور المحسوسات والمعقولات وبخاصة ما يتعلق بالدين، وقد قيل: أفضل أعمال الخير خصلة واحدة وهي التفكر، قال الله تعالى: @QUR011 قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا.
ثم اعلم أن الإنسان إذا عقل الأمور المحسوسة وعرفها وتفكر في الأمور العقلية وبحث عنها وعن عللها استقبلته عند ذلك طريقتان: إحداهما ذات اليمين تؤديه إلى الهداية والرشاد، والأخرى ذات الشمال تؤدي إلى الغي والضلال؛ وذلك أن أمور العالم نوعان: كليات وجزئيات لا غير، فإذا أخذ الإنسان يفكر في كلياتها ويعتبر أحوالها وتصاريفها ويبحث عن الحكمة فيها بانت له، وأمكنه أن يعرفها بحقائقها وأرشد إليها، فكلما تقدم فيه زاد هداية ويقينا ونورا واستبصارا وتحققا، وازداد من الله قربا وكرامة .
وإذا أخذ يتفكر في جزئياتها والبحث عنها وعن عللها خفيت وانغقلت مناحيها، وكلما ازداد تفكرا ازداد تحيرا وشكوكا ومن الله بعدا، وكان قلبه من أجل ذلك في عذاب أليم.
مثال ذلك أنه إذا ابتدأ الإنسان أولا وتفكر في نفسه ونظر إلى بنية هيكله ونفسه وكيفية تركيب جسده وكيف كان أولا في صلب أبيه ماء مهينا؟ ثم كيف صار نطفة في قرار مكين؟ ثم كيف صار مضغة؟ ثم كيف كسا العظام لحما؟ ثم كيف صار جنينا بعد أطوار متعاقبة؟ ثم كيف قبلت فتيلة جسده نور شعاع فيض روح القدس الإلهي؟ ثم كيف أخرج من الرحم الذي هو عالم كونه إلى الدنيا التي هي عالم آخرته؟ ثم كيف صار طفلا حساسا؟ ثم كيف تربى وهو طفل صبي جاهل؟ ثم كيف نشأ وصار شابا عالما أو جاهلا؟ ثم كيف صار رجلا عالما فيلسوفا حكيما مدبرا متملكا على ما ملك؟ ثم كيف صار زاهدا عابدا؟ ثم إن طال عمره كيف يرجع كما كان بديا ضعيفا ذاهب القوة؟ ثم كيف ظهر بعد الشبابة والقوة والضعف والشيبة؟ @QUR021 الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء.
فإذا فكر الإنسان في هذه الحالات التي ينقل فيها من أدونها إلى أتمها ومن أفضلها إلى أكملها؛ فيعلم بالضرورة ويشهد له عقله أن له صانعا حكيما هو الذي اخترعه وأنشأه وأنماه، فإذا تحقق عنده ما وصفنا من هذه الحالات جعل نفسه عند ذلك مقياسا على سائر أبناء جنسه، فعلم علما يقينا أنه قد فعل بهم مثل ما فعل به، وهكذا سائر الحيوانات، وكلما ازداد تفكرا في هذا الباب ازداد بربه يقينا وبأوصافه معرفة.
واعلم أن الله تعالى حي عالم قادر عليم حكيم محسن جواد كريم مشفق رحيم، ولو نظر في التشريح أو في كتاب منافع الأعضاء أو كتاب الحيوان أو كتاب النبات أو كتاب المعادن أو كتاب الآثار العلوية أو كتاب تركيب الأفلاك وما شاكلها من الكتب والعلوم والمعارف من وصف مصنوعاته وعجائب مخترعاته؛ فإنه كلما ازداد فيها نظرا ازداد بالله علما وبأوصافه اللائقة به معرفة واستبصارا وإليه قربة وإلى لقاء الله اشتياقا؛ فهذا هو الطريق ذات اليمين المؤدي سالكه إلى الله تعالى وإلى نعيم جنانه.
وأما الطريق الآخر ذات الشمال المؤدي إلى الشكوك والحيرة والضلالة والعمى؛ فهو أن يبتدئ الإنسان قبل النظر في العلوم والآداب والرياضيات، وقبل أن يحسن أخلاقه ويهذب نفسه بالكشف عن الأمور الجزئية الخفية المشكلة على الحذاق من العلماء والفلاسفة فضلا عن غيرهم نحو معرفة ألم الأطفال، وطلب معرفة مصائب الأخيار، والبحث عن الأنباء وتيسير أمور الأشرار، ولم زيد الحازم فقير؟ وعمر العاجز غني؟ ولم جعفر الغبي أمير؟ وعبد الله الحكيم حقير؟ ولم هذا الرجل ضعيف والآخر قوي صحيح؟ ولم هذه الدودة صغيرة وهذا الجمل كبير؟ ولم الفيل مع كبر جثته له أربع قوائم والبق مع صغر جثته له ست أرجل وجناحان؟ ولماذا يصلح البق والذباب والقردان والبراغيث؟ وأي فائدة في خلق الخنازير والوزغ؟ وأي حكمة في خلق العقارب والحيات وما شاكل ذلك من المسائل التي لا يحصي عددها إلا الله ولا يعلم سواه عللها، فأما الإنسان فإنه لا يعرف الحكمة في عللها إلا بعد النظر في العلوم الإلهية، وهو لا يعرف إلا بعد النظر والتفكر في الأمور الطبيعية، وهو لا يعرف إلا بعد النظر في الأمور المعقولة، وهو لا يعرف إلا بعد النظر والتفكر في الأمور المحسوسة، فمن لم يكن مرتاضا بهذه العلوم والمعارف ولا متأدبا بها ولا صافي النفس ولا صالح الأخلاق فيبتدئ أولا بطلب الأمور المشكلة التي تقدم ذكرها، فلا يدركها ولا يعقلها، فيرجع عند ذلك خاسرا متفكرا متحيرا غافلا بنفسه وسواسا في قلبه، فينظر عند ذلك إلى أمر العالم مهملا والكائنات باتفاق لا بعناية حكيم ولا صنع صانع عليم، أو نظر إلى أن رب العالمين غافل عن أمر عالمه حتى يجري فيه ما لا يليق بالحكمة، أو يظن أنه لا يعلم ما يجري فيه، أو أنه لا يفكر في هذه الأمور الجزئية ولا يهمه، أو يظن أنه قاس قليل الرحمة والنظر لضعفاء الخلق، أو أنه جائر في قضائه وأحكامه متعب لخلقه مفرط في تقديره غير عدل ولا حكيم في كثير من أفعاله، لا يرحم الضعيف، وما شاكل هذه من الظنون والشكوك والحيرة والضلال الذي قد تاهت في طلب معرفته عقول كثير من العقلاء المتقدمين المرتاضين بالعلوم الحكمية، فكيف غيرهم ممن ليست له رياضة ولا معرفة بحقائق الأسرار المعروفة! وقيل: إن حكيم الفرس بزرجمهر لما تفكر في هذه الأمور المشكلة ولم يعرف عللها قال عند ذلك احتجاجا لنفسه؛ إذ قد تبين له بأن الله حكيم عدل «إن مصائب العباد إذن لعلل لا يعرفها» إقرارا على نفسه بالعجز عن معرفة هذه الأمور المشكلة.
ويقال: إن نبيا اجتاز مرة عينا من الماء في سفح جبل فتوضأ منها ثم ارتقى إلى جبل ليصلي، فبينما هو كذلك إذ نظر إلى فارس قد أقبل على تلك العين فشرب منها الماء وسقى فرسه، ثم ركب فمضى ونسي عند العين صرة فيها دراهم، ثم جاء من بعده راعي الغنم ورأى الكيس فأخذه ومضى، ثم جاء بعده شيخ حطاب عليه أثر البؤس والمسكنة على ظهره حزمة من الحطب ثقيلة حملها، فحط هناك حزمته واستلقى يستريح مما به من شدة الضعف والتعب والريق والانهيار، ففكر النبي وقال في نفسه: لو أن هذا الكيس مكانه لكان هذا الشيخ الضعيف أولى بأخذه من ذلك الراعي الشاب الغني القوي! فما كان إلا قليلا حتى إن الفارس قد رجع إلى مكانه الذي شرب الماء منه وطلب الكيس فلم يجده، فطالب الشيخ فأبى الشيخ وقال: ما عندي خبر هذا فضربه وعذبه حتى قتله ومضى الفارس.
فقال عند ذلك: يا رب، ما وجه الحكمة في هذه القضية؟ وأين هذا من العدل؟ فأوحى الله تعالى إليه أن أبا الشيخ قتل في الزمان الماضي أبا الفارس، وكان على أبي الفارس دين لأبي الراعي بمقدار ما في الكيس فأخذت القود ورددت الدين وأنا حكيم عادل.
وكذلك يحكى أن نبيا من أنبياء الله تعالى اجتاز نهرا فيه صبيان يلعبون وبينهم صبي مكفوف وهم يغوصونه في الماء ويولعون به وهو يطالبهم ولا يظفر بهم، ففكر النبي في أمره ودعا ربه أن يرد بصره ويساوي بينه وبين الصبيان، فلما رد الله بصره فتح عينيه فقرب إلى واحد من أولئك الصبيان فتعلق به وغوصه في الماء ولم يفارقه حتى قتله، وطلب آخر كذلك وهرب الباقون، فدعا النبي حين ذلك ربه أن يكفيهم شره فأوحى الله تعالى إليه وقال: إني قد فعلت، ولكن لم ترض بحكمي وتعرضت في تدبيري لخلقي، فتبين للنبي أن كل ما يجري في العالم من أمثال هذه الأمور فلله تعالى فيه سر وتدبير وحكمة لا يعلمها إلا هو.
وقد أخبر الله تعالى في القرآن من حديث نبيين وما جرى بينهما من الخطاب في هذا المعنى: أحدهما موسى عليه السلام، وهو صاحب شريعة وأمر ونهي وحدود ورسوم وأحكام، والآخر الخضر عليه السلام، وهو صاحب سر وغيب وكتمان، وكيف تعرض له موسى، عليه السلام، فيما يفعله بواجب حكمة؟ وكيف اعتذاره إليه لما لم يستطع معه صبرا؟ وإنما ذكرنا هذه الحكايات في هذا الفصل؛ لأن أكثر الآراء والمذاهب تتشعب في هذه الأمور المشكلة التي فكر فيها العلماء وطلبوا عللها، فلما لم تبلغ أفهامهم كيفية معرفتها تفرقت بهم الآراء والمذاهب عند ذلك إلا من عصمه الله وهدى قلبه وعرفه، كما قال: @QUR08 ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وقالت الملائكة: @QUR06 لا علم لنا إلا ما علمتنا وقوله: @QUR06 ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما.
(41) فصل في أن الأمور المشكلة كثيرة
ثم اعلم أن الأمور المشكلة كثيرة لا يحصي عددها إلا الله تعالى، ولكن يجمعها كلها ثلاثة أنواع: فمنها ما هي أمور جسمانية طبيعية محسوسة، ومنها ما هي أمور روحانية معقولة، ومنها ما هي أمور رياضية متوسطة بين الجسمانية والروحانية. فأما الأمور الجسمانية فثلاثة أنواع: منها ما هي ظاهرة جلية، ومنها ما هي لطيفة دقيقة، ومنها ما هي بين ذلك. وقد ذكرنا طرفا من هذه الأمور في رسائلنا الطبيعية وتكلمنا عليها في كل رسالة حسب ما يليق به ويقتصر غرضها.
وأما الأمور الروحانية فهي تنقسم ثلاثة أنواع: فمنها ما هي قريبة من الأوهام، ومنها ما هي بعيدة لا يمكن الأفكار تصورها والأوهام تخيلها، ومنها ما بين ذلك، وقد ذكرنا طرفا من الأمور الرياضية والإلهية في رسائلنا العقليات.
وهكذا حكم الأمور الرياضية فإنها ثلاثة أنواع: فمنها ما هي قريبة من الأوهام يكفي أدنى تأمل فيها، ومنها ما هي بعيدة جدا تحتاج إلى تأمل شديد وبحث دقيق في تصورها، ومنها ما هي بين ذلك، وقد ذكرنا طرفا منها في رسائلنا الرياضيات.
فهذه تسعة أنواع لا يخرج عنها شيء من الأمور المشكلة المختلفة فيما بين العلماء، فأما فروعها فكثيرة لا يحصي عددها إلا الله تعالى.
ثم اعلم أن الله تعالى خلق لكل نوع من هذه العلوم والآداب أمة من الناس، وجعل في جبلة نفوسهم محبة معرفتها ومكنهم من طلبها وتعلمها والبحث عنها والنظر فيها؛ لتكون العلوم والآداب محفوظة عليهم لا تنقرض، كما خلق لكل صناعة وتجارة أمة من الناس وجعلها سبب معاشهم طول حياتهم في دنياهم؛ لتكون كلها محفوظة باقية لحاجة الإنسان إليها في الدين والدنيا جميعا.
ثم اعلم أن العلوم والآداب تتفاضل، كما أن الصنائع والتجارات والأعمال تتفاضل، وأن أهلها يتفاضلون فيها، وأفضل كل أهل علم هم الراسخون في العلم العارفون بأصوله وفروعه، كما أن أفضل أهل الصناعة والتجارة هم الحذاق بها الأستاذون فيها.
ثم اعلم أنه ليس كل علم وأدب يليق بكل إنسان أن يتعلمه ويتعاطاه، ولكن أولى العلوم بكل إنسان أن يتعلمه ما لا يسعه جهله وواجب عليه طلبه.
فانظر يا أخي أولا بعقلك وميز ببصرك، واختر من العلوم والآداب ما لا بد لك منه، كما تختار من الأعمال والصنائع والتجارات ما لا بد لك منها.
ثم اعلم أن الناس على طبقات كثيرة في أحوالهم من الصنائع والأعمال والأخلاق والآراء والمذاهب والعلوم والمعارف لا يحصى عددها، ولكن يحصرهم كلهم ثلاث طبقات: فمنهم العامة من النساء والصبيان والجهال ، ومنهم الخاصة من العلماء والحكماء البالغين فيها الراسخين، ومنهم متوسطون بين ذلك.
ولكل طائفة من هؤلاء علم هو أولى بهم وأليق، فالتي تصلح للخاصة لا تصلح للعامة، والتي تصلح للعامة لا تصلح للخاصة، ولكن الذي يصلح للخاص والعام وما بينهما من سائر الطبقات جميعا من العلوم والمعارف والآداب هو علم الدين وآدابه وما يتعلق به من الأعمال.
(42) فصل في أن علم الدين وآدابه وما يتعلق به نوعان
ثم اعلم، أيدك الله، أن علم الدين وآدابه وما يتعلق به نوعان: فمنها ظاهر جلي ومنها ما هو خفي، ومنها ما هو بين ذلك.
وأولى ما يصلح للعامة من حكم الدين وآدابه ما كان ظاهرا جليا مكشوفا مثل علم الصلاة والصوم والزكاة والصدقات والقراءة والتسبيح والتهليل وعلم العبادات، ومثل علم الأخبار والروايات والقصص وما شاكلها تعليما وتسليما وإيمانا، وأولى علوم الدين بالمتوسطين بين الخاصة والعامة هو التفقه في أحكامها والبحث عن السيرة العادلة، والنظر في معاني الألفاظ مثل التفسير والتنزيل والتأويل والنظر في المحكمات والمتشابهات، وطلب الحجة والبرهان، وأن لا يرضى من الدين تقليدا إذا كان يمكنه الاجتهاد ودقة النظر.
والذي يصلح للخواص البالغين في الحكمة الراسخين في العلوم من علم الدين أن يطلبوه ويليق بهم أن ينظروا فيه ويبحثوا عنه، هو النظر في أسرار الدين وبواطن الأمور الخفية وأسرارها المكنونة التي لا يمسها إلا المطهرون من أدناس الشهوات وأرجاس الكبر والرياء، وهي البحث عن مرامي أصحاب النواميس في رموزهم وإشاراتهم اللطيفة المأخوذة معانيها عن الملائكة وما تأويلها وحقيقة معانيها الموجودة في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان وصحف الأنبياء عليهم السلام من الأخبار عن بدء كون العالم وخلق السموات والأرض في ستة أيام، ثم استوى على العرش، وخلق آدم الأول الترابي، وأخذ الميثاق عليه وعلى ذريته، وعتاب الملائكة لربها ومراجعتها إياه في الخطاب، وسجودهم لآدم، عليه السلام، وعصيان إبليس واستكباره عن السجود، وما شجرة الخلد والملك الذي لا يبلى، وما شاكل هذه الإشارات والمرامي عن أمور قد مضت مع الزمان وانقضت مع الأيام، وما ينتظر في المستقبل كالمكث في البرزخ والبعث والقيامة والحشر والنشر والميزان والوقوف على الأعراف والجواز على الصراط، ودخول الجنة وما نعيمها وكيفية لذاتها، وماهية دركات النيران وعذاب أهلها، وما شاكل هذه الأمور المذكورة في كتب الأنبياء عليهم السلام.
وأما حقائق معانيها فقد بينا طرفا من هذه العلوم والمعارف في رسائلنا الناموسية الإلهية.
ثم اعلم أن رجال هذه الطبقات الثلاث المقدم ذكرها متفاوتو الدرجات في علومهم ومعارفهم، فإن استوى أن تكون في أعلى المراتب وأعلى الدرجات فلا ترض لنفسك بالدون، واجتهد في الطلب؛ فإن الذين هم فوقك قد كانوا وليست هذه مراتبهم، ثم اجتهدوا في الطلب وبلغهم الله كما وعد فقال: @QUR05 والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا.
(43) فصل في أن أشرف العلوم وأجل المعارف هي معرفة الله
ثم اعلم أن أشرف العلوم وأجل المعارف هي معرفة الله وصفاته اللائقة به، وأن العلماء قد تكلموا في ماهية ذاته وأكثروا القيل والقال في حقيقته وصفاته، وتاه أكثرهم في العجاج عن المنهاج والفلح، والعلة في ذلك هو من أجل أن هذا المطلب من أبعد المرامي إشارة، وهو أقرب المذاهب وجدانا كما قال تعالى وضرب لهذه المعاني مثلا فقال: @QUR05 كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء الآية.
ثم اعلم أنه لم يفت من فاته وجدانه من أجل خفاء ذاته ودقة صفاته وكتمانها، ولكن من شدة ظهوره وجلالة نوره، وإنما ذهب على من ذهب معرفة ذاته وحقيقة صفاته من أجل أنهم طلبوه كطلبهم سائر الأشياء الجزئية المحسوسة، وبحثوا كبحثهم عن سائر الموجودات الكليات المبدعات المخترعات المصنوعات الكائنات من الجواهر والأعراض والصفات الموصوفات، المحتوية عليها الأماكن والأزمان والأكوان من الأشخاص والأنواع والأجناس.
وذلك أن كل واحد من هذه الموجودات يطلب فيه ويبحث عنه بتسعة مباحث وهي: هل هو؟ وما هو؟ وكم هو؟ وكيف هو؟ وأي هو؟ وأين هو؟ ومتى هو؟ ولم هو؟ ومن هو؟
ثم اعلم أن مبدع الهويات وممهي الماهيات وموجد الكميات ومكيف الكيفيات ومميز الأينيات ومرتب الأنينات وعلة اللميات لا يقال له ما هو؟ ولا يسأل عنه كيف هو؟ وكم هو؟ وأي هو؟ وأين هو؟ ومتى هو؟ ولم كان؟ وإنما يجوز ويسوغ فيه وعنه من هذه المباحث وسؤالان اثنان حسب وهما: هل هو؟ ومن هو؟ كما يقال: هو الذي فعل كيت وكيت، هو الذي وضع كيت وكيت، ومن أجل هذا أجاب موسى عليه السلام، فرعون إذ سأله: ما رب العالمين؟ فلم يجبه موسى عن جواب « ما»، بل أجاب عن جواب «من» الذي يليق به وبربوبيته، فقال: @QUR05 رب السموات والأرض وما بينهما، فلم يرض فرعون الجواب، فقال لمن حوله من الناس المتكلمين: @QUR02 ألا تستمعون أسأله «ما هو؟» ويجيبني «من هو؟» وكذا سأل مشركو قريش ومجادلوهم النبي عليه السلام، فقالوا: نعبد أصنامنا وآلهتنا ونحن نراها ونشاهدها ونعرفها، فأخبرنا عن إلهك الذي تعبده ما هو؟ فأنزل الله تعالى قوله: @QUR04 قل هو الله أحد فقالوا: لا يفهم ولا يعرف، يريدون ماهية ذاته، أجوهر هو أم عرض؟ أنور هو أم ظلمة؟ أجسم هو أم روح؟ أداخل هو أم خارج؟ أقائم هو أم قاعد؟ أفارغ هو أم مشغول؟ وما شاكل هذه المباحث والمطالب التي لا تليق بربوبيته، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
(44) فصل في أن مسألة الخلاف في الذات والصفات هي أيضا من إحدى المسائل الخلافية
ثم اعلم أن مسألة الخلاف للذات والصفات هي أيضا من إحدى المسائل الخلافية بين العلماء في الآراء والمذاهب؛ وذلك أن كثرة الظنون والتخيلات العارضة للأفهام إذا تفكرت النفوس في ماهية الله وكيفية صفاته اللائقة فلا تهتدي الظنون ولا تقر الأفهام عن الجولان، ولا تسكن النفوس إليه ولا تطمئن القلوب له حتى يعتقد الإنسان رأيا من الآراء وتسكن نفسه إليه ويطمئن قلبه به.
فمن الناس من يرى ويعتقد أن الله تعالى شخص من الأشخاص الفاضلة ذو صفات كثيرة ممدوحة وأفعال كثيرة متغايرة لا يشبه أحدا من خلقه ولا يماثله سواه من بريته، وهو منفرد من جميع خلقه في مكان دون مكان، وهذا رأي الجمهور من العامة وكثير من الخواص.
ومنهم من يرى ويعتقد أنه في السماء فوق رءوس الخلائق جميعا.
ومنهم من يرى أنه فوق العرش في السموات وهو مطلع على أهل السموات والأرض وينظر إليهم ويسمع كلامهم ويعلم ما في ضمائرهم، لا يخفى عليه خافية من أمرهم.
واعلم أن هذا الرأي والاعتقاد جيد للعامة من النساء والصبيان والجهال ومن لا يعلم شيئا من العلوم الرياضية والطبيعية والعقلية والإلهية؛ لأنهم إذا اعتقدوا فيه هذا الرأي تيقنوا عند ذلك وجوده وتحققوا وعلموا وصاياه التي جاءت بها الأنبياء، عليهم السلام، من الأوامر والنواهي، وعلموا علمها وعملوا بها خوفا ورجاء من الوعد والوعيد، وتجنبوا الزور والشرور وعملوا الخير والمعروف، وكان في ذلك صلاح لهم ولمن يعاملهم ويعاشرهم من الخاص والعام، وليس يضر الله شيئا مما اعتقدوه.
ومن الناس طائفة أخرى فوق هؤلاء في العلوم والمعارف ترى بأن هذا الرأي باطل ولا ينبغي أن يعتقدوا في الله تعالى أنه شخص يحويه مكان، بل هو صورة روحانية سارية في جميع الموجودات حيث ما كان لا يحويه مكان ولا زمان، ولا يناله حس ولا تغيير ولا حدثان، وهو لا يخفى عليه من أمر خلقه ذرة في الأرضين والسموات، يعلمها ويراها ويشاهدها في حال وجودها، وكان يعلمها قبل كونها وبعد فنائها.
ومن الناس طائفة أخرى فوق هؤلاء في العلوم والمعارف والعقل ترى وتعتقد أنه ليس بذي صورة؛ لأن الصورة لا تقوم إلا في الهيولى، بل ترى أنه نور بسيط من الأنوار الروحانية @QUR06 لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار.
ومن الناس ممن فوق هؤلاء في العلوم والمعارف والنظر والمشاهد يرى ويعتقد أنه ليس بشخص ولا صورة بل هوية وحدانية، ذو قوة واحدة وأفعال كثيرة وصنائع عجيبة، لا يعلم أحد من خلقه ما هو؟ وأين هو، وكيف هو، وهو الفائض منه وجود الموجودات، وهو المظهر صور الكائنات في الهيولى، المبدع جميع الكيفيات بلا زمان ولا مكان، بل قال كن فكان، وهو موجود في كل شيء من غير المخالطة، ومع كل شيء من غير الممازجة كوجود الواحد في كل عدد كما وصفنا في رسالة المبادئ .
ثم اعلم أن الله تعالى جعل بواجب حكمته في جبلة النفوس معرفة هويته طبعا من غير تعلم ولا اكتساب؛ لتكون تلك المعرفة داعية لها ومؤدية إلى طلب ماهيته ومعرفة آنيته؛ وليكون طلبتها في هذه المعارف داعية لها ومؤدية إلى أحكام جميع العلوم والمعارف الإلهية والطبيعية والرياضية والعقلية والحسية، حتى إذا أحكمت هذه العلوم والمعارف عرفه عند ذلك حق معرفته، وسكنت إليه واطمأنت وثبتت معه ونالت السعادة القصوى التي هي سعادة الآخرة.
ثم اعلم أن السعادة نوعان: دنيوية وأخروية، والسعادة الدنيوية هي أن يبقى كل شخص في هذا العالم أطول ما يمكن على أحسن حالاته وأكمل غاياته، والسعادة الأخروية أن تبقى كل نفس بعد مفارقتها الجسد إلى أبد الآبدين على أتم حالاتها وأكمل غاياتها.
ثم اعلم أن أحسن حالات النفوس أن تكون عالمة بالأمور الإلهية عارفة بالمعارف الربانية ملتذة بها مسرورة فرحانة منعمة أبد الآبدين خالدة سرمدية، كما قال الله تعالى: @QUR09 وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون وقال عليه السلام: «فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.»
(45) فصل في أن مسألة الصفات هي أيضا من إحدى مسائل الخلاف
ثم اعلم أن مسألة الصفات هي أيضا من إحدى مسائل الخلاف بين العلماء، ولكن من المسائل ما هي فروع مبنية على أصل، فمن ذلك قول القائلين بخلق القرآن، فإن هذا الحكم مبني على أن الكلام إنما هو حروف وأصوات يحدثها المتكلم في الهواء، فعلى هذا الأصل يجب أن يكون القرآن مخلوقا، وأما على أصل من يرى أن الحروف والأصوات إنما هي سمات وآلات والكلام إنما هو تلك المعاني التي في أفكار النفوس، فعلى هذا الأصل يجب ألا يكون القرآن مخلوقا؛ لأن الله تعالى لم يزل عالما بتلك المعاني التي هي في علمه، وتلك المعاني لم تزل معلومة له، ومنهم من يرى أن كلام كل متكلم هو إفهامه غيره معنى من المعاني بأي لغة وأي عبارة وأي إشارة كانت، فكلام الله لجبريل عليه السلام، هو إفهامه تلك المعاني، وكذلك جبريل عليه السلام، لمحمد، وكذلك محمد لأمته، وأمته بعضهم لبعض وكلها مخلوقة.
فأما إفهام الله لجبريل عليه السلام، فليس مخلوقا؛ لأن إفهام الله إبداع منه، والإبداع غير المبدع، كما أن العلم غير العالم وغير المعلم، وكثير من هؤلاء المجادلة لا يعرفون الفرق بين المخلوق وبين المبدع ولا بين الخالق والإبداع.
ثم اعلم أن الخلق هو إيجاد الشيء من شيء آخر كما قال الله تعالى: @QUR03 خلقكم من تراب.
وأما الإبداع فهو إيجاد الشيء من لا شيء، وكلام الله هو إبداع أبدع به المبدعات كما قال: @QUR05 إنما قولنا لشيء إذا أردناه أي أبدعناه @QUR05 أن نقول له كن فيكون.
والمكونات إنما تتكون بقوله: كن، فكن بأي شيء يتكون إن كان مخلوقا على زعم هؤلاء المخالفين.
ثم اعلم أن اختلاف العلماء في معلومات الله لم تزل أيضا من إحدى أمهات المسائل للخلاف.
وذلك أن منهم من يرى ويعتقد أن معلومات الله لم تزل هي أشياء في القدم جواهر أو أعراض؛ لأن الشيء عندهم هو الذي يخبر عنه ويعلم، فقد علم الله الأشياء قبل أن أخرجها من العدم إلى الوجود واخترعها، وهذا رأي بعض القدماء وبعض متكلمي أهل هذا الزمان.
ومن العلماء من يرى أن الله لم يزل عالما بأنه لا شيء سواه، وكان عالما بأنه سيخلق الأشياء ويجعلها جواهر أو أعراضا، ويؤلفها على ما هي عليه الآن، ثم فعل كما علم.
وأما مسألة المشيئة والإرادة فهي أيضا من إحدى مسائل الخلاف وأمهاتها بين العلماء؛ وذلك أن منهم من يرى أن في علم الله تعالى أشياء لا يريدها هو ولا يشاؤها البتة وهي الشرور والعصيان والمنكر.
ومنهم من يرى ويعتقد بأنه لا يجوز أن يكون في علم الباري أشياء لا يريدها هو مع قدرته على تغييرها وعلمه بكونها شرا كان أو خيرا.
ومنهم من يرى أن الله تعالى لا يوصف بالإرادة والمشيئة إلا على سبيل المجاز، وإنما يوصف الباري تعالى بالعلم، وما علمه بأنه سيكون فلا بد من كونه، كونه هو أو كونه غيره.
وما علم بأنه لا يكون فلا يكونه هو وعباده، فالإرادة لا يحتاج إليها ولا معنى لها؛ لأن الإرادة يوصف بها من لا يدري هل يكون الشيء أم لا، فإن اختار أراد أن يكون، وإن لم يختر فلا يريد أن يكون.
فعلى هذا الأصل كلتا الطائفتين الخائضتين في إرادة الله ومشيئته على غير تحقيق، بل على سبيل المجاز.
وأما احتجاج من يزعم ويقول: إذا كان لا يقع من العباد ما أمروا به ونهوا عنه إلا بما قد سبق العلم به أن يكون أو لا يكون، فالأمر والنهي والوعد والوعيد والمدح والذم لماذا؟ وما وجه الحكمة فيها؟ فليعلم قائل هذا القول بأن اللوم والذم ليس يلزم العبد من أجل وقوع المعلوم منه، بل من أجل تركه الاجتهاد بما أمر به أو نهي عنه.
فإذا اجتهد العبد ووقع المعلوم منه فهو ممدوح مستوجب للوعد والثناء عليه، وإذا اجتهد العبد ولم يقع المأمور به أو وقع المنهي عنه فهو معذور يستحق العفو والغفران من أجل اجتهاده.
ثم اعلم أن الله تعالى أمر أيضا بالتوبة والندامة والاستغفار، وهي أيضا طاعة الله والدين، ويستحق العبد الثواب والجزاء، والتوبة والندم والاستغفار لا يكون إلا بعد الذنب.
وقد روي عنه عليه السلام، أنه قال: «لولا أن بني آدم إذا أذنبوا تابوا فيغفر لهم الله لخلق الله تعالى خلقا جديدا أذنبوا وتابوا فيغفر لهم.»
ثم اعلم أن الله تعالى إنما يمن ويتفضل على عبيده بالعفو والمغفرة إذا أذنبوا، كما من عليهم بالعصمة والتوفيق واللطف في الطاعة كما قال تعالى: @QUR012 قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله وقال تعالى: @QUR06 إنه لا ييأس من روح الله[5] وقال: @QUR07 ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون.
ثم اعلم أن من أفقه الفقهاء وأحكم الحكماء من كان يحسن أن يعظ الناس ويدعوهم إلى الله ويهديهم إليه ويزهدهم في الدنيا ويرغبهم في الآخرة ويخوفهم سخط الله، فلا يؤيسهم من روحه ويحذرهم الله، ولا يقنطنهم من رحمة الله ، ويحسن أن يصف لهم فضل الله وإحسانه ورحمته، ولا يرخص لهم معصيته ولا ترك طاعته؛ لأن ذلك يكون استجراء على الله لا اتكالا على رحمته، بل يقيمهم بين الرجاء والخوف وبين الرغبة والرهبة إلى يوم يلقونه، فيفعل بهم ما يشاء ويحكم فيهم ما يريد لا راد لحكمه ولا معقب لقضائه فعال لما يريد.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن من الآراء والمذاهب والاعتقادات ما هي مؤلمة لنفوس معتقديها معذبة لقلوبهم، وهي الآراء الفاسدة والاعتقادات الرديئة، ومنها ما هي ملذة لنفوس معتقديها مفرحة لقلوبهم وهي الآراء الصالحة والاعتقادات الجيدة.
ثم اعلم أن الآراء الفاسدة كثيرة لا يحصى عددها، ولكن نذكر منها طرفا ليعرف القياس ويحذر منها ومن أمثالها.
فمن ذلك رأي من رأى واعتقد أن العالم قديم لا صانع ولا مدبر له، وأن هذا الرأي مؤلم لنفوس معتقديه معذب لقلوبهم؛ وذلك أنه لا يخلو من أن يكون صاحب هذا الرأي سعيد أهل الدنيا أو من أشقيائهم، فإن كان من سعدائهم فإنه لا يدري من أين له هذا وما هو فيه؟ ولا يدري من أعطاه ذلك ليشكر له ويطلب منه المزيد ويرجو منه خيرا مما أعطي إما من الدنيا وإما في الآخرة؟
وقد علم يقينا أن الذي هو فيه من النعمة ورغد العيش لا يدوم له، وأنه مفارقه على رغمه مع شدة محبته للبقاء فيما هو فيه من النعمة ورغد العيش، ومع شدة شهواته لدوام تلك النعمة عليه، كلما ذكر الموت والفناء نغص عليه شهواته، ويمر الموت عليه لذاته فيعيش طول عمره خائفا من الموت وجلا من الفناء مشفقا من الهلاك، ثم يموت على رغم وحسرة وندامة لا يرجو بعد الموت خيرا، ولا يؤمل بعد الفراق معادا، ولا ثواب عمل ولا جزاء إحسان.
فهذه حاله في الدنيا، فأما في الآخرة فالحسرة والندامة والويل الطويل والخسران المبين، وتمني الرجعة وقد حيل بينه وبين ما يشتهي.
وإن كان من أشقيائها فهو أسوأ حالا وأمر عيشا وأشر سيرة من غيره؛ وذلك أنه يفني عمره كله بجهل وعناء وتعب وشقاء في طلب ما لم يقدر له، وهو لا يدري أن طلبه لا يزيد في رزقه شيئا، أو لا يدري أن الذي أعطاه ما أعطاه ومنعه ما منعه من هو؟ فيطلب منه فيسأله ويرجوه ويؤمل منه خيرا عوضا عما فاته في وقت آخر؛ فهو بجهله بربه يعيش طول عمره مغتما حزينا ضجرا لما رأى أنه فاته ما وجد غيره، ثم يموت بحسرة وغصة وندامة لا يرجو بعد الموت خيرا ولا بعد الفراق ثواب عمل ولا جزاء إحسان @QUR07 خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين.
ومن الآراء الفاسدة والاعتقادات الرديئة المؤلمة لنفوس معتقديها المعذبة لهم رأي من رأى واعتقد أن للعالم صانعين: أحدهما خير فاضل، والآخر شرير رذل، وهما متجاوران مختلطان أو متباينان متنازعان كل واحد مخالف للآخر في شيء أو أشياء، طول الدهر كل واحد في جهد وعناء وبلاء من صاحبه يريد غلبته والخلاص منه، فمن يعتقد مثل هذا الرأي فهو لا يدري أين ذلك الخير الفاضل فيطلبه ويأوي إليه ويصيره في خيره؟ وأين ذلك الشرير فيعرفه ويهرب من عذابه ويتخلص من شره وينجو من جوره؟ فهو يعيش طول عمره حيران متبلبلا مؤتلمة نفسه معذبا قلبه وجلا خائفا لا يدري كيف وجه الخلاص مما هو فيه؟ ولا كيف وجه النجاة من المنقلب؟
ومن الآراء الفاسدة الرديئة المؤلمة لنفوس معتقديها رأي من يرى ويعتقد أن العالم محدث مصنوع وله صانع واحد حكيم، ولكن لا يرى البعث والنشور والقيامة ولا الحشر والحساب ولا لقاء ربه! فمن يعتقد هذا الشأن فهو يرجو الوصول إلى الآخرة، ولا يؤمل ثواب العمل ولا جزاء الإحسان، فيكون حال من يعتقد هذا الرأي وحكم نفسه في آلامها وعذابها وعذاب قلبه كحكم من يعتقد بأن العالم قديم ولا صانع له، كما تقدم ذكره، وإليه أشار بقوله تعالى: @QUR07 إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا ردا عليهم قولهم.
ثم اعلم أن أسوأ الناس حالا ورأيا وأشرهم اعتقادا من لا يؤمن بيوم الحساب ولا يرجو الآخرة ولا يخاف العاقبة؛ وذلك أنه يفني عمره كله في طلب الدنيا وإصلاح أمر المعاش؛ لجر منفعة إلى جسده أو دفع مضرة عنه أو نيل شهوته أو الوصول إلى لذة متمنيا للخلود في الدنيا مع علمه ويقينه أنه لا يدرك فيها ولا يبقى هو له، وأنه لا بد من الموت ثم لا يرجع، ولا يرجو بعد الموت ثواب عمل ولا جزاء إحسان، بل يموت بحسرة وندامة آيسا مما يرجوه المؤمنون قنوطا مما يؤمله العارفون من الخيرات والنعيم واللذات.
ثم اعلم أن الله تعالى - بواجب حكمته - جعل في طبع النفوس محبة الوجود والبقاء أبدا سرمدا، وجعل في جبلتها كراهية العدم وبغض الفناء، ثم منعها ذلك في الدنيا لكي تركن إليها وتسكن فيها وتطمئن بها، لا لكون النفوس في هذه الدنيا حال نقص دون التمام، وكونها في الآخرة حال تمام وكمال، والبقاء على حال التمام والكمال أفضل وألذ وأشرف، كما أن حال الأجساد في الأرحام حال نقص من التمام، وحالها بعد الولادة حال تمام وكمال، لا يخفى هذا على العقلاء.
ثم اعلم أنه لا يمكن الوصول إلى حال التمام والكمال في الدنيا إلا بعد تقدم حال النقص في الرحم والجواز عليه، فهكذا حال النفوس في الدنيا يشبه حال الأجساد في الأرحام، وحال النفوس بعد مفارقتها الأجساد يشبه حال الأجساد بعد مفارقتها الأرحام؛ لأن الموت ليس شيئا سوى مفارقة النفس الجسد، كما أن الولادة ليست شيئا سوى مفارقة الجسد الرحم، كما بينا في رسالة حكمة الموت.
(46) فصل في أن العلماء إذا قالت قولا على حكومة ...
ثم اعلم أن العلماء إذا قالت قولا على حكومة ما فهي مقدمة لها نتيجة، فقولهم: إن الطبيعة لم تفعل شيئا باطلا، يعنون بهذا القول أنه ليس شيء من الأشياء الموجودة في العالم إلا بحكمة ما، عرفت أو لم تعرف؛ فشهوة النفوس البقاء أبدا، وكراهيتها الفناء ليست إلا بحكمة ما، فلو لم يكن للنفوس بقاء بعد مفارقة الأجساد لكان وجود هذه الشهوة في جبلتها وكراهية الفناء في طباعها باطلا ؛ لأن البقاء في الدنيا أبدا ليس بموجود لشخص من الأشخاص الحيوانية البتة، فإذن البقاء بعد الفناء.
ثم اعلم أن ذكرنا هذه الحكومة في هذا الفصل هو من أجل أنه ليس من علم بعد معرفة الباري تعالى أشرف وأجل وأنفع للنفوس من معرفة حقيقة أمر المعاد والنشأة الآخرة، فليس للنفوس طريق أفضل وأجود إلى معرفة أمر المعاد من معرفتها ذاتها وعلمها بجوهرها وصفاتها اللائقة بها، وهو أن تعلم كل نفس بأنها جوهرة روحانية حية بذاتها علامة بالقوة فعالة بالطبع، وأنها باقية بعد مفارقة الجسد، إما ملتذة مسرورة فرحانة، وإما مغتمة خاسرة كما بينا في رسائلنا، وكما ذكر الله تعالى في نحو من تسعمائة آية في القرآن.
(47) فصل في الآراء الفاسدة
وأيضا من الآراء الفاسدة والاعتقادات المؤلمة لنفوس معتقديها رأي من يرى أن بارئه وإلهه روح القدس الذي قتلته اليهود وصلبت ناسوته وذهب لاهوته لما رأى ما نزل بناسوته من العذاب فتركه مخذولا.
ثم اعلم أن هذا الرأي والاعتقاد يكسب صاحبه غيظا على القاتل وحنقا وعلى المقتول حزنا وغما، ثم يبقى طول عمره متألمة نفسه معذبا قلبه مشتهيا للانتقام من عدوه، ثم لا يظفر بشهوته ويموت بحسرته وغصته، وهكذا أيضا حكم من يرى ويعتقد أن الإمام الفاضل المنتظر الهادي مختف لا يظهر من خوف المخالفين.
واعلم أن صاحب هذا الرأي يبقى طول عمره منتظرا لخروج إمامه متمنيا لمجيئه مستعجلا لظهوره، ثم يفنى عمره ويموت بحسرة وغصة لا يرى إمامه ولا يعرف شخصه من هو كما ذكر الشاعر:
ألم تر أني مذ ثلاثين حجة
أروح وأغدو دائم الحسرات
ثم اعلم أن أمثال هذه الآراء الفاسدة والمذاهب والاعتقادات كثيرة لا يحصي عددها إلا الله، وإنما ذكرنا منها طرفا ليعلم أنها كلها مؤلمة لنفوس معتقديها وهو جزاء لها وعقوبة لاشتغالهم بغير الله وتركهم لذكر الله، كما قال تعالى: @QUR04 نسوا الله فأنساهم أنفسهم يعني تركوا ذكر الله وتركوا طاعته، واشتغلوا بذكر غيره وطاعة من سواه فتركهم معهم معذبة قلوبهم ومؤتلمة نفوسهم كما ذكر الله تعالى: @QUR011 ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين.
ثم اعلم أن هذه الآراء الفاسدة والاعتقادات الرديئة في الله تعالى وصفاته وأحكامه وآدابه نيران ملتهبة في نفوس معتقديها وحرقات مشتعلة في قلوبهم مؤلمة لها إلى وقت معلوم، ومعذبة لها إلى أجل معدود، كما قال: @QUR08 نار الله الموقدة * التي تطلع على الأفئدة.
ثم اعلم أنه لا يصل إلى معرفة الله تعالى أحد من الناس إلا بعد جوازه على الآراء الفاسدة: إما في أيام صباه أو بعد ذلك، ثم الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم من نفي الشرك، وينجيه منها كما وعد فقال: @QUR04 وإن منكم إلا واردها.
واعلم أن أهل الآراء الفاسدة والاعتقادات الرديئة طائفتان: إحداهما شياطين الإنس، فشياطين الإنس هم أهل الآراء الفاسدة الظاهرة التي ألفوها وأنسوا بها، وشياطين الجن هم أهل الآراء الفاسدة الباطنة التي أسروها واستجنوا بها وإخوانهم وأتباعهم وتلامذتهم وشيعتهم الذين يقتفون آراءهم ويسلكون مناهجهم.
واعلم أنه كلما مضت طائفة منها وانقرضت وبليت أجسادهم ألحقت نفوسها بنفوس من مضى قبلها من رؤسائها ومعلميها وأستاذيهم من القرون الماضية، ثم خلفتها أخرى على سننها ومنهاجها، وهكذا دأبهم إلى يوم القيامة كما قال تعالى: @QUR013 حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله يسألهم ملك الموت وأعوانه: @QUR021 قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين * قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس واخسئوا بالعذاب، وعلموا أنهم كانوا ظالمين.
فعند ذلك قالت أخراهم لأولاهم؛ يعني أتباعهم وتلامذتهم المتأخرين، لأولاهم؛ يعني لرؤسائهم المتقدمين: ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار وآيات كثيرة في حق هؤلاء وخطاب بعضهم بعضا كيف يكون في جهنم وهي طبقات النيران ودركاتهم.
ثم اعلم أن في النفوس لمعتقدي الآراء الفاسدة وعذاب قلوبهم حكمة جليلة وخصال عدة، فمنها أن تكون تلك الآلام والعذاب كفارة لذنوبهم وتمحيصا لسيئاتهم، وأخرى أن تكون رياضة لنفوسهم وترقية لها من الحالات الأدون إلى الأتم والأكمل؛ لأن الدنيا دار رياضة وبلوى ومحنة وتجربة واعتبار ، والأخرى أن يتبين لهم فضل الله ونعمته ورحمته وإحسانه إذ نجاهم منها وهداهم إلى صراط مستقيم، كما فرض على أهل الدين - دين الإسلام - في كل يوم وليلة سبع عشرة مرة أن يقولوا: @QUR03 اهدنا الصراط المستقيم إلى آخره، وكما حكي عنهم قولهم لما اهتدوا: @QUR012 الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
ثم انظر وتأمل كيف نسبوا هم الهداية إليه، ونسب هو الخير والثواب والجزاء إلى أعمالهم.
(48) فصل في أن الله جعل في جبلة الإنسان وطبيعته ...
واعلم أن الله جعل في جبلة الإنسان وطبيعته ألا يأتمر أحد من العقلاء لغيره ولا يطيعه إلا رغبة أو رهبة.
واعلم أن المرغوب والمرهوب نوعان: عاجل حاضر وآجل غائب، والعاجل الحاضر هو ما تشاهده الحواس، والآجل الغائب هو الذي لا تشاهده الحواس، ولكن قد تصوره الأوهام بالوصف والنعت.
واعلم أن الغائب الآجل لا تقع الرغبة والرهبة إليه ومنه إلا بالوعد والوعيد الصادق من العالم القادر، وكلما كان المرغوب أشد عند الراغب وأقرب تحقيقا كانت الرغبة إليه أوكد وأشد، وهكذا حكم المرهوب منه، وقد رغب الله تعالى خلقه من الجن والإنس في نعيم الجنان، وجعل الوعد للمؤمنين، ورهبهم أيضا من عذاب النيران، وجعل الوعيد أيضا للكافرين والأشرار، وجعل ميعادهم يوم يلقونه: إما في الدنيا قبل الممات، وإما في الآخرة بعد الممات والفراق، وبعث إليهم الرسل والشهداء والأنبياء الصادقين، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وذكر فيه الوعد والوعيد، وضمن وأقسم وحلف كما قال الله تعالى: @QUR05 فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وقال: @QUR05 وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات، ثم أقسم تعالى وحلف على تحقيق وعده فقال: @QUR09 فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون ثم قرب فقال: @QUR09 وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب.
ولكن من أجل أن موعده غائب عن إدراك الحواس صار أكثر الناس له منكرين وفيه شاكين، وفي ماهيته وآنيته ومتى وقته متحيرين، كما أخبر عنهم بقوله: @QUR04 هيهات هيهات لما توعدون، @QUR07 لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل.
وأما المؤمنون فهم مقرون بمواعيده منتظرون لها، ولكن من الآراء الفاسدة والاعتقادات الرديئة ربما ترد على قلوب المقرين شكوك وحيرة وإنكار، من ذلك من يرى ويعتقد أنه لا يجازى ولا يكافأ على إحسانه وسيئاته إلا في الآخرة بعد الموت، أو يرى ويعتقد أنه لا تكون الآخرة إلا بعد خراب الأرضين والسموات.
وهذا الرأي والاعتقاد يبعد عن صاحبه طريق الآخرة، ويقلل رغبته في ثواب أعماله وجزاء إحسانه، ويقلل رهبته وخوفه من عقوبات سيئاته، وإليه أشار بقوله: @QUR06 إنهم يرونه بعيدا * ونراه قريبا وبقوله: @QUR05 أولئك ينادون من مكان بعيد. وهكذا رأي من يعتقد أن الجنة التي وعد المتقون ليست بموجودة، وكذلك النار التي حذر الله عباده منها ليست بموجودة، ومثل هذه الآراء والاعتقادات وأمثالها تشكك معتقديها في الوعد وتقلل رغبتهم فيه، وهكذا حكمهم في الوعيد والرهبة منه، وهكذا أيضا رأي من يرى ويعتقد أن أولياءه وأمناءه ورسله وأهل جنته لا يرونه ولا يدرون رتبته، وما هو أن هذا الرأي يؤيس من روح الله، وهكذا رأي من يعتقد أن الله لا يغفر الذنوب ولا يعفو عن السيئات والخطأ، وهذا يقنط من رحمة الله تعالى، وهذا أيضا وما شاكل هذه الآراء المقللة للرغبة والرهبة في نعم الجنان وعذاب النيران.
ومن الآراء الفاسدة أيضا رأي من يعتقد الترخيص في الشبهات والإباحة في المحظورات والمحرمات، فإن صاحب هذا الرأي يكسبه اعتقاده جرأة على الله وتعديا لحدوده وارتكابا لمحارمه، ويكون صاحبه في السر مخالفا لأبناء جنسه ومنافقا مرائيا لا يصدق في معاملته ولا يفي بعهده ولا ينصح في أمانته، وفي مثل هذه الخصال فساد الدين والدنيا جميعا.
ومن الآراء الفاسدة أيضا: رأي من يرى ويعتقد أن الله الرحيم الرءوف الحنان يعذب الكفار والعصاة في خندق في النار غيظا عليهم وحنقا، وكلما احترقت أجسادهم وصارت فحما ورمادا عادت فيها الرطوبة والدم لتحرق مرة ثانية.
واعلم يا أخي أن هذا الرأي يسيء ظن صاحبه بربه، ويعتقد فيه قلة الرحمة وشدة القساوة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
ومن الآراء الفاسدة أيضا أنه يرى بأن أهل الجنة أجسادهم لحمية وأجسامهم طبيعية مثل أجساد أبناء الدنيا قابلة للتغيير والاستحالة متعرضة للآفات، فإذا تأمل ما وصف الله تعالى في صفات أهل الجنة لا يمسهم فيها نصب ولا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى، وأنهم خالدون، وما شاكل هذه الأوصاف المذكورة في القرآن التي لا تليق بالأجساد اللحمية والأجسام الطبيعية.
واعلم أنه لا يليق بالعقلاء أن يعتقدوها فضلا عن عقول الحكماء، بل النساء والجهال والصبيان جيد لهم، فإن هذا الرأي يليق بأفهامهم ويصلح لهم ويقرب من عقولهم ما وعدوا به ويوعدون من نعيم الجنان، ورهبتهم من عذاب النيران، ويزيدهم خوفا من سوء أفعالهم فيتركونها ويقوى رجاؤهم لثواب أعمالهم، و«عليكم بدين العجائز» لائق في هذا المقام لا في مقام آخر.
وأما من رزقه الله قليلا من التمييز والعقل والفهم ونظر في علوم الحكمة فإن هذا الرأي لا يصلح له ولا يليق به؛ لأنه إذا عرضه على عقله أنكره عليه فيقع عند ذلك في شك وحيرة وسوء ظن وتخيلات فاسدة.
ثم اعلم أن أسوأ الناس مذهبا وأشنعهم رأيا من يعتقد أمرا ويكون عقله منكرا عليه ونفسه مرتابة وظنه سيئا بربه كما قال: @QUR09 وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين الآية.
ومن الآراء الفاسدة من يعتقد أن الله خلق خلقا ورباه وأنماه وأنشأه وسلطه وقواه على عباده متمكنا في بلاده، ثم ناصبه بالعداوة والبغضاء، وهو إبليس وجنوده من الشياطين وهم يفعلون ما يريدون على رغم منه، وهو الجاعل لهم المشيئة والإرادة والعداوة والاستطاعة وطول العمر والمهلة وسعة الرزق والنعمة.
فإن صاحب هذا الرأي إذا فكر في أمر إبليس وجنوده وما نسب إليه من السرور وما يعتقده من مخالفتهم لله وعداوتهم؛ فإنه امتلأ منهم غيظا وحقدا عليهم وناصبهم العداوة والبغضاء حتى إنه لو أمكنه قتلهم كلهم أو قدر على قطع أرزاقهم فعل من شدة غيظه عليهم، وإذا لم يقدر على ذلك بقي طول عمره مغتاظا مغتما متألما نفسه معذبا قلبه، حتى إنه ربما فكر في خلق الله لهم وتربيته إياهم وسعة رزقه عليهم وتمكينه لهم فيما يفعلون وإمهاله لهم، عاتب ربه في الضمير وخاصمه في السر ويقول: لم خلقهم؟ ولم رباهم ورزقهم؟ ولم مكنهم وسلطهم؟ ولماذا؟ ولم؟ وكيف؟ وما شاكل هذه الوساوس والظنون الموبقة المؤلمة لنفوس المعترضين على الله في تدبير خلقه وإنفاذ مشيئته وإجرائه المعلوم على ما كان في سابق علمه.
(49) فصل في سبب ذكرنا لهذه الآراء الفاسدة
واعلم أن ذكرنا لهذه الآراء الفاسدة والاعتقادات الرديئة المؤلمة لنفوس معتقديها؛ لتعرف وتكون دليلا على أن ها هنا رأيا ملذا لنفوس معتقديه مفرحا لقلوبهم مبشرا لأرواحهم وهو رأي أولياء الله، واعتقاد الخواص من عباد الله الصالحين ومذهب الربانيين الذين أسلموا لربهم ولم يشركوا معه غيره لا سرا ولا علانية، وهم الذين صفت قلوبهم عن درن الشهوات الجسمانية، وطهرت أخلاقهم من العادات الرديئة، واضمحلت عن ضمائرهم الآراء الفاسدة، وصانوا جوارحهم عن الأعمال السيئة، وألسنتهم عن الفحشاء والمنكر، وأخلصوا سرائرهم مع الله ولم يعترضوا عليه في شيء من تدبير خلقه سرا وعلانية، فأصلح الله قلوبهم وزكى نفوسهم وطهر أخلاقهم، فهم لا يضمرون لأحد من خلق الله سوءا ولا يرون لهم على أحد فضلا، صالحوا الخلق سرا وجهرا كما وصفهم الله تعالى بقوله: @QUR012 وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما الآية. فهم يمشون على الأرض بأجسادهم ونفوسهم متعلقة بالمحل الأعلى.
ذلك أنهم لما عرفوه تركوا كل شيء سواه واشتغلوا به وبذكره، وأحسنوا إن الله لمع المحسنين @QUR05 ما على المحسنين من سبيل، وسئل النبي عليه السلام: ما هذا الإحسان؟ فقال: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.» كيف لا يراه أولياء الله ولا يشاهده أصفياؤه وهم معتقدون متحققون بقوله: @QUR013 ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم الآية، وبقوله: @QUR014 ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد وقوله: @QUR05 واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وقوله: @QUR04 إنني معكما أسمع وأرى وقوله : @QUR04 وهو معكم أينما كنتم.
(50) فصل في أنه ليس من لذة النفوس ولا سرور الأرواح ...
ثم اعلم أنه ليس من لذة النفوس ولا سرور الأرواح ولا فرح القلوب ألذ وأروح من روح نور ترد اليقين في قلوب أولياء الله بما وعدهم من يوم يلقونه من نعيم الجنان، وما يرجونه من نيل الثواب وجزيل العطاء من الآخرة، وما يجدونه في نفوسهم من شدة الشوق إلى رؤيته لشدة محبتهم إياه وكثرة ذكرهم إحسانه، كما قيل: جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها. وقال: @QUR05 والذين آمنوا أشد حبا لله، وقد وبخ الله من يحب غيره وذمهم بقوله: @QUR016 ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله.
ثم اعلم أن هذه اللذة التي وصفنا أن قلوب أولياء الله تجدها في دار الدنيا إنما هي ثمرة بعض سعيهم، ومقدمة بعض ثواب أعمالهم عجلت لهم في الدنيا؛ لأنهم لما عرفوه حق معرفته تركوا كل شيء سواه، واشتغلوا به وبذكره سرا وإعلانا @QUR08 لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله فعند ذلك اضمحلت الآراء الفاسدة عن ضمائرهم، وانحلت الاعتقادات الرديئة عن أفكار نفوسهم، فوجدوا روحا وراحة وريحانا ولذة يقصر الوصف عنه.
وإذ قد تبين في المباحث الحكمية أن بعض اللذات إنما هو خروج من الآلام، فاعلم أن الله تعالى جعل هذه اللذة والسرور بشرى لأوليائه في الحياة الدنيا، فأما التي في الآخرة فهي عند الله خير وأبقى، كما قال تعالى: @QUR021 قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة الآية لا يشاركهم فيها غيرهم.
واعلم أن علة انحلال الآراء الفاسدة واضمحلالها عن قلوب أولياء الله عند معرفتهم بربهم هو من أجل أنهم اعتقدوها في طلب معرفته، فلما تبين لهم الحق وعرفوا الله حق معرفته انحلت واضمحل ما كان منها فاسدا أو زورا أو بهتانا، كما حكي عن إبراهيم، عليه السلام، في أول مبدئه في طلب معرفة الله تعالى: @QUR04 فلما جن عليه الليل إلى قوله: @QUR04 وما أنا من المشركين وهكذا كان بدء معرفة الأنبياء عليهم السلام بربهم في أول نظرهم وعلومهم بصفاته اللائقة من الأولين والآخرين من ذرية آدم ونوح وإبراهيم وممن هداه الله واجتباه كما قال تعالى: @QUR08 والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وقال: @QUR04 وعلمتم ما لم تعلموا وقال لنبيه عليه السلام: @QUR07 ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان وقال له: @QUR04 قل رب زدني علما وقال: @QUR08 أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي الآية وقال: @QUR07 هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون الآية وقال: @QUR09 يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات الآية وقال: @QUR04 هم درجات عند ربهم يعني العلماء، وقال: @QUR06 إنما يخشى الله من عباده العلماء وآيات كثيرة في مدح العلماء وحسن الثناء عليهم وذم الجهال.
ثم اعلم أن نفوس الجهال كلها موتى بالقياس إلى نفوس العلماء؛ وذلك أن قلوب العلماء مفتوحة وصدورهم منشرحة متسعة ممتلئة من نور الهدى وروح المعارف وزهرة العلوم، وقلوب الجهال حرجة منغلقة وصدورهم من الوسواس والخيالات ضيقة مظلمة، وأوهامهم هائمة وأفكارهم تائهة في ظلمات الجهالات المتراكمة ونفوسهم ممتلئة من الوساوس والخيالات كما قال الله تعالى في عدة آيات من القرآن مثل قوله: @QUR08 فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام إلى قوله: @QUR03 الذين لا يؤمنون ومثل قوله: @QUR05 مثل نوره كمشكاة فيها مصباح إلى آخر الآية @QUR033 أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
واعلم أن حياة النفوس ويقظتها هي المعارف والعلوم، كما أن حياة الأجساد ويقظتها بالحس والحركة، وأن لكل جنس من الحيوانات ضروبا من المأكولات هي غذاء لأجسادها من نبات الأرض وثمار الشجر وأوراقها تشتهيها بطباعها وتلتذ بها بنفوسها، كل ذلك بحسب امتزاجها وتركيب أجسادها وعاداتها في تناولها.
وهكذا أيضا حكم شهوات النفوس ولذاتها في مأكولاتها ومشروباتها واختلاف ألوانها وفنون طعومها تشتهي هذا وتلتذ هذا بما لا يلتذ به هذا، وتشتهي وتلتذ في وقت ولا تشتهي في وقت آخر بل تكرهه وينفر طبعها منه ويتأذى.
وهكذا حكم لذاتها وشهواتها في المعارف والعلوم والصنائع والتجارات والأعمال والحرف وتصاريفهم في الأمور؛ وذلك أن من الناس من تكون نفسه مطبوعة على محبة الصنائع والحرف في تعليمها مشتهيا لها مستلذا بها.
ومنهم من يكون مطبوعا على محبة التجارات والبيع والشراء مشتهيا لذلك ملتذة به نفسه، ومنهم من تكون شهواته وعشقه في جمع المال والأثاث والأمتعة والادخار لها، ومنهم من تكون شهوته ولذته في إنفاق المال واتخاذ المنازل وإنشاء العقار وبنائه وعمارته الأرض والحرث والنسل وربط الدواب وتربيتها والاستكثار منها.
ومنهم من تكون شهوته ولذته في الأكل والشرب وعشق النساء والغلمان واللهو واللعب والغناء ولعب النرد والقمار والافتخار بها والمباهاة والعصبية والخصومات وما شاكل ذلك من المبارزة في الحرب والقتال والغارات والنهب والفتن والشرور والعداوة.
ومنهم من تكون محبته للصوم والصلاة والصدقات والقراءة والتسبيح والخشوع والبر والتقوى والعبادة وما شاكل هذه من أعمال الخيرات، وتكون نفسه مشتهية لها ملتذة بها.
ومنهم من تكون محبته في لقاء أهل العلم واستماع كلام العلماء وطلب العلوم والأدب ومعرفة الأخبار والروايات والآثار.
ومنهم من تشتهي نفسه علم النحو والشعر والخطب والفصاحة والأقاويل والكلام وما شاكل هذه ويلتذ بها.
ومنهم من يشتهي علم الحساب والهندسة والنجوم والطب والمنطق والرياضيات الحكمية وما شاكلها ويكذبها، ومنهم من تشتهي نفسه علم العزائم والرقى والسحر والكيمياء والحيل وما شاكلها وتلتذ بها.
ومنهم من يشتهي النظر في علوم الطبيعيات والإلهيات والبحث عنها وعن حقائق الموجودات الكائنات الفاسدات والباقيات المخلدات، كل ذلك على ما توجبه أحكام النجوم في أصول مواليدهم وعاداتهم عند نشوئهم على سنن آبائهم وأستاذيهم ومعلميهم ومن يصحبونه في الطلب طول أعمارهم من إخوانهم وأصدقائهم.
فانظر يا أخي بعقلك وميز ببصيرتك واختر لنفسك من هذه المشتهيات ما يليق بها وترضى لها به.
واعلم أن من الأمور ما هي جبلة مركوزة في النفس ومنها ما هو عادة جارية وألفة معتادة إذا دام عليها الإنسان صارت جبلة وطبيعة ثانية.
(51) فصل في أن حسن الخلق والسيرة العادلة ...
واعلم يا أخي أن حسن الخلق والسيرة العادلة هما من أخلاق الملائكة، ولكن بعضها في جبلة النفوس مركوزة فيها وبعضها عادة جارية معتادة، وهكذا أيضا حكم الخلق السوء والسيرة الجائرة هما من أخلاق الشياطين: بعضها جبلة مركوزة في النفس، وبعضها عادة جارية، وهي التي نشأ عليها الصبيان من الصغر يتربون من الصبي عليها أو يأخذها الناس ممن يصحبه ويتربى معه من الآباء والأمهات والإخوة والأخوات والجيران والمعلمين والأستاذين.
واعلم أنه ربما لا يتفق للإنسان هذه الأمور المحمودة من الصغر على حسب ما ينبغي، ولكن يجب على العاقل أن يتفقد أحواله وأخلاقه وسيرته وعاداته واعتقاداته، ويستبصر فيترك ما كان فاسدا رديئا ولا يتكلم على العادات الجارية، ولا يحتج بالطبع المركوز، بل يجتهد وينظر ويميز ويبحث، فإن الله تعالى ما بعث الحكماء والرسل والأنبياء إلا لإصلاح الأمور الفاسدة النابتة مع الطبائع الرديئة والعادة الجارية.
وقد ذكر العلماء والحكماء في كتب السياسات أنه ينبغي لكل إنسان أولا أن يبتدئ بإصلاح أخلاق نفسه وعاداته، فإذا عدلها واستوت فعند ذلك رام أن يصلح غيره. وقال عليه السلام: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته.» وقال تعالى: @QUR06 يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم.
ثم اعلم أن أكثر الناس قد تركوا وصية ربهم ونصيحة نبيهم فيما أمرهم به من إصلاح ذات بينهم وما فيه نجاة نفوسهم من العذاب الأليم بما رسمه لهم من التعاون والتعاضد والتناصر والتحاب والتودد والألفة فيما بينهم، واشتغلوا بما نهوا عنه من ذكر عيوب بعضهم بعضا وشنعة بعضهم على بعض، وصاروا فرقا ومذاهب وشيعا، وتوقدت بينهم نيران العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة؛ وذلك أنهم يعيب بعضهم بعضا بحرقة قلوبهم وألم نفوسهم وهم في العذاب مشتركون، أولهم مع آخرهم كما ذكر الله تعالى: @QUR05 كلما دخلت أمة لعنت أختها التي خالفتها، وقالوا: @QUR06 لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار، وقالوا: @QUR03 ربنا هؤلاء أضلونا يعني من كان موافقا لهم ، وقيل لهم: ذوقوا عذاب النار بما كنتم تكسبون لما تركتم وصية ربكم ونصيحة نبيكم، وقال: @QUR06 وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون فكانوا هم الظالمين بتركهم الوصية.
(52) فصل في أن الآراء الفاسدة كثيرة
واعلم أن الآراء الفاسدة كثيرة، وفيما حكينا كفاية للمعتبر المتفكر، وإن أهلها جم غفير لا يعرفون ولا يطاقون ولا يؤمن من غوائلهم، وهم جنود إبليس أجمعون، وهم الأشرار والكفار والفساق والمنافقون وأهل البدع والضلالات، ولكن أشرهم على أهل الدين والورع وأضرهم على العلماء وأشدهم على عداوة الحكماء هذه الطائفة الظلمة المجادلة المخاصمة الكفرة الفجرة الذين يخوضون في المعقولات وهم لا يعلمون في المحسوسات، ويتعاطون البراهين والقياسات وهم لا يحسنون الرياضيات، ويتكلمون في الإلهيات وهم يجهلون في الطبيعيات، ويتصدرون في المجالس ويتجادلون في أشياء لا تفيد في الدين علما ولا تنتج في الحكمة فائدة مثل كلامهم في التعديل والتجويز والجزء الذي لا يتجزأ وما شاكلها من المسائل المموهة المزخرفة التي لا حقيقة لها ولا وجود إلا في الأوهام الكاذبة، ولا يصح للمدعي فيها حجة ولا السائل عنها برهان، وهم خائضون فيها في مجالسهم مضيعون فيها أوقاتهم بالخصومات والجدالات والمعارضات والمناقضات، وإذا سئلوا عن أشياء هي موجودة مقدرة بين الناس ومعروفة مشهورة عند الحكماء لا يحسنون أن يجيبوا عليها.
فإذا استعصى عليهم بالسؤال والبحث أنكروها وجحدوها، ويأنفون أن يقولوا: لا ندري، أو يقولوا: الله ورسوله أعلم، بل يخوضون في طغيانهم وجهالاتهم ويدعون فيها المحالات، وربما يضعون في إبطالها المقالات المزخرفة، ويعارضون بها الحكماء والعلماء، ويشنعون بها عليهم مثل قولهم: إن علم الطب والنجوم باطل، وإن الكواكب جمادات وإن الأفلاك لا وجود لها، وإن علم الطب لا منفعة فيه، وإن علم الهندسة لا حقيقة له، وإن علم المنطق والطبيعيات كفر وزندقة، وإن أهلها ملحدون، ويدعون عليهم المحالات ويحكون عنهم الخرافات، ويقولون هذا كلامهم ومذهبهم ورأيهم واعتقادهم، ولعل القوم لا يقولون قليلا ولا كثيرا ولا يعتقدونها، وإن كان الاعتقاد لهم ورأيهم فلا يسمع منهم أحد ذلك، ويموتون مع اعتقاداتهم واندراس مذاهبهم فلا يعلم ولا يحس به أحد، أولئك كالأنعام بل هم أضل سبيلا.
وأما هؤلاء المجادلة فيظهرون بها في أهل المجادل، ويوردون تلك الاعتقادات الفاسدة والمذاهب الرديئة بفصيح العبارات ويبينون عنها بأوضح الاحتجاجات، ويكتبونها بأصح الخطوط وأجود ورق، ينسبونها إلى أقوام قد عرفوا بالعلم والحكمة وجودة الرأي وصحة التمييز على سبيل الشنعة عليهم والوقيعة بهم بسخيف الرأي ويسمونها الأحداث ويصورونها في قلوبهم ويمكنون في نفوسهم تلك الآراء الفاسدة والمذاهب الرديئة، ويحيرونهم ويشتتونهم في الحقائق.
فلو أن أهل تلك الآراء والمذاهب اجتهدوا بجهدهم وأنفقوا الأموال في إظهار مذاهبهم والاحتجاج على آرائهم والإيضاح عن اعتقاداتهم لما بلغوا عشر العشر مما قد بلغ هؤلاء المجادلة في تملكها في أكثر النفوس.
ومع هذه البلية كلها يدعون أنهم بهذا الفعل ينصرون الإسلام ويقرون الدين، وإلى يومنا هذا ما روي أن يهوديا تاب على يد واحد منهم، ولا نصرانيا أسلم ولا مجوسيا آمن بآرائهم[6] متمسكين باعتقاداتهم محتفظين، بل يزدادون باعتقادهم ومذاهبهم احتفاظا إذا نظروا إلى هؤلاء المجادلة فرأوا خصوماتهم في أحكام الدين وكثرة خلافهم ومنازعاتهم بعضهم لبعض وعداوة بعضهم مع بعض، ويلعن بعضهم بعضا، فاعتبروا أن مثل هؤلاء المجادلة فيما هم فيه ومن يدخل في مذاهبهم إلا كما ذكر الله تعالى: @QUR05 كلما دخلت أمة لعنت أختها وقالوا: @QUR03 لا مرحبا بهم فهذا حكم المجادلة فيما هم فيه من الخصومات والعداوات في الدين.
ثم اعلم أنك إذا تأملت طبقات الناس وجماعاتهم في أحوالهم من الدين والمذاهب والعلوم والصنائع والتجارات والحرف لم تجد بينهم من العداوة والبغضاء والطعن واللعن عشر العشر مما تجد بين أهل هذه الطبقة المجادلة.
وذلك أنك تراهم يكفر بعضهم بعضا ويتبرأ بعضهم من بعض، ويرى كل واحد منهم حل أخذ مال مخالفيه، ويشهد عليهم بالكفر والزندقة والخلود في النار أبد الآبدين، فلا جرم قد بغضوا العلماء إلى الناس وزهدوهم عن تعلم العلم والأدب وطلب المعارف.
وذلك أن الناس إذا نظروا إليهم وهم بهذه الأوصاف فلا هم يتعلمون ولا يتركون غيرهم يتعلم، وما مثالهم في ذلك إلا مثل الكلب ينام في المعلف وهو لا يأكل ولا يدع الخيل تأكل حتى يموت هو وهي ضرا وهزالا.
يحكى عن الحسين بن علي عليه السلام، أنه كان يقول: «يا علماء السوء جلستم على باب الجنة، فلا أنتم تعملون فتستوجبون الجنة، ولا تركتم غيركم يجوزكم فيدخل الجنة!» وذلك أنهم إذا نظروا إليهم وما هم فيه من هذه الأوصاف التي ذكرنا، فاحذرهم فإنهم أعداء أهل العلم، ومخالفون لأهل الورع، مضادون لإخوان الصفا؛ لأنهم أحوالهم وأخلاقهم أخلاق الشياطين، وقوتهم قوة الدجالين، ذلقو اللسان عميان القلوب فصحاء الألفاظ جاهلون بالمعاني، قد نصبوا أنفسهم للمجادلة مع العلماء ومناقضة الحكماء ومماراة السفهاء، لا الحكمة يعرفون ولا أحكام الشريعة يتحققون، ويحاجون بآيات كتب إلهية وهم فيها شاكون! يتبعون المتشابهات ويتركون العلم بالمحكمات كما وصفهم الله تعالى بقوله: @QUR011 هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب الآية.
ثم اعلم أن الله تعالى يتلطف ويتكرم مع أوليائه، وانظر إلى حكم الله لخاصته من أوليائه وتلقينه لهم وحكايتهم وأقاويلهم ودعائهم واقتدائهم، فإن أردت أن تكون هاديا مهديا مؤيدا رشيدا بالدين الحنيفي والمنهاج السلفي فاعمل بأحكام الشريعة والوصايا النبوية وإشارات الحكماء، واترك الخصومات والأخلاق الرديئة والأعمال السيئة والأفعال القبيحة، واجتنب الآراء الفاسدة، وتعلم العلم: أي علم كان حكميا أو شرعيا رياضيا أو طبيعيا أو إلهيا؛ فإنها كلها غذاء للنفس وحياة لها في الدنيا والآخرة جميعا، ولا تتبع سبيل الذين لا يعلمون، وهم الذين وصفهم الله بقوله: @QUR08 ومن الناس من يجادل في الله بغير علم إلى آخر الآية.
وقد عملنا في هذه العلوم والآداب إحدى وخمسين رسالة، كل واحدة منها في فن من العلوم ونوع من الآداب، فاطلبها واقرأها تجدها سهلة من غير تعب وكد، وفقك الله وإيانا وجميع إخواننا إلى طريق السداد، وهداك وإيانا وجميع إخواننا سبيل الرشاد، إنه رءوف رحيم بالعباد، والصلاة والسلام على النبي محمد وآله أجمعين.
(تمت رسالة الآراء والديانات، ويليها رسالة في ماهية الطريق إلى الله عز وجل.)
الرسالة الثانية من العلوم الناموسية والشرعية في ماهية الطريق إلى الله عز وجل
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
اعلموا أيها الإخوان، أيدكم الله وإيانا بروح منه، أن الله تبارك وتعالى خلق الخلق وسواه، ودبر الأمور وأجراها، ثم استوى على العرش وعلاه، فكان من فضل رحمته وكمال جوده وتمام إحسانه أن اختار طائفة من عباده واصطفاهم وقربهم وناجاهم، وكشف لهم عن مكنون علمه وأسرار غيبه، ثم بعثهم إلى عباده ليدعوهم إليه وإلى جواره ويخبروهم عن مكنون أسراره؛ لكيما ينتهوا عن نوم الجهالة ويستيقظوا من رقدة الغفلة، ويحيوا حياة العلماء، ويعيشوا عيش السعداء، ويبلغوا إلى كمال الوجود في دار الخلود، كما ذكر في كتبه ووصف على ألسنة أنبيائه صلوات الله عليهم فقال: @QUR010 خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ثم قال: @QUR011 إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ثم قال: @QUR08 فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب ثم قال: @QUR011 والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
واعلموا أيها الإخوان، أيدكم الله وإيانا بروح منه، أنه لا يمكن الوصول إلى هناك إلا بخلتين: إحداهما صفاء النفس، والأخرى استقامة الطريقة، فأما صفاء النفس؛ فلأنها لب جوهر الإنسان، فإن اسم الإنسان إنما هو واقع على النفس والبدن، فأما البدن فهو هذا الجسد المرئي المؤلف من اللحم والدم والعظام والعروق والعصب والجلد وما شاكله، وهذه كلها أجسام أرضية مظلمة ثقيلة متغيرة فاسدة، وأما النفس فإنها جوهرة سماوية روحانية حية نورانية خفيفة متحركة غير فاسدة علامة دراكة لصور الأشياء، وإن مثلها في إدراكها صور الموجودات من المحسوسات والمعقولات كمثل المرآة؛ فإن المرآة إذا كانت مستوية الشكل مجلوة الوجه تتراءى فيها صور الأشياء الجسمانية على حقيقتها، وإذا كانت المرآة معوجة الشكل أرت صور الأشياء الجسمانية على غير حقيقتها، وأيضا إن كانت المرآة صدئة الوجه فإنه لا يتراءى فيها شيء البتة.
فهكذا أيضا حال النفس؛ فإنها إذا كانت عالمة ولم تتراكم عليها الجهالات، طاهرة الجوهر لم تتدنس بالأعمال السيئة، صافية الذات لم تتصدأ بالأخلاق الرديئة، وكانت صحيحة الهمة لم تعوج بالآراء الفاسدة فإنها تتراءى في ذاتها صور الأشياء الروحانية التي في عالمها فتدركها النفس بحقائقها، وتشاهد الأمور الغائبة عن حواسها بعقلها وصفاء جوهرها، كما تشاهد الأشياء الجسمانية بحواسها إذا كانت حواسها صحيحة سليمة.
وأما إذا كانت النفس جاهلة غير صافية الجوهر، وقد تدنست بالأعمال السيئة أو صدئت بالأخلاق الرديئة أو اعوجت بالآراء الفاسدة، واستمرت على تلك الحال بقيت محجوبة عن إدراك حقائق الأشياء الروحانية، وعاجزة عن الوصول إلى الله تعالى، ويفوتها نعيم الآخرة كما قال الله تعالى: @QUR06 كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون.
واعلموا أيها الإخوان، أيدكم الله وإيانا بروح منه، أن حجابها عن ربها إنما هو جهالتها بجوهرها وعالمها ومبدئها ومعادها، وأن جهالتها إنما هي من الصدأ الذي تركب على ذاتها من سوء أعمالها وقبح أفعالها، كما قال تبارك وتعالى: @QUR08 كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون.
وأما اعوجاجها فهو من أجل آرائها الفاسدة وأخلاقها الرديئة كما قال الله تعالى: @QUR05 فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم.
واعلموا أيها الإخوان، أيدكم الله بروح منه، أن النفس ما دامت على هذه الصفات فإنها لا تبصر ذاتها ولا يتراءى في ذاتها تلك الأشياء الحسنة الشريفة اللذيذة الشهية التي في عالمها، كما وصف الله فقال: @QUR09 فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون وقال: @QUR013 لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون.
واعلموا أيها الإخوان، أيدكم الله بروح منه، أن النفوس ما لم تشاهد تلك الأشياء لا ترغب فيها ولا تطلبها ولا تشتاق إليها، وتبقى كأنها عمياء، كما قال الله تعالى: @QUR010 فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
واعلموا أيها الإخوان، أيدكم الله بروح منه، أن النفس إذا عميت عن أمر عالمها، وتوهمت أنه لا وجود لها إلا على هذه الحال التي هي عليها الآن في دار الدنيا فتحرص عند ذلك على البقاء في الدنيا، وتتمنى الخلود فيها وترضى بها وتطمئن إليها وتيأس من الآخرة وتنسى أمر المعاد، كما ذكر الله تعالى: @QUR05 ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها وقال: @QUR09 يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور.
ثم إنها إذا ذكرت بوصية الله التي جاءت على ألسنة أنبيائه عليهم السلام لا تذكر شيئا كما قال الله تعالى: @QUR04 وإذا ذكروا لا يذكرون، ثم إنها تبقى في عمايتها وجهالتها وطغيانها إلى الممات مصرة مستكبرة كأن لم تسمعها. فإذا جاءت سكرة الموت التي هي مفارقة النفس الجسد وترك استعمال الجسم، وفارقته على كره منها وبقيت عند ذلك فارغة من استعمال البدن وإدراك المحسوسات؛ تراجعت إلى ذاتها لتنهض فلا يمكنها النهوض من ثقل أوزارها ومن أعمالها السيئة وعادتها الرديئة كما قال الله تعالى: @QUR04 يحملون أوزارهم على ظهورهم فعند ذلك يتبين لها أنها قد فاتتها اللذات المحسوسات التي كانت لها بتوسط البدن، ولم تحصل لها اللذات المعقولات التي في عالمها، فعند ذلك تبين لها أنها قد خسرت الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين، وقد انقضى.
(1) الفصل الأول: في الحث على تهذيب النفس وإصلاح الأخلاق
وأما الخلة الأخرى التي هي استقامة الطريق فإن كل قاصد نحو مطلوب من أمور الدنيا، فإنه يتحرى في مقصده نحو مطلوبه أقرب الطرقات وأسهلها مسلكا؛ لأنه قد علم أنه إن لم يكن له طريق قريب فإنه يبطئ في وصوله إلى مطلوبه، وأيضا فإنه إن لم يكن الطريق سهل المسلك فربما يعوق البلوغ إليه أو يتعب في سلوكه، وإن أقرب الطرقات ما كان على خط مستقيم، وأسهلها مسلكا هو الذي لا عوائق فيه، فهكذا ينبغي أيضا للقاصدين إلى الله تعالى بعد تصفية نفوسهم، والراغبين في نعيم الآخرة في دار السلام، والذين يريدون الصعود إلى ملكوت السماء والدخول في جملة الملائكة بأن يتحروا في مقاصدهم أقرب الطرقات إليه كما قال الله تعالى: @QUR03 فأولئك تحروا رشدا وقال سبحانه: @QUR015 وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به وقال تعالى: @QUR08 قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم ونحن نريد أن نبين ما الطريق المستقيم الذي وصانا به وأمرنا باتباعه على ألسنة أنبيائه صلوات الله عليهم، ونصف أيضا كيف ينبغي أن نسلكه حتى نصل إلى ما وعدنا ربنا كما قال الله تعالى: @QUR015 أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم، ولكن لا يمكننا بيان ذلك بالحقيقة إلا بكلام موزون وقياس صحيح ودلائل واضحة على مثل بيان الله تعالى وسنة أنبيائه، صلوات الله عليهم، بالوصف البليغ لسائر آيات الله في الآفاق وفي أنفسنا حتى يتبين لهم أنه الحق، كما قال الله تعالى: @QUR09 وفي الأرض آيات للموقنين * وفي أنفسكم أفلا تبصرون، وإذا فعلنا ذلك تفتحت أبواب العلوم المخزونة والأسرار المكنونة التي لا يمسها إلا المطهرون.
واعلموا أيها الإخوان، أيدكم الله تعالى وإيانا بروح منه، أنه لا ينبغي أن يتكلم أحد في ذات الباري تعالى ولا في صفاته بالحزر والتخمين، بل ينبغي له ألا يجادل فيه إلا بعد تصفية النفس، فإن ذلك يؤدي إلى الشكوك والحيرة والضلال، كما قال الله تعالى: @QUR013 ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ونحن نبتدئ أولا قبل كل شيء فنبين كيف ينبغي أن نصفي النفس من الأخلاق الرديئة التي اعتدنا عليها من الصبا، ونجعل لوصفنا ذلك في رسائلنا الرياضية أبوابا شتى، ونذكر في كل باب ضروبا من الأمثال؛ لكيما يكون أوضح للبيان وأقرب للفهم وأبلغ في الموعظة، ثم بعد ذلك نصف في هذه الرسائل أبوابا أخر يتبين فيها ما الطريق المستقيم إلى الله عز وجل، وكيف ينبغي أن تتبع بكلام[1] موزون ودلائل واضحة؛ ليكون منهاجا للقاصدين وإرشادا للمريدين، ثم نبتدئ بعد هذين الجهتين بالكشف عن الأمور الإلهية الحية والأسرار المخزونة مما قد عرفنا بإلهام الله تعالى، أو مما قد استنبطنا من تفاسير كتب أوليائه وتنزيلات أنبيائه عليهم السلام، ومما قد جرى على ألسنة الحكماء في إشاراتهم ورموزاتهم، ومن سبب بدء كون العالم بعد أن لم يكن، ووقوع النفس وغرورها وخلق آدم الأول وسبب عصيانه، وحديث الملائكة وسجودهم لآدم، وقصة إبليس والجان واستكباره عن السجود، وشجرة الخلد والملك الذي لا يبلى، وسبب أخذ الميثاق إلى ذرية آدم وأخبار القيامة والنفخ في الصور والبعث والنشور والحساب، وفصل القضاء والجواز على الصراط والنجاة من النار والدخول إلى الجنة، وزيارة الرب تبارك وتعالى، وما شاكل هذا من الأخبار المذكورة في كتب الأنبياء، صلوات الله عليهم، وما حقائق معانيها؛ لأن في الناس أقواما عقلاء مميزين متفلسفين إذا فكروا في هذه الأشياء وقاسوها بعقولهم لا تتصور لهم معانيها الحقيقية، وإذا حملوها على ما يدل عليه ظاهر ألفاظ التنزيل لا تقبله عقولهم فيقعون عند ذلك في الشكوك والحيرة، وإذا طالت تلك الحيرة بهم أنكروها بقلوبهم، وإن كانوا لا يظهرون ذلك باللسان مخافة السيف.
وفي الناس أقوام دونهم في العلم والتمييز يؤمنون ويعلمون أنها الحق، وأقوام آخرون يأخذونها تقليدا ولا يتفكرون فيها، وفي الناس طائفة إذا سمعوا مثل هذه المسائل نفرت نفوسهم منها واشمأزوا عن ذكرها، وينسبون المتكلم أو السائل عنها إلى الكفر والزندقة والتكلف لما لا ينبغي.
فأولئك أقوام قد استغرقت نفوسهم في نوم الجهالة فينبغي للمذكر لهم أن يكون طبيبا رفيقا يحسن أن يداويهم بأرفق ما يقدر عليه من التذكار لهم بآيات الكتب الإلهية وما في أيديهم من أخبار أنبيائهم، وما في أحكام شرائعهم من الحدود والرسوم والأمثلة، فإن ذلك كله إشارات للنفس بتذكيرها ما قد غفلت عنه من أمر معادها ومبدئها مثل مقادير الفروض على أعداد مخصوصة، ومثل أحكام النبيين على شرائط معلومة، ومثل تأديتها في أوقات معروفة، ومثل التوجه إلى جهات مختلفة، ومثل التعبد على فنون متباينة إن كان هؤلاء من أهل التوراة أو من أهل الإنجيل أو من أهل القرآن، فإن تعلقهم بظاهر أحكام شرائعهم وحرصهم وعنايتهم بقراءة كتب أنبيائهم وإقرارهم بصواب ما فيها من الأحكام للدين والدنيا حجة للمذكرين لهم بعدما جهلوه من أمر عالمهم وما قد نسوه من أمر معادهم ومبدئهم، وشاهد عليهم بما قد جحدوه من معاني هذه المسائل التي ذكرناها، وإن كان هؤلاء القوم المنكرون لمعاني هذه المسائل من عبدة الأوثان والأصنام والنيران والشمس والكواكب وما شاكلها، فإن في كتب نواميسهم وصور هياكلهم وأحكام سننهم أمثلة أيضا لذلك وإشارات إليها مثل ما في الشرائع والأديان النبوية، لكن يحتاج أن يكون المذكرون لهم عارفين بها.
وإن في الناس طائفة إذا سمعوا مثل هذه المسائل تطلعت همم نفوسهم إلى أجوبتها، ورغبت في معرفة معانيها، فإذا سمعوا الجواب عنها قبلتها بلا حجة ولا برهان، ولكن على التقليد.
أولئك قوم نفوسهم سليمة بعد لم تتعوج بالآراء الفاسدة، ولم تستغرق بعد في نوم الجهالة، فيحتاج المذكر إلى أن يسلك بهم طريقة التعليم إلى التدريج كما وصفنا في الرسالتين الأوليين اللتين وضعناهما للمتعلمين والمريدين، فإذا تهذبت نفوسهم وصفت أذهانهم وقويت أفكارهم أطلقت لهم أجوبة من هذه المسائل ببراهينها، كما بينا في الرسائل الخمس التي صورناها على صورة الإنسان وأوضحنا دلائلها بالمثالات التي في صورة الإنسان. وفي الناس طائفة من أهل العلم قد نظروا في بعض العلوم وأقروا بعض كتب الحكماء، أو سمعوا من المتكلمين في مناظرتهم ومن المتفلسفين والشرعيين جميعا قد تكلموا في مثل هذه المسائل وأجابوا عنها بجوابات مختلفة، ولم يتفقوا على شيء واحد ولا صح لهم فيها رأي واحد، بل وقعت بينهم في ذلك منازعات ومناقضات، كل ذلك لأنهم لم يكن لهم أصل واحد صحيح ولا قياس واحد مستو يمكن أن يجاب به عن هذه المسائل كلها من ذلك أو على ذلك القياس، ولكن كانت أصولهم مختلفة وقياساتهم متفاوتة غير مستوية.
واعلموا أيها الإخوان، أيدكم الله وإيانا بروح منه، أن الجواب على أصول مختلفة والحكم بقياسات متفاوتة تكون متناقضة غير صحيحة، ونحن قد أجبنا عن هذه المسائل كلها وأكثر منها مما يشاكلها من المسائل على أصل واحد وقياس واحد، وهو صورة الإنسان؛ لأن صورة الإنسان أكبر حجة لله على خلقه؛ ولأنها أقربها إليهم ودلائلها أوضح وبراهينها أصح، وهي الكتاب الذي كتبه بيده، وهي الهيكل الذي بناه بحكمته، وهي الميزان الذي وضعه بين خلقه ، وهي المكيال الذي يكيل لهم به يوم الدين ما يستحقونه من الثواب والجزاء، وهي المجموع فيها صور العالمين جميعا، وهي المختصر من العلوم التي في اللوح المحفوظ، وهي الشاهد على كل جاحد، وهي الطريق إلى كل خير، وهي الصراط الممدود بين الجنة والنار.
وينبغي لمن يدعي الرياسة في العلوم الحقيقية ويقول إنه يحسن أن يجيب عن هذه المسائل التي تقدم ذكرها أن يطلب منه الجواب على أصل واحد وقياس واحد؛ فإنه لا يمكنه إلا أن يجعل أصله صورة الإنسان من بين صور جميع الموجودات من الأفلاك والكواكب والأركان والحيوان والنبات وغير ذلك، وإن جعل أصله أشياء غير صورة الإنسان فلا يمكنه أن يقيس بها سائر الموجودات ويجيب عن هذه المسائل إلا بمثل ما قسنا عليه نحن وأجبنا عنه، وإذا فعل ذلك اتفق الجميع على رأي واحد ودين واحد ومذهب واحد، وارتفع الخلاف واتضح الحق للجميع، ويكون ذلك سببا لنجاة الكل.
ونحن لا نرخص لأحد بالنظر في مثل هذه الأشياء ولا السؤال عنها إلا بعد تهذيب نفسه بمثل ما قلناه ووصفناه في هذين الكتابين؛ اقتداء بسنة الله تبارك وتعالى كما أخبر وقال: @QUR06 وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر؛ وذلك أن موسى عليه السلام، قام لياليها وصام نهارها حتى صفت نفسه فناجاه الله تعالى عند ذلك وكلمه.
ويروى عن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أنه قال: «من أخلص العبادة لله أربعين يوما فتح الله قلبه وشرح صدره وأطلق لسانه بالحكمة ولو كان أعجميا غلفا.»
فمن أجل هذا وجب على الحكماء إذا أرادوا فتح باب الحكمة للمعلمين وكشف الأسرار للمريدين أن يروضوهم أولا ويهذبوا نفوسهم بالتأديب؛ كيما تصفوا نفوسهم وتطهر أخلاقهم؛ لأن الحكمة كالعروس تريد لها مجلسا خاليا؛ فإنها من كنوز الآخرة، وإن الحكيم إذا لم يفعل ما هو واجب في الحكمة من رياضة المتعلمين قبل أن يكشف لهم أسرار الحكمة فيكون مثله في ذلك كمثل حاجب ملك أذن لقوم بله بالدخول على الملك من غير تأديب ولا ترتيب؛ فإنه يستحق العقوبة عليه إن فعل ذلك، فإذا هو فعل ما قد يجب من تأديبهم ثم لم يفعلوا هم ولا قبلوا منه فقد برئ الحكيم من اللوم، ولزمهم الذنب؛ لأنك إذا قدمت الطعام والشراب إلى الجائع فقد أشبعته، فإذا هو لم يأكل حتى مات جوعا فهو المأخوذ بدمه @QUR011 ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه.
وفقك الله أيها الأخ البار الرحيم وإيانا للرشاد، وسددك وإيانا وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد، إنه رءوف بالعباد.
(تمت رسالة ماهية الطريق إلى الله عز وجل وكيفية الوصول إليها، ويليها رسالة في بيان اعتقاد إخوان الصفاء.)
الرسالة الثالثة من العلوم الناموسية والشرعية في بيان اعتقاد إخوان الصفا ومذهب الربانيين
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
اعلم أيها الأخ، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنا قد فرغنا من بيان ماهية الطريق إلى الله تعالى وكيفية الوصول إلى معرفته، وهي الغاية القصوى، فنريد الآن أن نذكر في هذه الرسالة بيان اعتقاد إخوان الصفا ومذهب الربانيين، وبيان أن النفس تبقى بعد مفارقتها الجسد التي عبر عنها بالموت الطبيعي بطريق مقنع لا بطريق البرهان، فنقول:
اعلم أنه في الزمان السالف ذكروا أنه كان رجل من الحكماء رفيقا بالطب دخل إلى مدينة من المدن فرأى عامة أهلها بهم مرض خفي لا يشعرون بعلتهم ولا يحسون بدائهم الذي بهم، ففكر ذلك الحكيم في أمرهم كيف يداويهم ليبرئهم من دائهم ويشفيهم من علتهم التي استمرت بهم، وعلم أنه إن أخبرهم بما هم فيه لا يستمعون قوله ولا يقبلون نصيحته، بل ربما ناصبوه بالعداوة واستعجزوا رأيه واستنقصوا آدابه واسترذلوا علمه، فاحتال عليهم في ذلك لشدة شفقته على أبناء جنسه ورحمته لهم وتحننه عليهم، وحرصه على مداواتهم طلبا لمرضاة الله عز وجل بأن طلب من أهل تلك المدينة رجلا من فضلائهم الذين كان بهم ذلك المرض، فأعطاه شربة من شربات كانت معه قد أعدها لمداواتهم وسعطه بدخنة كانت معه لمعالجتهم، فعطس ذلك الرجل من ساعته ووجد خفة في بدنه وراحة في حواسه وصحة في جسمه وقوة في نفسه.
فشكر له وجزاه خيرا وقال له: هل لك من حاجة أقضيها لك مكافأة لما اصطنعت إلي من الإحسان في مداواتك لي؟ فقال: نعم. تعينني على مداواة أخ من إخوانك، قال: سمعا وطاعة لك. فتوافقا على ذلك ودخلا على رجل آخر ممن رأوا أنه أقرب إلى الصلاح فخلوا به من رفقائه وداوياه بذلك الدواء فبرأ من ساعته، فلما أفاق من دائه جزاهما خيرا وبارك فيهما وقال لهما: هل لكما حاجة أقضيها لكما مكافأة لما صنعتما إلي من الإحسان والمعروف؟ فقالا: تعيننا على مداواة أخ من إخوانك. فقال: سمعا وطاعة لكما. فتوافقوا على ذلك ولقوا رجلا آخر فعالجوه وداووه بمثل الأول، فبرئ وقال لهم مثل قول الأولين، وقالوا له مثل ما قال الأول.
ثم تفرقوا في المدينة يداوون الناس واحدا بعد آخر في السر حتى أبرءوا أناسا كثيرا، وكثر أنصارهم وإخوانهم ومعارفهم، ثم ظهروا للناس وكاشفوهم بالمعالجة وكابروهم بالمداواة قهرا، وكانوا يلقون واحدا واحدا من الناس فيأخذ منهم جماعة بيديه وجماعة برجليه ويسعطه الآخرون كرها ويسقونه جبرا حتى أبرءوا أهل المدينة كلهم.
(1) فصل في مذهب الربانيين في كيف يبدأ الإنسان الدعوة
واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن هذا مثل الأنبياء، صلوات الله عليهم، في بدء دعوتهم الناس من إذكارهم ما قد نسوه من أمر الآخرة والمعاد وتنبيههم من نوم الجهالة ورقدة الغفلة التي هي مرض النفوس؛ وذلك أن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، في أول مبعثه ودعوته ابتدأ أولا بزوجته خديجة، عليها السلام، ثم بابن عمه علي عليه السلام، ثم بصديقه أبي بكر، ثم مالك وأبي ذر وصهيب وبلال وسلمان وجبير وبشار وغيرهم، حتى التأموا تسعة وثلاثين رجلا وامرأة، ثم دعا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يعز الله عز وجل الإسلام بأحد رجلين: إما بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب، فاستجيبت دعوته في عمر وأسلم والتأموا أربعين رجلا وأظهروا الدعوة، والقصة طويلة معروف كيف كانت.
وهكذا فعل موسى عليه السلام، لما دخل في أول مبعثه مصر فابتدأ أولا بأخيه هارون وغيره من علماء بني إسرائيل أولاد يعقوب حتى التأموا معه سبعون رجلا سرا، ثم ظهروا وقصدوا دعوة فرعون - وقصته تطول - وقد بينا بعضها في رسائلنا، وكذلك فعل المسيح، عليه السلام، في بيت المقدس في أول مبعثه.
واعلم يا أخي أن العلم علمان: علم الأبدان وعلم الأديان، فالأنبياء عليهم السلام أطباء النفوس وأولياؤهم وخلفاؤهم؛ فهذا مذهب إخواننا الكرام وإليه ندعو إخواننا الباقين، فكن أيها الأخ البار الرحيم معينا لإخوانك ومساعدا لهم توفق إن شاء الله.
واعلم أن أكثر الناس المقرين بالمعاد شاكون فيه متحيرون لا يدرون حقيقته ولا يعرفون طريقته، ولكن تقليدا يروي الآخر عن الأول، ويحكي التابع عن المتبوع، وما مثلهم في ذلك إلا كجماعة عميان يضع أحدهم يده على كتف الآخر ويصيرون كقطار الجمال ويمشون، فإن لم يكن لهم قائد بصير تاهوا كلهم، وأعيذك أيها الأخ أن تكون منهم، بل لتكن قائدا بصيرا تهدي الضلال وطبيبا رفيقا تبرئ الأكمه والأبرص، ولا تكن عليلا سقيما محتاجا إلى مداو. واعلم أن الأطباء إذا اجتمع رأيهم على مداواة عليل واتفقت كلمتهم على دواء واحد - وكانوا مستبصرين بتلك العلة وتعاونوا على علاجه مشفقين ناصحين غير متنازعين - أبرأ الله ذلك العليل على أيديهم في أقرب مدة، وشفاه بأسهل سعي، فأما إذا اختلفوا وتنازعوا وناقض بعضهم بعضا خذل العليل من بينهم وهلك ولا يشفيه الله لهم ولا ينتفعون هم بعلمهم.
فكن أيها الأخ مساعدا لإخوانك وموافقا ومناصحا ينفع الله بك العباد ويصلح بك شأنهم، كما وعد الله فقال: @QUR013 فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما، وقد سمعت في الخبر أن الحكمين يوم صفين لم يريدا إصلاحا، بل خدع كل واحد صاحبه ومكر وأضمر الحيلة والغل فلم يوفقوا في الصلح إلى طريق الرشاد، فرجع أمير المؤمنين غير راض بذلك الحكم.
(2) فصل في أن إخوان الصفا أصفياء وأصدقاء كرام
اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنا نحن جماعة إخوان الصفا أصفياء وأصدقاء كرام، كنا نياما في كهف أبينا آدم مدة من الزمان تتقلب بنا تصاريف الزمان ونوائب الحدثان، حتى جاء وقت الميعاد بعد تفرق في البلاد في مملكة صاحب الناموس الأكبر، وشاهدنا مدينتنا الروحانية المرتفعة في الهواء التي ذكرناها في الرسالة الثانية، وهي التي أخرج منها أبونا آدم وزوجته وذريتهما لما خدعهما عدوهما اللعين وهو إبليس وقال: @QUR08 هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى واغترا بقوله وحملهما الحرص والعجلة فبادرا وطلبا ما ليس لهما أن يتناولاه قبل استحقاقه في أوانه فسقطت مرتبتهما وانحطت درجتهما وانكشفت عورتهما، وأخرجاهما وذريتهما جميعا بعضهم لبعض عدو، وقيل لهم: اهبطوا منها ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين، فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون يوم البعث إذا انتبهتم من نوم الجهالة واستيقظتم من رقدة الغفلة، إذا نفخ فيكم بالصور فتنشق عنكم القبور، وتخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون.
فهل لك يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن تبادر وتركب معنا في سفينة النجاة التي بناها أبونا نوح عليه السلام، فتنجو من طوفان الطبيعة قبل أن تأتي السماء بدخان مبين، وتسلم من أمواج بحر الهيولى ولا تكون من المغرقين؟!
أو هل لك يا أخي أن تنظر معنا حتى ترى ملكوت السموات التي رآها أبونا إبراهيم لما جن عليه الليل حتى تكون من الموقنين؟
أو هل لك يا أخي أن تتمم الميعاد وتجيء إلى الميقات عند الجانب الأيمن حيث قيل يا موسى فيقضى إليك الأمر فتكون من الشاهدين؟
أو هل لك يا أخي أن تصنع ما عمل فيه القوم كي ينفخ فيك الروح فيذهب عنك اللوم حتى ترى الأيسوع عن ميمنة عرش الرب قد قرب مثواه كما يقرب ابن الأب أو ترى من حوله من الناظرين؟
أو هل لك أن تخرج من ظلمة أهرمن حتى ترى اليزدان قد أشرق منه النور في فسحة أفريجون؟
أو هل لك أن تدخل إلى هيكل عاديمون حتى ترى الأفلاك التي يحيكها أفلاطون، وإنما هي أفلاك روحانية لا ما يشير إليه المنجمون؟ وذلك أن علم الله تعالى محيط بما يحوي العقل من المعقولات، والعقل محيط بما تحوي النفس من الصور، والنفس محيطة بما تحوي الطبيعة من الكائنات، والطبيعة محيطة بما تحوي الهيولى من المصنوعات، فإذا هي أفلاك روحانية محيطات بعضها لبعض؟
أو هل لك ألا ترقد من أول ليلة القدر حتى ترى المعراج في حين طلوع الفجر حيث أحمد المبعوث في مقامه المحمود فتسأل حاجتك المقضية لا ممنوعا ولا مفقودا وتكون من المقربين؟ وفقك الله أيها الأخ البار الرحيم وجميع إخواننا لفهم هذه الإشارات والرموز، وفتح قلبك وشرح صدرك وطهر نفسك ونور عقلك لتشاهد بعين البصيرة حقائق هذه الأسرار، فلا تفزع من موت الجسد إذا فارقته وفيه حياة النفس فتكون من أولياء الله الذين تمنوا الموت لا من توهم أنه منهم، فقال: @QUR017 يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين.
واعلم أيها الأخ أنه لا يصدقنك في المودة ولا يخلص لك في النصيحة من لا يرى أنه يجازى على مودتك ويكافأ على محبتك بعد مفارقة الجسد، فلا تغتر بمن لا يريد في معاونته لك إلا جر المنفعة لجسده أو دفع المضرة عنه.
واعلم أن كل متعاونين في طلب منفعة مما يكون فيه خوف التلف على جسد أحدهما وسلامة الآخر؛ فإنه يود كل واحد منهما أن يسلم جسده وإن تلف جسم صاحبه؛ ليفوز هو بتلك المنفعة ويكون هو المغبوط وصاحبه المغبون الهالك.
واعلم يا أخي أنه ليس هكذا رأي إخواننا ولا اعتقادهم في معاونة بعضهم بعضا في طلب صلاح الدين والدنيا، بل بالعكس من ذلك؛ وذلك أن من كرم أخلاقهم وحسن اعتقادهم ما يروى عن الرجل الحكيم الذي كان وزير الخيشوان ملك الهياطلة - على ما يحكى عنه في التواريخ - أنه لما قصده فيروز ملك الفرس لقتاله بجموعه وبلغه الخبر وعلم أنه لا يطيق مقاومته جمع وزراءه واستشارهم في ذلك، فمنهم من أشار عليه بالقتال، ومنهم من أشار عليه بالهرب، ومنهم من أشار عليه بالحيلة.
فقال واحد ممن أشار عليه بالحيلة، وكان رجلا حكيما: أيها الملك، عندي حيلة لطيفة إن قبلتها وعملت عليها نجوت أنت وجيشك ورعيتك وسلمت بلادك وهلك عدوك. فقال الملك: هلم أشر علي برأيك وحكمتك. فقال الحكيم: أخل لي المجلس. ففعل، فقال: الرأي عندي أن تجمع خزائنك وتتوجه إلى موضع كذا؛ فإنه موضع حريز، وتقوم أنت وجيشك وتمر إلى موضع كذلك وتتركني في مكاني هذا بعد أن تقطع يدي ورجلي وتسمل عيني وتظهر الغضب علي، وتقول لمن حولك ولمن ببابك: قد ظهرت مني عليك خيانة وقلة نصيحة وهذا عقوبة ذلك، ثم ترحل إذا علمت أنه قرب منك ملك الفرس وتتركني بمكاني وتنتظر إلى أن تتم حيلتي، فقال الملك: تالله ما رأيت ولا ظننت أن أحدا من الناس يسمح بما سمحت به نفسك! قال الحكيم: قد سمح قبلي بمثل ذلك الرجل الخب العاقل. قال الملك: حدثني كيف كان حديثه؟ قال الحكيم: ذكروا أنه كان قوم من الغواصين ذهبوا إلى جزيرة يستخرجون اللؤلؤ فصحبهم رجل خب ليحتال عليهم فيفوز ببعض ما يستخرجون، فلما بلغوا ما أرادوا وانصرفوا راجعين لم يظفر الرجل بشيء مما أراد غير ما وهبوا له من صغار اللؤلؤ لخدمته لهم، ثم إنه خرج عليهم القطاع في طريقهم، فلما رآهم الغواصون بلع كل واحد منهم ما كان معه من ذلك الجوهر الثمين شفقة من أخذه، ولم يكن مع الخب شيء يشفق من أخذه فلم يبلع هو شيئا، فلما أخذهم القطاع فتشوهم فلم يجدوا معهم شيئا غير صغار اللؤلؤ، فقالوا لهم: أين خبأتم الكبار؟ فقالوا: لم نجد غير هذا، فقالوا: بل بلعتموها، فلنشقن أجوافكم. فحبسوهم تلك الليلة وعزموا على شق أجوافهم! فجعل الغواصون يفكرون طول الليلة، ففكر الرجل الخب في نفسه، وكان رجلا عاقلا فخلا بهم، وقال لهم: إني أخبركم بأني ما صحبتكم إلا لكذا وكذا، فلم أظفر بشيء مما أردت، وقد علمت بأنه ما من أحد منكم إلا وقد بلع شيئا غيري، ولئن شق جوف واحد فوجد فيه شيء لنهلكن بأجمعنا، وقد رأيت من الرأي أن أفديكم بنفسي فلعلكم تسلمون؛ وهو أن أقول لهم: إن كان ولا بد فشقوا جوف واحد، فإن وجدتم شيئا فرأيكم بالباقين، وإن لم تجدوا شيئا فاعلموا أنا صادقون، ولكن أمهلونا لنقترع بيننا، فمن خرجت قرعته فدونكم ما تريدون، فإن أجابوا إلى ذلك احتلت أنا حتى تخرج قرعتي، وإن تلفت نفسي وسلمتم فأسألكم أن تحسنوا إلى ذريتي وتواسوهم مما معكم إذا سلمتم إن شاء الله تعالى. ففعل به ذلك فلم يوجد في جوفه شيء وسلم القوم. فأنا أيها الملك أعلم أنه إن ظفر بنا عدونا فأنا هالك لا محالة، وأنا أرجو إن تمت حيلتي أن يسلم الملك وحاشتيه ورعيته ومن معهم ويهلك عدونا وإن تلف جسدي، ومع هذا أرى أن الرجل كان أسمح مني؛ لأنه كان رجلا شابا يرجو الحياة وأنا رجل شيخ قد سئمت الحياة، ومع هذا أعلم أن الملك إذا سلم يحسن إلى ذريتي أكثر مما كان يأمل ذلك الرجل منهم، ويكون من حسن الأحدوثة بعدي مثل ما لذلك الرجل، ومع هذا فإن الذين أفديهم بنفسي أكثر عددا من الذين فداهم هو. ثم إن الملك أمر فصنع به ما أشار لما قرب فيروز ملك الفرس منه، ورحل وترك مكانه، فلما رآه أصحاب فيروز على تلك الحال سألوه عن خبره ومن فعل به ما هو فيه؟ فزعم أنه كان أحد وزراء خيشوان ملك الهياطلة، وأنه لما استشاره في مقاتلة فيروز أشار عليه بالصلح وأداء الخراج فكره ذلك منه وفعل به ما ترون؛ فرفع خبره إلى فيروز وأحضر وسئل فأجاب بمثل ذلك فصدقه فيروز وقال: أصبت فيما أشرت عليه، فقال: أيها الملك فلتدركني رأفتك وتحملني معك لا يفترسني السباع؛ فإني أدلك على طريق هو أقرب من هذا الذي تسلكه وأخفى؛ فقبل نصيحته وقال: تزودوا ليومين. وسلك بهم مفازة بعيدة، فلما ساروا يومين فني الزاد فقالوا: كم بقي ؟ قال: قليل ، سيروا سيرا عنيفا، فساروا يومهم، فلما كان من الغد قالوا له: كم بقي؟ قال: لا أدري، إني سلكت هذا الطريق وأنا بصير، والآن ترون حالي، اطلبوا لأنفسكم النجاة. فتفرقوا في تلك البرية وهلك أكثرهم، ونجا فيروز مع نفر يسير من خاصته ورجع إلى بلاده، وصالحه خيشوان ورجع إلى بلاده سالما هو وحاشيته وصارت دية ذلك الشيخ من أعز من في المملكة وأغناهم، وبقي حسن الأحدوثة عن الشيخ في إخوانه وأصدقائه وأبناء جنسه. فهكذا رأى إخواننا الفضلاء الكرام في معاونة بعضهم بعضا لنصرة الدين وطلب المعاش؛ إذا علموا أن في تلف أجسادهم صلاحا لإخوانهم في أمر الدين والدنيا سمحت أنفسهم بتلف أجسادهم؛ لأنهم يؤملون مثل ما أمل ذلك الشيخ الحكيم وذلك الشاب الفاضل العاقل وزيادة عليهما؛ وذلك أنهم يرون ويعتقدون أن من يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله ونصرة الدين وصلاح الإخوان فإن نفسه - بعد مفارقة جسدها - تصعد إلى ملكوت السماء وتدخل في زمرة الملائكة وتحيا بروح القدس وتسبح في فضاء الأفلاك في فسحة السموات فرحة مسرورة منعمة ملتذة مكرمة مغتبطة، وذلك قول الله، عز وجل: @QUR07 إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه يعني به روح المؤمن.
وقال أيضا: @QUR020 ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله إلى آخر الآية.
وقد علم كل عالم أن تلك الأجساد قد بليت في التراب وتمزقت، وأن هذه الكرامة إنما هي لتلك النفوس التي سمحت بتلف أجسادها في نصرة الدين وصلاح الإخوان؛ وذلك أن رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لما هاجر من مكة إلى المدينة كتب إلى المؤمنين كتابا وأمرهم فيه بالهجرة إليه، فمنهم من بادر بالهجرة ومنهم من توقف يؤدي في ذلك الأسباب المانعة له إما شفقة على تضييع أولاد له صغار أو والد كبير أو أخ له أو صديق أو زوجة موافقة أو مسكن مألوف أو مال مجموع يخاف تضييعه أو تجارة يخشى كسادها، فأنزل الله تعالى هذه الآية على نبيه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: @QUR033 قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين.
فلما قرءوها بادروا بالهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي قوم ضعفاء لم يمكنهم الخروج لقلة الزاد وبعد الطريق فبقوا كالخاسرين، وجعل المشركون من أهل مكة يتعرضون لهم بالأذية شتما وحبسا وضربا وقتلا، فشكوا إلى الله عز وجل ودعوه أن يكشف ما بهم، وكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرونه بما يلقون من أذية المشركين، فأنزل الله تعالى هذه الآية وأذن لرسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، في قتال المشركين من أهل مكة؛ ليخلص المؤمنين من أيديهم فقال: @QUR031 وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا فخرج رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إلى غزو بدر لقتال المشركين من أهل مكة.
فلما التقى الجمعان وبادروا إلى البراز بادر الأنصار فنادى المشركون: ابعث إلينا أكفاءنا يا محمد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد وجبت عليكم يا بني هاشم نصرة نبيكم.» فقام حمزة عمه وعلي وأبو عبيدة وبارزوا، واشتبكت الحرب وكانت الدائرة على المشركين، وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو سبعين رجلا من المهاجرين، ولم يكن منهم رجل إلا وكان له في عسكر المشركين ابن أو أب أو أخ أو صديق أو قرابة أو عشيرة، فلم يجاوبوهم وحاربوهم بالسيف، ولم يشفقوا عليهم ولا على أنفسهم من التلف؛ لأنهم قد علموا أن في ذلك نصرة للدين وصلاحا لإخوانهم المؤمنين وطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورضوانا للرب، عز وجل.
وهكذا يوم أحد لما اشتد الأمر وانهزم الناس وبقي صلى الله عليه وسلم في نفر يسير معه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من ينصرني اليوم ويفديني بنفسه فله الجنة.»
فقام إليه ثلاثة نفر من الأنصار فقاموا في وجه كل واحد من رماة المشركين فحجزوا عنه بأجسادهم وجعلوها وقاية لسلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استشهدوا جميعا؛ لأنهم قد علموا أن في بقائه نصرة الدين وصلاحا لإخوانهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستفدهم مخافة من الموت ولا حرصا على الحياة في الدنيا، ولكن من أجل أن الدين بعد لم يتم والشريعة لم تكمل، فلما نزلت هذه الآية: @QUR07 اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي تمنى رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، الموت ونزلت: @QUR021 إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا فقال رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «نعيت إلي نفسي.» فقال: يا رسول الله، لو سألت الله أن يبقيك في أمتك إلى يوم القيامة ينتفعون بك! فقال: «إنا لله وإنا إليه راجعون.» أبى الله أن يجعل لأوليائه الخلود في الدنيا، ثم قال: «وا شوقاه إلى إخواني الأنبياء.» ثم ما مكث إلا قليلا حتى توفي ومضى إلى الله عز وجل وأكرم مثواه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعلى سائر الأنبياء.
(3) فصل في قرآن الأنبياء وأتباعهم وخلافائهم
واعلم أن الأنبياء وأتباعهم وخلفاءهم ومن يرى مثل رأيهم من الفلاسفة الحكماء يتهاونون بأمر الأجساد إذا تبعث الأنفس؛ لأنهم يرون أن هذه الأجساد حبس للنفوس أو حجاب لها أو صراط أو برزخ أو أعراف، وقد فسرنا هذه المعاني في رسائلنا، وإنما تشفق النفس على الجسد ما لم تنبعث، فإذا انبعثت هانت عليها مفارقة الجسد، ومما يدل على صحة ما قلنا إحراق البراهمة أجسادهم وهم حكماء الهند، وأما من يفعلون ذلك من جهالتهم وشطارتهم فليس كلامنا، وإنما نريد أن نذكر المستبصرين منهم الحكماء؛ وذلك أنهم يرون ويعتقدون أن هذه الأجساد لهذه النفوس الجزئية بمنزلة البيض للفرخ أو المشيمة للجنين، وأن الطبيعة حضنتها وهي تشفق عليها ما لم تستتم الخلقة أو تستكمل الصورة، فإذا تمت الخلقة وكملت الصورة تهاونت، ولا تبالي إن انشقت البيضة أو انخرقت المشيمة إذا سلم الفرخ أو الطفل.
فهكذا حال النفس مع الجسد، إنما تشفق على الجسد وتصونه وتحن عليه ما لم تعلم بأن لها وجودا خلوا من الجسد، وأن ذلك الوجود خير وأبقى وألذ وأحسن من هذا الوجود والبقاء الذي مع الجسد، فإذا استتمت الأنفس الجزئية وكملت صورتها ومعارفها، وانتبهت النفس من هذا النوم واستيقظت من هذه الغفلة وأحست بغربتها في هذا العالم الجسماني وأنها في أسر الطبيعة في بحر الهيولى، تائهة في قعر الأجسام، مبتلاة بخدمة الأجساد، مغرورة بزينة المحسوسات، وبان لها حقيقة ذاتها وعرفت فضيلة جوهرها، ونظرت إلى عالمها، وشاهدت تلك الصورة الروحانية المفارقة للهيولى، وأبصرت تلك الألوان والأصباغ والملاذ العقلية، وعاينت تلك الأنوار والبهجة والسرور والروح والريحان؛ هانت عليها مفارقة الجسد وسمحت بإتلافه في رضى الله عز وجل ونصرة الدين وصلاح الإخوان، ومما يدل على ذلك أن الأنبياء، صلوات الله عليهم، يرون ويعتقدون بقاء النفوس وصلاح حالها بعد تلف الأجساد؛ ما فعل موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام.
وذلك أن موسى عليه السلام، قال لأصحابه ولإخوانه: @QUR010 فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم؛ يعني هذه الأجساد بالسيف؛ لأن جوهر النفس لا يناله الحديد؛ وذلك أن القوم افتتنوا بعبادة العجل في غيبة موسى إلى الجبل، فلما رجع إليهم وبان لهم أنهم قد ضلوا ندموا وتابوا، ولما عرف موسى أن الذين تنزهوا عن عبادة العجل من الذين ثبتوا على سنته بعد مبعثه والذين عبدوا العجل الذين نشئوا على سنة الجاهلية قبل مبعثه، وعلم أنهم إن بقوا بعد موته لم يأمن أن يحدثوا في دينه وسنته وشريعته شيئا آخر، فرأى من الصواب أن ينفيهم من محلة بني إسرائيل، وأذن الله تعالى له في ذلك؛ لما فيه من الصلاح للجمهور والنفع للعام، ثم قال لهم موسى : إن أردتم أن يقبل الله تعالى توبتكم فردوا المظالم واكتبوا الوصايا والبسوا الأكفان واخرجوا إلى المصلى، وادعوا الله لعله أن يرحمكم أو يتوب عليكم أو يمضي فيكم حكمه. ففعلوا ذلك طوعا وكرها. فأما الطائع فهو الذي علم أن في تلف جسده صلاحا لنفسه وخيرة لها، وأما الكاره فهو الذي جهل ذلك وعميت عليه الأنباء.
ثم إن موسى أمر أولئك الذين تجنبوا عبادة العجل أن يأخذوا السيوف ويضربوا أعناق أولئك عبدة العجل ولا يرحموا منهم أحدا ولا تأخذهم في أحد منهم رأفة في دين الله، ففعل القوم ما أمروا وصبروا إذ علموا أن في ذلك حياة لنفوسهم، وما كان منهم من أحد إلا كان له في أولئك القتلى أخ أو ابن أو قرابة أو صديق، فلم يمنعهم ذلك عن قتلهم إذ علموا بأن في تلف أجسادهم صلاحا لنفوسهم ونصرة للدين وصلاحا لإخوانهم الباقين وطاعة لموسى ورضى للرب.
وكذلك رضيت نفوس تلك السحرة بتلف أجسادهم قتلا أو صلبا؛ إذ قال لهم فرعون: @QUR06 آمنتم له قبل أن آذن لكم، @QUR031 قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا * إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر فصلبهم كلهم ولم يهابوه، وسمحت نفوسهم بتلف أجسادهم لما علمت أن ذلك حياة لها وفوزا ونجاة ونصرة للدين وصلاح الإخوان وطاعة لموسى ورضا للرب.
ثم إن موسى بعد قتل عبدة العجل أراد أن يمر إلى الجبل لمناجاة ربه، فقال له هارون: احملني معك فإني لست آمن أن يحدث بنو إسرائيل بعدك حدثا آخر فتغضب علي مرة أخرى. فحمله معه، فلما كانا في بعض الطريق إذ هما برجلين يحفران قبرا فوقفا عليهما وقالا: لمن تحفران هذا القبر؟ قالا: لأشبه الناس بهذا الرجل، وأشارا إلى هارون، ثم قالا له: بحق إلهك إلا نزلت وأبصرت هل هو واسع؟ فنزع هارون ثيابه ودفعها إلى موسى ونزل ونام فيه وقبض ملك الموت روحه من ساعته وانضم القبر ، وانصرف موسى باكيا حزينا على مفارقته، ورجع إلى بني إسرائيل ومعه ثياب هارون فاتهموه، وقالوا: حسدته فقتلته! فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها، وبقي موسى بعد وفاة هارون قليلا حتى كتب لهم التوراة ووصاهم بما احتاجوا إليه، وسلم إلى يوشع وودعه وصعد إلى الجبل والناس يبكون حتى غاب عن أعينهم وسلم نفسه إلى ربه.
ثم توفي ومضيا إلى ربهما فأكرم مثواهما صلوات الله عليهما، وبقي بنو إسرائيل بعد وفاة موسى أربعين سنة تائهين عن الهدى حتى بعث فيهم يوشع بن نون، ولد نون ولد يوسف النبي عليه السلام، وهو أحد الرجلين اللذين أنعم الله عليهما حين قال موسى لبني إسرائيل: @QUR07 ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم.
(4) فصل في أن الأنبياء يعتقدون بقاء النفس وصلاحها بعد مفارقة الجسد
ومما يدل على أن الأنبياء عليهم السلام يرون ويعتقدون بقاء النفس وصلاحها بعد مفارقة الجسد، فعل المسيح عليه السلام، بناسوته ووصيته للحواريين بمثل ذلك؛ وذلك أن المسيح لما بعث في بني إسرائيل فرآهم منتحلين دين موسى مستمسكين بظاهر شريعته يقرءون التوراة وكتب الأنبياء غير قائمين بواجبها ولا عارفين حقائقها، فلا يعرفون أسرارها بل يستعملونها على العبادة ويجرونها على التقليد، ولا يعرفون الآخرة ولا يرغبون فيها، ولا يفهمون أمر المعاد ولا يدرون ما فيها غير الدنيا وغرورها وأمانيها، ولا يدرون مما يستعملون من أمر الشريعة وسنة الدين إلا طلب الدنيا. وليس غرض الأنبياء في دعوتهم الأمم ووضع الشرائع والسنن إصلاح الدنيا فحسب، بل غرضهم من ذلك كله نجاة النفوس الغريقة من بحر الهيولى، والعتق لها من أسر الطبيعة وإخراجها من ظلمات الأجسام إلى أنوار عالم الأرواح، والتنبيه لها من نوم الجهالة، والتيقظ لها من رقدة الغفلة، وتخليصها من ألم نيران الشهوات الجسمانية المحرقة للأفئدة والتبصير لها من الغرور باللذات الجرمانية المهولة، وشفاءها من الأمراض النفسانية ومن عذاب الحر والبرد والجوع والعطش، وألم الأمراض والأسقام وخوف الفقر والتلف والأحزان والأسف وأحداث الزمان وغيظ الأعداء، والغم على الأصدقاء، وحرقة الإشفاق على الأحياء والأقرباء ، ومعاداة الأضداد ومكايدة الأقران وحسد الجيران ووساوس الشيطان ونوائب الحدثان حالا بعد حال.
فلما رآهم المسيح على تلك الحالة لا فرق بينهم وبين من لا يقر بالمعاد ولا يعرف الدين والنبوة ولا الكتاب ولا السنة ولا المنهاج ولا الشريعة، ولا الزهد في الدنيا ولا الرغبة في الآخرة، غمه ذلك منهم ورق لهم وتحنن على أبناء جنسه، وتفكر في أمرهم كيف يداويهم من دائهم الذي استقر بهم، وعلم أنه إن وبخهم بالتعنيف والوعيد والزجر والتهديد لا ينفعهم ذلك؛ لأن هذه كلها موجودة في التوراة وما في أيديهم من كتب الأنبياء عليهم السلام، فرأى أن يظهر لهم بزي الطبيب المداوي، وجعل يطوف في محال بني إسرائيل يلقى واحدا يعظه ويذكره ويضرب له الأمثال وينبهه من الجهالة، ويزهده في الدنيا ويرغبه في الآخرة ونعيمها، حتى مر بقوم من القصارين خارج المدينة فوقف عليهم فقال لهم: أرأيتم هذه الثياب إذا غسلتموها ونظفتموها وبيضتموها هل تجوزون أن يلبسها أصحابها وأجسادهم ملوثة بالدم والبول والغائط ولون القاذورات؟ قالوا: لا، ومن فعل ذلك كان سفيها، قال: فعلتموها أنتم؟ قالوا: كيف؟ قال: لأنكم نظفتم أجسادكم وبيضتم ثيابكم ولبستموها ونفوسكم ملوثة بالجيف مملوءة قاذورات من الجهالة والعماء والبكم وسوء الأخلاق والحسد والبغضاء والمكر والغش والحرص والبخل والقبح وسوء الظن وطلب الشهوات الرديئة، وأنتم في ذل العبودية أشقياء لا راحة لكم إلا الموت والقبر، فقالوا: كيف نعمل؟ هل لنا بد من طلب المعاش؟ قال: فهل لكم أن ترغبوا في ملكوت السماء حيث لا موت ولا هرم ولا وجع ولا سقم ولا جوع ولا عطش ولا خوف ولا حزن ولا فقر ولا حاجة ولا تعب ولا عناء ولا غم ولا حسد بين أهلها، ولا بغض ولا تفاخر ولا خيلاء، بل إخوان على سرر متقابلين فرحين مسرورين في روح وريحان ونعمة ورضوان وبهجة ونزهة، يسيحون في فضاء الأفلاك وسعة السموات، ويشاهدون ملكوت رب العالمين ويرون الملائكة حول عرشه صافين يسبحون بحمد ربهم بنغمات وألحان لم يسمع بمثلها إنس ولا جان، وتكونون أنتم معهم خالدون لا تهرمون ولا تموتون ولا تجوعون ولا تعطشون ولا تمرضون ولا تخافون ولا تحزنون؟ وأكثر النصح فيهم وعمل كلامه في نفوسهم، وأراد الله عز وجل بهم خيرا فأسمعهم وهداهم وشرح صدورهم وفتح قلوبهم ونور أبصارهم؛ فشاهدوا ما وصف المسيح عليه السلام، مما يشاهده هو بعين البصيرة ونور اليقين وصدق الإيمان، فرغبوا فيها وزهدوا في الدنيا وغرورها وأمانيها، وخرجوا مما كانوا فيه من عبودية طلب شهوات الدنيا، ولبسوا المرقعات وساحوا مع المسيح حيث مر من البلاد.
وكان من سنة المسيح التنقل كل يوم من قرية إلى قرية من قرى فلسطين، ومن مدينة إلى مدينة من ديار بني إسرائيل، يداوي الناس ويعظهم ويذكرهم ويدعوهم إلى ملكوت السماء ويرغبهم فيها، ويزهدهم في الدنيا ويبين لهم غرورها وأمانيها، وهو مطلوب من ملك بني إسرائيل وغوغائهم، وبينا هو في محفل من الناس هجم عليه ليؤخذ فتجنب من بين الناس فلا يقدر عليه ولا يعرف له خبر حتى يسمع بخبره من قرية أخرى فيطلب هناك، وذلك دأبه ودأبهم ثلاثين شهرا، فلما أراد الله تعالى أن يتوفاه ويرفعه إليه اجتمع معه حواريوه في بيت المقدس في غرفة واحدة مع أصحابه وقال: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم، وأنا أوصيكم بوصية قبل مفارقة لاهوتي وآخذ عليكم عهدا وميثاقا، فمن قبل وصيتي وأوفى بعهدي كان معي غدا، ومن لم يقبل وصيتي فلست منه في شيء ولا هو مني في شيء، فقالوا له: ما هي؟ قال: اذهبوا إلى ملوك الأطراف وبلغوهم مني ما ألقيت إليكم وادعوهم إلى ما دعوتكم إليه، ولا تخافوهم ولا تهابوهم فإني إذا فارقت ناسوتي فإني واقف في الهواء عن يمنة عرش أبي وأبيكم، وأنا معكم حيثما ذهبتم ومؤيدكم بالنصر والتأييد بإذن أبي، اذهبوا إليهم وادعوهم بالرفق، وداووهم وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما لم تقتلوا أو تصلبوا أو تنفوا من الأرض، فقالوا: ما تصديق ما تأمرنا؟ قال: أنا أول من يفعل ذلك.
وخرج من الغد وظهر للناس وجعل يدعوهم ويعظهم حتى أخذ وحمل إلى ملك بني إسرائيل فأمر بصلبه فصلب ناسوته وسمرت يداه على خشبتي الصليب، وبقي مصلوبا من ضحوة النهار إلى العصر، وطلب الماء فسقي الخل وطعن بالحربة ثم دفن مكان الخشبة، ووكل بالقبر أربعون نفرا، وهذا كله بحضرة أصحابه وحواريه، فلما رأوا ذلك منه أيقنوا وعلموا أنه لم يأمرهم بشيء يخالفهم فيه، ثم اجتمعوا بعد ذلك بثلاثة أيام في الموضع الذي وعدهم أنه يتراءى لهم فيه، فرأوا تلك العلامة التي كانت بينه وبينهم، وفشا الخبر في بني إسرائيل أن المسيح لم يقتل فنبش القبر فلم يوجد الناسوت، فاختلف الأحزاب من بينهم وكثر القيل والقال، وقصته تطول. ثم إن أولئك الحواريين الذين قبلوا وصيته تفرقوا في البلاد وذهب كل واحد منهم حيث وجه: فواحد ذهب إلى بلاد المغرب، وآخر إلى بلاد الحبشة، واثنان إلى بلاد رومية، واثنان إلى ملك أنطاكية، وواحد إلى بلاد الفرس، وواحد إلى بلاد الهند، واثنان قاما في دير بني إسرائيل يدعون إلى رأي المسيح، حتى قتل أكثرهم وظهرت دعوة المسيح في شرق الأرض وغربها بأفعال الحواريين بعدهم، فتهاونهم بأمر أجسادهم يدل على أنهم كانوا يرون ويعتقدون بقاء النفس وصلاح حالها بعد تلف الأجساد، ومن ذلك أفعال الرهبان، والذين هم خيار أصحابه وأتباعه: إن أحدهم يحبس جسده في صومعته سنين كثيرة، ويمتنع عن الطعام والشراب واللذات واللباس الناعم وملاذ الدنيا وشهواتها، كل ذلك لشدة يقينهم ببقاء النفس وصلاح حالها بعد تلف الأجساد.
(5) فصل في رأي إبراهيم خليل الرحمن في بقاء النفس
ومما يدل على أن إبراهيم خليل الرحمن كان يرى هذا الرأي قوله: ربي الذي خلقني فهو يهديني، والذي هو يطعمني ويسقيني، وإذا مرضت فهو يشفيني، والذي يميتني ثم يحييني، والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين، رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين.
وهكذا قول يوسف الصديق: @QUR021 رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين.
أترى أنهما أرادا اللحوق بالصالحين بجسديهما أو نفسيهما؟ وهل ألحق جسداهما إلا بتراب الأرض التي منها خلقا، وإنما أرادا نفسيهما الزكيتين الشريفتين الروحانيتين والسماويتين النورانيتين لا جسديهما المؤلفين من اللحم والدم والعظم والعروق والعصب وما شاكلها من الأخلاط الأربعة.
(6) فصل ومما يدل على أن أهل بيت نبينا عليهم السلام ...
ومما يدل على أن أهل بيت نبينا عليهم السلام كانوا يرون هذا الرأي تسليمهم أجسادهم إلى القتل يوم كربلا، ولم يرضوا أن يتولوا على حكم يزيد وزياد، وصبروا على العطش والطعن والضرب حتى فارقت نفوسهم أجسادهم ورفعت إلى ملكوت السماء، ولقوا آباءهم الطاهرين محمدا وعليا والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم في ساعة العسرة الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، ولو لم يكن القوم مستيقنين ببقاء نفوسهم بعد مفارقة أجسادهم لما تعجلوا إهلاك أجسادهم وتسليمها إلى القتل والضرب والطعن وفراق لذيذ عيش الدنيا، ولكن القوم قد علموا وتيقنوا ما دعوا إليه من الحياة في الآخرة والنعيم والخلود فيها والفوز والنجاة من غرور الدنيا وبلائها، فبادر القوم إلى ما تصوروا وتحققوا وتسارعوا في الخيرات، وكانوا يدعون ربهم رغبا ورهبا وكانوا من خشيته مشفقين.
فهل لك يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن تقتدي بهم وبسنتهم وتسلك مسلكهم وتقصد مقصدهم وتبادر قبل الفوات في فكاك نفسك من أسر الطبيعة وتنجيها من بحر الهيولى، وتخرجها من قعر الأجسام وظلمة الأجساد ونيران الشهوات المحرقة والغرور باللذات الجرمانية في جوار الشيطان، وتعمل كما يعمل الناس النجباء بأن تصحب إخوانا لك نصحاء وأصدقاء كرماء محبين لك وادين مواظبين على نجاتك ونجاة نفوسهم، وأن ترغب في صحبتهم وتسمع أقاويلهم وتفهم كلامهم بحضورك في مجالسهم، وتنظر في كتبهم؛ لتعرف اعتقادهم وتتخلق بأخلاقهم وتتعلم علومهم وتسير بسيرتهم العادلة، وتعمل بسنتهم الزكية وتتفقه في شريعتهم العقلية لتحيا كحياتهم الملكية وتعيش عيش السعداء مخلدا أبدا، وتتجنب صحبة إخوان الشياطين الذين لا يريدونك إلا لصلاح أمور دنياهم وحياة أجسادهم ودفع المضرة عنها وهم يهلكون نفوسهم وهم لا يشعرون.
(7) فصل ومما يدل على أن الفلاسفة الحكماء ...
ومما يدل على أن الفلاسفة الحكماء المتألهين كانوا يرون هذا الرأي ويعتقدون تسليم سقراط جسده للتلف وتناوله شربة السم اختيارا منه.
وذلك أن هذا الرجل كان حكيما من حكماء بلاد اليونان وفلاسفتها، وكان قد أظهر الزهد في الدنيا ونعيمها ولذاتها، ورغب في سرور عالم الأرواح وروحها وريحانها، ودعا الناس إليها ورغبهم فيها وزهدهم في المقام في عالم الكون والفساد؛ فأجابه إلى ذلك جماعة من أولاد الملوك وكبار الناس، واجتمع حوله الأحداث وأولاد النعم يسمعون حكمته وغرائب نوادر كلامه، فحسده جماعة من مخالفيه ومن يريد الدنيا وزينتها واتهموه بمحبة الصبيان، وقالوا: إنه يتهاون بعبادة الأصنام ويأمرهم به، وسعوا به إلى الملك وشهد عليه بالزور أحد عشر رجلا بأنه واجب قتله، فحبس أشهرا يرون في قتله.
فاجتمع عنده في الحبس نحو من سبعين فيلسوفا مخالفا وموافقا يناظرون في رأيه وما يعتقدونه في أمر النفس وبقائها بعد مفارقة الجسد وصلاح حالها، فحاجهم كلهم وصحح رأيه في بقاء النفس وصلاح حالها بعد فراق الجسد - ولهذا قصة يطول شرحها في كتاب - فمما قيل له: إن كنت مظلوما فهل لك أن تخلص من القتل بفدية من مال أو بهرب؟
فقال: أخاف أن يقول لي الناموس غدا: لم فررت من حكمي يا سقراط؟!
فقالوا له: تقول: لأني كنت مظلوما. فقال: أرأيتم إن قال لي الناموس: أرأيت أن ظلمك بالقضاة والعدول الأحد عشر الذين شهدوا عليك بالزور فكان من الواجب أن تظلمني أنت وتفر من حكمي! فما أقول؟ فحاجهم بهذا.
وذلك أن القوم كان في حكم شريعتهم إذا شهد العدول على واحد من الناس بحكم ما، كان واجبا عليه أن ينقاد وإن كان مظلوما فمن لم ينقد كان ظالما لحكم الناموس؛ يعني الشريعة.
وانقاد سقراط للقتل من أجل هذا، ثم قال: من تهاون بالناموس قتله الناموس! ولما تناول شربة السم ليشربها بكى من حوله من الحكماء والفلاسفة حزنا عليه، فقال لهم: لا تبكوا؛ فإني وإن كنت مفارقا لكم إخوانا حكماء فضلاء؛ فإني أذهب إلى إخوان لنا حكماء فضلاء كرماء، وقد تقدمنا فلان وفلان - وعد جماعة من الفلاسفة الحكماء الذين كانوا قد ماتوا قبله - فقالوا: إنما نبكي على أنفسنا حين نفقد أبا حكيما مثلك.
(8) فصل ومما يدل على أن أفلاطون حكيم اليونان ...
ومما يدل على أن أفلاطون حكيم اليونانيين كان يرى هذا الرأي ويعتقده - يعني بقاء النفوس وصلاح حالها بعد مفارقة الجسد - قوله في بعض حكمته: لو لم يكن لنا معاد نرجو فيه الخير لكانت الدنيا فرصة الأشرار.
وقال أيضا: نحن ها هنا غرباء في أسر الطبيعة وجوار الشياطين، أخرجنا من عالمنا بجناية كانت من أبينا آدم وكلام نحو هذا.
ومما يدل على أن أرسطاطاليس صاحب المنطق يرى هذا الرأي ويعتقده كلامه في الرسالة المعروفة بالتفاحة وما تكلم به حين حضرته الوفاة، وما احتج به من فضل الفلسفة؛ لأن الفيلسوف يجازى بفلسفته بعد مفارقة النفس الجسد.
ومما يدل على أن فيثاغورث صاحب العدد - وهو من الفضلاء الحكماء - كان يرى هذا الرأي ويعتقده كلامه في الرسالة الذهبية ووصيته لديوجانس وقوله في آخرها: فإنك عند ذلك إذا فارقت هذا البدن حتى تصير بخلي في الجو تكون حينئذ سائحا سالما ساكنا غير عائد إلى الإنسية ولا قابلا للموت.
(9) فصل وإنما استشهدنا على هذا الرأي بأقاويل الفلاسفة ...
وإنما استشهدنا على هذا الرأي بأقاويل الفلاسفة ووصاياهم وأفعال الأنبياء وسنن شرائعهم؛ لأن في الناموس أقواما متفلسفين لا يعرفون من الفلسفة إلا اسمها، وأقواما من الشرعيين لا يعرفون من أسرار الشريعة إلا رسومها يتصدرون ويتكلمون فيها بما لا يحسنون، ويتناظرون فيما لا يدرون فيناقضون تارة الفلسفة بالشريعة، وتارة الشريعة بالفلسفة، فيقعون في الحيرة والشكوك فيضلون ويضلون.
ومما يدل على بقاء النفوس بعد مفارقتها أجسادها أن كل عاقل يتفكر في بكاء الناس وأحزانهم على موتاهم وقت مفارقة نفوسهم أجسادها، فلو كان بكاؤهم على أجسامهم فما لهم والبكاء والأجساد بحضرتهم برمتها وهم يشاهدونها لم ينقص منها شيء، ولو أرادوا أن يحفظوها بأدوية تطلى عليها لا تتغير زمانا طويلا كان يمكنهم ذلك، بل يستوحشون منها ويدفنونها كراهة لمنظرها وعارا من فضيحتها إذا فارقتها نفوسها، وإن كان بكاؤهم إنما هو حزن على فقدان ما كان يظهر من تلك الأجساد من الحركات والأفعال والحكم والفضائل، فما لهم لا يبكون على فقدانها في وقت منامهم فإنها كلها تعدم إلا النبض والتنفس.
ألا ترى يا أخي أن هذه الألفة والأنس والمحبة والتودد إنما هي لتلك النفوس الشريفة والجواهر النفيسة، فإن هذا البكاء والأحزان والتأسف والاستيحاش على فقدان تلك النفوس التي كانت تظهر من أجسادها تلك الحركات والكلام والأفعال والفضائل والصنائع والحكم.
ومما يدل على بقاء النفس وصلاح حالها بعد مفارقتها أجسادها ذهاب الناس إلى قبور الصالحين والأولياء والأخيار لطلب الغفران واستجابة الدعاء والتوسل بهم إلى الله عز وجل، وما يرجون من شفاعتهم عند ربهم وما يطلبون أيضا من قضاء حوائجهم من أمور الدنيا بالدعاء عند قبورهم، أفترى أن أهل الديانات كلها اتفقوا على شيء لا حقيقة له؟ كلا، بل هذا علم غامض وأسرار خفية لا يعقلها إلا العالمون، كما ذكرهم الله عز وجل ومدحهم بما علموا مما خفي على غيرهم حيث يقول: @QUR033 ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون * وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون.
(10) فصل في كيف يكون تواصل إخوان الصفا
ينبغي أن نبين كيف يكون تواصل إخوان الصفاء؟ وكيف تكون معاونة بعضهم بعضا في طلب معيشة الدنيا؟ وماذا كيف يكون حال من سبقته المنية قبل صاحبه؟ وكيف يكون عيش الباقي منهم بعد صاحبه؟ ذكر أن مدينة كانت على رأس جبل في جزيرة من جزائر البحر مخصبة كثيرة النعم رخية البال طيبة الهواء عذبة المياه حسنة التربة كثيرة الأشجار لذيذة الثمار كثيرة أجناس الحيوانات - على حسب ما تقتضيه تربة تلك الجزيرة وأهويتها ومياهها - وكان أهلها إخوة وبني عم بعضهم لبعض من نسل رجل واحد، وكان عيشهم أهنأ عيش يكون بتودد ما كان بينهم من المحبة والرحمة والشفقة والرفق بلا تنغيص من الحسد والبغي والعداوة وأنواع الشر، كما يكون بين أهل المدن الجائرة المتضادة الطباع المتنافرة القوى المشتتة الآراء القبيحة الأعمال السيئة الأخلاق. ثم إن طائفة من أهل تلك المدينة الفاضلة ركبوا البحر فكسر بهم المركب ورمى بهم الموج إلى جزيرة أخرى فيها جبل وعر، فيه أشجار عالية وعليها ثمار نذرة، فيها عيون غائرة ومياهها كدرة، وفيها مغارات مظلمة وفيها سباع ضارية، وإذا عامة أهل تلك الجزيرة قردة، وكان في بعض جزائر البحر طير عظيم الخلقة شديد القوة قد سلط عليها في كل يوم وليلة يكر عليهم ويختطف من تلك القردة عدة، ثم إن هؤلاء النفر الذين نجوا من الغرق تفرقوا في الجزيرة وفي أودية ذلك الجبل يطلبون ما يتقوتون من ثمارها؛ لما لحقهم من الجوع، ويشربون من تلك العيون ويستترون بأوراق تلك الأشجار ويأوون بالليل إلى تلك المغارات، ويعتصمون بها من الحر والبرد، فأنست بهم تلك القرود وأنسوا بها؛ إذ كانت أقرب أجناس السباع شبها لصورة الناس فولعت بهم إناث القردة وولع بها من كان به شبق، فحبلت منهم وتوالدت وتناسلوا وكثروا وتمادى بهم الزمان فاستوطنوا تلك الجزيرة واعتصموا بذلك الجبل، وألفوا تلك الحال ونسوا بلدهم ونعيمهم وأهاليهم الذين كانوا معهم بديا، ثم جعلوا يبنون من حجارة ذلك الجبل بنيانا ويتخذون منها منازل ويحرصون في جمع تلك الثمار ويدخرها من كان منهم شرها، وصاروا يتنافسون على إناث تلك القرود ويغبطون من كان منهم أكثر حظا من تلك الحالات، وتمنوا الخلود هنا، وانتشبت بينهم العداوة والبغضاء وتوقدت نيران الحرب، ثم إن رجلا منهم رأى فيما يرى النائم كأنه قد رجع إلى بلده الذي خرج منه، وأن أهل تلك المدينة لما سمعوا بمجيئه استبشروا، واستقبله خارج تلك المدينة أقرباؤه فرأوه قد غيره السفر والغربة، فكرهوا أن يدخل المدينة على تلك الحال، وكان على باب المدينة عين من الماء فغسلوه وحلقوا شعره وقصوا أظافيره وألبسوه الجدد وبخروه وزينوه وحملوه على دابة وأدخلوه المدينة، فلما رآه أهل تلك المدينة استبشروا به وجعلوا يسألونه عن أصحابه وسفرهم وما فعل الدهر بهم، وأجلسوه في صدر المجلس في المدينة، واجتمعوا حواليه يتعجبون منه ومن رجوعه بعد اليأس منه، وهو فرحان بهم وبما نجاه الله عز وجل من تلك الغربة وذلك الغرق، ومن صحبته تلك القرود وتلك العيشة النكدة، وهو يظن أن ذلك كله يراه في اليقظة، فلما انتبه إذا هو في ذلك المكان بين أولئك القرود، فأصبح حزينا منكسر البال زاهدا في ذلك المكان مغتما متفكرا راغبا في الرجوع إلى بلده، فقص رؤياه على أخ له فتذكر ذلك الأخ ما أنساه الدهر من حال بلدهما وأقاربهما وأهاليهما والنعيم الذي كانوا فيه، فتشاوروا فيما بينهم وأجالوا الرأي وقالوا: كيف السبيل إلى الرجوع؟ وكيف النجاة من هنا؟ فوقع في فكرهما وجه الحيلة بأنهما يتعاونان ويجمعان من خشب تلك الجزيرة ويبنيان مركبا في البحر ويرجعان إلى بلدهما، فتعاقدا على ذلك بينهما عهدا وميثاقا ألا يتخاذلا ولا يتكاسلا، بل يجتهدا اجتهاد رجل واحد فيما عزما عليه، ثم فكرا أنه لو كان رجل آخر معهما لكان أعون لهما على ذلك، وكلما زاد عددهما يكون أبلغ في الوصول إلى مطلبهم ومقصدهم فجعلوا يذكرون إخوانهم أمر بلدهم، ويرغبونهم في الرجوع ويزهدونهم في السكون هناك، حتى التأم جماعة من أولئك القوم على أن يبنوا سفينة يركبوا فيها ويرجعوا إلى بلدهم، فبينا هم في ذلك دائبون في قطع الأشجار ونشر الخشب لبناء تلك السفينة؛ إذ جاء ذلك الطير الذي كان يختطف القرود فاختطف منهم رجلا وطار به في الهواء ليأكله، فلما أمعن في طيرانه تأمله فإذا هو ليس من القرود التي اعتاد أكلها، فمر به طائرا حتى مر به على رأس مدينته التي خرج منها فألقاه على سطح بيته وخلاه، فلما تأمل ذلك الرجل إذا هو في بلده ومنزله وأهله وأقربائه، فجعل يتمنى لو أن ذلك الطير يمر في كل يوم ويختطف منهم واحدا ويلقيه إلى بلده كما فعل به، وأما أولئك القوم بعدما اختطفه الطير من بينهم جعلوا يبكون عليه محزونين على فراقه؛ لأنهم لا يدرون ما فعل الطير به، ولو أنهم علموا بحاله وما صار إليه لتمنوا ما تمنى لهم أخوهم.
فهكذا ينبغي أن يكون اعتقاد إخوان الصفاء فيمن قد سبقته المنية قبل صاحبه؛ لأن الدنيا تشبه تلك الجزيرة وأهلها يشبهون تلك القردة، ومثل الموت كمثل ذلك الطير، ومثل أولياء الله كمثل القوم الذين كسر بهم المركب، ومثل دار الآخرة كمثل تلك المدينة التي خرجوا منها؛ فهذا اعتقاد إخواننا الكرام في معاونتهم في الدنيا وما يعتقدون فيمن سبقته المنية قبل إخوانه.
فانتبه أيها الأخ من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، فإن الدنيا دار غرور ومحن، ولا يرغب العاقل الخلود في دار الحزن والبلاء، وفقك الله وإيانا وجميع إخواننا إلى السداد، وهداك وإيانا وجميع إخواننا سبيل الرشاد.
(تمت رسالة في بيان اعتقاد إخوان الصفاء ومذهب الربانيين، ويليها رسالة في كيفية عشرة إخوان الصفاء وتعاون بعضهم مع بعض.)
الرسالة الرابعة من العلوم الناموسية والشرعية في كيفية معاشرة إخوان الصفاء وتعاون بعضهم مع بعض وصدق الشفقة والمودة في الدين والدنيا جميعا
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
اعلم أيها الأخ، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه ينبغي لإخواننا، أيدهم الله حيث كانوا من البلاد، أن يكون لهم مجلس خاص يجتمعون فيه في أوقات معلومة لا يداخلهم فيه غيرهم، يتذاكرون فيه علومهم ويتحاورون فيه أسرارهم. وينبغي أن تكون مذاكرتهم أكثرها في علم النفس والحس والمحسوس والعقل والمعقول، والنظر والبحث عن أسرار الكتب الإلهية والتنزيلات النبوية ومعاني ما تضمنها موضوعات الشريعة، وينبغي أيضا أن يتذاكروا العلوم الرياضيات الأربعة؛ أعني العدد والهندسة والتنجيم والتأليف، وأما أكثر عنايتهم وقصدهم فينبغي أن يكون البحث عن العلوم الإلهية التي هي الغرض الأقصى.
وبالجملة ينبغي لإخواننا، أيدهم الله تعالى، ألا يعادوا علما من العلوم أو يهجروا كتابا من الكتب، ولا يتعصبوا على مذهب من المذاهب؛ لأن رأينا ومذهبنا يستغرق المذاهب كلها ويجمع العلوم جميعها؛ وذلك أنه هو النظر في جميع الموجودات بأسرها، الحسية والعقلية؛ من أولها إلى آخرها، ظاهرها وباطنها، جليها وخفيها، بعين الحقيقة من حيث هي كلها من مبدأ واحد وعلة واحدة وعالم واحد ونفس واحدة محيطة جواهرها المختلفة وأجناسها المتباينة وأنواعها المفننة وجزئياتها المتغايرة.
وقد ذكرنا في الرسالة الثانية أن علومنا مأخوذة من أربع كتب: أحدها الكتب المصنفة على ألسنة الحكماء والفلاسفة من الرياضيات والطبيعيات، والآخر الكتب المنزلة التي جاءت بها الأنبياء، صلوات الله عليهم، مثل التوراة والإنجيل والفرقان وغيرها من صحف الأنبياء المأخوذة معانيها بالوحي من الملائكة وما فيها من الأسرار الخفية، والثالث الكتب الطبيعية وهي صور أشكال الموجودات بما هي عليه الآن من تركيب الأفلاك وأقسام البروج وحركات الكواكب ومقادير أجرامها وتصاريف الزمان واستحالة الأركان وفنون الكائنات من المعادن والحيوان والنبات وأصناف المصنوعات على أيدي البشر، كل هذه صور وكنايات دالات على معاني لطيفة وأسرار دقيقة يرى الناس ظاهرها ولا يعرفون معاني بواطنها من لطيف صفة الباري، جل ثناؤه.
والنوع الرابع: الكتب الإلهية التي لا يمسها إلا المطهرون: الملائكة التي هي بأيدي سفرة كرام بررة، وهي جواهر النفوس وأجناسها وأنواعها وجزئياتها وتصاريفها للأجسام وتحريكها لها وتدبيرها إياها وتحكمها عليها، وإظهار أفعالها بها ومنها حالا بعد حال، في ممر الزمان وأوقات القرانات والأدوار، وانحطاط بعضها تارة إلى قعر الأجسام، وارتفاع بعضها تارة من ظلمات الجثمان، وانبعاثها من نوم الغفلة والنسيان، وحشرها إلى الحساب والميزان، وجوازها على الصراط ووصولها إلى الجنان، أو حبسها في دركات الهاوية والنيران، أو مكثها في البرزخ أو وقوفها على الأعراف، كما ذكر الله تعالى في قوله: @QUR06 ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون وفي قوله تبارك وتعالى: @QUR06 وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم وهم الرجال الذين في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله. وهذا حال إخواننا الفضلاء الكرام، فاقتدوا بهم أيها الإخوان تكونوا مثلهم. وقد بينا في رسائلنا كل ما يحتاج إليه إخواننا من أهل هذه العلوم.
(1) فصل في ماذا ينبغي لإخواننا أيدهم الله إذا أراد أحدهم أن يتخذ صديقا
وينبغي لإخواننا، أيدهم الله، حيث كانوا في البلاد إذا أراد أحدهم أن يتخذ صديقا مجددا أو أخا مستأنفا أن يعتبر أحواله ويتعرف أخباره ويجرب أخلاقه ويسأله عن مذهبه واعتقاده؛ ليعلم هل يصلح للصداقة وصفاء المودة وحقيقة الأخوة أم لا؟ لأن في الناس أقواما طبائعهم متغايرة خارجة عن الاعتدال وعاداتهم رديئة مفسدة ومذاهبهم مختلفة جائرة، فمنهم خير وشرير، وكفور وشكور، وذو أمانة وغدار، وحليم وسفيه، وسخي وبخيل، وشجاع وجبان، وحسود وودود، وفاجر وعفيف، وجزوع وصبور، وشره وقنوع، وسلس وشرس، وفظ غليظ ولطيف رقيق، وعاقل وأحمق، وعالم وجاهل، ومحب ومبغض، وموافق ومخالف، ومنافق ومخلص، وناصح وغاش، ومتكبر ومتواضع، وعدو وصديق، ومؤمن وزنديق، وعارف ومنكر، ومقبل ومدبر، وما شاكل هذه الأخلاق المحمودة والمذمومة مضادات بعضها لبعض.
واعلم أن شر هذه الطوائف كلها من لا يؤمن بيوم الحساب، وشر الأخلاق: كبر إبليس، وحرص آدم، وحسد قابيل، وهي أمهات المعاصي.
واعلم أن الناس مطبوعون على أخلاقهم بحسب اختلاف تركيب مزاج أجسادهم وبحسب اختلاف أشكال الفلك في أصل مواليدهم. وقد بينا في رسالة الأخلاق هذا بشرحه.
واعلم أن من الناس من هو مطبوع على خلق واحد أو عدة من أخلاق محمودة ومذمومة، وأن العادات الرديئة تقوي الأخلاق الرديئة، والعادات الجميلة تقوي الأخلاق المحمودة، وهكذا حكم الآراء والاعتقادات، فإن من الناس من يرى ويعتقد في دينه ومذهبه أنه حلال له سفك دم كل مخالف له في مذهبه مثل اليهود والخوارج وكل من يكفر بالرب.
ومن الناس من يرى ويعتقد في دينه ومذهبه الرحمة والشفقة للناس كلهم ويرثي للمذنبين ويستغفر لهم، ويتحنن على كل ذي روح من الحيوان ويريد الصلاح للكل، وهذا مذهب الأبرار والزهاد والصالحين من المؤمنين، وهكذا مذاهب إخواننا الكرام.
(2) فصل في كيف يجب أن يكون الصديق
فينبغي لك إذا أردت أن تتخذ صديقا أو أخا أن تنتقده كما تنتقد الدراهم والدنانير، والأرضين الطيبة التربة للزرع والغرس، وكما ينتقد أبناء الدنيا أمر التزويج وشرى المماليك والأمتعة التي يشترونها.
واعلم أن الخطب في اتخاذ الإخوان أجل وأعظم خطرا من هذه كلها؛ لأن إخوان الصدق هم الأعوان على أمور الدين والدنيا جميعا ، وهم أعز من الكبريت الأحمر، وإذا وجدت منهم واحدا فتمسك به فإنه قرة العين ونعيم الدنيا وسعادة الآخرة؛ لأن إخوان الصدق نصرة على دفع الأعداء وزين عند الأخلاء وأركان يعتمد عليهم عند الشدائد والبلوى، وظهر يستند إليهم عند المكاره في السراء والضراء، وكنز مذخور ليوم الحاجة وجناح خافض عند المهمات، وسلم للصعود إلى المعالي، ووسيلة إلى القلوب عند طلب الشفاعات، وحصن حصين يلتجأ إليه يوم الروع والفزعات، فإن غبت حفظوك، وإن تضعضعت عضدوك، وإن رأوا عدوا لك قمعوه، والواحد منهم كالشجرة المباركة تدلت أغصانها إليك بثمرها وأظلتك أوراقها بطيب رائحتها وسترتك بجميل فيئها، فإن ذكرت أعانك وإن نسيت ذكرك، يأمرك بالبر ويسابقك إليه، ويرغبك في الخير ويبادرك إليه، ويدلك عليه ويبذل ماله ونفسه دونك.
فإذا أسعدك الله يا أخي بمن هذه صفته فابذل له نفسك ومالك، وق عرضه بعرضك، وافرش له جناحك، وأودعه سرك، وشاوره في أمرك، وداو برؤيته عينك، واجعل أنسك إذا غاب عنك ذكره والفكر في أمره، وإن هفا هفوة فاغفر له، وإن زل زلة فصغرها عنده ولا توحشه فيخاف من حقدك، واذكر من سالف إحسانه عند إساءته ليأنس بك ويأمن غائلتك؛ فإن ذلك أسلم لوده وأدوم لإخائه.
(3) فصل في أن من الناس من لا يصلح للصداقة
واعلم يا أخي أن من الناس من لا يصلح للصداقة والأخوة والمقاربة أصلا البتة، فانظر من تصحب وتعاشر، ولا تغتر بظاهر الأمور من غير معرفة بواطنها، ولا بحلاوة العاجل من قبل النظر في مرارة عاقبتها، فإذا أردت اتخاذ أخ أو صديق فاعتبر أولا أحواله واختبر أخلاقه وسله عن مذهبه واعتقاده، وانظر في عاداته وسجيته وشمائله وحركاته، فإنه لا يخفى على المتفرس بواطن الأمور إذا نظر إلى ظواهرها.
واعلم بأن من الناس من يتشكل بشكل الصديق ويدلس عليك بشبه الموافق ويظهر لك المحبة وخلافها في صدره وضميره؛ فلا تغتر أو تتيقن.
واعلم أن أعمال الناس في ظاهر أمورهم تكون بحسب أخلاقهم التي طبعوا عليها وبحسب عاداتهم التي نشئوا عليها، أو بحسب آرائهم التي اعتقدوها ، فإذا رأيت الرجل معجبا صلفا، أو نكدا لجوجا، أو فظا غليظا، أو مماحكا مماريا، أو حسودا حقودا، أو منافقا مرائيا، أو بخيلا شحيحا، أو جبانا مهينا، أو مكارا غدرا، أو متكبرا جبارا، أو حريصا شرها، أو كان محبا للمدح والثناء أكثر مما يستحق، أو كان مزريا لنظرائه أو كان مستحقرا لأقرانه والناس ذاما لهم، أو متكلا على حوله وقوته؛ فاعلم أنه لا يصلح للصداقة وصفوة الأخوة؛ لأن هذه الأخلاق والآراء والعادات مفسدة لاعتقاده لإخوانه؛ وذلك أن من يختر المطالبة بما لا يجب له لا تسمح نفسه ببذل ما يجب عليه، وهكذا الحسود واللجوج والغضوب تمنعه هذه الأخلاق عن الإذعان للحق، وهكذا اللجاج والتكبر يمنعان عن قطع الجدال والخلاف، وكذلك الفظاظة والغلظة يمنعان من العذوبة والسهولة، والشراسة والغضب يهيجان على المكابرة.
وبالجملة كل هذه الأخلاق مفسدة للمودة ومخالفة لصفوة الأخوة مستثقلة للنفوس وموحشة للأنس والراحة ومنفرة لإلف الطباع ومنغصة للعيش ومبغضة للحياة.
واعلم أن الصداقة لا تتم بين مختلفين بالطبع؛ لأن الضدين لا يجتمعان، مثال ذلك السخي والبخيل فإنهما متضادان في الطبع فلا تتم بينهما الصداقة ولا تصفو لهما المودة ولا يهنيهما العيش؛ لأنه إذا فعل السخي شيئا مما يوجبه سخاؤه من بذل المال أو المعروف رآه البخيل بصورة المضيع قد فعل ما لا ينبغي ولا يجوز، وإذا فعل البخيل بطبعه شيئا من إمساك المال مما يوجبه بخله رآه السخي بصورة من قد أتى منكرا لا يحسن فعله، فيصير ذلك سببا لعيب كل واحد منهما على صاحبه حتى يعتقد البخيل في السخي سخف الرأي وتضييع المال وترك النظر في العواقب، ويعتقد السخي في البخيل النذالة والدناءة وصغر النفس وقصور الهمة، فإذا وقع بينهما ودام صارت وحشة وتواترت حتى تصير عداوة وتصير العداوة إلى الصرامة.
وهذا القياس في كل خلقين مختلفين متضادين فإنهما يوجبان المنازعة، والمنازعة توجب المغالبة، والمغالبة تنتج المغايظة، والمغايظة توجب المباغضة، والمباغضة ضد الصداقة.
(4) فصل في أن مثل اتخاذ الأصدقاء والإخوان كمثل اكتساب المال والذخائر
واعلم أن مثل اتخاذ الأصدقاء والإخوان كمثل اكتساب المال والذخائر؛ وذلك أن من الناس من يفني عمره في طلب صديق موافق فلا يجد، فمثله كمثل الذي يفني عمره في طلب جمع المال فلا يقدر عليه، ومنهم من يكون مرزوقا من كثرة المال، ومنهم من يحسن أن يكسب المال ولكن لا يحسن أن يحفظه، فهكذا حكم اتخاذ الإخوان والأصدقاء، ومنهم من لا يحسن حفظهم ومراعاة أمورهم فيصيرون إلى العداوة بعد الصداقة، وإلى المباغضة بعد المودة.
فينبغي لك أن يكون أكثر كدك وعنايتك - بعد اتخاذ الصديق - حفظه ومراعاة أمره وأداء حقوقه حتى لا تصير الصداقة عداوة بعد طول الصحبة بملالة أو ضجر أو شكوك أو ظنون أو شبهة تدخل في المودة أو نميمة ووشاية من مخالف له يسعى بينكما للفساد؛ فتفقد يا أخي هذا الباب ولا تغفل عنه.
واعلم يا أخي أن الإنسان كثير التلون قليل الثبات على حال واحد؛ وذلك أنه قل من الناس من تحدث له حال من أحوال الدنيا، أو أمر من أمورها من غنى إلى فقر، أو من فقر إلى غنى، أو من حضر إلى سفر، أو من عذوبة إلى تزويج، أو من ذل إلى عز، أو من عطلة إلى شغل، أو من بؤس إلى نعمة، أو من رفعة إلى ضعة، أو من ضعة إلى رفعة، أو من صناعة إلى تجارة، أو من صحبة قوم إلى صحبة آخرين، أو من رأي مذهب إلى مذهب، أو من شباب إلى شيخوخة، أو من صحة إلى مرض؛ إلا ويحدث له خلق جديد وسجية أخرى، ويتغير خلقه مع إخوانه، ويتلون مع أصدقائه، إلا إخوان الصفا الذين ليست صداقتهم خارجة من ذاتهم؛ وذلك أن كل صداقة تكون لسبب ما، فإذا انقطع ذلك السبب بطلت تلك الصداقة إلا صداقة إخوان الصفاء، فإن صداقتهم قرابة رحم، ورحمهم أن يعيش بعضهم لبعض ويرث بعضهم بعضا؛ وذلك أنهم يرون ويعتقدون أنهم نفس واحدة في أجساد متفرقة، فكيف ما تغيرت حال الأجساد بحقيقتها فالنفس لا تتغير ولا تتبدل كما قال القائل:
وفي الجسم نفس لا تشيب بشيبه
ولو أن ما في الوجه منه خراب لها ظفر إن كل ظفر أعده
وناب إذا لم يبق في الفم ناب يغير مني الدهر ما شاء غيرها
فأبلغ أقصى العمر وهي كعاب
وخصلة أخرى: أن أحدهم إذا أحسن إلى أخيه إحسانا فلا يمن عليه به؛ لأنه يرى ويعتقد أن إحسانه إلى نفسه. وإن أساء إليه أخوه لم يستوحش منه؛ لأنه يرى أن ذلك كان منه إليه، فمن اعتقد في أخيه مثل هذا واعتقد أخوه فيه مثل ذلك فقد أمن كل واحد من أخيه غائلته أن يتغير عليه في يوم من الأيام بسبب من الأسباب أو بوجه من الوجوه.
(5) فصل في كيفية الاحتفاظ بالصديق
فينبغي إذا ظفرت بواحد منهم أن تختاره على جميع أصدقائك وأقربائك وعشيرتك وجيرانك الذين نشأت معهم فإنه خير لك من ولدك الذي من ظهرك، وأخيك من صلب أبيك، ومن زوجتك التي جعلت كل كسبك لها وجميع سعيك من أجلها، فاعرف حقه كما تعرف حقوقهم، بل ينبغي أن تؤثره عليهم كلهم؛ لأن هؤلاء يحبونك من أجل منفعة تصل منك إليهم، ويريدونك من أجل مضرة تدفعها عنهم، فإذا استغنوا عنك زهدوا فيك ورغبوا في غيرك وخذلوك أحوج ما تكون إليهم، فأما هذا الأخ فليس يريدك من أجل شيء خارج عن ذلك، بل من أجل أنه يرى ويعتقد أنك إياه وهو إياك نفس واحدة في جسدين متقابلين، يسره ما يسرك ويغمه ما يغمك، يريد لك منه مثل الذي تريد له منك. واعلم أن قلوب الأخيار صافية؛ لأن نفوسهم طاهرة، ولا تخفى عليهم خفيات الأمور؛ لأنها تتراءى فيها كما تتراءى في أعين البصراء ظواهر كليات الأمور، فلا تضمرن لإخوانك الأصفياء خلاف ما تظهر لهم، فإن ذلك لا يخفى عليهم ولا ينكتم عليهم منك.
فصل
واعلم بأن خير شيء يرزقه الإنسان السعادة، وأن السعادات نوعان: داخل وخارج، فالذي هو داخل نوعان: أحدهما في الجسد والآخر في النفس، فالذي في الجسد كالصحة والجمال، والذي في النفس كالذكاء وحسن الخلق ، والذي من خارج نوعان: أحدهما ملك اليد كالمال ومتاع الدنيا، والآخر الأقران من أبناء الجنس كالزوجة والصديق والولد والأخ والأستاذ والمعلم والصاحب والسلطان والرئيس، فمن أسعد السعادات أن يتفق لك يا أخي معلم رشيد عالم عارف بحقائق الأشياء والأمور، مؤمن بيوم الحساب، عالم بأحكام الدين، بصير بأمور الآخرة، خبير بأحوال المعاد، مرشد لك إليها، ومن أنحس المناحس أن يكون لك ضد ذلك.
واعلم أن المعلم والأستاذ أب لنفسك وسبب لنشوئها وعلة حياتها، كما أن والدك أب لجسدك وكان سببا لوجوده؛ وذلك أن والدك أعطاك صورة جسدانية، ومعلمك أعطاك صورة روحانية؛ وذلك أن المعلم يغذي نفسك بالعلوم ويربيها بالمعارف ويهديها طريق النعيم واللذة والسرور والأبدية والراحة السرمدية، كما أن أباك كان سببا لكون جسدك في دار الدنيا ومربيك ومرشدك إلى طلب المعاش فيها التي هي دار الفناء والتغيير والسيلان ساعة بساعة، فسل يا أخي ربك أن يوفق لك معلما رشيدا هاديا سديدا، واشكر الله على نعمائه السابغة.
(6) فصل في أن في الناموس أقواما يتشبهون بأهل العلم
واعلم أن في الناموس أقواما يتشبهون بأهل العلم ويتدلسون بأهل الدين، لا الفلسفة يعرفونها ولا الشريعة يحققونها، ويدعون مع هذا معرفة حقائق الأشياء ويتعاطون النظر في خفيات الأمور الغامضة البعيدة، وهم لا يعرفون أنفسهم التي هي أقرب الأشياء إليهم، ولا يميزون الأمور الجلية ولا يتفكرون في الموجودات الظاهرة المدركة بالحواس المشهورة في العقول، ثم ينظرون في الطفرة والقلقة والجزء الذي لا يتجزأ وما شاكلها من المسائل في الأمور المتوهمة التي لا حقيقة لها في الهيولى، وهم شاكون في الأشياء الظاهرة الجلية، ويدعون فيها المحالات بالمكابرة في الكلام والحجاج في الجدل، مثل دعواهم أن قطر المربع مساو لأحد أضلاعه، وأن النار لا تحرق، وأن شعاع البصر جسم يبلغ في طرفة العين إلى فلك الكواكب، وأن علم النجوم باطل، وما شاكل ذلك من الزور والبهتان، فاحذرهم يا أخي فإنهم الدجالون الذلقو الألسن العميان القلوب الشاكون في الحقائق الضالون عن الصواب.
واعلم أنهم محنة على العلماء ، كذابون على الأنبياء عليهم السلام، ينتحلون ولا يتحققون، ويدعون ما لا يعرفون، ويتكلمون فيما لا يحسنون، وما هم إلا كما وصفهم رب العالمين جل اسمه: @QUR04 بل هم قوم خصمون يهيمون في أودية ما يتوهمون، ويقولون ما لا يفعلون ولا يعلمون.
أعاذنا الله وإياك أيها الأخ ممن فيه هذه الصفات الذميمة ومن شرهم؛ فإنهم أعداء فاحذرهم.
(7) فصل في أن من سعادة الإنسان أن يتفق له معلم ذكي
واعلم أيها الأخ أن من سعادتك أيضا أن يتفق لك معلم ذكي جيد الطبع حسن الخلق صافي الذهن محب للعلم طالب للحق غير متعصب لرأي من المذاهب.
واعلم أن مثل أفكار النفوس قبل أن يحصل فيها علم من العلوم واعتقاد من الآراء كمثل ورق أبيض نقي لم يكتب فيه شيء، فإذا كتب فيه شيء حقا كان أم باطلا فقد شغل المكان ومنع أن يكتب فيه شيء آخر ويصعب حكه أو محوه.
فهكذا حكم أفكار النفوس إذا سبق إليها علم من العلوم واعتقاد من الآراء أو عادة من العادات تمكن فيها حقا كان أو باطلا ويصعب قلعها ومحوها كما قال القائل:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
فصادف قلبي فارغا فتمكنا
فإذا كان الأمر كما وصفت فينبغي لك أيها الأخ ألا تشغل بإصلاح المشايخ الهرمة الذين اعتقدوا من الصبا آراء فاسدة وعادات رديئة وأخلاقا وحشة؛ فإنهم يتعبونك ثم لا ينصلحون، وإن صلحوا قليلا قليلا فلا يفلحون.
ولكن عليك بالشباب السالمي الصدور الراغبين في الآداب، المبتدئين بالنظر في العلوم، المريدين طريق الحق والدار الآخرة، والمؤمنين بيوم الحساب، المستعملين شرائع الأنبياء عليهم السلام، الباحثين عن أسرار كتبهم، التاركين الهوى والجدل غير متعصبين على المذاهب.
واعلم أن الله تعالى ما بعث نبيا إلا وهو شاب، ولا أعطى لعبد حكمة إلا وهو شاب، كما ذكرهم ومدحهم فقال عز اسمه: @QUR06 إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى، وقال تعالى: @QUR07 قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم، وقال أيضا، عز وجل: @QUR03 قال موسى لفتاه.
واعلم أن كل نبي بعثه الله فأول من كذبه مشايخ قومه المتعاطون الفلسفة والنظر والجدل، كما وصفهم تعالى فقال: @QUR024 ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون * وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون.
(8) فصل في أن مواهب الله كثيرة لا يحصى عددها
واعلم أن مواهب الله جل اسمه، كثيرة لا يحصى عددها، ولكن يجمعها جنسان، تحت كل جنس أنواع كثيرة: أحدهما قنية جسدانية والآخر قنية نفسانية.
فمن القنية الجسدانية أحدها المال، ومن القنية النفسانية أحدها العلم، والناس في هاتين النعمتين العظيمتين على منازل أربع: فمنهم من قد رزق الحظ من المال والعلم جميعا، ومنهم من قد حرمهما جميعا، ومنهم من رزق المال ولم يرزق العلم، ومنهم من رزق العلم ولم يرزق المال.
فينبغي لإخواننا - ممن قد رزق المال والعلم جميعا - أن يؤدي شكر ما أنعم الله جل وعز، به عليه بأن يضم إليه أخا من إخوانه ممن قد حرمهما جميعا ويواسيه من فضل ما أتاه الله تعالى من المال؛ ليقيم به حياة جسده في دار الدنيا، ويرقده ويعلمه من علمه لتحيا به نفسه للبقاء في دار الآخرة، فإن ذلك من أقرب القربات إلى الله، وأبلغ لطلب مرضاته.
ولا ينبغي له أن يمن عليه بما ينفق عليه من المال ولا يستحقره، ويعلم أن الذي حرم أخاه هو الذي أعطاه، وكما أنه لا يمن على ابن له جسداني فيما يربيه وينفقه عليه من ماله ويورثه ما جمعه من المال بعد وفاته، كذلك لا يجب أن يمن على ابنه النفساني؛ لأنه إن كان ذلك ابنه الجسداني فهذا ابنه النفساني، كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي، عليه السلام: «أنا وأنت أبوا هذه الأمة.» وقال صلى الله عليه وسلم: «المؤمن أخو المؤمن من أبيه وأمه.» وقال إبراهيم عليه السلام: @QUR04 فمن تبعني فإنه مني وقال عز وجل لنوح عليه السلام، حيث قال: @QUR04 إن ابني من أهلي قال: @QUR08 إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح وقال تعالى: @QUR010 فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون فبين أن النسب الجسداني لا ينفع في الآخرة.
ولهذا المعنى قال المسيح عليه السلام، للحواريين: «جئت من عند أبي وأبيكم.» وقال الله تعالى: @QUR03 ملة أبيكم إبراهيم فهذه الأبوة نفسانية لا ينقطع نسبها كما قال النبي عليه السلام: «كل نسب ينقطع يوم القيامة إلا نسبي.» وقال: «يا بني هاشم لا يأتيني الناس يوم القيامة بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم، فإني لا أغني عنكم من الله شيئا.» إنما أراد النسبة الجسدانية؛ لأنها تنقطع إذا اضمحلت الأجسام وبقيت النسبة النفسانية؛ لأن جواهر النفوس باقية بعد فراق الأجساد وإن كان يظن أن ابنه الجسداني يحيي ذكره بعد موته؛ فهذا أيضا إن عاش أحيا ذكره في مجلس العلماء ومحاضر أهل الخير إذا نشر علمه، ويتوجه إليه ويترحم عليه كلما ذكره، كما نذكر نحن معلمينا وأستاذينا أكثر مما نذكر آباءنا الجسدانيين ونترحم على آبائنا، وإن كان يظن أن ذلك الابن الجسداني ربما ينفعه إذا كبر ويعينه على أمور الدنيا.
فهذا ربما بلغ في العلم والحكمة والخير والمرتبة عند الله تعالى أن يشفع بعلمه لمعلمه فينجو بشفاعته وهو لا يدري كما ذكر الله تعالى بقوله: @QUR011 آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله.
وأما من رزق المال ولم يرزق من العلم من إخواننا فينبغي له أن يطلب أخا ممن قد رزق العلم ويضمه إليه ويواسيه هذا من ماله، ويرفده هذا من علمه، ويتعاونان جميعا على إصلاح أمر الدين والدنيا، وينبغي للأخ ذي المال ألا يمن على الأخ ذي العلم بما يواسيه من ماله ولا يحتقره لفقره؛ لأن المال قنية جسدانية تقام بها حياة الجسد في دار الدنيا، والعلم قنية نفسانية تقام بها حياة النفس في دار الآخرة، وجوهر النفس خير من جوهر الجسد، وحياة النفس خير من حياة الجسد؛ لأن حياة الجسد إلى مدة ما ثم تنقطع وتضمحل، وحياة النفس في الدار الآخرة تبقى مؤيدا كما ذكر الله تعالى: @QUR07 لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى، وينبغي للأخ ذي العلم والحكم ألا يحسد أخا ذا مال له، ولا يستحقره لجهله، ولا يفتخر عليه بعلمه، ولا يطلب منه عوضا فيما يعلمه؛ لأن مثلهما في صحبتهما وتعاونهما، هذا لهذا بماله وهذا لهذا بعلمه، كمثل اليد والرجل في اتصالهما بالجسد وخدمتهما وتعاونهما في إصلاح الجملة؛ وذلك لأن اليدين لا تطلبان من الرجلين إذا احتذت لهما نعلا أو أخرجت منهما شوكة جزاء ولا شكورا، وكذلك الرجلان لا تطلبان من اليدين إذا بلغتاهما إلى الموضع الذي شاءتا وتسترتا وهربتا به من خوف القطع جزاء ولا عوضا؛ لأنهما آلات جسد واحد، وقوام إحداهما بالأخرى، وهكذا أيضا السمع لا يمن على البصر إذا أسمعه النداء، ولا البصر يمن على السمع إذا أراه المنادي؛ لأنهما قوتان لنفس واحدة كل منهما صلاح للأخرى في تعاونهما في خدمة النفس وطاعتهما في إدراكها المحسوسات.
فهكذا ينبغي أن يكون تعاون إخوان الصفاء في طلب صلاح الدين والدنيا؛ وذلك أن معاونة الأخ ذي المال للأخ ذي العلم بماله ومعاونة الأخ ذي العلم للأخ ذي المال بعلمه في صلاح الدين كمثل رجلين اصطحبا في الطريق في مفازة: أحدهما بصير ضعيف البدن معه زاد ثقيل لا يطيق حمله، والآخر أعمى قوي البدن ليس معه زاد، فأخذ البصير بيد الأعمى يقوده خلفه، وأخذ الأعمى ثقل البصير فحمله على كتفه، وتواسيا بذلك الزاد وقطعا الطريق ونجوا جميعا، فليس لأحدهما أن يمن على الآخر في إنجائه له من الهلكة في معاونته؛ لأنهما نجوا جميعا بمعاونة كل واحد منهما صاحبه، والمعاونة لا تكون إلا بين اثنين أو أكثر، والأخ الجاهل كالأعمى والأخ الفقير كالضعيف، والأخ الغني كالقوي والأخ العالم كالبصير، والطريق هي صحبة النفس مع الجسد، والمفازة هي الحياة الدنيا والنجاة هي حياة الآخرة.
فهكذا مثل إخواننا المتعاونين في صلاح الدنيا والدين.
وأما من رزق العلم ولم يرزق المال ولا يجد من يواسيه بالمال من إخواننا فينبغي له أن يصبر وينتظر الفرج؛ فإنه لا بد أن يؤيده الله عز وجل بأمر أو بأخ يخفف عنه ما يحتمله من ثقل الفقر، كما وعد لأوليائه فقال عز من قائل: @QUR012 ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب وقال تعالى: @QUR08 ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا.
وينبغي له أن يعلم أن الذي رزق من العلم خير من الذي حرم من المال؛ لأن العلم سبب لحياة النفس في دار الدنيا والآخرة جميعا، والمال سبب لإقامة حياة الجسد في دار الدنيا فقط، وفضل ما بين النفس والجسد وشرف جوهرها وفضل حياتها وفضل ذاتها، فقد تقدم ذكره، وينبغي له أن يتفكر في الذي حرم من المال والعلم جميعا ليعرف نعمة الله عليه ويشكره على كل حال؛ ليستوجب المزيد كما وعد الله تعالى فقال: @QUR03 لئن شكرتم لأزيدنكم.
وأما من ليس بذي مال ولا علم من إخواننا فهو الذي له نفس زكية جميلة الأخلاق سليم القلب من الآراء الفاسدة، محب للخير وأهله صابر راض بما قسم الله له من ذلك، فينبغي أن يعلم أن الذي أعطى من حسن الأخلاق وسلامة القلب ومحبة الخير والرضا بما قسم له خير من الذي منع من المال والعلم؛ لأننا نجد في الناس من أعطي العلم والمال أو أحدهما ولم يرزق من هذه الخصال التي ذكرناها شيئا؛ وذلك أنا نجد أقواما علماء متفلسفين يصنفون الكتب في تحسين الأخلاق، ويأمرون الناس بها وهم أسوأ الناس خلقا، ونجد أقواما ليس لهم علم كثير وهم مهذبو الأخلاق كما وصفنا، فقد تبين أن حسن الخلق من مواهب الله تعالى كما قيل في الخبر: «قد فرغ الله من الخلق والخلق والرزق والأجل.» ومدح الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بحسن الخلق حين قال: @QUR04 وإنك لعلى خلق عظيم وقال تعالى: @QUR08 ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك وقد قيل في الخبر: «إن الإنسان بحسن الخلق يدرك في الجنة درجة الصائم.» لأن حسن الخلق من أخلاق الملائكة وشيمة أهل الجنة كما ذكر في القرآن: @QUR011 وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم.
وسوء الخلق من أخلاق الشياطين وأهل النار الذين يحسد بعضهم بعضا ويتباغضون ويلعن بعضهم بعضا كما ذكر الله تعالى في القرآن: كلما دخلت أمة لعنت أختها، وقالوا: لا مرحبا بهم إنهم صالو النار. قالوا: بل أنتم لا مرحبا بكم. وهم في العذاب مشتركون.
(9) فصل في ترتيب نفوس إخوان الصفا
واعلم أن قوة نفوس إخواننا في هذا الأمر الذي نشير إليه ونحث عليه على أربع مراتب: أولها صفاء جوهر نفوسهم وجودة القبول وسرعة التصور، وهي مرتبة أرباب ذوي الصنائع في مدينتها التي ذكرناها في الرسالة الثانية، وهي القوة العاقلة المميزة لمعاني المحسوسات الواردة على القوة الناطقة بعد خمس عشرة سنة من مولد الجسد، وإلى هذا أشار بقوله تعالى: @QUR05 إذا بلغ الأطفال منكم الحلم وهم الذين نسميهم في مخاطبتنا ورسائلنا إخواننا الأبرار والرحماء.
وفوق هذه المرتبة مرتبة الرؤساء ذوي السياسات، وهي مراعاة الإخوان وسخاء النفس وإعطاء الفيض والشفقة والرحمة والتحنن على الإخوان، وهي القوة الحكمية الواردة على القوة العاقلة بعد ثلاثين سنة من مولد الجسد، وإليه أشار جل ذكره بقوله: @QUR07 ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وهم الذين نسميهم في رسائلنا إخواننا الأخيار والفضلاء.
والرتبة الثالثة فوق هذه وهي مرتبة الملوك ذوي السلطان والأمر والنهي والنصر والقيام بدفع العناد والخلاف عند ظهور المعاند المخالف لهذا الأمر بالرفق واللطف والمداراة في إصلاحه، وهي القوة الناموسية الواردة بعد مولد الجسد بأربعين سنة، وإليها أشار بقوله: @QUR016 حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وهم الذين نسميهم إخواننا الفضلاء الكرام.
والرابعة فوق هذه وهي التي ندعو إليها إخواننا كلهم في أي مرتبة كانوا، وهي التسليم وقبول التأييد ومشاهدة الحق عيانا، وهي القوة الملكية الواردة بعد خمسين سنة من مولد الجسد، وهي الممهدة للمعاد والمفارقة للهيولى وعليها تنزل قوة المعراج، وبها تصعد إلى ملكوت السماء فتشاهد أحوال القيامة من البعث والنشر والحشر والحساب والميزان والجواز على الصراط والنجاة من النيران، ومجاورة الرحمن ذي الجلال والإكرام، وإلى هذه الرتبة أشار بقوله تعالى: @QUR017 يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي، وإليها أشار إبراهيم عليه السلام، بقوله تعالى: @QUR05 واجعلني من ورثة جنة النعيم، وإليها أشار يوسف عليه السلام، بقوله تعالى: @QUR021 رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين، وإليها أشار المسيح عليه السلام، بقوله للحواريين: «إني إذا فارقت هذا الهيكل فأنا واقف في الهواء عن يمين العرش بين يدي أبي وأبيكم أتشفع لكم، فاذهبوا إلى الملوك في الأطراف وادعوهم إلى الله تعالى، ولا تهابوهم فإني معكم حيث ما ذهبتم بالنصر والتأييد.» وأشار إليها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: «إنكم تردون على الحوض غدا.» وأحاديث مروية، كل هذه مشهورة عند أصحاب الحديث وإليها أشار سقراط بقوله يوم سقي السم: «إني وإن كنت أفارقكم إخوانا فضلاء؛ فإني ذاهب إلى إخوان كرام قد تقدمونا ...» في كلام طويل، وإليها أشار فيثاغورث في الرسالة الذهبية في آخرها: «إنك إذا فعلت ما أوصيك عند مفارقة الجسد تبقى في الهواء غير عائد إلى الإنسية ولا قابل للموت.» وإليها أشار بلوهر ليوزاسف حين قال الملك لوزيره وكان من أهل هذه المقالة: «قل لي من أنت؟ فقال: من الذين يعرفون ملكوت السماء.» في حديث طويل، وإليها ندعو نحن إخواننا جميعا والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وإليها أشار بقوله تعالى: @QUR011 والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى وهي كل آية فيها صفة الجنان وأهلها ونعيمها.
(10) فصل في أن المطلوب من المدعوين إلى هذا الأمر أربعة أحوال
واعلم أن المطلوب من المدعوين إلى هذا الأمر أربعة أحوال: أولها الإقرار بحقيقة هذا الأمر، والثاني التصور لهذا الأمر بضروب الأمثال للوضوح والبيان، والثالث التصديق له بالضمير والاعتقاد، والرابع التحقيق له بالاجتهاد في الأعمال المشاكلة لهذا الأمر، واعلم أن المقر باللسان غير متصور له يكون مقلدا، والمتصور له غير مصدق به يكون شاكا متحيرا، والمصدق به غير المتحقق له بالاجتهاد بالعمل المشاكل لهذا الأمر يكون مقصرا مفرطا، والمكذب باللسان لهذا الأمر المنكر له بقلبه يكون جاحدا كافرا، كما قال الله تعالى: @QUR08 الذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون، @QUR07 لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون. واعلم أن المقر لهذا الأمر بلسانه المتصور له بقلبه على حقيقته يجد من نفسه أربعة خصال لم يعرفها قبل ذلك: أحدها قوة النفس والنهوض من الجسد، والثاني النشاط في طلب الخلاص من الهيولى الذي هو جهنم النفوس، والثالث الرجاء والأمل بالفوز والنجاة عند مفارقة النفس الجسد، والرابع الثقة بالله واليقين بتمام الأمر وكماله.
(11) فصل في أن كل مقر بهذا القرآن ...
واعلم أن كل مقر بهذا القرآن وبكتب الأنبياء عليهم السلام وإخبارها عن الغيب فهم في ذلك على منازل أربع: إما مقر بلسانه غير مصدق بقلبه، أو مقر بلسانه ومصدق بقلبه غير عارف لمعانيه وبيانه، أو مقر ومصدق ومتبين ولكن غير قائم بواجب حقه، فالمقر بلسانه غير المصدق بقلبه هو الذي رزق من الفهم والتمييز قليلا، فإذا فكر بعقله وميز ببصيرته ما يدل عليه ظاهر ألفاظ الكتب النبوية لا يقبله عقله؛ لأنه لا يتصور معانيها اللطيفة وإشاراتها الخفية فينكره بقلبه ويشك فيه، وأما من أقر بلسانه وصدق بقلبه - وهو الذي يتفكر ويعلم أن مثل هذا الأمر الجليل الذي قد اتفقت على تحقيقه الأنبياء والأئمة المهديون والخلفاء الراشدون وصالحو المؤمنين وأقر به فضلاء الناس والمميزون المستبصرون - لا يجوز أن يكون ليس له حقيقة،[1] ولكن فهمه وتمييزه وعقله يقصر عن إدراكه وتصوره لها بحقائقها، وأما من قد عرف بيانه ولكن قصر في القيام بواجبه فهو الذي وفقه الله وأرشده واهتدى بحقائق هذه الأسرار المذكورة في كتب الأنبياء عليهم السلام ولكن لا يجد المعين له على القيام بنصرتها وواجب حقها؛ لأنه وحيد وليس كل أمر يتم بالوحدة، بل ربما يحتاج فيه إلى الجمع العظيم وخاصة أمر الناموس، فأقل ما يحتاج فيه إلى أربعين خصلة تجتمع في واحد من الأشخاص أو في أربعين شخصا مؤتلفة القلوب.
(تمت رسالة كيفية عشرة إخوان الصفا، ويليها رسالة في ماهية الإيمان وخصال المؤمنين المحققين.)
الرسالة الخامسة من العلوم الناموسية والشرعية في ماهية الإيمان وخصال المؤمنين المحققين
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الله جل ثناؤه قد أكثر ذكر المؤمنين في القرآن والمدح والثناء الجميل عليهم، ووعدهم الثواب الجزيل في الدنيا والآخرة جميعا، وهكذا أيضا قد أكثر ذكر الكافرين وسوء الثناء عليهم والزجر والتهديد والوعيد في الدنيا والآخرة جميعا، فنريد أن نبين من المؤمن حقا ومن الكافر حقا؛ إذ كان هذا أمرا قد التبس على كثير من أهل العلم حتى صار يكفر بعضهم بعضا ويلعن بعضهم بعضا بغير علم ولا بيان، ولكن من أجل أن كثيرا من أهل العلم لا يعرفون الفرق بين العلم والإيمان احتجنا أن نبين أولا ما الفرق بينهما؛ وذلك أن كثيرا من المتكلمين يسمون الإيمان علما، ويقولون: هو علم من طريق السمع، وما يعلم بالقياس هو علم من طريق العقل، فنريد أن نبين أيما هو علم بالحقيقة؟ فنقول:
إن الحكماء قالوا: إن العلم هو تصور النفس رسوم المعلومات في ذاتها، فإذا كان العلم هو هذا فليس كلما يرد الخبر به من طريق السمع تتصوره النفس بحقيقته، فإذن لا يكون ذلك علما بل إيمانا وإقرارا وتصديقا، ومن أجل هذا دعت الأنبياء أممها إلى الإقرار أولا، ثم طالبوهم بالتصديق بعد البيان، ثم حثوهم على طلب المعارف الحقيقية، والدليل على صحة ما قلنا قول الله عز وجل: @QUR03 الذين يؤمنون بالغيب، ولم يقل يعلمون بالغيب، ثم حثهم على طلب العلم بقوله: فاعتبروا يا أولي الألباب، ويا أولي الأبصار، ثم مدح فقال: @QUR09 يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات، وقال: @QUR04 الذين أوتوا العلم والإيمان فكفى بهذا فرقا بين العلم والإيمان، فنريد أن نبين شرائط الإيمان وصفات المؤمن؛ ليعلم كل إنسان هل هو مؤمن حقا أو شاك مرتاب؟ لأن المؤمنين هم ورثة الأنبياء وتلامذتهم، وأن الأنبياء لم يورثوا دراهم ودنانير، بل إنما ورثوا علما وعبادة، فمن أخذ بهما فقد وفر حظا جزيلا كما ذكر الله جل ثناؤه: @QUR021 ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير وقال الله تعالى: @QUR010 ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
(1) فصل في أن نعم الله كثيرة على الخلق
واعلم يا أخي، أيدك الله، أن نعم الله كثيرة على الخلق لا يحصى عددها، ولكن نذكر طرفا مما يخص الإنسان، وهو نوعان: أحدهما من خارج الجسد؛ كالمال والقرين والولد ومتاع الدنيا أجمع. والآخر داخل؛ فهو نوعان: أحدهما في الجسد؛ كالصحة وحسن الصورة وكمال البنية والقوة والجلد وما شاكلها. والآخر في النفس، وهو نوعان: أحدهما حسن الخلق والآخر ذكاء النفس وصفاء جوهرها، وهي الأصل في جميع المعارف. واعلم يا أخي أن الناس كلهم في المعارف على أربع منازل: فمنهم من قد رزق العلم ولم يرزق الإيمان، ومنهم من رزق الإيمان ولم يرزق العلم، ومنهم قد وفر حظه منهما جميعا، ومنهم من قد حرمهما جميعا، وإليهم أشار بقوله تعالى: @QUR020 وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون فخبر بهذا عن أشرفهم في المعارف؛ إذ كان علم البعث والقيامة من أشرف العلوم.
وأما الذين أوتوا الإيمان ولم يرزقوا العلم فهم طائفة من الناس المقرين بما في كتب الأنبياء عليهم السلام من أخبار البعث وأمر المبدأ والمعاد، وأحوال الملائكة ومقاماتهم، وحديث البعث والقيامة والحشر والنشر والحساب والميزان والصراط وجزاء الأعمال في النشأة الآخرة ونعيم الجنان، وما شاكلها من الأمور الغائبة عن الحواس البعيدة عن تصور الأوهام، وهم مع قلة علمهم ساكنة نفوسهم بما أخبرت به الأنبياء وما أشارت إليه الحكماء من الثواب في المعاد ونعيم الجنان، ومصدقون لهم في السر والإعلان، راغبون فيها، طالبون لها، عاملون من أجلها، ولكنهم تاركون البحث عنها والكشف لها والنظر في حقائقها: كيف؟ وأين؟ ومتى؟ ولم؟ وإليهم أشار بقوله: @QUR05 فسلام لك من أصحاب اليمين لهم الأمن واليمن والأمان والإيمان.
وأما الذين رزقوا حظا من العلم ولم يرزقوا الإيمان فهم طائفة من الناس نظروا في كتب الفلاسفة والحكماء وبحثوا عنها، وارتاضوا بما فيها من الآداب مثل الهندسة والتنجيم والطب والمنطق والجدل والطبيعيات وما شاكلها، فأعجبوا بها وتركوا النظر في كتب النواميس والتنزيلات النبوية والبحث عن أسرار الموضوعات الشرعية، والكشف عن خفيات الرموزات الناموسية، فعميت عليهم الأنباء فهم شاكون في حقائقها متحيرون في معرفة معانيها، جاهلون بلطيف أسرارها، غافلون عن عظيم شأنها، وإليهم أشار بقوله: @QUR05 فرحوا بما عندهم من العلم.
وأما الذين حرموا العلم والإيمان جميعا فهم طائفة من الذين أترفوا في هذه الحياة الدنيا، فهم مشغولون الليل والنهار في طلب شهواتها، مغرورون بعاجل حلاوات لذات نعيمها، تاركون لطلب الآداب معرضون عن العلم وأهله، غافلون عن أمر الديانات وأحكام الشرائع ومفروضات السنن التي الغرض منها نجاة النفس وطلب الآخرة، وإليهم أشار بقوله: @QUR04 وأترفناهم في الحياة الدنيا وقال: @QUR07 ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون وقال: @QUR08 يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم.
فأما الذين أوتوا من العلم والإيمان حظا جزيلا فهم إخواننا الفضلاء الكرام الأخيار الذين أشار إليهم بقوله: @QUR09 يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات، وقد أخبرنا عن مذهبهم وعرفناكم أخلاقهم، وبينا آراءهم وأوضحنا أسرارهم في إحدى وخمسين رسالة عملناها في فنون الآداب وغرائب العلوم وطرائف الحكم.
فانظروا فيها أيها الإخوان الأبرار الرحماء فلعلكم توفقون لفهم معانيها بتأييد الله لكم وبروح منه، فتحيون حياة العلماء، وتعيشون عيش السعداء، وتهتدون إلى طريق ملكوت السماء، وتنظرون إلى الملأ الأعلى وتساقون إلى الجنة زمرا.
واعلم يا أخي أن المؤمنين درجاتهم متفاوتة الإيمان، كما أن العلماء متفاوتون في درجات العلوم؛ وذلك أن الإنسان لا يبلغ درجة في العلم إلا ويلوح له فوقها درجات لم يبلغها بعد، كما ذكر الله بقوله: @QUR05 وفوق كل ذي علم عليم فهو من أجل هذا يحتاج إلى الإقرار به والتصديق بقول من هو أعرف وأعلم منه.
وإذ قد بان من فضيلة العالم والمؤمن، وما العلم وما الإيمان بما تقدم؛ فنريد أن نذكر ماهية كل واحد منهما ونبين كميتهما وكيفيتهما فنقول:
إن العلم هو صورة المعلوم في نفس العالم، والإيمان هو التصديق لمن هو أعلم منك بما لا يخبرك عما لا تعلمه.
واعلم أنه رب صورة في نفس العالم ليس لها وجود في الهيولى فنحتاج أن تنظر في هذا الباب نظرا شافيا؛ فإن أكثر ما يدخل الشبهة على العلماء من هذا الباب.
وأما الإيمان فهو التصديق للمخبر فيما قال وأخبر عنه، ولكن رب مخبر بخلاف ما في نفسه فيكون كذابا إن كان قاصدا لذلك، ورب مصدق أيضا لكذاب، وهذا أيضا يحتاج إلى نظر شاف؛ لأن الشبهة تدخل على القائلين والمستمعين من هذا الباب، وقد بينا طرفا من هذه المعاني في رسائلنا المنطقيات.
(2) فصل في أن الإيمان يورث العلم
واعلم يا أخي أن الإيمان يورث العلم؛ لأنه متقدم الوجود على العلم، ومن أجل هذا دعت الأنبياء عليهم السلام الأمم إلى الإقرار أولا بما خبرتهم والتصديق بما كان غائبا عنهم عن إدراك حواسهم وتصور أوهامهم، فإذا أقروا بألسنتهم سموهم عند ذلك المؤمنين، ثم طالبوهم بتصديق القلب كما ذكر الله: @QUR05 ومن يؤمن بالله يهد قلبه فإذا وقع التصديق بالقلب سموهم الصديقين، كما قال تعالى: @QUR08 والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون.
واعلم أن أول ما يبدأ بالإيمان - الذي هو التصديق من الأنبياء للملائكة بما يخبرونهم عما ليس في طاقة البشر - تصورها قبل إخبار الملائكة لهم كما قال الله تعالى: @QUR08 آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون إلى آخر الآية.
واعلم يا أخي أن الملائكة هم محتاجون إلى الإيمان؛ فهم متفاوتون في درجات العلوم كما أخبر عنهم فقال: @QUR06 وما منا إلا له مقام معلوم، وإن من أشرف الملائكة حملة العرش الذين هم في أعلى المقامات في العلوم، وهم أيضا محتاجون إلى الإيمان كما أخبر عنهم فقال جل ثناؤه: @QUR010 الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به.
واعلم أنك أيضا محتاج إلى الإيمان والتصديق لقول المخبر لك الذي هو فوقك في العلم وأعلى منك في المعارف؛ لأنك إن لم تؤمن بما يخبرك به حرمت أشرف العلوم وأجل المعارف، وتعلم أنه ليس لك طريق إلى تصديق المخبر لك في أول الأمر إلا حسن الظن بصدقه، ثم على ممر الأوقات تتبين لك حقيقة ذلك فلا تطلبه بالبرهان في أول الأمر، ولكن اجتهد في أن تتصور في فكرك ما تسمع بأذنك، ثم اطلب السبيل والبرهان بعد ذلك، ولا ترض بالتقليد إذا توسطت في العلم، ولا تطلب البرهان في أوله، ولكن هلم بنا يا أخي إلى مجلس إخوان لك فضلاء وأصدقاء لك علماء وأوداء لك نصحاء؛ لتسمع أقاويلهم وترى شمائلهم وتقف على أسرارهم، وتتصور بصفاء جوهر نفسك ما تصوروا بصفاء جوهر نفوسهم، وتنظر بعين قلبك كما نظروا بعيون قلوبهم، وترى بنور عقلك ما رأوا بنور عقولهم، فلعلك أن تنتبه نفسك من نوم الغفلة ورقدة الجهالة وتحيا بروح العلوم، وتعيش عيش السعداء وتوفق للصعود إلى ملكوت السماء؛ لتنظر إلى الملأ الأعلى، وتكون هناك بنفسك الزكية الطاهرة النقية الشفافة مسرورا فرحا منعما ملتذا أبدا، لا بجسدك الثقيل المظلم المستحيل الفاسد، وفقك الله أيها الأخ للصواب وهداك إلى الرشاد وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد.
(3) فصل في ماهية الإيمان
اعلم يا أخي أن الله جل ثناؤه، إنما أكثر مدح المؤمنين في القرآن وجعل وعدهم في الآخرة وثوابهم الجنة؛ لأن الإيمان خصلة تجمع الخيرات البشرية كلها وفضائل الملائكة، وأيضا أكثر ذم الكافرين وجعل وعيدهم جهنم؛ لأن الكفر خصلة تجمع الشرور البشرية كلها ورذائل الشيطانية جميعا، وقد بينا ماهية الكفر ومن الكافر بالحقيقة في رسالة الناموس، ونريد أن نذكر من شرائط الإيمان وخصال المؤمنين طرفا؛ ليعلم ما الإيمان ويعرف من المؤمن بالحقيقة.
اعلم يا أخي أن الإيمان يقال على نوعين: ظاهر وباطن، فالإيمان الظاهر هو الإقرار باللسان بخمسة أشياء: أحدها هو الإقرار بأن للعالم صانعا واحدا حيا قادرا حكيما وهو خالق الخلق كلهم ومدبرهم لا شريك له في ذلك أحد، والثاني هو الإقرار بأن له ملائكة «هم» صفوة الله من خلقه، نصبهم لعبادته وخدمته، وجعلهم حفظة لعالمه، ووكل كل طائفة منها بضرب من تدبير خلائقه بما في السموات والأرض لا يعصون ما نهاهم عنه ويفعلون ما يؤمرون، والثالث الإقرار بأنه قد اصطفى طائفة من بني آدم وجعلهم واسطة بينهم وبينه الملائكة؛ ليتلقى الملائكة عن ربهم، ويلقون إلى بني آدم ما يتلقونه من الملائكة من الوحي والأنباء، والرابع الإقرار بأن هذه الأشياء التي جاءت بها الأنبياء عليهم السلام من الوحي والأنباء باللغات المختلفة مأخوذة معانيها من الملائكة إلهاما ووحيا، والخامس الإقرار بأن القيامة لا محالة كائنة، وهي النشأة الأخرى، وأن الخلق كلهم يبعثون ويحشرون ويحاسبون ويثابون بما علموا من خير ومعروف ويجازون بما عملوا من شر ومنكر، وذلك قول الله تعالى: @QUR07 والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وقال: @QUR02 واليوم الآخر.
فهذا هو الإيمان الظاهر الذي دعت الأنبياء عليهم السلام الأمم المنكرة لهذه الأشياء إلى الإقرار به، وهو يؤخذ تلقينا كما يتلقن الصغار من الكبار، والجهال من العلماء، الإقرار به.
وأما الإيمان الذي هو باطن فهو إضمار القلوب باليقين على تحقيق هذه الأشياء المقر بها باللسان؛ فهذا هو حقيقة الإيمان.
وأما المؤمن في ظاهر هذا الأمر فهو المقر بهذه الأشياء بلسانه المتميز من اليهود ومن النصارى والصابئين والمجوس والذين أشركوا، وبهذا الإقرار تجري عليه أحكام المسلمين من الصلاة والزكاة والحج والصوم وما شاكلها من مفروضات شريعة الإسلام وسنة المؤمنين.
وأما الذين مدحهم في كتبه ووعدهم الجنة فهم الذين يتيقنون بضمائر قلوبهم حقائق هذه الأشياء المقر بها.
وأما الطريق إليه فهو بالتفكير والاعتبار والقيام بشرائطها وواجب حقها، كما قال تعالى: @QUR05 أم حسبتم أن تدخلوا الجنة الآية.
(4) فصل في ماهية التوكل
فاعلم أن إحدى شرائط هذا الإيمان وخصال المؤمنين هو التوكل على الله كما قال: @QUR06 وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين.
وقال لنبيه عليه السلام: @QUR06 توكل على الحي الذي لا يموت ونريد أن نبين ما التوكل؟ ومن المتوكل على الله بالحقيقة؟
اعلم يا أخي أن التوكل هو الاعتماد على الغير عند الحاجة بأن ينوب عنك فيها.
واعلم أنه إذا كان المتوكل عليه ثقة يكون قلب المتوكل عليه ساكنا ونفسه مطمئنة، وإذا كان غير ثقة يكون قلب المتوكل غير ساكن ونفسه غير مطمئنة.
واعلم يا أخي أن الناس كلهم متوكلون، ولكن أكثر توكلهم على غير الله تعالى، من ذلك توكل الصبيان على آبائهم فيما يحتاجون إليه من الطعام والشراب واللباس وغيرهما من الحاجات، فهم طول النهار مشغولون باللعب لا يفكرون في أمر المعاش، ولا يهمهم طلبه لاتكالهم على آبائهم، وقلوبهم ساكنة ونفوسهم هادئة ليقينهم بآبائهم.
وهكذا العبيد مشغولون بخدمة مواليهم، لا يفكرون في طلب المعاش اتكالا على مواليهم فيما يحتاجون إليه.
وهكذا جنود السلطان وخدمه لا يفكرون في طلب المعاش اتكالا على السلطان في أرزاقهم المفروضة لهم فهم مشغولون في خدمة سلطانهم.
وأما غير هؤلاء من الناس فهم طائفتان: الأغنياء والفقراء، فأما الأغنياء فاتكالهم على ذخائرهم وأموالهم وقلوبهم ساكنة ونفوسهم هادئة، ولكن الحرص والرغبة في الزيادة يحثانهم على الطلب، وهم في الطلب متوكلون على رأس أموالهم وصرفهم وحذقهم بالبيع والشراء في طلب الربح.
وأما الفقراء فهم الصناع والذين يعملون بأبدانهم واتكالهم على صناعتهم وقوة أبدانهم.
وأما المكديون[1] فاتكالهم على الناس في مواساتهم من فضل ما في أيديهم، فبهذا الاعتبار لا تجد أحدا متوكلا على الله حق التوكل إلا الأنبياء وصالح المؤمنين؛ وذلك أن الأنبياء قبل أن يوحى إليهم يكونون كأحد أبناء الدنيا في طلب المعيشة، حتى إذا جاءهم الوحي والنبوة تركوا طلب المعاش واشتغلوا بتبليغ الرسالة، وتوكلوا على الله فيما يحتاجون إليه من عرض هذه الدنيا، وتيقنوا به عز وجل واطمأنت نفوسهم؛ لأنهم يعلمون ويتيقنون بأن مرسلهم يكفيهم ما يحتاجون إليه في طاعتهم إذا اشتغلوا بخدمته، كما أن الملوك يكفون جنودهم ما يحتاجون إليه في طاعتهم لهم، وكما أن الموالي يكفون عبيدهم ما يحتاجون إليه في طاعتهم لهم.
وهكذا المؤمنون المحققون الذين هم ورثة الأنبياء يقتدون بهم ويسلكون مسلكهم فيما دلهم الله عليهم فقال: @QUR08 لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة فالتوكل إذن أحد هذه الخصال التي يبين بها من المؤمن المحق.
(5) فصل في ماهية الإخلاص
ومن شرائط الإيمان أيضا وخصال المؤمنين الإخلاص في العمل والدعاء كما أمر الله تعالى: @QUR05 فادعوا الله مخلصين له الدين وقال: @QUR03 ليعبدوا الله مخلصين فالإخلاص في العمل هو ألا يطلب بما يعمل جزاء ولا شكورا من أحد من خلق الله مثل إخلاص الوالدين في تربيتهما الأولاد؛ فإنهما لا يطلبان جزاء ولا شكورا؛ لأنهما قد علما بأنها واجبة في الجبلة، ومثل إخلاص العبيد الصالحين الذي يخدمون مواليهم من غير خوف من الضرب ولا طلبا للعوض؛ لأنهم قد علموا بأن خدمتهم هي شيء تقتضيه الحكمة والسياسة كما بينا في رسالة السياسيات.
واعلم يا أخي أن العبد الذي يخدم مولاه خوفا من الضرب أو طلبا للعوض عبد سوء، وهكذا من لا يطيع ربه إلا خوفا من النار أو رغبة في الأكل والشرب والجماع في الجنة؛ فهو أيضا عبد سوء، والعبد السوء لا يكون مخلصا في الدعاء ولا في العمل.
وأما الإخلاص في الدعاء فلا يكون إلا عند انقطاع الحيلة والتبري من الحول والقوة، والمثال في ذلك ركاب البحر؛ وذلك أنهم يدعون الله ويسألونه السلامة عند دخولهم السفينة، ولكن غير مخلصين لاتكالهم على الربان والملاحين في حفظها ومراعاتها، ونفوسهم ساكنة هادئة بحضور الربان والملاحين حتى إذا توسطوا البحر وهاجت الأمواج واضطربت المراكب ودهش الربان وفزع الملاحون وأشرفوا على الهلاك فعند ذلك يدعون الله مخلصين له الدين؛ لأنهم قد علموا أنه لا يقدر أحد من خلق الله على معاونتهم، ولا قوة لأحد على دفع ما ورد عليهم إلا الله عز وجل، ولا تتعلق قلوبهم بسبب من الأسباب إلا أن يكون فيها إنسان يعرف أحكام النجوم.
وقد عرف ما العلة الموجبة لما هم فيه من مناحس الفلك، ويعلم أن النحس دافع تدبيره إلى سعد من السعود، ويكون قلبه متعلقا به؛ فإنه وإن كان يدعو ربه لا يكون دعاؤه مخلصا حتى يتبين أن النحس مستمر، أو دافع التدبير إلى نحس أشر منه، فعند ذلك يقطع رجاءه من النجوم فيكون دعاؤه بالإخلاص.
واعلم يا أخي أن مثل هذه الأحوال التي ترد على بني آدم وفزع العقلاء إلى الله تعالى ودعاء العارف لهم بالكشف عنهم ما ورد عليهم، يكون فيها تلقين للجاهلين بالله وهداية للنفوس إلى معرفته فيعلمون عند ذلك - بنظرهم إلى العقلاء في دعائهم وتضرعهم إلى الله بالكشف عنهم ما هم فيه - أن لهم إلها جبارا عالما قادرا يسمع دعاءهم ويعلم ما هم فيه وهو قادر على نجاتهم يراهم وإن كانوا لا يرونه ولا يدرون أين هو؟
وعلى هذا القياس كل ما يصيب الناس من الجهد والبلاء فيضطرهم ذلك إلى الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل مثل الغلاء والوباء وآلام الأطفال ومصائب الأخيار وما شاكلها من الأمور السماوية التي لا سبيل لأحد في دفعها عنه إلا الله تعالى، فيكون ذلك دلالة لهم على الله عز وجل وهداية إليه، كما قال: @QUR016 أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون.
(6) فصل في ماهية الصبر
ومن إحدى شرائط الإيمان وخصال المؤمنين الصبر كما قيل: الصبر رأس الإيمان، وقال الله تعالى: @QUR05 واصبر وما صبرك إلا بالله وقال للمؤمنين: @QUR02 اصبروا وصابروا الآية.
واعلم يا أخي أن الصبر هو الثبات في حال الشدائد بلا جزع لما يرجى من محمود العاقبة، والصبر مشتق من مرارة الصبر.
واعلم يا أخي أن الناس أكثرهم يصبرون في الشدائد ولكن لا يكون صبرهم بالله ولا لله؛ لأنهم يجزعون ويضطربون ويشكون ويظنون بالله ظن السوء كما قال الله جل ثناؤه في قصة المنافقين: @QUR06 وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا؛ وذلك أن منهم من ظن أن تلك الشدائد التي أصابتهم جور منه إذا قضاها عليهم، ومنهم من ظن أنه ليس من قضائه وحكمه، ومنهم من ظن أنه ليس يعلم ما هم عليه من الجهد والبلوى، ومنهم من يعلم أنه يعلمه ولكنه يظن أنه لا يكفر فيهم ولا يهمه أمرهم، ومنهم من يظن أنه قاسي القلب قليل الرحمة وما شاكلها من ظنون السوء.
فأما الأنبياء المؤمنون فإنهم يصبرون في الشدائد والبلوى، ويكون صبرهم بالله ولله؛ وذلك أنهم يرون ويعتقدون أن الشدائد التي تصيب الخلق فيها ضروب من المصلحة لهم وإن كان يخفى على كثير من العقلاء ما لتلك المصلحة والحكمة، كما بينا في باب الدعاء والإخلاص عند الشدائد، وكما بينا في رسالة اللذات ما الحكمة في ألم نفوس الحيوان دون سائر النفوس التي في العالم، وأن الحكمة فيها هي حث نفوسها على حفظ أجسادها من التلف والفساد.
واعلم يا أخي أن اعتقاد الأنبياء والمؤمنين في الشدائد التي تصيبهم مصلحة لهم نتجت من المقدمة التي أقروا بها هي قولهم: إن للعالم صانعا واحدا حيا قادرا حكيما، وإنه قد رتب أمر العالم على أحسن النظام والترتيب في إتقان الحكمة حتى لا يجري أمر من الأمور صغارها وكبارها إلا وفيها ضروب من الحكمة وصنوف من الصلاح لا يعلمه إلا هو.
(7) فصل في ماهية القضاء والقدر والرضاء بالقضاء
ومن شرائط الإيمان وخصال المؤمنين الرضا بالقضاء والقدر، وهو طيب النفس بما يجري عليها من المقادير، وجريان المقادير هو موجبات أحكام النجوم، والقضاء هو علم الله السابق بما توجبه أحكام النجوم، ويقال: إن الرضا بالقضاء هو أقل أعمال بني آدم التي تصعد إلى السماء، وهو أشرف شرائط الإيمان وأفضل خصال المؤمنين.
وقد قال الله تعالى: @QUR05 لقد رضي الله عن المؤمنين وقال: @QUR05 رضي الله عنهم ورضوا عنه.
ثم اعلم يا أخي أنه لا يوجد أحد طيب النفس بما يجري عليه من المقادير المرة الصابرة إلا العارفون بحرمة الناموس، ولا يعرف أحد حرمة الناموس كما يجب إلا الأنبياء والمؤمنون، وقد بينا حق الناموس وكيفية حرمته في رسالة النواميس، فمن علامة الرضاء بالقضاء وبما تجري به المقادير أن ينقاد لحكم الناموس طيب النفس مثل انقياد سقراط حكيم اليونانيين؛ وذلك أن هذا الحكيم أوجب عليه القاضي القتل بشهادة العدول ، وأنه واجب عليه القتل بشبهة دخلت على القوم فانقاد سقراط للقتل طيبة به نفسه، فقيل له: إنك تقتل مظلوما، فهل لك أن نفديك بفدية أو نهرب بك؟ قال سقراط: أخاف أن يقول الناموس غدا لي: لم فررت من حكمي؟ فقالوا: تقول له: لأني كنت مظلوما، قال لهم: إن قال لي الناموس: إن ظلمك الشهود الذين شهدوا عليك بالزور والبهتان فكان من الواجب ألا تظلمني أنت وتفر من حكمي، فماذا أقول؟ فخصمهم بهذه الحجة وانقاد للقتل طيبة به نفسه راضيا بحكم الناموس.
ثم قال: من تهاون بالناموس قتله الناموس، وكان قد انقاد قبل سقراط للمقادير أحد بني آدم إذ قال له أخوه قابيل: @QUR01 لأقتلنك قال له هابيل: @QUR014 لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله إلى قوله: @QUR04 أن تبوء بإثمي وإثمك، فرضي بقضاء الله الذي هو علمه السابق بالكائنات قبل كونها، فانقاد للمقادير التي هي موجبات أحكام النجوم طيبة بها نفسه، ومثل ذلك أن رضي المسيح بقضاء الله وانقاد للمقادير وسلم ناسوته إلى اليهود طيبة به نفسه راضيا بحكم الله الذي هو علمه السابق بالكائنات قبل كونها؛ إذ لا يكون شيء بخلاف ما علم.
ومثل ما رضيت به السحرة بقضاء الله لما هددهم فرعون بالصلب فقالوا له: @QUR09 اقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا؛ وذلك أن القوم قد علموا بأنه ليس له سلطان على نفوسهم إنما سلطانه على أجسادهم فقالوا: @QUR06 إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا فانقاد القوم للمقادير وسلموا أجسادهم إلى حكم فرعون طيبة بها أنفسهم.
ومثلما رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد لما قتل خيار أنصاره وفضلاء المهاجرين وكسرت رايته وجرى عليه من المقادير الفلكية ما جرى، قيل: يا رسول الله: لو دعوت الله على المشركين بالهلاك لما فعلوا بك؟ فقال: «رحم الله أخي نوحا فإن غوغاء قومه ضربوه وكان يقول: اللهم لا تؤاخذ قومي فإنهم لا يعلمون، وأنا أقول: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون.» ولما بلغ الخبر إلى المدينة ذلك اليوم بما جرى عليه وعلى أصحابه خرج أهل المدينة يتعرفون أخبار إخوانهم فخرجت امرأة من الأنصار تسأل عن زوجها فقيل لها: إنه استشهد، فسألت عن أبيها فقيل لها مثل ذلك، فسألت عن أخيها فقيل لها مثل ذلك، فقالت: أليس قد سلم رسول الله؟ قالوا: نعم. فقالت: في بقائه عوض عن الكل، ومثل رضاء عثمان بن عفان لما دخلوا عليه ليقتلوه فقام عبيده وسلوا سيوفهم وقالوا: نقتل دونك؟ فرجع وكره وذكر قول أنس لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «افتح له الباب وبشره بأنه ولي هذه الأمة بعد عمر.» ووعده ببلوى تصيبه بهراقة دمه، فقال لعبيده: من رد سيفه إلى غمده فهو حر لوجه الله تعالى، وقعد في مجلسه وأخذ المصحف في حجره فقرأ: @QUR02 فسيكفيكهم الله، ورضي بقضاء الله، وعلم أنه مقتول، وانقاد للمقادير طيبة بها نفسه. ومثل رضاء الحسين رضي الله عنه يوم كربلاء لما اشتد به العطش وطلب الماء فقالوا له: تنزل على حكم ابن زياد حتى نخلي سبيلك؟ فقال: لا، ولكن على حكم الله. وعلم أنه مقتول، فقاتل حتى قتل راضيا بقضاء الله وبما جرت به المقادير طيبة بها نفسه.
واعلم يا أخي أن هذه النفوس التي تقدم وصفها إنما صارت راضية بقضاء الله الذي هو علمه السابق في خلقه، وصبرت بما جرت عليها المقادير المرة التي هي موجبات النجوم لما ترجو من الخيرات في المنقلب وما تنال من السعادة والروح والراحة بعد المفارقة، وما يقصر الوصف عنه، وإليها أشار بقوله: @QUR010 فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وقال تعالى: @QUR09 فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين الآية وقال: @QUR06 إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.
(8) فصل في أن من علامة المؤمنين المحققين ألا يخافوا ولا يرجوا إلا الله تعالى
ومن علامة المؤمنين المحققين ألا يخافوا ولا يرجوا إلا الله تعالى، كما أن الأولاد لا يخافون ولا يرجون إلا الآباء والأمهات، وهكذا الصبيان لا يخافون إلا من المؤدب ، والتلامذة لا يخافون إلا من الأستاذين، وهكذا الجند لا يخافون إلا من صاحب الجيش، والناس كلهم لا يخافون إلا من سلطانهم القادر على نفعهم وضرهم. وكما حكى عن الملائكة فقال: @QUR07 يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون فالملائكة لا يخافون إلا من ربهم، وهكذا العلماء، قال الله تعالى: @QUR06 إنما يخشى الله من عباده العلماء الذين يشاهدونه ويرونه كما قال: @QUR03 والشهداء عند ربهم، وكما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم حين سأله الأعرابي: ما الإحسان؟ فقال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك؛ فهذه الرؤية والمشاهدة بعين الحقيقة، وهي ألا ترى في الدارين أحدا غيره، كما قال المحقق شعرا:
ما شرب صفو صبابة أشجانها
حرق تأجج في الهوى نيرانها وسألت عن صفو الوداد فقيل لي
إيثار حبك قلت جر عنانها كل له وبه ومنه فأين لي
شيء فأوثره فطاح لسانها
(9) فصل في أن أول عمد الإيمان وأقوى أركانها هو الاتباع لأصحاب النواميس الإلهية
اعلم يا أخي أن أول عمد الإيمان وأقوى أركانها هو الاتباع لأصحاب النواميس الإلهية فيما يأمرون به من الطاعات وينهون عنه من المعاصي، وهو السمع منهم والطاعة لهم؛ وذلك أن أشرف أعمال البشرية وألذ أفعال الإنسانية وأعلى رتبة ينالها العقلاء مما يلي رتبة الملائكة هي وضع النواميس الإلهية. واعلم يا أخي أن لواضعي النواميس وأتباعهم خصالا كثيرة وشرائط عدة، قد ذكرنا طرفا منها في رسالة النواميس وطرفا في رسالة اعتقاد إخوان الصفا، وطرفا في رسالة عشرة الإخوان بعضهم لبعض.
واعلم أن مثل واضعي الناموس مع أتباعهم وما يسمعون منهم من العلوم وما يأتمرون به من سنن النواميس كمثل السماء وأمطارها والأرض ونباتها؛ وذلك أن كلام أصحاب النواميس وأقاويلهم كالأمطار، واستماع أتباعهم كالأرض، وما ينتج بينهما من فوائد العلوم من الآراء والأعمال كالنبات والحيوان والمعادن. وإلى هذه المعاني أشار بقوله: @QUR04 أنزل من السماء ماء يعني القرآن @QUR03 فسالت أودية بقدرها يعني حفظتها القلوب بمقاديرها من القلة والكثرة @QUR04 فاحتمل السيل زبدا رابيا يعني ما تحمل ألفاظه وظاهره معاني متشابهات حفظتها قلوب المنافقين الزائغة الشاكين المتحيرين @QUR05 ومما يوقدون عليه في النار مثل آخر يعني الجواهر المعدنية لها زبد عند السبك كزبد السيل، ثم قال: @QUR05 كذلك يضرب الله الحق والباطل يعني أمثال الحقائق والأباطيل @QUR04 فأما الزبد فيذهب جفاء؛ يعني الأباطيل والشبهات تذهب فلا ينتفع بها @QUR07 وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض؛ يعني ألفاظ التنزيل تثبت في قلوب المؤمنين المصدقين وتثمر الحكمة كما ذكر فقال عز وجل: @QUR015 ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء.
واعلم يا أخي أن الناموس لا يتم إلا بالأوامر والنواهي، والأمر والنهي لا ينفذان إلا بالوعد والوعيد، والوعد والوعيد لا يتمكنان إلا بالترغيب والترهيب، والترغيب والترهيب لا ينجعان إلا فمين يخاف ويرجو، والخوف والرجاء لا يظهران ولا يعرفان إلا عند اتباع الأمر والنهي، فمن لا يخاف شيئا ولا يرجو أملا فهو لا يرغب ولا يرهب، ومن لا يرغب ولا يرهب فلا ينجع فيه الوعد والوعيد، ولا ينجع فيه الأمر والنهي، ومن لا يأتمر لواضعي النواميس ولا ينتهي عن نواهيهم فلا يكون له نصيب في الناموس الإلهي البتة.
واعلم يا أخي أن الأمور التي يخاف منها في العاقبة ويرجى إليها الوصول في استعمال النواميس نوعان اثنان: أحدهما دنيوي والآخر أخروي، فأما الدنيوي مثل الرياسة وحسن الثناء والعز والمال ومتاع الدنيا ما دامت النفس مقرونة مع الجسد وما يبقى منها من الذرية والأعقاب بعد الممات، والأخروي هي نجاة النفس من بحر الهيولى وأسر الطبيعة والخروج من هاوية الأجسام - عالم الكون والفساد التي تحت فلك القمر - والفوز بالصعود إلى ملكوت السماء والدخول في زمر الملائكة والسيحان في فضاء الأفلاك وسعة السموات، والتنسم من ذلك الروح والريحان المذكور في القرآن الذي يقصر الوصف عنه إلا مختصرا، كما قال الله تعالى: @QUR09 فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين إلى آخر الآية.
(10) فصل في أن بغية كل طالب في استعمال أحكام الناموس هي البلوغ إلى الحق
اعلم أن بغية كل طالب في استعمال أحكام الناموس هي البلوغ إلى الحق وحكم الصواب وعمل الخير وتجنب الزور والبهتان.
واعلم أن الحق هو غاية ليست وراءها نهاية، ولكن دونها أمور متشابهة مشكلة. واعلم أن الألفاظ محتملة للمعاني والأوهام تذهب في طلبها كل مذهب، فينبغي لك إذا سمعت لفظة محتملة للمعاني ألا تحكم عليها حكما دون أن تبين بعقلك كل المعاني التي تحتملها تلك اللفظة لعلك تفهم الغرض الأقصى الذي هو الصواب، وتبلغ الغاية القصوى التي هي الحق.
واعلم أن غرض واضعي النواميس الإلهية بعيد الغور جدا في أحكام النواميس لا يتصور لك في أول وهلة، ولكن بعد النظر الشافي والبحث الشديد، ونريد أن نضرب لذلك مثلا ليكون قياسا على ما قلنا ووصفنا:
ذكر في المثال أنه كان رجلان اصطحبا في طريق على سفر، فلما انتهيا إلى شاطئ نهر قعدا للغداء فأخرج كل واحد زاده، فكان مع أحدهما رغيفان ومع الآخر ثلاثة أرغفة، فكسراها في موضع واحد ليأكلاها؛ إذ مر بهما مجتاز فدعوه إلى طعامهما فأجاب وجلس وأكل معهما، فلما فرغوا قام ورمى بين يديهما خمسة دراهم وقال: اقسموها بينكما بالسوية، ومضى هو لسبيله، فقال صاحب الرغيفين لصاحبه: لك النصف ولي النصف الباقي؛ لأنه قال بالسوية، وقال صاحب الثلاثة الأرغفة: بل العدل أن يكون لي ثلاثة دراهم ولك درهمان؛ لأنه قال بالسوية بحسب الرغيفين، فتنازعا وتحاكما إلى قاض من حكام الناموس، فحكم بينهما أن لصاحب الرغيفين درهما واحدا ولصاحب الثلاثة أربعة، وكان هذا الحكم هو الحق وغاية الصواب.
فتفكر يا أخي فيه، فإن فهمت معناه وتوجه لك الصواب فأنت فقيه بأحكام الناموس، وإن ذهب عليك فيه وجه الصواب وغاية الحقيقة فاذهب إلى حاكم الناموس؛ ليعرفك وجه الصواب وحقيقة المعنى.
واعلم يا أخي أن كثيرا من العقلاء الذين يتعاطون الفلسفة والنظر في المعقولات إذا فكروا بعقولهم في أحكام الناموس وقاسوها بآرائهم وتمييزهم وفهمهم يؤديهم اجتهادهم وقياساتهم إلى أن يروا ويعتقدوا في كثير من أحكام الناموس أن العدل والحق والصواب في خلافه، كل ذلك لقصور فهمهم وقلة تمييزهم وعجز معرفتهم عن كنه أسرار أحكام الناموس.
مثال ذلك أنهم إذا فكروا في حكم المواريث: أن للذكر مثل حظ الأنثيين فيرون أن الصواب كان أن يكون للأنثى حظ الذكرين؛ لأن النساء ضعفاء قلائل الحيلة في اكتساب المال. ولا يدرون ولا يبصرون أن هذا الحكم الذي حكم به الناموس سيئول الأمر به إلى ما أشاروا إليه وأرادوه؛ وذلك أن الناموس لما ذكر حكم للذكر مثل حظ الأنثيين حكم أيضا أن المهر في التزويج على الرجال للنساء؛ فهذا الحكم يئول الأمر به إلى أن يحصل للأنثى من المال مثل حظ الذكرين.
مثال ذلك: لو أنك ورثت من والدك ألف درهم وورثت أختك خمسمائة درهم فإذا تزوجت أخذت مهرها خمسمائة درهم أخرى فيصير معها ألف درهم، وأنت إذا تزوجت وأمهرت خمسمائة درهم بقي معك من المال نصف ما مع أختك، فعلى هذا القياس قد آل الأمر في حكم الناموس إلى ما أرادوا وأشاروا إليه، فهكذا ينبغي أن يكون نظرك في أحكام الناموس حتى يتبين لك وجه الصواب فيها وغاية الحق.
واعلم أن نظر واضعي الناموس في موجبات أحكامه ليس بنظر جزئي يريد صلاح بعض دون بعض ولا عاجل دون آجل، بل نظره كلي يريد الصلاح للكل والخير للعاجل والآجل جميعا بالنظر في العواقب وما يئول الأمر إليه في المنقلب كما بينا في رسالة الناموس.
(11) فصل في أن الإنسان لا يخلو من حالتي الشدة والرخاء
اعلم يا أخي أن الإنسان لا يخلو من حالتي الشدة والرخاء، والمؤمن في كلتا حالتيه لا يعرض عن طاعة الله؛ وذلك أنه إذا كان صحيح الجسم قوي البدن غني المال عريض الجاه متفضل الآداب قادرا على ما يشاء ممكنا لما يريد؛ فهو مع هذه الحالات كلها يكون متكلا على الله مستندا إليه مستعينا به متبرئا من حوله وقوته إلا بالله، كما قال سليمان، عليه السلام: @QUR08 هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر، وأما الكافر فهو في هذه الحالات كلها يكون راجعا إلى نفسه وحوله وقوته ومشيئته وإرادته واجتهاده وحيلته متكلا على أسبابه معرضا عن ربه ناسيا ذكره كما قال قارون: @QUR05 إنما أوتيته على علم عندي.
وأما حال الشدة والبلوى فالمؤمن يكون فيها صابرا بقضاء الله راضيا مقبلا إليه بحكم الله حامدا له حسن الظن به، راجيا لرحمته سائلا عفوه مستسلما لأحكامه، كما ذكر الله تعالى بقوله: @QUR010 الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، وأما الكافر فإنه يكون سيئ الظن بالله ضجور النفس جزعا من الشدائد، ساخطا على المقادير ذاما لأسبابه آيسا من روح الله قنوطا من رحمته، كما ذكر الله: @QUR012 ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به إلى آخر الآية.
(12) فصل في الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة
ومن شرائط الإيمان وخصال المؤمنين الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، كما رغب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: @QUR05 وللآخرة خير لك من الأولى وقال: @QUR08 بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى وآيات كثيرة في القرآن في التزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة.
واعلم يا أخي أن الإنسان مطبوع على ألا يترك النفع الحاضر العاجل ويزهد فيه ويطلب الغائب الآجل ويرغب فيه إلا بعدما يتبين له فضل الآجل على العاجل.
واعلم أن المؤمنين والحكماء والأنبياء إنما زهدوا في الدنيا وتركوا عاجل شهواتها، ورغبوا في الآخرة وطلبوا آجل نعيمها؛ لما تبين لهم حقيقة الآخرة وعرفوا فضل نعيمها على نعيم الدنيا، وشاهدوها بعيون قلوبهم ونور عقولهم كما شاهد أبناء الدنيا أمورها بحواسهم.
واعلم يا أخي أن الطريق إلى معرفة حقيقة الآخرة ومشاهدة أحوالها بالاعتبار والتفكر في أمور الدنيا، والمقايسة بينها وبين أمور الآخرة بالعقول السليمة من الآراء الفاسدة والنفوس الصافية من الأخلاق الرديئة ونتائج المقدمات الصحيحة الضرورية.
بيان ذلك أن العاقل اللبيب إذا فكر في قول الجمهور من الناس وتسميتهم هذه الدار التي نشئوا فيها باسم الدنيا وذمهم نعيمها يدل على الدار الآخرة وشرفها؛ لأن لفظة الدنيا تدل على الأخرى، كما أن لفظة الأخرى تدل على الأولى؛ لأنهما من جنس المضاف .
ومن وجه آخر إذا اعتبرت أحوال الناس في الدنيا وجدتهم كلهم طائفتين: أخيارا أو أشرارا، فأما الأخيار فهم الذين يعملون من أعمال ما رسم لهم من النواميس الإلهية، ويفعلون ما أوجبته العقول السليمة، ولا يطلبون على ذلك عوضا من جر منفعة إلى أجسادهم أو دفع مضرة عنها، فعند ذلك يقال لهم أخيار على الإطلاق، وأنهم من أبناء الآخرة، وأما الذين يطلبون العوض فيما يعملون من الخير والشر من جر المنفعة إلى أنفسهم أو دفع المضرة عنها ولا يفكرون في المعاد، ولا يرجون في الآخرة الخير ولا يخافون العقاب ولا يهمهم أمر النفس ولا النظر في حالها بعد الموت، فيقال عند ذلك: إنهم أشرار، وإنهم من أبناء الدنيا.
ووجه آخر إذا اعتبرت أحوال هؤلاء الأخيار الذين تقدم ذكرهم وأنهم قد أفنوا أعمارهم كلها فيما وصفنا من أعمال الخير، ثم ماتوا ولم يحصل لهم عوض على ما عملوه قبل الموت، تتعلم العقول وتقضي بالحق أن ذلك لا يضيع عند الله شيء فيصبح بهذا الاعتبار أن بعد الممات - الذي هو مفارقة النفس الجسد - حالة أخرى يجازى فيها الأخيار وهي التي تسمى الدار الآخرة، وهكذا إذا اعتبر حال الأشرار الذين سعوا في الأرض بالفساد طول أعمارهم ثم ماتوا ولم يعاقبوا على ما فعلوا، فتعلم العقول وتقضي أن هؤلاء لم يفوزوا وأن حالهم بعد الممات ليس كحال أولئك الأخيار، وذلك قوله تعالى: @QUR017 أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون.
هذا وإذ قد ذكرنا طرفا من خصال المؤمنين وشرائط الإيمان وخصال الكافرين وماهية الكفر، فنريد أن نذكر طرفا من علم المؤمنين الراسخين وخصال العارفين المستبصرين الذين هم ورثة النبيين وأنصار المرسلين وإخوان الصديقين المتألهين الربانيين الذين هم في أعلى رتبة الإنسانية مما يلي رتبة الملائكة أعلى عليين، ونذكر أيضا طرفا من صفة إخوان الشياطين الضالين المضلين الذين هم في أدون رتبة الإنسانية مما يلي رتبة البهيمية أسفل السافلين.
(13) فصل في أن العلوم كلها شريفة
اعلم يا أخي أن العلوم كلها شريفة فيها عز، ولكن أشرفها وأجلها هي معرفة الإنسان حقيقة جوهره وما تتصرف به الأمور حالا بعد حال إلى أن يبلغ إلى أقصى مدى غايته الذي هو قاصد نحوه وهو أن يلقى ربه إما في الدنيا قبل فراقها، وإما في الآخرة بعد الفراق.
واعلم يا أخي أن هذا الباب من العلم هو لب ذوي الألباب وجذر العلوم وعنصر الحكمة، فاجتهد في طلبه فإنك به تنال شرف الدنيا وسعادة الآخرة، وقد بينا طرفا من هذا العلم في رسائلنا الطبيعية ووصفنا فيها كيفية ما يتصرف به الإنسان من الأمور حالا بعد حال من يوم مسقط النطفة إلى يوم يموت وتفارق روحه جسده، وقد بينا أيضا طرفا في رسائلنا العقلية مما تصير إليه الأنفس الجزئية بعد مفارقة أجسادها، ووصفنا كيفية ما تتصرف بها الأحوال إلى يوم يبعثون، ونريد أن نذكر في هذه الرسالة أشرف الأمور التي تنال الإنسان في الدنيا وأعلى رتبة يبلغ إليها قبل الموت ما هي؟ ولكن قبل ذلك نحتاج أن نبين أولا ما الإنسان؟ إذ كان هو من أعجب الموجودات التي تحت فلك القمر وأشرفها تركيبا وأحسنها صورة، ثم نخبر بعد ذلك عن الأمور التي ينالها ويبلغ إليها فنقول:
إن الإنسان إنما هو جملة مجموعة من جسد جسماني في أحسن الصور، ومن نفس روحانية من أفضل النفوس. واعلم يا أخي أن لكل واحد من جزأيه غاية إليها ينتهي، ونهاية إليها يرتقي. فأعلى رتبة ينالها الإنسان بجسده وأشرف رتبة يبلغها ببدنه هي سرير الملك والعز والسلطان على أجساد أبناء جنسه، والقهر والغلبة بالقوة الغضبية، وأما أعلى رتبة ينالها الإنسان من جهة نفسه وأشرف درجة يبلغها بصفاء جوهرها فهي قبول الوحي الذي به يعلو الإنسان على سائر أبناء جنسه، وبه يغلبهم بما يدرك من المعارف الحقيقية بالقوة الناطقة. ولما تبين أن النفس أشرف جوهرا من الجسد صارت الرتبة التي ينالها الإنسان بنفسه أشرف وأعلى من التي ينالها بجسده؛ لأن هذه جسمانية دنيوية وتلك روحانية أخروية. ولما قد تبين أن الوحي هو أشرف موهبة قد يجدها الإنسان في الدنيا أردنا أن نبين ما الوحي؟ وكيف قبول النفس له؟ فنقول:
إن الوحي هو إنباء عن أمور غائبة عن الحواس يقدح في نفس الإنسان من غير قصد منه ولا تكلف.
وأما قبول النفس الوحي فعلى ثلاثة أوجه: منها ما يكون في المنام عند ترك النفس استعمال الحواس، ومنها ما يكون في اليقظة عند سكون الجوارح وهدوء الحواس، وهما نوعان: إما استماع صوت من غير رؤية شخص بإشارات دائما، وإما استماع كلام من غير رؤية شخص كما قال الله تعالى: @QUR017 وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه.
وسنوضح كيفية كل واحد من هذه الوجوه الثلاثة، ونبدأ أولا بوصف قبول النفس الوحي في المنام كيف يكون؟ إذ كان هو أعم وأكثر، ثم نذكر الذي يكون في اليقظة إذ كان هو أخص وأقل فنقول:
وقد ذكرنا طرفا من ذلك في رسالة تركيب الجسد وطرفا في رسالة الحاس والمحسوس، وطرفا في رسالة أن الإنسان عالم صغير، ولكن نريد أن نذكر من ذلك طرفا في هذا الفصل فنقول:
إن من الدليل الواضح على أن مع جثث الحيوانات جوهرا آخر غير جسماني هو ما يظهر من أجسادها من الحس والحركة والأصوات والأفعال في حال الحياة ما لا خفاء به، وفقدانها كلها في حال الموت دليل على مفارقة تلك الجواهر من أجسادها .
ومن الدليل أيضا على وجود النفس مع الجسد وفراقها بعد الموت بكاء الناس على موتاهم وحزنهم على فراق تلك النفوس، ولو كان هذا الحزن والبكاء على الأجساد فما لهم والبكاء والأجساد عندهم برمتها؟ ولو أرادوا أن يحفظوها من التغيير والفساد لكان يمكن بأدوية تطلى عليها مثل الصبر والكافور والعسل وما شاكلها، ولكن لا ينفعهم ذلك من البكاء والحزن إذا فارقتها تلك الجواهر الشريفة. ومن الدليل البين على أن النفس جوهر هو أفعالها الصادرة عنها من غير استعمالها آلات الحواس وحركات الجوارح؛ وذلك أن الإنسان إذا أراد أن ينظر في علم غامض ويبحث عن معنى دقيق حتى يفهمه يحتاج إلى أن يسكن حركات جوارحه ويترك تأمل محسوساته، ويغوص في فكرته حتى يمكنه أن يتصور ذلك الشيء ويفهم ذلك المعنى، فإذا فعل ما وصفنا فربما يجتاز به من يسلم عليه أو يكون بحضرته من يكلمه فلا يسمع ولا يحس إذا كان غائصا في فكره؛ يعرف حقيقة ما قلنا كل عاقل قد ارتاض في علم من العلوم.
فإن قال قائل: إن النفس وإن كانت قد تركت استعمال الحواس وتحريك الجوارح في مثل هذه الحال فإنها لم تترك استعمال البدن كله؛ لأن الفكر لا يكون إلا بوسط الدماغ، كما أن النظر لا يكون إلا بالعين، والسمع لا يكون إلا بالأذن وكذلك سائر الحواس.
ولعمري إن القول كما قال، ولكن إنما نحن أردنا أن نبين بهذا المثل أن النفس جوهرة عاقلة، وهي المستعملة للدماغ والقلب وسائر الحواس والجوارح، وهي آلات لها وأدوات يظهر بها بعض أفعالها، ولكن لها أفعال أخر لا تحتاج فيها إلى أدوات جسدانية ولا آلات جسمانية وهي رؤيتها المنامات وعجائب تصاريفها فيما يرى أكثر الناس من الرجال والنساء والصبيان والجهال والعلماء والأخيار والأشرار جميعا ما لا يرون في حال اليقظة مثلها.
(14) فصل فيما وقع لابن ملك
من ذلك ما ذكر أن ابن ملك وقع في أيدي عدو له فاستعبده وكلفه الخدمة الشديدة والأعمال الشاقة مع قلة المطعم والمشرب والعري والضرب والشتم والاستخدام ، حتى ذهبت قوته وهرم شبابه ونحل جسمه وضعف سمعه وكل بصره، واسترخت مفاصله وعقل لسانه، ثم حبسه في مطمورة ضيقة، وطال حبسه واشتد جوعه وعطشه وغمه وحزنه حتى غشي عليه من الجهد والبلوى والضر الذي هو فيه.
فبينما هو ذات ليلة مفكر فيما هو فيه من العناء والشقاء والجهد والبلوى فنام ورأى فيما يرى النائم كأنه في دار مملكته على سرير عزه وقد رجعت إليه أيام شبابه وقوة بدنه وطراوة جسمه وصحة حواسه ونشوة شهواته، وإذا هو في بستان من البساتين التي كانت له كثيرة الأشجار تحتها الأنهار تجري وعلى حافاتها رياحين وزهر ونور يفوح منها مثل نسيم الجنان، وإذ هو بفتيان شبان أتراب إخوان كانوا له من أولاد الملوك، عليهم لباس الجمال، وهم قعود على كراسي موضوعة على تلك الأنهار، وبأيديهم التحف، يحيي بعضهم بعضا بالسلام، فلما رآهم ورأوه، وعرفهم وعرفوه، واستبشروا به لطول غيبته عنهم، وفرح بهم لبعد غربته منهم، فرفع في صدر المجلس وأقبلوا عليه بالتحية والسلام، وداخله من الفرح والسرور واللذة ما لا يوصف ولا يقال.
فماذا ترى يا أخي؟ أيهما خير لذلك الرجل وأحب إليه أن يبقى طول الدهر نائما ملتذا مسرورا فرحا بما تراه نفسه من ذلك المنام، أو ينتبه فيحس بما فيه جسده من تلك الآلام؟ وماذا ترى وتقول لمن يزعم أن الإنسان إنما هو الجسد، وأن النفس لا حقيقة لها، وأن تلك الآلام واللذات والفرح والغم والسرور والحزن كلها ينالها الجسد؟ فلم لا ينال الجسد في حال النوم تلك الآلام والغم والحزن والذي به من الجهد والبلوى وهو موجود برمته، وتلك الأحوال باقية عليه عند رؤية نفسه مثل هذا المنام ونيلها ذلك الفرح السرور؟
(15) فصل فيما وقع للعراقي
وذكروا أيضا أن رجلا بالعراق أصلح مجلسا للشرب ودعا إخوانا له، فلما فرغوا من الأكل وقعدوا للشرب، وارتفعت أصوات العيدان والمزامير ودار الشراب فيهم وطرب القوم؛ نام رجل منهم عند ذلك مما هم فيه من اللذة والسرور فرأى دارا حسنة وستورا وفرشا وأواني ورياحين وفواكه وشموعا تزهر ومجامر تبخر، وقد امتلأ حول الإيوان من الضياء والروائح والنعيم، ورأى فتيانا عليهم زين الجمال ومحاسن الكمال، فبقي متفكرا متعجبا بما يرى ويسمع ويشم من محاسن المحسوسات وما تلتذ منه الحواس وتفرح الأرواح وتسر النفوس، ونعس وغاص في نومه حتى لم يحس بشيء مما كان في المجلس من تلك المحسوسات.
ثم رأى فيما يرى النائم كأنه في بلاد الروم في كنيسة من كنائس النصارى وهي مشتعلة بالقناديل منقوشة بالتصاوير مملوءة من الصلبان، وإذا هو بين قوم من القسيسين والرهبان عليهم ثياب المسوح وعلى أوساطهم مناطق من السيور، وبأيديهم مجامر معلقة وهم يطرحونها ويبخرون فيها القسط[2] والكندر، وهم يقرءون كلمات لهم شبيهة بالتسبيح ويلحنونها ويكررونها حتى حفظها الرجل من تكرارهم لها وهي هذه: كسنى وسحرة قليلا وأبان، محمد حين بنسا إلى بما، ومعناها بالعربية: إن الأخيار يسبحون الله تعالى بالليل فهم أحياء عنده وإن كانوا قد ماتوا، وأما الأشرار الظلمة فهم موتى عند الله وإن كانوا في الدنيا أحياء. ورأى قوما من الأساقفة بأيديهم أقداح مملوءة خمرا، وفي مناديل لهم أقراص برسان يفرقونها على القوم ويحسونهم من ذلك الخمر، فتناول ذلك الرجل من تلك الأقراص واحدة بحرص ورغبة وتحسى من ذلك الشرب من شدة الجوع والعطش وهو لم يستمرئ بعد ما قد تعشى بالعراق، ثم ما زالت تلك حاله وهو متعجب ومتفكر كيف وقع بالروم وحصل في تلك الكنيسة؟ وكيف الرجوع إلى العراق مع طول المسافة؟ ثم تذكر إخوانه في مجلسهم وما تركهم فيه من اللذة والسرور؛ فاشتد شوقه إليهم وضجره بمكانه وما يرى من الأشياء المخالفة للسنة والشريعة التي هو فيها، المضادة لطبيعته وعادته، فضاق صدره واضطرب في منامه من ضجره فانتبه فإذا هو بالعراق في مجلسه ومكانه بين إخوانه، وتلك الشموع وتلك الأصوات وتلك الروائح التي تأملها قبل نومه بحالها لم يتغير شيء منها. فقل يا أخي لمن يزعم أن النفس لا حقيقة لها، وأن الحساس الدارك الذي يعلم الأشياء ويفكر فيها هو هذا الجسد حسب لا شيء آخر معه! وقل من الذي ذهب إلى الروم ورأى تلك الأمور في الكنيسة وأكل وشرب وحفظ تلك الكلمات، الجسد أو النفس؟ وقل من الذي كان حاضرا بالعراق بالمجلس، النفس أو الجسد؟ وقل لم لم يكن الجسد يحس في حال النوم تلك المحسوسات التي كانت معه في ذلك المجلس من الأصوات والضياء والروائح وهي موجودة هناك برمتها بعينين وأذنين ومنخرين؟ فإن زعم أن المنامات لا حقيقة لها فماذا تقول في قول الله تعالى: @QUR013 لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين وقول يوسف الصديق: @QUR09 هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقول إبراهيم، عليه السلام، لابنه إسماعيل: @QUR015 إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر، فلو لم يكن إبراهيم عليه السلام، يعلم بأن المنامات لها حقيقة وأن الرؤيا صحيحة لما كان يعزم على ذبح ابنه برؤيا رآها في منامه؟ وكذلك إسماعيل لو لم يعلم صحة ذلك لما قال: @QUR03 افعل ما تؤمر ولما كان يستسلم للذبح.
ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الرؤيا الصادقة جزء من أجزاء النبوة.» وقال: «قد ارتفع الوحي وبقيت الرؤيا الصادقة.» فلو علم من يزعم أن المنامات لا حقيقة لها أن أكثر الأنبياء عليهم السلام كانوا يقبلون الوحي في المنام عند ترك النفس استعمال الحواس لما قال هذا القول، ولما أنكر وجود النفس.
هيهات قد جهل أشرف العلوم وخفي عليه أصل المعارف وبعد من الصواب وحرم أفضل المواهب من يزعم أن المنامات لا حقيقة لها، وأن النفس لا وجود لها، ولكن نسأل الله أن يهديهم ويفتح قلوبهم ويشرح صدورهم؛ ليفهموا دقائق العلوم ولطائف الأسرار؛ فإنه من لم يهده الله فلا هادي له @QUR010 ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
(16) فصل في حكاية الرجل المترف
وذكر أيضا أن رجلا من المترفين وأرباب النعم ممن قد بسط له في دنياه ومكن له فيها جعل أكثر جهده وكده طول عمره ليلا ونهارا في تنعم بدنه ورفاهة جسمه ولذة عيشه وإصلاح شهواته، حتى لم يكن له طول نهاره شغل إلا دخول الحمام وحلق رأسه وتمريخ بدنه أو تغيير لباسه أو تبخير ثيابه وبدنه واستنشاق طيبه، أو تنقلا من مجلس إلى مجلس في تجديد لذاته وإصلاح شهواته، حتى لم يكن يأكل ولا يشرب إلا أطيب الطعام وألذ الشراب، ولا يلبس إلا أنعم اللباس، ولا يقعد إلا على أوطأ المراكب وألين الفرش، وكان لم يكن ينام إلا على سرير معلق في الهواء في وسط قبة له؛ مخافة دبيب يعرض له أو غبار يصيبه، فعاش بذلك زمانا طويلا حتى شهر في الناس بطيب عيشه ولذيذ شهواته، وجعل الراغبون في شهوات الدنيا يتمنون حاله ويغبطونه على ما هو فيه، ويتشبه به المترفون من أهل زمانه وأرباب النعم، كل واحد بحسب إمكانه واتساع حاله، حتى صار قدوة لطالبي اللذات في اتباع الشهوات.
وكان مع هذه الحال كلها لم يكن يعرف شيئا من إصلاح نفسه ولا تحسين أخلاقه، ولا تفقها في الدين ولا تزودا لآخرته، ولا تفكرا في أمر معاده، ولا رغبة في علم ولا طلبا لأدب، ولا فكرة في زوال الدنيا ولا ذكرا للموت، بل كان مقبلا على طلب شهواته محتقرا لأمور الناس مزريا من دونه معرضا عن الفقراء، هاجرا لأهل العلم متهاونا بأمر الدين.
ثم أراد الله تعالى أن ينبهه من نوم غفلته ورقدة جهالته، ويري للعباد قدرته ويجعله عبرة لغيره وعظة لمن سواه، فبينما هو ليلة نائم على فراشه فوق سريره معانقا لحبيبته وأبواب داره مغلقة وستوره مسبلة، وحول سريره شموع تزهر، وعلى أبواب داره خدمه وغلمانه مستيقظين؛ إذ رأى فيما يرى النائم كأنه في برية قفرة وحده وهو عريان جائع عطشان وبدنه مسود وشعره طويل وجسده ملوث برجيع ما في جوفه، وعلى ظهره ثقل ثقيل، وإذا هو بأسودين منكرين خلقتهما طويل قامتهما وعيونهما تبرق، ومن مناخرهما يخرج الدخان، ومن شدقيهما تلتهب النيران، وبأيديهما حراب حداد، وهما يقربان نحوه ليأخذاه ، فلما رآهما ولى هاربا من بين أيديهما وهما يتبعانه حتى إذا أمعن في هربه إذا هو بجبل شاهق فيه طريق ضيق وعر مسلكه، فسلكه بمشقة شديدة وعناء طويل، حتى إذا انتهى إلى قمته هوى من الجانب الآخر في واد منكسا على رأسه حتى وقع في بئر يخرج منها دخان معتكر يأخذ بالأنفاس ولهب يشوي الوجوه، والأسودان في أثره لا يفارقانه، فمن هول ما رأى وعظم ما عاين وشدة ما لقي صرخ في منامه صرخة واضطرب اضطرابا شديدا، ووقع من سريره إلى الأرض، وانتبه كل من كان في داره ومن حوله من جيرانه من شدة زعقته، وطاش عقله وشخصت عيناه وارتعدت مفاصله وعقل لسانه، واجتمع حوله كل من كان في داره من خدمه وغلمانه وأقربائه يسألون: ما الذي أصابه؟ فلم يطق جوابا بقية ليلته حتى أصبحوا وجمع له المعزمون والراقون، وظنوا أنه أصابه لمم من الجن أو سحر من الأعداء ووسواس من الشيطان.
فقال لهم: ليس بي ما تظنون، ولكن رأيت رؤيا هالتني وأفزعتني وأدهشتني فجمع له المعبرون وقصت عليهم رؤياه، فقال بعضهم: أضغاث أحلام، وقال بعضهم: هذا من خلط سوداوي ومزاج غليظ، وقال آخر: لا، بل فكر رديء وتخيل فاسد، وقال آخر: لا، بل هو من الجن.
وجعلوا يرجمون الظنون حتى جنهم الليل فجمع خدمه وغلمانه وأقرباءه في مجلس واحد حول سريره، ونام هو بينهم فوق فراشه، وجعلوا يقرءون الرقى والعزائم والعوذ ويبخرون الدخن، حتى كان ذلك الوقت من الليل، فإذا هو برؤياه تلك بعينها بل ما هو أعظم وأهول وأصرخ، ففزع من فراشه وأفزع كل من كان حوله، ثم أدركوه وجعلوا يسألون عنه وهو مرتعد مرعوب لا ينام ولا ينامون توجعا له إلى الصباح.
وتسامع الناس بخبره، وجمعت له الأطباء فوصفت له الحمية والاستفراغ والشربة، وظنوا أنه نافع من هذا العارض، ففعل وما نفع شيء.
فلما كان من الأسبوع الداخل في مثل ذلك الوقت من الليل فإذا هو برؤياه بعينها، بل ما هو أعظم وأهول فانتبه مرعوبا مرتعدا إلى الصباح ما نام.
فلما كان من الغد جمع له المنجمون والمعزمون والعرافون وسئلوا عن موجبات أحكام النجوم؟ فذكروا أن مثل هذا العرض إنما يعرض للإنسان من أجل أنه يكون في أصل مولده من استيلاء النحوس على درجة طالعه أو أحد الأوتاد في تحويل السنين والشهور، فقيل لهم: فما الدواء النافع فيه والمنجي له؟ فقالوا: نختار له يوما يكون القمر متصلا بالسعود، وطالعا جيدا يكون السعد في الأوتاد والنحوس سواقط عنها، ويتحول من ذلك الوقت من بلد إلى بلد، أو من محلة إلى محلة أو من دار إلى دار.
ففعل ذلك وما نفع الدواء له، وشاع حديثه في الناس، وتسامعت به الأخبار في البلاد، وصار موضع رحمة بعد أن كان بحال غبطة، وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس خائفين أن يصيبهم مثل ما أصابه من البلوى والمحن، وجعل أهل المدينة ليس لهم حديث في مجالسهم ومحالفهم إلا حديثه، ولا عظة إلا ما أصابه.
فبينما يوما جماعة من جيرانه قعود على الطريق في حديثه إذ مر بهم رجل يعرف بالناسك - وكان من أهل العلم والدين والسر قد رزق العلم والإيمان - فقيل له: كيف غمك على فلان جارك؟ قال: كغم أب مشفق طبيب على ولد عليل.
فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: لأن عندي تأويل رؤياه ودواء دائه.
فقيل له: لم لا تقصده وتعرفه ما عندك؟ قال: لأنه لا يسمع قولي ولا يقبل نصيحتي.
فقالوا له: ولم ذاك؟ قال: لأن أزهد الناس في علم الرجل جيرانه، ولكن أخبركم أنا وعرفوه أنتم ولا تذكروني عنده؛ فإني خائف ألا يقبل استصغارا لما أقول، أو يعمل من غير يقين فلا ينفعه، قالوا له: عرفنا نسمع ما تقول؟ فقال: أما رؤياه البرية القفرة فهو براءته من الدنيا وبراءتها منه يوم يموت.
وأما فقره فهو فقره بعد الموت وشدة الحاجة في الآخرة إلى الزاد.
وأما عريه فهو عري من الأعمال الصالحة التي لها ثواب الآخرة، وأما جوعه وعطشه فهو رغبته وحرصه في طلب شهوات الدنيا.
وأما سواد بدنه فهو سواد وجهه عند الله لسوء أعماله، وأما طول شعره فهو شعور حزن طويل في الآخرة.
وأما تلويث بدنه برجيع ما في جوفه فهو خوف واكتئاب يناله في الآخرة، ويتمنى الرجعة إلى الدنيا ولا سبيل له إلى ذلك.
وأما الثقل الذي رأى على ظهره فهو ثقل أوزاره وسوء أعماله.
وأما الشخصان المنكران فهو منكر أفعاله ونكير أخلاقه وسوء عاداته لا يفارقان نفسه وحيثما ذهبت يتبعانها.
وأما الجبل الشاهق فهو جبلته وعادته التي هو عليها مشقة، والشاهق شقاء يناله بعد الموت إلا أن يتوب ويرجع إلى الله عن إثمه.
وأما المسلك الوعر فهو طريق الآخرة التي لا بد من سلوكها بنصب وعناء.
وأما الوادي فهو وادي جهنم، والبئر المهوي هي الهاوية التي إليها تصير نفوس الأشرار وأرواح الفجار.
فقولوا له: إن هو بادر وتدارك وتلافى قبل الموت وإلا فسيكون مصير نفسه إلى هناك بعد الموت، فإن الله تعالى أراد بهذه الرؤيا أن يعظه ويذكره وليتوب ويرجع عما هو فيه من الغفلة في أمر الآخرة والحرص على الدنيا.
فقالوا له: فما دواؤه؟ قال: ينوي نية صادقة ويعزم عزما صحيحا ويرجع إلى الله ويتوب مما قد سلف ويتصدق بشطر من فضول ماله على الفقراء والمساكين، ويلبس من خشن الثياب ما يواري العورة، ويصوم في كل أسبوع يومين، ويمشي إلى المساجد خاضعا ويتفقه في الدين، ويستعمل القرابين، ويصلي في ظلمة الليل، ويستغفر في الأسحار، ويسأل الله تعالى أن يكشف ما به وأنه تعالى يفعل ذلك إن شاء.
فقام القوم من ساعتهم ودخلوا عليه وعرفوه بما أصابه ومما هو خائف مترقب له، ثم أخبروه بما قال الناسك، فقال لهم: من أين لكم هذا التأويل؟ ومن وصف لكم هذه الرؤيا؟ فقالوا: أخبرنا العالم في الدين الناصح الذي لا نشك فيما قاله، فقبل قولهم وجمع جماعة من العلماء والفقهاء وأهل المدينة فأخبرهم بما قيل له، فقالوا: حقا ما قيل وصوابا ما وصف.
فسألهم عند ذلك عن التوبة النصوح كيف تكون؟ وعن فقه الدين وطريق الآخرة وأمر المعاد وصفة الجنان وثواب الأخيار ؟ وأين يكون منقلب الأشرار؟ فوصفوا له ما هو مذكور في كتب الأنبياء عليهم السلام فقبل ما قالوه وفعل ما أمروه بين شك ويقين وخوف ورجاء. فلما كان في الأسبوع الآخر مثل ذلك اليوم صام نهاره وتصدق عند إفطاره وأكل يسيرا من الطعام وقام يصلي ليلته، فلما كان من ذلك الوقت وهو ساجد إذ غلبه النوم، فرأى في منامه كأنه في تلك البرية بعينها، وقد أخضرت من العش والكلأ، وقد تفتحت أزهار الرياحين وفاح نسيمها، فإذا هو على رأس قمة عليها عين من الماء الزلال، وكأنه قد اغتسل من مائها فتناثر عن بدنه ذلك الشعر والدرن، وقد ألبس ثيابا جددا تفوح منها رائحة الطيب، وإذا هو بشخصين قائمين أمامه كأنهما صورتان من النور تشف أبدانهما، عليهما زي الجمال ومحاسن الكمال ورونق الشباب وهيبة الوقار، وهما مبتسمان في وجهه كالمستبشرين له يشيران إليه بالنظر إلى قدام، فلما تأمل فإذا هو بفضاء فسيح يقصر دونه الطرف، وإذا هو بأنوار قد ملأت الآفاق من الضياء، وإذا في ذلك الفضاء رياض خضر كأن بينها نسج الديباج من الزهر والنور والزعفران، وإذا في وسطها أنهار تجري على أرض بيضاء كأن حصاها الدر والياقوت والمرجان، وعلى حافات تلك الأنهار أشجار كأن أوراقها الحرير والسندس والأرجوان، وإذا هب نسيم تخشخشت أوراقها كأنها أصوات نغمات أوتار العيدان، وبين تلك الأوراق ألوان الثمار متفننة الأشكال والطعوم والألوان، وإذا بين ذلك قصور شاهقة كأنها جبال من رخام، أبوابها مفتحة، وصحون واسعة، وإيوانات متقابلة، فيها سرر موضوعة عليها فرش مرفوعة ونمارق مصفوفة، وبينها سادة كرام متكئون متقابلون عليهم زين الجمال ومحاسن الكمال وهيبة الوقار، بأيديهم التحف يسعى بينهم ولدان وغلمان وجواري حسان أتراب مبرقات بالمحاسن والجمال، فلما رأى تلك المحاسن قال لصاحبيه: ما هذه؟ قالا: هي الجنة، دار السلام ومعدن الأرواح ومسكن نفوس الأخيار ومستقر الأبرار، فإن أنت دمت على ما أنت عليه إلى الموت فسيكون مصيرك إلى هناك بعد مفارقتها جسدها، فتجد لذة العيش وسرور النعيم صافيا بلا تنغيص ما بقي الدهر، فمن فرح ما سمع وسرور ما بشر استفزه ذلك فانتبه داهشا متفكرا يتمنى عسى أن ينام فيرى تلك الرؤيا ثانيا بعد أن كان كارها للنوم مخافة أن يرى رؤياه الأولى، فلما أصبح تصدق بجميع ماله، وأعتق كل عبد له، ولبس المسوح، وكان طول نهاره صائما، وسهر ليله قائما مجانبا للناس لا يكلم أحدا، بل يصلي نهاره باكيا حزينا زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة، حتى فشا خبره في الناس وتسامعت به المدينة والبلاد، فقصده الناس من الآفاق يسألونه رؤياه ويسمعون تأويله ويتعظون به، ثم صار بعد ذلك يتكلم على الناس في المجالس بالحكمة والموعظة ويضرب لهم الأمثال، ويدلهم على طريق الآخرة، ويرغبهم في ثواب الجنة، ويزهدهم في غرورها وأمانيها ويحذرهم الاغترار بها، فقيل له: من أين لك هذه الحكمة والموعظة وأنت لم تكتب الحديث ولم تسمع الأخبار ولم تقرأ الكتب؟ قال: أجد قلبي كالمرآة تتراءى فيه حقائق الأشياء، وأجد لساني يجري على الصواب من غير تكلف مني، وأجد نفسي كالترجمان تسمع من وراء الحجاب وتعبر، وتؤدي إلى أبناء جنسي ما تسمع بلا تصنع مني، فعلم عند ذلك أنه مؤيد بملك من الملائكة يلهمه بإذن الله جل ثناؤه، ثم صار ذلك الرجل قدوة في الدين لأهل زمانه، فبينما هو يوما في محفل، والناس حوله يسألونه عن أمر الدين وهو يفتيهم والناس، ما بين مستمع مصدق وشاك ومتعجب منه؛ كيف كان بالأمس أرغب الناس في الدنيا قدوة لطالبي الشهوات؟ وكيف هو اليوم في أمر الدين إمام لطالبي الآخرة؟ إذ وقف في المجلس رجل من أولئك الجيران الذين دخلوا عليه يعوذونه، فرأى ذلك الناسك في مجلسه يسائله عن مسائل من أمر الدين، ويستوصف منه طريق الآخرة، فدنا منه وقال له - شبه المتعجب: هذا صاحبك الذي فسرت منامه ووصفت دواءه وأنت اليوم تسائله عن أمر الدين وطريق الآخرة؟ قال: نعم. ولكن قد جاءه من العلم ما لم يأتني، وقد قبل نصيحتي أمس فنفعته اليوم، وأنا أقبل منه اليوم ما عسى أن ينفعني غدا ، وكانت وصفتي له أمس تعليما بشريا ووصفته اليوم تعليم ملكي. ثم إن ذلك الرجل التائب بقي مدة من الزمان مجتهدا في عبادة الله على عادته حتى قرب أجله ووقت مفارقته، فرأى في منامه كأن روحه قد خرجت من جسده، وإذا هي على صورة مثل شكل الجسد وهيئته سواء، غير أن هذا الشكل جسماني وتلك صورة روحانية شفافة لا ينالها لمس ولا حس، وإذا هي قد ثبتت في الهواء حيث شاءت وكيف شاءت بلا كلفة ولا عناء، وهي تجد من ذاتها خفة وراحة وسرورا وروحا ولذة وفرحا لا توصف بمثلها حال الأجسام، ولما نظرت إلى جسدها فإذا هو مطروح لا حراك به فحنت إليه لطول الصحبة وإلف العادة، فلما دنت منه وتأملته فإذا هو كأنه قد أتى ثلاثة أيام بعد الموت وهو منتفخ منتن الرائحة يسيل منه الدم والقيح والصديد، وتجري بين لحمه ودمه الديدان، ويخرج من فيه ومنخريه وأذنيه الديدان والقمل، فلما رأت ذلك المنظر الهائل اشمأزت منه وتأخرت عنه، وأنفت من الدنو إليه، وجعلت تغبط حالها حين فارقته وخرجت منه ونجت من وسخه ودرنه ووحشته وعاره ووباله، ثم التفتت فإذا هي أبواب السماء قد فتحت والمعراج قد امتد من السماء إلى الأرض، والملائكة نزلت وامتلأت الآفاق من النور والضياء، وسمع مناديا ينادي: @QUR017 يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي فانتبه من نومه ذلك ثم أخبر بما رأى، وأوصى وصيته، وما مكث إلا أياما حتى توفي ومضى لسبيله.
(17) فصل في مغزى هذه الحكايات
تفكر يا أخي في هذه الحكايات التي تقدم ذكرها، واعتبر حال المنامات وتصاريفها وعجائبها؛ إذ قد كان يبلغ من أمرها وقوته أن تتقلب بالأعيان وتتغير بها العادات وتصاريف أمر الناس من الغم والحزن في طلبها إلى الزهد فيها والترك لها والرغبة في الآخرة والاجتهاد في طلبها بعد الإعراض عنها، وتصديق جمهور الناس بأحكام المنامات وصحة الرؤيا هو مشهور بين العقلاء، ومن ينكر هذا البيان وحقيقة الرؤيا ويجحد صحة المنامات فما هو إلا معاند عدو لما يجهل منكر لما لا يفهم، وقد جعل فكرة المعارضة للحكماء والمجادلة للعلماء، ويفتخر بقوة لسانه وحسن بيانه بغير علم ولا إيمان.
وقد يروى في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أخوف ما أخاف على أمتي رجل عليم اللسان جاهل القلب.» نعوذ بالله من ذلك.
(18) فصل في أنه ليست من طائفة أضر على الأنبياء ...
اعلم أنه ليست من طائفة أضر على الأنبياء وأشق على المؤمنين من هذه الطائفة سواء يكونون في أزمان مبعث الأنبياء من جملة أعدائهم المنافقين، أو يكونون من بعد مبعثهم في أمتهم؛ وذلك أنهم إن كانوا في أزمان مبعث الأنبياء عليهم السلام فهم الذين يطالبون الأنبياء بالمعجزات، ويعارضونهم بالخصومات ويجادلون المؤمنين بالشبهات مثل ما قالوا لنوح عليه السلام: @QUR09 ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي واستصغارا للمؤمنين واستنقاصا لقولهم.
وهكذا قالوا لموسى النبي عليه السلام: أتعلمون أنه مرسل من ربه. وأرادوا جدالهم فترك المؤمنون جدالهم وقالوا: @QUR05 إنا بما أرسل به مؤمنون وقالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: @QUR017 لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا * أو تكون لك جنة من نخيل وعنب إلى قوله: @QUR05 حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه وهم الذين كانوا من الذين آمنوا يضحكون، وإذا مروا بالمؤمنين كانوا يتغامزون، @QUR06 وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون. وآيات كثيرة في القرآن في ذم هذه الطائفة المجادلة، فهذه حالهم، وحكمهم إذا كانوا في مبعث أزمان الأنبياء عليهم السلام وأما إذا كانوا من بعد ذلك فهم الذين يقرءون شرائع الأنبياء وأحكام سننهم سواء يكونون من أعدائهم المخالفين أو من أتباعهم المنافقين؛ وذلك أنهم إذا كانوا من أعدائهم فهم الذين يأتون بالشبهات ويجادلون بها المؤمنين، وإن كانوا من أتباعهم فهم الذين ينكرون من أحكام شرائعهم وآيات كتبهم ما لا يفهمون، ويجحدون ما يقصر علمهم عن تصور مرموزاتهم ودقائق أسرارهم، ثم يعتقدون فيها آراء فاسدة ومذاهب مختلفة، ويضعون لها قياسات متفاوتة بعقولهم الناقصة، ويجادلون بها المؤمنين ويناقضونهم ويحتجون بآيات من كتب الأنبياء، عليهم السلام، بغير علم، ويفسرون معانيها على ما يوافق مذاهبهم وآراءهم وقياساتهم، حتى ربما يقولون: إن في حجج العقول كفاية عما جاءت به الأنبياء من الوصايا، ثم يستمر بهم ذلك حتى إنهم ربما ينبذون أحكام كتب الأنبياء وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، @QUR04 واتبعوا ما تتلو الشياطين في أوهامهم من الوساوس والخيالات، وهم مع ذلك يتعاطون المعقولات وهم لا يعرفون حقائق المحسوسات، ويتكلمون في العلوم الإلهيات وهم لا يدرون ما الرياضيات، ولا علم الفلسفة يعرفونها ولا أحكام الشريعة يحققونها @QUR09 مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء لا بالفلسفة يتهذبون ولا بالشريعة يهتدون.
فلو أنهم علموا بأن الله عز وجل إنما جعل العقل مقدمة أمام الرسالة والوحي، وجعل الوحي والرسالة أيضا مقدمة أمام البعث والقيامة، وجعل البعث والقيامة أيضا مقدمة للغاية؛ لما قالوا بأن في موجبات العقل كفاية للإنسان عن الوصايا التي جاءت في الرسالة على ألسنة الأنبياء من الأمر والنهي والأحكام والحدود، أترى بأي عقل كان يمكن أن يعلم بأن الإنسان يبعث بعد الموت ويلقى ربه فيحاسبه ويجازيه لو لم يخبر في الرسالة؟ أو بأي عقل يمكن أن يعلم حديث آدم وقصة إبليس وخطاب الملائكة وما هو مذكور في القرآن في نحو من سبع وخمسين آية في عدة سور؟
(19) فصل في أن الله جل ثناؤه، لما خلق الإنسان في أحسن تقويم ...
اعلم أن الله جل ثناؤه، لما خلق الإنسان في أحسن تقويم، وفضله على سائر الحيوان وملكه عليها وسخرها له، وجعله خليفة في أرضه يتحكم على جميع ما فيها من المعادن والنبات والحيوان، يتصرف فيها كيف يشاء ويحكم عليها بما يريد، كل ذلك بتمييز عقله وتمكنه بكمال هيئته، لم يجز في حكمة الباري تعالى أن يتركه بلا وصية يبين له فيها ما ينبغي له أن يفعل وما لا ينبغي أن يفعل.
ولما أوصاه وأمره ونهاه لم يجز في حكمته أن يتركه دائما ولا يدعوه إلى حضرته ويسأله عما فعل، كما ذكر، جل ثناؤه، فقال: @QUR013 ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم الآية وقال: @QUR04 أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا الآية وقال: @QUR09 من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت، وقال: @QUR05 والذين كفروا بآيات الله ولقائه، وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى. ولكن هذه الطائفة المجادلة زعموا بأن معنى لقاء الله والرجعة إليه هو لقاء ثوابه، وإنما أنكروا رؤية الله؛ لأنهم يظنون ويزعمون ألا يرى إلا الأجسام وأعراضها حسب، والله تعالى ليس بجسم بالإجماع، فمن هذا الوجه والقياس أنكروا لقاء الله ورؤيته، وليس الأمر كما ظنوا ألا يرى إلا الأجسام وأعراضها حسب، بل الأجسام غير مرئية بالحقيقة لولا الألوان، والألوان أيضا غير مرئية لولا النور، والنور ليس بجسم ولا عرض؛ لأنه لو كان النور جسما لما كان يسري في الأجسام الصلبة الشفافة مثل الزجاج والبلور وغيرهما؛ لأن الجسم لا يدخل في جسم آخر بالإجماع؛ لأنه لو كان جسم يدخل في جسم آخر لدخلت الأجسام كلها في جسم واحد، وأيضا فإن النور ليس بعرض من الأعراض الحالة في الأجسام، فإنا قد بينا أن النفس أيضا ليست بجسم وإن كان لا يرى أن يظهر أفعالها إلا من الأجسام، وكذلك الملائكة والشياطين والجن والأرواح والأنفس والعقل الفعال؛ فهذه كلها ليست بجسم ولا أعراض وإن كان لا يظهر أفعالها إلا من الأجسام، وكذلك النور ليس بجسم وإن كنا لا نرى أن يظهر لأبصارنا إلا من جسم.
ولو لم يجز أن يوصف الباري، جل ثناؤه، بالرؤية لما قال: @QUR06 كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون وأنه تجلى للجبل، فإن التجلي والحجاب لا يقال ولا يوصف بهما الأشياء التي لا يجوز عليها الرؤية، والله تعالى أعلم بصفات نفسه وما يجوز أن يوصف به من عقول هؤلاء المجادلة.
(20) فصل في الرؤيا وبطلانها
ومن احتجاجات هؤلاء الطائفة المجادلة على بطلان الرؤيا وصحة المنامات يقولون: إنه إذا رأى الإنسان في منامه كأن رأسه مباين لبدنه أفترى بأي عين يبصر رأسه؟ ولا يدرون بأن النفس جوهر لا ينالها الحديد لو قطع الجسد إربا إربا.
ومثل هذه الرؤيا من أدل الدليل على وجود النفس وشرف جوهرها إذا كانت تتأتى لها رؤية الجسد بسوء الحال مقطوع الأعضاء ناقص البنية معوج الصورة وهي سليمة صحيحة من الآفات، مثل أنفس المقطوعي الأيدي والأرجل والزمنى المفلوجين نصف أبدانهم.
وذلك أنك ترى كثيرا منهم يكون أعقل وأذكى وأعلم وأفهم ممن هو صحيح الجسم سمين البدن عظيم الجثة.
فلو كان الإنسان هو هذا الجسد حسب بلا نفس معه لكان يجب أن يكون كل من كان أصح جسما وأكبر جثة وأسمن بدنا يكون أكثر إنسانية وأعقل وأفهم وأذكى وأعلم ممن كان أصغر جثة أو كان ناقصا بعض الأعضاء أو كان مهزولا.
وقد يوجد الأمر بخلاف ذلك في كثير من الناس وفي كثير من الحيوانات أيضا: فإنك تجد القرد أذكى من الخنزير، والثعلب أخبث من الذئب، والببغاء أفصح من الكركي، والقطا أهدى من النعامة، وما هو موصوف في كتاب الحيوان من هذا المعنى.
وقد تبين بأن الحيوانات لها نفوس أيضا، وتلك النفوس تتفاضل لا بكبر الجثة وعظم الخلقة وحسن الصورة حسب، بل من قبل أفعالها وجواهر نفوسها وأخلاقها وخواصها ومتصرفاتها مما هو مذكور في كتاب الحيوان وكتاب الخواص.
كل ذلك دليل على أن مع هذه الحيوانات جواهر أخرى هي الفاعلة المحركة لأجسامها؛ إذ كان الجسم لا فعل له بمجرده ولا للعرض أيضا له بالإجماع.
(21) فصل في الرد على من يزعم أن الإنسان ليس هو بشيء ...
ويقال لمن يزعم أن الإنسان ليس هو بشيء سوى هذه الجملة المشار إليها - يعني هذا الجسم وما يحله من الأعراض مثل الحياة والحس والحركة - وأن النفس لا وجود لها: لم لا يسمي هذه الحيوانات إنسانا؟ فإن كل واحد منها هو أيضا جسد فيه الحياة والحس والحركة؟ فإن قال: أعني بالإنسان بنية مخصوصة، أو قال: مزاجا معلوما أو قال: تأليفا ما، فيقال له أخبرنا أي بنية تعني وأي مزاج، بين لنا؟ وإنا قد نرى بنية بدن الزنجي مخالفة لبنية بدن التركي، ومزاج الطفل مخالفا لمزاج الشيخ ، وتأليف بنية المفلوج الزمن مخالفا لبنية السليم الصحيح، وطبع العليل مخالفا لطبع الصحيح، وكلهم إنسان لا يختلفون في الإنسانية مع اختلاف هذه الأحوال.
فبين لنا: ما ذلك المعنى الذي كلهم فيه بالسوية إن لم يكن للنفس حقيقة ولا وجود؟ فإن قال: الروح فهو الذي نسميه نفسا، وإنما الاختلاف هو في العبارة ولا ضير إذ قد اتفقنا في المعنى.
فإن قال: إن الجسم يفعل هذه الأفعال بكون الروح فيه ولكن الروح عرض من الأعراض، فقد ناقض وادعى بأن ما لا فعل له يجتمع مع ما له فعل فيكون فاعلا؛ فهو المطالب بالدليل على دعواه! ولم يصح للقائلين بهذه الدعوى دليل برهاني يقيني إلى يومنا هذا إلا شبهات ودعاوى، والمنازعة قائمة بذاتها، فإن قال بأنه إذا دخل في الجسم عرض من الأعراض فإن الله تعالى يحدث عند ذلك فعلا فقد ناقض مذهبه وأقر بخلق الأفعال بعد ما كان منكرا لها إن كان من أهل الاجتهاد، وإن كان ممن يقول بطريق السمع فالأمر سهل؛ لأنه قد وردت أخبار كثيرة في تصحيح وجود النفس والروح وآيات كثيرة في القرآن تنطق بها، وإن كان كلامنا مع من يرد دلائل العقل وحجج الجدل.
(22) فصل في وجود النفس وحقيقة المنامات
وإذ قد ثبت بما ذكرنا وجود النفس وحقيقة المنامات وصحة الرؤيا بما فيه كفاية لكل منصف عقله، فنريد أن نذكر كمية أنواع المنامات وفنون تصاريفها. واعلم يا أخي أن رؤية المنامات على ستة أنواع: فمنها ما هو أضغاث أحلام وأحاديث النفس، ومنها ما يكون من جهة غلبة أخلاط الجسد، ومنها ما يكون من جهة موجبات أحكام النجوم، ومنها ما هو وساوس من الشيطان، ومنها ما هو إلهام من الملائكة، ومنها ما هو وحي من الله وتأييده. تفسيرها: أما أضغاث الأحلام فمثل ما يرى كل إنسان ما يكون منصرفا فيه نهاره ومفكرا فيه ليله من الأعمال والصنائع والتجارات والأقاويل والفكر والهموم وما شاكلها من أحاديث النفس، كالذي يرى الحراث من الزرع والحصاد والشجر والنبات والعوامل من الحيوان وما هو منصرف فيه نهاره ومفكر فيه ليله، وعلى هذا القياس سائر طبقات الناس مما يرون من أحوالهم ومتصرفاتهم يسمى أضغاث أحلام وأحاديث النفس. وأما الذي يكون من غلبة أخلاط الجسد فهو مثل الذي يرى من غلبت عليه مرة السوداء من السواد والدخان والقاذورات والأحزان وما شاكلها، وكالذي يرى البلغمي المرطوب من الأنداء والأمطار والآجام والأنهار والوحل وما شاكلها، وكالذي يرى الدموي من الفرح والضحك واللعب والسرور وما شاكلها، وكالذي يرى الصفراوي من الحريق والبروق والنيران والألوان الحمر وما شاكلها.
وأما الذي يكون من أحكام موجبات النجوم فهو الأصل وسائرها فروع: وذلك أن بني الإنسان يختلفون في رؤيتهم المنامات على فنون شتى: فمنهم من يكون كثير المنامات صحيح تأويلها، ومنهم من هو بالضد، ومن الناس من تكون عجيبة رؤياه غريبا تأويلها كما ذكر ذلك في كتب تأويل المنامات بشرح طويل.
(23) فصل في تأويل المنامات وإن كانت مختلفة
ثم اعلم يا أخي أن تأويل المنامات وإن كانت مختلفة كثيرة الفنون فليست تخرج كلها من ثلاثة أنواع: منها ما يكون مثلا بمثل سواء، كالذي يرى كأنه سافر إلى بلد فيتفق له السفر إلى ذلك البلد، أو كالذي يرى أنه ولي ولاية فيلي ذلك العمل، أو يرى إنسانا في منامه فيراه في اليقظة، وعلى هذا القياس تكون رؤيا كثير من الناس.
ومنها ما يكون تأويلها بالضد مما رأى كالذي يرى كأنه يبكي فيناله فرح، أو يرى كأنه يضحك فيغتم وأشباه ذلك.
ومنها ما له تفسير كالذي يرى أنه طار فسافر، أو كأنه أكل لحم إنسان فاغتابه، أو أكل طعاما حارا فوقع في خصومة، وما شاكل هذا مما هو مذكور في كتاب تأويل الرؤيا. وكل ذلك إنما هو بحسب موجبات أحكام النجوم في أصل مولد الإنسان في تحاويل سنه وشهورها، كما ذكر ذلك في كتاب أحكام النجوم بشرح طويل، ولكن نذكر منها مثالا في هذا الفصل؛ ليكون دليلا وقياسا على سائر ما ذكرنا لمن يعرف من أحكام النجوم شيئا.
مثال ذلك: متى كان في أصل مولد الإنسان بين رب الطالع والمستولي على الطالع، وبين رب التاسع والثالث والمستولي عليهما، اتصال أو نظر جميعا، أو دفع التدابير أو حال من الأحوال الخمسة والعشرين المذكورة في كتاب المدخل إلى أحكام النجوم، فإن ذلك الإنسان كثير المنامات.
فأما تصاريف قوتها واختلاف تأويلاتها فبحسب البروج وطبائعها والبيوت وأوتادها واستيلاء السعود عليها أو النحوس وشرحها طويل، ولكن نذكر مثالا واحدا ليكون قياسا على الباقية؛ وذلك أنه متى كان الاتصال برب الطالع ورب التاسع من السابع وللزهرة هناك حظ من الحظوظ المعروفة المذكورة في المدخل، فإن أكثر رؤيا ذلك الإنسان وتأويلها يكون في أمر التزويج والنكاح والمواصلات وما شاكلها، وإن كان الحظ للمشتري يكون ذلك في تأويل المعاملات والتجارات والأخذ والإعطاء وما شاكلها، وإن كان الحظ للمريخ فإن ذلك يكون في باب الحروب والخصومات والمنازعات وما شاكلها، وإن كان الحظ لعطارد فإن ذلك يكون في باب المحاسبات والمحاورات والخصومات وما شاكلها، وإن كان الحظ للشمس فإن ذلك يكون بحضرة الملوك والسلاطين، وإن كان الحظ لزحل فبحضرة المشايخ والأكابر من الناس، وإن كان الحظ للقمر فإن ذلك بحضرة من العوام وجمهور الناس.
مثال آخر: فإن كان الاتصال من البرج التاسع والمستولي عليه زحل فإن أكثر رؤياه أسفار بعيدة وأمور قديمة وما شاكلها، وإن كانت الشمس فالهياكل وبيوت العبادات والأعياد والجماعات وما شاكلها، وإن كان عطارد فعن البحث عن العلوم الدقيقة والأسرار الخفية، وإن كان القمر فعن الأحاديث والأخبار والروايات، وإن كان المشتري فعن العبادات والصوم والصلاة وما شاكلها، وإن يكن الزهرة فعن الوحي والزجر والكهانة، وإن يكن المريخ فعن الذهاب في المطالب وطلب البشارات وما شاكلها.
وعلى هذه القياسات وسائر الاتصالات في سائر البروج والبيوت تمتزج دلائل طباع الكواكب بدلائل طبائع البروج، كما ذكر ذلك في كتب الأحكام بشرح طويل، وهذه الفنون والتصاريف أيضا تكون رؤيتها وتأويلها بشارات وإنذارات.
(24) فصل في أن رؤية المنامات تكون إلهاما من الملائكة أو وسواسا من الشيطان
وأما المنامات التي تكون رؤيتها إلهاما من الملائكة أو وسواسا من الشيطان فإن الباب فيهما واحد، وإن كان الطريقان مختلفين فنحتاج أن نبين أولا ما الملائكة، وما الإلهام، وما الوسوسة، إذ كان هذا الباب علما غامضا وسرا خفيا، وإن كان أكثر المجادلة ينكرونها بقلوبهم، وإن كانوا لا يظهرون إنكارها بألسنتهم مخافة السيف والشنعة.
ونبدأ أولا بوصف نفوس شياطين الإنس، ثم نذكر نفوس شياطين الجن، ثم نصف نفوس المؤمنين الذين هم ملائكة بالقوة.
واعلم يا أخي أن الإنسان هو الذي يجب عليه الأمر والنهي إما بموجب العقل أو بطريق السمع، فمتى قام بواجب حكمة أحدهما فابتدأ أولا يتعلم فقه الدين ليخرج به من ظلمة الجهالة، ثم ابتدأ بتهذيب الأخلاق التي تخلق بها من الصبا فأصلح منها ما كان فاسدا، وكذلك نظر في عاداته التي اعتادها من الصبا في أيام الشباب فغير منها ما كان مذموما من اتباع الشهوات المذمومة وطلب اللذات المكروهة، وكذلك نظر في اعتقاداته المذمومة وآرائه الفاسدة التي اعتقدها من غير علم ولا بصيرة ولا بحث عن حقائقها فحلها عن ضميره وأبدلها بما هو خير منها، ثم عمل بما رسم له في الشريعة العقلية أو السمعية من الأعمال الصالحة، وسار في أمور معيشته بسيرة عادلة، ثم فكر في أمور الدنيا واعتبار أحوالها وما تتصرف به الأمور حالا بعد حال حتى تنتبه نفسه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، فيبصر عيوب الدنيا ويعرف غرورها ويزهد فيها، ثم يبحث عن أمور الآخرة ويفكر في المعاد حتى يعرفها حق معرفتها، ثم يرغب فيها ويطلبها حق الطلب ويدوم على ذلك إلى الممات، فإذا فعل فإن نفسه إذا فارقت جسدها عند الموت استقلت بذاتها واستغنت عن التعلق بالأجسام بعد ذلك، وتخلصت من وسخ الأبدان، ونجت من بحر الهيولى، وأعتقت من أسر الطبيعة، وفازت بالخروج من عالم الكون والفساد، وارتقت إلى عالم الأفلاك، وسعت في سعة فضاء السموات فرحانة مسرورة ملتذة مطلقة حيث شاءت ذهبت، فعند ذلك تكون ملكا من الملائكة.
ومن الدليل على ذلك ما ذكر الله جل اسمه، من كرامات أهل الجنة وقال: @QUR06 والملائكة يدخلون عليهم من كل باب.
واعلم يا أخي أن الملائكة لا تسلم إلا على أبناء جنسها ولا تخاطب إلا من شاكلها، كما أن الإنسان لا يسلم على الجماد والحيوانات، بل على أبناء جنسه من الناس، ولا يخاطب إلا أمثالهم منهم، وإنما ذكر الله تعالى سلام الملائكة على أهل الجنة على سبيل الكرامة لأهل الجنة؛ لأنهم هم القادمون عليهم والملائكة هم المقيمون هناك.
ومثال ذلك ما جرت به سنة الشريعة أن الحاج إذا رجعوا إلى منازلهم فإن المقيمين هم الذين يقصدونهم ويدخلون عليهم فيهنئونهم بالسلام.
فعلى هذا المثال يكون حكم نفوس المؤمنين العارفين الأخيار الفضلاء الأتقياء الأبرار، الذين هم في الدنيا زاهدون، وإلى دار الآخرة راغبون، وإلى نعيمها مشتاقون، وفي أقوالهم وأخلاقهم وآرائهم ومذاهبهم وعلومهم بالملائكة متشبهون، فنفوسهم ملائكة بالقوة، فإذا فارقت أجسادها كانت ملائكة بالفعل؛ ومن الدليل على ذلك قول الله تعالى: @QUR07 الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم إلى آخر الآية.
واعلم يا أخي أنه ليس كل إنسان يمكنه أن يتصور هذا الأمر على حقيقة ما قلنا ووصفنا إلا بعد رياضة كثيرة في العلوم والمعارف، وبعد بحث دقيق عن علم النفوس والمعرفة بحقيقة جوهرها، وبعدما يكون قد هذب أخلاقه وصحح اعتقاده وحسن مذهبه وزكى عمله، ثم نظر في هذا العلم وبحث عن هذا السر الجليل الدقيق وطلب هذا الأمر الشريف الجليل، فإن وقع له التصور لهذا الأمر الذي قلنا ووصفنا، وإلا فليس له طريق إلا الإيمان بما هو مذكور في كتب الأنبياء من هذه المعاني التي وصفناها والتصديق بما يخبره به من هو أعلم منه بهذا الأمر وأعرف منه بهذه الأسرار.
(25) فصل في أمر الملائكة ونفوس الأخيار
وكما قلنا في أمر الملائكة ونفوس الأخيار، فهكذا نقول في أمر الشياطين ونفوس الأشرار مثل ما قلناه في أمر الملائكة ونفوس الأخيار.
واعلم يا أخي أن الإنسان إذا بلغ أشده وعقل الخطاب وجاءته الوصية من الله، وسمع الأمر والنهي، وفهم الوعد والوعيد والترهيب والترغيب والزجر والتهديد، ثم لم يأتمر ولم ينته ولم يتعظ ولم ينزجر، وأهمل أمر الدين وأعرض عن طلب الآخرة، ونسي ذكر المعاد واشتغل بطلب الدنيا وحرص على جمع حطامها، واشتدت رغبته فيها، وأهمل أمر نفسه والنظر في مصالحها، وجعل فكره اتباع الشهوات وطلب الملذات من الأكل والشرب واللباس والمركب والمسكن المزخرف والتفاخر والتكاثر، ومع هذه كلها تكون أعماله سيئة وأخلاقه رديئة وأفعاله فاسدة وسيرته جائرة وجهالته متراكمة، فإن نفسه تكون شيطانة بالقوة، وإذا فارقت جسدها عند الموت على هذه الحالة كانت شيطانة بالفعل، وذلك أنها إذا فارقت جسدها بقيت مسلوبة آلات الحواس الخمس التي كانت تتناول بها الملاذ الجسمانية وكانت تتمكن بها من الشهوات الجرمانية، وصارت بعد ذلك ممنوعة عنها بعدما اعتادتها بطول التدرب فيها في سالف الأيام وماضي عمرها، وانطبعت في همتها تلك الشهوات وصارت جبلة لها ثم @QUR05 حيل بينهم وبين ما يشتهون، فعند ذلك يكون مثلها كمثل من سملت عيناه وصمت أذناه وسد منخراه وأخرس لسانه وشلت يداه وقطعت رجلاه وعمي قلبه وهجره أحباؤه واشتد شوقه وشهوته إلى لذته، فهكذا يكون حكم نفوس الكفار والأشرار والفساق والفجار إذا فارقت أجسادها، وسلبت عنها آلات الحواس وحيل بينها وبين شهواتها ومحبوباتها، فعند ذلك تتمنى العود كما قال تعالى: @QUR05 يا ليتنا نرد ولا نكذب ولا سبيل لها إلى ذلك ولا هي أيضا تهتدي للطريق إلى ملكوت السماء فتعرج إلى هناك كما قال الله تعالى: @QUR08 لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة الآية، فعند ذلك تبقى هذه النفوس مجردة بذواتها بلا جسد، وتكون هائمة في الجو دون فلك القمر، وتطرح بها أمواج الطبيعة في بحر الهيولى إلى كل فج عميق وهي مشتعلة فيها بنيران شهواتها، وتكون معذبة بذاتها من وزر سيئاتها وسوء عاداتها إلى يوم القيامة كما ذكر الله تعالى: @QUR05 النار يعرضون عليها غدوا وعشيا إلى آخر الآية.
(26) فصل في حنين النفوس إلى أجسادها
ثم اعلم يا أخي أن هذه النفوس التي تفارق أجسادها على هذه الأوصاف فإنها تحن إلى أبناء جنسها من النفوس المتجسدة الشريرة التي على سننها وسيرتها في شهواتها كما يحن الأعمى البصير إلى أبناء جنسه إذا سمع أصواتهم، وتستروح هذه النفوس أيضا إلى وسوسة أبناء جنسها وحثالتهم على فعل تلك العادات التي كانت فيها، مما تقدم من الشرور وطلب الشهوات، لما تجد من ألم شهواتها المركوزة في ذاتها من سوء عاداتها القديمة فيما يستروح كمن قد عدمت شهوته للطعام والشراب، وضعفت حرارة معدته فهو يشتهي ما لا يستمرئ وبه شبق وآلته لا تواتيها؛ فهو عند ذلك يستروح بالنظر إلى الآكلين والشاربين والفاعلين من ألم ما يجد في نفسه من الشهوات المركوزة وعاداته الجارية، وإلى هذه النفوس ووسواسها أشار بقوله: @QUR010 شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا فشياطين الجن هي النفوس المفارقة الشريرة التي قد استجنت عن إدراك الحواس، وشياطين الإنس هي النفوس المتجسدة المستأنسة بالأجساد.
واعلم يا أخي أن هذه النفوس المتجسدة الشريرة إخوان لتلك النفوس المفارقة، فإذا فارقت أجسادها بعد الموت لحقت بتلك النفوس المتقدمة التي قد خلت في القرون الماضية، وحصلت في العذاب معها كما ذكر سبحانه: @QUR012 ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار إلى آخر الآية، وفي هذا المعنى آيات كثيرة في القرآن لمن يتدبرها ويتفكر فيها.
وإذ قد تبين ما الشياطين ووسواسها وكيف تنال النفوس من الآلام والأحزان بمجردها ممن وصفناه فيما تقدم.
فكذلك أيضا أن تلك النفوس الملكية الناجية التي تقدم ذكرها هي أيضا إذا فارقت أجسادها وحصلت لها تلك الكرامة التي وصفنا حنت هي عند ذلك إلى مخلفيها من الأولاد وقراباتها وتلامذتها وأهل دينها ومذهبها الصالحين منهم وعطفت عليها، وتمنت لها هي ما وجدت من الكرامات والراحة والسرور، حتى إنها ربما نزلت لهم في منامهم ووعظتهم وأذكرتهم المعاد، أو وصفت لهم ما صارت إليه وأمرتهم بلزوم طريق التقوى وعمل الخير وطلب النجاة، وبشرتهم فاستبشرت بمن يقدم عليها بعدها كما ذكر الله تعالى: @QUR010 ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء إلى آخر الآية، وقال أيضا: @QUR010 ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء، ولما تبين لأهل البصائر والمعارف أن تلك النفوس هذه حالها من الكرامات، فقالوا من أجل هذا أمر ورخص واضعو النواميس وأصحاب الشرائع في سنن الديانات الذهاب إلى قبور الأنبياء والأئمة المهديين والصالحين من عباد الله بالصدقات والقرابين والصوم والصلاة والدعاء عند قبورهم والسؤال بشفاعتهم، فكم يا أخي من مسجد ومشهد بني في الأرض بسبب رؤية تمثال نبي في المنام أو شهيد أو عبد صالح، فإن لم تكن تلك النفوس موجودة باقية عند الله ويشعر من يستشفع بها إلى الله ويقتدي بها في سنن الدين لما كانت لهذه السنن فائدة وإثبات؛ لأن الباطل لا ثبات له ولا دوام.
(27) فصل في كيف تعرف الرؤيا
وإذ قد تبين بما وصفنا ما الملائكة وما الشياطين فنريد أن نبين كيف تعرف الرؤيا التي تكون من إلهام الملائكة أو من وسواس الشياطين أو غيرهما من سائر أنواع المنامات؟ فنقول: إن كل رؤيا تكون فيها موعظة أو في تأويلها دلالة على التقوى أو حث على عمل الخير أو تزهيد في الدنيا أو ترغيب في الآخرة أو ذكر المعاد أو ما شاكل هذه المعاني؛ فهي إلهام من الملائكة مثل ما هي في تلك الكلمات التي حفظها العراقي بالروم في تلك الكنيسة من أولئك الرهبان والقسيسين من العظة والتذكير، وإنما وعظته الملائكة بتلك الكلمات السريانية في بلد غير بلده وفي شريعة غير شريعته وبلغة غير لغته؛ ليكون أبلغ في الموعظة وأعجب للتذكار؛ لأن الحكماء إذا أرادوا تبليغ الموعظة جعلوها بضرب من الأمثال على ألسنة الحيوانات وما لا نطق له؛ ليكون أعجب وأغرب وأبلغ في الأوهام مثل ما هو موجود في كتاب كليلة ودمنة وأمثاله من الكتب، فأما الموعظة والتذكار في رؤيا ابن الملك فهو ما فيها من الدلالة على أن أنفس الأشقياء في الدنيا من الفقراء والمساكين والضعفاء والمرضى والزمنى وأهل البلوى إذا فارقت أجسادها وقعت في راحة وسرور ولذة مثل ما رأت نفس ابن الملك في منامه من اللذة والفرح والسرور مع ما كان جسده فيه من البلوى وسوء الحال، إذ قد تبين أن اللذة ليست سوى الخروج من الآلام كما بينا في رسالة الحاس والمحسوس، وأما رؤيا ذلك الرجل المترف التائب فمما لا شك فيه أنها كانت إلهاما من الملائكة بإذن الله تعالى؛ لما كان فيها من الموعظة والدلالة على طريق الآخرة والرشد في الدين لما صار إليه هو من التوبة والصلاح والخير واتعاظ الناس حتى صار قدوة لأهل الدين وطلاب الآخرة في زمانه، وأما الرؤيا التي تكون من وسواس الشياطين فهي مثل ما يرى الراغبون في حطام الدنيا من محاسن مرغوباتهم ومشتهياتهم فيزدادون رغبة فيها وشهوة، ومثل ما يرى الحساد من محاسن محسودهم فيزدادون حسدا، ومثل ما يرى المتعادون من أسباب العداوات فيزدادون عداوة، ومثل ما يرى أصحاب الشهوات مشتهياتهم فيزدادون في الدنيا حسدا وحرصا وعداوة وشرها وما شاكل هذا؛ فهو وسواس الشياطين الغائصين في طلب اللذات.
(28) فصل في حكاية الرجل المنهمك في الشهوات
وذكروا أن رجلا من المنهمكين في الشهوات وطلب اللذات كان أكولا شريبا شبقا، فمن كثرة ما كان يأكل ويشرب ويجامع حرقت معدته وضعفت قوته الهاضمة، واسترخت آلته من كثرة الجماع، وكان ممكنا من شهواته، ولكن آلات الجسد لم تكن تواتيه، ولا قوة النفس الشهوانية تطاوعه في ترك الطلب؛ لأن الشهوات صارت عادة لها لكثرة الدربة فيه وجبلة مركوزة فيها، فجعل ذلك الرجل يطلب الحيلة والدواء مما يقوي القوة الهاضمة في معدته وينعظ آلته للباه لشدة شهوته، وكان مما يداوي ويحتال في إنعاظ آلته أن أمر حتى صور له في بيت الخلوة على الحيطان والسقوف صور الجامع للباه، وكتب بين تلك الصور أخبار المرأة الأليفة وأوصافها في حالات الجماع، ثم كان يدخل ذلك البيت مع غلمانه وجواريه يخلو ويشرب ويلعب ويلهو وينظر إلى تلك الصور ليستنهض بها آلته، فلما أعيته ولم تجبه دعا عند ذلك غلمانه إلى نفسه ليأتوه من خلفه، وصار ذلك دأبه وعادته حتى إنه ربما كان يهيج ويصيح كالسنانير وينهق كالحمير، ثم امتنع عنه غلمانه لبشاعته وخرقه وقبح منظره وهجروه، وهلك هو على تلك العادة، وفشا حديثه في الناس وسوء الثناء عليه، وربما كان يرى بعض غلمانه في منامه على تلك الحال التي كان يدعوهم إلى نفسه فيصيح وينهق.
وأمثال هذه النفوس التي ذكرناها هي شياطين بالقوة، فإذا فارقت أجسادها كانت شياطين بالفعل، فاعتبر يا أخي بخبر الرجل الذي قال الله تعالى فيه: @QUR08 واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها إلى قوله: @QUR03 وأنفسهم كانوا يظلمون فيقال: إنه هذا كان رجلا من خيار أصحاب موسى عليه السلام، بعثه في سرية فابتلي بعشق امرأة وخاف من أصحاب موسى فارتد واتبع هواه، وله قصة طويلة مذكورة في كتاب التاريخ.
واعلم يا أخي أنك إذا تأملت وجدت في القرآن نحو ثلاثمائة وستين مثلا ضرب الله بعضها في صفات المؤمن وأهل الخير وأمر الآخرة وثواب الأخيار، وبعضها في صفات الكفار وأنفس الأشرار وسوء منقلبها ومبالغة في ذمهم وتوبيخهم وسوء الثناء عليهم، فلا تجد مثلا أشد توبيخا من هذا؛ فإنه شبهه بالكلب في اتباع الشهوات فقال: @QUR06 ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا، يعني من كان مثلهم في اتباع شهواته، ولا تجد أيضا أشد اختصارا في ترغيب نعيم الجنان من قوله: @QUR09 ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى.
(29) فصل في الإلهام وفي كيفية قبول الوحي في اليقظة ورؤية الملائكة واستماع كلامهم
وإذ قد تبين بما وصفنا ما الملائكة والشياطين، وما الإلهام والوسوسة، وما الوحي وما الرؤيا الصادقة فيما تقدم ذكره فنريد أن نبين كيفية قبول الوحي في اليقظة ورؤية الملائكة واستماع كلامهم.
فاعلم يا أخي أنه لما كانت رتبة الإنسانية متوسطة بين الموجودات، كما بينا في رسالة المعارف، وكان أقرب الموجودات إلى الإنسانية نسبة مما هي فوقها رتبة الملائكة وأقربها إليها مما هو دون رتبة البهيمة، وكان بعض الحيوانات إلى الإنسانية أقرب نسبة إما من جهة صورة بنيته وشكل جسده، وإما من جهة ذكاء النفس وصفاء جوهرها؛ وذلك أن منها ما يفهم الخطاب ويقبل الأمر والنهي كالفيل، ومنها ما يحاكيه في كلامه وأصواته كالببغاء والهزار، ومنها ما يحاكيه في أخلاقه وسيرته كالحمام والفرس والجواد، ومنها ما ينقاد لطاعته وخدمته كالبقر والغنم والحمير والجمال وغيرها، ومنها ما يقبل تعليمه وتأديبه كالدب والقرد، ومنها ما يبعد من الإنسان وينفر منه كالوحش.
ولما كان من هذه الأصناف المستأنسة بالإنسان المسخرة له من الحيوانات كل ما كان منها أزكى نفسا وأجود جوهرا كان تعليم الإنسان له أمكن وقبول التأديب أسهل.
فعلى هذا القياس نقول في قبول الإنسان إلهام الملائكة والوحي، وذلك أن كل إنسان تكون نفسه أصفى جوهرا وأذكى فهما، كما بينا في رسالة كيفية الطريق إلى الله تعالى، فكانت أخلاقه وسجاياه لأخلاق الكرام أقرب وأشبه، كما بينا في رسالة الأخلاق، وكان مذهبه واعتقاده باعتقاد الأنبياء ومذهب الحكماء أشد تحققا، كما بينا في رسالة الناموس، وكانت أعماله وسيرته بأفعال الملائكة وسيرتها أشد تشبها، كما بينا في رسائل إخوان الصفا، فأقول: إن قبول نفسه إلهام الملائكة والوحي والإنباء أمكن، وفهمه لمعانيها أسهل مثل نفوس الأنبياء، ثم بعدهم نفوس الصديقين، ثم بعدهم نفوس المؤمنين المصدقين الأخيار الفضلاء الأبرار، ثم الأمثل فالأمثل والأقرب فالأقرب.
والدليل على صحة ما قلنا وصايا الأنبياء والحكماء بهذا الأمر؛ وذلك أن موسى، عليه السلام، أوصى أولاد هارون أن يلزموا بعد قيامهم بشريعة التوراة خدمة الهيكل المسمى الزمان، ويتعبدوا فيها ويتركوا لذات نعيم الدنيا واتباع شهوات النفوس، ويقتصروا على ما لا بد منه من القوت وما يستر العورة من اللباس، ويتركوا ما سوى ذلك من الفضول.
كل ذلك كيما تصفوا نفوسهم وتتهذب أخلاقهم وتصير نفوسهم متهيئة لقبول الوحي والإلهام، وقال لهم: «من تعبد منكم على ما رسمت له في هذا الهيكل أربعين سنة مخلصا جاءه الوحي من الله عز وجل ونزلت عليه الملائكة بالروح.»
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أخلص العبادة لله أربعين صباحا نور الله قلبه وشرح صدره وأطلق لسانه بالحكمة ولو كان أعجميا غلقا.»
وقال موسى في مناجاته بعد خطاب طويل: «رب إني أجد في التوراة نعت أمة كادوا أن يكونوا أنبياء من دقة التمييز من هم اجعلهم من أمتي.» قال الله تعالى: «يا موسى تلك أمة أحمد.» فقال موسى: «يا رب جعلت الخير كله في أمة أحمد فاجعلني منهم.» فقال له ربه: «أنت منهم وهم منك أنت على دين الإسلام وهم على دين الإسلام.»
وكان مما يقوله المسيح للحواريين: «إنما جئتكم من عند أبي وأبيكم لأحييكم من موت الجهالة وأداويكم من مرض المعاصي، وأبرئكم من مرض الآراء الفاسدة والأخلاق الرديئة والأعمال السيئة؛ كيما تتهذب نفوسكم وتحيا بروح المعارف وتصعدوا إلى ملكوت السماء عند أبي وأبيكم فتعيشوا هناك عيش السعداء، وتتخلصوا من سجن الدنيا وآلام عالم الكون والبلى.» التي هي دار الأشقياء وجور الشياطين وسلطان إبليس.
(30) فصل في سير الأنبياء ووصاياهم
واعلم يا أخي أنك إذا تأملت سير الأنبياء ووصاياهم وسنن واضعي النواميس ومراميهم لوجدت أن غرضهم كلهم مما شرعوه هو تأديب النفوس الإنسانية ونقلها من مرتبة البشرية إلى رتبة الملائكة، وتخليصها من عالم الكون والفساد إلى عالم البقاء والدوام، كما قيل: إنما خلقتم للأبد، وإنما من دار إلى دار تنقلون، من الأصلاب إلى الأرحام، ومن الأرحام إلى الدنيا، ومن الدنيا إلى البرزخ، ومن البرزخ إما إلى الجنة وإما إلى النار، كما قال الله تعالى: فأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض، وأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السموات والأرض.
فانظر يا أخي في هذا الأمر الخطير، وتفكر في خذا الخطب العظيم، وانتبه من يوم الغفلة ورقدة الجهالة، وبادر وتزود فإن خير الزاد التقوى، وقد أعذر من أنذر، وقال: @QUR08 لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.
(31) فصل في كيفية قبول نفوس الأخيار إلهام الملائكة
وكما قلنا في كيفية قبول نفوس الأخيار إلهام الملائكة فهكذا نقول في قبول نفوس الأشرار وسواس الشياطين، كما بينا طرفا منه قبل ذلك: إن كل إنسان يكون في أفعاله القبيحة وأخلاقه الرديئة وجهالاته المتراكمة بالبهائم أشد شبها، فأقول: إن نفسه لوسواس الشياطين أسرع قبولا ، ولطاعة الهوى أسهل انقيادا كما ذكر الله تعالى: @QUR09 إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا الآية.
فإن قيل: كيف يجد الإنسان نفسه في حال إلهام الملائكة والوحي؟ قل كما حكى ذلك الرجل التائب عن نفسه حين قيل له: من أين لك هذه الحكمة؟ فأن قيل: كيف يرى الإنسان أشخاص الملائكة وليست بأجسام؟ فقل: كما يرى رسوم الأشياء في المرايا وصورها وليست تلك الصور بأجسام، فإن قيل: كيف يسمع كلامهم وليسوا بحيوان ذي رئة ولا آلات جسدانية؟ فقل: كما نسمع الصدى. وإنما اختصر بالجواب عن كيفية رؤية الملائكة واستماع كلامهم بجواب مثالي من غير شرح؛ لأن معرفة حقيقتها مما يحتاج الإنسان فيه إلى بحث شديد ونظر دقيق، كما ذكرنا في رؤية الأشخاص الجرمانية والأصوات الجسمانية في رسالة الحاس والمحسوس، ولعل كثيرا من العقلاء يدق عليهم فهمها بحقيقتها فكيف بهذه الأمور الروحانية؟ والدليل على أن معرفة رؤية الأشخاص الجرمانية والأصوات الجسمانية عسير فهمها اختلاف العلماء في ذلك؛ لأن العلماء لا يختلفون في أمور محسوسة إلا لدقتها فكيف بالأمور المعقولة؟
فصل
ومثل آخر في كيفية قبول الإنسان إلهام الملائكة فنقول: إن العلماء ذكروا أن العلوم ثلاث مراتب: أولها الرياضيات وبعدها الطبيعيات وبعدها الإلهيات، فمن ابتدأ أولا بتعلم الرياضيات وأحكمها كما ينبغي سهل عليه تعليم الطبيعيات، ومن أحكم الطبيعيات كما ينبغي سهل عليه تعلم الإلهيات، فهكذا نقول: من يريد أن يهذب نفسه ويهيئها لقبول إلهام الملائكة إذ ابتدأ أولا فأصلح أخلاقه الرديئة التي نشأ عليها منذ الصبا، ثم سار سيرة عادلة في متصرفاته كما رسم له في الشريعة، ثم نظر في العلوم الحسية فأحكمها كما يجب - مثل ما ذكرنا في رسالة الحاس والمحسوس، ثم نظر في الأمور العقلية فأحكمها كما يجب ليحل بها عن ضميره والآراء الفاسدة التي اعتقدها قبل البحث عن حقائق الأشياء، كما بينا في رسالة العقل والمعقول - فأقول: إن نفسه عند ذلك متهيئة لقبول إلهام الملائكة، وكلما زاد في المعارف استبصارا صارت نفسه لقبول إلهام الملائكة أسهل طبعا، ولطاعة العقل أشد تشبها، وإلى السمائية أقرب قربة، وإنما يمنعها عن الصعود إلى ملكوت السماء نوازع طبيعة الجسد ما دامت تتعلق به.
فإذا فارقته عند الممات كانت هناك في طرفة عين مع أبناء جنسها ممن مضى على سنن الهدى كما قال تعالى: @QUR08 والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم الآية، وكما قلنا في النفوس الإنسانية: إنها تنتقل إلى رتبة الملائكة فهكذا نقول أيضا في نفوس الملائكة: إنها تترقى في درجات الجنان ومقاماتها في المعارف كما ذكر الله تعالى: @QUR014 وما منا إلا له مقام معلوم * وإنا لنحن الصافون * وإنا لنحن المسبحون وقال تعالى: @QUR08 يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته، وكما قلنا في تنقل نفوس الإنسانية إلى الملائكة كذلك نقول في النفوس الحيوانية: إنها ستنتقل إلى رتبة الإنسانية على ممر الدهور والأزمان كما بينا في رسالة الأدوار والأكوار.
ثم اعلم أن أحق النفوس الحيوانية أن تنتقل إلى رتبة الإنسانية هي الشقية في أيدي البشر، المسخرة للإنسان المتعبة في خدمته المنقادة لطاعته، كما أن أحق النفوس الإنسانية أن تنتقل إلى رتبة الملائكة هي النفوس المتعوبة في التعبد المنقادة لأحكام الشريعة الخادمة في الهياكل والمساجد والبيع والصلوات والصوم والقرابين والدعاء والتأله، كما ذكر الله تعالى بقوله: @QUR012 إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر.
واعلم أن من الموجودات ما هو أجسام بلا أرواح لا معارف لها ولا شعور كالحجارة والخشب وغيرهما، ومنها ما هو أرواح لا أجساد لها وهي علامة كالملائكة، ومنها ما هي مركبة مؤلفة منهما جميعا كالحيوان.
واعلم أن الحيوانات متفاوتة في شعورها ومعارفها؛ وذلك أن منها ما له حاسة واحدة، ومنها ما له حاستان، ومنها ما له ثلاث حواس، ومنها ما له أربع حواس، ومنها ما له خمس حواس، كما بينا في رسالة الحيوانات، وهكذا أيضا الناس متفاوتون في معارفهم وعلومهم؛ وذلك أن من الناس عقلاء وبلها، ومن العقلاء علماء وجهلاء، والعلماء متفاوتون في درجات العلوم؛ وذلك أن منهم من يحسن عدة علوم ومنهم من هو أكثر منه ومنهم دون ذلك، وإن المفيدين في العلوم يتفاوتون في درجاتهم؛ وذلك أن منهم من تكون معلوماته كلها جسمانية، ومنهم من تكون معلوماته روحانية.
واعلم أن كل عالم تكون أكثر معلوماته روحانية فهو إلى الملائكة أقرب نسبة، ومن أجل هذا جعل الله تعالى طائفة من بني آدم واسطة بين الناس وبين الملائكة؛ لأن الواسطة هي التي تناسب أحد الطرفين من جهة والطرف الآخر من جهة؛ وذلك أن الأنبياء عليهم السلام كانوا يناسبون الملائكة بنفوسهم وصفاء جوهرها، ومن جهة أخرى كانوا يناسبون الناس بغلظ أجسامهم.
واعلم يا أخي أن كلام الملائكة إنما هو إشارات وإيماء، وكلام الناس عبارات وألفاظ.
وأما المعاني فهي مشتركة بين الجميع، وكانت الأنبياء تأخذ الوحي والأنباء عن الملائكة إيماء وإشارات، وذلك بلطافة ذكاء نفوسهم وصفاء جوهرها، وكانت تعبر عن تلك المعاني للناس باللسان الذي هو عضو من الجسد، لكل أمة بلغتها وبالألفاظ المعروفة بينها.
واعلم يا أخي أن الأنبياء يستعملون في خطابهم الناس ألفاظا مشتركة المعاني؛ لكيما يفهم كل إنسان بحسب ما يحتمل عقله؛ لأن المستمعين لألفاظهم وقراء تنزيلات كتبهم متفاوتون في درجات عقولهم، فمنهم خاص ومنهم عام ومنهم بين ذلك، فالعامة يفهمون من تلك الألفاظ معاني، والخاصة يفهمون معاني أخرى أدق وألطف، وفي ذلك صلاح للجميع؛ لأنه قد قيل في الحكمة: «كلموا الناس على قدر عقولهم.» وقال المسيح عليه السلام، للحواريين: «لا تضيعوا الحكمة فتضعوها عند غير أهلها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم.»
فاجتهد يا أخي في طلب المعارف والعلوم، واسلك مسلك الربانيين والأخيار الذين أسلموا، فلعل نفسك تنتبه من نوم الغفلة وتستيقظ من رقدة الجهالة، وتصفو من كدر أوساخ الطبيعة، وتنفتح لها عين البصيرة فتفهم أسرار كتب النبوة ومرموزات النواميس الإلهية، فعند ذلك يتهيأ لها قبول إلهام الملائكة.
واعلم يا أخي أن نفسك ملك بالقوة، ويمكن أن تصير ملكا بالفعل إن أنت سلكت مسلك الأنبياء وأصحاب النواميس الإلهية، وعملت بوصاياهم المذكورة في كتبهم المفروضة في سنن شرائعهم، وإن نفسك أيضا شيطان بالقوة يمكن أن تصير يوما شيطانا بالفعل إن أنت سلكت مسلك الأشرار والكفار.
فانظر الآن يا أخي ماذا تختار لها وترضى لنفسك؟ فقد أعذر من أنذر @QUR08 لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وأن لا تقولوا يوم القيامة ما جاءنا من رسول ولا كتاب.
واعلم يا أخي أن الملائكة هم سكان الجنان وسعة السموات وفضاء الأفلاك، وهي ثمان جنان المذكورة في القرآن: جنة الفردوس وجنة النعيم وجنة الخلد وجنة المأوى ودار السلام ودار المتقين ودار المقامة ودار القرار، ومن ورائها كلها عرش الرحمن ذي الجلال والإكرام.
واعلم يا أخي أن الشياطين هم سكان النيران، وهي سبع طبقات: جهنم وجحيم وسقر ولظى وحطمة وسعير وهاوية، وجملة درجات الجنان ودركات النيران خمس عشرة رتبة، وقد بينا في رسالة أخرى تفصيلها.
واعلم يا أخي أن الرتبة الإنسانية هي آخر طبقة من جهنم، وهي أول درجات أبواب الجنان، فإن أنت بادرت وخرجت من عالم الكون والفساد قبل الفوت رجوت الصعود إلى عالم الأفلاك وفسحة السموات، والدخول في زمر الملائكة الذين هم سكان الجنان، وسقيت هناك من ماء الحيوان شرابا طهورا، وعشت عيش السعداء وأمنت من الموت إلا الموتة الأولى، وإن أنت أبيت ذلك وتوانيت وأخلدت إلى الدنيا حق عليك أن ترد إلى أسفل السافلين، وبقيت في البرزخ إلى يوم يبعثون.
وفقك الله أيها الأخ للسداد، وهداك إلى الرشاد وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد بمنه وجوده.
(تمت رسالة ماهية الإيمان وخصال المؤمنين، ويليها رسالة في ماهية الناموس الإلهي.)
الرسالة السادسة من العلوم الناموسية والشرعية في ماهية الناموس الإلهي وشرائط النبوة وكمية خصالهم ومذاهب الربانيين والإلهيين
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
اعلم أيها الأخ أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الحيوانات زينة الأرض كما أن الكواكب زينة السماء، وأن أتم الحيوانات هيئة وأكملها صورة وأشرفها تركيبا هو الإنسان، وأفضل الإنسان هم العقلاء، وأخيار العقلاء هم العلماء، وأعلى العلماء درجة وأرفعهم منزلة هم الأنبياء عليهم السلام ثم بعدهم في الرتبة الفلاسفة الحكماء، والفريقان قد اجتمعا على أن الأشياء كلها معلولة، وأن الباري عز وجل وتقدس هو علتها ومتقنها ومبدعها ومتممها ومكملها، كما أن الواحد من العدد هو علة العدد وأولها ومبدؤها، واتفقا أيضا؛ أعني الأنبياء والفلاسفة، على ذم الدنيا والإقرار بالمعاد وجزاء الأعمال فيه إن كان خيرا فخيرا وإن كان شرا فشرا، وكلا الفريقين شاهد لنا على ما نقول ونعتقد في أمر الدين والدنيا، فمن لم يرض بحكمها فليطلب له حاكما غيرهما هو خير منهما إن كان من الصادقين.
واعلم أيها الأخ، أن النبوة هي أعلى درجة وأرفع رتبة ينتهي إليها حال البشر مما يلي رتبة الملائكة، وأن تمامها في ست وأربعين خصلة من فضائل البشرية الأولى هي الرؤيا الصادقة، وهي جزء من أجزاء النبوة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من أجزاء النبوة.» ونحن قد فصلنا الخمس والأربعين الخصلة الباقية وشرحناها في رسالة لنا بعد هذه تجدها إن شاء الله.
(1) فصل واعلم أيها الأخ، أنه إذا اجتمعت هذه الخصال في واحد ...
واعلم أيها الأخ، أنه إذا اجتمعت هذه الخصال في واحد من البشر في دور من أدوار القرانات في وقت من الزمان، فإن ذلك الشخص هو المبعوث وصاحب الزمان والإمام للناس ما دام حيا، فإذا بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة ودون التنزيل ولوح التأويل وأحكم الشريعة وأوضح المنهاج وأقام السنة وألف شمل الأمة، ثم توفي ومضى إلى سبيله؛ بقيت تلك الخصال في أمته وراثة منه، وإن اجتمعت تلك الخصال في واحد من أمته أو جلها فهو الذي يصلح أن يكون خليفته في أمته بعد وفاته، فإن لم يتفق أن تجتمع تلك الخصال في واحد لكن تكون متفرقة في جماعتهم اجتمعت تلك الجماعة على رأي واحد، وائتلفت قلوبهم على محبة بعضهم بعضا، وتعاضدت على نصرة الدين وحفظ الشريعة وإقامة السنة وحمل الأمة على منهاج الدين، دامت لهم الدولة في دنياهم، ووجبت العقبى لهم في أخراهم، وإن تفرقت تلك الأمة بعد وفاة نبيها واختلفت في منهاج الدين تشتت شمل ألفتهم، وفسد عليهم أمر آخرتهم وزالت عنهم دولتهم.
فإن كنت عازما على طلب إصلاح الدين والدنيا فهلم بنا نجتمع مع جماعة إخوان فضلاء، ونقتدي بسنة الشريعة في صدق المعاملة ومحض النصيحة وصفوة الأخوة.
(2) فصل في أنه ليس من جماعة يجتمعون على المعاونة في أمر من أمور الدين والدنيا ...
واعلم أنه ليس من جماعة يجتمعون على المعاونة في أمر من أمور الدين والدنيا أشد نصيحة بعضهم لبعض ولا أحسن من معاملة إخوان الصفاء؛ وذلك أن كل واحد منهم يرى ويعتقد أنه لا يتم له ما يريده من إعلاء الدين إلا بمعاونة أخيه، وكل واحد منهم يريد ويحب لأخيه ما يحب ويريد لنفسه، وكذلك يكره له ما يكره لنفسه.
وقد بينا في رسالة لنا قبل هذه كيف تكون صفوة الأخوة وما شرائطها فتأملها أيها الأخ واعرضها على إخوانك وأصدقائك ممن ترجو منه الصلاح والنصيحة والمودة توفق إن شاء الله.
(3) فصل واعلم أن هذا الأمر الذي قد ندبنا إليه إخواننا ...
واعلم أن هذا الأمر الذي قد ندبنا إليه إخواننا وحثثنا عليه أصدقاءنا ليس هو برأي مستحدث ولا مذهب محدث، بل هو رأي قديم قد سبق إليه الحكماء والفلاسفة والفضلاء، وهو طريق سلكه الأنبياء عليهم السلام ومذهب مضى عليه خلفاء الأنبياء والأئمة المهديون، وبه كان يحكم النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله، وهي ملة أبينا إبراهيم وبه سمانا المسلمين من قبل.
وفي هذا القرآن وهو الاجتماع على رأي واحد بترك الاختلاف وموافقة النفوس وتأليف القلوب والخطاب بصدق الأقاويل والتصديق في الضمائر، وأن لا يكذب بعضها بعضا، ولا يخدع ولا ينخدع، وينصح ولا يخون، ويثق ولا يتهم، ويتودد ولا يتحاسد، ويتحاب ولا يتباغض، ويوافق ولا يخالف، ويتفق ولا يختلف، ويتعاضد ولا يتخاذل، ويتناصر ولا يتقاعد، ويتعاون على صلاح الدين، ويكونوا كرجل واحد ونفس واحدة؛ اقتداء بسنة الشريعة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمنون كرجل واحد ونفس واحدة، تتكافأ دماؤهم وأموالهم، وهم يد على من سواهم.» وكما أوصانا الله تعالى وقال: @QUR09 وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان وقال: @QUR05 ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم وقال: @QUR03 فأصبحتم بنعمته إخوانا.
(4) فصل في أنه ما من جماعة تجتمع على أمر من أمور الدين والدنيا ...
واعلم أنه ما من جماعة تجتمع على أمر من أمور الدين والدنيا وتريد أن يجري أمرها على السداد وتكون سيرتها على الرشاد إلا ولا بد لها من رئيس يرأسها؛ ليجمع شملها ويحفظ نظام أمرها ويراعي تصرف أحوالها، ويرم[1] على الانتشار جماعتها، ويمنع من الفساد صلاحها؛ وذلك أن الرئيس أيضا لا بد له من أصل عليها يبني عليه أمره ويحكم به بينهم.
وعلى ذلك الأمر بحفظ نظامهم، ونحن قد رضينا بالرئيس على جماعة إخواننا والحكم بيننا العقل الذي جعله الله تعالى رئيسا على الفضلاء من خلقه الذين هم تحت الأمر والنهي، ورضينا بموجبات قضاياه على الشرائط التي ذكرناها في رسائلنا وأوصينا بها إخواننا، فمن لم يرض بشرائط العقل وموجبات قضاياه ولم يقبل تلك الشرائط التي أوصينا بها إخواننا أو خرج عنها بعد الدخول فيها فعقوبته في ذلك أن نخرج من صداقته ونتبرأ من ولايته ولا نستعين به في أمورنا ولا نعاشره في معاملتنا ولا نكلمه في علومنا، ونطوي دونه أسرارنا، ونوصي بمجانبته إخواننا؛ اقتداء بسنة الشريعة كما ندبنا إليه ربنا، جل وعز، فقال: @QUR020 قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله وقال عز وجل: @QUR09 يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله الآية.
(5) فصل في أن الرياسة نوعان
ثم اعلم أيها الأخ، أن الرياسة نوعان: جسماني وروحاني، فالرياسة الجسمانية مثل رياسة الملوك والجبابرة الذين ليس لهم سلطان إلا على الأجسام والأجساد بالقهر والغلبة والجور والظلم، ويستعبدون الناس ويستخدمونهم قهرا في إصلاح أمور الدنيا وشهواتها والغرور بلذاتها وأمانيها.
وأما الرياسة الروحانية فمثل رياسة أصحاب الشرائع الذين يملكون النفوس والأرواح بالعدل والإحسان، ويستخدمونها في الملل والشرائع لحفظ الشرائع وإقامة السنن والتعبد بالإخلاص والتأله برقة القلوب، واليقين بنيل الثواب والفوز والنجاة والسعادة في المعاد.
(6) فصل في أنه ليس من علم ولا عمل ولا صناعة ولا تدبير ولا سياسة مما يتعاطاه البشر ...
واعلم يا أخي أنه ليس من علم ولا عمل ولا صناعة ولا تدبير ولا سياسة مما يتعاطاه البشر هو أعلى منزلة ولا أسنى درجة، ولا في الآخرة أكثر ثوابا، ولا بأفعال الملائكة أشد تشبها، ولا إلى الله أقرب قربة، ولا لرضاه أبلغ طلبا من وضع الشرائع الإلهية.
(7) فصل في أن الشريعة الإلهية هي جبلة روحانية
واعلم أن الشريعة الإلهية هي جبلة روحانية تبدو من نفس جزئية في جسد بشري بقوة عقلية تفيض عليها من النفس الكلية بإذن الله تعالى في دور من الأدوار والقرانات، وفي وقت من الأوقات؛ لتجذب بها النفوس الجزئية وتخلصها من أجساد بشرية متفرقة ليفصل بينها يوم القيامة @QUR015 ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم وقوله: @QUR05 وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم الآية.
(8) فصل في أنه من تمام فضيلة واضع الشريعة أن تكون فيه اثنتا عشرة خصلة
واعلم يا أخي بأنه من تمام فضيلة واضع الشريعة أن تكون فيه اثنتا عشرة خصلة قد فطر عليها:
(9) فصل في أول قاعدة يضعها واضع الشريعة
واعلم أن أول قاعدة يضعها واضع الشريعة ثم يبني عليها سائر ما يعمل في تتميم الشريعة من القول والعمل، وتكميلها من الأقاويل والأوامر والنواهي ومعاني تأويلها ومفروضات شرائعه وسنن أحكامه وتدبير أمته، وسياسة أهل مملكته في أمر الدين والدنيا؛ هي أن يرى ويعتقد في نفسه علما يقينيا أن للعالم بارئا قديما حيا عالما حكيما قادرا قاهرا مريدا هو علة جميع الموجودات ومالكها ومصرفها بحسب ما يليق بواحد واحد منها.
فإذا تحققت هذه الآراء في نفس واضع الشريعة، وتصورها في فكره كأنه يشاهد يقينا لا شك فيه، دعا عند ذلك إليها أهل دعوته الذين أرسل إليهم، ويجتهد في إنبائهم ما قد اعتقده بالتصريح عنها للخواص من أهل دعوته في السر والإعلان غير مرموز ولا مكتوم، ثم يشير إليها ويرمز عنها عند العوام بالألفاظ المشتركة والمعاني المحتملة للتأويل بما يعقلها الجمهور وتقبلها نفوسهم.
فمن فهم تلك المعاني وتصور حقائق تلك الأمور التي أشار إليها واضع الشريعة، وتيقن بها ودام بعد نصرتها مجتهدا في معاونته محتملا للضيم صابرا في السر أو الضر؛ طلبا لمرضاة الله تعالى سماهم واضع الشريعة الصديقين والشهداء والصالحين، وأبلغ الله تعالى في المدح والثناء عليهم فقال عز وجل: @QUR014 فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
وإنما سماهم الشهداء؛ لمشاهدتهم تلك الأمور الروحانية المفارقة للهيولى؛ يعني به جنة الحياة ونعيمها، وسماهم الصديقين لتصديقهم لها بالطلب والاجتهاد من أنفسهم في نصرة واضع الشريعة ومعاونته.
فأما من قصر فهمه عن معرفة تلك المعاني وعن تصور تلك الأمور بحقائقها فأقر بما أخبره واضع الشريعة وصدقه على ما قال وقام معه بنصرته مجتهدا في معاونته صابرا تحت أمره ونهيه، سماهم واضع الشريعة المؤمنين ومدحهم الله تعالى وأثنى عليهم من جهة إيمانهم بما أخبرهم وتصديقهم له واجتهادهم معه في نصرته ومعاونته فقال: @QUR04 وعد الله المؤمنين والمؤمنات الآية.
وأما من أقر بلسانه وشك فيما قال بقلبه سماهم المسلمين، وذمهم الله تعالى فقال: @QUR09 قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا وقال: @QUR04 يمنون عليك أن أسلموا.
وأما من آمن بلسانه وخانه في السر ونافق وأضمر له بقلبه تكذيبا خلاف ما أظهر بلسانه وخدعه ومكر به، سماهم واضع الشريعة المنافقين، وأكثر الله لهم الوعيد والذم والزجر، فقال إنكارا لما لم ينتهوا عما هم عليه ووعيدا لهم من النفاق: @QUR07 إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار.
وأما من أنكر دعوته في الظاهر، وكذب في السر والإعلان وعاداه جهرا سماهم واضع الشريعة الكفار وناصبهم الحرب والقتال، وأكثر لهم الوعد والذم والزجر والتهديد.
(10) فصل في أن أحد خصال واضع الشريعة مراعاته لأهل دعوته
واعلم أن من أحد خصال واضع الشريعة ومراعاته لأهل دعوته أن يتعرف خبر كل واحد من أهل دعوته من الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والحر والعبد، والشريف والدنيء، والعالم والجاهل، والغني والفقير، والقوي والضعيف، والقريب والبعيد، حتى يعرف كل واحد منهم ما اسمه ونسبه وصناعته وعمله وتصرفه في حالاته، وما هو بسبيله في أمر معاشه، وما هو الغالب عليه من الطبع الجيد والرديء والخلق الحسن أو السيئ والعادات العادلة أو الجائرة حتى يثق بهم علما، ويتبين منازلهم، ويستعين بكل واحد منهم في العمل المشاكل له، ويستخدمه في الأمر اللائق به.
(11) فصل في أن أول سنة يستنها لهم ويطالبهم بإقامتها ...
واعلم أن أول سنة يستنها لهم ويطالبهم بإقامتها هي الأمور التي أولها موالاة بعضهم بعضا بسبب حرمة الشريعة؛ لتأكيد المودة بينهم وتأليف قلوبهم؛ ليجتمع بذلك شملهم وتتفق كلمتهم، ويأمرهم بمخالفة من يخالفهم في سنة الشريعة ومجانبتهم والبراءة منهم وإن كانوا ذوي القرابة والأحباء، كما قال الله عز وجل: @QUR010 المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وقال تعالى: @QUR06 لا تتولوا قوما غضب الله عليهم.
فإذا قاموا بواجب هذه السنة وتثبتوا عليها واستحكمت تلك في نفوسهم وتعاضدوا على ذلك وتناصروا عليه؛ صار كلهم عند ذلك كرجل واحد وجسد واحد ونفس واحدة، وصار واضع الشريعة لهم بمنزلة الرأس من الجسد وهم له كسائر الأعضاء، وتصير قوة نفس واضع الشريعة متصرفة في نفوسهم كتصرف القوة المفكرة في سائر القوى الحساسة، فيصدرون عند ذلك عن رأي واحد وقصد واحد وغرض واحد بقوة واحدة، فيغلبون كل من رام غلبتهم، ويقهرون كل من خالفهم وعاداهم وضادهم.
(12) فصل في أن صلاح الدين والدنيا ...
فهلم بنا أيها الأخ إن كنت عازما على طلب صلاح الدين والدنيا أن نقتدي بسنة الشريعة ونجتمع مع إخوان لك فضلاء وأصدقاء كرام، ونتعاون على ذلك بمحض النصيحة في الضمير وصدق المعاملة في السر والإعلان، وإلف المحبة في القلوب توفق إن شاء الله تعالى.
(13) فصل في أن من إحدى الخصال التي يعتقدها واضع الشريعة يقينا ...
واعلم أن من إحدى الخصال التي يعتقدها واضع الشريعة يقينا لا شك فيه أن من أقرب القربات إلى الله تعالى وأبلغ طلب لمرضاته بذل المال والنفس والأهل في إقامة الشريعة وتقويتها وإظهارها، وإن كل نفس من أنصاره وأتباعه أنفق ماله أو فارق أحباءه أو بذل دمه وجعل جسده قربانا في نصرة الشريعة، فإن تلك النفس بعد مفارقة جسدها تبقى مجردة من الهيولى، وتعلو رتبتها على سائر النفوس التي هي أبناء جنسها، وترتفع درجتها وتشرف هي على النفوس المتجسدة المستعملة لتلك الشريعة، فتصير موقوفة عليها شاهدة أحوالها، وتكون الشريعة لها مدينة روحانية، ويكون تصرفها وتحكمها في النفوس المستعملة لتلك الشريعة كتصرف رؤساء أهل المدينة في أملاكهم وغلمانهم وأتباعهم، وإنها تنال بتلك اللذة والسرور والفرح مثل ما ينال الرؤساء ذوو السياسة من انقياد المرءوسين لطاعتهم وحسن خدمتهم، وكلما كثر عدد التابعين في الشريعة ازدادت فرحا وسرورا ولذة وغبطة دائما أبدا.
واعلم أن من إحدى خصال واضع الشريعة أن يسن لأهل دعوته أولا سنة حسنة يقيمونها بشرائطها، وسيرة عادلة يتعاملون بموجبها فيما بينهم، ويكون في استعمالهم صلاح الجمهور والنفع العام، ولا يبالي أن يكون عليه أو على بعضهم من استعمالها لها مشقة أو ضرر؛ لأن غرض واضع الشريعة ليس إصلاح أمر نفسه ولا إصلاح أنصاره وأتباعه الموجودين في الوقت الحاضر في زمانه أو النفع العاجل له ولهم، بل غرضه إصلاحهم وإصلاح من يجيء بعدهم من التابعين ومن يجيء بعد أولئك إلى يوم القيامة.
واعلم بأن نسبة تلك الأشخاص الموجودة في زمانه بالنسبة إلى من يجيء بعدهم من الكثرة ما هو إلا كنسبة الآحاد إلى العشرات، والعشرات إلى المئات، والمئات إلى الألوف، والألوف إلى عشرات الألوف، والعشرات الألوف إلى المئات الألوف، والمئات الألوف إلى ألوف الألوف إلى ما لا نهاية.
واعلم أن مثل واضع الشريعة مع إخوانه وأنصاره وأتباعه الذين يجيئون بعدهم إلى يوم القيامة في حكم الشريعة كمثل شجرة هو وأصحابه وأنصاره أغصانها وقضبانها ومن يجيء بعدهم من التابعين لهم كالفروع، ومن يجيء بعدهم كالورق والنور والزهر والثمر، وهذه الشجرة روحانية تنبت من فوق إلى أسفل؛ لأن عروقها في السماء مما يلي رتبة الملائكة؛ لأن مادتها من هناك تنزل - يعني بتأييد واضع الشريعة من الملائكة - وعنهم يأخذ الوحي والإلهام والأنباء يؤديها إلى البشر الذين هم في الأرض؛ ليجتذبهم بها إلى رتبة الملائكة، وهذه الشجرة التي رمز عنها يقال: إنها شجرة طوبى نبتت من تحت العرش، وتدلت أغصانها في منازل أهل الجنة وهم يجتنون ثمرها في دائم الأوقات.
(14) فصل في أن من إحدى الخصال التي يضعها صاحب الشريعة ألا ينسب إلى رأيه ...
واعلم أن من إحدى الخصال التي يضعها صاحب الشريعة ألا ينسب إلى رأيه واجتهاده وقوته شيئا مما يقول ويفعل ويأمر وينهى في وضع الشريعة، لكنه ينسبها إلى الواسطة التي بينه وبين ربه من الملائكة التي توحي إليه في أوقات غير معلومة. وأما الحكماء والفلاسفة إذا استخرجوا علما من العلوم وألفوا كتابا، أو استخرجوا صنعة من الصنائع أو بنوا هيكلا أو دبروا سياسة نسبوا ذلك إلى قوة أنفسهم واجتهادهم وجودة رأيهم وفحصهم وبحثهم، وهذا خلاف ما يفعله واضع الشريعة.
(15) فصل في أن تمام الدين والدنيا لتابعي الشريعة في أربع خصال
واعلم أن تمام الدين والدنيا لتابعي الشريعة في أربع خصال: أحدها أن يكون لكل واحد منهم عقل يعرف به القبيح وينزجر عنه ويعرف الجميل ويأمر به، والثاني أن يكون لهم بواضع الشريعة قدوة في أفعاله وأقاويله وآدابه ومتصرفاته، والثالث أن يكون مع كل واحد منهم وصية من واضع الشريعة يدرسونها في أوقات معلومة، والرابع أن يكون على كل جماعة منهم رئيس من فضلائهم عارف بسنة الشريعة يأمرهم بإقامتها ويحثهم على حفظها وبنهاهم ويزجرهم متى أرادوا تغيير سيرة الشريعة.
(16) فصل في أن العقلاء الأخيار إذا انضاف إلى عقولهم القوة بواضع الشريعة ...
واعلم أن العقلاء الأخيار إذا انضاف إلى عقولهم القوة بواضع الشريعة فليس يحتاجون إلى رئيس يرأسهم ويأمرهم وينهاهم ويزجرهم ويحكم عليهم؛ لأن العقل والقدرة لواضع الناموس يقومان مقام الرئيس الإمام، فهلم بنا أيها الأخ أن نقتدي بسنة الشريعة ونجعلها إماما لنا فيما عزمنا عليه، والله يوفقك إنه جواد كريم.
(17) فصل في طائفة من المرتاضين بالعلوم الفلسفية
واعلم أن طائفة من المرتاضين بالعلوم الفلسفية والمتأدبين بالآداب الرياضية إذا كانت نفوسهم جاهلة بظاهر أحكام الشريعة عمياء عن معرفة أسرار موضوعاتها توانوا في استعمال سنة الشريعة الإلهية والسير بسيرته، وعابوا موضوعاته وأنفوا من الدخول تحت أحكامه، واستكبروا عن الانقياد لحدوده، فمن أجل هذا سماهم صاحب الشريعة شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا فيما ينكرون على الشريعة من أحكامه، وما يعيبون عليه من موضوعاته، يعني يتغامزون على أهل الشريعة المستعملين لها كما قال الله تعالى: @QUR04 وإذا مروا بهم يتغامزون كل ذلك جهلا منهم بأسرار الشريعة وعمى عن أحكامها كما وصفهم الله تعالى: @QUR06 صم بكم عمي فهم لا يعقلون.
(18) فصل في أن للكتب الإلهية تنزيلات ظاهرة
واعلم أن للكتب الإلهية تنزيلات ظاهرة وهي الألفاظ المقروءة المسموعة، ولها تأويلات خفية باطنة وهي المعاني المفهومة المعقولة، وهكذا لواضعي الشريعة موضوعات عليها وضعوا الشريعة ولها أحكام ظاهرة جلية وأسرار باطنة خفية، وفي استعمال أحكامها الظاهرة صلاح للمستعملين في دنياهم وفي معرفتهم أسرارها الخفية صلاح لهم في أمر معادهم وآخرتهم، فمن وفق لفهم معاني الكتب الإلهية وأرشد إلى معرفة أسرار موضوعات الشريعة، واجتهد في العمل بالسنة الحسنة والسير بسيرته العادلة، فإن تلك النفوس هي التي إذا فارقت الجسد ارتفعت إلى رتبة الملائكة التي هي جنات لها، وهي ثمان مراتب، وفازت ونجت من الهيولى ذي الثلاث الشعب التي هي الطول والعرض والعمق، وارتفعت في درجات الجنان والمراتب الثمان التي سعة كل واحدة منها كعرض السماء والأرض، ومن لم يرشد لفهم تلك المعاني ولا معرفة تلك الأسرار ولكن وفق للعمل بسنته العادلة وأحكامه الظاهرة، فإن تلك النفوس عند مفارقتها الجسد تبقى محفوظة على صورة الإنسانية التي هي الصراط المستقيم إلى أن يتفق لها الجواز على الصراط المستقيم، وإلى هذا أشار بقوله تعالى فقال: @QUR05 وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه الآية، وهذا هو الغرض الأقصى في وضع الشريعة الإلهية، ومن لم يرشد لفهم تلك المعاني، ولا اجتهد في العمل بسنة الشريعة ولا الدخول تحت أحكامها ولا الانقياد لحدودها فإن تلك النفوس إذا فارقت الجسد انحطت إلى البهيمية التي هي دركات لها وهاوية تهوي فيها، كما قال الله تعالى: @QUR08 لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم وإلى هذا أشار بقوله: @QUR08 فأما إن كان من المقربين * فروح وريحان إلى قوله: @QUR02 وتصلية جحيم، وفي معرفة أسرار هذه النكت الإلهية قيلت هذه القصيدة، وإلى أسرار موضوعاتها أشير بها وهي هذه:
اقتربت الساعة وانشق القمر
وانكشفت عنه أفانين العبر وإن يروا آية حق يعرضوا
عنها وقالوا: هو سحر مستمر وكذبوا واتبعوا أهواءهم
وكل شيء فعلوه في الزبر من بعد ما قد جاءهم من عجب ال
أنباء ما فيه لعات مزدجر في حكمة بالغة محكمة
ينفي بها العذر فما تغني النذر حتى إذا حق الهلاك مسرعا
أشياعهم فيه فهل من مدكر أحياه بعد موته الله وقد
قال ارجعوني بعد ما كان قبر فرده الله لقطع عذره
فكان أطغى في الرجوع وأشر مثل الذين فارقوا ديارهم
من حذر الموت فما أغنى الحذر فقال منشيهم لهم موتوا معا
ثمة أحياهم برزق وعمر أو كالذي مر بظهر قرية
خاوية على العروش منقعر فقال: هل يحيي الإله هذه
بعد الممات فأميت ونشر فكان فيه ثم في حماره
وفي الطعام والشراب معتبر يا أيها الناس اتقوا فإنما
أعمالكم أعمالكم كما ذكر ألهاكم الشيطان عن مقعد صد
ق ومقام لمليك مقتدر من قبل أن نطمس منكم أوجها
وطمسها رد لها على الدبر أو يلعن العادون في حدهم
لعنة أهل السبت في سيف البحر إذ جعلوا فيه قرودا وخنا
زير وأنواعا من الخلق الأخر بدل تبديلا لهم أمثالهم
مستويات الجنح موشي الصور منكسين لا يرد طرفهم
إليهم للذكر كلا لا وزر لا يستطيعون السجود إذ دعوا
وطالما عافوا السجود في القدر من بين مغلول اليدين طافيا
وبين صال في الجحيم المستعر يظما وللماء عليه لجة
في بعضها يعني بورد وصدر وبين مسلوك له سلسلة
مقدارها سبعون ذرعا في القدر قد أوجب النقمة منه نفسه
فصار موكولا إلى أم سقر وآخر غطى التراب رأسه
وطم منكوسا كما قام الشجر لا ينثني عن صائب الحتف ولا
يجتذب النفع ولا ينفي الضرر مستسلما للواردات حسرة
نارا تلظى وهو ماء منهمر هذا وكائن من وقود أضرمت
حرا وبردا في حديد أو حجر في الدرك الأسفل لا يبعدهم
إلا الذي في أول العمر فطر وكلهم إذ ظلموا أنفسهم
مشتركون في عذاب مستعر يبدلون بالجلود كلما
أنضجها ذوق العذاب في سقر أعوذ بالله من الجهل الذي
يصم ذا السمع ويعمي ذا البصر ومن خيالات النفوس شأنها
أن تعبد الله على حرف الغرر ومن أثيم مستطيل كلما
أمهله الله تمادى وأشر أتته آيات الإله ربه
فانسلخ المحروم منها وانتشر فكان من جملة غاوين رأوا
رفعتهم أفضت بهم إلى الحفر وجاهل يخلط في إيمانه
كفرا فإن نبهته تاه وفر وسنان لا يعلم إلا ظاهرا
من الحياة غافلا عن الأثر وهو على الإعراض عن آخرة
فيها لمن أدركها خير وشر يستعجل الساعة والساعة في
مماتة الجاهل أدهى وأمر من معشر عذبهم جهلهمو
إذ ضرب السور عليهم فانحصر مميز للخلق في ظاهره
من العذاب شاغل عن العبر ضنك على المرء وفي باطنه
من رحمة الله غمام منتشر تبارك الله العليم ربنا
وعالموه فهم الحزب الأغر وكل من والى وعادى فيه لو
آوى دعاة المؤمنين أو نصر وكل من هاجر في الله ومن
جاهد أو حج إليه واعتمر إلى بيوت حية ناطقة
مشتركات في اللباس المنتشر قد أذن الله لها في رفعها
وأن يكون لاسمه فيها ذكر من معشر موحدين دينهم
كدين عبد الله مولانا «الخضر» يرون في عين النفوس ما يرى
غيرهم في حسنها في المنتظر في كل عصر منهم ذو دعوة
يجر من سفن البحار ما عبر لا يقفون عند شخص واحد
تمضي دهور وهو وعد ينتظر بل فيهم ومنهم طوالع
تجري على ترتيب نظم مستطر دونكموها يا بني الحق ولا
تشغلكم عنها أباطيل الفكر فكم لها من سامع منتفع
يعلم ما يأتي لها وما يذر وغافل عن الرموز جاهل
يقول: من يقول ذا فقد كفر فمن يكن يعلم ما يقوله
وكان يجري رأيه على النظر بما يبين صدقه بشاهد
من العقول لا برجم من حذر بما يكون قربه مشتركا
ويستوي فيه دعاوى من يقر فليأت بالحكمة في أخباره
بالعدد المخصوص في آي السور مثل مقادير الفروض كلها
من الصلاة والزكاة والطهر وكم أولو العزم وأصحاب الرضا
طالوت ذي البسط وحيد المنتظر وكيف أسماء الإله ربنا
تسع وتسعون هي الحسنى الكبر وكيف في تفريقه أمته
على ثلاث بعد سبعين اختصر وكيف أجزاء النبي ستة
وأربعون وهو أمر ذو خطر لم جعل الرؤيا الصحيح واحدا
من جملة الأجزاء فيه فافتكر وحاملو العرش وفي عدتهم
عدة أبواب الجنان في القدر واختصت النيران في أبوابها
بسبعة ممن أتاها وابتدر منطلق فيها إلى ظلاله
فيها ثلاث شعب ترمي الشرر فقال في الذكر عليها تسعة
يملك ما فيها جميعا وعشر كأنهم قد جعلت عدتهم
لفتنة الكافر أو ذكر الخبر وكل من يسلك فيها وله
سلسلة مقدار سبعين قدر هذا وما «طه» وما «حم» أو
«طس» أو أشباه هذا من سور وما أمور أخفيت أنباؤها
عن ظاهر بين رعاع كالحمر من قصة الجان الذين أفسدوا
واستحوذوا منها بماء قد غمر وما هي «الحية» «والطاووس» إذ
كانا معينين لإبليس الخسر؟ وما هي الحنطة إذ حذرها
آدم من بين النبات والخضر؟ وكيف لما ذاقها بدت له
سوآته وكان قبل مستتر؟ وكيف تعليم «الغراب» أولا
«قابيل» دفنا لأخيه إذ حضر؟ وما هي النار التي كانت على
الخليل إبراهيم بردا إذ شكر؟ وما هي «الطير» التي أنشرها
له الإله بعد موت إذ صبر؟ وما هو «الطوفان» إذ عم؟ وما
سفينة الألواح فيه والدسر؟ وما قميص يوسف وذئبه
والدم إذ جيء بإفك مشتهر؟ و«الجب» إذ ألقي في غيبته
والحبس إذ قد خص بما منه بهر وكيف باعوه على مبتاعه
بالثمن البخس وبالشيء النذر؟ وما هو البرهان إذ أبصر قال
عندها: السجن مرادي فصبر؟ وشاهد منه قد استشهده
على قميص كان قد من دبر وكيف كان بعد ذا قميصه
فيه شفاء لأبيه مدخر؟ وما هو العجل الذي خار؟ وما
الصفراء أزجيت قتيلا في البقر؟ وما دم فاض فصار شرقا
لمن عليه لا على الماء اقتصر وكيف تاهت أمة عظيمة
دهرا وأرض التيه كالدر صغر؟ و«الجبل» المرفوع فيهم ظله
يشهده من غاب منهم وحضر وخر ذي الملك سليمان وما
«خاتمه» وما «العصا» ساعة خر؟ وما هي الطير وما منطقها
والريح إذ تجري به وتنسخر؟ وما هو الكرسي في إلقائه
له عليه جسدا لما اختبر؟ والعرش إذ أحضره عالمه
قبل ارتداد طرفه كما ذكر ويونس إذ قد بلعه حوته
فشاهد الأنجم فيها واعتبر وما المسيح الروح والمهد الذي
كلم فيه الناس في وقت صغر؟ وصلب هاروت وماروت وما
يعلمان الناس ممن قد سحر ونوم أهل الكهف والبعث لهم
وكلبهم سابعهم حسب الخبر وسد يأجوج ومأجوج ومن
يلحسه من زمر بعد زمر وكيف سواه حجابا موثقا
نفخ المعينين وإفراغ القطر؟ وكيف إذ يقترب الوعد لهم
تشخص أبصارهم إذا انقعر؟ وما طلوع الشمس من مغربها
ما بين قرني مارد لا ينزجر وكيف بعد نورها تكويرها
والأنجم الزهر عليها تنكدر؟ وما هو «الدجال» إذ حذر من
ه كل خلق وهو شخص ذو عور؟ وكيف يجري عن جنابي جيشه
من الجبال شامخات في الكبر؟ فالجبل البصري فيه جنة
مثمرة ذات رياض وزهر والأصفهاني عليه أبدا
نار تلظى ودخان منعكر وذاك لا يعلمه إلا الذي
أشهد خلق نفسه فيما عبر وكان في خلق السموات العلى
والأرض قد عوضد أو كان خبر فالحمد لله الذي أشهدنا
ما لم نكن نعلم إلا بالخبر
واعلم يا أخي أن هذه الأبيات وما فيها من المسائل إنما هي إرشاد للمتأدبين بإصلاح الأخلاق وتنبيه للمرتاضين بعلم النفس على الأسرار النبويات، وما في موضوعات الشرائع من الرمز، ولا ينبغي لأحد من إخواننا أن يجيب أحدا إذا سئل عن هذه المسائل إلا لمن قد هذب نفسه وأصلح أخلاقه؛ لأن صدأ النفس ورداءة أخلاقها ممتنع من فهم معاني هذه.
وقد بينا في الرسالة السابعة التي تتلو هذه كيفية ذلك، فافهم إن شاء الله وحده.
(تمت رسالة ماهية الناموس الإلهي وشرائط النبوة، ويليها رسالة في كيفية الدعوة إلى الله.)
الرسالة السابعة من العلوم الناموسية والشرعية في كيفية الدعوة إلى الله
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
واعلم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن شيعتنا وإخواننا المتفرقين في البلاد، وسائر من ينسب إلينا فهم في أحوالهم ومراتبهم على منازل ثلاث: فطائفة منهم خواص وعقلاء متدينون أخيار فضلاء، وطائفة منهم أغبياء أشرار أردياء، وطائفة بين ذلك متوسطون، ولكل طائفة منهم آراء ومذاهب هم فيها مختلفون، وأقاويل مفننة هم بها مشغوفون، وأخلاق وسجايا هم بها متغايرون، ولهم مع ذلك أفعال وأعمال هم لها معتادون، فنريد أن نذكر كل طائفة منهم بأوصافهم، وندل عليهم بعلاماتهم، حتى إذا دخلت مدينة أو بلدا من البلدان ولقيت منهم أحدا تبينتهم بعلاماتهم وعرفتهم بسيماهم، فلقيتهم بالتحية والسلام، وداخلت كل طائفة منهم بألطف ما تقتدر عليه من الرفق والمداراة، وذاكرتهم من علمنا بحسب ما تقبله قلوبهم، وألقيت إليهم من أسرارنا حسبما تحتمله عقولهم وتتسع له نفوسهم، وتبلغ إليه هممهم وتتصوره أفهامهم، وتكون في كل ذلك كمثل الطبيب الحكيم الرفيق الذي قد ذكرت قصته في أول الرسالة لإخوان الصفاء.
(1) فصل في أن من خواص إخواننا ...
إن من خواص إخواننا الفضلاء أنهم العلماء بأمور الديانات العارفون بأسرار النبوات المتأدبون بالرياضيات الفلسفية، وإذا لقيت أحدا منهم وأنست منه رشدا فبشره بما يسره، وذكره باستئناف دور الكشف والانتباه وانجلاء الغمة عن العباد بانتقال القران من برج مثلثات النيران إلى برج مثلثات النبات والحيوان في الدور العاشر الموافق لبيت السلطان وظهور الأعلام.
واعلم أن من إخواننا وأهل شيعتنا طائفة أخرى بوجودنا شاكون، وفي بقائنا متحيرون فيما يعتقدون من موالاتنا، وطائفة أخرى موقنون ببقائنا لكنهم غافلون عن أمرنا غير عارفين بأسرارنا، وكلهم منتظرون لظهور أمرنا مستعجلون لمجيء أيامنا مشتهون نصرة أمرنا، فإذا لقيت منهم أحدا فبشره بما يسره وقر عينه بما يظنه بعيدا مما يؤمله، وعرفه أن ما يرجوه غير بعيد، وذكر من وثقت بهم من إخواننا بما ألقينا إليك من علمنا، وأطلعه على ما أطلعناك عليه من أسرارنا؛ كيما تطمئن نفوسهم فيما يعتقدون فينا، ويتبين لهم صدق ما هم مقرون به من أمرنا، وأخرج إليهم من رسائلنا ما ترغب نفوسهم فيه وترتاح إليه، وليكن ذلك على النظام والترتيب كما بينا لك، فلعلهم إذا استمعوا لقراءتها وفهموا معانيها انتبهت نفوسهم من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، وحييت بروح المعارف كما ذكر الله جل ذكره: @QUR018 أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها.
واعلم يا أخي بأن في الناس طائفة من أهل ملتنا مقرون بفضلنا وفضل أهل بيتنا، ولكنهم جاهلون بعلومنا غافلون عن أسرارنا وحكمتنا، فمن ذلك أنهم يجحدون وجودنا وينكرون بقاءنا، ومع هذا فإنهم يزرون بشيعتنا المقرين بوجودنا المنتظرين ظهور أمرنا، ومعاندون لهم متعصبون عليهم مبغضون لهم.
واعلم بأن أحد الأسباب في ذلك هو أن قوما من أشرار الناس جعلوا التشييع سترا لهم عما يحذرون من الآمرين عليهم بالمعروف والناهين لهم عن المنكر فيما يفعلون؛ وذلك أنهم يركبون كل محظور ويتركون كل مأمور به، وإذا نهوا عن المنكر فعلوه بارزوا بإظهار التشيع، واستعاذوا بالعلوية على من ينكر عليهم أو ينهاهم عن منكر فعلوه، ولبئس ما كانوا يعملون. ومن الناس طائفة ينسبون إلينا بأجسادهم وهم براء بنفوسهم منا، ويسمون أنفسهم العلوية، وما هم من العلويين ولكنهم من أسفل السافلين، لا يعرفون من أمرنا إلا نسبة الأجساد، ولا من القرآن إلا اسمه، ولا من الإسلام إلا رسمه، لا علما يتعلمون ولا فقها يدرون ولا صلاة يقيمون، ولا زكاة يؤدون، ولا البيت يحجون، ولا جهادا يعرفون، ولا حراما يجتنبون، ولا عن منكر ينتهون، وكل قبيح يركبون ولا يتوبون ولا هم يذكرون، ومع هذا كله على الناس يستطيلون وإليهم يتبغضون ومن شيعتنا ينفرون، فهم أبعد الناس من أهل ملتنا، وأعدى الناس لشيعتنا، وأجهل الخلق بعلومنا، وأغفل الناس عن حقيقة أمرنا وأسرار حكمتنا إلا الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وإليهم أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «يا بني هاشم لا يأتي الناس يوم القيامة بأعمالهم وتجيئون بأنسابكم، فإني لا أغني عنكم من الله شيئا.» ومن الناس طائفة قد جعلت التشييع مكسبا لها، مثل النائحة والقصاص، لا يعرفون من التشييع إلا التبري والشتم والطعن واللعنة والبكاء مع النائحة وحب المتدينين بالتشييع، وترك طلب العلم وتعلم القرآن والتفقه في الدين، وجعلوا شعارهم لزوم المشاهد وزيارة القبور كالنساء الثواكل يبكون على فقدان أجسادنا وهم بالبكاء على نفوسهم أولى.
ومن الشيعة من يقول: إن الأئمة يسمعون النداء ويجيبون الدعاء ولا يدرون حقيقة ما يقرون به وصحة ما يعتقدونه، ومنهم من يقول: إن الإمام المنتظر مختف من خوف المخالفين، كلا بل هو ظاهر بين ظهرانيهم يعرفهم وهم له منكرون، كما قيل:
يعرفه الباحث من جنسه
وسائر الناس له منكر
وكلهم يقرون بأن الأنبياء عليهم السلام خزان علم الله، وأن الخلفاء هم والأئمة المهديون وارثون علم النبوات، ولكنهم لا يدرون حقيقة ما يقرون ولا تصديق ما يعتقدون، فأعيذك أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن تكون منهم، بل كن هاديا مهديا رشيدا طبيبا رفيقا لإخوانك وأصدقائك وجيرانك: ترشد الضال وتبرئ الأكمه والأبرص وتحيي الموتى بإذن الله.
(2) فصل ذكروا أن ملكا من ملوك الهند كان عظيم الشأن ...
ذكروا أن ملكا من ملوك الهند كان عظيم الشأن عزيز السلطان واسع المملكة حسن السيرة في رعيته محبا للعدل والإنصاف، ولكن كان متدينا بعبادة الأصنام معظما لها مقربا لأهلها، ولم يكن يعرف شيئا من أخبار الأنبياء ولا ما جاءت به من حديث ملكوت السماء وأمر الوحي والتنزيل والسنن والتأويل، وأمر المبدأ والمعاد والبعث والقيامة والحشر والحساب والميزان والصراط والنجاة من النار ودخول الجنان، ومجاورة الرحمن ذي الجلال والإكرام، ثم إن ذلك الملك رزق على رأس الكبر ابنا سعيد المولد، فأمر المنجمين بالحساب والحكم على موجبات أحكام النجوم في مولده، فحكموا بأنه يتربى ويعيش ويطول عمره وينال ملكا وسلطانا لا يشبه ملك الأرضين ولا سلطان الجسمانيين، بل ملك السماويين وسلطان الروحانيين، فلما تربى ذلك الغلام ونشأ أفرد له أبوه منزلا، وبنى له قصرا فأسكنه فيه ووكل به الحفظة وشحنه بالخدم والطيرة والخصيان، ومنع أن يصل إليه أحد من العامة، فلما نشأ الغلام وترعرع رزق من الفهم والذكاء ما لم يرزق أحد غيره من أهل بلده، ثم علم آداب أبناء الملوك من القراءة والكتابة والشعر والفصاحة والنحو واللغة والحساب والنجوم والهندسة وما يليق بأولاد الملوك من العلوم والآداب، وكان صافي النفس حي القلب كثير التفكر في ملكوت السماء وأمر الصانع وكيفية المبدأ وأمر المعاد وأحوال القرون الذين مضوا وانقرضوا، ترى إلى ماذا صاروا، وإلى أين ذهبوا، حتى منعته الفكرة عن الأكل والنوم والتمتع بلذات النعيم في الدنيا وشهواتها، فأسهر ليله وأطال نهاره، وتمنى أن يجد أحدا يسأله عما في نفسه ويذاكره بما في قلبه فلم يجد أحدا، حتى فشا حديثه في الناس، وكثر الثناء الجميل عليه، وانتشر ذكره في الآفاق فسمع خبره حكيم من حكماء بلاد سرنديب فطمع في رشده، ورجا أن يكون هاديا رشيدا وفيلسوفا حكيما، فقصد نحو بلاده وحمل معه كتابا من كتب الحكمة وأسرار النبوة ملفوفا في ثوب في جوف سفط مختوم،[1] ثم إنه أتى تلك المدينة فطاف فيها فلم يجد فيها أحدا من أهلها يصلح أن يسمع حكمته غير ذلك الغلام، فطاف ببابه فرأى الوصول إليه صعبا، والأمر ممتنعا من كثرة الحراس والحفظة حول القصر، وأقام زمانا يفكر كيف يكون الوصول إليه والدخول إلى عنده حتى عرف الداخلين والخارجين من عنده وإليه، فوقع اختياره على أحد الخدم المختصين به، فرصده يوما حتى وجده خاليا، وأخذ بيده إلى جانب الطريق وقال له: اسمع ما أقول واكتم علي سري.
واعلم بأن عندي نصيحة لابن الملك، وقد وقع اختياري عليك لما توسمت فيك من الخيرية.
قال له الخادم: ما هذه الحاجة؟ وما هذه النصيحة؟ أسمعنيها حتى أعرفها.
قال له: أنا رجل من تجار البحر، وقد وقع بيدي جواهر مثمنة نفيسة لا تصلح إلا للملوك وأبناء الملوك، وقد قصدت هذا الفتى لأعرضها عليه، فإن كانت تصلح له واختارها فهي مبذولة له، وإن لم يكن يريدها ردت إلي سرا ولم يعلم بها أحد من الناس؛ فإني لست آمن من أن يشعر بها بعض اللصوص أو الطرارين[2] فيحتال علي في أخذها.
فقال له الخادم: أرني جواهرك أنظر إليها، فإن كانت تصلح له حملتها إليه.
فقال الحكيم: إن لجواهري شعاعا وبريقا شديدا لا تستطيع النظر إليها؛ لأن في عينيك ضعفا أشفق عليك ضررا.
وأما ابن الملك فشاب حدث جيد النظر حاد البصر لا أخاف عليه منه ضررا.
فقال له الخادم: إن هذا الأمر الذي تصف لأمر عظيم، وما أرى بكلامك بأسا، وأنا شاك فيما تقول فكيف أصنع؟
فقال الحكيم: لا يسعك أن تحرم ابن الملك هذه النصيحة إذا بذلتها له. واعلم بأنك إن لم توصلني إليه مع سفطي هذا توسلت بغيرك إليه. فذهب الخادم وعرف الفتى.
فلما سمع ابن الملك ذلك الحديث تهلل وجهه وداخله من الفرح والسرور ما لم يتمالك نفسه أن قام من مجلسه ومشى في الدار، وعلم أنه قد ظفر بحاجته ووجد طلبته، وقال للخادم: نعم ما رأيت حين عرفتني هذا الحديث، فالآن أوصله إلي ولكن بالليل في سر وكتمان.
فلما وصل الحكيم إلى الفتى ورأى شخصه تفرس فيه النجابة والفلاح، وقام الغلام من مجلسه وسلم عليه ورحب به وأقعده وقعد بين يديه، وقال للخادم: تنح الآن عنا لأسأله عما في نفسي.
ثم ابتدأ فسأله عن حاله ومجيئه وقصده، وأخذ في حديث طويل، وقد بينا في فصل بعد هذا أشياء مما جرى بينهم من الخطاب.
فهكذا ينبغي لإخواننا الفضلاء الأخيار، أيدهم الله وإيانا بروح منه، أن يقتدوا بذلك الحكيم في اختيارهم لحكمتهم الأحداث الفتيان الأخيار النجباء المتأدبين المتهذبين الفهماء الأذكياء؛ لأذكار علومنا وأسرار حكمتنا اقتداء بسنة الله تعالى؛ وذلك أنه لم يبعث نبيا إلا وهو شاب، ولا أعطى الحكمة لعبد من عباده إلا وهو حدث من الفتيان، كما ذكرهم الله تعالى وأثنى عليهم فقال: @QUR04 إنهم فتية آمنوا بربهم الآية، وقال في قصة خليله إبراهيم: @QUR06 سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم وقال موسى لفتاه: @QUR02 آتنا غداءنا.
وهكذا ينبغي لإخواننا إذا وجدوا صديقا بهذا الوصف ينبغي لهم أن يغتنموا ذلك ويعرفوا إخوانهم الباقين، ويستبشروا بالنصر والتأييد من الله عز وجل كما وعد، جل ثناؤه، بقوله: @QUR04 إن تنصروا الله ينصركم وقال : @QUR03 والله ولي المؤمنين.
(3) فصل فكان مما يجري بين الفتى والحكيم أن قال له: أخبرني لم يذم الحكماء الدنيا ...
فكان مما يجري بين الفتى والحكيم أن قال له: أخبرني لم يذم الحكماء أمور الدنيا ويزهدون في نعيمها وهي دارهم التي نشئوا فيها ومسكن آبائهم الذين ربوهم؟ فأجاب: لأنها تصغر في أعينهم إذا شاهدوا أمر ملكوت السماء، ويستقلون نعيمها في جنب ما يعرفون من نعيم أهل الآخرة كما صغر حال ذلك المسكين في أعين الملك ووزيره.
قال الفتى: كيف كان ذلك؟ قال الحكيم: ذكروا أنه كان ملك من ملوك الهند عظيم الشأن عزيز السلطان واسع المملكة حسن التدبير والسياسة عادل السيرة في الرعية صادق الحجة في الحكمة، بصيرا بأمور الدنيا، راغبا فيها متمنيا للخلود، ولم يكن يعرف أمر الآخرة ولا المبدأ ولا المعاد ولا البعث ولا القيامة ولا الوحي ولا النبوة، وكان مع ذلك يعبد الأصنام تقليدا، يقرب لها القربان ويعظم شأنها ويحسن إلى أهلها على عادة جارية قد اعتادها من الحداثة والصبا من غير فكر وروية في شأنها، وكان له وزير خير عارف بصير قد عرف ملكوت السماء ونبأ الملأ الأعلى وأمر المعاد والمبدأ وكيفية الوحي للأنبياء عليهم السلام، وعلل سنن الديانات ومرامي مرموزات النواميس وأسباب أحكام الشرائع، وما الغرض الأقصى منها؟ وما حقيقة معانيها وخفيات أسرارها ودقائق إشاراتها؟ وما قصد واضعيها؟ وما النفع العاجل منها؟ وما المطلب والمغزى في الأصل منها؟
فكان كلما رأى ذلك الوزير الملك يسجد لتلك الأصنام ويستلمها ويعظم شأنها من غير معرفة بحقيقة أمرها ولا بصيرة لشأنها وما المغزى من ذلك؛ امتعض قلبه لما عليه لغفلته وسهوه فيما يفعله تقليدا ويعمله جهالة، وكان يرثي له سرا وجهرا رحمة وشفقة عليه؛ لطول الصحبة معه وحسن المعاشرة له، وكان نهايته أن ينهاه عن ذلك أو ينبهه من غفلته، وأن لا يسمع لقوله لشدة سكرته وغفلته، ولا يقبل نصيحته لتمكنها في نفسه واستمراره عليها طول الزمان، فشكى ذلك إلى صديق له فقال:
قد طالت صحبتي لهذا الملك وما رأيت منه إلا خيرا، وله إلي إحسان كثير وإنعام وأفضال لا أقدر أن أؤدي شكرها، ولست أنكر من أمره إلا ما هو فيه من الغفلة في أمر الدين والمعاد وقلة الرغبة في الآخرة وترك النظر في المنقلب بعد الموت، ولا أدري إن ذكرته كيف يقع منه؟
فقال له صاحبه: أنت أخبر بصاحبك وأعرف بأخلاقه وأعلم بعاداته، فكن طبيبا رفيقا، لا تضع الدواء إلا عند الداء حتى ينفع، واطلب الفرصة فإن رأيت للكلام موضعا وللخطاب موقعا فاغتنم ذلك، وإن لم تر فلا تضيع الحزم. واعلم بأن الملوك لهم سكرات وغفلات من عدة وجوه، فمنها سكرات السلطان والأمر والنهي ومحبة الرياسة والعز والأنفة والكبر والاستطالة، ومنها سكر الشباب والنشاط والنجدة والتفاخر والخيلاء والشجاعة والشطارة ومحبة الغلبة والرياسة والسمعة، ومنها حب الشهوات المركوزة في الجبلة والتمكن منها والميل إلى اللذات المعتادة والرفاهية والراحة والزلفة واستمرار على العادات المعتادة من الصبا، ومنها الجهالات المتراكمة من أول الأمر والأخلاق المنشأة مع الطبع والخلقة، وكل هذه سكرات تمنع من استماع الحكمة والنظر في العاقبة والفكر والروية في المعاد والمنقلب في الآخرة بعد الموت.
ثم إن ذلك الوزير مكث دهرا طويلا يطلب الفرصة لخطابه إلى أن اتفق أن قال له الملك ذات ليلة - بعد ما فرغا من النظر في أمر الرعية وكتب النوبة وتدبير السياسة: هل لك أن نخرج الليلة متنكرين لنعرف حال المدينة ونتحسس أحوال الرعية وننظر إلى آثار المطر وكيفية ذي البلاد ومصالح العباد؟ وكان من سنة ملوك تلك البلاد ألا يركب الملك إلا في كل سنة مرة، ولا يظهر للرعية إلا يوما واحدا، كل ذلك تعظيما لأمر الملك وسياسة لأمر الرعية، فخرجا يطوفان حول المدينة متنكرين، فبينما هما كذلك إذ هما بضوء من بعيد فامتدا نحوه حتى دنوا منه فإذا هما بمزبلة شبه رابية عظيمة عليها جيف مرمية وسماد طرية منتنة الرائحة، وإذا في أسفله ثقبة تشبه المغارة، وإذا في أقصى داخلها رجل قاعد مشوه الخلقة على دكة قد أصلحها من بين سماد ورماد تلك المزبلة، وقد فرش تحته من خرق تلك المزبلة شبه بساط وعليه مدرعة قد خاطها شبه مرقعة، وفي رجليه تبان،[3] وعلى رأسه شملة مثل ذلك، وإذا بحذائه امرأة تشبهه في الخلقة والتشوه عليها كسوات شبه درع وخمار ومقنعة مثل ما عليه من خرق تلك المزبلة، وإذا بين يديهما سراج من خرق فوق آجرة شبه منارة، وبجنبه جرة مكسورة فيها دردي كالخل وقد مزجه بيسير من ماء، وإلى جانبه سلة خوص فيها طاقات كرفس وكراث، وبيد كل واحد منهما مشربة مكسورة يغترفان من تلك الجرة ويشربانها، وإذا على فخذه قصبة قد مد عليها خيطا شبه قوس النداف وهو ينقر عليها بقضيب في يده ويغني بأبيات غير موزونة خارجة من الإيقاع، وإذا به يذكر في تلك الأبيات حسن تلك المرأة ويصف جمالها وشدة عشقه لها وإفراط محبته إياها، وإذا بيدها خشبة غربال مكسورة وقد مدت عليها قطعة جلد غير مدبوغ جافة منتنة الرائحة شبه الدف، وهي تنقر إذا غنى هو وترقص وتثني يديه، وإذا شرب كل واحد منهما سار صاحبه وحياه بطاقة من ذلك الكرفس والكراث وهي تثني عليه بالحسن والجمال كأنه يوسف الصديق وتسميه شاهنشاه: ملك الملوك، وهو يسميها كديانوية: سيدة النساء، ويشرب ويسار إليها ويثني عليها ويصفها بالحسن والجمال مما يقصر وصف الحور العين في جنب ذلك، وإذا شربا سألا الله ألا يعدمهما ما هما فيه ولا يغير ما بهما من نعمة، وأن يبقيهما على تلك الحال أبدا ما بقي الدهر.
فلما أبصر الملك والوزير ما هما فيه من اللذة والسرور والفرح طال وقوفهما متعجبين من حال تينك المسكينين، ثم قال عند ذلك الملك للوزير: ما أظن أني في طول حياتي وعز سلطاني ونعيم ملكي وأيام شبابي ومجالس لهوي مع تمكني من شهواتي بلغ مني الفرح واللذة والسرور ما يصفان هذان المسكينان الحقيران الوضران من حالهما، ومع هذا كله أظن أنه لا تفوتهما هذه الحال كل ليلة إن أرادا؛ لأنه لا يعرض لهما شيء من العوائق التي تعرض لنا من الأشغال المانعة عن فراغ مجلس اللذة واللهو مثل خروج الخوارج في أطراف المملكة، واضطراب النواحي وشغب الجند وطلبهم الأرزاق، ومثل النظر في تظلم الرعية وهمج العامة والنظر في محاسبة الكتاب وتولية العمال، ومثل النظر في التعازي والتهاني والنظر في أمر الخاصة وإصلاح أمر العامة، ومثل النظر في القصص والتوقيعات وحفظ الخزان وتفقد الرسل الواردين من الأطراف وإكرامهم والتجمل لهم، ومثل النظر في الكتب الواردة من أصحاب الأخبار وكتب أجوبتها وما شاكل هذه من الأشغال المنغصة للعيش المنقصة للذات الموردة للغموم والهموم والأحزان.
ثم قال الملك: ولكن أظن أنه لو كان هذان المسكينان دخلا منازلنا وألبسا ثيابنا وأبصرا مجالسنا وذاقا من طعامنا وعاينا أحوال ملكنا وشاهدا عز سلطاننا وعرفا لذة نعيمنا مرة واحدة مقدار ساعة، ثم ردا إلى حالهما لما تهنيا بالعيش بعد ذلك، ولا وجدا لهذه الحال النكرة التي هما فيها لذة أبدا، وصغر في أعينهما ما هما فيه من اللذة والفرح والسرور.
فلما فرغ الملك من هذا الخطاب وسمع الوزير قول الملك تذكر ما قال له صاحبه لما شكا إليه: اطلب الفرصة وضع الدواء حيث الداء، فإن لكل مقام مقال.
فقال الوزير للملك: أخاف أيها الملك أن نكون فيما نحن فيه من عز سلطاننا ونعيم ملكنا ولذيذ شهواتنا وسرورنا بأحوالنا وفرحنا بما حولنا مغرورين كغرور هذين المسكينين بما هما فيه، ونحن محقرين وجميع أحوالنا في أعين قوم آخرين كاحتقار هذين المسكينين عن أحوالنا.
فلما سمع الملك قول الوزير استكبره واستعظمه وقال له: وهل تعلم في الأرض اليوم مملكة أوسع من مملكتنا؟ أو سلطانا أعز من سلطاننا؟ أو بلدا أكثر نعما من بلدنا؟ أو مروة[4] أحسن من مروتنا؟ قال له الوزير: لا.
قال الملك: فمن هؤلاء القوم الذين زعمت أنه يصغر حالنا في أعينهم ويستحقرون أمرنا؟ قال: قوم يقال لهم النساك، فقال الملك: أين بلدهم؟ ومن أي ناس هم؟ قال: هم من قبائل شتى متفرقين في المدن وفي الآفاق والبلاد يجمعهم دين واحد ومذهب واحد ورأي واحد.
قال: صف لي مذهبهم وحالهم؟ قال : هم أمناء الله في خلقه وخلفاء أنبيائه وأئمة لعباده، وليس في الناس منهم إلا نفر يسير؛ لأنهم في الأنام كالملح في الطعام، بسؤالهم ينزل الله القطر من السماء والبركات في الأرض، وبدعائهم يرفع الله عن العباد القحط والغلاء والوباء، ومنهم حفاظ كتب الله وعلماء تأويلها.
فقال الملك: ومن أنبياء الله؟ فقال الوزير: هم طائفة من بني آدم اصطفاهم من عباده وقربهم وناجاهم وكشف لهم عن مكنون أسرار غيبه، وجعلهم أمناء وحيه وسفراء بينه وبين خلقه، أرسلهم من عالم الأرواح الذي في ملكوت السماء إلى عالم الكون والفساد في الأرض، وأنزل معهم الكتاب ليدعوا عباده إلى جواره في الجنة التي كان أبوهم آدم فيها تربى.
فقال الملك: وماذا يصفون من أحوال عالم الأرواح وملكوت السموات؟ قال: يقولون: إن هنالك فضاء فسيحا وأفلاكا دوارة وكواكب سيارة وأنوارا ساطعة وبهجة ونسيما وروحا وريحانا ونعيم الجنان والرضوان وجوار حور حسان وولدان وغلمان ومردان وطيب ونسيم لا يخالطها هجير الصيف وزمهرير الشتاء، ولا ظلمة الأجسام ولا فيئ الأجرام ولا مزاحمة في المكان وملك دائم وعز سرمد، وأهلها أحياء لا يموتون وشبان لا يهرمون، وأصحاء لا يمرضون وأغنياء لا يفتقرون، وجيران لا يتحاسدون وأصدقاء لا يختلفون، ونعيمهم لا يكدره بؤس ولذاتهم لا تخالطها آلام، وسرورهم لا تشوبه أحزان وفرحهم لا تدخله غموم ولا هموم ولا نوائب ولا حدثان ولا تغيير الزمان.
فقال الملك: وماذا يقولون؟ هل إلى هناك وصول؟ قال الوزير: لا يشكون أن من طلبها كما يجب وصل إليها.
قال الملك: فكيف وجه الطلب؟ وكيف المسلك؟ وكيف الوصول؟ فوصف له الوزير ما ذكرنا طرفا منه في رسائلنا الناموسيات، وما أخبرت به الأنبياء عليهم السلام في كتبهم، وما أشار إليه الفلاسفة الحكماء في مرموزاتهم.
(4) فصل قال الملك للوزير: متى عرفت هذه القصة ...
فقال الملك للوزير: مذ متى عرفت هذه القصة واعتقدت هذا الرأي وعلمت هذا المذهب؟ فقال: من زمان. قال: فما الذي منعك أن تذاكرني بهذا الأمر الجليل العظيم الخطير في طول صحبتك معي ؟ قال الوزير : إني لم أترك مذاكرة الملك بهذا الأمر الجليل؛ لأني بخلت عليك به أو لم أرك أهلا لذلك، ولكني تركته انتظارا وطلبا لفرصة توجب الخطاب وموضعا للكلام؛ لأن النظر في هذا العلم والبحث عن تحقيق هذا الأمر والتصور له بكنه المعرفة يحتاج إلى قلب فارغ من أشغال الدنيا، ونفس صافية من العوارض المكدرة والآراء الفاسدة والعادات الرديئة، وهمة عالية في طلب الأمور الشريفة، والزهد في الشهوات الجسمانية المذمومة، وترك اللذات المحسوسة الجرمانية الفانية حتى يتصورها بحقها وصدقها؛ كي لا يكون المقر بهذا الأمر مقلدا كالعوام الذين لا يعلمون من القول إلا زورا، ولا من العمل إلا ظاهرا، ولا من العلوم إلا قشورا، ولا من الدين إلا تعصبا، وإن الملوك أكثر الناس أشغالا في أمور الدنيا، وأطولهم آمالا وأرغبهم في الخلود في الدنيا، وأكثرهم تمنيا للبقاء فيها؛ لشدة تمكنهم من التمتع بنعيمها واستغراقهم في شهوات لذاتها، ولا يصلح للمذاكرة بهذا العلم إلا فتيان أذكياء لهم نفوس صافية وقلوب واعية بريئون من الآراء الفاسدة، غير معتادين للعادات الرديئة، أو مشايخ مهذبين في العلوم الرياضية مجربين في الأمور السياسية، محبين للعلوم الإلهية غير متعصبين في المذاهب المختلفة والآراء المتناقضة، أو نفوس ملكية لها همم عالية في طلب مراتب الملائكة والأمور السماوية والمعقولات الروحانية والوجود المحض والبقاء الدائم والدوام السرمد.
فقال الملك: ما يسعنا بعد هذا اليوم إلا أن نجعل أكثر عنايتنا في الكشف عن حقيقة هذا الأمر على صحة وبيان من غير تقليد ولا تكذيب، فإن بان أنه حق طلبناه حق الطلب وتركنا ما نحن فيه من عبادة أصنام وأمور هذه الدنيا التي كلها إلى زوال وفناء، كما فنيت أعمار الذين كانوا من قبلنا فزال ملكهم ونعيمهم، ثم قال له: أخبرني بماذا يصفون الحكماء من أصناف الخلائق هناك؟ قال: يقولون: لا يعلم عددهم إلا الله، كما لا يحصي عدد الخلائق الذين هم في الأرض من أجناس الحيوان من الأنعام والسباع والوحوش والطير والهوام والحشرات والدواب وحيوان الماء والبحار أجمع، وأصناف بني آدم من أجناس الأمم من الترك والحبش والزنج والنوبة والعرب والعجم والفرس والروم والهند والسند والصين والنبط والزط[5] والأكراد ويأجوج ومأجوج والسيسان وأمم أخر غير معروفة عند كثير من الناس وكل هؤلاء؛ مختلفي الألسن والألوان والأخلاق والطباع والعادات والأعمال والأفعال والصنائع والآراء والمذاهب، من أهل المدن والقرى والسوادات والسواحل والجزائر والبراري، نحو من سبعة عشر ألف مدينة تملكها نحو من ألف ملك، هذا في الربع المسكون من الأرض، وعلى أن الأرض بجميع ما عليها من البحار والجبال والبراري والأنهار والعمران والخراب ما هي، في فسحة سعة الهواء - إلا كحلقة ملقاة في برية صحراء، وفضل سعة كل واحد من الأفلاك التسعة على الهواء كفضل البرية على تلك الحلقة، أفترى أيها الملك أن الخالق تعالى ترك تلك الفسحة الواسعة من الفضاء مع شرف جوهرها وشرف جوهر تلك الأجرام وطيب نسيم تلك الأماكن فارغة خالية لم يجعل فيها أهلا وسكانا وخلائق تليق بها؟ وهكذا لم يترك البحار الأجاج الأمواه حتى خلق في قرارها الزاخرة أجناسا من الحيوانات وأنواعا من الأسماك، وهكذا جوهر الهواء الرقيق لم يتركه فارغا بل خلق فيه أجناسا من الطيور تسبح كما يسبح السمك في الماء، وكذلك هذه البراري اليابسة الجافة لم يتركها خاوية حتى جعل فيها أجناسا من الوحوش والسباع والأنعام، وكذلك في الآجام والآكام ورءوس الجبال وبطون الأودية وشطوط الأنهار حتى خلق في لب النبات وفي ثمر الشجر في جوف الحب حيوانات مختلفة الصور والأشكال.
واعلم أن صور هذه الحيوانات مع اختلاف أشكالها وسائر هيئاتها مثالات وأشباح لتلك الصور التي في عالم الأفلاك، غير أن هذه في هيولى جسمانية وتلك في جواهر روحانية، وما نسبة هذه الخلائق التي في عالم الكون والفساد وأحوالها بالإضافة إلى تلك الخلائق التي في عالم الأفلاك وأحوالها إلا كنسبة الصور المنقوشة على وجوه الحيطان وأبواب الحمامات بالأصباغ المختلفة، وكما أن تلك الصور مثل وأشباح للدواب المتحركة والحيوان الحساس، وأن تلك الصورة ميتة وهذه حية، كذلك تلك الخلائق روحانية وهذه جسمانية، وتلك شفافة وهذه مظلمة ، وتلك باقية وهذه فانية، وتلك صافية وهذه كدرة، وتلك نورانية وهذه ظلمانية، وتلك حافظة وهذه فاسدة. قال الملك: لم أخرج آدم وزوجته وذريته من الجنة هناك وأهبطوا إلى الأرض؟ قال: الجناية كانت منهما. قال: فحدثني كيف كانت القصة؟ قال: هي سر خفي لا يجوز كشفها، ولكن أضرب لك مثلا تفهمه، ألا ترى أيها الملك إلى عبدك الفلاني الذي ربيته صغيرا ثم لما نشأ ونما أدبته وعلمته كثيرا فلما كبر اصطفيته وفضلته وشرفته ثم وليته بعض مملكتك وجعلته خليفة في بعض بلادك وأمرت بطاعته أكثر عبيدك ورعيتك ومنحته أكثر نعمك ونهيته عن معصيتك؛ فخالفك وترك وصيتك وارتكب نهيك، كيف حططت من مرتبته؟ وكيف تكشفت عورته؟ وكيف حبسته في حبسك هو ومن ساعده على ذلك؟ ثم انظر كيف رضيت عنه لما ندم وتاب ورجع هو ومن معه؟ وكيف رددته إلى حالته الأولى؟ وكيف صددت من لم يعرف ولم يرجع؟ فهكذا قياس آدم وإبليس وذريتهما، فقال الملك: أكل ذرية آدم جنوا وعصوا؟ قال: لا، ولكن كنا ذرية من بعدهم، فلما جاءت الأنبياء بالرسالة قامت الحجة علينا أن نقول يوم القيامة: @QUR05 إنا كنا عن هذا غافلين. قال الملك للوزير: ما يقول هؤلاء الرسل إذا بلغوا والأنبياء إذا أخبروا في أول دعوتهم للناس وتذكارهم لهم ما قد نسوه وإعلامهم إياهم ما قد جهلوه؟ فوصف له ما قد ذكرنا طرفا منه في رسالة النواميس الإلهية. قال: وما يفعلونه؟ فوصف له ما قد ذكرنا طرفا منه في اعتقاد إخوان الصفاء. قال: كيف عشرتهم مع أهل دعوتهم، وعشرة أهل دعوتهم بعضهم مع بعض؟ فوصف له ما قد ذكرنا طرفا منه في رسالة عشرة إخوان الصفاء بعضهم مع بعض، فقال: في ماذا يتميز أهل دعوتهم من غيرهم؟ فوصف له ما قد ذكرنا طرفا منه في رسالة خصال المؤمنين وشرائط الإيمان.
فقال: أخبرني عن كتب الأنبياء بأي لغة تكون؟ قال: بلغة القوم الذين نشئوا فيها وبألفاظ الذين بعثوا إليهم. فقال: فعرفني معاني ألفاظها؟ قال: يكون منها أخبار القرون الماضية وأحاديث الأمم السالفة وبدء خلق السموات والأرض وكيفية أطباقها، ووصف أصناف الخلائق فيهما وأخبار ما يأتي في الزمان المستقبل من حديث الأيام وتغييرات الدهور والأزمان وفناء عالم الأجسام، وكيفية نشء الآخرة والحشر والحساب والميزان والقصاص والجواز على الصراط والنجاة وما شاكلها من الأمر المنتظر في الزمان المستقبل، ويكون فيها الأوامر والنواهي والتعليم والتأديب، وبيان الحلال والحرام والحدود والأحكام والفرائض والسنن من الصوم والصلاة والزكاة والقربان وفنون التعبد بالترغيب إلى نعيم الجنان والمدح والثناء على أهل الخير والزجر والنهي عن المساوئ، والسرقة والجور في الأحكام، والوعيد بعذاب النيران بضروب الأمثال والإشارات والرموز، ويكون فيها آيات بينات محكمات للقلوب وأمور متشابهات محيية للعقول. قال: فأخبرني أكل أوامرهم ونواهيهم وتحريمهم وتحليلهم وفرائضهم وسننهم تكون متساوية؟ قال: لا، بل مختلفة. قال: لم ذاك ومرسلهم واحد؟ قال: لأنهم أطباء النفوس ومنجموها، فمحرماتهم هي حمية النفوس، ومحللاتهم أدوية وشربات، وفنون التعبد هي المعالجات والمداواة، كل ذلك بحسبما يعرض للنفوس من الأمراض التي هي الآراء الفاسدة والأخلاق الرديئة والعادات الجائرة والجهالات المتراكمة، وكل ذلك بحسب اختلاف طبائع الأمم وأهوية البلدان وتغييرات الأزمان وموجبات أحكام النجوم ودلائل القرانات، كما بينا في رسالة الأكوار والأدوار.
(5) فصل وكان مما سأل الفتى ذلك الحكيم أيضا أن قال له ...
وكان مما سأل الفتى ذلك الحكيم أيضا أن قال له: أخبرني ماذا يرى الحكماء في حال النفوس بعد مفارقتها الجسد على الشرائط التي ذكرت وصعودها إلى ملكوت السماء؟ هل تشتاق هذا الجسد أو تتمنى العود إليه؟ قال الحكيم: ذكروا أن ملكا من الملوك كان له ابن كريم عليه، فزوجه بابنة ملك وزفها إليه على أحسن ما يكون من الكرامات كما تزف بنات الملوك، وأصلح للحاشية دعوة سبعة أيام لا يعرفون غير الأكل والشرب والغناء والفرح والسرور، وكان ابن الملك يقعد في صدر المجلس على سرير له وينظر إلى الناس وما هم فيه من الفرح والسرور، فلما مضى من الليل قطعة ونام أكثر الناس قام من مجلسه ليدخل الحجرة للخلوة عند العروس.
فاتفق ليلة أن نام أهل المجلس كلهم من السكر وقام الفتى يمشي في الدار حتى خرج من باب الدار وجعل في الشارع، ومشى حتى خرج من المدينة فوقع في الصحراء ولم يدر أين هو؟
ثم إنه رأى ضوءا من بعيد فذهب نحوه حتى قرب منه فإذا هو بباب مردود والضوء من داخله، فدفع الباب فإذا هو بقوم نيام مطروحين يمنة ويسرة، وكل واحد ملفوف في إزار، فظن أنها حجرة العروس، وأن أولئك النيام جواريها وخدمها فجعل يناديهم فلم يجبه أحد منهم، فظن أن ذلك من شدة سكرهم فجعل يلتمس العروس من بينهم حتى وقعت يده على واحدة هي أطراهن ثيابا وأطيبهن ريحا؛ فظن أنها عروسه فاضطجع معها وعانقها وجعل طول الليل يبوسها ويمتص من ريقها ويتلذذ، ولا يرى أن تكون لذة أطيب مما هو فيه.
فلما أصبح وزال سكره نادى بالخادم فلم يجبه أحد، وجعل يحرك العروس فلا تجيبه ولا تنتبه.
فلما طال ذلك عليه فتح عينيه فإذا هو في ناووس خرب، وإذا أولئك النيام كلهم جيف الموتى، وإذا هو بجنب امرأة عجوز قد ماتت منذ قريب وعليها أكفان جدد وحنوط طري، وإذا الدم والصديد قد سال منها وتلوثت ثيابه وبدنه ووجهه من تلك الدماء والصديد والقاذورات!
فلما رأى ذلك الحال هال وورد عليه أمر مهول فقام مرعوبا، وطلب الباب وخرج هاربا متنكرا؛ مخافة أن يراه أحد على تلك الصورة والحال ذاهبا في طلب الماء؛ ليغسل ما به حتى إذا ورد إلى نهر نزع ثيابه ليغسلها من ذلك الدم والصديد من القاذورات وهو متفكر في أمر كيف كان خروجه من مجلسه ومنزله؟ ولا يدري أين هو من البلد؟ وما خبر أهله من بعده؟
فما زال كذلك حتى مر به مجتاز في الطريق، فلما رآه لم يعرفه، فقال له: ما قصتك؟ ولم أنت قاعد في الماء؟ فاستحى منه أن يعرفه خبره، فقال: زلقت في مزبلة وتلوثت ثيابي وأنا قاعد ها هنا منتظر إلى أن يتوجه إلي أهلي بثياب ألبسها، فقال له المجتاز: إن الناس في شغل عنك! فقال: ما الذي أصابهم؟ قال: يقولون: إن ابن الملك قد اختطفه الجن البارحة، وهم محزونون عليه متوحشون لفقده. فقال له: عندي خبر ابن الملك فهل لك أن تعيرني ثيابك ودابتك حتى أمر وأبشرهم به والبشارة بيني وبينك نصفان؟ فدفع الرجل إليه بعض ثيابه وأركبه دابته وأوصله إلى دار الملك، فدخل الغلام متنكرا من باب الحجرة، فلما رأوه فرحوا به وسألوه عن خبره؟ فقال: القصة طويلة أخبركم بها وقتا آخر، عودوا إلى ما كنتم عليه، فعاد القوم إلى السرور والفرح أضعاف ما كانوا عليه، ثم قال الحكيم للفتى: ما تقول وما ترى؟ هل ذلك الغلام يريد بعد ما نجاه الله تعالى من مبيته تلك الليلة في الناووس العود إليه ويشتاق إلى معانقتها - يعني تلك العجوز الميتة - ليلة أخرى؟ قال الفتى: لا. قال الحكيم: فهكذا يرى الحكماء حال النفوس بعد مفارقتها للأجساد وصعودها إلى ملكوت السماء أنها لا تشتاق إلى هذا الجسد، ولا تريد العود إليه، بل تأنف من الفكر فيه وتشمئز من فعله وذكره كما اشمأزت نفس الغلام من ذكر مبيته في الناووس تلك الليلة وما عليه من العار عند أبناء الملوك إن عرفوا حديثه.
(6) فصل واعلم أيها الأخ البار الرحيم أن لنا إخوانا وأصدقاء من كرام الناس ...
واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن لنا إخوانا وأصدقاء من كرام الناس وفضلائهم متفرقين في البلاد، فمنهم طائفة من أولاد الملوك والأمراء والوزراء والعمال والكتاب، ومنهم طائفة من أولاد الأشراف والدهاقين[6] والتجار والتناء،[7] ومنهم طائفة من أولاد العلماء والأدباء والفقهاء وحملة الدين، ومنهم طائفة من أولاد الصناع والمتصرفين وأمناء الناس. وقد ندبنا لكل طائفة منها أحدا من إخواننا ممن ارتضيناه في بصيرته ومعارفه؛ لينوب عنا في خدمتهم بإلقاء النصيحة إليهم بالرفق والرحمة والشفقة عليهم؛ وليكون عونا لإخوانه بالدعاء لهم إلى الله سبحانه وإلى ما جاءت به أنبياؤه وما أشارت إليه أولياؤه من التنزيل والتأويل؛ لإصلاح أمر الدين والدنيا جميعا، وقد اخترناك أيها الأخ الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه؛ لمعاونتهم وارتضيناك لمشاركتهم بما آتاك الله من فضله من العقل والفهم والتمييز وجرية النفس[8] وصفاء جوهرها؛ لتكون مساعدا لهم ومعاضدا لإخوانك؛ لأن جوهرك من جوهرهم ونفسك من نفوسهم، فانظر بعقلك وميز ببصيرتك من ترى من إخوانك وأصدقائك من الكتاب والعمال وأهل العلم والفضل وحملة الدين والأديان ومن تبعهم من حاشيتهم وغلمانهم ممن يمكنك الوصول إليهم بأرفق ما تقدر عليه من اللطف والمداراة بأن نذكر لهم ما ألقيناه إليك من حكمتنا وأسرار علمنا؛ لتنبههم من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، وتحييهم بروح الحياة بإذن الله تعالى، فإن الله يؤيدك بنصره ويعينك بقدرته إذا رأى منك الجد والاجتهاد كما وعد أولياءه فقال عز من قائل: @QUR04 ولينصرن الله من ينصره وقال تعالى: @QUR05 فإن حزب الله هم الغالبون، فإذا عرفت منهم أحدا وآنست منهم رشدا عرفنا حاله وما هو بسبيله من أمر دنياه وطلب معائشه وتصرفه في حالاته؛ لكي نعرف ذلك ونعاونه على ما يليق به من المعاونة، فإن كان ممن يخدم السلاطين ويتصرف في أعمالهم أوصينا إخواننا ممن يكون بحضرة السلاطين والملوك بالنيابة عنه والنصيحة له وحسن الرأي فيه لدى الملوك والسلاطين والوزراء، وإن كان من أبناء التناء والدهاقين والأشراف وأرباب الضياع أوصينا إخواننا ممن يتولى عمل السلطان بصيانته وحسن معاونته في ملته، وكف الأذية عنه وقبض أيدي الظالمين عن البسط إليه، وإن كان من أبناء أصحاب النعم وأرباب الأموال عاوناه بحسب ذلك، وإن كان من الفقراء المحتاجين واسيناه مما آتانا الله من فضله، وإن كان ممن يرغب في العلم والحكمة والأدب وأمر الدين وطلب الآخرة علمناه مما علمنا الله عز وجل وألقينا إليه من حكمتنا، وأطلعناه على أسرارنا بحسب ما يحتمل عقله ويتسع له نفسه وتتوق إليه همته إن شاء الله عز وجل.
واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أنا لا نكتم أسرارنا عن الناس خوفا من سطوة الملوك ذوي السلطنة الأرضية، ولا حذرا من شغب جمهور العوام، ولكن صيانة لمواهب الله، عز وجل، لنا كما أوصى المسيح عليه السلام ، فقال: «لا تضعوا الحكمة عند غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم.»
واعلم أيها الأخ، أنا لا نحسد ملوك الأرضين ولا نتنافس في مراتب أبناء الدنيا، لكن نطلب الملك السماوي ومراتب الملائكة الذين هم أولو أجنحة مثنى وثلاث ورباع؛ لأن جوهرنا جوهر سماوي وعالمنا عالم علوي، ونحن ها هنا أسرى غرباء في أسر الطبيعة، غرقى في بحر الهيولى بجناية كانت من أبينا آدم الأول حين خدعه عدوه اللعين إذ قال: @QUR08 هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى، @QUR08 فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وقيل لهم: @QUR04 اهبطوا بعضكم لبعض عدو يعني أنتما وذريتكما @QUR07 ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين وقال: @QUR06 فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون.
واعلم أيها الأخ، أنه كما أن المعاونة تكون بقوة الأجسام على أمور الدنيا من أبلغ ما يكون لأبناء الدنيا فيما يريدون وأسهلها عليهم فيما يقصدون، وهكذا نرى أن المعاونة بين إخواننا بالعلوم والمعارف على أمر الدين وطلب الآخرة من أبلغ ما يقصدون وأسهلها عليهم فيما يريدون.
واعلم أننا لا نستعين بأحد من إخواننا على أمر الدين قبل أن نبذل له من المعاونة على أمر الدنيا، فإن كان مستغنيا عن معاونتنا فذلك الذي نريد له، وإن كان محتاجا إلينا فذلك الذي نريد منه، حتى إذا كفيناه ما يهمه من أمور دنياه وأفرغ لنا قلبه وأجمع لنا رأيه واستغنى عن ذلك بقوة نفسه وتمييز عقله وصفاء جوهره، فإن كان عنده علم ليس عندنا تعلمنا منه تعلم صبيان الكتاب، واستمعنا منه استماع المنصتين لخطبة الخطيب يوم الجمعة، فإن كان حقا ما يقول اتبعناه اتباع المأموم والإمام، وإن كان يرغب فيما لدينا من العلم علمناه بحسب رغبته وطلبته.
(7) فصل في أنا لا نعادي علما من العلوم
واعلم أيها الأخ، أنا لا نعادي علما من العلوم، ولا نتعصب على مذهب من المذاهب، ولا نهجر كتابا من كتب الحكماء والفلاسفة مما وضعوه وألفوه في فنون العلم، وما استخرجوه بعقولهم وتفحصهم من لطيف المعاني.
وأما معتمدنا ومعولنا وبناء أمرنا فعلى كتب الأنبياء، صلوات الله عليهم أجمعين، وما جاءوا به من التنزيل وما ألقت إليهم الملائكة من الأنباء والإلهام والوحي.
واعلم أيها الأخ أيدك الله وإيانا بروح منه، أن لنا كتبا نقرؤها مما شاهدها الناس ولا يحسنون قراءتها، وهي صورة أشكال الموجودات بما هي عليه الآن من تركيب الأفلاك وأقسام البروج وحركات الكواكب وأمهات الأركان واختلاف جواهر المعادن وفنون أشكال النبات وعجائب هياكل الحيوانات، ولنا كتاب آخر لا يشاركنا فيه غيرنا ولا يفهمه سوانا؛ وهو معرفة جواهر النفوس ومراتب مقاماتها واستيلاء بعضها على بعض، وافتنان قواها وتأثيرات أفعالها في الأجسام من الأفلاك والكواكب والأركان والمعادن والنبات والحيوانات وطبقات الناس من الأنبياء والحكماء والملوك وأتباعهم والسوقة وأعوانهم، فإن نشطت أيها الأخ البار الرحيم إلى قراءة هذه الكتب أنت وإخوانك لتعلم ما فيها وتفهم معانيها وتعرف أسرارها فهلم إلى حضور مجلس إخوان لك فضلاء وأصدقاء لك كرام تسمع أقاويلهم وترى شمائلهم، وتعرف سيرتهم لعلك تتخلق بأخلاقهم وتتهذب بآدابهم فتنتبه نفسك من نوم الغفلة، وتستيقظ من رقدة الجهالة، وينشرح صدرك ويصفو ذهنك وتفتح عين البصيرة من قلبك، فترى ما قد أبصروه بعيون قلوبهم، وتشاهد ما قد عاينوه بصفاء جواهر نفوسهم، وتنظر إلى ما نظروا إليه بنور عقولهم، وتفهم معاني هذه الكتب الأربعة كما فهموها، وتؤيد بروح الحياة وتعيش عيش العلماء، وتحيا حياة الشهداء، وتوفق للصعود إلى ملكوت السماء، وتنظر إلى الملأ الأعلى ال @QUR015 حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين.
(8) فصل في أنه لا يحسن بنا أن ندعي معرفة حقائق هذه الأشياء
واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه لا يحسن بنا أن ندعي معرفة حقائق هذه الأشياء ونحن لا نعرف أنفسنا؛ لأن مثل من يدعي معرفة حقائق الأشياء ولا يعرف نفسه كمثل من يطعم الناس وهو جائع، وكمن يكسو غيره وهو عريان، وكمن يداوي الناس وهو عليل، وكمن يهدي الناس إلى الطريق وهو لا يعرف طريق بيته، فقد علم أن الإنسان في مثل هذه الأشياء ينبغي له أن يبتدئ أولا بنفسه ثم بغيره.
واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن كل واحد منا هو مركب ومؤلف من جوهرين متباينين متضادين: أحدهما هو هذا الجسد الغليظ المحسوس المؤلف من اللحم والدم والعظم والجلد والعصب والعروق وما يشاكل ذلك، وهذه كلها أجسام أرضية ميتة مظلمة فاسدة، وأما الجوهر الآخر فهو هذا الروح اللطيف؛ أعني النفس؛ فهو جوهرة سمائية روحانية نورانية علامة دراكة صور الأشياء.
واعلم أن هذا الجسد لهذه النفس في المثال بمنزلة دار تسكن أو دابة تركب أو آلة تستعمل، وما دامت هذه النفس مع هذا الجسد مربوطة به إلى الوقت المعلوم فلا بد لنا من النظر فيما تصلح به معيشة الحياة الدنيا وما تنال به النجاة والفوز في الآخرة.
واعلم أن هذين الأمرين لا يجتمعان ولا يتمان إلا بالمعاونة، والمعاونة لا تكون إلا بين اثنين أو أكثر من ذلك، وليس شيء أبلغ على المعاونة من أن تجتمع قوى الأجساد المتفرقة وتصير قوة واحدة، وتتفق تدابير النفوس المؤتلفة وتصير تدبيرا واحدا حتى تكون كلها كأنها جسد واحد ونفس واحدة، فعند ذلك تغلب كل من رام غلبتها، وتقهر كل من خالفها وضادها.
فهلم بنا يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، لنجتمع ونتعاون على ذلك، وينبغي أن تعلم، أيها الأخ، أنه لا يجتمع اثنان على أمر من الأمور إلا ولاجتماعهما علة تجمعهما وسبب يحفظهما على تلك الحال، فما دامت تلك العلة باقية وذلك السبب ثابتا دامت لهما تلك الحال، وإن بطلت تلك العلة وانقطع ذلك السبب تفرقا بعد اجتماعهما وتنافرا بعد إلفهما.
واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه ليس من جماعة يجتمعون على تعاون في أمر من أمور الدنيا والآخرة أشد نصيحة بعضهم لبعض من تعاون إخوان الصفاء، وينبغي أن تعلم أن العلة التي تجمع بين إخوان الصفاء هي أن يرى ويعلم كل واحد منهم أنه لا يتم له ما يريد من صلاح معيشة الدنيا ونيل الفوز والنجاة في الآخرة إلا بمعاونة كل واحد منهم لصاحبه، وأما السبب الذي يحفظهم على تلك الحال فهو المحبة والرحمة والشفقة والرفق من كل واحد منهم، والمساواة فيما يريد ويحب ويبغض ويكره لنفسه.
واعلم أن هذه الشرائط تتم وتدوم إذا علم كل واحد منهم بأن أنفسهم نفس واحدة وإن كانت أجسادهم متفرقة.
واعلم أيها الأخ، أن أكثر الناس يريدون ويتمنون أن تكون بينهم صلة وصداقة وأخوة لا تكدرها تصاريف الزمان، ولكنهم لا يعرفون ما العلة المانعة لهم عن ذلك؟ وما السبب الموجب لكونها؟
فينبغي أن تعلم أيها الأخ أن المانع للناس أن يكونوا أصدقاء والمانع للأصدقاء أن يكونوا إخوانا أصفياء على ما يقتضيه العقل هو إما علة غير موجودة، وإما سبب غير مفقود.
فإن كانت علة غير موجودة فما هي لنطلبها؟ وإن كان سببا غير مفقود فما هو لنقطعه ونزيله؟
وينبغي أن تعلم أيها الأخ، أن المانع من ذلك هو أسباب موجودة نحتاج أن نقلع عن تلك الأسباب حسب لا غير، وهي أربعة أجناس: أحدها سوء أعمالهم، والثاني فساد آرائهم، والثالث رداءة أخلاقهم، والرابع تراكم جهالاتهم.
واعلم أن سوء أعمالهم يكون بحسب آرائهم الفاسدة التي اعتقدوها قبل بحثهم حقائق الأشياء، وأن آراءهم الفاسدة استحكمت في ضمائرهم بحسب أخلاقهم الرديئة التي اعتادوها منذ الصبا، وأن أخلاقهم انطبعت في نفوسهم بحسب جهالتهم المتراكمة التي غشيتهم في أول الأمر.
فينبغي لنا، أيها الأخ، أن نعلم أنه إذا أردنا أن نكون إخوانا أصفياء أن نبتدئ أولا بالكشف عن الجهالات المتراكمة التي غشيتنا من أول الأمر؛ إذ هي الأصل في الشرور.
واعلم أن الجهالات التي غشيتنا المانعة لنا من الصداقة وصفوة الأخوة هي أربع جهالات: إحداها أنهم لا يعرفون ما الفرق بين النفس والجسد، والثانية أنهم لا يدركون كيف رباط النفس بالجسد؟ والثالثة أنهم لا يدرون لم ربطت بالجسد؟ والرابع أنهم لا يدرون كيف تنبعث النفس من الجسد؟ فلا جرم أن النفس ما لم تنبعث من الجسد فلا تعرف الفوز والنجاة والخلود في النعيم مخلدة في الجحيم في عذاب أليم.
وينبغي لنا، أيها الأخ، بعد اجتماعنا على الشرائط التي تقدمت من صفوة الإخوان أن نتعاون ونجمع قوة أجسادنا ونجعلها قوة واحدة، ونرتب تدبير نفوسنا تدبيرا واحدا، ونبني مدينة فاضلة روحانية، ويكون بناء هذه المدينة في مملكة صاحب الناموس الأكبر الذي يملك النفوس والأجساد؛ لأن من ملك النفوس ملك الأجساد، ومن لم يملك النفوس لم يملك الأجساد.
وينبغي أن يكون أهل هذه المدينة قوما أخيارا حكماء فضلاء مستبصرين بأمور النفوس وحالاتها وما يتبع ذلك من أمور الأجساد وحالاتها.
وينبغي أن يكون لأهل المدينة سيرة جميلة كريمة حسنة يتعاملون بها فيما بينهم، وأن يكون لهم سيرة أخرى يعاملون بها أهل المدن الجائرة، ولا ينبغي أن يكون بناء هذه المدينة في الأرض حيث تكون أخلاق أهل سائر المدن الجائرة، ولا ينبغي أيضا أن يكون بناؤها على وجه الماء؛ لأنه يصيبها من الأمواج والاضطراب ما يصيب أهل المدن التي على السواحل من البحار، ولا ينبغي أن يكون بناء هذه المدينة في الهواء مرتفعا؛ لكيلا يصعد إليها دخان المدن الجائرة فتكدر أهويتها، وينبغي أن تكون مشرفة على سائر المدن؛ ليكون أهلها يشاهدون حالات أهل سائر المدن في دائم الأوقات، وينبغي أن يكون أساس هذه المدينة على تقوى الله؛ كيلا ينهار بناؤها، وأن يشيد بناؤها على الصدق في الأقاويل والتصديق في الضمائر، وتتم أركانها على الوفاء والأمانة؛ كيما يدوم ويكون كمالها على الغرض في الغاية القصوى التي هي الخلود في النعيم.
فإذا فرغنا من بنائها بنينا المركب الذي هو سفينة النجاة حتى تكون السفينة مستقلة بثقل الأجساد، وتكون المدينة مأوى الأرواح.
وينبغي أن يكون تعاون أهل المدينة مرتبا أربع مراتب: إحداها مرتبة أرباب الأركان الأربعة ذوي الصنائع، والثاني مرتبة ذوي الرياسات، والثالثة مرتبة الملوك ذوي الأمر والنهي، والرابعة مرتبة الإلهيين ذوي المشيئة والإرادة.
وينبغي أن يكون تدبير ذوي الصنائع يجري في المرءوسين كسريان الضوء في الهواء وكسريان القوة النامية في الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، ويكون سريان سياسة ذوي الرياسات يسري في أرباب ذوي الصنائع[9] كسريان الألوان في الضياء، أو كسريان القوة الحيوانية في القوة النامية، ويكون نفاذ أمر الملوك ذوي السلطان يسري في الرؤساء ذوي السياسة كسريان القوة الباصرة في إدراك الألوان، وكسريان القوة الناطقة في القوة الحيوانية، ويكون سريان مشيئة الإلهيين ذوي الإرادة يسري في الملوك ذوي السلطان كسريان العقل في المعقولات، أو كسريان القوة الملكية في القوة الناطقة.
فإذا انتظم أمر المدينة على هذه الشرائط فهي السيرة الكريمة الحسنة التي يتعامل بها أهل المدينة فيما بينهم.
(9) فصل في اعلم يا أخي أن هذه المدينة مفروغ من بنائها على هذا الوصف ...
واعلم أيها الأخ، علما يقينا أن هذه المدينة مفروغ من بنائها على هذا الوصف، ولكن لا يمكن أحد أن يدخل مدينتنا هذه متى لم يكن علمه مساويا لعلمنا؛ لأن حولها أربعة أسوار مبنية من جهالات الناس، ما بين كل سورين خندق من سوء أعمالهم وفساد آرائهم ورداءة أخلاقهم، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم، فمن عزم على دخولها فعليه بعلم النفس ومعرفة جوهرها فإنه أولى بأن يستفتح من مدينتنا.
وقد بينا كل ما يحتاج إخواننا، أيدهم الله، إليه من هذا العلم في إحدى وخمسين رسالة، فانظر فيها، أيها الأخ، إن لم يكن يستوي لك الحضور في مجلسنا، واعرضها على إخوانك الذين ترتضيهم وتأنس منهم الرشد والسداد، فلعلكم توفقون لفهم معاني ما ذكرنا فيها من معاني فنون العلم وغرائب الحكم، وترشدون إلى العمل بما يقربكم إلى الله زلفى وينجيكم من نار جهنم عالم الكون والفساد، وتهتدون للصعود إلى ملكوت السماء عالم الأفلاك، والدخول في زمرة الملائكة الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ... الآيات إلى قوله: @QUR04 وذلك هو الفوز العظيم.
واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أن قوة نفوس إخواننا في هذا الأمر الذي نشير إليه ونحث عليه على أربع مراتب: أولها صفاء جواهر نفوسهم وجودة القبول وسرعة التصور وهي مرتبة أرباب ذوي[10] الصنائع في مدينتنا التي ذكرناها في الرسالة الثانية، وهي القوة العاقلة المميزة لمعاني المحسوسات الواردة على القوة الناطقة بعد خمس عشرة سنة من مولد الجسد، وإلى هذا أشار بقوله: @QUR05 وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم وهم الذين نسميهم في رسائلنا: إخواننا الأبرار الرحماء.
وفوق هذه المرتبة مرتبة الرؤساء ذوي السياسة وهي مراعاة الإخوان وسخاء النفس وإعطاء الفيض بالشفقة والرحمة والتحنن على الإخوان، وهي القوة الحكمية الواردة على القوة العاقلة بعد ثلاثين سنة من مولد الجسد، وإليه أشار بقوله تعالى: @QUR07 ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وهم الذين نسميهم في رسائلنا: إخواننا الأخيار الفضلاء.
والمرتبة الثالثة فوق هذه وهي مرتبة الملوك ذوي السلطان والأمر والنهي والنصر والقيام بدفع العناد والخلاف عند ظهور المعاند المخالف لهذا الأمر بالرفق واللطف والمداراة في إصلاحه، وهي القوة الناموسية الواردة على النفس بعد مولد الجسد بأربعين سنة، وإليها أشار بقوله تعالى: @QUR021 إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه الآية، وهم الذين نسميهم في رسائلنا: إخواننا الفضلاء الكرام.
والرابعة فوق هذه وهي التي ندعو إليها إخواننا كلهم في أي مرتبة كانوا، وهي التسليم وقبول التأييد ومشاهدة الحق عيانا، وهي القوة الملكية الواردة بعد خمسين سنة من مولد الجسد، وهي الممهدة للمعاد والمقربة بمفارقة الهيولى، وعليها ترد قوة المعراج وبها تصعد إلى ملكوت السماء فتشاهد أحوال القيامة من البعث والحشر والنشر والحساب والميزان والجواز على الصراط، والنجاة من النيران ودخول الجنان، ومجاورة الرحمن ذي الجلال والإكرام.
وإلى هذه المرتبة أشار بقوله تعالى: @QUR010 يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية الآية.
وإليها أشار إبراهيم عليه السلام: @QUR05 واجعلني من ورثة جنة النعيم.
وإليها أشار بقوله يوسف عليه السلام: @QUR05 رب قد آتيتني من الملك الآية.
وإليها أشار بقوله المسيح عليه السلام، للحواريين: «إني إذا فارقت جسدي - وهو هذا الهيكل - فأنا واقف في الهواء عن يمين العرش بين يدي الحق أبي وأبيكم أستشفع لكم، فاذهبوا إلى الملوك في الأطراف وادعوهم إلى الله عز وجل ولا تهابوهم؛ فإني معكم حيث ما ذهبتم بالنصر والتأييد لكم.»
وإليها أشار محمد صلى الله عليه وسلم: «إنكم تردون غدا.» وأحاديث مروية كلها مشهورة عند أصحاب الحديث.
وإليها أشار سقراط بقوله يوم سقي السم: إني وإن كنت أفارقكم إخوانا فضلاء فإني ذاهب إلى إخوان كرام قد تقدمونا في حديث طويل.
وإليها أشار فيثاغورث في الرسالة الذهبية في آخرها: «إنك إن فعلت ما أوصيك فإنك عند مفارقة الجسد تبقى في الهواء.»
وإليها أشار بلوهرحين قال: «إن الملك قال لوزيره: ومن أهل هذه المقالة؟ قال: هم الذين يعرفون ملكوت السماء.» في حديث طويل.
وإليها ندعو إخواننا جميعا والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وآيات كثيرة في هذا المعنى وهي كل آية فيها صفة الجنان وأهلها ونعيمها.
(10) فصل في أن المطلوب من المدعوين إلى هذا الأمر أربعة أحوال
واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن المطلوب من المدعوين إلى هذا الأمر أربعة أحوال: أولها الإقرار باللسان، والثاني التصور لهذا الأمر بضروب الأمثال للوضوح والبيان، والثالث التصديق له بالضمير والاعتقاد، والرابع التحقيق له بالاجتهاد في الأعمال المشاكلة لهذا الأمر.
واعلم أن المقر باللسان غير متصور له يكون مقلدا، والمتصور له غير المصدق به يكون شاكا متحيرا، والمصدق به غير المحقق له بالاجتهاد في العمل المشاكل لهذا الأمر يكون مقصرا ومفرطا، والمكذب باللسان لهذا الأمر المنكر له بقلبه يكون جاحدا كافرا، كما قال الله تعالى: @QUR08 فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون، @QUR07 لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون.
واعلم أن المقر بهذا الأمر بلسانه المتصور له بقلبه على حقيقة يجد من نفسه أربع خصال لم يكن يعرفها قبل: إحداها قوة النفس بالنهوض من الجسد، والثانية النشاط في طلب الخلاص من الهيولى التي هي جهنم النفس، والثالثة الرجاء والأمل للفوز والنجاة عند مفارقة النفس الجسد، والرابعة الثقة بالله واليقين بتمام هذا الأمر وكماله.
(11) فصل في أن كل مقر بهذا القرآن وبكتب الأنبياء ...
واعلم أن كل مقر بهذا القرآن وبكتب الأنبياء عليهم السلام وأخبارهم عن الغيب فإنهم في ذلك على أربع منازل: إما مقر بلسانه غير مصدق بقلبه، أو مقر بلسانه ومصدق بقلبه غير عارف بمعانيه وبيانه، أو مصدق ومقر ومتيقن عارف ولكن غير قائم بواجب حقه.
فالمقر بلسانه غير المصدق بقلبه هو الذي قد رزق من الفهم والتمييز قليلا، فإذا فكرة بقلبه وميز ببصيرته ما يدل عليه ظاهر ألفاظ الكتب النبوية لا يقبله عقله أنه لا يتصور معانيها اللطيفة وإشارتها الخفية فينكرها بقلبه ويشك فيها.
وأما من أقر بلسانه وصدق بقلبه فهو الذي يتفكر ويعلم أن مثل هذا الأمر الجليل الذي قد اتفقت على حقيقته الأنبياء والأئمة المهديون والخلفاء الراشدون وصالحو المؤمنين، وأقر به فضلاء الناس والمميزون والمستبصرون لا يجوز أن يكون لا حقيقة له، ولكن فهمه وتمييزه وعقله يقصر عن إدراكه وتصوره لها بحقائقها.
وأما من عرف بيانه ولكن قصر عن القيام بواجبه وهو الذي وفقه الله وأرشده وهداه فاهتدى لحقائق هذه الأسرار المذكورة في كتب الأنبياء، صلوات الله عليهم، ولكنه لا يجد المعين له على القيام بنصرتها وواجب حقها؛ لأنه واحد وليس كل أمر يتم بواحد من الناس، بل ربما يحتاج فيها إلى الجمع العظيم، وخاصة أمر الناموس، وأقل ما يحتاج فيه إلى أربعين خصلة تجتمع في أحد من الأشخاص، أو أربعين شخصا مؤتلفي القلوب.
(12) فصل في خطاب المتفلسفين الشاكين في أمر الشريعة الغافلين عن أسرار الكتب النبوية
قد فهمنا أيها الأخ الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، ما ذكرته مما جرى بينك وبين أخ من إخواننا من المذاكرة والبحث عن مبادئ الموجودات وعلل الكائنات، وما شكوت من صعوبة انقياده إليه من صفوة الإخوة والمعاونة على نصرة الأديان النبوية، وما وصفت من شدة استغراقه في الآراء الفلسفية وإعراضه عن معرفة أسرار الكتب الإلهية وتفاسير التنزيلات النبوية ومعاني موضوعات الشرائع الناموسية، وما تتضمنه من المنافع الجليلة والأغراض البعيدة للنفوس المستبصرة من الدلالة لها على الارتقاء إلى المراتب العالية، والخلاص من نيران الهاوية، وما ذكرت من اعتماده في البصائر والمعارف على ما يدركه عقله وتمييزه وبصيرته ويؤدي إليه اجتهاده، وما قلت من تعلقه بأقاويل الفلاسفة في آرائهم المختلفة وقياساتهم المتناقضة على أصول لهم متغايرة.
فاصبر عليه، أيها الأخ، وداره بالرفق وذاكره بهذه الرسالة، فلعله يتقرر في نفسه ما تدعوه إليه، ويتصور في عقله ما تشير إليه من الأسرار المصونة المكنونة التي لا يمسها إلا المطهرون، فقل له: أخبرنا أيها الأخ أمقر أنت بما جاءت به الأنبياء، عليهم السلام، في تنزيلاتهم من أخبار الملائكة وقصة إبليس والجان وحديث آدم وبدء خلقه وسجود الملائكة له وأخذ الميثاق على ذريته وما شاكل ذلك من حديث القيامة والبعث والحشر والحساب والميزان والجواز على الصراط، والنجاة من النار والثواب والفوز والجنة ونعيمها وأشباهها مما هو مذكور في التوراة والإنجيل والفرقان وغيرها من صحف الأنبياء، عليهم السلام، أم جاحد بها؟
فإن كنت مقرا بها أو ببعضها فأخبرنا أمصدق متيقن بحقائقها؟ أم شاك متحير في معانيها؟
فإن كنت مصدقا متيقنا فأخبرنا أعالم أنت عارف بها أو غافل ساه عنها؟ فإن كنت عارفا عالما بها فأخبرنا عن الجنة والنار، وهل هما موجودان في وقتنا هذا أم غير موجودين؟ فإن كانا موجودين فقل لنا: أين هما؟ وصف لنا كيفيتهما؟ وإن قلت: إنهما غير موجودين فما معنى قوله: @QUR06 يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة؟ وما معنى قوله: @QUR05 النار يعرضون عليها غدوا وعشيا؟ وما معنى قول النبي: «إن أرواح الشهداء في الجنة»؟ وما معنى المعراج ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم لرضوان خازن الجنان ومالك خازن النيران؟ وما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «حرام على كل نفس أن تموت أو ترى مقعدها في الجنة أو النار»؟ وما معنى قوله: «من مات فقد قامت قيامه»؟ وما معنى قوله تعالى: @QUR06 وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم الآية، وما معنى قوله: @QUR06 ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون؟ وما معنى قوله: @QUR011 وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض الآية، وما معنى قوله: @QUR016 وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث الآية، وقوله: @QUR04 إن لبثتم إلا قليلا وما شاكل هذه المسائل لو سألناك لطال عليك الخطاب.
(13) فصل في أن لكل مذهب وأهله رأيا ينفردون به
اعلم أيها الأخ، أن لكل مذهب وأهله رأيا ينفردون به عن غيرهم وعلماء وفقهاء يتدارسونه فيما بينهم، وإن من رأي إخواننا، أيدهم الله، أن هذه الأشياء كلها موجودة منذ خلق الله السموات والأرض ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وهم ينتظرون كونها في الزمان المستقبل وهم أهل التقليد الذين هم من أمر الدين على العمى.
وأما أهل البصيرة الذين هم من أمر الدين على بيان ويقين ومعرفة فهم ينتظرون بها انتظار الكشف والبيان كما رأى النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ليلة المعراج.
وقد بينا في رسائلنا هذه المعاني، فإن كنت تعرف منها أيها الأخ فبين لنا علم هذا على أصل تعرفه على قياس واحد لا يجب أن تعدل عنه إذا سألناك، ولا تقلد أقاويل الفلاسفة المختلفي الآراء المتناقضي الأقاويل.
فقد روي أنه ذكر في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم أرسطاطاليس فقال النبي عليه السلام: «لو عاش حتى يعرف ما جئت به لاتبعني على ديني.»
فينبغي لمن هو متزي بزي المسلمين ومعتصم بعروة الإسلام منسوب إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم مقر بما جاء به من التنزيل وما في تنزيله من أخبار أمور قد مضت مع الزمان الماضي، مثل بدء كون العالم وخلق السموات والأرض وحديث آدم وقصة إبليس وعصيانه وسجود الملائكة وطاعتهم، وأخذ الميثاق على ذرية آدم وما شاكل ذلك من نظائره مما هو موجود في التوراة والإنجيل وصحف الأنبياء الأولين، وإنذارهم أممهم بأمر القيامة وأخبار البعث والنشور والحشر والحساب والميزان والقصاص والجواز على الصراط والنجاة من النار والفوز بالجنة ونعيم أهلها والنار وأليم عذابها وما شاكل ذلك من الأمور المنتظرة في الزمان المستقبل. وقد دعينا إلى الإقرار بها والاستعداد لها، فمن أعرض عنها كلها حتى لا يعرف من حقائقها حرفا واحدا غير الإقرار باللسان مع حيرة في نفسه وشكوك في قلبه، ومع هذه كلها يدعي معرفة أسرار الكتب الفلسفية، ورموزات الفلاسفة وتدقيق المعاني التي فيها مع كثرة اختلافاتهم ومناقضات بعضهم لبعض مع حيرة أتباعهم فيها، ولا ينظر ولا يتفكر أن الأنبياء كلهم - مع تباعد الأزمان فيما بينهم ومع اختلافات لغاتهم وموضوعات شرائعهم وافتنان سننهم - كيف هم متفقون على رأي واحد ودين واحد ومقصد واحد فيما يشيرون إليه في دعوتهم الأمم إلى أمر الآخرة وأحوال القيامة وجزاء الأعمال فيها إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا.
وقد بينا في الرسالة الثالثة الرأي الذي يتفقون عليه؛ أعني الأنبياء كلهم، وهي اثنتا عشرة خصلة هي العمدة والأصل فيما يدعون إليه من الدين وإن اختلفت شرائعهم وسننهم، كما ذكر الله تعالى فقال: @QUR05 أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه وقال: @QUR09 لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله ... الآية.
فدين الأنبياء دين واحد ومسلكهم جميعا مسلك واحد ومقصدهم مقصد واحد وغرض واحد وإن اختلفت شرائعهم، صلوات الله عليهم.
وأما الفلاسفة فليست شريعتهم واحدة ولا دينهم واحد فكيف يرضى العاقل عن أسرار كتب الفلاسفة مع اختلافهم ويعرض عن البحث وعن معرفة أسرار كتب الأنبياء عليهم السلام مع اتفاقها؟!
واعلم أيها الأخ، أنه إنما ذهب على أكثر المتفلسفين والباحثين عن حقائق الأشياء معرفة كتب الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، لتركهم البحث عنها وإعراضهم عن النظر فيها، ولقصور فهمهم عن تصورها؛ لأنها مأخوذة عن الملائكة الذين هم في الملأ الأعلى وأهل السموات وسكان الأفلاك.
(14) فصل في خطاب الشاكين في أمر النفس المتحيرين في اختلاف أقاويل العلماء فيها
وقد علمنا، أيها الأخ، ما ذكرت مما جرى بينك وبين شيخ من مشايخنا من المذاكرة في أمر النفس وماهية جوهرها وكيفية وجودها وأين مكانها من الجسد؟ وما علة رباطها معه؟ وكيف تكون مفارقتها للجسد؟ والذي أنكره من معرفة جوهرها بقوله: هذا علم لا يمكن أن يعلم، واحتج بقول جالينوس إذ يقول: «إني لا أدري ما جوهر النفس؟» وقوله: «إذ لست أعلم من جالينوس .» والذي نسألك أيها الأخ أن تتفضل وتتلقاه وتقرأ عليه السلام وتعرف شدة شوقنا إليه ومطالعتنا وتشوقنا إلى معرفة أخباره أطابها الله، ورغبتنا في مشاهدته ومجاورته وتبلغه عنا ما ألقينا إليك من الجواب فيما سألناك، وهو أن تقول له: هل يتفضل سيدنا الشيخ ويعيننا بجودة رأيه وقوة نفسه وصفاء جوهره ويفرغ لنا قلبه ساعة ويجمع لنا همته ولا يشغل أفكارنا بالشبهة التي يوردها علينا من أقاويل الفلاسفة واختلاف آرائهم وروايات العلماء وأسانيدهم وتشبيهات الشعراء وترتيباتهم وأحاديث العوام وتشغيباتهم، وينصفنا في القول ويناصحنا في الضمير ويجعل الحاكم بيننا وبينه العقل الذي قد رضينا بحكمه وموجبات قضاياه؟ فإنا إذا سألناه أو سأل هو واحدا منا فقال له: ما أنت؟ وما حقيقتك؟ ومن هذا الذي هو يكلمني ويسمع مني ويفهمني ويستفهم مني؟ أفترى ترضى منا الجواب بأن نقول:
إنه هو الجسد الذي ترى المحسوس المؤلف من اللحم والدم والعظام والعصب وما شاكلها، المبني كأنه منارة رهبان إذا وقع لا يمكنه أن يقوم، وإن ترك فلا يمكنه أن يتحرك، وإذا نام لا يحس بأنه موجود، وإن انتبه فلا يدري أين كان؟ فجائز في العقل أن من هذا حاله يستحق أن يسأل عن خفيات الأمور مع المحسوسات والمعقولات وما غاب عن الحواس بالمكان وما مضى كونه مع الزمان، وما يكون في المستقبل من الكائنات، أو يستأهل أن يسمع منه قوله إذا أخبر عن تركيب الأفلاك ونظامها وأقسام البروج وأوصافها وحركات الكواكب ومجاريها، وعن أركان الأمهات وطبائعها، واختلاف جواهر المعادن وخواصها، وفنون أشكال النبات ومنافعها، وعجائب هياكل الحيوانات واختلاف أخلاقها وأصواتها؟! فيا عجبا ممن يظن أن هذه الأشياء كلها يعلمها هذا الجسد الجاهل المؤلف! أو يرى أن هذا المخبر عن هذه الأشياء هذا الجسم الطويل العريض العميق الأعمى الأصم الأخرس الذي لا يحس ذاته ولا يشعر بوجود نفسه، فكيف يجوز أن يعلم هذه الأشياء العجيبة النائية عن ذاته الغائبة عن حواسه، وهو لا يعلم ذاته ولا يحس بوجود نفسه؟! هيهات بعد الصواب من ظن أن هذه العلوم يعلمها هذا الجسد المؤلف من اللحم المستحيل الفاسد.
واعلم أيها الأخ، أن الإنسان الباحث عن أمر النفس الطالب معرفة جوهرها لو أنه أنصف عقله ورجع إلى حكمه وقبل قضاياه وفكر في نفسه وتأمل بتمييزه، وتصفح حالات جسده من القيام والقعود والحركة والسكون والنوم واليقظة والحياة والممات؛ لاستبان له أن مع هذا الجسد جوهرا آخر هو أشرف منه، وأن هذا الجسد بالنسبة إليه ما هو إلا كدار مبنية فيها ساكن، أو كدكان فيه صانع، أو كسفينة فيها ملاح، أو كدابة عليها راكب، أو كقميص ملبوس، أو كلوح في يد صبي في المكتب، أو كمدينة فيها ملك.
وبالجملة ينبغي لمن أراد أن يعرف النفس قبل معرفتها أن يبحث عن أمرها ويطلب علمها بسبعة مباحث: أحدها يبحث هل النفس شيء من الأشياء الموجودات أو هذه تسمية فارغة لا معنى تحتها؟ وقد بينا في رسالة البرهان وجودها، والثاني يبحث هل هي عرض كما بينا في رسالة لنا، والثالث يبحث كم هي أجناس النفوس الموجودات في العالم كما بينا في رسالة قول الحكماء: الإنسان عالم كبير، والرابع يبحث كيف يكون رباط النفس مع الجسد كما بينا في رسالة تركيب الجسد، والخامس يبحث أين كانت النفس قبل رباطها بالأجساد كما بينا في رسالة مسقط النطفة، والسادس يبحث عنها إذا فارقت أجسادها أين تكون كما بينا في رسالة البعث والقيامة، والسابع يبحث ما الغرض في كونها مع الأجساد تارة ومفارقتها تارة؟ كما بينا في رسالة أن الإنسان عالم صغير، فإن رأى الشيخ أن يتأمل وينظر فيها ويتأمل معانيها فعل.
(15) فصل في مهنة النفوس وعشقها للأجسام
واعلم أيها الأخ، أن مثل هذه النفس الجزئية مع شرف جوهرها وما هي عليه من غربتها في هذا العالم الجسماني، وما قد ابتليت به من آفات هذا الجسد وفساد هيولاه كمثل رجل حكيم في بلد الغربة قد ابتلي بعشق امرأة رعناء فاجرة جاهلة سيئة الأخلاق رديئة الطبع، وهي في دائم الأوقات تطالبه بالمأكولات الطيبة والمشروبات اللذيذة والملبوسات الفاخرة والمسكن المزخرف والشهوات المردية ، وإن ذلك الحكيم من شدة محبته لها وعظم بلائه بصحبتها قد صرف كل همته إلى إصلاح أمرها، وأكثر عنايته بتدبير شأنها حتى قد نسي أمر نفسه وإصلاح شأنه وبلدته التي خرج منها وأقربائه الذين نشأ معهم أولا ونعمته التي كان فيها بديا.
واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أن جوهر النفس جوهرة سماوية وعالمها عالم روحاني، وهي حية بذاتها غير محتاجة إلى الأكل والشرب واللباس والمسكن وما شاكل ذلك مما يحتاج إليه الجسد في قوام وجوده ومادة بقائه، وأن كل ما يحتاج إليه الإنسان من أعراض هذه الدنيا إنما هو من أجل هذا الجسد المستحيل الفاسد ولإصلاحه وقوامه وجر المنفعة إليه ودفع المضرة عنه الذي لا يثبت على حال واحدة طرفة عين، وأن النفس ما دامت مع الجسد إلى الوقت المعلوم متعوبة بكثرة همومها لإصلاح أمر هذا الجسد وشغلها بشدة عنايتها به فيما تتكلف من الأعمال الشاقة والصنائع المتعبة من اكتساب المال والمتاع والأثاث، وما يحتاج إليه الإنسان في طول الحياة الدنيا، وأن النفس لا راحة لها دون مفارقتها لهذا الجسد، كما أن ذلك الرجل الحكيم المبتلى بعشق تلك المرأة الفاجرة الرعناء لا راحة له ممن قد ابتلي بها إلا بمفارقتها والتسلي عنها وعن حبها وعشقها.
(16) فصل في مهنة النفوس وإخراجها من عالم الأرواح لجناية كانت منها
اعلم أيها الأخ، أن النفس الجزئية لما أهبطت من عالمها الروحاني، وأسقطت من مرتبتها العالية للجناية، وغرقت في بحر الهيولى وغاصت في قعر أمواج الأجسام وقيل لها: @QUR06 انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب فغرقت في هياكل الأجسام وتفرقت بعد وصلتها، وتشتت شمل ألفتها كما ذكر الله عز وجل اسمه، بقوله: @QUR03 اهبطوا منها جميعا الآية إلى قوله: @QUR02 ومنها تخرجون عرض لها عند ذلك من الدهشة والأهوال والمصائب مثل ما عرض لقوم من ركاب البحر لما اشتدت بهم الريح واضطرب بهم البحر، وهاجت بهم الأمواج وكسر بهم المركب وغرقوا في قعر البحار وغاصوا في ظلمات الماء، وتفرقوا في كل فج عميق من الجزائر والسواحل وبطون الحيتان .
فكما أن أولئك القوم في الوقت الذي انكسر بهم المركب تراهم بين غائص في الماء أو طاف أو متعلق بخشبة أو بحبل أو يركب بعضهم كتف بعض يقول كل واحد: نفسي نفسي، من شدة الأهوال لا يفكر لغيره ولا يريد النجاة إلا لنفسه، ولا يهمه سواها ولا يذكر شيئا مما كان فيه قبلا، فهكذا حال النفوس في هذه الدنيا وكونها مع هذه الأجساد، وما ابتليت به من ظلمات هذه الأجساد من هموم المعاش وخوف الجوع وألم العطش وأوجاع الأمراض والأسقام وأذية الحر والبرد وفضيحة العري وأحزان النوائب وجل المخاوف وعوارض التلف والحسرات والأسف.
فمن أجل هذه الشدائد والمصائب صارت النفس لا تذكر شيئا مما كانت فيه من أمر عالمها ومبدئها ومعادها كما قال الله جل ذكره، بقوله: @QUR04 وإذا ذكروا لا يذكرون.
واعلم أيها الأخ، أن النفس إذا انتبهت من نوم الغفلة واستيقظت من رقدة الجهالة، وأبصرت ذاتها وعرفت جوهرها وأحست بغربتها في عالم الأجسام ومحنتها وغرقها في بحر الهيولى، وأسرها بالشهوات الطبيعية، وعاينت عالمها واستبان لها فضل نعيمها على اللذات الجسمانية، وتنسمت بروح عالمها وريحانها؛ اشتاقت إلى هناك ومالت إلى الكون في ذلك العالم، ومقتت الكون مع الأجساد، وزهدت في نعيم الدنيا وتمنت الموت الذي هو مفارقة الجسد والخروج من ظلمة الأجسام، فيكون مثلها عند ذلك كمثل قوم خرجوا من الحبس والمطامير مع ضوء الصبح فشاهدوا هذا العالم بما فيه دفعة واحدة.
وأما النفوس غير المستبصرة فمثلها كمثل العميان سواء عندهم ضوء النهار وظلمة الليل.
واعلم أن النفس إذا لم تستبصر ذاتها ولم تعرف جوهرها ومبدأها ومعادها، ولم تحس بغربتها وما هي عليه في هذه الدنيا من المحنة والبلوى ما دام يمكنها البحث والاجتهاد في التعلم، ولها تمييز وعقل وحواس صحيحة، ويمكنها الاعتبار والفحص والبيان فلم تجتهد حتى بقيت عمياء إلى الممات؛ فهي بعد الممات أعمى وأضل سبيلا، كما ذكر الله تعالى: @QUR011 ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا أعاذنا الله وإياك أيها الأخ وجميع إخواننا من هذه الصفة إنه ودود رءوف رحيم.
(17) فصل في أنا قد عملنا إحدى وخمسين رسالة في فنون الآداب ...
واعلم يا أخي أنا قد عملنا إحدى وخمسين رسالة في فنون الآداب وغرائب العلوم وطرائف الحكم، كل واحدة منها شبه المدخل والمقدمات والأنموذج؛ لكيما إذا نظر فيها إخواننا وسمع قراءتها أهل شيعتنا، وفهموا بعض معانيها، وعرفوا حقيقة ما هم مقرون به من تفضيل أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم خزان علم الله ووارثو علم النبوات، وتبين لهم تصديق ما يعتقدون فيهم من العلم والمعرفة والفهم والتمييز والبصيرة في الآفاق بما في أنفسهم من الآيات لقوم يوقنون، ويعلمون أنه الحق من ربهم، ولكيما لا يحتاجون إلى تفسير المخالفين لكتب الأنبياء عليهم السلام وينبغي لإخواننا إذا حضروا المجلس ومعهم أخ مستجيب مستحدث أن يقرأ عليهم هذه الخطبة.
اعلموا أيها الإخوان أيدكم الله وإيانا بروح منه، وهداكم للحق وجعلكم من أتباعه، وسهل لكم سبيل الخير وأرشدكم إلى معرفة أهله، وعصمكم من الشر وجنبكم صحبة أهله، وحرسكم من غرور الشيطان ووقاكم جور السلطان ونكبات الزمان ونوائب الحدثان، ووفقكم لقبول نصيحة الإخوان إنه ودود منان.
واعلموا أن كل دولة لها وقت منه تبتدئ ولها غاية إليها ترتقي، وحد إليه تنتهي، وإذا بلغت إلى أقصى مدى غاياتها ومنتهى نهاياتها أخذت في الانحطاط والنقصان، وبدا في أهلها الشؤم والخذلان، واستأنف في الأخرى القوة والنشاط والظهور والانبساط، وجعل كل يوم يقوى هذا ويزيد ويضعف ذلك وينقص، إلى أن يضمحل الأول المتقدم ويتمكن الحادث المتأخر، والمثال في ذلك مجاري أحكام الزمان؛ وذلك أن الزمان كله، نصفه نهار مضيء ونصفه ليل مظلم، وأيضا نصفه صيف حار ونصفه شتاء بارد، وهما يتداولان في مجيئهما وذهابهما كلما ذهب هذا رجع هذا، وتارة يزيد هذا وينقص هذا، وكلما نقص ذلك من أحدهما زاد في الآخر حتى إذا تناهيا إلى غايتهما ابتدأ النقص في الذي تناهى في الزيادة، وابتدأ الزيادة في الذي تناهى في النقصان، فلا يزالان هكذا وهذا دأبهما إلى أن يتساويا في مقداريهما، ثم يتجاوزان على حالتيهما إلى أن يتناهيا إلى غايتيهما من الزيادة والنقصان، وكلما تناهى أحدهما في الزيادة ظهرت قوته وكثرت أفعاله في العالم وخفيت قوة ضده وقلت أفعاله.
فهكذا حكم أهل الزمان في دولة الخير ودولة الشر، فتارة تكون القوة والدولة وظهور الأفعال في العالم لأهل الخير، وتارة تكون القوة والدولة وظهور الأفعال لأهل الشر، كما ذكر الله جل ثناؤه: @QUR05 وتلك الأيام نداولها بين الناس الآية.
وقد ترون أيها الإخوان أيدكم الله وإيانا بروح منه، أنه قد تناهت قوة أهل الشر، وكثرت أفعالهم في العالم في هذا الزمان، وليس بعد التناهي في الزيادة إلا الانحطاط والنقصان.
واعلم أن الملك والدولة ينتقلان في كل دهر وزمان ودور وقران من أمة إلى أمة، ومن أهل بيت إلى أهل بيت، ومن أهل بلد إلى بلد.
واعلموا أن دولة أهل الخير يبدأ أولها من أقوام خيار فضلاء يجتمعون في بلد ويتفقون على رأي واحد ودين واحد ومذهب واحد، ويعقدون بينهم عهدا وميثاقا بأنهم يتناصرون ولا يتخاذلون، ويتعاونون ولا يتقاعدون عن نصرة بعضهم بعضا، ويكونون كرجل واحد في جميع أمورهم وكنفس واحدة في جميع تدابيرهم وفيما يقصدون من نصرة الدين وطلب الآخرة، لا يعتقدون سوى رحمة الله ورضوانه عوضا.
فأبشروا، أيها الإخوان، بما أخبرناكم، وثقوا بالله في نصرته لكم إذا بذلتم مجهودكم كما وعد الله تعالى: @QUR05 والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، @QUR04 ولينصرن الله من ينصره، @QUR05 فإن حزب الله هم الغالبون.
(18) فصل في مخاطبة العمال والكتاب
اعلم أيها الأخ، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن لنا إخوانا وأصدقاء من كرام الناس وفضلائهم متفرقين في البلاد: فمنهم طائفة من أولاد الملوك والأمراء والوزراء والكتاب، ومنهم طائفة من أولاد الأشراف والدهاقين والتناء والتجار، ومنهم طائفة من أولاد العلماء والأدباء والفقهاء وحملة الدين، ومنهم طائفة من أولاد الصناع والمتصرفين وأمناء الناس.
وقد ندبنا لكل طائفة منهم أخا من إخواننا ممن ارتضينا في بصيرته ومعارفه لينوب عنا في خدمتهم بإلقاء النصيحة إليهم بالرفق والرحمة والشفقة عليهم؛ وليكون عونا لإخوانه بالدعاء لهم إلى الله وإلى ما جاءت به أنبياؤه عليهم السلام، وإلى ما أشارت إليه أولياؤه من التنزيل والتأويل لإصلاح أمر الدين والدنيا أجمعين.
وقد اخترناك أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، لمعاونتهم، وارتضيناك لمشاركتهم لما آتاك الله من فضله من العقل والفهم والتمييز وحرية النفس وصفاء جوهرها؛ لتكون مساعدا لإخوانك ومعاضدا لهم؛ لأن جوهرك من جوهرهم ونفسك من نفوسهم وصلاحهم صلاحك.
فامض على بركات الله وحسن توفيقه إلى أخ من إخواننا، وتوصل إليه بالرفق على خلوة وفراغ من مجلسه وطيبة من نفسه فاقرأ عليه منا التحية والسلام، وبشره بما يسره من نصيحة الإخوان، وعرفه شدة شوقنا إلى إخائه ومودته وولايته، والله يوفقه وإيانا للسداد ويهديه وإيانا للرشاد ولجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد إنه كريم جواد.
ثم اقرأ عليه هذه الخطبة وعرفه معانيها وفهمه مغزاها ومقصدها، ثم عرفنا ما يكون منه من الجواب، والله يوفقكما وجميع إخواننا للصواب، وقل له: أخبرنا أيها الأخ عن صاحبك هذا الذي أنت متعلق بخدمته ومجتهد في طاعته ومعتصم بعز سلطانه، هل تعلم أنه كان في هذا الأمر الذي هو فيه الآن غيره قبله فزال عنه عزه وسلطانه، وتفرقت عنه جموعه وأعوانه؟ وهل تعلم أن هذا الأمر الذي هو فيه باق عليه؟ أو لا بد أن يزول عنه يوما ويصير إلى غيره كما صار إليه بعد الذي كان قبله؟ أو هل تعلم أن من يجيء بعده ويصير مكانه كيف يكون حالك معه؟
وقد علمت أن هذه الدنيا وأمورها دول ونوب تدور بين أهلها واحدا بعد آخر.
(19) فصل في مخاطبة الملوك والسلاطين
قد اخترناك أيها الأخ لأمر فيه قربة إلى الله تعالى ونصرة للدين ونصيحة للإخوان، فكن واثقا بما اخترناك مغتبطا به، وسر على بركة الله وحسن توفيقه متوكلا عليه في نصرته وتأييده إلى أخ من إخواننا الفضلاء الكرام من كرام الناس، وتلطف في الوصول إليه في رفق ومداراة حتى تلقاه على خلوة من مجلسه وفراغ من قلبه، وطيبة من نفسه، وتقرأ عليه التحية والسلام من إخوان له فضلاء وأصدقاء له نصحاء، من أولاد العلماء وحملة الدين والفقهاء، وأولاد التجار وأرباب الأموال المستبصرين بالعلوم الفلسفية والأحكام الشرعية والآداب الرياضية، مثل الهندسة والنجوم والطب والفراسة والتدبير والسياسة، وتبشره بما ألقيناه إليك من الأسرار في شأنه وما يتحقق من المأمول في أمره من نصرة الدين وفتح البلاد، وما يكون على يده من صلاح العباد مما خبرت به دلائل القرآن، ولوحت به شواهد الامتحان، وتعرض عليه هذه التذكرة ليتأملها ويتفكر فيها، وتعرفه أن إخوانه الذين وجهوك إليه من ذلك البلد لما هم عليه من العقل وكرم الأخلاق وحسن الآداب والألفة والاتفاق، وما يعتقدون في أمر الدين من جميل الرأي، وما يتعاملون في أمر الدنيا من حسن المعاملة، لهم مجلس يجتمعون فيه في الخلوات، ويتذاكرون العلوم ويتحاورون في الأسرار، ويبحثون عن خفيات الأمور، فتذكروا يوما فيما بينهم من حوادث الأيام وتغييرات الزمان والخطوب والحدثان، وما تدل عليه دلائل القرآن من تغييرات شرائع الدين والملل، وتنقل الملك والدول من أمة إلى أمة ومن بلد إلى بلد ومن أهل بيت إلى أهل بيت، فاجتمع رأيهم واتفقت كلمتهم على أنه لا بد من كائن في العالم قريب وحادث عجيب فيه صلاح الدين والدنيا، وهو تجديد ملك في المملكة، وانتقال الدولة من أمة إلى أمة، وإن لذلك دلائل بينة وعلامات واضحة، وقالوا: قد عرفناها بفراغ عقولنا وتجارب الأمور واعتبار تصاريف الزمان فيما مضى من الحدثان وما يعرف منها بالزجر والفأل والكهانة والفراسة، وبدلائل المتحركات من النجوم والمنامات مما تدل عليه الكائنات قبل أن تكون، وقد اعتبرنا بهذه الوجوه التي ذكرناها، وأشرنا إليها حتى عرفنا صاحب الأمر بصفاته، والسنة والشهر الذي يكون فيه الحادث في شأنه، وما نرجو من ذلك من صلاح الدين والدنيا والله بالغ أمره @QUR05 ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وإنما أردنا بهذه التذكرة أن تكون لنا بها قربة إلى الله تعالى ونصرة للدين وحرمة للإخوان ونصيحة لصاحب الأمر وقدم صدق في الأولين، ولسان صدق في الآخرين.
فإن وقعت هذه التذكرة منه مكانها من القبول، وسمت نفسه إلى ما أشرنا إليه فذلك هو الذي نريده، وإن توقف وقال: ما علامة ما يقولون؟ وما تصديق ما يزعمون من الرأي والحديث؟ فنقول: عندنا دلائل واضحة وبراهين بينة وعلامات وشواهد يعلمها من كان ينظر في العلوم كنظرنا، ويعتبر الأمور كاعتبارنا، وكان في المعارف بصيرا مثلنا.
فإن أراد أخونا الفاضل الكريم فليبعث إلينا ثقة من ثقاته وأمينا من أمنائه ومن أبناء جنسنا ومن يشاكلنا في العلوم والمعارف، ومن يحاجنا على ما نقول ويناظرنا على ما نشير إليه؛ ليتضح له حقيقة ما قلنا، ويتبين له التصديق بما أمرنا والله الموفق للصواب.
(20) فصل في مخاطبة أهل العلم الغافلين عن أمر النفس والمعرضين عن معرفة جوهرها
أخبرنا، أيها الأخ، هل أنت عالم ومتيقن بأن مع هذا الجسد الطويل العريض العميق أعني الجسد المركب من اللحم والعظم والعصب والعروق، المؤلف من الأخلاط الأربعة التي هي الدم والبلغم والمرتان[11] التي كلها أجسام أرضية مظلمة غليظة منتنة متغيرة فاسدة جوهرا آخر هو أشرف منه وهو النفس التي هي جوهرة روحانية بسيطة حية سماوية شفافة، وهي المحركة لهذا الجسم المديرة له المظهرة به، ومنه أفعالها وأقوالها وعلومها، أو تقول: إنه ليس ها هنا شيء آخر غير هذا الجسد المرئي المحسوس المتغير الفاسد المستحيل الهالك الذي إن أصابه حر ذاب، أو إن أصابه برد جمد، وإن نام بطلت حواسه، وإن انتبه لا يشعر بوجوده، وإن نقل لا يدري أين كان، وإن ترك لا يتحرك، وإن حرك لا يحس بذاته، جاهل لا يعلم شيئا وإن لم يسق جف عطشا، وإن لم يطعم ذبل، وإن طعم امتلأ من الدم والصديد والبول والغائط كأنه ربع مجصص ظاهره، مملوء من القاذورات باطنه، إن مات نتن، وإن لم يدفن افتضح، وإن عاش فهو في العذاب والشقاء.
أترى أن الفاعل لهذه الأفعال المحكمة والصنائع المتفننة التي تظهر على أيدي البشر هو هذا الجسد وحده، والناطق بهذه اللغات المتباينة والمتكلم بهذه الأقاويل المختلفة والمخبر عن الأمور المنقضية مع الأزمان الماضية ، والعالم بالأشياء الموجودة في الأماكن الغائبة، والمنبئ عن الحوادث الكائنة في الأزمان المستقبلة، والمستنبط غرائب العلوم من خواص جواهر العدد وأشكال الهندسة وتأليف اللحون وتشريح الأجساد وتركيب الأفلاك وحساب حركات الكواكب وصفات البروج وطبائع الأركان، واختلاف جواهر المعادن ومنافع النبات واختلاف الحيوان، هل هو هذا الجسد وحده؟ أو تنسب هذه العلوم والأقاويل والفضائل إلى مزاج الجسد، كما زعم من لا خبرة له بحقائق الموجودات، وكيف تظهر هذه من مزاج الجسد والمزاج عرض من الأعراض وهو أحد هذه الأشياء التي ذكرناها؟ فقد بعد من الصواب من قال هذا القول، وعمي عن معرفة حقائق الأشياء من اعتقد هذا الرأي، وأول غفلة دخلت عليه جهالته بجوهر نفسه وتركه طلب معرفة ذاته، وأعظم بلية مع هذا أنه يدعي الرياسة في العلوم ومعرفة حقائق الأشياء وصواب أقاويل أهل الأديان ومعرفة صفات الباري، جل ثناؤه، الذي هو أشرف المعارف وأدق العلوم وألطف الأسرار، وهو يجهل مع هذا كله ذاته، ولا يعرف حقيقة نفسه فكيف يوثق برأيه؟ وكيف يصدق قوله فيما يدعيه من العلوم ويخبر عن الأمور الغائبة عن حواسه وعقله؟
وإن كنت مقرا، أيها الأخ البار الرحيم، بأن مع هذا الجسد جوهرا آخر هو أشرف منه، وأن هذه الأفعال والأقاويل والعلوم والفضائل إليه تنسب ومنه تبدو وهو المظهر من هذا الجسد هذه الأشياء فقد قلت صوابا وأقررت بالحق وأنصفت في الجواب، فخبرنا عن هذا الجوهر الشريف.
هل يمكن أن يعرف ما هو وكيف كونه مع هذا الجسد باختيار منه أو مضطر أن يكون معه؟ أو هل تعرف أين كان قبل أن يقرن بهذا الجسد؟ وأين يذهب إذا فارقه؟ أو تقول: إني لا أدري، وهل ترضى من نفسك الجهل بهذا المقدار من العلم أن تقول: إن هذا العلم ليس في طاقة الإنسان أن يعلمه، وكيف يسوغ لك هذا القول والعلماء مقرون أجمع - وأنت معهم - بأن معرفة الله واجبة على كل عاقل؟ وكيف يستوي للعبد إذن معرفة ربه وهو لا يعرف نفسه؟!
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من عرف نفسه فقد عرف ربه، أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه.» وكيف يستوي لك أن تقول: إنك تعرف ربك ولا تعرف نفسك وقال الله عز وجل: @QUR05 بل الإنسان على نفسه بصيرة، وقال: @QUR05 وضرب لنا مثلا ونسي خلقه، وقال: @QUR04 وفي أنفسكم أفلا تبصرون، وقال: @QUR05 كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا، وقال: @QUR08 إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، وقال: @QUR07 يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها، وقال: @QUR06 يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي الآية.
وأنت تعلم أيها الأخ، أن نفس الإنسان أقرب إليه من كل قريب، فكيف يستوي لك أن تقول: لا يمكن أن يعلم الإنسان نفسه ويعلم غيرها من الأشياء البعيدة الغائبة عن حواسه وعقله؟!
واعلم أيها الأخ، أنه إنما ذهب على أكثر الناس معرفة أنفسهم لتركهم النظر في علم النفس والبحث عنها، والسؤال للعلماء العارفين بعلمها وقلة اهتمامهم بأمر أنفسهم، وطلب خلاصها من بحر الهيولى وهاوية الأجساد والنجاة من أسر الطبيعة والخروج من ظلمة الأجساد، ولشدة ميلهم إلى الخلود في الدنيا واستغراقهم في الشهوات الجسمانية والغرور باللذات الجرمانية والأنس بالمحسوسات الطبيعية، ولغفلتهم عما وصف في الكتب النبوية من نعيم الجنان وفي عالم الأفلاك من الروح والريحان، وقلة رغبتهم فيها لقلة تصديقهم بما خبرت به الأنبياء، صلوات الله عليهم، وما أشارت إليه الفلاسفة الحكماء بما يقصر الوصف عنه من لطيف المعاني ودقائق الأسرار، فانصرفت همم نفوسهم كلها إلى أمر هذا الجسد المستحيل، وجعلوا سعيهم كله لصلاح معيشة الدنيا من جمع الأموال والمآكل والمشارب والملابس والمراكب والمناكح، فصيروا نفوسهم عبيدا لأجسادهم وأجسادهم مالكة لنفوسهم، وسلطوا الناسوت على اللاهوت والظلمة على النور والشياطين على الملائكة، وصاروا من حزب إبليس وأعداء الرحمن.
فهل لك أيها الأخ أن تنظر لنفسك وتسعى في صلاحها وتطلب نجاتها وتفك أسرها وتخلصها من الغرق في الهيولى وأسر الطبيعة وظلمة الأجساد وتخفف عنها أوزارها، وهي الأسباب المانعة لها من الترقي إلى السماء والدخول في زمرة الملائكة والسيحان في فسحة عالم الأفلاك الروحانية، والارتفاع في درجات الجنان والتنفس من ذلك الروح والريحان المذكور في القرآن بأن ترغب في صحبة أصدقاء لك نصحاء وإخوان لك فضلاء، وادين لك كرماء، حريصين على طلب خلاصك ونجاتك مع أنفسهم، قد خلعوا أنفسهم من طاعة أبناء الدنيا، وجعلوا كدهم طلب نعيم دار الأخرى بأن تسلك مسلكهم ومقصدهم، وتتخلص بسيرك معهم وتتخلق بأخلاقهم بأن تسمع أقاويلهم وتعرف اعتقادهم وتنظر في علومهم وتفهم أسرارهم وما يخبرونك به من العلوم النفسية والمعارف الزكية الحقيقية والمعقولات الروحانية والمحسوسات النفسانية؟
إذا دخلت مدينتنا الروحانية وسرت بسيرتنا الملكية وعملت بسنتنا الزكية، وتفقهت في شريعتنا العقلية لتنظر إلى الملأ الأعلى وتعيش عيش السعداء فرحانا مسرورا ملتذا مخلدا أبدا بنفسك الباقية الشريفة النيرة الخفية الشفافة، لا بجثتك الدنية المظلمة الثقيلة المتغيرة المستحيلة الفاسدة الهالكة، وفقك الله وجميع إخواننا للرشاد، وأوصلك وإيانا إلى دار السلام برحمته ومنه إنه على ما يشاء قدير.
(21) فصل في مخاطبة المتشيعين
قد جمع الله بيننا وبينك، أيها الأخ البار الرحيم، في أسباب شتى وخصال عدة مما يؤكد المودة بين الإخوان، ويجمع شمل الأصدقاء في جميع صلاح الدين والدنيا، أيدك الله، أولا من تأملها وعرف حق عظيم ما أنعم الله تعالى لديك وفضل منته عليك لما خصك الله به من العقل والفهم والتمييز، فمن إحدى تلك الخصال والأسباب التي تؤكد المودة بين الأصدقاء ملة الإسلام التي هي آكد الأسباب؛ لأنه خير دين دان به المتألهون، وأفضل طريق يسلكه إلى الله القاصدون، وهو القدوة بدين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبعلم كتابه الذي جاء به مهيمنا على كتب الأولين وسنة الشريعة التي هي أعدل سنة سنها المرسلون.
ومما يجمعنا وإياك، أيها الأخ البار الرحيم، محبة نبينا عليه السلام، وأهل بيت نبيه الطاهرين وولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب خير الوصيين صلوات الله عليهم أجمعين، ومما يجمعنا وإياك حرمة الأدب والخروج من جملة العوام، وهو العماد لما نحن بسبيله ونشير إليه.
ومما يجمعنا وإياك من الأخلاق الجميلة والأفعال الحميدة وحرية النفس وصفاء جوهرها وهي التي تدعونا إلى مكاتبتك ومراسلتك وما نرجو منه النفع لك فيما يستقبل من الأمر، والله يؤيدك وإيانا وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد. وقد أنفذنا إليك أخا من إخواننا ممن قد ارتضيناه في بصيرته، وحمدنا طريقته في دينه وأخلاقه، وأنت، أيدك الله، تعرف حقه وما يجب من حرمته وتوصله إليك على خلوة من مجلسك وفراغ من قلبك، وتصغي إليه فيما يقول، وتسمع منه ما ألقينا إليك من أسرارنا وما نشير إليه من علمنا؛ ليتبين لك مذهبنا وتفهم اعتقادنا في أمر الدين والدنيا جميعا، فإذا سمعت أقاويلنا وفهمت معانيها ووقفت على حقائقنا وتأملتها بعقلك وميزتها برؤيتك أجبتنا عن رأيك فيما أشرنا إليه، وما نسألك عنه في اعتقادك بصدق القول لا محتشما ولا مهيبا ولا مجانبا مما يقتضيه الحكم ويوجبه الحق، والله يوفقك للصواب ويؤيدك بروح منه، وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد.
(22) فصل في أنه إنما ذهب على أكثر الناس المتفلسفين والباحثين ...
اعلم أيها الأخ، أيدك الله، أنه إنما ذهب على أكثر الناس المتفلسفين والباحثين عن حقائق الأشياء أسرار كتب الأنبياء عليهم السلام؛ لتركهم البحث عنها وإعراضهم عن النظر فيها؛ لقصور أفهامهم عن تصورها؛ لأنها مأخوذة معانيها من الملائكة الذين هم الملأ الأعلى أهل السموات وسكان الأفلاك، وأعيذك أيها الأخ الفاضل أن تكون من الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون، الذين ذمهم الله عز وجل في كتابه فقال: @QUR07 أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها وقال: @QUR06 صم بكم عمي فهم لا يعقلون. أفترى أنهم لم يكونوا يسمعون الأصوات، أو لم يكونوا يبصرون الألوان، أو لم يكونوا يعقلون أمر المعاش؟! بل إنما ذمهم؛ لأنهم لم يكونوا يفهمون هذه المعاني المذكورة في الكتب النبوية التي إليها نشير في رسائلنا، وإليها ندعو إخواننا، أعزهم الله، حيث كانوا في البلاد، وهو دين النبيين ومذهب الربانيين والأحبار الذين استحفظوا في كتاب الله من الأسرار المكنونة التي لا يمسها إلا المطهرون، وهم أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وفقك الله أيها الأخ للصواب واعتقاد الحق والعمل الصالح والمعارف الربانية وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد، إنه كريم جواد لطيف بالعباد.
(تمت رسالة الدعوة إلى الله تعالى، ويليها رسالة في كيفية أحوال الروحانيين.)
الرسالة الثامنة من العلوم الناموسية والشرعية في كيفية أحوال الروحانيين
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
اعلم أيها الأخ الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن أفعال الروحانيين لا يتهيأ لأحد من العالم الجسماني الوقوف عليها والمعرفة بها إلا بعد معرفته بجوهر نفسه وكيفية فعلها في جسمه، وإذا عرف كيفية ذلك ووقف عليه تهيأ له بعد ذلك الوقوف على أحوال الروحانيين في العالم جميعا: العلوي بما فيه والسفلي وما يحويه، وقاده ذلك إلى معرفة خالقه وتنزيه مبدعه، وفعله الذي فعله بذاته وما أبدعه من موجوداته، وبمعرفة ذلك يكون كمال الإنسان، وبذلك يتهيأ له التصور بالصورة الروحانية الملكية فتكون أفعاله أفعال الملائكة وما يظهر عنهم ويبدو منهم من الأفعال والأعمال في العالم الجسماني والخلق الإنساني، ويعرف أيضا أفعال الجن والشياطين ومن يتولى عقابهم إذا استرقوا السمع من الملائكة المسبحين، وما يتبعهم من الصواعق المحرقة والشهب الثاقبة دحورا تأخذهم من كل جانب @QUR011 ولهم عذاب واصب * إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب وما في العالم من الكرام الكاتبين والحفظة الحاسبين الموكلين بإنشاء ما يكون من الأجساد وعمارة عالم الكون والفساد.
(1) فصل في أن دائرة العقل مرتبة من أمر الله تعالى
اعلم أيها الأخ، أيدك الله، أن دائرة العقل مرتبة من أمر الله تعالى لا يدركها خاطر نفساني، وأن الأنوار المضيئة مرتبة في أفق العقل الكلي بحيث لا يدركها حس ولا يتناولها لمس.
فالدائرة الأولى هي البعيدة عنها أوهام المخلوقين من العالمين: الروحاني والجسماني، اللطيف والكثيف، وهي موصوفة بالفعل الخاص بها الصادر عنها، وهو العقل الذي عقل ما دونه من مجاوريه فرجعت الأوهام قبل بلوغها غايته ذاهلة عن بلوغ بعض ما في دائرته وسعة إحاطته، وهو من الإقرار بإلهية خالقه وتنزيهه مبدعه وخشوعه له، موصوف بذلك كصفة ما يبدو من أحد ما بدا عنه، وتكون منه بمنزلة النفس المشتاقة إليه الخاضعة بين يديه المرتبة في أفقه المطمئنة به المتكلة عليه الراجعة إليه.
واعلم أن دائرة العقل مشرقة بهية؛ فهو يتراءى فيها بشدة صفائها وإشراقها ما يتلألأ من الأنوار الإلهية البادية بالأمر الممجد عن الوحدة المحضة التي لا تتكثر ولا تزداد، بل هي منفردة بالوجود والإيجاد، وإنما يتكثر من ينضاف إليه ما يشاكله ويجانسه ويزداد من يحتاج إلى الزيادة، وإذا احتاج إلى الزيادة لزمه النقصان والوحدة المتنزهة عن الصفات البادية بالألفاظ المنطقية والتخيلات النفسانية والتمثيلات الهيولانية لا تتكثر كتكثر واحد الأعداد التي هي الوحدة المتكثرة بما يكون ويبدو عنها إذا كانت هي أصل الكثرة ومبدأ وجود الخلقة، وهي الدائرة الأولى الحاوية لجميع ما كان منها؛ ولذلك قيل له السابق.
وكذلك دائرة النفس كالثاني التالي للسابق لما بعده، وهي تالية الأول، ثم الثالثة وهي كالهيولى، والرابعة وهي كالطبيعة، وكذلك الدوائر الكائنة عن هذه الأصول حتى تكون آخرها دائرة الأرض، ولكل واحد من هذه الحدود الروحانية فعل يختص به فاعله لا يتعداه بما جعله الباري سبحانه فيها وأودعه إياها، ونريد أن نبين من ذلك طرفا يكون دليلا على ما قلناه وبرهانا على ما وصفناه.
واعلم أيها الأخ البار أن الباري سبحانه أوجد الزوجين الأولين الذين هما أبوا الموجودات كلها بأسرها، وهما الدائرتان المحيطتان بما في عالم العلو والسفل: إحداهما حائطة والأخرى محوطة.
فالدائرة الأولى موصوفة بالفعل الصادر عنها وهو التمام والكمال والفضل والفيض والرحمة والرأفة، وما ينحط من دائرتها على ما دونها من الخيرات والبركات مما يستمده ويتلقاه ويفاض عليه ويلقى إليه، وهي الفيضان الفاعلة فيه بما ينطبع في جوهريته المحضة المعراة من الشوائب المتغيرة؛ فلذلك صار لا يتبدل ما عنده ولا يتغير لدوام ملاحظته لتلك الأمور الإلهية التي لا تبديل لها ولا تغيير كما قال الله تعالى: @QUR04 لا تبديل لكلمات الله؛ فهي باقية على حال الانفراد بالبقاء والكون تحت القدرة العظمى وبإشراقها على دائرته، أضاءت ذاته فصارت مشرقة بأنوار الجبروت الممجدة بالصفة المتخصص بها المباين بما في ذاته منها عما يوجد فيما دونه، وبها يصل إلى تمجيد مبدعه وتنزيه خالقه بالتبري عما يشاهده في ذاته ويلاحظه في موجوداته، وأن يكون ذلك بحوله وقوته وإن كان هو المحيط بها والخاص لها إحاطة الإحصاء والعد؛ لأن الفعل منه إنما هو بحسب ما يفعل فيه ويجود به عليه من الجود الذي به صار في حد الوجود، وبجوده صار مبدأ وجود كل موجود؛ ولذلك سمي عقلا لأنه عقل صور الموجودات بأسرها وجاد عليها بخصائصها وترتيبه لها في مواضعها وتكوينه إياها في أماكنها؛ فهو بالإشراق المشرق عليها وبما فاض عليها يتدلى إليها، وبتحننه عليها ورأفته بها يكون القرب من علة الممنون عليه، وهو لا ينفد ما عنده إذ كانت المادة متصلة غير منفصلة، ولو كانت فيضا لتأدى منه إلى من دونه من ذاته غير مكتسب لها ولا محتاج إليها، بل هو واجد لها من ذاته على الدوام، ولو كانت هذه لكمال ما في ذاته لكان لا فرق بينه وبين علته الموجد لها، ولكان غير محتاج إليها بل غنيا عنها بما في ذاته، ولم يتغيب عنه كلية المعرفة بها، تعالى الله عن إحاطة مخلوقاته بكنه فيضه، وإنما هو، جل ذكره، مفيض ما يشاء من قدرته وأمره على إبداعه الذي ارتضاه لخالص عبوديته والإقرار بلاهوتيته وبدوام استمداده ودوام تسبيحه وتقديسه وتمجيده؛ فهو بذلك يدرك بغيته وينال لذاته التي هي غاية أنسه وروح قدسه وروحه وريحانه؛ فهو بحسب كرامة الله له مرتبة في أفق المحيط به وهو الأمر، وهو لا يبلغ الإدراك بكلية الأمر، وإنما يدرك من ذلك ما جعل فيه من صور الموجودات التي هو محيط بها ومخرج لها من القوة إلى الفعل.
ولما كان العقل كذلك كانت النفس غير حائطة بكلية ما في العقل بلا واسطة له بكمال صفاته الموجودة إلا ما أمدها به وأفاضها عليه الشيء بعد الشيء، ولو كانت قابلة لجميع ما فيه دفعة واحدة لكانت لا فرق بينها وبينه ولا فضل له عليها؛ لاتساعها لما وسعه وإحاطتها بما بلغه، وإنما هي حائطة بما دونها كإحاطة العقل بها فدائرة النفس محيطة بما هو موجود فيها عند بدء كونها من علتها، وهي ذاتها ما بدا عنها من موجوداتها وفيها قبول ما يلقى إليها ويفاض عليها، وفعلها الخاص بها ما انبعث منها وصدر عنها من القوة الطبيعية بما جعلت فيها من الصور المنطبعة بالنفس في الهيولى وغير محيطة بكلية ما في العقل من الصور المعراة والجواهر المبرأة من الهيولى إلا بما يلقيه إليها ويمدها به.
ولما كان ذلك كذلك صارت الطبيعة في كل لحظة وفي كل وقت من الأوقات ومع كل حركة من الحركات الزمانية الطبيعية تظهر شكلا ونوعا ولونا، فغرائبها لا تحصى وعجائبها لا تفنى، وهي تبديها الشيء بعد الشيء بحسب ما يلقى إليها ويفاض عليها من النفس الكلية وبما يسري فيها من القوى الفلكية، وبما ينزل مع الملائكة الموكلين بالنشأة الأرضية والخلقة الجسمانية، فهم المودعو تلك الصور في جواهر الأمهات، المظهرون لها بطبائع الأسطقسات، ومتممون ما يبدو منها من الحيوان والنبات، فهم بها موكلون ولأعمالهم متممون ولكل منهم جزء مقسوم ونصيب معلوم كما قال الله تعالى حكاية عن ملائكته الكرام وجنوده العظام: @QUR06 وما منا إلا له مقام معلوم وقال تعالى حكاية عنهم: @QUR07 وإنا لنحن الصافون * وإنا لنحن المسبحون.
وكذلك قيل في الخبر: «إن مع كل قطرة من قطرات الأمطار، ومع كل نقطة من مياه البحار، ومع كل ورقة من أوراق الأشجار، ومع كل ساعة من ساعات الليل والنهار، ومع كل إنسان وحيوان، ومع كل جان وشيطان ملائكة يسبحون الليل والنهار لا يفترون، ويفعلون ما يؤمرون، وكل منهم في مقام معلوم، ولهم أفعال تختص بكل واحد منهم مما هو موكل به.»
فلذلك صارت الطبيعة تظهر على ممر الزمان وتغاير الأيام، ومع كل لحظة من لحظات العيان وفي كل مكان لونا جديدا، وصارت أعمالها لا تفنى ولا تبيد، وإن ما منها باد بالفساد يكون مكانه مثله بالسواد معادا؛ فهي قوة صادرة باعثة لما تقدم منها في الوجود كقوة حركة الدولاب التي تبدو أولا عن حركة أولى وهي الحركة البهيمية المستعملة في آلة الدولاب، وإيصالها من آلة إلى آلة أخرى حتى تكون مرة حاطة لأواني الدولاب إلى قعر البئر، فتملأ ثم ترفعها إلى علو فيعود منها ما كان ممتلئا فارغا ثم ممتلئا، فلا تزال كذلك ما دامت الحركة متصلة.
فإذا بلغ المحرك المستخدم لتلك الدابة المحركة لتلك الآلة ما أراد من الإملاء والتفريغ أمسك الحركة فوقف الدولاب عن الرفع والحط، كذلك فعل الطبيعة إنما هي حركة متصلة بها عن آلة فلكية محركة دورية مربوطة بها النفس الكلية بقوة عقلية تبدو عن مشيئة إلهية وعناية ربانية بأمر من هو لا يعلمه إلا هو، إرادة اختيارية قاصدة إلى أمر غير مدرك إدراك الحس فيكون داخلا في جملة المحسوسات، وإنما يدرك من العلم أنه به معرى عن الصفات والنهايات التي تنتهي إليها المخلوقات وتقف عندها الموجودات من أفعال الجزئيات، لكنه أمر يقال عليه قول يطرد لا إلى تعطيل ولا تبطيل؛ إذ كان يقول: @QUR06 ما خلق الله ذلك إلا بالحق، وقوله: @QUR010 إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون.
وبالأمر كانت المكونات، والإرادة سابقة للكون، والإبداع الأول موضع الكون، وبه كانت الأشياء أشياء خارجة من العدم إلى الوجود، وبكونها في المكان تحيزت وتميزت موجودة بذواتها عن موجدها الملقي لها إلى ما دونه، كإلقاء الذكر ما يكون فيه بالقوة من النطفة إلى الأنثى؛ لتظهر بالفعل صورة موجودة بوجوده محتاجة إلى التمام والكمال، يتهيأ لقبول ذلك فيتحد به من قوة النفس وما يتصل بواسطة الشمس، فيشرق عليه من أثر العقل ما تكون به حياة نفسه وكمال جسمه عند استكمال الآلة وكونه على أفضل حالاته.
فلذلك قلنا: إن الدائرة الإلهية والصور العقلية العلوية هي كتاب تلوح سطوره المكتوبة بقلم الإرادة ولوح المشيئة المحفوظة فيه، بحيث تكون حافظة لها، وبها يكون انبعاث قواها فيما دونه حتى تصير أشياء منها روحانية بسيطة نورانية بادية عنها بكونها في دائرة النفس الكلية، فيستقر كل منها في مقام لا يعدوه كالحروف المرتبة في سطورها المنظومة، وخطوطها المرسومة مرتبة في أقسامها مستوية في نظامها لا يعدو بعضها بعضا.
فالعقل منزل كل تلك الأمور على النفس، والممد لها بها وهي المستفتحة لها منه، وهو المان بها عليها، وهو متلق لها من فيض باريه.
فلذلك قيل: إن تشبه العقل من باريه أقرب من تشبه النفس؛ لأنه يتلقى جود باريه من أمره المتصل، والنفس متلقية منه ما يمدها ونسبتها منه أقرب من نسبته ما دونها.
ثم كذلك الأفعال المادية عن كل قوة من القوى المتصلة بكل واحد من الموجودات وما يتعلق به وينسب إليه من أفعاله.
فأولها الأصول التي هي أمهات الفروع؛ فهي الجواهر الثانية عن الجواهر الأولى المحضة المبرأة عن التراكيب المؤلفة، والجواهر الأولى المخصوصة بهذه الصفة عالم العقل والنفس، والجواهر الثانية هي القوى الطبيعية والهيولانية المخصوصة بعالم الأفلاك العالية القائمة بحركاتها الملائكة الموكلون بها، والفروع البادية منها الأمهات السفليات والأسطقسات الجزئيات والطبائع الجسمانية وما يبدو منها ويتكون عنها من الحيوان والنبات، وخليفة الله فيها وأمينه عليها هو النفس الجزئية التي هي نفس صاحب شرع كل دور، وهي المدبرة لها في العالم السفلي، وهي المتحدة بالجسم المبني بالحكمة الموجودة بإتقان الصنعة، وهي المتمم لها أمور الطبيعة من أعمالها؛ فهي ترتب كل شيء من ذلك في مرتبته، وتستخرج من منفعته، وتوصله إلى غايته فهو في العالم السفلي والمركز الأرضي خليفة الله وملكه الموكل بتدبير ما يكون في الأرض من معادنها ونباتها وحيوانها، وهي الدائرة الثانية وفلكها ذو حركة دورية مربوطة بها نفس جزئية متصلة بالنفس الكلية، وفيه كواكب طالعة وأنوار لامعة وملائكة بالقوة يفعلون فيه ما يؤمرون روحانيون بذواتهم الشريفة، جسمانيون بأجسامهم الكثيفة، ولكل ملك منهم جنود وأعوان.
واعلم أيها الأخ، أن في هذه الدائرة الإنسانية يتراءى ما يكون في الدائرة النفسانية والطبيعية؛ إذ كان الإنسان المبدع لما يكون من ذلك والمبين له بالقول والعمل، فالقول كالقول بحوادث الجو الفلكي وأحكام النجوم وصفة النفس وكيفية رباطها بالفلك المحيط وما دونه، ومعرفة العقل بأنه أول الموجودات وأشرف الذوات، وهو الناطق بتوحيد الله عز وجل وتنزيهه، والوسيلة بينه وبين ما دونه من خلقه.
فأما العمل فمثل ما ذكرناه في رسالة الصنائع العملية، ونريد أن نذكر في هذه الرسالة صفة الدوائر الروحانية النفسانية وسكان كل دائرة من الملائكة، وكيف يكون أفعالهم وتفاضلهم كما قلنا بالقرب من الله تعالى بالأعمال المقربة إليه المزلفة لديه؟ وإذا فرغنا من ذكر الدوائر المستقيمة ذوات الأنوار المضيئة والأشخاص البهية ذكرنا الدوائر الظلمانية المعكوسة وذوات الصور الشيطانية المنكوسة، وبمعرفة ذلك تكون معرفة الإنسان بحقيقة الجنة والنار وأفعال أهلها يخص كل شكل منها.
فإذا وفقت إلى هذه الحكمة الشريفة وترقيت إلى هذه الدرجة المنيفة فخص بها إخوانك البالغين وأحباءك المصطفين الذين تهذبوا بالأخلاق الحكمية وعرفوا المنازل العلمية.
واعلم أن رسائلنا الناموسية الإلهية هي جواهر ما بسطناه وذخائر ما ألفناه، وهذا الكتاب الذي ألقيناه إليك وخصصناك به جعلناه وديعة عند إخواننا، أيدهم الله وإيانا بروح منه.
(2) فصل في فعل الله تعالى الذي فعله بذاته وما يليق به من صفاته
اعلم أيها الأخ، أن نسبة العقل من مبدعه أقرب من نسبة ما دونه، ونسبة ما دونه لمن ينسب أولا منه أقرب، وكذلك الأفعال البادية عن كل قوة من القوى المتصلة بكل واحد من الأصول البادية وما يتعلق به من الصفات والتراكيب المؤلفة.
ولما كان العقل هو أقرب الأشياء من باريه، جل اسمه، وأنه الفاعل لما دونه بأمره وجب أن يكون هو فعل الباري تعالى الذي فعله بذاته وكتابه الذي كتبه بيده، وهو الملك الذي ليس له فيه شريك يناوئه ولا ضد ينافيه، بل هو خالص صاف لا يقع عليه التغيير، ولا يجوز عليه التبديل، مشرقة أنوراه ظاهرة آثاره حاو لما بدا عنه محيط ما يكون منه.
فهذا هو فعل الله الخاص به المنسوب إليه الذي لا تفاوت فيه.
ولما كان الفاعل يعطي فعله الخاص به صورته ومثاله ويؤيده بالقدرة التي تتكون له بها القوة على ما يبديه من أعماله صار العقل موضعا لأمر الله عز وجل ومكانا لقدرته.
وقد جاء في بعض الكتب المنزلة أن الله خلق آدم على صورته ومثاله، وقوله عز وجل: @QUR06 وله المثل الأعلى في السموات والأرض.
وكذلك قال الحكماء: إن في المعلول توجد آثار العلة، وكذلك صارت الأفعال المحكمة والصنائع المتقنة تدل على حكمة صانعها وتنسب إليه ويكون موصوفا بها، فلنذكر ما يليق بها من الصفة مثل ما لاق به من الفعل.
اعلم أيها الأخ البار الرحيم أن صفات الباري، جل جلاله، بالتقريب من أفهام المخلوقين المنسوبة من أفعال الجسمانيين روحانية لا من حيث كونها في الروحانيات المخلوقات محدثات مبدعات فاعلات أفعالا تليق بها، منسوبة إليها يكون بعضها من بعض، مثل العلم والقدرة والإحاطة والحياة وما شاكل ذلك من الصفات، وإن ذلك متعلق بالعقل وما دونه حتى تكون متصلة بالإنسان وبالحيوان، ولكل منها بحسب ما يليق مما جعله الله فيه؛ ولذلك قال سبحانه: @QUR06 أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، ولما كانت هذه الصفات مشتركة فيها جميع الموجودات علمنا أن للباري سبحانه من جهة النزهة عنه صفات تختص به كفعله المخصوص به، فطلبناها بالحرص والاجتهاد واستقراء كتب الحكماء وسؤال العلماء ومن عنده علم الكتاب من أهل الذكر كما قال تعالى: @QUR07 فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون فوقفنا من ذلك على ما من الله سبحانه به علينا وهدانا إليه.
ونحن نذكر من ذلك ما يليق ذكره بهذا المكان وفيه كفاية لذوي الألباب ومن وفقه الله تعالى للصواب.
(3) فصل في أن صفات الله تعالى التي لا يشركه فيها أحد من خلقه ...
اعلم أيها الأخ، أن صفات الله تعالى التي لا يشركه فيها أحد من خلقه ومعرفته التي لا يعرف بها إلا هو أنه مبدع مخترع خالق مكون قادر عليم حي موجود مبدع قديم فاعل.
وإنه المعطي من جوده الوجود هذه الصفات وما ينبغي له ويليق، فأفاض على العقل من ذلك أنه مبدئ محدث حي مخترع عالم فاعل موجود، فالعقل مبدئ لما بدا منه، وفاعل بمعنى مفعول ، ومحدث بمعنى أنه محدث معلول، ومعطي الحياة لمن دونه كما أعطى، وموجود بوجود أفعاله الصادرة عنه.
وكذلك ما يكون من صفات الروحانيين والجسمانيين واشتراكهم فيها، وهي صفات جزئية يقال بها عليهم مقالة مجازية، وهي مقرونة معهم بأضدادهم كاقتران الوجود بالعدم والعلم والجهل، والحياة بالموت، والقدرة بالعجز، والحركة بالسكون، والنور بالظلمة.
فكل هذه الموجودات بالصفة في الموصوفين بها مقارنة لأضدادها لا يوصف بها الباري سبحانه، بل إنه خالق الوجود والعدم فصار مخصوصا بالخلقة، جاعل الموت والحياة فصار مخصوصا بالبقاء، موجد العلم والجهل فاختص بالعلم.
كذلك ما يوجد من أفعال المخلوقين من الروحانيين والجسمانيين والأعمال، فبحسب الودائع التي فيهم والآثار المفاضة عليهم باستفادة بعضهم من بعض حتى يكون سبحانه موجدهم كلهم ومعطيهم الحياة، ثم لا يكون موصوفا بصفاتهم في المعنى، ولا يستحقونها بالشركة له فيها، وهم ذوو درجات ومنازل، ولكل واحد منهم صفة تزيد على ما دونه بها ويتخصص بفضلها، وذلك موجود لا يخفى على من تأمله كوجود القدرة في الحيوان كله من الحساس إلى الإنسان، فإن لكل شخص من أشخاصه قدرة يتميز بها من غيره حتى يكون نهايته منها قدرة الإنسان عليها كلها إما بقوة جسمانية وإما بجبلة نفسانية، ثم العلم المخصوص به الإنسان المتميز به عن الحيوان هم فيه مشتركون، لا شركة المساواة بل شركة تنزيه وانفصال واستعلاء في الطبقات، وترافع في الدرجات حتى تكون نهايتهم فيه المعرفة لهم به: النبي في زمانه، والحكيم في وقته المفاض عليه ذلك من القوة المتصلة به من العالم الأعلى المخصوص بالعلم الذي صلح له به أن يكون معلما لمن دونه.
واعلم أن الإنسان المعرف لهم؛ أعني الناس، بما يحتاجون إليه هو خليفة الله سبحانه فيهم وأمينه عليهم، ثم الحياة أيضا مشتركة بين الحيوان كله موصوف بالحركة الانتقالية، وكل حيوان ذو حركة وحياة، وليسوا هم متساوين؛ لأنهم غير موجودين في حالة واحدة، وهم ذوو أعمار قصار وطوال وبين ذلك، حتى يكون المخصوص بالحياة الدائمة من انتقل من صورة الإنسانية إلى صورة الملائكة وما دون فلك القمر إلى ما فوق.
ثم كذلك صفة الروحانيين والملائكة، وهم أيضا مشتركون في هذه الصفات، متباينون في الدرجات، ولكل منهم جزء مقسوم وحد معلوم، ثم يكون كذلك حتى يكون العقل نهايتهم فيها والسابق لهم إليها والمان عليهم بها، ثم هو من الخضوع والخشوع والاعتراف بالعجز والتقصير عن الإحاطة بباريه وبلوغ كنه ما عنده، والمعرفة ببدايته ونهايته على غاية لا يبلغها إلا هو ولا ينفرد بها سواه ولا يشركه فيها غيره؛ ولذلك صار هو المعطي للنفس الخضوع والخشوع والحيرة في أمر المبدع سبحانه، ولم يفض عليها من ذلك إلا بما فتح عليه وألقى إليها بحسب ما ألقي إليه وهو الإبداع الأول المفاض عليه صورة التمام والكمال، فإذن أفعال الروحانيين من عالم العقل والنفس إنما يعطونها بما أمر الله تعالى، وهم بالقرب منه بحيث لا يصل إليهم من دونهم؛ ولذلك صارت الملائكة الذين لهم من القرب منهم ما ليس لغيرهم حتى يتصل ذلك بآخرهم، وهم الملائكة الساكنون في فلك القمر ولهم من الأفعال والأعمال ما يليق بهم مما ألقي إليهم ويفاض عليهم من المواد النفسانية والقياسات العقلية بالودائع التي فيهم من المشيئة الإلهية ما يكون لهم به مواد النفس الجزئية والجواهر الجسمانية والقوى الطبيعية والأشخاص الأرضية؛ ليكون للحركة الأولى سابقة للمتحركة بها إلى تمام المشيئة وبلوغ القضية الحتمية الموجبة الحركة الأولى، وهذه الحركة حول قطب الدائرة النارية لوصول الموجودات؛ فهي أبدا ينحط منها ما ينبث في حيز الوجود متحركا ليكون شيئا معلوما، ويقول بالتحميد والتمجيد والتسبيح والتقديس والتنزيه: إن الباري، جل اسمه، لا موصوف بصفات الروحانيين من حيث هم محدثون فاعلون ومنفعلون، ولا بصفة الجسمانيين المدركين بالحواس، وإنما صفته من حيث أفهامنا أنه قديم أزلي، معلل العلل، فاعل غير منفعل، موجد مبدع مجوهر، يبدي ما يشاء ويفعل ما يريد، كل يوم في شأن، لا يشغله شأن عن شأن، وليس هذا اليوم من أيام العالم وإنما هو يوم من أيام الدائرة الإلهية المرتبة في أفقها: الدائرة العقلية، منشئ النشأة الأولى مبدع النشأة الآخرة، لا إله إلا هو رب الآخرة والأولى، رافع من وحده إلى جنة المأوى، ومحط من جحده إلى قعر جهنم السفلى، وفعله الخاص ما كان بالأمر عنه.
فهذا هو الفعل الخاص به المنفعل عنه ذوات الخواص المثبتة أسماؤها في السطور المكتوبة في الرق المنشور، المدرجة في البيت المعمور، الذي لا يدخله إلا المطهرون، ولا يسكنه إلا المحبورون بسعادات أنوار الطاعة الخاصة من المعاصي البعيدة بالقرب من أهل الطغيان، الفاعلة ما يرد منها ويصدر عنها إلى من دونها صورة بالقوة لتكون مستقرة في اللوح.
ثم يبرز مثالها حتى يحصل في الدائرة الطبيعية صورة نفسانية متحركة بلا زمان في مكان خارجة بذاتها عن الزمان منفعلة إليها في زمان؛ فهي بذاتها الأول غير داخلة تحت حركة الزمان فسبحان خالق الزمان وموجد المكان ومكون الكيان، وله الأسماء الحسنى والأمثال العليا قال الله تعالى: @QUR012 قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى.
فهذه الصفات المحيرة لذوي الألباب والعقول في معرفة الباري منها سبحانه بأنه لا يشركه فيها أحد سواه، وفعله الذي فعله بذاته وأوجده بكلماته موجودة في موجوداته مسطورة في أرضه وسمواته، وهي آياته المكتوبة في الآفاق والأنفس، يتأمل الناظر فيها الواقف عليها الحق المبين ويعاين الصراط المستقيم.
فهذه معرفة صفات الله عز وجل وفعله المخصوص بها، بما أوجبه الكلام النطقي والتعبير اللفظي، بالآلة الجسمانية والصورة الإنسانية والملائكة المقربين، تقديسا وتسبيحا وتمجيدا وتحميدا إلا هو غير هذا، وإنما لكل أهل دائرة من العباد ما يصلح لها ويليق بها، كما أن معرفة الإنسان بباريه هي أرفع وأعظم من معرفة الحيوان، وحس الحيوان بذلك أقوى من حس النبات، وللنبات من الحس بذلك أكثر مما للمعادن.
فأما حركة الجواهر المعدنية للعبادة والإقرار بالمبدع سبحانه فهو قبولها للنقش والصورة؛ فهذه عبادتها وطاعتها وخضوعها وخشوعها، وإن منها ما يلتذ ويشتاق إلى الطاعة، ومنها ما هو أسرع للقبول وأحسن في الصورة وأجل في القدر وأعظم في ذلك ودون ذلك، ومنها ما هو في غفلة من ذلك لا يقبل الصورة ولا يذوب بالنار ولا له إشراق ولا صفاء، ولا ينتفع به كالصم الصلاب والصرة والحجارة والأرضين السباخ.
وأما عبادة النبات فهي ما يظهر منه من الحركات، وذهابه مع الهواء إذا ذهب يمينا وشمالا فهو راكع وساجد ومسبح ومقدس باصطكاك أوراقه وحركات قضبانه وما يبديه من أنواره وأزهاره وتسليمه ثمرته إلى الحيوان، ومنها ما لا ينتفع به ولا يصلح إلا للنار.
وأما عبادة الحيوان فهي خدمته الإنسان وذهابه معه حيثما ذهب، وما يكون من صبره على ما يعمل به، ومنه عاص منكر جاحد لطاعة الإنسان عدو له كالسباع وأنواع الوحوش.
وأما عبادة الإنسان فهي ما أوجبه الله تعالى عليه وهداه إليه، وهو أجل العبادات الأرضية وأعظم المعارف الحيوانية، وله فضيلة النطق وشرف القدرة على ما دونه، وكمال الخلقة واستواء القامة مجموع من العالمين؛ فهو كالحد المتاخم للحدين وكالواسطة بين الطرفين، فاحرص أيها الأخ بالعبادة والطاعة حتى تصل إلى حيث يكون تسبيحك وتقديسك غاية أنسك وأعظم لذة تجدها نفسك، فعند ذلك تأنف من الغذاء الجسماني ولا تحرص عليه ولا تشتاق إليه، وتصير في روضة الملكوت بحيث تكون حيا لا تموت.
(4) فصل في أن الإنسان الغافل عن العبادة المنهمك في المعصية ...
واعلم أيها الأخ، أن الإنسان الغافل عن العبادة المنهمك في المعصية هو أخس من الحيوان، وأخس من النبات وأخس من المعادن، مردود إلى أسفل السافلين؛ لأن الجواهر المعدنية قبلت الصورة وهو لم يقبلها، والشجرة ساجدة وراكعة لربها وهو لا يسجد، والحيوان طائع للإنسان وهو لا يطيع ربه ولا عرفه ولا وجده، ونعوذ بالله من هذه الغفلة وهذا النسيان، ونسأله التوبة والإقالة إنه ولي الإحسان.
(5) فصل في معرفة أفعال العقل
اعلم أيها الأخ، أن العقل الفعال هو الإبداع الأول والخلق الأكمل، وأنه فعل الله الذي فعله بذاته وأوجده بكلمته وقدرته، الذي قدر فيه وجوده الذي جاد به، ويحقق هذا البرهان أن الراد علينا فيما ذكرنا لا يمكنه جحود ما أوردناه ولا خلاف عنده فيما وصفناه إلا كان ردا للعيان.
ونعود فنقول : إن للعقل فعلا يختص به ولا ينفرد عنه ولا ينفصل منه قريب بحيث هو.
ولما كان العقل لا يعدم جود باريه بل واجد له يجب أن يكون بحيث القرب منه تعالى مرتبا في قبضته وإحاطته واتصال أمره به، كذلك يجب أن يكون الإبداع الثاني المنبعث عنه البادي منه المتوجه بالشوق إليه، منه بدأ وإليه يعود؛ فهو بالقرب منه بحيث التوجه بالشوق إليه والاستفادة منه والأخذ عنه ما يكون له صورة القيام، وهي النفس الكلية المرتبة في قبضته، وهو المفيض عليها الفضائل الموجودة في جوهرها، ولما تتلقى منه يكون تمامها وسعادتها، وبما تلاحظ في ذاتها العالية عليها المحيطة بها، وبتأملها بدقة تأمل الاستقراء والشوق إليها والرغبة فيها يتهيأ لها بذلك انتساج ملاحظته فيها في دائرتها وحصولها في ذاتها، فإذا تأملت بملاحظتها واستمدادها عادت متمثلة لما رأت في دائرتها أشكالا كما يفعل التلميذ إذا امتلأ من تعليم مفيده عاد إلى تمثيل ما تعلم بالتشبه والمحاكاة، كما يوجد ذلك في الصبيان من محاكاة صنائع آبائهم والتشبه بهم في أفعالهم.
وإنما جعل ذلك في جبلتهم وغريزة في عقولهم؛ ليكون قائدا لهم إلى معرفة الصنائع والأعمال؛ لما في ذلك لهم من النفع التام والصلاح العام لعمارة دار الدنيا.
فإذا صارت تلك النقوش والأشكال في دائرة النفس ورتبتها في آفاقها وبنتها في دائرتها ابتدأت بإلقائها إلى من دونها، وتولت إثباتها فيه كثبوتها فيها وكونها عنها، فابتدأت القوى الطبيعية التي تحيط بالأجساد الهيولانية، فتركب منها نقوش صورية وأصباغ نورانية موجودة في أجسام نورانية، موجودة في أجسام ظلمانية وأجساد هيولانية لتشرق عليها أنوار نفسانية، وتتحد بها قوى روحانية، وصارت الحكم الملقاة عليها بقوة ملكية وإرادة فلكية وبقوة عقلية ومشيئة إلهية، وظهرت الخلقة الآدمية والصور الإنسانية قائمة بالحق ناطقة بالصدق مقرة بتوحيد الخالق سبحانه وتعالى، ومقرة بحدوث خلقها وإتقان صنعها وكمال بنيتها بوجود باريها ما أوجده فيها وقدمه عليها.
فهي صورة مماثلة لصورة العالم الكبير؛ فلذلك سميت عالما صغيرا، ثم ما دونها من صور الحيوانات وعجائب تراكيبها وبدائع تآليفها .
وصورة الإنسان لنفسه كتاب مبين وصراط مستقيم في العالم الكبير، وهو ما فيه إنسان واحد للنفس الكلية تدبر أفلاكه وتحرك كواكبه بإذن الله تعالى ومشيئته وسابق إرادته، كما يحرك نفس الإنسان الذي هو عالم صغير جميع مفاصل جسده وأعضاء بدنه.
واعلم أيها الأخ، أن لتلك الحركات النفسانية قوى متصلة بفلك القمر وما دونها من الأركان ومولداتها وأفعال تظهر فيها ومنها لا يحصي عددها إلا الله سبحانه وتعالى، كما أن لنفس الإنسان في جميع بدنه ومفاصل جسده أفعالا كثيرة كما بينا في رسالة تركيب الجسد، وفي رسالة الإنسان عالم صغير.
واعلم أن جسم العالم كله مركب من إحدى عشرة كرة، كما بينا في رسالة السماء والعالم، وأن الفلك مقسوم نصفين، وفي الفلك اثنا عشر برجا لمسير كواكبه، وينحط من كل برج ما يسري فيه من قوة كل كوكب، ما يكون به ظهور فعل يختص به هو فاعل له وقائم بعمله، كما أن الدائرة الأولى دائرة الفلك المحيط به والمحرك له النفس الكلية، وفعله الخاص به تدوير ما دونه معه، والفعل الصادر عنه كون الدوائر على الاستواء في النظام وهو محيط بها وهي مرتبة في أفقه، وهكذا إلى المراكز بعضها في جوف بعض، وتنبعث من هذه الكواكب الثابتة تأثيرات وقوى تتصل بما دونها فتودع فيهم الأفعال التي تبدو عنهم، وتظهر منهم في الأوقات التي ينبغي فيها إظهار ذلك بمشيئة الله وقدرته.
واعلم أيها الأخ، أن دائرة الشمس في العالم العلوي دائرة شريفة عظيمة القدر والمنزلة عند الله تعالى، وهي بمنزلة القلب في الجسد والفلك المحيط كالرأس، وبه يدوم دوام الحكمة ومن الشمس سريان القوة، وذلك أنه يتصل بها من النفس الكلية قوة تختص بها وهي المعطية قوة الحياة لجميع الأجسام، وبها يكون صلاح العالم وتمام وجوده وكمال بقائه؛ وذلك أنه تنبث منها قوة روحانية يكون بها استواء النظام وقوام الأشياء على أحسن قوام، فيتلألأ العالم ويزهر، وهي قنديل النور الذي لا يطفى وسراج القدرة الذي لا يخبو، وهي بمنزلة المثل الأعلى في السموات؛ لأنها أشرف الموجودات السماوية والأشخاص الفلكية، وقوتها كمثل الحرارة المنبثة من القلب في جميع أعضاء الجسد، واختصاص أفعال الحرارة في كل عضو ويظهر فيه عنها ويتكون فيه منها ما يكون به نموه وبقاؤه واختلاف ما خرج منه ورجوع ما بدا عنه، كذلك أفعال الروحانية الطبيعية ترد عوضا عما باد واندرس من العالم، فيعود مثله إلى مكانه وهي مستولية على الأجسام الوضعية والأكوان المرتبة، وروحانيات النفس المنحطة من الطرف الأعلى مما يلي العقل تختص شرايف روحانيتها وكرام ملائكتها بمواليد الملوك وأصحاب التيجان وأولي العز والرفعة والسلطان.
واعلم أيها الأخ، أن النفس ذات طرفين تنحط منها قوتان: قوة مما يلي الطبيعة، وهي المتحدة بها من الأفعال الطبيعية، وقوة تنحط من الطرف القريب من العقل فتتصل بالصورة الإنسانية وتتشكل بالأشكال الفلكية، فعند ذلك يشرق العقل عليها ويصرفها بهاتين القوتين وينحط من النفس بواسطتهما من العالم الأعلى، فالطرف الأعلى ينحط من دائرة الشمس فيختص من الحيوان بالإنسان، ومن النبات بما طابت رائحته وزكت ثمرته وحسنت صورته، ومن المعادن بالذهب، ومن الجواهر بالياقوت، ولها من الأفعال التمام والكمال ومن الصفات الإشراق والضياء، ومكانها من الأرض مواضع الملوك والرؤساء، وفعلها فيها الطهارة والنقاء، والطرف الأدنى ينحط بوساطة القمر المرتب في السماء الدنيا الموصوف بالزيادة والنقصان والأخذ والإعطاء والتفريغ والإملاء، ونحن نذكر من أفعاله ما يختص به في موضعه، إن شاء الله.
(6) فصل في أنه ينحط من دائرة الشمس ...
واعلم أيها الأخ، أنه ينحط من دائرة الشمس إلى عالم الأرض دائرة لموضع ملائكة تسميها الحكماء روحانيات، ولهم صفات في الأسرار الناموسية والعلوم الشرعية تليق بهم، وأفعال تنسب إليه فهم بها معروفون وبما يظهر عنهم فيها موصوفون، وأفعالهم ما يظهر من الملوك وما يختص بهم، كما قدمنا ذكره في كل الجهات، وما فيها من النبات والمعادن وجميع الموجودات كل ما قد علا وارتفع قدره وعظم ذكره، وأفعالها المخصوصة بها وصفاتها المضافة إليها الحياة والحرارة التي تنبث من القلب في الجسد والاعتدال والكمال والتمام والصلاح والحسن والبهاء والنور والضياء والعظمة والجلالة؛ فهذه أفعال روحانيات الشمس في المعاملات ومقامات الملائكة المنبثين في العالم منها المنحطين من دائرتها لموضع الملوك والسلاطين الذين لبسهم الديباج الأصفر، وحليهم الذهب الأحمر، وتيجانهم مكللة بالجوهر، ودوابهم خيل شقر وبراذين[1] صفر، يقدمهم ملك كريم وشخص عظيم بيده راية صفراء مكتوب عليها بالنور: لا إله إلا الله الحي القيوم، معطي الحياة لكل حي، جاعل الشمس والقمر آية للناظرين المتفكرين في خلق السموات والأرض، وما خلق ذلك إلا بالحق، سبحان ربك رب العزة عما يصفون @QUR025 قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير.
وهؤلاء الملائكة الموصوفون بهذه الصفات المنسوبون إلى هذه الدرجات يطلعون بطلوعها ويغربون بغروبها، وهم الملائكة الموكلون بدائرتها السائرون في فلكها المتصلون بعالم الأرض بوساطتها، ومنهم تشرق القوة النفسانية وبهم تضيء القوة العقلية، فهم إذن أشخاصهم نفسانية وأرواحهم عقلية وموادهم إلهية، فهم لا يضيق بهم المكان ولا يغيرهم طول الزمان عن أفعالهم والمكان عن كيانهم.
فهذه المنزلة أجل منازل الروحانيين الفاضلين وهم الملائكة المقربون ومن دونهم اللاحقون بهم من تحتهم، ومن فوقهم ملائكة موصوفون بصفات غير هذه كذلك حتى يكون فوقهم من هو أعلى وأشرف؛ إذ كان هؤلاء روحانيون بذواتهم متصلون بالجسمانية بما يظهر فيهم من أفعالهم، والذين فوقهم ملائكة عالون، وهؤلاء المقربون من العالين وصفات الملائكة العالين تختص بهم من حيث ذواتهم وأفعالهم أنفس ناطقة، وروحانياتهم كائنة منها نفسانيون، وهم اللاحقون بالكرسي الذي وسع السموات والأرض، ومنهم الحافون من حول العرش، ومنهم حملة العرش وكل في مقام كريم ومحل عظيم يسبحون بحمد ربهم.
فإذا تأملت يا أخي ما وصفنا وتحقق لك ما ذكرنا فقد تهيأ لك أن تصير بالصورة الملكية فتكون قد حزت الفضيلة والإنسانية، وتبرأت عن الصورة الحيوانية والصفة البهيمية، وتصير من سكان السماء بروحك الزكية ونفسك المضيئة، وتصير صورتك ذاتية نفسانية وروحك قدسية عقلية ومادتك إلهية، وتستحق حينئذ مرافقة الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين والشهداء الصالحين ، وتدخل الجنان وتحل في دار الحيوان فيكون طوبى لك وحسن مآب.
واعلم أيها الأخ، أنه لا يتهيأ لك ذلك بالمعرفة دون العمل، ولا بالقول دون الفعل، كما أنه لا يمكنك أن تكون في الدنيا بمجرد نفسك ولطيف روحك دون جسمك والوسائط التي بين الموجودات وبينك.
واعلم أن العمل هو سلم المعراج والمعرفة هي النور يسعى بين يديك، فبالسلم ترتقي وبالنور تهتدي، وفقك الله وإيانا للعلم والعمل برحمته.
(7) فصل دائرة زحل
دائرة زحل تنبث منها روحانيات تسري في جميع العالم من الأفلاك والأمهات والمواليد، وبها يكون تماسك الصورة في الهيولى، وهي تعطي الأشياء الثقل والرزانة والوقوف والإبطاء، وموضعها من جسد الإنسان الطحال وما ينبث منه في الجسد من المرة السوداء، وبذلك تكون أجزاء البدن من العظام والعصب والجلود وجمود الرطوبات، ومن أفعاله البرودة واليبوسة، ولها من الحيوان ما اسود لونه وقبحت صورته، ومن النبات مثل ذلك، ومن المعادن الرصاص الأسود والقير وكل ما اسود لونه ونتنت رائحته، ومن الأرض والجبال السود والأودية المظلمة والطرق الوعرة والوحوش الذعرة الكريهة المنظر، ومن عالم الإنسان ما يكون بهذه الصفة.
ومن أفعال هذه الروحانيات الموت وسكون الحركة والملائكة المنبثة منه في العالم موصوفون بما يبدو عنهم ويظهر منهم من أفعالهم وأعمالهم؛ ليكون بذلك الفعل عذاب النفوس العالية والأرواح الساهية، وهي كتب مطموسة وصور معكوسة.
وأفعال روحانيته في العالم البرودة واليبوسة، والملائكة النازلون لقبض الأرواح وموت الأجساد روحانيات موكلون بساعات الليل، وهي أعداد لا يحصيها إلا الله، وهم ركاب على دواب دهم يقدمها ملك بيده راية سوداء مكتوب عليها: لا إله إلا الله مقدر الليل والنهار وجاعل الظلمات والنور، كذب العادلون بالله وضلوا ضلالا بعيدا @QUR010 ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله.
ويختص من بقاع الأرض بالمواضع الدارسة والأماكن المنقطعة والجبال الشامخة والطرقات الوعرة، وهي عمار ما خرب من الأرض، وبهم يكون تماسك البحار في أماكنها وثبات أوتاد الأرض وتماسكها، ولولا ذلك لسالت أجزاؤها واختلطت بالماء وساحت في البحار.
فهذه الملائكة الموكلة بها تمسكها بإذن الله عز وجل، والفلاسفة تسمي هذه الملائكة روحانيات زحل، والناموس يسميها ملائكة الغضب وجنودا وأعوانا وهم الموكلون بقبض الأرواح وملك الموت منهم.
(8) فصل دائرة المشتري
دائرة المشتري تنحط منها قوى روحانيات تسري في جميع العالم يكون بها اعتدال الطبائع وتأليف القوى المتنافرات، وهي سبب المتولدات الكائنات وحفظ النظام على الموجودات، وأفعال روحانياتها في العالم الكبير ما ينبث من الكبد في جسد الإنسان الذي هو عالم صغير، الذي به يكون صلاح المزاج واعتدال الأخلاط وجريان الدم في الأعضاء، وبه ينمو الجسد ويستوي البدن وتطيب الحياة ويلذ العيش وتأنس الأرواح، وروحانيته مستولية على مواليد الأنبياء، صلوات الله عليهم، وأصحاب النواميس ومواضع الملائكة المنبثة من دائرته النازلين من فلكه الخارجين من بابه مواضع الصلوات وبيوت العبادات.
ومن الحيوانات الصور الحسنة المذبوحة في القرابين المفرقة لحومها في الصدقات والزكوات.
ومن النبات ما كان في غاية الاعتدال ونهاية النفع، وله من الطيب الكافور ومن البخور ما كان معتدلا بين البرودة والحرارة والرطوبة واليبوسة، ومن الثياب البيض والعمايم الكبار والطيالس، ويختص بمواليد الحكماء والقضاة ومن يخدم في نواميس الأنبياء ومقامات الحكماء، والملائكة المنبثة منه سكان الفضاء ومدبرو الهواء، وهم عدة لا يحصيهم إلا الله عز وجل، وركاب على خيول بيض وشهب وبلق، وثيابهم بيض وخضر، يقدمهم ملك كريم وشخص عظيم بيده راية مكتوب عليها: لا إله إلا الله وحده لا شريك له @QUR013 جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء، @QUR07 وإن من أمة إلا خلا فيها نذير وهو على كل شيء قدير.
وتختص هذه القوى من المعادن بالأجساد البيض اللينة، ومن الجواهر اللؤلؤ والمرجان والبلور والزجاج، ومن المياه ما كان حلوا لذيذا يكون فيها الحيوان الحي وغير الحيوان، وهو مختص بها وبه يكون منبعها، ومع روحانيته يكون معراج الأنبياء إلى ما أعد الله لهم من حسن المآب وجزيل الثواب، ورضوان خازن الجنان منهم.
(9) فصل دائرة المريخ
دائرة المريخ تنبث منها قوى روحانية تسري في العالم من الأفلاك والأركان والمولدات ، وبها يكون النزوع والنهوض والسرعة في الأعمال والصنائع والترقي في معالي الدرجات وطلب الغايات والوصول إلى التمام والبلوغ إلى الكمال بالقهر والغلبة والعز والسلطنة.
وتختص أفعال روحانيتها وأعمال ملائكتها من المعادن بالحديد وما يتخذ منه من السلاح، وما يصلح لوقود النار في النبات والأشجار ما يكون منه من الحرارة المنضجة لثمارها التي تمتص الرطوبات المائية والمواد الندية، وبهذه الحرارة الغريزية يكون جذبها للبرودة الموجودة فيها، ولولا هذه الحرارة لتلفت أصول النبات وغلبت عليها البرودة فتلفت واضمحلت وما بقيت وعدمت.
وفعلها المختص بالحيوان ما يظهر فيه من الغضب والتعدي والشر، وكذلك في عالم الإنسان ما يكون من الحروب والفتن، ومن بقاع الأرض مواضع النيران وعمل الحديد ومذابح الحيوان، ومن جسم الإنسان المرة الصفراء وما ينبث منها من الأفعال في البدن من اللهيب والحرارة، ولولا ذلك لغلبت القوة الباردة اليابسة على الجسد فتلف واضمحل.
وبالحروب والفتن يميز الله الخبيث من الطيب، ويكون سعادة لقوم ونحسا للآخرين: @QUR010 ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة وهذه الروحانيات أيضا ملائكة غلاظ شداد لا يحصي عددهم إلا الله عز وجل، يقدمهم ملك راكب فرسا أحمر، بيده راية حمراء مكتوب عليها: لا إله إلا الله مقدر الموت والحياة، وله ما في السموات وما في الأرض وما سكن في الليل والنهار @QUR012 يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض الآية، @QUR07 وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس.
وهذه الروحانيات تختص بمواليد السلاطين وأصحاب السيوف وولاة الحروب وأصحاب الشجاعة والإقدام والنجدة والجراءة، وهي تفعل من ذلك بضد ما تفعل روحانيات زحل؛ إذ فعل روحانيات زحل القرار والهدوء وأعمال الحيلة وإبطاء الحركة وطلب الفرصة.
(10) فصل دائرة الزهرة
دائرة الزهرة تنبث منها قوى روحانية تسري في جميع جسم العالم وأجزائه، وبها يكون زينة العالم وحسن نظامه، وبهاء أنواره، ورونق أزهاره، وزخرف الكائنات، وحسن الموجودات، واعتدال النبات، والشوق إلى الزينة، ومحبة الجمال، وطلب الكمال، كما ينبث من جرم المعدة شهوة الملاذ إلى جميع مجاري الحواس التي تستلذ المأكولات والمشروبات، وروحانياتها تستولي على مواليد النساء والخدم ومن يجري مجراهم، وأفعال روحانياتها في العالم العشق والمحبة والتزين بالزينة الحسنة، وتختص من المعادن بما يصلح للنساء من الآلات والأكاليل والحلي والخواتم، ومن الجواهر بالدر، ومن النبات بكل ما طاب طعمه ورائحته وحسن منظره من جميع أزهار الأشجار وروائحها وأدهانها وحسن منظرها وطيب ثمرها.
ومن الحيوان بمثل ذلك، ومواضعها في الأرض أمكنة اللذات ومواضع الخلوات، وروحانياتها ملائكة لا يحصي عددهم إلا الله عز وجل، ركاب حيوانات ملونة موشحة بالزينة، يقدمهم ملك بيده راية مكتوب عليها: لا إله إلا الله وحده لا شريك له @QUR011 قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق الآية، وهي ذات النقش والتصوير وبهذه القوة ثبات النفس في الهيولى.
(11) فصل دائرة عطارد
دائرة عطارد تنبث منها قوى روحانيات تسري في جميع جسم العالم وأجزائه، وبها تكون المعارف والعلوم والخواطر والإلهام والرؤيا والوحي والنبوة، كما تنبث من الدماغ القوة الوهمية وما يتبعها من الذهن والتخيل والفكر والروية والتمييز والفراسة والخواطر والإلهام والشعور والإحساس، وتستولي روحانياتها وتختص أفعال ملائكتها الهابطة من المعادن الطبيعية بالزوابيق والأرواح الصاعدة، ومن جواهر ما كان ذا لونين مثل الجزع والبادزهر، ومن الحيوان الزرافات وبقر الوحش وكل ما خف مشيه وأسرع في ذهابه، ومن النبات مثل الأودية الفاضلة، وتختص من عالم الإنسان بمواليد الكتاب والوزراء والعمال وجباة الأموال، ويؤثر في العالم الصنائع والحرف، ومن الكلام الشعر والخط والنظم وغير ذلك، وملائكته النازلة من دائرته كرام كاتبون وحفظة حاسبون ذوو مناظر حسنة وصور بهية، أرواحهم خفيفة وأشخاصهم لطيفة، يقدمهم ملك بيده راية مكتوب عليها: لا إله إلا الله وحده لا شريك له: @QUR020 كلا إنها تذكرة * فمن شاء ذكره * في صحف مكرمة * مرفوعة مطهرة * بأيدي سفرة * كرام بررة.
(12) فصل دائرة القمر
دائرة القمر تنبث منها قوى روحانية تسري في جميع العالم وأجزائه، فيها تنفس الموجودات في العالم جميعا تارة من عالم الأفلاك نحو عالم الكون من أول الشهر، وتارة من عالم الكون نحو عالم الأفلاك في آخر الشهر، وهي القوة المتوسطة بين عالم الأفلاك ومعدن البقاء والتمام، وبين عالم الأركان معدن الكون والفساد والهبوط والاتحاد، كما تنبث من جرم الرئة القوة التي بها يكون التنفس تارة باستنشاق الهواء من خارج الجسد لحفظ الحرارة الغريزية على الجسد، وتارة تكون بإرساله إلى خارج لترويحه، فعند استنشاق الهواء تربو الرئة وتعظم، وعند إرساله تهزل وتصغر، كذلك القمر باستمداده مما فوقه تتسع دائرته وتهبط ملائكته بالمواد العلوية والخيرات السماوية، فيفعل في العالم الزيادة والنماء والربى، فعند ذلك تكثر مياه الأنهار وتربو وتسمن الأجسام، فلا يزال كذلك إلى النصف من الشهر، ويتكون في هذه المدة بعض المعادن، ويتكون بعض الجواهر، وروحانياتها تفعل في المعادن الفضة والأجساد البيض مثل الملح والثلج، وله من الجبال البيض ومواضع الثلوج، وله من الحيوان ما يتكون من المياه، ويكون غذاؤه منها، وتستولي روحانياته، وتختص أفعاله وجنوده بمواليد أصحاب العمارة مثل الوكلاء والدهاقين وأصحاب الجمع ومن يفعل في المياه.
وقد ذكرنا، أيها الأخ، ما يكون من أفعال روحانيات منازل القمر التي تسير فيها وتمر عليها وما يهبط منه ومنها إلى العالم الأرضي والمركز السفلي، وما يكون منها وما يجب للعامل إذا أراد أن يعمل ما يعمله من معرفتها في رسالة السحر والعزائم، وهذه القوة هي المخصوصة بتدبير عالم الكون والفساد، وفلك القمر هو سماء الدنيا وملائكتها هي الموكلة بعالم الأرض، وهم عدة لا يحصيهم إلا الله تعالى، يقدمهم ملك بيده راية بيضاء مكتوب عليها بسواد: لا إله إلا الله وحده لا شريك له @QUR023 والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم * لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون.
(13) فصل في أنه ينبث من جرم كل كوكب من الكواكب الثابتة ...
وهكذا ينبث من جرم كل كوكب من الكواكب الثابتة قوة روحانية تسري في جميع جسم العالم من أعلى الفلك الثامن الذي هو الكرسي الواسع إلى منتهى مركز الأرض، وبهذه القوة ومع هذه الملائكة يكون النور الذي تشرق به السموات وتضيء الأفلاك ويتصل بالشمس فتكون هي القنديل المضيء والكوكب الدري والنور الزاهر والسراج الأنور المتوقد @QUR08 من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية، وينبث من نور الشمس في الهواء الأجسام الشفافة، المجموع فيها النور والإشراق والضياء والحسن والبهاء، وبهذه القوة تنحط صور الموجودات فتصير في دائرة الطبيعة محفوظة في الهيولى، وبها صلاح العالم وقوامه، وكونه على ما هو موجود بإذن باريه تعالى، ونهايات سكان السموات وهم الملائكة العالون، وهم جنود الله الذين لا يعلمهم إلا هو كما قال تعالى: @QUR011 وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر وقال حكاية عنهم: @QUR014 وما منا إلا له مقام معلوم * وإنا لنحن الصافون * وإنا لنحن المسبحون وهم سكان الكرسي الواسع، وحملة العرش المحيط من فوقهم يمدونهم بالفيوضات الكاملة والنعم الشاملة، وهم المرتبون في جوار رب العالمين المستمعون لكلامه الفاعلون بأمره ونهيه، وهم حملة الوحي والتأييد إلى من دونهم، المبلغون رسالات ربهم إلى الأنبياء، صلوات الله عليهم أجمعين.
(14) فصل في صفة الدوائر الفلكية
وإذ قد ذكرنا صفة الدوائر الفلكية والملائكة السماوية والروحانيات الهابطة من الملأ الأعلى من لدن العرش إلى منتهى المركز أسفل السافلين، وبين ذلك دائرة ودائرة ما فيها من السكان وما يظهر من أفعالهم في الزمان بموجبات أحكام القرآن، فأول الدوائر التي دون فلك القمر دائرة الأثير، وهي دائرة كرية نارية حادثة من تحريك فلك القمر وما يتصل به من أفلاك الكواكب ونيران حرارات دوران الأفلاك واصطكاكاتها وتموجها وشعاعاتها، وتجتمع كلها تحت فلك القمر، وكيفية هذه الدائرة وردية متموجة متحركة مستديرة ينحط منها إلى العالم قوى نارية، والنار التي في العالم منها، ويكون وصولها إلى العالم بوصول نور الشمس وهي الحرارة التي تنحل بنور الشمس مما دون فلك القمر، تقوى في الصيف وتضعف في الشتاء لقرب الشمس منها، إذا قاربت في بروجها من دائرة الأرض يكون الصيف، وإذا بعدت في أوجها وعلى دائرة فلكها ضعفت هذه الدائرة، وبضعفها يقوى فعل الدائرة المرتبة تحتها وهي دائرة الزمهرير، ومن فعل دائرة الأثير في العالم يكون التسخين والنضج وإصلاح الغذاء، وهي النار المستضاء بها من ظلمات الليل، وهي نار جزئية من النار الكلية.
(15) فصل في دائرة الزمهرير
ومن تحتها دائرة الزمهرير، وكيفيتها كرية لونها أزرق وتحمر، وحدوثها من الهواء والبخارات الصاعدة من الأرض، فإذا وصلت إلى سطح كرة الأثير تعذر عليها نفوذها فوقفت مرتبة تحتها، منها ينبث إلى العالم ما يحدث في الشتاء من البرد والأمطار والثلوج وما شاكل ذلك إذا بعدت الشمس وضعف فعل دائرة الأثير واستولت على الكواكب النارية في اليبس، وفعلها البرد والرطوبة، ووصول قوتها يكون بوصول القمر، ويزيد بزيادته وينقص بنقصانه.
(16) فصل في دائرة الهواء
ومن تحتها دائرة الهواء وكيفيتها مستديرة ممتزجة ولونها أسمانجوني وهو لون السماء، وتبيض بإشراق الشمس والقمر والكواكب عليه، تضيء بالنهار وتظلم بالليل، وهي مهيأة لقبول الأنوار، وتضيء بحسب قواها فيها ووصولها إليها وإشراقها عليها، وفعل هذه الدائرة في العالم تغذية الأجسام وحفظها على استواء النظام وترويح الحرارة الغريزية والنفس وحفظ القوة والحركة وطيبة العيش ولذة الحياة، وهي معتدلة تميل مع ما يقوى عليها ويتصل بها، تبرد في الشتاء بما يتصل بها من قوة الزمهرير، وتحمى في الصيف بما يتصل بها من قوة حر الأثير وما يكون من فعل الشمس والقمر وبقية الكواكب، ذلك تقدير العزيز العليم.
(17) فصل في أن دون دائرة الهواء دائرة الماء
ودون دائرة الهواء دائرة الماء، وهي مستديرة حائطة بالأرض، والهواء حائط بها، فما ينشفه الهواء ويصعد به ويعرج معه بالبخارات الصاعدة مع لطائف الأمهات حتى يتصل بدائرة الزمهرير ويسخن بحرارة الأثير، وتشرق الشمس عليه مع شعاعات الكواكب فيصير مطرا وغيثا يغاث به أهل الأرض، ويصير حلوا طيبا سائغا لذة للشاربين.
ومنه ما يكون قبل صعوده ملحا أجاجا كالبحار المالحة والمياه النابعة من السباخ، فانظر أيها الأخ هذه الحكمة، وتأمل هذه الصنعة، وانظر كيف يكسب الماء بطلوعه إلى دائرة الزمهرير وبعده من دائرة الأرض، ويتصل به وتشرق عليه هذه الطبيعة واللذة والصفاء واللطافة والمنفعة، ويصير مادة للأجسام وغذاء للأبدان وحياة للنبات والحيوان ، ولو بقي على الحالة الدنيئة والرتبة الناقصة لكان غير منتفع به.
وكذلك النفس إذا بقيت مع جسمها البالي ومكانها الدنيء لا تنال الفضائل التي بها تكون سعادتها وارتقاؤها في رفيع درجاتها، وما تناله من اللذة والطيب في دار المعاد بعد مفارقة الأجساد وعند النقلة عن عالم الكون والفساد.
(18) فصل في بعد دائرة الماء دائرة الأرض وهي التراب
وبعد دائرة الماء دائرة الأرض وهي التراب، وكيفيتها مستديرة ولونها أسود، كثيفة جامدة، وعلى بسيطها مستقر الجثمانيين، وعلى ظهرها إشراق أنوار الروحانيين، وفي البقاع الطاهرة فيها مسكن النبيين والصالحين، وهي مهبط الوحي والملائكة المقربين، وفي باطنها سكون المعادن، وفي البقاع الطيبة يستقر الماء المعين الذي هو لذة للشاربين، سطحها مما يلي الأفلاك هو وجهها، وهو مقر العالم الجسماني والخلق الإنساني، وهو دوائر عليها وخطوط فيها، ولكل دائرة فعل يختص بها وعمل يظهر منها بحسب ما يتصل بها من فوقها، والذي دون فلك القمر مأوى الصم البكم الذين لا يعقلون في أسفل السافلين.
وإذ قد ذكرنا الدوائر التي هي دون فلك القمر إلى منتهى مركز الأرض فلنذكر الدوائر التي على سطح الأرض، الكائنة فيها، الصاعدة عنها، المستقرة عليها.
(19) فصل في أن أول ما بدأ في باطن الأرض وتحرك بالكون: المعادن
اعلم أيها الأخ، أنه أول ما بدأ في باطن الأرض وتحرك بالكون: المعادن، وهي دائرة كانت ذات قوة كامنة كثيفة وثقيلة، منها صلبة ورخوة، ذات ألوان وأصباغ وزيادة ونقصان، ومنها ما يقبل الصورة وينساق للفعل، ولكل شكل منها فعل يختص به وقوة توجد فيه، قد ذكرناها في رسالة المعادن، ثم الدائرة التي فوقها التالية لها دائرة النبات، وهي مرتفعة عن الأرض بعد كونها مرتفعة نحو المحيط قابلة لما ينزل عليها، وفعلها الغذاء للحيوان، وهي الواسطة بينه وبين الأرض بما يتناوله من ثمارها وحبوبها، وبما ينتفع به منها فيما يصدر إليه عنها، وقد ذكرنا ما يختص بكل نوع منها في رسالة النبات.
(20) فصل في الدائرة التي من فوقها دائرة الحيوان
والدائرة التي من فوقها دائرة الحيوان وأفعالها وما يظهر منها، وهي حائطة بدائرة النبات قاهرة لما يكون فيها، تأكل منها وتتغذى بها، ولكل جنس منها عمل وهو عامل له وفعل يختص به، وفيها للإنسان منافع، قد ذكرناها في رسالة الحيوانات، والدائرة المرتبة فوق هذه الدوائر، التي هي لها كالفلك المحيط بالأفلاك، دائرة عالم الإنسان؛ إذ كان المتحكم فيها كلها، فأول هذه الدائرة آدم، وآخرها صاحب الدور الجديد في القرآن المستأنف.
وهذه النفوس الحيوانية المرتبة تحت الإنسان بالطاعة له والانقياد لأمره ونهيه هم الملائكة الذين سجدوا لآدم عليه السلام وأقروا بالطاعة، وهم صور وأشباح للملائكة الذين هم سكان السموات وعالم الأفلاك والحيوانات العاصية للإنسان المعادية له، وهي مثل إبليس وجنوده وحزبه والشيطان وأتباعه، فقد بان بما وصفنا وتحقق بما ذكرنا معرفة ما في العالم الصغير والكبير، وما يكون من فعل الإنسان ويبدو منه ويظهر عنه من الأفعال المتضادة والأعمال المتباينة، وأنه صورة قد قهرت الصور، ودائرة قد أحاطت بالدوائر التي دونها، وفيها مثالات لما فوقها، وقد ذكرنا طرفا منه في رسالة: «الإنسان الصغير»، ونريد أن نذكر في هذه الرسالة ما يتفرع من كل دائرة من هذه الدوائر المجسمة والخطوط المركبة، ونبتدئ بدائرة الإنسان وما يوجد فيها من الأقسام المحيط بعضها ببعض حتى يكون آخرها فلك القمر، وينتهي إلى مركز الأرض الذي هو مستقر الكثائف ووجود فعل اللطائف بالتمثيل وإقامة الدليل.
(21) فصل دائرة الناموس الإلهي
دائرة الناموس الإلهي وأشخاصها القائمون بأمور النواميس وما أنزل إليهم من ربهم، ومثلها في عالم الإنسان مثل الفلك المحيط وكواكبه، وما ينحط إليها من السعادات في الدين والدنيا، مثل ما يتصل بالعالم كله من فيضان الكواكب الثابتة من الحيوان والسعادات وإشراق النور والضياء، وهذه الدائرة في عالم الإنسان بمنزلة دائرة الشمس في عالم السموات، ويقترن بها دائرة الملك والعز والسلطان، وهي حاوية لجميع ما دونها من الدوائر في عالم الإنسان، محيطة بما دونها من العوالم، وبهم يتصل منها العلم والحكمة والإخبار بما كان ويكون.
(22) فصل في الدائرة التي تليها دائرة أصحاب الحكم الفلسفية
الدائرة التي تليها دائرة أصحاب الحكم الفلسفية العقلية المرتبة في أفق الدائرة الأولى، وتنبث منها في العالم الصنائع المحكمة والأفعال المتقنة مما يصلح للرؤساء والملوك وما يليق بهم.
ثم ما دون ذلك دائرة تحت أخرى حتى يكون آخرهم أدنى الصنائع وأخس الأعمال كما قال تعالى: ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات[2] وأحوج بعضهم إلى بعض، وجعل بعضهم لبعض سخريا.
فقد بان بهذا القول أن عالم الإنسان درجات وطبقات ودوائر محيطة بعضها ببعض، بادية بعضها عن بعض، ويختص بكل دائرة منها من قوى الشمس وأفعالها ما يختص بكل كرة وفلك من فعل النفس الكلية، وما يسري فيها من قواها وروحانياتها في العالم، وتتهيأ قواها وروحانياتها في جهاته وتوكيلها ملائكته بموجوداتهم وإقامتهم إياهم في مواضعهم اللائقة بواحد واحد منهم، وبمعرفة الإنسان بنية جسده وكيفية فعل نفسه في جسمه تكون معرفته بما في العالم الكبير بأسره، وبتوحيد خالقه وتنزيه مبدعه ومعرفة آياته المكتوبة في أرضه وسمائه، وما أبداه واخترعه من مخلوقاته.
ولذلك قال النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه.»
(23) فصل في أن الله عز وجل جعل جسم الإنسان مركبا من تسعة جواهر
اعلم أيها الأخ، أن الله عز وجل جعل جسم الإنسان مركبا من تسعة جواهر مبنيا على تسع دوائر مركبة بعضها في جوف بعض؛ ليكون جسم الإنسان بموجود بنيته وكمال هيئته مشاكلا للأفلاك بالكيفية والكمية جميعا؛ لأن الأفلاك تسع طبقات مركبة بعضها في جوف بعض، والفلك المحيط حائط بها كلها، كما قال الله تعالى: @QUR04 وكل في فلك يسبحون فكذلك جسم الإنسان خلق من تسعة جواهر بعضها فوق بعض وآخر ملبد عليها محيط بها، تفصيل ذلك: وهي العظام والمخ فيها، والعصب، والعروق وفيها الدم، واللحم والجلد والشعر والظفر.
فالمخ في جوف العظام، وفعله تركيب العظام وحفظ القوة وتليين اليبس، وفعل العظام مسك اللحم وثباته عليها، وفعل العصب ضبط المفاصل ورباطاتها كيلا تنفصل، وفعل اللحم سد خلل ذلك الجسم، ووقاية للعظام لئلا تنصدع وتنكسر، وفعل العروق جمع الدم فيها وجريانه إلى أطراف الجسد وتحريكه بالنبض، وفعل الدم مسك الحرارة وضبط الحياة واعتدال المزاج والحركة، وفعل الجلد الإحاطة بجميع الجسم وما فيه، وهو كالسور عليه، وفعل الظفر ضبط الأطراف ومسكها وزمها؛ لئلا تنكسر وتنتشر.
(24) فصل ولما كان الفلك معمورا باثني عشر برجا كذلك وجد في بنية الجسد ...
ولما كان الفلك معمورا باثني عشر برجا كذلك وجد في بنية الجسد اثنا عشر ثقبا مماثلة لها، وكما أن في النفس الفلكية في كل برج من أبراج الفلك قوى موكلة بها، كذلك لنفس الإنسان في كل حاسة من جسمه قوى موكلة بها تصدر عنها وترجع إليها.
ولما كانت الأبراج ستة منها جنوبية وستة شمالية كذلك وجد للإنسان ست ثقوب في الجانب الأيمن وست في الجانب الأيسر مماثلة لها بالكمية والكيفية جميعا.
ولما كان في الفلك سبعة كواكب سيارة بها تجري أحكام الفلك في الكائنات، وبها يكون نظام الموجودات، كذلك يوجد في الجسد سبع قوى فعالة منبثة من النفس الإنسانية متصلة بالقوة الطبيعية بما يكون به صلاح الجسد، ولما كانت هذه الكواكب ذوات نفوس وأجسام وأفعال روحانية تفعل بما يظهر من فعلها في الموجودات من الحيوان والنبات، كذلك يوجد في جسم الإنسان سبع قوى جسمانية تفعل في الجسم ما يكون به بقاؤه ونموه وصلاحه بمواد سبع قوى وهي: الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمصورة، وسبع قوى روحانية مماثلة لقوى روحانيات الكواكب السبعة وهي القوى الحساسة، وبها كمال الإنسان وتمام أفعاله، كما أن بالسبعة الكواكب زينة الفلك وقوامه واستواء العالم الأعلى ونظامه، وهي القوة الباصرة والشامة والذائقة والسامعة واللامسة والناطقة والعاقلة.
والقوى الخمس تشبه الكواكب الخمسة، وهاتان القوتان؛ أعني الناطقة والعاقلة، مشابهتان للشمس والقمر؛ وذلك أن القمر من الشمس يأخذ نوره بجريانه في منازله الثماني والعشرين، كذلك الناطقة من القوة العاقلة تأخذ معاني الموجودات وحقائق المرئيات فتخبر عنها بثمانية وعشرين حرفا من حروف المعجم.
ولما كان في الفلك عقدتان وهما: الرأس والذنب، وهما خفيتا الذات ظاهرتا الأفعال، كذلك وجد في جسد الإنسان شيئان للمزاج : صلاح وفساد، فإذا صلح المزاج استقام أمر الجسد، وإذا فسد المزاج اضطرب الكل، وكذلك النفس إذا مالت إلى العقل صحت أفعالها وتخلصت من كدر الطبيعة، وأشرق العقل عليها واهتدت إليه وأنست به، وإذا مالت إلى الطبيعة اضطربت أفعالها وقبحت أعمالها وبعدت عن علتها، وغرقت في بحار جهالتها، وانكسفت كما يكون انكساف الشمس والقمر بعقدة الذنب، وما يحدث في الأرض ويكون في ذلك من الأمور الصعبة، كذلك المزاج بصلاحه يكون صلاح القوة الناطقة والقوة العاقلة إذا سلمت بنية الجسد وجرت على الأمر الطبيعي صفت النفس، وإذا صفت النفس أشرق العقل عليها وأضاء فيها، والعينان في الجسد مشاكلتان للشمس والقمر؛ إذ هما سراجا الجسد، وبهما تدرك النفوس صور الموجودات والألوان المرئيات بمادة إشراق ضوء الشمس والقمر، وكذلك بقية سائر الحواس، وكما أن في دوائر الفلك وبروجه حدودا ووجوها ودرجات، كذلك يوجد في مفاصل الجسد وأعضاء البدن مفاصل وعروق مختلفة الأوصاف، وكما أنه ينبث من قوى النفس الكلية في الكواكب السبعة والبروج الاثنا عشر روحانيات لها أفعال تختص بكل كوكب وكل برج، وأنها تنحط إلى العالم مع كل لحظة ودقيقة وساعة وحركة من حركات الزمان، كذلك لنفس الإنسان في جسمه ومفاصله أفعال وأعمال تظهر منها وتبدو عنها مع كل حركة من حركاته ولحظة من لحظاته ونفس من أنفاسه، وكما أن نفس الإنسان متصلة متحدة محركة بحركة الجسم ما دام موجودا بذاته قائما بأدواته إلى وقت مفارقتها إياه وخروجها عنه إلى ما سواه، كذلك النفس الكلية متحدة بالحركة الفلكية بإذن باريها وكونها على ذلك إلى المدة المقدرة والحكمة المدبرة.
(25) فصل في مشاكلة جسم الإنسان للدوائر التي دون فلك القمر
رأسه يشبه دائرة الأثير، وهي النار من جهة شعاعات بصره وحركة حواسه وحرارة أنفاسه، ومن فيه إلى أصل عنقه مشاكل لدائرة الزمهرير لمرور الماء البارد عليها وجريانه فيها كما ينزل الماء من دائرة الزمهرير إلى الأرض، كذلك من فم الإنسان يكون وصول الماء إلى جوفه وما يظهر فيه من البصاق، وما يبدو من كلامه وأصواته وزجراته ونهراته مثل الرعد والصواعق والثلوج المنحطة من دائرة الزمهرير، ومثل ما ينفخ في فمه من الهواء البارد إذا أراد تبريد الحرارة، وصدره مشاكل لدائرة الهواء وما يتصل من أنفاسه وما يسكن من رئته وما يكون من ترويح الحرارة الغريزية التي في قلبه، وجوفه مشاكل لدائرة الماء؛ لاستقرار الماء فيه والرطوبات التي لا تفارقه، والنداوة اللازمة له، ومن سرته إلى قدمه مشاكل لدائرة الأرض لاستقراره عليه وكونه ملازما للأرض بسعيه فيها والذهاب والمجيء، ومن جهة أخرى رأسه كالفلك المحيط والقوى فيه كالملائكة الموكلة بالفلك المحيط.
وكما ينحط من الروحانيات إلى العالم ما يكون به صلاحه فكذلك تنحط من القوة العاقلة من الرأس إلى الجسم ما يكون به صلاحها، ومثل نبات شعر رأسه مثل فلك زحل وما ينبث من روحانياته وما يبدو عنه ويكون منه، ثم كذلك إلى ما دونه إلى أن ينتهي إلى فلك القمر موجود كل ذلك في بنية جسد الإنسان، وقد ذكرنا هذا الفصل بتمامه في رسالة «الإنسان عالم صغير» وقوى نفسه الخاصة بها إذا اعتدلت وعدلت عن الطبيعة إلى جهة العقل كانت كالملائكة، وصارت أفعالهم مشاكلة لأفعالهم، فإذا فارقت الجسم صارت إليهم وقدمت عليهم، وإن عدلت عن العقل إلى الطبيعة صارت مثل الشياطين ومن حزب إبليس اللعين، وصارت أفعالها تشبه أفعالهم، وإن فارقت الجسم وهي على ذلك صارت معهم، فمستقبل الإنسان بالجنة أشبه وهو ذات اليمين، ومؤخره بالنار أشبه وهو ذات الشمال، والقفا يشبه عالم الكون والفساد؛ إذ كان ظلمة كله، وهو الظهر وما يبدو منه ويكون عنه من خروج الغائط، والوجه عامر بالحواس والأنفاس والأنوار، وهو عامر مأنوس كعمارة الأفلاك ونور السموات، كما قال تعالى: @QUR012 فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، ولا صورة أحسن من الإنسان المليح الوجه التام الخلقة الكامل البنية إذا أقبل، ولا شيء أوحش من الإنسان إذا أدبر، وكذلك يوجد الإنسان بين حالتين في معيشة دنياه وما يكون به صلاح جسده وقوام نفسه وهما: الفقر والغنى فالغنى يسمى إقبالا والفقر إدبارا.
فبالغنى النعيم واللذة وبلوغ الغرض والشهوة، وكذلك أهل الجنة لهم فيها ما يشتهون، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وبالفقر يكون عدم المحبوبات وكثرة الهموم والأحزان والحسرة والندامة على ما يفوتهم مما يناله غيرهم من أهل اليسار.
وكذلك أهل النار لا ندامة كندامتهم على ما يفوتهم من خيرات الجنة وما يناله أهلها.
وعلى هذا المثال إذا اعتبرت بنية الإنسان وتأملتها وجدتها جميع الموجودات وفيها مثالات ما فيها بأسرها؛ فلذلك يسميها الحكماء عالما صغيرا؛ إذ كانت مشاكلة بجميع ما فيها لجميع ما في العالم الكبير.
(26) فصل وإذ قد وجدنا من وجود هذه الدوائر في جسم الإنسان ...
وإذ قد وجدنا من وجود هذه الدوائر في جسم الإنسان بما وصفناه من دائرته وثباته من تركيب بنيته، فلنذكر ما يوجد من ذلك في دائرة الحيوان التي هي تحت دائرة الإنسان:
واعلم أيها الأخ، أن الحيوان منه ما هو حسن الصورة مليح الأفعال حسن الأعمال، ثم ما دون ذلك حتى ينتهي إلى أقبحه في المنظر وشره في المخبر، وهو دوائر بعضها جوف بعض ودرجات ومنازل، والأنفس التي فيها تعمل أعمالا مثل ما تعمل الروحانيات في عالم الأفلاك وسكان السموات، فما حسنت صورته وأطاعت روحه وخدمت الأنفس الإنسانية وكان ساجدا لها فهو يجوز أن يلحق بها في تفضيلها، ومنزلته من دائرته كمنزلة الملائكة من عالم الأفلاك والسموات الساجدة لربها، وكمنزلة الملوك والرؤساء من عالم الإنسان، وما قبحت صورته وعصي على الأنفس الإنسانية كان مثل إبليس العاصي المعتدي المستكبر على النبي في زمانه والحكيم في أوانه، مثل فرعون وهامان وقارون وكل من ظلم وتعدى وأخذ ما ليس له بحق وارتكب النهي وخالف الأمر وأصر ولم يتب.
وكذلك النبات أيضا، يوجد فيه مثل ذلك، منه ما هو مليح زهره طيب ريحه وثمرته باسق فرعه زكي أصله ونفعه ظاهر، ومنه ما هو بالعكس من ذلك.
وكذلك المعادن أيضا، منها الرفيع في قدره الحسن في منظره مثل الذهب والفضة وما دون ذلك، حتى ينتهي إلى ما ينتفع به كمنفعة غيره مما تقدم ذكره.
وإذا كان ذلك كذلك فقد صح أن الخلقة بأجمعها والفطرة بأسرها أفلاك حائطة ودوائر جامعة محيطة بعضها ببعض مربوطة بعضها ببعض، وأن العالم كله كجسم حيوان واحد، وجميع القوى السارية فيه نفس واحدة، والله سبحانه محيط به إحاطة إبداع واختراع وخلقة وتكوين، أوجده بعد أن لم يكن شيئا مذكورا.
(27) فصل في أنك إذا تأملت هذه الآيات ...
اعلم أيها الأخ البار، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنك إذا تأملت هذه الآيات ونظرت إلى أفعال هذه الروحانيات، وتفكرت في خلق السموات والأرض وما بينهما من الرفع والخفض، ثم نظرت إلى هذا الهيكل المبني بالحكمة، وتأملت هذه الكتب المملوءة من العلوم، ونظرت إلى هذا الصراط الممدود بين الجنة والنار رجوت لك أن توفق للجواز عليه لعلك أن تنتبه من نوم الغفلة وتنجو من ظلمات بحر الهيولى، وتنفك من أسر الطبيعة وترقى إلى المحل الفاخر والمكان الطاهر بحيث لا يلحقك الفساد ولا تحن إلى محل الأجساد.
واعلم أيها الأخ، أن الإنسان ما دام في الدنيا فلا بد له من أعمال يعملها وأفعال يفعلها، وجميع ما يبديه من أعمال ويصنعه من أفعاله فإنما يظهر من قوى نفسه الشريفة وروحه اللطيفة، فيصنع صنائع عجيبة، ويفعل أفعالا وينظم ألفاظا منطقية وخطبا لغوية.
وهذه أيضا أفعال روحانية تظهر بأدوات جسمانية، والمبدية لها قوة نفسانية منبعثة عن النفس الكلية، فما كان منها موضوعا في موضعه قائما في حقه فهو مشابه لأفعال الملائكة، وما كان بالعكس من ذلك مثل فعل الخطايا والشرور وقول الزور والغضب والتعدي والظلم والزنا واللواطة وما شابه هذه فمشابه لفعل إبليس والشياطين.
وقد ذكرنا في هذه الرسالة الجامعة معرفة هذه الرتب والمنازل المحمودة والمذمومة في مواضعها وأشخاصها مثل الأرض والمعادن والنبات والحيوان والإنسان، فإن آخر المعادن مربوط بأول النبات، وآخر النبات مربوط بأول الحيوان، وآخر الحيوان مربوط بأول البشر،[3] وآخر البشر مربوط بأول مرتبة الملائكة وذلك إذا صفا،[4] وأن هذه الدوائر فيها رتب متباينة مقسومة على طبقات ومنازل، وأنها تبتدئ كالنقطة وتتسع حتى تسير حائطة بعضها ببعض، وإن الباري سبحانه وتعالى جعل الموجودات كلها مشاكلة بعضها لبعض، وجعل قصد العالم كله كقصد الفلك الذي يحويه والدائرة التي تئويه، كما قال تعالى: @QUR04 وكل في فلك يسبحون.
(28) فصل في أن الباري سبحانه جعل شكل الفلك كريا
واعلم أيها الأخ، أن الباري سبحانه جعل شكل الفلك كريا؛ لأن هذا الشكل أفضل الأشكال الجسيمة من المثلثات والمربعات والمخروطات وغير ذلك، ولكل شكل من هذه الأشكال ومثل من هذه الأمثال أفعال تصدر عنها وأعمال تكمل منها.
فأما ما تختص بالشكل الفلكي والمثل الدوري فهي أعظم الأشكال مساحة وأسرعها حركة وأبعدها من الآفات والأقطار المتساوية في الوسط، ويمكنه أن يتحرك مستديرا ومستقيما، ولا يمكن أن يوجد ذلك في شيء غيره؛ ولهذا اقتضت الحكمة الإلهية والعناية الربانية أن جعل شكل العالم مستديرا كريا، والأفلاك والكواكب كذلك؛ لما تبين من فضل هذا الشكل على الأشكال كلها، وكل فلك يظهر فيه من أفعاله فيما دونه بحسب سعة دائرته وضيق ما دونها عن الإحاطة، فعند ذلك تظهر فيه أفعال المرتب فوقه، وفي هذا الفعل سر يدل على حكمة المبدع سبحانه ومعرفته؛ إذ هو محيط بما خلق، فاعل فيما اخترع، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه.
(29) فصل في أن فعل الشكل المستدير يظهر فيما دونه ...
واعلم أيها الأخ، أن فعل الشكل المستدير يظهر فيما دونه أكثر وأظهر من كونه فيما فوقه وما هو أوسع منه، كما أن فعل المياه الحلوة إذا انصبت إلى البحار المالحة فإنها لا تؤثر فيها لقلتها وكثرة ماء البحار واتساعها، وكذلك ضوء الشمعة إذا وردت إلى بيت فيه سراج فإنه لا يتميز الضوء السراجي من الضوء الشمعي لغلبته عليه، وكذلك ما هو أقوى وأبين من ضوء الشمعة إذا ورد عليها.
وعلى هذا القياس يكون فعل الشيء أبين وأقوى فيما دونه وما هو مرتب تحته، ولما كان ذلك كذلك صارت النفس غير فاعلة في العقل فعلا يغطي على فعله ولا يظهر عليه، وصار العقل يفعل في النفس بالقوة والفعل جميعا؛ لأنه يعطيها صورة التمام والكمال، ففعله إياها بالقوة كونها هيولانية موجودة في أول وجوده وإبدائه إياها بالفعل إلى حيث تكون ذات الموجودات؛ فلذلك صارت أفعاله ظاهرة فيها ودائرته محيطة بدائرتها، وكذلك فعل النفس في الطبيعة بين ظاهر إذا كانت هي المتممة لأفعال الطبيعة والمعطية لها الحسن والبهاء، فالعقل إذن من فعل الله؛ فهو المحيط به وبما دونه، الباهر بنوره أنوار مخلوقاته كلها؛ فهي منحصرة عن إدراكه انحصار الوقوف عن الإحاطة به، بحيث أوقفها لا نفاذ لها من أمره ولا خروج عن حكمه، كما قال جل اسمه: @QUR04 وهو القاهر فوق عباده، وهو المرتب لها مراتبها ومعطيها صور البقاء والكمال والتمام، سبحانه لا إله إلا هو رب العرش العظيم والكرسي الذي وسع السموات والأرض.
(30) فصل في أن الفلك المحيط دائرته أوسع الدوائر الفلكية
والفلك المحيط دائرته أوسع الدوائر الفلكية، والأفلاك مما دونه كلها مستديرة مركبة بعضها في جوف بعض، والفلك المحيط يدور حول الأرض في كل أربع وعشرين ساعة واحدة من المشرق إلى المغرب فوق الأرض، ومن المغرب إلى المشرق تحت الأرض مثل الدولاب، وفعله ظاهر بين فيما دونه من الأفلاك كلها، وهو المحرك لها ومعطيها ما هو موجود فيها ونازل عليها وواصل إليها وما يكون منها ويصدر عنها من الأعمال والأفعال، والنفس الكلية هي الفاعلة فيه ما يفعله والممثلة له ما يعمله، وهي المحركة له ودائرتها مربوطة بدائرته حائطة به؛ فهي تدور بالشوق إليها وطلب القرب منها؛[5] إذ هي علته والفاعلة فيه بأمر الله عز وجل ما يشاء.
(31) فصل في أن كل كوكب من هذه السبعة يدور في فلك صغير
واعلم أن كل كوكب من هذه السبعة يدور في فلك صغير مدور يسمى فلك التدوير، وتلك الأفلاك أيضا تدور في أفلاك خارجة عن المراكز، وكلها مرتبة في سطح فلك البروج المحيط بسائر الأفلاك وهو الدولاب، ولو لم يكن الفلك والأرض كريات مستديرات لما استوى هذا الدوران ولا استمرت حركات كواكبه وجرت أفعاله على ما ذكرنا وبينا بهذا الوصف.
واعلم أيها الأخ، أن العالم بأسره من الجزئيات والكليات والفروع والأمهات والأنواع الكائنات من المعادن والنبات والحيوان والإنسان وجميع ما على الأرض من البحار والجبال والبراري والأنهار والخراب والعمران كرة واحدة، والهواء محيط بها من جميع جهاتها، والزمهرير والأثير وحوادث الجو وما حوى فلك القمر حائط بها كلها.
وإن شكل الجبال على بسيط الأرض كل واحد قطعة قوس من محيط الدائرة، وأما الفعل المختص بالجبال مما ينحط عليها وينزل إليها من روحانيات زحل كما قدمنا ذكره من الثقل والرسوب والإمساك والإحالة بين مياه البحار وبين بسيط الأرض؛ لئلا يظهر عليها الماء فيغرقها، وأما ارتفاعها في الهواء في وسط الأرض وهي كالحيطان والربدات[6] والشاذرونات لسوق الرياح والسحاب ما بينها إلى المواضع المفتقرة إليها لطفا من الله بخلقه ورأفة بعباده، وكالأسوار التي تحصن ما دونها من العدو إذا أراد ما وراءها؛ وذلك أن البحار تريد أن تغرق وجه الأرض لشدة حركات أمواجها، وأنها محصورة في أماكنها والجبال حاجزة بينها وبين الاتساع على بقاع الأرض؛ لطفا من الله بخلقه، وبطول الجبال نحو فلك القمر ودائرة الزمهرير يكون صعود البخارات التي تتراكم الغيوم والسحاب والضباب منها، ثم يثقل وتعصرها كرة الأثير بحركاتها فترد هابطة فيكون منها المطر والثلج، فإذا نزل لقيته رءوس الجبال واستقر فيها فأودعته كهوفها وحفائرها وخللها أيام الشتاء، فإذا جاء الصيف وحميت الشمس عصرت تلك المياه في الجبال وطلبت النفوذ منها والبعد عنها، فتبرز العيون وتمد الأنهار وتسقي القرى والمدن والسوادات والأراضي القحلة من شمس الصيف؛ لتحيي وتنبت العشب للحيوان، ويكون ذلك حياة العالم وذلك لطف من الله للجمهور.
وأما البحار فالفعل المختص بها والحكمة في كونها مالحة؛ فذلك لتمتزج ملوحتها بالهواء فتدفعه وتمزق الرطوبات وتقطع الأخلاط الغليظة، ويتصل ريحها بالعالم فتزيل عنه الوخم؛ لئلا يفسد الهواء فيؤدي إلى هلاك حيوان الأرض أجمع، فإذا جرت إليها الأنهار وتتابعت عليها الأمطار لا تلبث فيها؛ لأنها لا تزيدها ولكنها تعيدها إذا شربتها ومصتها بخارا، وتنشأ منها غيوم وينشأ منها بخار كبخار القدر والحمامات، ويتصاعد الماء منها إلى الجو، وتنشأ منها غيوم وتتصاعد إلى أن تبلغ إلى دائرة الزمهرير، وتمضي إلى الجبال والعمران، كما قلنا، وتثقل هناك وتنحدر من هناك إلى بطون الأودية والأنهار وإلى البحار ثانيا، كما كان في العام الأول الماضي كدولاب يدور، ذلك تقدير العزيز العليم.
فهكذا فعل الحيوان والنبات كل يفعل بحسب ما جعل فيه مبدعه ويسره له خالقه، وكلها تكون من هذه الأركان وتتم وتكمل وتتكون وتبقى ما شاء الله تعالى، ثم تفسد وتتلاشى وتصير ترابا كما كانت بديا، ثم الله ينشئ النشأة الأخرى كما قال تعالى: @QUR010 كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين أعاذك الله، أيها الأخ، من الجهل والعمى.
وأما نحن فقد بذلنا مجهودنا في هداية الضالين وإرشاد التائهين وتنبيه الغافلين، وخاطبنا كل قوم وصنف منهم بما هو أصلح أن نخاطبهم به في رسائلنا، ولا سيما في هذه الرسالة التي بينا لهم فيها أفعال الروحانيين، ونبهناهم على وجود الطبيعة وظهور أفعالها في كثير من رسائلنا بما في بعضها كفاية لمن أنصف، ولا سيما بما في رسالة السياسات وبما خاطبنا به المتفلسفين الشاكين، وبما قد قلنا فيما يظهر من أفعال الكواكب في هذا العالم، وما قد بينا في عدة مذاهبهم إلى هؤلاء منهم خصوصا نقول:
أتراكم، أصلحكم الله، لم تقرءوا القرآن المنزل على لسان محمد، صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ أو لم تسمعوا ممن يقرءونه في كل وقت - إن لم تكونوا أنتم قرأتموه - من تكرار ذكر النفس في المواضع الكثيرة؟ منها قول الله عز وجل: @QUR017 يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي هذا الخطاب إلى من يتوجه أيها الجاحدون لوجود النفس جملة، المنكرون لأفعالها؟ أترونه مخاطبة لمعدوم غير موجود أو هو خطاب لموجود؟ وقال، عز وجل، أيضا: @QUR017 ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها وقال: @QUR012 يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت، وقال عز وجل: @QUR08 إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي وقال تعالى: @QUR020 الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى وآيات كثيرة في القرآن في ذكر النفس وخطابها بالتأنيث؛ ليعلم كل عاقل أنها هي شيء غير الجسد؛ لأن الجسد مذكر لا يخاطب بالتأنيث، وكفى بهذا فرقا وبيانا بين النفس والجسد، وكيف يزعم هؤلاء القوم، أصلحهم الله، أن الإنسان هو هذا الجسد المحسوس المشاهد الموصوف بالطول والعرض والعمق؟ فقط لا شيء غيره ولا موجود معه سواه، وقد يعلم كل عاقل إذا فكر وتأمل أمر الجسد أنه جسم مؤلف من اللحم والدم والعروق والعصب والعظام وغير ذلك من الأعضاء المذكورة في كتب التشريح وما شاكلها، وأصله نطفة ودم الطمث ثم اللبن والغذاء، ثم إذا حضره الموت عند مفارقة النفس إياه بلي جسده إذا شاء الله كما وعد، جل ثناؤه.
فأما النفس فهي جوهر سماوي نورانية حية علامة فعالة حساسة دراكة لا تموت، بل تبقى مؤبدة إما ملتذة وإما متألمة، فأنفس المؤمنين من أولياء الله وعباده الصالحين يعرج بها بعد الموت إلى فسحة الأفلاك في روح وراحة إلى يوم القيامة، فإذا نشرت أجسادها ردت إليها لتحاسب وتجازى بها بالإحسان إحسانا وبالسيئات غفرانا، وأما أنفس الكفار والفساق والفجار والأشرار فتبقى في عمائها وجهالتها معذبة متألمة حزينة خائفة إلى يوم القيامة، ثم ترد إلى أجسادها التي أخرجت منها لتحاسب وتجازى بما عملت.
والدليل على صحة ما قلنا وحقيقة ما وصفنا قول الله عز وجل: @QUR013 النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب وقال عز وجل: @QUR027 ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون وقال تعالى: @QUR06 وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين وقال: @QUR012 ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار الآية ، وقال تعالى: @QUR08 يصلونها يوم الدين * وما هم عنها بغائبين وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى تدل على بقاء النفس بعد الموت إما منعمة ملتذة، وإما متألمة معذبة.
وفيما ذكرنا كفاية لمن اكتفى ونصح لنفسه واهتم لما بعد الموت وتفكر في أمر المعاد، واستعد للرحلة وتزود للسفر، وزهد في الدنيا، ورغب في الآخرة قبل فناء العمر وتقارب الأجل والفوت.
وأرجو أن يكون ما قلناه كفاية في التدليل على وجود الروحانيين وأصنافهم في هذه الرسالة وفي رسالة السحر والطلسمات، فقد ذكرنا أن بعض المتقدمين زعموا أن النفوس تنقسم قسمين: أحدهما لا يسكن الجثة ولا يتعلق بالأجسام، وهو ينقسم قسمين: أحدهما خير بالذات وهم الملائكة، والآخر شرير بالذات وهم الشياطين، ونفوس أخرى متعلقة بجثة الكواكب لا تفارقها ولا تصبر عنها إلا بمقدار وهي متصرفة في العالم صنفين من التصرف: أحدهما بطبائع أجسادها على ما هو مسطور في كتب أحكام النجوم والثاني بنفوسها.
ونفوس أخرى متعلقة بالأجساد لا تفارقها ولا تصبر عنها إلا بمقدار ما تفارق جثة لفسادها، ومن هذه الطبقة من النفوس نوع يسكن الجثة الإنسانية ولا يفارقها إلا كمفارقة النفس سائر أشخاص الحيوانات والنباتات، ومصيرها إلى بحر طوس لتعذب هناك، إلا أن تطلب الإيقاف في الهبوط إلى مادة تصلح لسكناها وتتمكن من درك نجاتها، على ما ذكرنا بشرح طويل في رسالة علم النجوم والسحر والطلسمات.
وأما الجنس الآخر من الروحانيين المسمين في مواضع كثيرة بالشياطين والجن وسائر أجناس أرواح السوء فالقرآن مملوء بذكرهم أيضا، وكتب النصارى خاصة وما يتلوهم في بيعهم يتكرر فيها ذكر الشياطين وأفعالهم مع المسيح، وفي الإنجيل ذكرهم في عدة مواضع، فاقرأ الإنجيل أيها الأخ، أيدك الله، وكتاب رسائل «قولوا من»؛ فإنك ترى فيها من هذا الفن سببا كثيرا لولا خوف الإطالة لذكرنا لك منها فنزيدك معرفة بصحة ما قلنا من وجود الروحانيين وأفعالهم في هذا العالم.
وأما في القرآن من ذكر ذلك فكثير أيضا ويطول ذكره كله، ولكن نذكر منه الآن ما يحضر ذكره في هذا الوقت ؛ لتعلم أيها الأخ، أيدك الله، بطلان ما يقوله هؤلاء القوم في تكذيب القول بوجود الروحانيين وجحودهم لأفعالهم الظاهرة، فمن ذلك في سورة البقرة: @QUR013 وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين.
فهذا القول الذي نطق به القرآن يدل على وجود إبليس الذي لا نراه بأبصارنا، ولا نرى قبيله وهو يرانا، وهو لا تدركه حواسنا مع شهادة القرآن بوجوده.
وقال عز وجل أيضا في هذه السورة: @QUR012 فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو.
فكيف نكذب بمن هذا فعله؟ وقال فيها: @QUR016 واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر.
وقال، عز ذكره: @QUR017 يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين وفيها: @QUR010 الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا.
وفي سورة النساء: @QUR011 إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا وفيها: @QUR011 ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا وفيها: @QUR05 وما يعدهم الشيطان إلا غرورا.
وفي سورة الأنعام: @QUR010 وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين وفيها: @QUR06 كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران إلخ. وفيها: @QUR023 وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون وفيها: @QUR010 يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم.
وفي سورة الأعراف: @QUR016 ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين وفيها: @QUR031 يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون.
فأي ذكر أبين من هذا وأقوى شهادة على وجود الروحانيين وأفعالهم العظيمة القوية.
وفي هذه السورة أيضا: @QUR010 فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وفيها: @QUR06 يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان، وأي شيء يكون من التحذير أكثر من هذا؟ وفيها: @QUR018 قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها وفيها: @QUR07 ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس وفيها: @QUR012 إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون.
وفي سورة الأنفال: @QUR036 وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب.
وفي سورة يوسف: @QUR08 من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي.
وفي سورة إبراهيم: @QUR044 وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم.
وهذا من قول الشيطان عن نفسه، وأما فعله بهم فمما يجب أن يفكر به ويتأمله كل من يكذب به وبوجوده ويجحد أفعاله.
وفي سورة الحجر: @QUR07 والجان خلقناه من قبل من نار السموم وفيها: @QUR07 إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين.
وفيها قال: @QUR07 قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك. وفي سورة النحل: @QUR08 فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم. وفي سورة بني إسرائيل: @QUR060 وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا * قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا * قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا * واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا. وفيها: @QUR019 قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. وفي سورة الكهف : @QUR026 وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا. وفي سورة الحج: @QUR027 وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم، وهذا أيضا من فعله حتى بالأنبياء عليهم السلام، فتلافاهم الله بنسخ ما قد فعله الشيطان لهم. وفي سورة الفرقان: @QUR04 وكان الشيطان للإنسان خذولا. وفي سورة النمل: @QUR016 قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين. وفي سورة القصص: @QUR08 هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين. وفي سورة سبأ: @QUR018 ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه، @QUR014 فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين وفيها: @QUR010 ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين. وفي سورة الصافات: @QUR035 إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب * وحفظا من كل شيطان مارد * لا يسمعون إلى الملإ الأعلى ويقذفون من كل جانب * دحورا ولهم عذاب واصب * إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب. وفيها: @QUR04 طلعها كأنه رءوس الشياطين. وفي سورة ص: @QUR04 والشياطين كل بناء وغواص، @QUR04 وآخرين مقرنين في الأصفاد وفيها: @QUR047 إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين * قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين. وفي سورة حم السجدة: @QUR013 ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين. وفي سورة الأحقاف: @QUR018 وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين. وفي سورة والذاريات: @QUR024 وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون * إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين. وفي سورة الرحمن: @QUR06 وخلق الجان من مارج من نار وفيها: @QUR017 يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان. وفي سورة الملك: @QUR012 ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير. وفي سورة الجن: @QUR023 قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا وفيها: @QUR010 وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا. وفيها: @QUR011 وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا، وفي سورة الناس: @QUR03 من الجنة والناس؛ فهذه الأقاويل كلها على كثرة معانيها وفنون ورودها وعدد جهاتها التي حكيت عنها أتراها كلها إشارات إلى معدوم وغير موجود؟ فقد ذكرنا منها ما فيه كفاية لمن اكتفى وترك المكابرة.
ثم قد استشهدنا بعدها ببعض من عشرين سورة مما يدل على صحة ما قلناه فيما تقدم بما يكفي ويقنع من كان منصفا، والآن قد وجب أن نقطع الكلام في هذا؛ لأنا قد بلغنا منه غرضنا الذي قضيناه به، والحمد لله كثيرا ونسأله أن يوفقنا، أيها الأخ، للسداد ويهدينا وإياك سبيل الرشاد وجميع إخواننا الكرام حيث كانوا في البلاد بمنه وكرمه، وهو حسبنا وله الحمد دائما أبدا كما هو أهله ومستحقه.
(تمت رسالة في كيفية أحوال الروحانيين، ويليها رسالة في كيفية أنواع السياسات وكميتها.)
الرسالة التاسعة من العلوم الناموسية والشرعية في كيفية أنواع السياسات وكميتها
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنا قد جعلنا في كل رسالة من رسائلنا فصلا جعلناه من لبها وخالصها، إذا وفق له من فهمه وعمل به نال السعادة في الدنيا والآخرة، وقد لخصنا ما قد أوردناه في رسائلنا الإحدى والخمسين في رسالة مفردة عن الرسائل سميناها «الجامعة»، وهي خارجة من جملة الرسائل، أوردنا فيها بيان ما أخبرناه في غيرها بأخص ما أمكننا منه، فليس تكاد تجتمع رسائلنا كلها عند رجل واحد إلا من سهل الله تعالى له ذلك، فعملنا تلك الرسالة لتنوب عن أخواتها، غير أن الأصوب والأجود عندنا ألا تقرأ الرسالة الجامعة إلا بعد قراءة رسائلنا الإحدى والخمسين؛ فإنه إذا قرأها بعد قراءة هذه كثر نفعه وانفتح عليه ما انغلق من رسائلنا، وإن وجدها وفاتته الرسائل أو بعضها لم يخل من فوائدها.
وأما هذه الرسالة فقد وسمناها بالسياسة والرياسة لتحمل نفسك على موجبها، وتقرأها على من يخصك من إخواننا الكرام، رحمهم الله، وتذاكرهم في أوقات نشاطك ونشاطهم فإنك لا تخلو من فوائدها.
ونحن نأمرك أيها الأخ السعيد - بعد وقوفك على هذه الرسالة - أن تتبع ما أمرناك به فإنك تنال السعادة العظمى دينا ودنيا إن شاء الله تعالى، وإنما سميناه الفصل الجامع؛ لأنه جمع أصل سعادات المنافع إن شاء الله عز وجل.
واعلم أن منفعة الإنسان تكون من وجهتين لا ثالث لهما: دنيوية وأخروية، وجسمانية ونفسانية.
وإذا كملت للإنسان هاتان السياستان استحق اسم الإنسانية، وتهيأت نفسه لقبول الصور الملكية والانتقال إلى الرتبة السماوية عند مفارقة الجسد بالحال التي تسمى الموت النازل عليه والاضمحلال الواصل إليه.
وإنما جمعنا لك في هذه الرسالة وصف السياستين ليحصل لك بها الكمال في المنزلتين، فترقى بها إلى منزل السعداء في الدارين، فعليك بالاحتفاظ والصيانة له.
ونريد أن نصف لك صفة الذين يصلح أن تلقى إليهم وتمن بها عليهم، ونختصر في ذلك بأن نقول: من كان صفته صفتك وطريقه طريقك فلا تبخل عليه؛ فإنه لا يحل أن تمنع الحكمة أهلها، بل تلقيها إليه إذ كان فصلا جامعا للخيرات وقولا تكمل به السعادات وينزل على العامل بعلمه البركات.
واعلم أيها الأخ، أنه لما رأيناك متهيئا لقبول الفوائد العقلية والصنائع العملية، واسع النفس الناطقة لقبول الفوائد العقلية والذخائر العلمية الربانية، زاهدا في الدنيا قليل الرغبة فيها متهاونا بما لا يهمك من لذاتها، ولمحبوباتها منصرفا عنها متنزها عن شهواتها، مترفعا عن ملاذها، قانعا باليسير من قوتها، صارفا عنايتك بكليتها إلى صلاح نفسك الزكية وروحك الطاهرة المضيئة، تنتقل من بلد إلى بلد ومن بقعة إلى بقعة، طالبا للعلم مشتملا برداء الحلم، حسن العبادة كامل الزهد بأخلاق رضية وآداب ملكية ونفس أبية وصورة جميلة وخلقة معتدلة وآلة كاملة وذهن صاف وخاطر مدرك وقلب خاشع وطرف دامع، وتأملناك تأمل من حقق فيك ظنه وصدقته عنك فراسته لما استجلاك بنور الله الذي أودعه فيك، تنظر به إلى مخلوقاته، وتحسن به قراءة آياته، كما قال الحكيم الصادق، صلى الله عليه وعلى آله: «المؤمن ينظر بنور الله.» وقال تعالى: @QUR04 يسعى نورهم بين أيديهم، ونظرناك بهذا النور الموهوب لنا المجعول أولا في أبينا إبراهيم حتى رأى به ملكوت السموات والأرض وكان به من الموقنين، وصار وراثة تنتقل في ذريته الذين اتبعوه كما قال: @QUR09 فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم.
ولما رأيناك بهذه الرؤية الصادقة بعد اجتهادك وحرصك على الوصول إلينا وشدة الطلب لنا وخلاصك من دياجي ظلمات زمان الجور وغلبة الشياطين وكثرة أعوان الظالمين وخمول الحق وانقطاع أهله بأنفسهم عن الجمهور والرعاع وتوعر طرقه وسبله، فكنت من بين أهل زمانك كقادح زناد في ليلة ظلماء ذات رياح عاصفة وظلمات متراكمة وأهوية باردة، يريد الاستضاءة بنوره في طريق فقد أدلته واندرست معالمه وذهبت دلائله، ولم يبق منه إلا مسلك وعر داثر العلامات، يصعب السلوك فيه والقصد لديه إلا على أصحاب اقتفاء الآثار الخفية، بمعرفة سبقت عندهم بها وعلامات وصفت لهم وخفيت على الذين يريدون إطفاء نور الله بذهابها وإزالتها؛ لئلا ترفع حجة الله من أرضه وتنمحي آثار حكمته.
فلما أورت لك الزناد بنوره ودلك الدليل بظهوره، حتى وصلت إلى بقعة من بقاع الجنة وروضة من رياض الأرض التي بها تبدل الأرض غير الأرض يوم العرض، فيها @QUR013 رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، @QUR08 تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا الآية، وهم على شاطئ البحر المحيط من وراء جبل قاف عند مجر خط الاستواء، وهي بقعة يجمع طرفاها ما بين شعاع الشمس عند طلوعها وغروبها، يرى منها المنازل الثماني والعشرين المهيأة لمسير القمر، وهي بقعة عالية على متن جبل الأعراف، فلما تخلصت من أسفل السافلين حتى وصلت إلى أعلى عليين بوحدتك وانقطاعك وغربتك عن أهلك وأوطانك وأحبائك وجيرانك وأصدقائك وأخلائك، وذهاب نعيم جسمك وفقد مالك وولدك، وصبرك على الفتن والبلوى، وركوبك مطية الصبر، وسلوكك في طريق وعر، وارتقائك على جبال يصعب على غيرك طلوعها، وهبوطك في أودية لا يسهل على غيرك الهبوط فيها، فكنت ما بين جبل ترتقيه ووحش مهلك تتقيه، ومهمه داثر شاسع تخشى أن تضل فيه، فلم تزل بين شدائد متكاثفة وأهوال مترادفة كصاحب سفينة في بحر مظلم في ليل مغيم قد غاب قمره واستترت أنجمه، وعصفت به الرياح من كل جانب، وارتفعت حوله الأمواج من كل مكان، وهو صابر على ما حل به يدعو إلى ربه الوسيلة إلى الخلاص والنجاة مما هو فيه؛ فهو بسكانه يدير سفينته ويتجنب بها موارد الهلكة بمعرفته وبما ألهمه الله سبحانه من العلم والعمل بما يكون به نجاته، فلم تزل تلك حاله حتى وصل إلى مكان بغيته ومقر طمأنينته.
فلما وصلت، أيها الأخ السعيد، إلينا واطلعت علينا، وامتحناك بحيث نراك كما يمتحن مثلك ممن يصل إلينا ويرد علينا، فرأيناك صابرا نعم العبد لله عز وجل.
ولما رأيناك بهذه الصفة وعرفناك بهذه المعرفة لم يحل لنا ولا وسعنا في ديننا أن نكتمك النصيحة ولا نؤدي إليك الأمانة؛ لئلا ترانا بعين الخيانة، وليصح عندك قول نبيك الصادق الفاضل السيد الكامل: «سافروا تغنموا.» فتعود راجعا بعد طول سفرك بلا غنيمة تغتنمها ولا حاجة تبلغها، فرأيناك وكان بالله توفيقنا بما رأيناه بإلهام منه لنا ووحي إلينا في رؤيا صادقة أراناها بمنه، أن نجعلك داعيا إلينا ودالا علينا ومبشرا بظهور أمرنا وانكشاف سرنا من رأيته من إخواننا وأهل ملتنا؛ إذ كانوا لا يقدرون على ما قدرت عليه، ولا يصلون إلى ما وصلت إليه ؛ لتعذر الأمور عليهم وصعوبة الزمان لديهم، والأسباب المانعة والحوادث القاطعة، وقد اخترناك لمقامك موضعا تسكن فيه وتأوي إليه لا تصل فيه إليك أيدي الظالمين.
(1) فصل فيما نلقيه إليك في هذا الفصل
فإذا أنت وقفت على ما نلقيه إليك في هذا الفصل فاعتمد عليه واسكن إليه، فإذا صرت إلى حيث كنت قبل وصولك إلى حيث وصلت فابن لك دارا من القناعة وشيد بنيانها وارفع حيطانها واجعل بابها من الزهادة، واجعل حاجبك عليها الفقر، واجعل وطاءك وغطاءك ترك القنية إلا ما تسد به الجوع وتستر به العورة.
واعلم أن هذه الدار إذا سكنتها أمنت من قطاع الطريق واللصوص ومصادرة السلطان وحسد الإخوان، وقل جارك وبعد على الناس مزارك، فإذا بنيت هذه الدار على هذه الأركان فليكن مقامك فيها على وجل وخوف من التواني عن شيء من إقامة السياسة النفسانية، وأن تتغافل عن عمل الأعمال الناموسية، وليكن مقعدك من هذه الدار في صدرها بعد إحكامك جميع أمرها.
(2) فصل في السياسة الجسمانية
فأما تدبيرك لجسمك فإذا اخترت العافية التي لا يصل إلى جسمك معها الأذى من الغذاء فليكن غذاؤك من الموجود غير الممتنع عليك صنفين ثالثهما الماء، إما ما ينزل من السماء أو ما ينبع من الأرض، ما تيسر لك؛ فإنك ما دمت على ذلك من قلة الأكل وترك الشبع وتعمد الجوع في الأوقات التي يصلح فيها استعماله، كانت طبائعك على حالها لا يزيد فيها ما تحتاج أن تنقص، ولا ينقص منها ما تحتاج أن تزيده.
فإن كانت العوارض النازلة بالجسم ليست من قبل الغذاء ولا من جهة التغافل عن إصلاحها، نظرتها إن كانت من جهة اختلاف الأهوية المتصل بالجسم منها الأذى عدلتها بما يصلح لها مما علمته من السياسة الطبية، وإن كان ذلك بموجبات أحكام النجوم وما قدر فيها اطمأنت نفسك وحسن الصبر بك ولم تتهم نفسك أن الأذى دخل على جسمك من جهة تفريط في الغذاء ولا إكثار من الأكل والشرب.
واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أنك إذا لم تحمل على جسمك من المآكل والمشارب والباءة والحركة إلا معتدلا لازمتك العافية وعدمت الأسقام، ومع ذلك فاعلم أن الأسقام والآلام لا تدخل على الأجسام إلا بموجب حركة نجومية ومقادير سماوية، وكذلك زوالها، وإنما صار ذلك مقدرا على الأجسام من أجل أنها ليست هي الذات الباقية ولكنها ذات فانية؛ فلذلك وصل إليها التغيير والاضمحلال والتقلب والزوال، وأكثر الناس إذا نزلت الآلام والأسقام اتهموا فيها نفوسهم من كثرة ما يستعملون من المآكل والمشارب، فيكثر غمهم وتدوم حسرتهم حتى إنهم اتخذوا أنفسهم أعداء لهم يرجعون عليها باللوم والتأسف على ما فرط منهم، فيكون ذلك أدوم لحسرتهم وأطول لعلتها.
وإذا أنت تيقنت ذلك سكنت نفسك وطاب لها الصبر على الأسقام النازلة والأعلال الواصلة إلى الجسم، واجعل أكثر شوقك إلى الخلاص من هذه الدار ومفارقة هذا السجن؛ لأنك إذا خرجت منه قدمت على ربك.
واعلم أيها الأخ، أنك لا تقدم على ربك ولا تصل إليه وصولا يجازيك به مجازاة من يستحق الثواب وأنت على هذه الحال.
فإذا تحقق عندك ذلك هان الموت عليك فتمنيته وطابت نفسك، فإذا حدثت تلك العلل والعوارض المحللة لتركيب الجسد بموجب الأحكام المقدرة، ولم تر لنفسك في ذلك أمرا وصل ذلك إليك من جهته فليس بموصله إليك إلا الحكم المراد به صلاحك وخلاصك ونجاتك، فتفرح بذلك ولا تحزن كما يحزن الممتحنون في أنفسهم بأجسامهم، وفي أجسامهم بأنفسهم، إذا نزلت بهم الأعلال والأمراض، فيكثر خوفهم ويدوم حزنهم فزعا من الموت، وهم يعلمون أنه لا بد ملاقيهم، فحسرتهم لا تنقضي وغمهم لا يفنى، قد اشتغلوا بصلاح أجسامهم وأمر دنياهم عن صلاح أنفسهم وآخرتهم، فهم مستعجلون نعيما زائلا وسقما إليهم واصلا، فهم لا يخفف عنهم من عذابها، ولا يقضى عليهم فيموتوا موت اليأس منها والانقطاع عنها.
فإذا علمت ذلك وتدبرته وفهمته جعلته أمامك في سياسة جسمك وتدبير جسدك؛ فهذه سياسة يختص بها جسمك الكثيف الذي ليس له مقر إلا في الدنيا، ولا مكان إلا في الأرض، ولا صفة إلا الطول والعرض والعمق وما يحويه وما يحيط به .
واعلم أنه محمول لا حامل، كما ظن كثير ممن لا علم عندهم ولا معرفة معهم أن الجسم حامل النفس، وأنها زبدته وصفوة طبائعه، وأنها تقوى بقوة الغذاء وتضعف بضعفه، وليس الأمر على ما ظنوا ولا القضية كما توهموا، وإنما النفس حاملة للجسم وأعراضه، وهي الذاهبة به في الجهات التي يجب لها، وهي معه تدبره في مجيئه وذهابه، وبها يستقر على ما يجانسه ويشاكله من الكثائف، إما في جهة من الجهات الأرضية من هبوط إلى أسفل بحيث يكون له ثبات القدمين في الهبوط، وإما طلوع إلى فوق بحيث يمكنه مثل ذلك، وإما استواء طيران في الهواء وطلوع إلى السماء؛ فإنها لا يمكنها بهذه الطينة الكثيفة ترقيها إلى هناك، بل يمكنها الصعود بمجردها إذا تخلصت منه وانفصلت عنه.
وذلك أن السفينة في البحر المحكمة الآلة المتقنة الأداة تمر فيه بمن يرب أمرها ويصلح حالها، ومع ذلك فإنها لا تسير إلا بهبوب الرياح القائدة لها إلى الجهة التي يختار صاحبها، وإذا سكنت الريح وقفت السفينة عن ذلك الجريان، كذلك جسد الإنسان إذا فارقته النفس لا تتهيأ له تلك الحركة التي كان يتحرك بها مع النفس، ولم يعدم من آلته شيئا، ولا ذهب منه عضو من الأعضاء إلا ذهاب الروح منه فقط، والبرهان أن الريح ليست من جوهر السفينة ولا السفينة حاملة بل الريح محرك لها.
فإذا صح أن الريح محركة للسفينة وليس من جوهر السفينة، ولا تقدر السفينة ومن فيها على استرجاع الريح بعد ذهابها بحيلة يعملونها أو صنعة يصنعونها، كذلك ليست الروح من جوهر الجسم، ولا الجسم حامل للروح، ولا يقدر أحد من العالم على استرجاع النفس إذا فارقت الجسم.
فيا ليت شعري كيف يفسد هذا البرهان إلا بمكابرة العيان؟ فإذا تحققت ذلك وعلمت أن جسدك إنما هو سفينة معدة لهبوب الرياح ونزولها عليها علمت أن هلاك السفينة - إذا هلكت - يكون من حالين: إما بفساد من جهة جرمها وانحلال تركيبها فيدخل الماء ويكون ذلك سبب غرقها وهلاكها وهلاك من فيها إن غفلوا عنها ولم يتداركوها بالإصلاح والتفقد لها، كهلاك الجسم من غلبة إحدى الطبائع متى تهاون صاحبه وغفل عنه، كذلك النفس لا تبقى مع الجسد إذا فسد مزاجه وتعطل نظامه وضعفت آلته، كما لا يتهيأ للريح أن تعود للسفينة كما كانت تسوقها قبل غرقها، والريح موجودة في هبوبها غير معدومة من الموضع الذي كانت السفينة فيه قبل هلاكها، كذلك النفس باقية في معادها كبقاء الريح في أفقها بعد تلف الجسم، وإنما يكون الغرق للمركب بفساد آلته وهلاك الجسم بفساد مزاجه وغلبة طبائعه.
وأما القسم الثاني فهو أن يكون المركب هلاكه بقوة الريح العاصف الهابة الوارد منها على السفينة ما ليس في وسع آلتها حمله ولا القدرة عليه، فتضعف الآلة وتنكسر الأداة، فإن كان من فيها من أهلها عارفين موجب ذلك الأمر من نزول ذلك العاصف وأنه بموجب المقدار اطمأنت نفوسهم وسلموا إلى ربهم، ووعظ بعضهم بعضا وصبروا على ما نالهم، فإن زاد بهم الأمر حتى يبطح السفينة ما يكسرها ويكون منهم ما قضى، كانوا مطمئني النفوس ولا يتهمونها أنما أصابهم ذلك لتفريط وقع منهم، كذلك الأحوال العارضة للجسم من جهة الأحكام الفلكية والحركات النفسانية المنبعثة أولا من النفس الكلية التي تذهب بالأجسام وتهدمها لا دواء للمعالج والطبيب ولا للمريض أيضا.
فأما الصبر عليها وقلة الجزع منها إلى أن تزول أو يكون بها الانتقال إلى دار المعاد، فأحق ما صبر عليه وأولى ما استجيب له.
وبهذا الاعتقاد صح أن النفس هي جوهر غير الجسم، وأنها هي الحاملة له المبتلاة به، فإذا تصورت ذلك وصح عندك وتم لك العمل بهذه السياسة فقد استراحت نفسك من الهم والغم من أجله وبسببه.
(3) فصل في السياسة النفسانية
فتكون أخلاقك رضية وعاداتك جميلة وأفعالك مستقيمة، تؤدي الأمانة إلى أهلها كائنا من كان من ولي وعدو، وتأخذ نفسك بحفظها وترعى حق من استرعاك حقها، وتحسن مجاورة جارك وتصفي مودة صديقك، وتخلص المحبة لمحبك، مع قلة الطمع وإزالة الفزع في مستعجل زائل وحادث نازل، وتريد للغير ما تريد لنفسك، فقد جاء في كلام بعض الناس: «إن المؤمن لا يكون مؤمنا حقا حتى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه.»[1] وليس هذا من جيد الكلام، وإنما قال الحكيم الفاضل عليه السلام: إن المؤمن لا يكون مؤمنا حتى يرضى لغيره ما يرضى لنفسه،[2] وهذا من شريف الكلام.
وسبيلك أن تعود نفسك عمل الخير لأنه خير، لا تريد بفعلك عوضا، ولا يحملك على فعله خوف، فمتى فعلت لطلب المكافأة لم يكن خيرا، وإن لم تطلب المكافأة وإنما أردت الذكر والاسم كنت أيضا منافقا ولم يكن خيرا، والمنافق لا يستأهل أن يكون في جوار الروحانيين.
وأما سياسة الأهل من الإخوة والزوجة والأولاد والعبيد ومن يجري منك مجراها في النسبة الجسمانية فيجب عليك أن تسوسهم سياسة لا اختلاف فيها، وتجريهم على عادة لا تعدل عنها إلا بموانع مانعة وأسباب قاطعة؛ لئلا ترجع باللوم على نفسك إذا جنوا عليك وتغيروا عما كنت تعهده منهم وتعرفه فيهم بحسب تغير سياستك واختلاف عادتك، فتنسب التفريط إلى نفسك فيكثر غمك ويبدو همك، فإذا سستهم سياسة ألفتهم إياها ورتبتهم عليها استراحت نفسك، مع أن الأحب إلينا والآثر عندنا الانفراد والوحدة، ولكن لا يكاد يتهيأ ذلك لجميع إخواننا ولا نأمرهم به أيضا؛ لئلا ينقطع الحرث والنسل.
وإذا فعلت ذلك أحكمت سياسة الأهل وخصوصا النساء، فأكثر تفقد أحوالهن في كل وقت فإنهن سريعات التلون كثيرات التغير، يتغيرن مع الساعات ويضطربن على الأوقات، فيكون صفحك إليهن كثيرا ومن غير شعار منهن أن تكون مراعيا أحوالهن، ولا يغررك منهن صلاح تعرفه فيهن؛ فقد أنبأناك أن تلونهن كثير، وإن استفسادهن سهل يسير إلا من عصمها الله تعالى منهن، وقليل ما هم.
وأما أولادك وغلمانك وحواشيك فإياك أن تظهر لهم فاقة بعد أن تقوم بواجبك المفروض عليك؛ فإنه متى ظهر لهم منك اختلال أو حاجة نقصت منزلتك وقصر موضعك، فلم يقم لك وزن ولا قامت لك هيبة، ولا حاجة بك إلى أن تكشف فاقتك إلى من لا يزيد شكواك إلا ذلا ومهانة، بل ضع عذرك عند كل واحد منهم على وجه لا تنسب معه إلى فاقة، وقف فهو أعود وأصلح.
(4) فصل في سياسة الأصحاب
اعلم أيها الأخ، أن سياسة الأصحاب لا تكون إلا بعد المعرفة بهم والاطلاع عليهم ومعرفة أحوالهم، ألا يخفى عليك من أمرهم صغيرة ولا كبيرة؛ لتسوس كل واحد منهم السياسة التي تليق به دنيا ودينا.
واعلم أنك متى كنت جاهلا بمعرفتهم لم تتم لك سياستهم ولم تبلغ رضاءهم ولم يكونوا لك أصحابا، أوما علمت أن صاحب الناموس لا يصاحب إلا من عرفهم وخبرهم فاطلع عليهم اطلاع الإحاطة بهم؟ واحرص أن تباعد بين معرفتهم بك وبينهم؛ لئلا يطلعوا عليك كما اطلعت عليهم فيأتوك من حيث أمنت؛ لأنه ليس كل من صاحبك يحق لك أن تثق به ولا تطمئن إليه؛ لأن كثيرا ممن يصحب الأنبياء إنما تكون صحبتهم لهم لوقوع الحيلة بهم، ومرادهم منهم الاطلاع على أسرارهم ليكشفوها ويظهروها لمن لا يعرفها وهم المنافقون.
فيجب أن تظهر لهم القرب بالبعد، واللين بالغلظة، والأنس بالوحشة، والكرم بالشح، والانبساط بالانقباض، والرحمة بالسخط، والوعد على الجميل، والوعيد على الذنب، وقبول التوبة باللين، والموعظة بإلقاء العلم إليهم بمقدار ما يحتملونه وبحسب ما يستوجبونه، ولا يكون اعتقاد أهلك وذريتك وأزواجك وبنيك مخالفا لما يظهر من اعتقادك لأصحابك وإخوانك، فمتى لم يكن كذلك فلا أهل لك ولا أصحاب ولا دين ولا دنيا ولا علم ولا عمل، وكيف يجوز للعاقل العالم أن يكون له أهل يتدينون بدين ويذهبون إلى مذهب هو يأمر أصحابه بخلافه؟ بل الواجب عليه أن يكون أهله وأصحابه بمنزلة واحدة عنده في التعليم، ولا يخص أصحاب النسب الجسداني بما لا يبديه لأهل النسب الروحاني، بل يجمعهم معا في طريق واحد ويلقنهم التعاليم والمعارف والعبادات والفرائض، فيأخذ كل واحد منهم بحسب قوته واستطاعته، فإن عدل واحد من أهله وأقاربه إلى الضد مما هو عليه وخالفه بعد تبرئه منه وأخرجه من جملته كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمه أبي لهب وقال: « يا بني هاشم، لا يأتيني الناس يوم القيامة بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم ؛ فإني لا أغني عنكم من الله شيئا إلا بعمل صالح.» وكما قال تعالى حكاية عن إبراهيم خليله صلى الله عليه وسلم: @QUR018 وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه وقال الله تعالى: @QUR012 لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله الآية، ويكون يراعي أهل الذكاء والفطنة ومن يقصد الأغراض التي يريدها بكلامه ويومئ بها في إشارته ومخبآت جواهره في تقاطيع أمثاله ونوادره، فإذا عرفهم ميزهم بنظره وألقى القول إليهم في الاعتماد عليهم في تهذيب من دونهم حتى يوصلوهم إلى مثل ما وصلوا إليه.
فإذا أحكمت هذه السياسة في الأصحاب والأهل الأقرب فالأقرب والأبعد فالأبعد، فأحكم أمر العبادة والقرابين المقربة إلى الله سبحانه والأعمال المزدلفة لديه.
(5) فصل في القرابين
فنذكر الآن العبادة والقرابين، وهي نوعان لا ثالث لهما، قربانان مقبولان صادقان ودعاءان مستجابان، وها هنا قربان غير مقبول ودعاء غير مستجاب، وهو ما أخبر الله عنه أن ولدي آدم قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، ودعاء الكافر الذي هو في تباب لا يقبل.
فأما العبادتان: فإحداهما الشرعية الناموسية باتباع صاحب الناموس والانقياد إلى أوامره ونواهيه، والمسارعة إلى ما جاء به وقضاه وحكم به على من استجاب إليه وتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بما ذكر أنه رضيه من القرابين والعبادات والطهارات والصلوات والصوم والزكاة والحج والجهاد، والسعي إلى البيوت العامرة والبقاع الطاهرة، والإقرار بكتب الله ورسله وملائكته ووحيه، وما شاكل ذلك في موجبات أحكام الشرائع، وإقامة النواميس والامتثال للأوامر والنواهي، والنظر إلى أفعال النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء بأفعاله والتشبه به في جميع أفعاله، كما قال الله: @QUR08 لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، والتضرع إلى الله سبحانه بالدعاء والابتهال في وقت الاجتماعات في الأعياد والجمعات وعند ظهور الآيات؛ فهذا هو الدعاء المستجاب والقربان المتقبل.
وأما العبادة الثانية فهي العبادة الفلسفية الإلهية، وهي الإقرار بتوحيد الله عز وجل، وقد تقدم ذكرها في صدر الرسالة الجامعة في شرح رسالة الأرثماطيقي نقف عليه إن شاء الله.
وأما الدعاء والقربان المقبول المستجاب، فاعلم يا أخي أنك متى كنت مقصرا في العبادة الشرعية فلا يجب لك أن تتعرض لشيء من العبادة الفلسفية وإلا هلكت وأهلكت وضللت وأضللت؛ وذلك أن العمل بالشريعة الناموسية والقيام بواجب العبادة فيها، ولزوم الطاعة لصاحبها عليه السلام، والعمل بالعبادة الفلسفية الإلهية إيمان، ولا يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون مسلما، والإسلام سابق على الإيمان كما قال الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم مخاطبا الأعراب المنافقين من أهل الشريعة الذين كانوا يظهرون الإيمان ويكتمون النفاق: @QUR014 قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم، وإنما تخصص أصحاب الرسول عليه السلام، بعده بالصبر الذي رأوه كان يستعمله في العبادة والطاعة لربه فرضا على نفسه وتعليما لأصحابه، فقام بالأمرين وكمل المنزلتين وحاز الفضيلتين؛ لأنه كان عليه السلام، مسلما مؤمنا عارفا بالدعاء في وقت الإجابة؛ ولذلك كان لا يرد له دعاء، وكان إماما للمسلمين والمؤمنين عارفا بالفلسفة الإلهية.
ولما تمت الفضيلة لواحد من أهله وأصحابه قال مفتخرا: «أنا أرسطاطاليس هذه الأمة».
واعلم يا أخي أن اقتران العبادة الشرعية بالعبادة الفلسفية صعب جدا؛ لأنها موت الجسد في أقرب الأوقات، وحصر النفس عن الأمور المحبوبة بأسرها، وترك الرخصة في كل شيء منها والوصول إلى إدراك حقائق الموجودات بأسرها.
ونريد أن نشرح لك طرفا منها فتحصل لك رتبة من الدرجة الأولى وهو شبه المدخل والمقدمة لك، لعلك تقوم بشيء منها فيحصل لك رتبة من الدرجة من حد العبادة والدعاء في الأوقات المستجاب فيها من يدعو بذلك.
(6) فصل في أن أفضل الدعاء في السنة الشرعية ...
واعلم أيها الأخ، أن أفضل الدعاء في السنة الشرعية والديانة الإسلامية في ليلة القدر، وبعدها عيد الفطر، وعيد الأضحية، ويوم النحر، وعند البيت الحرام، وبين الركن والمقام، وعند معاينة هلال الفطر، وعند بذل الزكاة لمستحقها، ودعاء من يأخذها في وقت أخذها وطلبه إياها، فإن هذا دعاء مستجاب وقربان متقبل .
وأما العبادة الفلسفية الإلهية فإن أول درجة منها - وهي التي كانت الفلاسفة القدماء والأجلة العلماء يأخذون بها أولادهم وتلامذتهم بعد تعليمهم أحكام السياسات الجسمانية والنفسانية والعبادات الناموسية الشرعية - أن يكون لهم في كل شهر من شهور السنة اليونانية - على عدد التاريخ المعروف إلى حيث ينتهي من أراد الاقتداء بتلك السنة - ثلاثة أيام في كل شهر: يوم في أوله ويوم في وسطه ويوم في آخره.
فأما اليوم الأول من الشهر فيجب له أن يتطهر أنظف طهور ويتبخر بأطيب ما يقدر عليه من البخور، ولا يفرط في طهارته وصلواته المفروضة عليه في شريعة الناموس، فإذا انقلب من محراب صلاة عشاء الآخرة جلس يسبح الله ويقدسه ويهلله ويكبره إلى أن يمضي من الليل الثلث الأول، ثم يقوم ويجدد الوضوء ويسبغ الطهارة ليكون طهور على طهور ونور على نور، ويبرز من بيته إلى أن يحصل تحت السماء بحذاء الجدي وهو النجم الذي يهتدى به. قال الله تعالى: @QUR04 وعلامات وبالنجم هم يهتدون فيتأمل الكتاب المبين، ويتدبر آياته ويرى الملكوت دائما وهو يسبح الله ويقدسه ولا يدع التكبير والتهليل؛ ليكون من الذين قال الله تعالى فيهم @QUR012 الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض الآية. ولا يزال كذلك حتى يذهب من الليل الثلثان فيكون الثلث الأول قياما بعبادة الناموس، والثلث الثاني قياما في التفكر في الملكوت.
فإذا زال أوان الثلث الأوسط هبط إلى الأرض ساجدا بتذلل وخضوع لباريه، فلا يزال كذلك ما قدر عليه ثم يرفع رأسه ببكاء واستغفار وتوبة واستعبار، فيعدد ذنوبه على نفسه وينوي التوجه بحسناته وصالح أعماله، ويدعو بالدعاء الأفلاطوني والتوسل الإدريسي والمناجاة الأرسطاطاليسية المذكورة في كتبهم، فلا يزال كذلك حتى يبدو الفجر فيقوم فيسبغ الوضوء ويتطهر فيرجع إلى محرابه فيصلي صلاة الفجر، ويجلس في مكانه إلى أن تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس وأقبل أول النهار ذبح بيده - إن كان ممن قد اعتاد ذلك - ما قدر عليه من محلل الحيوان، ويأمر بإصلاح ما كان من الطعام، ويأذن لأهله وإخوانه بالدخول عليه والوصول إليه، ويحضر ذلك بين أيديهم، فإذا فرغوا من طعامهم حمدوا الله جل وعز اسمه، وشكروه، وخروا له سجدا شكرا له بما من عليهم، ثم يخرج إليهم من الحكمة بحسب ما يوجبه الزمان ويسعه المكان، ولا يزالون كذلك بقية يومهم إلى الوقت من عشاء الآخرة فيرجعون إلى منازلهم ويتصرفون في معايشهم، ويقومون بواجبات أحكام أديانهم إلى اليوم الثاني: وهو ليلة البدر، إذا استكملت استدارته وتمت أنواره فيه في تلك الليلة وصبيحة ذلك اليوم كما فعل في اليوم الأول وأزيد قليلا، ثم كذلك إلى وقت الانصراف بعد العشاء الآخرة من غد ليلة، ثم في آخر الشهر وهو اليوم الخامس والعشرون من شهره بينه وبين أول الشهر الجديد المستقبل خمسة أيام، ويكون لمن اقتدى بهذه السنة في السنة ثلاثة أعياد.
(7) فصل في العيد الأول يوم نزول الشمس برج الحمل
العيد الأول يوم نزول الشمس برج الحمل؛ وذلك أنه في هذا اليوم يستوي الليل والنهار في الأقاليم، ويعتدل الزمان ويطيب الهواء ويهب النسيم ويذوب الثلج وتسيل الأودية وتمد الأنهار وتنبع العيون، وترتفع الرطوبات إلى أعلى فروع الأشجار، وينبت العشب ويطول الزرع وينمو الحشيش ويتلألأ الزهر وتورق الأشجار وتكمل الأنوار، ويخضر وجه الأرض، وتتكون الحيوانات ويدب الدبيب، وتنتج البهائم وتدر الضروع وتنتشر الحيوانات في البلاد، ويطيب عيش أهل البر وتأخذ الأرض زخرفها وتصير كأنها فتاة شابة طرية، فيجب أن يكون ذلك اليوم عيدا يظهر فيه الفرح والسرور.
وكان الحكماء في هذا اليوم يجتمعون ويجمعون أولادهم وشبان تلامذتهم بأحسن زينة وأنظف طهور إلى الهياكل التي كانت لهم، ويذبحون الذبائح الطيبة الطاهرة، ويضعون الموائد ويكثرون البقول والألبان والحبوب مما تنبته الأرض، فإذا أكلوا وفرحوا أخذوا في استعمال الموسيقى بالنقرات المحركة للأنفس إلى معالي الأمور والنغمات اللذيذة بتلاوة الحكمة ونشر العلم، فيكون بذلك راحة النفس وكمال الأنس فلا يزالون كذلك بقية يومهم ثم ينصرفون إلى أشغالهم.
ولهذا اليوم اسم باللغة اليونانية معروف عندهم، وهو اليوم الذي نزلت فيه الشمس رأس الحمل نوء الربيع .
(8) فصل في العيد الثاني
فإذا نزلت الشمس أول السرطان فإن ذلك اليوم العيد الثاني نوء الصيف، وفيه يتناهى طول النهار وقصر الليل، وانصراف الربيع ومجيء الصيف، واشتداد الحر وهبوب السمائم، ونقصان المياه ويبس العشب، واستحكام الحب وإدراك الحصاد والثمار، فيكون ذلك عيدا لاستقبال زمان جديد تابع للزمان الأول.
وكانت الحكماء تجتمع فيه إلى الهياكل المبنية لذلك اليوم؛ لأنهم كان لهم لكل عيد هيكل لا يدخلونه بذلك الزي إلا في يوم مثله؛ فيدخلون الهيكل المبني ويلبسون الذي يليق بطبيعة ذلك البرج، وكذلك ما يكون يستعملونه من الطعام والشراب وما كان من الثمار الآتي بين التيبيس والترطيب في الطبقة الأولى، فإذا قضوا ما يجب عليهم في ذلك اليوم انصرفوا، فلا يجتمعون إلى العيد الثالث، وهو يوم نزول الشمس رأس الميزان.
(9) فصل في العيد الثالث
فإذا نزلت أول دقيقة من برج الميزان استوى الليل والنهار مرة أخرى، ودخل الخريف وطاب الهواء وهبت رياح الشمال وتغير الزمان، ونقصت المياه وجفت الأنهار وقل ماء العيون وجف النبات، فيكون ذلك اليوم أيضا يوم عيد، فيدخلون إلى الهيكل المبني لذلك اليوم، ويكون استعمالهم من الأكل ما يوافق طبيعة ذلك اليوم والزمان، ومن نشر العلم ما لاق به، ولا عيد لهم بعده إلى أن تبلغ الشمس آخر القوس أول الجدي.
(10) فصل في العيد الرابع
العيد الرابع: يتناهى طول الليل وقصر النهار، ويأخذ الليل في النقصان والنهار في الزيادة، وينصرف الخريف ويدخل الشتاء، ويشتد البرد ويسخن الهواء، ويتساقط ورق الشجر ويموت أكثر النبات، وتنحجر الحيوانات في أعماق الأرض وكهوف الجبال من شدة البرد، فإذا كثرت الأنداء ونشأت الغيوم وأظلم الهواء وكلح وجه الزمان وهزلت البهائم وضعفت قوى الأبدان، ومنع الناس التصرف والاجتماع بعضهم من بعض، ويمر عيش أكثر الحيوان، وكانت الحكماء تتخذ هذا اليوم يوم حزن وكآبة وندم واستغفار، وكانوا يصومونه ولا يفطرون فيه.
وإذا تأملت أيها الأخ هذه الأيام الثلاثة في السنة الفلسفية التي اتخذوها أعيادا وأفراحا، وكان فرحهم الأكبر في الأول منها، ودونه في الأوسط، ودونه فيما يليه، وفي الآخر يوم حزن وكآبة إلى أن يستأنف الدور الآخر عند رجوع الشمس إلى أول برج الحمل، وإذا أنعمت النظر إلى أعياد الشريعة الإسلامية وجدتها موافقة لها؛ وذلك أن نبينا، عليه السلام، سن لأمته في شريعته ثلاثة أعياد: فالأول منها يوم عيد الفطر، وهو أعظم فرح يكون بخروج الناس من شدة الصوم إلى الفطر كفرح أهل الأرض بقدوم الربيع والخصب بعد ذهاب الشتاء، ثم عيد الأضحى وهو يوم تعب ونصب؛ لأنه يوم الحج فيكون الوفد الشرعي فيه شعثا غبرا، ويحتاج فيه إلى إراقة دم، ويكون فرحا ممزوجا بغم ونصب، فيكون الفرح دون الفرح الأول، كفرح الفلاسفة بالعيد الثاني من سنتهم؛ إذ كانوا يستقبلون الهجير والرمضاء والسمائم وشدة الصيف.
واليوم الثالث في السنة الشرعية يوم وصيته عند انصرافه من حجة الوداع بغدير خم، وفرحه ممزوج؛ لأنه خالط ذلك بنكث وغدر، موافقا للعيد الثالث الفلسفي المتقلب فيه الزمان من الصيف إلى الخريف فتناهي حال الثمار وأخذها في النقصان والجفاف.
واليوم الرابع هو يوم الحزن والكآبة؛ فهو يوم قبض فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى رضوان الله ومحل كرامته، صلى الله عليه وآله، وإن كان عيدا له؛ لما وعده ربه تعالى بقوله: @QUR05 وللآخرة خير لك من الأولى فهو بانتقاله إلى جوار الله وكريم فنائه عيد له، غير أنه مشوب بمصاب أمته وانقطاع الوحي وفقدهم شخصه الكريم.
واعلم أيها الأخ، أنا جماعة إخوان الصفاء أحق الناس بالعبادة الشرعية ومراعاة أوقاتها وأداء فروضها ومعرفة تحليلها وتحريمها؛ لأنا أخص الناس بها وأولاهم بحملها، وأقرب الناس إلى من جاءت على يديه وأولاهم به، وأحق الناس أيضا بالعبادة الفلسفية الإلهية والقيام بها والأخذ لها والتجديد لما دثر منها، فإذا أكملنا ذلك كانت لنا سنة ثالثة تتميز بها وتتخصص بعلمها، ولنا أيضا ثلاثة أيام نتخذها أعيادا ونأمر إخواننا بالاجتماع فيها والسعي إليها.
واعلم أيها الأخ، أن أعيادنا هذه ليست تشابه أعياد الفلسفة ولا الشريعة في الحقيقة لكن بالمثل؛ لأن أعيادنا ذاتية قائمة بذواتها، تظهر الأفعال عنها وبها وفيها، وهي ثلاثة أيضا: أول وأوسط وآخر والرابع أصعبها عملا وأشدها فعلا. وأمثال هذه الأيام الأربعة التي ذكرناها ووصفناها في الزمان بالحركات الفلكية وموجبات أحكام النجوم: الربيع والصيف والخريف والشتاء، وفي الشريعة المحمدية والملة الهاشمية: عيد الفطر وعيد الأضحى وعيد الغدير ويوم المصيبة به صلوات الله عليه، وفي الشريعة الفلسفية نزول الشمس الحمل والسرطان والميزان والجدي في الصورة الإنسانية أيام الصبا وأيام الشباب وأيام الكهولة وأيام آخر العمر ... به ذهاب الشخص ومفارقة الجسم للنفس؛ ولذلك يبكي عليه ويكون عند أهله الهم والحزن والأسف على فقده، كما حزن أهل بيت النبوة لما فقدوا سيدهم وغاب عنهم واحدهم، وتخطفوا من بعده وتفرق شملهم وطمع فيهم عدوهم واغتصبوا حقهم وتبددوا، ثم ختم ذلك بيوم كربلاء وقتل من قتل من الشهداء ما افتضح الإسلام به.
ومن قبله ما أنال أحق الناس بما قاسى أولادهم بالأمر من بعده ثم من بعد غيبة صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم قتل من بعده من أجلة أصحابه المساعدين له في إقامة الناموس معه؛ مثل صديقه وفاروقه وذي النورين، وما تواتر على أهله وأقاربه من المصائب، فصار ذلك سببا لاختفاء إخوان الصفاء وانقطاع دولة خلان الوفاء، إلى أن يأذن الله بقيام أولهم وثانيهم وثالثهم، في الأوقات التي ينبغي لهم القيام فيها إذا برزوا من كهفهم واستيقظوا من طول نومهم.
واليوم الرابع يكون فيه حزنهم لغيبة سيدهم كما غاب أبوهم صاحب الناموس، وما كان من الحزن والكآبة الواقعة بهم من بعده.
فأعيادنا، أيها الأخ، هي أشخاص ناطقة وأنفس فعالة تفعل - بإذن باريها - ما يوحيه إليها ويلهمها من الأفعال والأعمال؛ فاليوم الأول من أيامنا والعيد الفاضل من أعيادنا هو يوم خروج أول القائمين منا، ويكون اليوم الموافق له لنزول الشمس برج الحمل لمجيء الربيع والخصب والنعمة ونزول الرحمة والظهور والانتشار، وهو يوم فرح وسرور لنا ولجميع إخواننا.
واليوم الثاني هو يوم قيام الثاني الموافق يوم قيامه نزول الشمس أول السرطان في تناهي طول الليل وقصر النهار؛ إذ كان فيه تصرم دولة أهل الجور وانقضاؤها، وهو فرح وسرور واستبشار.
واليوم الثالث هو يوم قيامة ثالثنا، الموافق لنزول الشمس أول الميزان، واستواء الليل والنهار، ودخول الخريف، وهي مقاومة الباطل الحق، وكون الأمر على خلاف ما كان عليه.
ثم اليوم الرابع يوم الحزن والكآبة؛ يوم رجوعنا إلى كهفنا وكهف التقية والاستتار، وكون الأمر على ما قال صاحب الشريعة: «إن الإسلام ظهر غريبا وسيعود غريبا، فيا طوبى للغرباء.» فيكون الأمر على مثل ما نحن عليه في وقتنا إلى وقت البروز والخروج والرجوع بعد الذهاب، كرجوع الشمس بعد ذهاب الشتاء إلى برج الحمل @QUR04 ذلك تقدير العزيز العليم، @QUR06 وما منا إلا له مقام معلوم، @QUR08 ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله.
واعلم يا أخي أن في هذه المدة يميز الله الخبيث من الطيب، ويرفع أهل العلم درجات لم يكونوا لينالوها إلا بصبرهم واحتسابهم في جنب ما يصيبهم، فلا تنكر، أيها الأخ، ما ذكرنا من أن الزمان لا يدوم بصفائه؛ إن الصفاء إنما يعرف بالكدورة، والعدل بالجور، والصحة بالسقم، وإنما صفا إخوان الصفاء لما أخلصوا الصبر على البلوى في السراء والضراء، واستسلموا لربهم وانقادوا إليه بنفوس طيبة ساكنة مطمئنة.
واعلم أيها الأخ، أن القربان كما ذكرنا قربانان: شرعي وفلسفي، لا ثالث لهما، فأما القربان الشرعي فهو المأمور به في الحج من ذبح الحيوانات المذكورة الموصوفة على شرائطها، من أجناسها المحمودة السالمة، في المواضع التي يجب ذلك فيها، وأجلها ما كان أكثر ثمنا وأحسن صورة وأجود غذاء لمن يأكلها ممن يفرق فيهم ويشبعهم ويكفيهم.
فإذا خرج ذلك من حله ودفع إلى أهله بنفس طيبة ونية صادقة كان قربانا مقبولا وكفارة نافعة ودعاء مستجابا؛ فهذا قربان شرعي.
وأما الفلسفي فهو مثل ذلك، إلا أن النهاية فيه التقرب بالأجساد إلى الله سبحانه بتسليمها إلى الموت وترك الخوف، كما فعل سقراط لما شرب السم المذكور (قصته في كتاب فاذن)، وكاستبشار أرسطاطاليس لما نزل الموت به لما حزن عليه تلامذته، وما كان من خطابه ووصيته المذكورة في رسالة «التفاحة».
واعلم أيها الأخ ، أن أعظم القرابين هو ترك النفس محبة الدنيا والزهد فيها، وقلة الخوف من الموت وتمنيه.
وأما قربان إخوان الصفاء فهو قربان يجمع هذه الخصال كلها بأسرها: شرعيها وفلسفيها، وهو التقرب بما تقرب به إبراهيم من الكبش الممنون به عليه فداء لولده الذي قد رعى في أرض الجنة أربعين خروفا، فإن تمكنت أن تتقرب بكبش رعى في أرض الجنة ولو شبرا فافعل، ولا تقعد عنه واجتهد في ذلك؛ لتكون قد بلغت المجهود وأقمت المثل وعمرت عالم الله تعالى، وأرجو أن يوفقك الله لفهم ما تسمع ويجعلك من أهله.
ولما كان هذا الفصل جامعا للفضائل النفسانية، وعلمنا أنك متى امتثلت فيه الوصية كملت لك الصورة الملكية وكانت لك في معادك مهيأة لوصولك إليها ونزولك عليها ختمنا الرسالة بهذا الفصل وسميناه: «الفصل الجامع للفوائد النافعة»، وهو منها بمنزلة القلب من الجسد، والرأس من البدن، وهو نهاية الغرض بعد الوقوف على ما فيه والارتسام بجميع ما رسمناه، والاعتماد على ما وصفنا.
واعلم أيها الأخ، أن كلامنا هذا تشهد بصحته العقول السليمة، وتسكن إليه النفوس الصافية المشتاقة إلى ربها، وتعضده الآيات المكتوبة في الآفاق والأنفس وما في السموات والأرض وما تدل عليه الكتب النبوية والتنزيلات السماوية وأفعال الأنبياء واتفاقهم على هذه الأعمال التي ذكرناها والسياسات التي وصفناها، وأفعال الحكماء من الفلاسفة القدماء وبنائهم الهياكل في الأرض على مثال ما هي مبنية في السماء.
واعلم أيها الأخ، أن الشاك فيما ذكرناه والراد فيما وصفناه معذور في ذلك؛ لأنه جاهل لا علم له ولا معرفة عنده؛ فهو لاه في سكرته وتائه في ضلالته، فمن أراد أن يعرف صحة ما قلنا ويمتحن صدقنا من كذبنا فليفعل ما فعلنا ويبذل من نفسه ما بذلنا؛ ليحل له دخول الحرم والوقوف على المقام وزمزم، فإن رأى ما يؤيد الشريعة المحمدية والملة الهاشمية ويقويها وينفي عنها شبه الملحدة وجحدة الأنبياء فيقيم معنا بالرحب والسعة له ما لنا وعليه ما علينا، وإن رأى ما ينال في الشريعة فهو معذور في رفضه مثاب في تركه، وليس على ما خرج منه ثواب يمنعه من العود إليه، وقد جاء في الخبر عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يمين في معصية الله.» بلغك الله أيها الأخ البار الرحيم منازل الأبرار، ونجاك وإيانا من عذاب النار، وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد والقفار، إنه جواد غفار.
(تمت الرسالة التاسعة في كيفية أنواع السياسات وكميتها، ويليها رسالة في كيفية نضد العالم بأسره.)
الرسالة العاشرة من العلوم الناموسية والشرعية في كيفية نضد العالم بأسره
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
اعلم أيها الأخ، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن العالم الكبير بأسره كرة واحدة تنفصل إحدى عشرة طبقة: تسع منها هي أفلاك كريات مجوفات مشفات، وكواكبها أيضا كلها كريات مستديرات مضيئات، وحركاتها كلها دوريات.
وذلك أن الفلك المحيط بجميع ما يحوي من الأفلاك والكواكب يدور حول الأرض في كل أربع وعشرين ساعة سواء دورة واحدة، وكذلك كل كوكب يدور في فلك مختص به أو دائرة حركة دورية في زمان معلوم، وكلما دارت دورة استأنفت ثانية - كما وصفنا في رسالة مدخل النجوم ورسالة السماء والعالم ورسالة الأكوار والأدوار - ودون فلك القمر كرتان: إحداهما النار والهواء والأخرى الماء والأرض، وكل واحد منهما كري الشكل، محيطات أواخرها متصلة بأوائلها.
بيان ذلك أن النار متصل أولها بفلك القمر وآخرها بطبيعة الزمهرير، والزمهرير آخره متصل محيط بالماء والأرض، كما وصفنا في رسالة الآثار العلوية.
وأما الأرض بجميع بحارها وجبالها فكرة واحدة. وإذا اعتبر بشكل الجبال والأنهار على بسيط الأرض وتأمل تبين أن كل واحد منها كأنه قطعة قوس من محيط الدائرة.
وأما شكل البحار فكل واحد كأنه قطعة من سطح جسم كري.
(1) فصل في أحوال الكائنات
وهكذا أحوال الكائنات إذا اعتبرت وتأملت تبين أن أكثرها كريات الشكل أو مستديرات، من ذلك أن أكثر ثمار الأشجار وأوراقها وحب النبات ونور أزهارها كريات الأشكال أو مستديرات.
وهكذا أكثر مصنوعات البشر، كما بينا في رسالة الهندسة ، وأما أحوالها فدائرة أيضا يعطف أوائلها على أواخرها مثل دوران الزمان من الشتاء إلى الربيع، ومن الربيع إلى الصيف، ومن الصيف إلى الخريف، ومن الخريف إلى الشتاء.
وهكذا دوران الليل والنهار حول كرة الأرض كما بينا في رسالة الهيولى، وكذلك حكم دوران مياه الأنهار والبحار والغيوم والأمطار فإنها كالدولاب الدائر، وتلك الغيوم والسحاب تنشأ من البخار المتصاعد من البحار والأنهار، وتسوقها الرياح إلى القفار ورءوس الجبال وتمطر هناك، وتجتمع السيول في الأودية فتذهب راجعة نحو البحار ثم تصعد ثانية @QUR04 ذلك تقدير العزيز العليم.
وكذلك حال النبات وتكوينه من التراب والماء والنار والهواء ورجوعه إليها في دورانها كالدولاب، وكذلك أن النبات يبدو وينشأ ويتم ويكمل حتى إذا بلغ إلى أقصى غاياته ومنتهى نهاياته رجع عند البلى والفساد إلى ما تكون منه.
بيان ذلك أن النبات يمتص بعروقه لطائف الأركان ويصير ورقا وحبا وثمارا يتناولها الحيوان ليتغذى، ثم يستحيل في أبدان بعضها لحما ودما، وبعضها يخرج ثقلا وسمادا ويرد إلى أصول النبات ليتغذى منه ويصير حبا وثمارا ثانيا ويتناوله الحيوان، فإذا تأمل هذا من حاله وجد كأنه دولاب دائر.
وأما أجسام الحيوان فإنها كلها تعود إلى التراب وتبلى وتصير ترابا ويكون منها نبات، ومن النبات حيوان، كما بين قبل، فإذا تأمل ذلك وجد أيضا كأنه دولاب يدور.
وأما أحوال البشر إذا اعتبرت فكلها دائرة كالدولاب؛ وذلك أن الإنسان يبدو كونه من النطفة ثم ينشأ وينمو ويتم ويبلغ إلى أن تتولد منه النطفة فيشتهي العود إلى حيث خرج لقضاء شهوته ونتاج مثله، وكذلك بدأ كونه ناقص القوة ضعيف البنية ثم يرتقي ويتزايد إلى أن يبلغ إلى الأشد، ثم يبتدئ في الانحطاط والنقص إلى أن يرد إلى أرذل العمر كما كان بديا كما ذكر تعالى فقال: @QUR042 ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين * ثم إنكم بعد ذلك لميتون وكما قال سبحانه: @QUR046 خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وقال @QUR08 والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا.
(2) فصل في أن لهذه الموجودات التي تحت فلك القمر نظاما
واعلم أيها الأخ، أن لهذه الموجودات التي تحت فلك القمر نظاما وترتيبا أيضا في الوجود والبقاء، وهي مرتبة بعضها تحت بعض، متصل أواخرها بأوائلها كترتيب العدد وترتيب الأفلاك.
بيان ذلك أنه لما كانت أجزاء العالم محيطات بعضها بعضا وهي إحدى عشرة كرة: تسع منها في عالم الأفلاك، أولها من لدن فلك المحيط، وآخرها إلى منتهى فلك القمر، وآخرها متصل بأوائلها، كما بينا في رسالة السماء والعالم، وكان اثنتان منها دون فلك القمر، وهي كرة النار والهواء وكرة الماء والأرض، وهي مقسومة على أربع طبائع: أولها الأثير، وهي نار ملتهبة دون فلك القمر، ودونه الزمهرير الذي هو البرد المفرط، ودونه الماء المفرط الرطوبة، ودونه الأرض المفرطة اليبس. وهذه الأربعة محفوظة كلياتها في مراكزها، ومتصلة أواخرها بأوائلها، ومستحيلة جزئياتها بعضها إلى بعض، كما بينا في رسالة الكون والفساد.
وأما الكائنات منها التي هي جزئياتها فهي المعادن والنبات والحيوان، ولها نظام وترتيب متصل أواخرها بأوائلها كترتيب الأفلاك والأركان؛ بيان ذلك أن المعادن متصل أولها بالتراب وآخرها بالنبات، والنبات أيضا متصل آخره بالحيوان، والحيوان متصل آخره بالإنسان، والإنسان متصل آخره بالملائكة، والملائكة أيضا لها مراتب ومقامات متصلة أواخرها بأوائلها، كما بينا في رسالة الروحانيات، فنريد أن نذكر في هذا الفصل مراتب الكائنات من الأركان الأربعة التي هي المعادن والنبات والحيوان والإنسان، فنقول: أول المعادن هو الجص مما يلي التراب، والملح مما يلي الماء؛ وذلك أن الجص هو التراب الرملي يبتل من الأمطار ثم ينعقد ويصير جصا.
وأما الملح فإنه يمتزج بالتربة السبخة، وينعقد فيصير ملحا ، وأما آخر المعادن مما يلي النبات فهو الكمأة والقطن وما شاكلها، يتكون في التراب كالمعدن ثم ينبت في المواضع الندية في أيام الربيع من الأمطار وصوت الرعد كما ينبت النبات، ولكن من أجل أنه ليس له ثمرة ولا ورقة ويتكون في التراب كما تتكون الجواهر المعدنية، فصار من هذه الجهة يشبه المعدن، ومن جهة أخرى يشبه النبات، فأما باقي أنواع الجواهر المعدنية ففيما بين هذين الحدين؛ أعني الجص والكمأة، وقد بينا في رسالة المعادن أنواعها وأجناسها وخواصها ومنافعها.
وأما النبات فنقول: إن هذا الجنس من الكائنات متصل أوله بالمعادن وآخره متصل بالحيوان؛ بيان ذلك:
اعلم يا أخي أن أول مرتبة النبات وأدونها مما يلي التراب هي خضراء الدمن، وآخرها وأشرفها مما يلي الحيوانية النخل؛ وذلك أن خضراء الدمن ليست بشيء سوى غبار يتلبد على الأرض والصخور والأحجار، ثم يصيبها المطر فتصبح بالغداة خضراء كأنها نبت زرع وحشائش، فإذا أصابها حر الشمس نصف النهار تجف، ثم تصبح بالغد مثل ذلك من نداوة الليل وطيب النسيم.
ولا تنبت الكمأة ولا خضراء الدمن إلا في أيام الربيع في البقاع المتجاورة لتقارب ما بينهما؛ لأن هذا معدن نباتي وذلك نبات معدني.
(3) فصل في أن النخيل هو آخر المرتبة النباتية مما يلي الحيوانية
وأما النخل فهو آخر المرتبة النباتية مما يلي الحيوانية؛ وذلك أن النخل نبات حيواني؛ لأن بعض أحواله وأفعاله مباين لأحوال النبات، وإن كان جسمه نباتيا؛ بيان ذلك أن القوة الفاعلة منفصلة من القوة المنفعلة؛ والدليل على ذلك أن أشخاص الفحولة فيها مباينة لأشخاص الإناث، ولفحولته في أشخاصه لقاح في إناثها، كما يكون في ذلك للحيوان، وأما سائر النبات فإن القوة الفاعلة منه ليست بمنفصلة من المنفعلة بالشخص بل بالفعل حسب، كما بينا في رسالة النبات. وأيضا فإن النخل إذا قطعت رءوس أشخاصه جفت وبطل نموه ونشوءه، كما أن الحيوانات إذا ضربت أعناقها بطلت وماتت، فبهذا الاعتبار بان أن النخل نبات بالجسم حيوان بالنفس؛ إذ كان أفعال النفس الحيوانية أفعاله وشكل جسمه شكل النبات، وفي النبات نوع آخر فعله أيضا فعل النفس الحيوانية، وإن كان جسمه جسما نباتيا وهو الأكثوث؛[1] وذلك أن هذا النوع من النبات ليس له أصل ثابت في الأرض كما يكون لسائر النبات، ولا له ورق كأوراقها، بل هو يلتف على الأشجار والزروع والبقول والحشائش ويمتص من رطوباتها ويغتذي، كما يفعل الدود الذي يدب على ورق الأشجار وقضبان النبات ويقرضها ويأكل منها ويغتذي بها، وهذا النوع من النبات وإن كان جسمه يشبه النبات فإن فعل نفسه فعل الحيوان.
فقد بان بما وصفنا أن آخر المرتبة النباتية متصل بأول الحيوانية، وأما سائر المراتب النباتية فهي ما بين هاتين المرتبتين.
(4) فصل في أن أول مرتبة الحيوانية أيضا متصل بآخر النباتية
واعلم يا أخي أن أول مرتبة الحيوانية أيضا متصل بآخر النباتية، كما أن أول النباتية متصل بآخر المعدنية، وأول المعدنية متصل بالتراب والماء، كما بينا قبل.
واعلم أن أدون الحيوان وأنقصه هو الذي ليس له إلا حاسة واحدة وهو الحلزون، وهي دودة في جوف أنبوبة، تنبت تلك الأنبوبة على الصخور التي في بعض سواحل البحار وشطوط الأنهار، وتلك الدودة تخرج نصف شخصها من جوف تلك الأنبوبة، وتنبسط يمنة ويسرة تطلب مادة يغتذي بها جسمها، فإذا أحست برطوبة ولين انبسطت إليه، وإن أحست بخشونة أو صلابة انقبضت وغاصت في جوف تلك الأنبوبة حذرا من مؤذ لجسمها ومفسد لهيكلها، وليس لها سمع ولا بصر ولا شم ولا ذوق إلا اللمس حسب.
وهكذا أكثر الديدان التي تكون في الطين في قعر البحر وعمق الأنهار ليس لها سمع ولا بصر ولا ذوق ولا شم؛ لأن الحكمة الإلهية لم تعط الحيوان عضوا لا يحتاج إليه في جر المنفعة أو دفع المضرة؛ لأنه لو أعطاها ما لا تحتاج إليه لكان وبالا عليها في حفظها وبقائها.
فهذا النوع حيواني نباتي؛ لأنه ينبت جسمه كما ينبت بعض النبات، ويقوم على ساقه قائما، ومن أجل أنه يتحرك بجسمه حركة اختيارية فهو حيوان، ومن أجل أنه ليس له إلا حاسة واحدة فهو أنقص الحيوانات رتبة، وتلك الحاسة أيضا هي التي يشاركها النبات؛ وذلك أن النباتات لها حس اللمس حسب.
والدليل على أن للنبات حس اللمس هو إرساله عروقه نحو النهر والمواضع الندية، وامتناعه عن إرسالها إلى ناحية الصخور واليبس، وأيضا أنه إذا اتفق منبته في مضيق مال وطلب الفسحة، وإن كان فوقه سقف يمنعه من الذهاب علوا وترك له ثقب من جانب مال النبات إلى تلك الناحية، حتى إذا طال أخرج من هناك رءوسه، وهذه الأفعال تدل على أن له حسا وتمييزا بمقدار الحاجة إليه.
فأما حس الألم فليس للنبات؛ وذلك لأنه ليس يليق بالحكمة الإلهية أن تجعل للنبات ألما ولم تجعل له حيلة الدفع كما جعلت للحيوان؛ وذلك أن الحيوان لما جعل له أن يحس بالألم جعل له أيضا حيلة الدفع: إما بالفرار والهرب أو بالتحرز أو بالممانعة.[2]
فقد بان بما وصفنا كيفية مرتبة الحيوانية مما يلي النبات، فنريد أن نذكر ونبين كيفية مرتبة الحيوانية مما يلي الإنسانية فنقول: إن رتبة الحيوانية مما يلي رتبة الإنسانية هي ليست من وجه واحد، ولكن من عدة وجوه؛ وذلك أن رتبة الإنسانية لما كانت معدن الفضائل وينبوع المناقب لم يستوعبها نوع واحد من الحيوان، ولكن عدة أنواع: فمنها ما قارب رتبة الإنسانية بصورة الجسدانية مثل القرد، ومنها بالأخلاق النفسانية مثل الفرس الكريم الأخلاق، ومثل الطير الإنسي الذي هو الحمام، ومثل الفيل الذكي القلب، ومثل الهزار والببغاء الكثيرة الأصوات والألحان والنغمات، ومثل النحل اللطيف الصنائع وما شاكل هذه الأجناس؛ وذلك أنه ما من حيوان يستعمله الناس أو قد أنس بالإنسان إلا وله في نفسه شرف قرب من نفس الإنسانية.
وأما القرد فلقرب شكل جسده من جسد الإنسان صارت نفسه تحاكي أفعال النفس الإنسانية، وذلك مشاهد منه متعارف بين الناس.
وأما الفرس الكريم فإنه قد بلغ من كرم أخلاقه أن صار جسده مركبا للملوك؛ فإنه ربما بلغ من حسن أدبه ألا يبول ولا يروث ما دام بحضرة الملك أو هو راكبه، وله أيضا مع ذلك ذكاء وإقدام في الهيجاء وصبر على الطعن والجراح كما يكون للرجل الشجاع، كما وصف الشاعر:
وإذا شكا مهري إلي جراحة
عند اختلاف الطعن قلت له: اقدما لما رآني لست أقبل عذره
عض الشكيم على اللجام وحمحما
وأما الفيل فإنه يفهم الخطاب بذكائه، ويمتثل الأمر والنهي كما يمتثل العاقل المأمور المنتهي.
فهذه الحيوانات في آخر مرتبة الحيوانية مما يلي رتبة الإنسانية؛ لما يظهر منها من الفضائل الإنسانية، وأما باقي أنواع الحيوانات فما بين هاتين المرتبتين.
وإذ قد فرغنا من ذكر مراتب الحيوانية مما يلي رتبة الإنسانية فنريد أن نذكر أولا رتبة الإنسانية مما يلي رتبة الحيوانية:
اعلم أن أدون رتبة الإنسانية التي تلي الحيوانية هي رتبة الذين لا يعلمون من الأمور إلا المحسوسات، ولا يعرفون من الخيرات إلا الجسمانيات، ولا يطلبون إلا صلاح الأجساد، ولا يرغبون إلا في زينة الدنيا، ولا يتمنون إلا الخلود فيها مع علمهم أنه لا سبيل لهم إلى ذلك، ولا يشتهون من اللذات إلا الأكل والشرب مثل البهائم، ولا يتنافسون إلا في الجماع والنكاح مثل الخنازير والحمير، ولا يحرصون إلا على جمع الذخائر من متاع الدنيا يجمعون ما لا يحتاجون إليه كالنمل، ويحبون ما لا ينتفعون به كالعقاعق، ولا يعرفون من الزينة إلا أصباغ اللباس مثل الطاووس، ويتحاربون على حطام الدنيا كالكلاب على الجيف! فهؤلاء وإن كانت صورتهم الجسدانية صورة الإنسان فإن أفعال نفوسهم أفعال النفس الحيوانية والنباتية.
(5) فصل في الرتبة الإنسانية التي تلي رتبة الملائكة
وأما الرتبة الإنسانية التي تلي رتبة الملائكة فهي رتبة الذين انتبهت نفوسهم من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، وانتعشت بحياة العلوم والمعارف، وانفتحت لها عين البصيرة فأبصرت بنور قلوبها ما كان غائبا عن حواسها من الأمور الروحانية والموجودات العقلية، وشاهدت بصفاء جوهرها عالم الأرواح، ورأت بعين اليقين أصناف الخلائق الذين هم هناك، وهي الصورة المجردة عن الهيولى الجسمانية، وهي أجناس الملائكة وجنود ربك من الروحانيين والكرويين وحملة العرش أجمعين، وعرفت أحوالهم وتبين لها سرورهم وملاذهم ونعيمهم، فتشوقت نحوها ورغبت فيها وحرصت على طلبها ، وزهدت في نعيم أبناء الدنيا والكون في عالم الأجساد، وتركت طلب شهواتها الجسمانية، وأعرضت عن تناول لذاتها الجرمانية، وصارت بفكرتها هناك وإن كانت بجسدها ها هنا، فأسهر ليله مفكرا ونهاره طاويا في طلب المعارف والبحث عن حقائق الأمور، ورضي من متاع الدنيا بكسرة يقيم بها حياة الجسد، وخرقة يواري بها العورة إلى وقت معلوم، وعاش في الدنيا مع أبناء جنسه من الآدميين بجسده وهو بنفسه من أجناس الملائكة.
فاجتهد يا أخي في طلب ما طلبوه، وارغب في صحبتهم، واقتد بسنتهم وسر بسيرتهم لعلك تحشر في زمرتهم إلى الجنة دار القرار كما ذكر الله تعالى ووعد فقال، جل ثناؤه: @QUR07 وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا الآية، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المرء يحشر يوم القيامة مع من يحب.» وقال: @QUR08 قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله، وقد بينا طريق الأنبياء، صلوات الله عليهم، وخصال المؤمنين المحققين في إحدى وخمسين رسالة عملناها في غرائب العلوم وطرائف الآداب وتهذيب النفس وإصلاح الأخلاق، وفقك الله أيها الأخ لقراءتها وفهم معانيها والعمل بما فيها إن شاء الله تعالى.
(تمت الرسالة في كيفية نضد العالم بأسره، ويليها رسالة في ماهية السحر والعزائم والعين.)
الرسالة الحادية عشرة من العلوم الناموسية والشرعية في ماهية السحر والعزائم والعين
بسم الله الرحمن الرحيم
@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون
اعلم أيها الأخ، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنا قد ذكرنا في خمسين رسالة تقدمت لنا قبل هذه الرسالة فنون العلم وغرائب الحكمة، ورتبناها وجمعنا فيها علوما كثيرة وأغراضا جمة وحكما بليغة، ورتبناها بحسب ما تقتضيها درجات المتعلمين ومراتب الطالبين المستفيدين، فكما لا ينبغي أن نبذل العلم لمن ليس هو من أهله ولا يعرف فضله، فهكذا لا يجوز ولا يحل أن نمنع منه من هو مسترشد وطالب له، ولا نبخل به على مستحق.
فينبغي لمن حصلت له هذه الرسائل من إخواننا الكرام أن يدفع منها إلى كل من يستحق ما يقرب من فهمه وما يعلم أنه يصلح له أو يليق بمرتبته أولا فأولا، على الترتيب الذي رتبناه في رسالة الفهرست.
فكلما ارتقت نفسه في العلم إلى درجة درجة، وانتهت إلى مرتبة مرتبة في المعرفة، رقي إلى ما بعدها ودفع إلى ما يتلوها إلى أن تبلغ نفسه إلى حد كمالها.
وقد جعلنا الرسائل كلها على أربعة أقسام: القسم الأول رياضية يبتدئ يها، والقسم الثاني جسمانية طبيعية يتلو بها، والقسم الثالث نفسانية عقلية من بعدها، والقسم الرابع ناموسية إلهية هي آخرها.
وهذه الرسالة هي آخر الرسائل من القسم الرابع، وهي الحادية والخمسون، نريد أن نذكر فيها ماهية السحر وكيفية عمل الطلسمات، وأنها كأحد العلوم والمعارف المتعارفة وكبعض الحكم المستعملة، ونستشهد عليها بما سمعناه من العلماء وعرفناه من كتب القدماء الذين كانوا فيما مضى قبلنا.
واعلم أيها الأخ، أيدك الله، أننا رأينا اليوم أكثر الناس المتغافلين إذا سمعوا بذكر السحر يستحيل واحد منهم أن يصدق به، ويتكافرون بمن يجعله من جملة العلوم التي يجب أن ينظر فيها أو يتأدب بمعرفتها، وهؤلاء هم المتعالمون والأحداث من حكماء دهرنا المتخلفين والمدعين بأنهم من خواص الناس المتميزين؛ وذلك لأنهم لما رأوا بعض المتعاملين بهذا العلم والخائضين في طلبه من غير معرفة له إما أبله قليل العقل أو امرأة رعناء أو عجوزا خرفة بلهاء، فرفعوا أنفسهم عن مشاركة من هذه حاله إذا سمعوا بذكر السحر والطلسمات أنفة منهم؛ لئلا ينسبوا إلى الجهل وإلى التصديق بالكذب والخرافات، إذ كان أولئك السخفاء الطالبين لهذا العلم يطلبونه لأغراض لهم سخيفة دنيئة من غير معرفة توجب الطلبة ولا ما المقصود منه والغرض، ولم يعلموا أن هذا هو جزء من الحكمة، بل هو جزء وآخر علوم الحكمة؛ لأنه يحتاج قبله إلى تعلم علوم تقدمه؛ فمنها علم النجوم الذي هو معرفة ثلاثة أشياء وهي: الكواكب والأفلاك والبروج.
فالبروج اثنا عشر برجا، والأفلاك تسعة، والكواكب المعروفة ألف وتسعة وعشرون كوكبا، فمنها سبعة سيارة، وقد ذكرناها في الرسالة الثالثة من القسم الأول من كتابنا هذا ، وهو كالمدخل على علوم النجوم وجميع ما يحتاج إلى تقديمه من ذلك.
فأما سوى البروج والكواكب والأفلاك فمنها العقدتان اللتان تسمى إحداهما الرأس والآخر الذنب؛ فالرأس يدل على السعود والذنب يدل على النحوس، وليسا هما كوكبين ولا جسمين ظاهرين، ولكنهما أمران خفيان، فخفاء ذاتيهما وظهور أفعالهما يدل على أن في العالم نفوسا خفية عن الحس، أفعالها ظاهرة وذاتها خفية، يسمون الروحانيين الذين ذكرناهم في الرسالة التي هي قبل هذه الرسالة، وهم أجناس الملائكة وقبائل الجن وأحزاب الشياطين، ويعرف ذلك أصحاب العلوم والسحر والطلسمات، فاقرأ تلك الرسالة التي لنا قبل هذه الرسالة؛ لتعرف هذا المعنى على التمام والكمال منها إذا قرأتها، ويتحقق لك أيها الأخ ما هو موجود في العالم من أفعال الروحانيين كما ذكرناه ورتبناه وشرحناه فيها، فأما معرفة أفعال النجوم وتأثيراتها فيما تحت فلك القمر من بعد المعرفة بدلالاتها فهي من الحكمة الروحانية والتأييد الإلهي والعناية الربانية، وأجل العلماء المشهورين بهذا العلم هو بطليموس صاحب المجسطي وغيره من الكتب التي له في هذا العلم وغيره من العلماء.
واعلم يا أخي أن الكواكب ملائكة الله وملوك سمواته، خلقهم لعمارة عالمه وتدبير خلائقه وسياسة بريته، وهم خلفاء الله في أرضه، يسوسون عباده ويحفظون شرائع أنبيائه بإنفاذ أحكامه على عباده لصلاحهم وحفظ نظامهم على أحسن الحالات.
واعلم يا أخي، أيدك الله، أنه لا يكاد يعرف كيفيات تأثيرات هذه الكواكب وأفعالها في جميع ما في هذا العالم من الأجسام والأرواح والنفوس إلا الراسخون في العلم البالغون في المعارف، والناظرون في العلوم الإلهية المؤيدون بتأييد الله وإلهامه لهم.
واعلم يا أخي أن أول قوة تسري من النفس الكلية نحو العالم ففي الأشخاص الفاضلة النيرة التي هي الكواكب الثابتة، ثم من بعدها في الكواكب السيارة، ثم من بعدها فيما دونها من الأركان الأربعة في الأشخاص الكائنة منها من المعادن والنبات والحيوان.
واعلم يا أخي أن مثال سريان قوى النفس الكلية في الأجسام الكلية الجزئية جميعا كمثال سريان نور الشمس والكواكب في الهواء ومطارح شعاعاتها نحو مركز الأرض .
واعلم أنه إذا اتفق في وقت من الزمان أن تكون الكواكب السيارة في أوجاتها وإشراقها، ويكون بعضها من بعض على النسبة الأفضل التي تسمى النسبة الموسيقية، سرت عندها تلك القوى من النفس الكلية، ووصلت بتوصل تلك الكواكب إلى هذا العالم، فجرى أمر الكائنات على أعدل مزاج وأطبع طبائع وأجود نظام.
وتسمى تلك الأحوال سعادة، وإن اتفق أن يكون الحال على ضد ما ذكرت كان الأمر بالضد، ولا يكون ذلك بالقصد الأول ولكن بأسباب عارضة، كما بيناها في رسالة الآراء والمذاهب في باب علل الشرور وأسبابها، فتعرفها يا أخي من هناك.
واعلم أيها الأخ، أنه ليس في معرفة الكائنات قبل كونها صلاح لكل أحد من الناس؛ لأن ذلك منغص للعيش، وإنما يراد هذا العلم ليترقى فيه إلى ما هو أشرف منه، ويعرف الشر الذي فيه بمعرفة الأسباب والعلل، فتتنبه النفس من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، وتنبعث من موت الخطيئة، وتنفتح لها عين البصيرة، وتعرف حقائق الموجودات وتتحقق أمر المعاد، فتزهد في الدنيا وتهون عليها مصائبها، ولا تحزن ولا تجزع إذا علمت موجبات أحكام النجوم والفلك، كما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات.» وتصديق ذلك قول الله تعالى: @QUR09 لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم.
واعلم أيها الأخ، أن هذه العلوم تنقسم على خمسة أقسام: أحدها علم الكيمياء الذي ينفي الفقر ويكشف الضر، والثاني علم أحكام النجوم الذي يدرك به ما كان ويكون، والثالث علم السحر والطلسمات التي تلحق الرعية بالملوك والملوك بالملائكة، والرابع علم الطب الذي يحفظ صحة الأجسام ويشفي نوازل الأسقام، والخامس علم التجريد تعرف النفس به ذاتها وتشرف بعد تجردها على مستقرها، وقد تكلمنا في رسالة لنا في النجوم بما هو كالمقدمة وما يحتاج إليه في معرفته قبل هذه الرسالة، وقد كان علم السحر والطلسمات تابعا لعلوم أحكام النجوم وتاليا له ومتعلقا به وعليه، والمنافع به كثيرة مشهورة، فقد سمع بخبر الطلسمات وكثرتها؛ فمنها خبر الذي كان الرأس ونقلها الزيتون والطلسم الذي للتمساح، وطلسم البق وطلسم الحيات وطلسم العقارب وطلسم الزنابير، وغيرهما مما يسمع بالأخبار عنه دائما من قوم، ولا يجوز عليهم التواطؤ في أوقات مختلفة وعلى وجوه متفرقة.
ومع هذا فلا بد مما يورد على هؤلاء المنكرين لهذا العلم والمكذبين لمن يدعي صحته من الشهادات بعض ما ذكر المتقدمون في كتبهم وسطروه من أخبارهم.
ويحكي من ذلك ما كان واضح الشهرة لا يخفى موضعه على طالبيه، ولا يكذب قائله حتى لا يجد السفهاء إلى تكذبينا سبيلا.
فنقول: إن أفلاطون الفيلسوف قد ذكر في المقالة الثانية من كتاب السياسة على علو في قدره أنه قال: إن جرجيس الذي في أهل مدينة أوروبا كان رجلا يرعى الغنم، وكان أجيرا لمتسلط كان في ذلك الوقت على مدينة أوروبا، وجاءت في ذلك الزمان أمطار وكان معها زلازل، فانشق موضع من الأرض وصارت فيه خسفة في الموضع الذي كان فيه ذلك الرجل الذي يرعى الغنم فيه.
فلما رأى الرجل تلك الخسفة عجب منها ونزل إليها، فرأى هناك أشياء عجيبة، وكان مع سائر ما هناك فرس معمول من النحاس في يده كوى مشقوقة، فاطلع في جوف الفرس من تلك الكوى فإذا في جوف الفرس إنسان ميت، مقداره فيما يراه منه أكثر من مقدار إنسان، ولم يكن عليه شيء أصلا سوى خاتم ذهب كان في يده، فأخذ ذلك الخاتم وخرج من الخسفة.
واتفق أن الرعاة اجتمعوا على ما جرت عادتهم من الاجتماع شهرا فشهرا؛ لينهوا إلى الملك أمر أغنامه، وحضر معهم الراعي وهو لابس لذلك الخاتم، فبينا هو جالس مع سائر الرعاة إذ عرض له أن ضرب بيده إلى خاتمه فأداره في أصبعه، حتى صار فصه إلى داخل مما يلي راحته، فلما فعل ذلك خفي عن الجلوس الذين كانوا معه حتى لم يتبينوا أنه جالس ولم يبصروه، وجعلوا يتكلمون في أمره مما يدل على أنه قد انصرف عنهم.
وكان هو يتعجب من ذلك الكلام، ثم إنه ضرب بيده إلى خاتمه فأدار فصه إلى خارج، فلما أداره صار القوم يرونه.
فلما فهم ذلك ضرب خاتمه ليرى هل فيه هذه القوة فوجده يعرض منه ذلك الأمر بعينه؛ أنه متى أدار فصه إلى داخل استتر واحتجب عن البصر، ومتى أداره إلى خارج ظهر وأبصره الناس.
فعند ذلك لما اختبر بهذا من أمره في خاتمه تلطف واحتال أن يصير في عدد الرسل إلى الملك، فلما وصل إليه قتله وصار معه الآن.
تأمل هل ترى أن أفلاطون الفيلسوف - مع فضله وعقله - كتب هذه الآية في كتاب من كتبه وهو الذي صنفه في السياسة، وهو مع هذا يجوز أن يعتقد ويظن أنه يرى أن هذا الطلسم على الخاتم الذي تقدم ذكره قد عمل للحكمة التي بعدها غاية، حتى صار في قوة الفعل إلى الحد الذي ظهر منه في العمل الذي يعمل به، وإنما السبب الذي يدعو هؤلاء الأحداث إلى التكذيب والإنكار لمثل هذا هو ما فيهم من الكسل وقلة الرغبة في التعلم، والأنفة وقلة الحياء، يحمل هؤلاء على ما يفعلونه من الجحود لهذه العلوم وتكذيب من قال بصحتها؛ لأنهم يجدون هذا أسهل عليهم وأخف مؤنة.
وإياك، أيها الأخ، أن تسلك سبيلهم وتحتذي مثالهم أو تشاركهم أو تتشبه بهم، بل يكون الطلب أبدا فكرك وإصابة الحق غرضك، وفي اقتناء الحكمة ودركها شهوتك؛ لتسعد بذلك وتفوز مع السعداء والشهداء.
ثم قد حكى ابن معشر جعفر بن محمد المنجم قال في كتاب مذاكرته لشادب بن بحر: حدثني محمد بن موسى أنس الخوارزمي. قال: حدثني يحجب بن منصور المنجم، قال: وصلت أنا وجماعة من المنجمين إلى المأمون وعنده جماعة، وإنسان قد تنبى ونحن لا نعلمه، وقد دعا بالقضاة ولم يحضروا بعد، فقال لي ولمن حضر من المنجمين: اذهبوا فخذوا طالعا لدعوى إنسان بشيء يدعيه، وعن قوى ما يدل عليه الفلك من صدقه وكذبه، ولم يعلمنا المأمون أنه متنبئ، فجئنا إلى بعض الصحون فأحكمنا الطالع وصورناه؛ فوقعت الشمس والقمر في دقيقة واحدة في الطالع، والطالع الجدي، والمشتري في السنبلة ينظر إليه ، فقال كل من حضره غيري: ما يدعيه صحيح.
فقلت أنا: هو في صحة، وله حجة زهرية عطاردية، وتصحيح الذي يطلبه لا يصح ولا يتم له ولا ينتظم.
فقال: من أين؟ قلت: لأن صحة الدعاوى من المشتري أو تثليث الشمس أو من تسديدها إذا كانت الشمس غير منحوسة، وهذا الحال هبوط المشتري والمشتري ينظر إليه نظر موافقة إلا أنه كاره لهذا البرج والبرج كاره له، ولا يتم التصحيح والتصديق، والذي قالوا من حجة زهرية عطاردية ضرب من المخرفة والتزويق والخداع.
فتعجب من ذلك فقال: أنت لله درك!
ثم قال: أتدرون من الرجل؟ قلت: لا. قال: هذا الرجل يزعم أنه نبي!
فقلت: يا أمير المؤمنين، فمعه شيء يحتج به؟ فسأله فقال: معي خاتم ذو فصين، ألبسه فلا يتغير مني شيء، ويلبسه غيري فيضحك ولا يتمالك نفسه من الضحك حتى ينزعه، ومعي قلم شاني آخذه فأكتب به ويأخذه غيري فلا ينطلق إصبعه.
فقلت: يا سيدي، هذه الزهرة وعطارد قد عملا عملهما. فأمره المأمون أن يفعل ما قال ففعله، فعلمنا أنه من علاج الطلسمات.
فما زال به المأمون أياما كثيرة حتى تبرأ من دعوى النبوة ووصف الحيل التي احتالها وعمل بها في الخاتم والقلم، ثم وهبه المأمون ألف دينار.
ثم لقيناه بعد ذلك فإذا هو من أعلم الناس بعلم النجوم.
فأما ما قد ذكر في القرآن في مواضع كثيرة من ذكر السحر وتكرير ذكره فمن ذلك ما قيل في سورة البقرة قال: @QUR044 وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله.
فإذا كان قد بلغ من قوة السحر وعلمه أن يفرق بين المرء وزوجه فأي شيء بقي بعد هذا؟ أو هل في ذلك الخبر شك بعد ما نطق به القرآن وعرفنا منه صحته؟ وقد قال عز وجل في سورة المائدة: @QUR017 وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين وقال عز من قائل في سورة الأنعام: @QUR016 ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين وقال، عز وجل، في سورة الأعراف: @QUR072 قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم * يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون * قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين * يأتوك بكل ساحر عليم * وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين * قال نعم وإنكم لمن المقربين * قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين * قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم.
ألا ترى أن القرآن يستعظم سحرهم! وقال تعالى في هذه السورة: @QUR03 وألقي السحرة ساجدين وفيها أيضا: @QUR012 وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين وفي سورة يونس: @QUR026 أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين، وقال تعالى في تلك السورة: @QUR010 فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين، وقال تعالى في سورة بني إسرائيل: @QUR019 نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا. وفيها: @QUR019 ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا، وقال تعالى في سورة طه: @QUR023 قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى * فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى، وفيها: @QUR09 إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما، وفيها: @QUR09 فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى، وفيها: @QUR014 إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى.
وهذا أيضا أيها الأخ، أيدك الله، كما تسمع وترى ما ذكر القرآن من تكرير ذكر السحر في هذه المواضيع أتراه باطلا لا أصل له؟ أعوذ بالله أن نسحر أحدا من الخلق وأن نقول هذا، الآن نرجع أيضا إلى ما عليه أصحاب الشرائع الأخر وما في كتبهم التي يتدينون بها ويشهدون بصحتها، فمنها ما في التوراة مكتوبة ما يعتبره ويقر بصحته أمتان من الأمم وهم اليهود والنصارى جميعا، والتوراة موجودة بأيدي اليهود والنصارى باللغة العبرانية وباللغة السريانية وباللغة العربية لا خلاف بينهم فيها، بل هم متفقون على صحتها وحقيقة ما فيها، وفيها مكتوبة في قصة عيصو قال: «كان عيصو بن إسحاق صاحب صيد، وكان كلما خرج إلى الصيد خرج إليه ابن النمرود بن كنعان فيقول: صارعني على أني إن غلبتك أخذت صيدك، وكان على ابن النمرود قميص آدم خرج معه من الجنة، وكان فيه صور لكل شيء خلقه الله من الوحش والطير ودواب البحر، وكان آدم إذا أراد صيدا من شيء من الوحش أو غيرها وضع يده على صورته في القميص فيبقي ذلك الشيء حائرا واقفا أعمى حتى يجيء فيأخذه، فكان كلما صارعه أخذ ابن النمرود عيصو ابن إسحاق فضرب به الأرض وأخذ صيده.
فلما طال ذلك على عيصو شكا إلى أبيه إسحاق ما يلقى من ابن النمرود، فقال له إسحاق: صف لي القميص. فوصف عيصو فقال له إسحاق: هذا قميص آدم، ولن تغلبه ما دام عليه، فإذا جاءك يطلب المصارعة فقل له: حتى تنزع القميص. فصارعه إذا فعل ذلك فإنك تغلبه، فإذا غلبته فخذ القميص وعد.
فخرج عيصو يريد الصيد، فجاءه ابن النمرود كعادته وطلب المصارعة، فقال له عيصو: تنزع ثيابك ثم نتصارع، فنزع ابن النمرود القميص، ونزع عيصو ثيابه، ثم اصطرعا، فضرب عيصو به الأرض وجلس على صدره، ثم وثب عيصو وأخذ القميص والصيد ومضى في الهرب يعدو، وأعجز ابن النمرود المشي في البرية، فقال: يا بني، ما دام القميص عليك فلن يغلبك، فإذا مضيت إلى الصيد فأردت أن تصيد شيئا فضع يدك على صورته في القميص فيقف لك حتى تأخذه.
وكان عيصو إذا أراد صيدا من الوحش وضع يده على صورته في القميص فيقف أعمى لا يبصر حتى يجيء عيصو ويأخذه.
فمن ها هنا كان يدخل يده ويصيد بالقميص، وهذا، أيها الأخ، خبر مشهور يعرفه جميع من يقر بصحة التوراة من اليهود والنصارى ولا يجحدونه البتة، وأيضا في التوراة في السفر الثاني منها في قصة يعقوب مع لابان خاله قال: فلما ولدت راحيل يوسف قال يعقوب للابان: وجهني وسر حتى أنطلق وأذهب إلى بلدي ومكاني وأرضي مع أولادي، وأعطي نسائي الذين وعلت معهم لك، فقال لابان: أخبرني كم أجرك أعطيك؟ فقال يعقوب: أربع، وأرعى غنمك وأحفظها بالليل والنهار وأسعى في جميع غنمك، وأعزل كل أحمر سمين، وكل أبقع وكل حمل ملمع ببياض في سواد، وكل أملح بياض من الغنم، وكل أصلح أبيض من المعز، فليكن ذلك أجري، وأشهد على هذا الطعن اليوم لكن بعد هذا اليوم على أغبر وأملح بياض وأحمر من المعز أو ملمع بسواد وبياض من الضأن فهو أجري، فقال: لا بأس، نعم. ليكن كما ذكرت. وعزل في ذلك اليوم التيوس الملح ببياض، وكل شيء في غنمه أصلح أو أبقع أو أحمر وكل ما كان فيها بيضاء، وكل ملمع بسواد وبياض فجعلها على أيدي ولده. وفرق يعقوب بين مرعى غنمه ومرعى غنم لابان، وجعل بينهما مقدار مسيرة ثلاثة أيام، وغنم كل واحد منهما على حدة في موضع. وكان يعقوب يرعى سائر غنم لابان التي بقيت، وأخذ يعقوب قضبا رطبا من لوز وداب، وقشر منها قشورا وجعل من البياض في القشور، وركز القضبان التي قشرها في مجرى الماء من المستقى في موضع ترد منه الغنم للشرب فيستقبل الغنم فتفرح وتتحرك أولادها في بطنها إذا رأت القضبان تنتج الغنم جلحا وملحا؛ ففي كل سنة أول ما يحمل الغنم متقدمة جعل يعقوب يركز تلك القضبان في المأمن المستقى ولا يركزها في مؤخر الغنم، فاستغنى الرجل وكثرت ماشيته.»
فهذا أيضا في التوراة ما لا يرفعه أحد، فاعرفه أيها الأخ ، ثم أيضا في كتب أخبار ملوك بني إسرائيل التي تجري عند اليهود مجرى التوراة يذكر أنه كان فيهم نبي يقال له شمويل، وهذا مشهور في الأنبياء عليهم السلام وله كتاب، والنصارى واليهود معترفون مصدقون بنبوته وجلالة قدره، وكتابه معهم، ويذكر في الكتاب أنه نصب لليهود ملكا يقال له طالوت، وأمره الله تعالى بقتل العماليق ففعل، إلا أنه خالف من قبل مواشيهم، وسقط عن مرتبة الملك، ومسح له داود سيرا، ومات شمويل وأقبل طالوت على قتل السحرة والعرافين، فقتل من قتل وهرب من هرب، وأقبل أهل فلسطين لمحاربته فجمع العرافين لهم ودخل الرعب من كثرة الجيوش المنصبة عليه، ولم يجد من يسكن إلى قوله كعادته من نبي ولا ساحر ولا عراف ولا حاكم، فقلق لذلك وقال لخاصته: اطلبوا لي ساحرا أسأله عن عاقبة أمري؟ فدل على ساحرة فسكن إليها وسألها أن تحيي له نبيا يسأله، فسألته: أي الأنبياء يختار أن تحييه؟ فاختار شمويل فأحيته، وفزعت عند رؤيته فصرخت، فقال لها طالوت: لا تفزعي، ماذا رأيت؟ فقالت: رجلا شيخا بهيا مثل ملائكة الرب مشتملا ببرنس قد صعد من الأرض، فعلم طالوت أنه شمويل أرسله الله فدخل إليه وسجد بين يديه، فقال شمويل: يا طالوت لم أرجعتني وأحييتني؟ قال: لما ضاقت بي الأرض من أهل فلسطين ومحاربتهم إياي وزوال عناية الله عني ومنعه الأحلام مني، فدعوتك لأشاورك في أمري. فقال شمويل: إن الله تعالى قد نقل الملك إلى صاحبك داود وغضب عليك وعلى بني إسرائيل بما فعلتموه في مواشي العماليق، وهو ناصر فلسطين عليكم ومديلهم منكم فتصير معي غدا في الأموات. فخر مغشيا عليه، وعرفته الساحرة فأقبلت إليه ومن كان معه، ولم يزالوا به حتى أفاق وأضافهم ليلتهم وانصرفوا مصبحين، فالتحمت الحرب فوقعت الهزيمة على العبرانيين، فأكثر القتل فيهم، وقتل طالوت ثلاث بنين، واتكأ هو على حربته فأخرجها من ظهره، فاجتمع بنو إسرائيل على تمليك داود فدافع بهم من ناوأوهم.
فهذا كله أيضا، أيها الأخ، قد وردت به الأخبار فمنها ما هو من جهة الفلاسفة ، ومنها ما هو من جهة الأنبياء وكتب الشرائع، ومنها ما هو مذكور في القرآن من ذكر السحرة بما قد حكيناه فيما تقدم.
أفترى هذا كله كذب لا أصل له، وسخف وحماقة ممن يذكره عند هؤلاء المتعجبين المنكرين بأنفسهم المكذبين بما يسمونه - بجهلهم - تكبرا منهم وتيها وصلفا؛ لقلة عقولهم وقصر علومهم وقصورهم عن نيل العلوم الحقيقية، فيجدون الإنكار والتكذيب أخف عليهم؟! والله المستعان، ونسأله حسن التوفيق والاختيار، ونقول: إن آخر ما سمعنا عمن ادعى علوم الطلسمات وأفعالها ممن نقلت إلينا أخبارهم وبلغنا آثارهم اليونانيون، وهؤلاء لهم عند الناس أسماء مختلفة؛ فمنها الصابئون والحراسون والحتوفون، وقد كانوا إذا أخذوا أصول علومهم عن السريانيين وعن المصريين على حسب تنقل الصنائع والعلوم في البلدان بما يحدث لها من السياسات والأديان، وقد كان من رؤساء أوائلهم أربعة: أولهم أعادمايون وهرمس ولومهرس وأراطس، ثم تفرقت جيوشهم إلى الفوثاغرية والأرسطانونية ومن الأفلاطونية والأقعوروسية.
وهم يزعمون أن العالم متناه في مساحة إلا أنه كري الشكل، ويزعمون أن ليس لوجوده مبدأ ثان، وإنما هو متعلق بالباري سبحانه وتعالى تعلق المعلول بعلته.
وهم يزعمون أن العالم الأرضي أيضا تتم أموره بأشياء: أحدها المادة القابلة للمزاج والتأليف وهي العناصر الأربعة، والثاني النفوس المحركة والساكنة في أشخاصه، والثالث تحريك العالم السماوي للعناصر الأربعة والمتولدات منها حتى تتهيأ لقبول تأثيرات الأنفس من التحريك والتسكين والجمع والتفريق والحر والبرد والرطوبة واليبس التي تمكن الصانع من تأثيرات الصنعة في المادة لكل مصنوع.
والرابع: حفظ الإله الأعظم سبحانه وتعالى لقوى جميع الموجودات عليها وإمداده بالمعونة لها وتتميمه لأغراضها ومقاصدها وقسمة الأمور الموجودة على الكواكب السبعة.
وزعموا أن الكواكب الثابتة مقسومة على الكواكب السيارة ممتزجة من قواها ومعينة لها على أفعالها.
وزعموا أن الفلك التاسع المماس لفلك الكواكب الثابتة وهو المنتهى لفلك البروج مصور بصور تخصه.
وإن كل درجة من درجاته تنقسم قسمين: أحدهما في الشمال والآخر في الجنوب، فيها صور قد وفت عليها المراعات لتأثيراتها العارضة عليها على طول الزمان على ما يذكره أصحاب الطلسمات.
ولما قسموا الأمور الأرضية على الكواكب السبعة ورتبوها تحت تدبيرها والتأثير فيهاجروا أيضا على ذلك السبيل في أمر الجهات والأقاليم والنواحي والمدن والرساتيق.
وأما النفوس فعندهم أن منها ما لا يتعلق بالأجسام ولا يسكن الجنة بوجه من الوجوه؛ لعلوها عليها وارتفاعها عن أوساخها وأقذارها.
ويسمون هذه النفوس الإلهية، وهي عندهم تنقسم قسمين: أحدهما خير بالذات ويسمونهم الملائكة، ويتقربون إليها اجتلابا لخيرها.
والقسم الثاني: شرير بالذات ويسمون أشخاصه الشياطين، ويتقربون إليها استكفاء لشرها، وجعلوا لكل واحد منهم دعاء مقررا وبخورا معلوما وسياقة عمل يتوصلون به إلى ما يرومونه منهم.
ونفوس أخرى متعلقة بجثة الكواكب لا تفارقها، وهي مع ذلك تتعلق وتنصرف في العالم الأرضي صنفين من التصرف: أحدهما بطبائع أجسادها كما ذكر في كتب أحكام النجوم.
والثاني بنفوسها ونفوس أخرى متعلقة بالأجساد لا تفارقها ولا تصبر عنها إلا بمقدار ما تفارق الجثة لفسادها.
ومن هذه الطبقة من النفوس نوع يسكن الجثة الإنسانية ويتصرف بها وفيها ولا يفارقها إلا مفارقة النفس سائر أشخاص الحيوانات والنباتات ومضيها إلى بحر طوس؛ يعني كرة الأثير؛ لتعذب هناك إلى أن تطلب الانقلاب منه والهبوط إلى مادة تصلح لسكانها أو تتمكن من إدراك نجاتها.
ويزعمون أنهم يقدرون على معرفة من هذه سبيله؛ وذلك بأن يشاهدوا أخلاقه وعاداته، فإذا وجدوه شبيها بالبهيمة في تصرفه مع الطبيعة من غير فكر ولا روية ولا قبول علم ولا فكرة ولا نصرة دين أو تصفح لمذهب حكموا عليه بأن نفسه نفس بهيمة لا تصلح إلا لعمارة الدار وإقامة نوع الإنسانية فقط.
والنوع الآخر: نفوس يمكن فيها أن ترتقي إلى الأفلاك وتسكن بها وتلتذ بها، وفيها عند صحتها ويمكن أن تهبط عنها وتسكن الجثة وتتعلق بها عند مرضها وتلتذ وتعذب بها وفيها.
وهذه النفوس الإنسانية البشرية، وهم يزعمون أيضا أنهم يمكنهم أن يعلموا إلى ماذا تئول إليه عاقبة الإنسان بعد وفاته إذا فارق الدنيا وهو على ما يشاء قدير من حاله.
وذلك أن لكل واحد من الآراء والديانات تصنيع بالمعتقد له إلى صنف ما من صنوف الأخلاق وتحرك إلى فن من الفنون في الأعمال، كالمذهب الذي يشتد توحش أهله وتقشفهم، والمذهب الذي يكثر الجدل فيه والمنافرة، والمذهب الذي يكثر فيه قتل النفوس وأخذ الأموال، والمذهب الذي يفرط فيه ذبح الحيوانات وأكل اللحوم إلى غير ذلك من المذاهب الآخذة من الانهماك في شيء من الأعمال؛ فإن هذه الأعمال إذا كثرت من الإنسان ألبسته من الأخلاق بما توجبه عادته التي قد دام عليها وعرف بها.
وزعموا أيضا أن كل صنف من أصناف الأخلاق وإن كان موجودا في الناس فإنه في نوع ما من أنواع الحيوانات أقوى وأظهر؛ وذلك أن الشجاعة في الأسد، والختل في الذئب، والروغان للثعلب، والحرص للخنزير، والسلامة للحمار، والذلة للبعير، والسهو للوزغة، واللجاجة للذبابة، والخنا للدب، والولع للقرد، والظلم للحية، والسرقة للعقعق، والاختطاف للبازي، والفزع للأرنب، والاحتضار للظبي، والغلمة للتيس، والزهو للطاووس، والغدر للغراب، والنسيان للفأرة، والاحتكار للنملة، والممارسة للكلب، والمواثبة للديك.
وأشباه ذلك من لوازم الأخلاق لأصناف الحيوانات، وكل خلق من هذه الأخلاق مشترك فيه عدة من أنواع الحيوانات، ويختلف فيه بالقلة والكثرة فيكون كل مقدار من هذه مقصورا على نوع من الأنواع.
فإذا كان الإنسان - وهو على حد ما من تلك الحدود - انتقل إلى ذلك النوع الذي حظه من ذلك الخلق المقدار الذي عليه قد مات، ويشبه أن يكون هذا الملك عكس مسلك صاحب الفراسة؛ لأن هذا المسلك يتطرق فيه من الخلق إلى استخراج الأخلاق وفي كل جثة تحلها وطينة تخصها، يخلط لها النعيم بالعذاب والألم باللذة؛ ليكون ذلك خدعة لها ورباطا بطول مدة تعلقها بها حصلت فيه من محبسها إلى أن يستوفي منها ما حصل عليها وتفي ما لها، وما الله بظلام للعبيد.
فهذا الذي قد ذكرته كله وحكيته عنه من أصولهم ومقدمات علومهم في تصحيح مذهبهم في السحر والطلسمات.
وإن كنت تركت أكثر مما ذكرت وأسقطت أكثر مما حكيت؛ تجنبا للإكثار وطلبا للاختصار، فإني تركت ذكر ما عندهم في ذلك مما يجري مجرى ما قد ذكر في كتاب الخواص كفعل المغناطيس وغيره من الخواص، فإني تركته لظهوره، غير أني أذكر جملة أخرى لتقف منها أيها الأخ، أيدك الله، على جميع أغراضهم وتصور أحوالهم في مطلوبهم، وأنهم أيضا زعموا أنهم لما استقرت عندهم هذه المقدمات وأنسوا بها وطال خوضهم فيها فرعوها وبنوا عليها، وقالوا: فإذا كان هذا الذي تقدم ذكره مستقرا مستمرا، وكانت الكواكب والنفوس المستعلية على الأجسام بهذه الحال من العلم والقدرة، وكانت هذه هي المواتية لنا والمستعلية علينا، فإن الحاجة تضطرنا إلى التقرب إليها والتضرع لها في إصلاح ما فسد فينا، وتسهيل ما عسر علينا، وتسديد ما عدل عن الصواب من أفكارنا وآرائنا؛ ليحصل لنا بذلك أمران: أحدهما طيب العيش في الدنيا، والثاني التمكن من الإخلاص إلى الآخرة.
وكانوا إذا أرادوا التقرب إلى كوكب أو إلى نفس منها عملوا الأعمال التي قد وقع لهم أنها موافقة لطبيعته، وسألوا عند ذلك حاجتهم التي هي داخلة تحت قدرته ويقولون: إنهم إذا عملوا صنفا من أصناف الأعمال الطبيعية وتقربوا بها إلى الكواكب المراعي لها من غير تعرض لشيء مما يتعلق على أحكام النجوم؛ فإنه يكون التأثير عنه في قضاء الحاجة ضعيفا لانفراد ذلك الكوكب منها بالإرادة فقط.
وهكذا إذا عملوا وسلكوا مسلك الاختيارات النجومية في التماس الحاجة من غير مراعاة الأعمال الطبيعية كان التأثير في قضائها ضعيفا أيضا، بل لا يكاد يتم في أكثر الأمر لانفراد الكوكب فيها بالطبيعة فقط كما تسمع وترى كثيرا ممن يتعاطى ذلك ويطلبه بحمله من غير وجهه، ويرومه من غير جهته، من البله والعوام القليلي المعرفة بهذا الأمر، الجهال بأصول هذه الصناعة؛ أعني صناعة الطلسمات والسحر، ويزعمون أنهم إذا جمعوا بين الأمرين وسلكوا في طلب حوائجهم السبيلين اجتمعت لهم فيها طبيعة الكوكب وإرادته وكان ذلك أوكد السبب وأحمد في الطلب وبلوغ الغرض.
ويزعمون أن ذلك العمل إن صدر عن سريرة مدخولة ونية مضعوفة جرى مجرى العبث والولع وسقط الانتفاع به، وربما كان داعيا إلى العكس له والمضرة فيه وبه، وكانوا ينظرون إلى المدن التي في قسمة كوكب ما من الكواكب على ما أدتهم التجربة إليه كما هو موجود مذكور في كتب أحكام النجوم فيميزونها وينظرون أيتها في ولايته إذا كانت في شرفه، وأيتها في ولايته إذا كانت في بيته، وأيتها في ولايته إذا كانت في جده، وأيتها في ولايته إذا كانت في وجهه، فإذا تميز لهم الاستقرار لأحوالها والتصفح لحوادثها انتظروا حصول ذلك الكوكب في بعض تلك الحظوظ؛ فابتدءوا ببناء هيكل لذلك الكوكب لتلك المدينة التي ذلك الحظ مقصور عليها، وصوروا معه مراعيه من الكواكب والصور التي تكون في درجته، ووضعوها في ذلك الهيكل وسنوا له سنة أعمال، وثبتوها في دستور يتركونه عند سدنته ويضيفون إليها ذكر الأمور التي تصلح أن يسألها إذا كان في ذلك الحظ من حظوظه مما هو داخل تحت قسمته، وجعلوا ذلك اليوم من كل سنة عيدا لذلك الكوكب في ذلك الهيكل، فكان الإنسان من عامتهم إذا عرضت له حاجة ما استغنى فيها فسأل عنها في حيز؛ أي الهيكل، فإذا عرفوه نذر لذلك الهيكل نذرا يليق به، وخرج به إليه في يوم عيده وفعل الأفعال المسطورة له وسأله حاجته.
والمثال في ذلك تمييز الحوائج أن الشمس مثلا إذا كانت في الحمل - هو شرفها - جعلت في درجة الطالع، وكانت الحوائج التي يمكن أن يسحر بها إنما هي ما كانت من الأمور في قسمة البرج الخامس من الولد، واللذة والفرح بسبب برج الأسد الذي هو الخامس من طالعها، فإذا كانت في الأسد فجعلت في درجة الطالع كانت الحوائج التي تمكن أن يسحر لها، إنما هي ما كانت من الأمور متعلقة نفسها بالديانات والربانيين والقضاة ونحوها من الأسفار بسبب برج الحمل الذي هو شرفها، وهو التاسع من الطالع، والقمر إذا كان في الثور الذي هو شرفه وجعل في الطالع فإنما يتم من الحوائج ما كانت في القسمة الثالثة من الإخوة والأخوات والقرابات والأسفار القريبة؛ بسبب السرطان الذي هو الثالث من الطالع، وإذا كان في السرطان وجعل في الطالع، فإنما يتم به الأمور وتقضى به الحوائج ما كانت في قسمة الحادية عشرة من الرجاء والسعادة على ذلك سائر حظوظ الكواكب، وجعلوا الكواكب السيارة من الهياكل بحسب ما أوجبه عدة حظوظها، وكانت للشمس منها عدة أشرافها.
قالوا: وللقمر عدة أشرافها أنبياء النواميس والسنن، وكذلك لبقية الكواكب السيارة، وزعموا أن التجربة أدتهم إلى ذلك وإلى معرفة قوى تأثيراتها؛ فمنها «كلب الجبار» وهو الشعرى العبور، ومنها «الأورون» وهو الجدي، ومنها «هروس» وهو الرامي، ومنها «السهى» وهو الكوكب الصغير الذي في بنات الشعرى الكبرى، وعملوا أيضا هياكل أخرى كأنها النفوس المجردة وأجروها مجرى الكواكب والحوائج: منها «الفلوطي» وهو الملك الموكل بالجحيم والهاوية، ومنها «لفوسدور» وهو الملك الموكل بالبحر، ومنها «للموجاس» وهو الملك الموكل بالرياح، ومنها «لميس» وهو الموكل بالروائع العارضة من الجن، ومنها «الفرطوس» وهو الملك الموكل بالأمواج إلى غير ذلك مما تخيلوه، فتمت لهم بذلك سبعة وثمانون هيكلا، ثم عملوا على هذا الوجه من العمل هيكلا في وقت كانت الكواكب السيارة كلها في خطوطها، وقسموها قسمين: فجعلوا أحدهما للرجال والآخر للنساء، وفي كل واحد من قسميه بيت عظيم ليس في حيطانه نقب ولا في بابه شق، حتى إذا أطبق بابه لم يبق منه شيء من الضوء البتة، وجعلوا بابه مما يلي الجنوب وصدره مما يلي الشمال، وصوروا بأسمائها البروج الاثني عشر، وعملوا صور الكواكب السيارة كل واحد منها معمول من المادة الموافقة كالشمس من الذهب، والقمر من الفضة، وزحل من الحديد، والمشتري من الزئبق، والمريخ من النحاس، والزهرة من القلعي، وعطارد من الأسراب.
وجعلوا كل واحد على صورته التي يكون عليها في برج شرفه مما هو مبين في كتب أحكام النجوم، وبين يديها مطرح لطيف عليه سبعة أقراص جواري، قد وضعت على مثال المرامي ووجهها إلى التماثيل، وعلى كل واحد منها مجهود حربة معمولة من طين أحمر، كل واحد منها على اسم كوكب من الكواكب السبعة والقريبة من الأصنام للقمر، ولها دور واحد: البعيد منها لزحل، ولها سبعة أدوار، وكل واحد منهن، فأدوارها على مرتبة كونها، وفي كل واحدة منهن مجمرة ولها بخور مفرد؛ فالتي للشمس العود، والتي للقمر الكلية، والتي لزحل الميعة، والتي للمشتري العنبر، والتي للمريخ السندروس، والتي للزهرة الزعفران، والتي لعطارد المصطكي، وعن شمال الكواكب إبريق شراب وثلاثة قضبان طوال من خشب الطرفا، قد قطعت من شجرتها قبل صياح الديك، وسكين حديد نصابها منه، وخاتم حديد فصه منه، لطيف في قدر الظفر منقوش عليه صورة جرجاس رئيس الأبالسة، فإذا حضر عند ذلك، وهو هيكل جرجاس، وفيه يدخلون أحداثهم وجواريهم إلى دينهم، وفيه تذبح الديكة، وفيه تلاوة السرين اللذين سنذكر حاليهما فيما بعد، فيأتي رئيس الكهنة، فيدخل إلى بيت من الرجال، ويقعد على ذلك المطرح يحاذي المادة قبل غيبوبة الشمس، ويطبق الباب، والسرج تشتعل والدجى تفتر، وهو جاث قد افترش رجله اليسرى ونصب اليمنى، ووضع إبهامه وسبابته ووسطاه من يده اليسرى بالأرض، ورفع مثلهن من يده اليمنى، وأقبل يقول في ذلك الوقت قبل صياح الديك قولا هذا معناه: يا جرجاس الجراجسة، وإبليس الأبالسة، وكبير الشياطين، وعظيم الجن أجمعين، أسألك وأتضرع إليك، وأطرح نفسي بين يديك، عالمة أنه لا يخلصني إلا رضاك، ولا ينجيني إلا مداراتك إذ كنت مني جاريا مجرى الحس، وساكنا مسكن النفس، ومتصرفا فيما تحت شعاع الشمس.
أخلاطنا بك مثورة، وأعضاؤنا مختلفة، وخلقتنا مشوهة، وأفكارنا مبلبلة، وأقدامنا مزلزلة.
وقد عزمنا في صباح ليلتنا هذه على إدخال بعض أحداثنا في دعوتنا وإسماعه سر ملائكتنا، فاحضر معنا واشهد لنا وعلينا، واصرف شرك وبليتك غدا، واطرد ذوي المكر والخداع من أصحابك عن موقفنا.
وأنا أقرب إليك وأذبح بين يديك عدوا من أعدائك أزرق مربيقا أفلق، قد طال ما عاداك بطبعه، وكان ذلك بحمده وتسنم إلى بنا الحرار، وتسلق إلى غصون الأشجار، وصوح في وجوه الأشجار، وصفق بصفيق السماوية والإنذار، فارتاع له جنابك، وتلجلج من خوفه لسانك، ودبرت بإقباله هاربا عنه، ونفرت بنفوره مذعورا منه، وأجعل لك ذلك رسما مرسوما وقانونا معلوما في كل حدث أسمعه سري وأحركه لك في شيء تصلح به أمري. حتى إذا صاحت الديكة أمسك عن كلامه وأقبل على ما ينتفع به من نوم أو غيره، فإذا أسفر الصبح أقبل، وقد اجتمع من حضر من رجال أهل دعوته وحدهم، وجيء بالأحداث الذين يريدون إدخالهم الدعوة وإسماعهم السر فوقفوا على باب بيت السر، ويعرى أحدهم ويقبض على عضده كاهنان، فيدخلانه وهو مشدود بعصابة وهو يمشي القهقرى، حتى يصل إلى ذلك البيت إلى رئيس الكهنة، ومعه رجل يكفله، ويطبق الباب، والسرج تتقد، والمجامر تدخر، فيقول له رئيس الكهنة: أتحب أن تدخل في ديننا فتسمع ملائكتنا؟ فيقول: نعم. فيقول له: على أنك إن خرجت عن ديني أو أظهرت أحدا على سري أذل الله رأسك هذا الذي تحت قبضتي بين أصحابي، وأسقط إكليلك من ورائك! فيقول: نعم.
فيقول: لكن إن أقمت على ديني وحفظت سري فإن رأسك يكون بين أصحابك عاليا وإكليلك ثابتا.
ثم يقول لكفيله: أتكفل أنت على إقامته على ديني وحفظ سري؟ فيقول: نعم. فيضجعه الكاهن على ذلك البساط قدام المائدة على جانبه الأيسر، ويتلو على رأسه أسماء الملائكة المذكورة والمرتبة، وهي سبعة وثمانون اسما وجرجاس رئيس الأبالسة.
ثم بعد ذلك يقول: طوباك إذ صرت من أهل الاستماع لهذه الأسرار، وإن لم تكن لله طاهرا فإن الله يطهرك.
ثم يتناول تلك السكين التي وصفتها ليذبحه بها، فيتقدم كفيله فيقول له: فادفع إلي خاتمك رهنا عنه أنه يحفظ المناسك ويقيم على الدعوة ويكتم السر، فيدفع إليه خاتمه والديك.
فيقول الكاهن: فأنا إذن أقبل نفسا بدل نفس، وندبا بين يدي الشمس المحيية للنفوس وجرجاس رئيس الأبالسة.
ثم يترك الديك على عنق الغلام ويذبحه وهو يقول: يا جرجاس ملك الأبالسة اقبل هذه الذبيحة، واترك هذا الغلام لأبويه وللملائكة.
ثم يحمي ذلك الخاتم الحديد بالسراج ويكويه على ظهر إبهام يده اليمنى، وقد أمسك بها تسعة وتسعين، ويكويه ببعض تلك العيدان من الطرفا إلى صدره وجبهته كيا خفيا لئلا يظهر.
ثم يلبسه ثيابا جددا بيضا وخفا من جلود ذبائح الملائكة، ويشد وسطه بعمامة، ويعطيه فطور ملح يرسمه رسما مثلثا، وكذلك يفعل بسائر أصحابه.
وأما جمهور الناس فإنهم يكونون خارج بيت السر في الهيكل وما يليه، يقضون تفثهم ويوفون نذورهم ويذبحون قرابينهم من أصناف الحيوانات ومن الديكة لجرجاس رئيس الأبالسة، كما ذكر أفلاطون في كتابه المسمى «قاذون» من أن سقراط الحكيم معلمه أوصى عند موته فقال: اذبحوا عني ديكا في الهيكل فإنه نذر علي، فكانت هذه وصيته آخر عهده من دار الدنيا، ويأكلون لحوم سائر ذبائحهم لئن شاءوا كيف شاءوا إلا لحوم ديوك نذر السر؛ فإنها لا تأكلها إلا بروح الكهنة في بيت السر، حتى إذا فرغ رئيس الكهنة من الأخذ على الأحداث شرع في إسماعهم السر؛ وذلك أن لهم صنفين من الكلام كل واحد أطول من سور القرآن الطوال: أحدهما يسمونه سر الرجال والآخر يسمونه سر النساء، فسر الرجال لا يسمعه إلا الرجال، وسر النساء لا يسمعه إلا النساء، والسران جميعا متساويان في عدد الألفاظ والحروف.
وإن ألفاظهم جميعا إذا نثرت ثم نظمت نظاما تكون فيه كل كلمة أحدهما بين لفظتين من الآخر حدث منهما تأليفات كثيرة، وإنه يكون في جملة تلك التأليفات أربعة تأليفات كل واحد منها يتضمن قوانين وبراهين علم من العلوم الأربعة، التي أحدها الطب الذي تصح به الأجسام وتنفى به الأسقام والآلام ويتمكن من الانتفاع بسكني الدار.
وهكذا إذا علم ما لا يجوز أن يعلم من علم الطب من الشمومات والخواص التي هي قوى الأدوية من المعادن وغيرها.
فينبغي أن يصان أيضا هذا العلم عمن لا يستحقه ويمنع عمن ليس هو أهلا لاستعماله.
فإنه إذا علم العامي - الذي تقدم ذكره ووصفه من علم الطلسمات - ما لا يجوز لمثله أن يعلمه ولا يستعمله كانت الحال فيه كالحال التي حكاها أفلاطون الفيلسوف في كتابه في السياسات.
وقد تقدمت حكايتنا لذلك في صدر رسالتنا هذه من حال الراعي الذي قتل الملك وجلس في الملك مكانه من غير أن يكون له أهلا ولا مستحقا لذلك.
وقد كان من المعظمين عندهم: قولوس، وأسروا الروم ورثة السر «قلبه بوار»، وهي التي حرمت منع المعزى، وجعلتهن للقربان فقط خالصة وأن لا يقربهن حامل ولا يأكل لحومهن.
ويعظمون آروس، وصب الماء الذي سقط من الآلهة في أيام أسطرونيقوس، وخرج قاصدا إلى بلد الهند فخرجوا في طلبه فلحقوه وسألوه أن يرجع إليهم فقال لهم: إني لا أدخل بعد هذا بلد حران، ولكن أجيء إلى كاذي - ومعنى كاذي ها هنا هو مكان في شرق حران - وأتفقد مدينتكم.
وهم إلى اليوم يخرجون في يوم عشرين من نيسان من كل سنة لتوقع ورود ذلك الصنم، يسمون ذلك العيد عيد «كاذي»، فانتظارهم لورود هذا الصنم مثل انتظار اليهودي للمسيح. وهم يحفظون الجناح الأيسر من الديك الذي يذبح في بيت سر الرجال ويعلقونه على الحوامل وأعناق الصبيان على سبيل الحرز.
ومن رسومهم العامية أيضا استكثارهم من الأكل والشرب، وتوسعهم في النفقة في أول يوم من نيسان، وهو رأس السنة عندهم. فهذا ما عرفناه وسمعناه من الأخبار والدلائل على تصحيح الرأي في علوم النجوم، وما يتبع ذلك من علوم السحر وعلوم الطلسمات.
وأما الاحتجاج على كل حال فصلا فصلا، ومعنى معنى، وإقامة البرهان على دون ذلك ونصرته، فكتب القدماء والفلاسفة مملوءة به، وهو أكثر من أن نحصيه في كتاب واحد وفي رسالة واحدة.
فأما قوة الرقى والعزائم والوهم والزجر وما أشبه ذلك وتأثيراتها، فإن من شاهد الأفعال التي تورثها الأدوية والعقاقير في الأجساد وفي الأنفس المقارنة للأجساد من أصناف التأثيرات، وما قد تشاهده أيضا وتسمع به من تأثيرات بعض الأدوية والعقاقير والأحجار في بعض؛ كحجر المغناطيس في الحديد وجذبه، وجذب السقمونيا في الصفراء، وجذب الحجر الأرمني في السوداء، وحجر الشب ومنفعته لوجع المعدة إذا حمل عليها من خارج، ومنفعة ذيل الذئب للقولنج، ومنفعة الخيوط المخنق بها الأفعى إذا ألقيت على خارج من به ذبحة، ومنفعة عود الصليب من الداء الذي يسمى أم الصبيان، ومضرة الأرنب البحري في الرئة لأنه يقرحها، والزرانيخ تقرح المثانة، والمرداسنج إذا ألقي في الخل بدل حموضته بالحلاوة، وإذا ألقي في النورة سود البدن، وحجر المغناطيس الذي يجذب الحديد إذا هو دلك بالثوم بطل الفعل عنه، فإذا غسل بالخل عادت تلك القوة إليه ورجع إلى فعله. ومثل هذا كثير جدا يطول شرحه وتعديده، وقد ذكر منه كثير في كتب الخواص وجربه كله أو أكثره من ينشط من النار بتجربته، فقد شاهد هذه الأمور خاصة من الجمادات وكيف تؤثر التأثيرات الظاهرة بعضها في بعض، فقد رأينا تأثيرات النفس الناطقة في النفس الحيوانية من أصناف التأثيرات في قمعها لها وكسرها لقوتها، وما هو مذكور مسطور في الكتب المصنفة في إصلاح الأخلاق للفلاسفة وفي كتب الدين، وفيما ذكر من الوعد والوعيد، ومما تكسر به الأخلاق الرديئة والأفعال القبيحة من المقاومة لها بأضدادها من الأفعال الجميلة؛ كمن يقهر الحدة التي هي من قوى النفس الغضبية التي تسمى النفس الحيوانية بالحلم الذي هو من قوى النفس الناطقة، ويقهر العجلة بالأناة والشهوة بالعفة، وسائر الأخلاق الرديئة بالأفعال الجميلة المحمودة، ورأينا ما تؤثر أيضا النفس الناطقة في النفس الشهوانية، ولا سيما إذا استعانت الناطقة على الشهوانية بالنفس الحيوانية التي تسمى الغضبية بقهرها لها بها، وبقمعها حتى تنقاد لها وتذللها وتقيمها على الاعتدال في سائر أحوالها حتى لا تخرج عن العدل وعما توجبه السياسة الفلسفية والأوامر والنواهي الشرعية والسنن الدينية، حتى لا تدعها تخرج عن ذلك ولا تجاوزه إلى ما لا يحل في الشريعة ولا إلى ما لا يجوز في العدل عند الفلاسفة.
ثم قد رأينا أيضا ما تؤثر النفس الناطقة في النفسين البهيميتين؛ أعني الغضبية والشهوانية، اللتين في الحيوان بما قد استخرجته من الأسباب المؤثرة فيها كالزجر، وما تفعله من الزجر في نادي الحيوانات، كما يفعل الرائض بالخيل وتذليله لها للركوب، وغير ذلك، كما يفعله الفيال بالفيل من رياضته وتذليله، وغير ذلك مما يجذب به النفس الناطقة النفس البهيمية إلى تدبيرها وسياستها، وكما يفعل الصفير للخيل والبقر عند شربها والحداء للجمال وغيرها، وما يفعلونه إذا أرادوا حثها على السير أشاروا إليها بإشارات قد عودوها هي حتى تنقاد لهم إلى ما يريدونه منها، وما يفعلونه إذا أرادوا منها أن تقف وتمسك عن السير أمسكت ووقفت لهم، ونفوسها تقبل هذه الإشارات المختلفة على اختلاف طبائعها. والزجر للخيل والبغال والحمير غير الزجر للإبل والبقر والغنم، وكل جنس من هذه وكل نوع منها يراض بإشارة ما غير الأخرى، تؤثر فيه تلك الإشارة ويكون خاصة فيها، فتؤثر تلك الإشارات المختلفة في أنفس الحيوانات، وتقبلها منهم أنواع الحيوانات قبولا ظاهرا واضحا على اختلاف طبائعها، وتقهرها النفوس الناطقة وتجذبها إلى ما تريد منها على اختلافها، كاختلاف تأثيرات العقاقير على اختلاف طبائعها في الأعضاء المختلفة بالخواص التي فيها؛ فهذا أيضا دليل على أن الرقى والعوذ،[1] تعمل في الأنفس وتؤثر فيها على قدر جواهرها وطبائعها.
ثم إن الحكماء دلت على الخواص التي في العقاقير والأدوية على طبائعها، وأثبتت كل طبع وكل خاصية لماذا يصلح وينفع؟ ولماذا يضر ويؤذي؟ ولأي داء ينفع؟ ولأي عضو من الأعضاء يضر؟
كذلك أيضا قد دلت على هذا الرقى والعوذ والنشر، وأثبتت ما يفتح لكل شيء من الحيوان وما يخصه؛ مثل رقية قلم السرور ورقى الحياة، ومثل ما تؤثر رقية العقرب ورقية الزنابير وغير ذلك من الحيوان، ومثل ما يؤثر السحر في أنفس الآدميين وأجسادهم، وهو شيء يطول الشرح فيه، وقد حكينا فيما تقدم من رسالتنا هذه ما قد دل على صحة القول به وصحة العلم بالطلسمات، وفي بعض ما ذكرناه كفاية في الدلالة على صحة القول به وصحة العلم لمن وقع بما قلناه فيه. وأما هذه الرقى والنشر والعزائم وما يشاكلها فإنما هي آثار لطيفة روحانية من النفس الناطقة تؤثر في النفس البهيمية وفي الحيوان، فمنها ما يحركها ويزعجها ومنها ما يقمعها، ومنها ما يعمل فيها تأثيرات قوية أعمالا مختلفة؛ فيه إصابة بالعين وربما شجه وربما صرعه.
فقد رأينا كثيرا من يصرع الإنسان في أقل من ساعة إذا جلس بين يديه! وإنما ذلك أثر لطيف يبدر من نفس فيعمل في نفس أخرى، كما يبدر الشرر من النار فيقع في الأجرام فيحرقها، إلا أن الذي يبدر من النفس روحاني لطيف؛ لأنه يخرج من النفس اللطيفة ويعمل في لطيفة مثلها، والذي يخرج من النار هو أكثف منه على قدر كثافة النار، ويعمل في الأجرام الكثيفة ويكون سبب هذا الأثر - إذا نظرت وتصورت صورة المنظور إليه - في الفكر، والفكر هو أحد حواس النفس الناطقة، ومؤدى ما يحيط به إلى النفس بدر من النفس بادر فأثر في نفس المنظور إليه فصرعه.
وهذا موجود ظاهر في الملقوعين،[2] وكثير من الناس من يدفع هذا ولا يؤمن به ولا يصدقه، وهو شيء واضح مشاهد وما يسمعه دائما.
فيحكى عن قوم من أهل النهد أنهم يؤثرون في غيرهم بأوهامهم أشياء عجيبة ينكرها أكثر الناس، وبذلك يدفع السحر، كما حكينا في هذه الرسالة عنهم، ويدفع الرقى والوهم؛ لأن مثل هذا هو من اللطائف التي تشبه الغيب، ولكنه موجود، وفي الملقوعين خاصة ظاهر، وإنما يدفعه من يدفعه من جهة أنه قد تشبث بدعاوى كاذبة قد أصلتها أصحاب المخاريق الكذابين ودسوها فيما يشبه ذلك الجن، كما قد حكينا في صدر هذه الرسالة في معنى تكذيبهم بما يستمعونه من ذكر السحر وذكر عمل الطلسمات إذا سمعوا من بعض الطالبين له من الجهال الخائضين في طلبه، والمتعاطين له من غير معرفة به أصلا، ولا عرفوا أصوله؛ مثل إنسان أبله قليل العلم والعقل جميعا، أو امرأة رعناء جاهلة أو عجوزة، كذبوا هؤلاء ورفعوا أنفسهم عن أهل هذه الطبقة؛ إذ ظهر لهم نقصهم وجهلهم إذ وجدوا أكثر هذه الأمور التي قد أفسدها أولئك الجهال الكذابون باطلة، حكموا على جميعها بالبطلان؛ ولأن الذي هو من جهة الكذابين هو أكثر وأعم.
فأما الأصل الذي هو من الحكماء فهو صحيح وعن الأصول الصحيحة، وهو قليل جدا.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «السحر حق. العين حق.» وروي أنه صلى الله عليه وسلم سحر به، وأن السحر استخرج من الجب والحديث في ذلك مشهور،[3] وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر رجلا لقع صعدا أن يسقى له، وهذا أيضا حديث مشهور، وإنما أمر الرجل أن يغسل له ليزول عن الملقوع ما أثرت فيه العين بما بدر منها وأن يزول ذلك بما يبدر منه؛ ولأنه صلى الله عليه وسلم علم ذلك بخصوصيته وكيفيته وعرف السبيل فدل عليه.
ومثل هذا ما نشاهده من التثاؤب، ونرى إن تثاءب رجل تثاءب جليسه، حتى ربما يتثاءب جماعة من مجلس واحد.
وهذا من جهة العدوى، وهي أيضا أثر يؤثر، فبدأ من النفس التي ينظر إليها ويؤثر فيها، وهذه الصفات التي ذكرناها دليل على تأثير الرقى والنشر والعزائم في الأنفس البهيمية التي في أصناف الحيوانات، وإنما ترى الراقي يستعين على الرقية بالنفث والنفخ وغير ذلك؛ لأن النفث والنفخ هما من جوهر هذه البهيمة بحركة من النفس المنطقية، ويؤثران فيها كما يؤثر الصفير والنفير وسائر الإشارات التي ذكرناها، وإنما يقف على حقائقها واللطائف التي فيها الحكماء المطهرون الذين أيدوا بالوحي من الله عز وجل، فهم يعرفون سبب كل شيء وفي ماذا يؤثر؟ وإلى أي جوهر من الحيوان يؤدي؟ فمنها ما دلوا عليه ووقع في أيدي الناس وعملوا بها كما يرى، مثل ما دلوا على حجر المغناطيس وما فيه من الطبع الذي يجذب الحديد، ومثل هذا لو كان خبرا ما صدق به كثير من الناس وكذبوه كما كذبوا غيره ما لم يشاهدوه ولا يعرفوه، ولكن العيان والمشاهدة في الأجساد والحجرية والعقاقير المواتية، أفليس يمكن أن يكون مثل هذا في الحيوان مع ما فيه من الفضل على الموات بالنفس البهيمية الممتزجة المتهيئة لقبول أثر النفس الناطقة فيها، وما يشاهد من أفعالها. ولا سبيل لنا إلى إدراكها أكثر مما أدركناه ومعرفة كيفيتها وعللها والأسباب إلا بتوفيق من الحكماء الذين خصوا بعلمها عليهم السلام: فمنهم من أعطي كثيرا منها كما روي عن المسيح، عليه السلام، أنه كان لا يمر بحجر ولا شجر ولا بشيء من الأشياء إلا ويكلمه ويعرفه لما يصلح له، ولم يكن ذلك الكلام من الممات جوابا، بل كان إشارة وتوهيما واعتبارا، وكان عليه السلام، يعرف ما فيها بوحي من الله تعالى خالقها، وهو يورث الحكمة من يشاء من عباده المصطفين، صلوات الله عليهم أجمعين ورحمته وبركاته.
والآن قد مضى من الكلام في هذه الرسالة أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، ما نظن أن لك فيه مقنعا وكفاية من جهة السمع والخبر، ولا سيما إذا كنت تأملت ما قد تقدم لنا من الكلام في خمسين رسالة عملناها قبل هذه؛ فهي مقدمات لها ومعينة في إحاطة علمك.
فلهذا نريد الآن أن نقطع الكلام ها هنا لبلوغنا غرضنا لتمام هذه الرسالة الأخيرة، التي هي آخر الرسائل التي ضمنا لك علمها ووفينا بتمامها. أعانك الله وإيانا أيها الأخ البار الرحيم على ما يرضيه، ووفقنا وإياك فيما أدنانا إلى مقصوده بنا، وبلغنا إلى غاية مشيئته فينا من الكمال الذي قصدنا. فله الحمد منا ومن جميع إخواننا الكرام دائما أبدا بلا زوال ولا انقطاع كما هو أهله ومستحقه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1) فصل في بيان حقيقة السحر وغيره
اعلم أيها الأخ، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن السحر ينصرف في اللغة العربية على معان كثيرة قد ذكرها أصحاب اللغة العارفون بها وأصحاب التفسير لها.
ونريد أن نذكر منها ما يليق بكتابنا هذا؛ ليكون دليلا على ما نورده من القول في هذا الفن؛ فمن ذلك أن السحر في اللغة العربية هو البيان والكشف عن حقيقة الشيء وإظهاره بسرعة العمل وأحكامه، ومنه الإخبار بما يكون قبل كونه، والاستدلال بعلم النجوم وموجبات أحكام الفلك، وكذلك الكهانة والزجر والفأل، فإن كل ذلك إنما يوصل إليه ويقدر عليه بعلم النجوم وموجبات الأحكام الفلكية والقضايا السماوية.
ومن السحر قلب العيان وخرق العادات، ومنه ما يعمل من الخيال والحكايات والتمثيلات، ومنه الدك والشعبذة، ومنه البخورات المنتنة التي تجلب الصرع والبله والحيرة وما شاكل ذلك.
وهو ينقسم أقساما كثيرة ويتنوع أنواعا شتى، ويقال عليه في جميع اللغات بأقوال مختلفة قد ذكرتها العلماء وبينتها الحكماء، ومنه سحر عملي ومنه سحر علمي، ومنه حق ومنه باطل، ومنه ما رميت به الأنبياء ووسمت به الحكماء، ومنه ما يختص بعلمه النساء. والعرب تقول إذا أرادت السرعة في البيان وإقامة الدليل والبرهان: سحرني فلان بكلامه. وإذا كشف الغطاء وأزال الشبهة يقول العلماء: أتى بسحر عظيم سحر به العقول. ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في رجل مدح صاحبا له فصدق ثم ذمه فصدق في مقام واحد: «إن من الشعر لحكمة، وإن من البيان لسحرا.»
كذلك لما رأت الأمم الماضية والقرون الخالية من الأنبياء ما رأت من المعجزات الباهرات والآيات الظاهرات والبيان اللائح والدليل الواضح سموهم سحرة. ووسموا به الحكماء لما رأوهم يخبرون بالكائنات فيتكلمون بالإنذارات والبشارات بما يكون في العالم من السرور والخيرات ونزول البركات والنعمات، فنسبوهم إلى الكهانة لما عميت عليهم الأنباء ولم يعرفوا النبوة والأنبياء عليهم السلام، وزعموا أن لهم أصحابا من الجن يأتونهم بأخبار السماء فيعلمون بذلك ما كان وما يكون. وقد ذكر الله تعالى في كتابه حكاية عن هذه الطائفة ما رميت به الأنبياء من السحر؛ مثل ما قال فرعون لما جاء موسى عليه السلام، بالمعجزات لقومه لما رأوا من موسى وهارون: @QUR012 إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى. عنى بذلك أن موسى عليه السلام إنما يعمل ما يعمله بتخيل وتحيل وشعبذة لا حقيقة لقوله ولا صحة لعلمه، مثل ما أشار عليه هامانه وسول له شيطانه بقوله: @QUR09 وابعث في المدائن حاشرين * يأتوك بكل سحار عليم، يعني كل مشعبذ وممخرق[4] ومنمق لقوله وملفق لعمله، وما كان من قصته وتسليم السحرة إلى موسى وهارون، عليهما السلام، وما كان منهم ورجوعهم عما كانوا عليه نادمين وتبريهم مما كانوا يعملون، وقولهم: آمنا برب موسى وهارون. ومثل ما قالت الجاهلية المشركون في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: إنه ساحر كذاب؛ قال الله تعالى: @QUR07 وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر.
وكل نبي نطق، وكل حكيم صدق، وأتى بالمعجزات وأظهر الآيات، ألقي عليه هذا الاسم وعرف بهذا الوسم، عند الأمم الطاغية، والأحزاب الباغية، تكذيبا للأنبياء، وردا على الحكماء.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن ماهية السحر وحقيقة هذا هو كل ما سحرت به العقول، وانقادت إليه النفوس من جميع الأقوال والأعمال بمعنى التعجب والانقياد والإصغاء والاستماع والاستحسان والطاعة والقبول.
فأما ما يختص منه بالأنبياء، صلوات الله عليهم، فكالعلم بالأمور التي ليست في وسع البشر العلم بها إلا من جهة الوحي والتأييد وأخذها من الملائكة، وهي الكتب المنزلة، والآيات المفصلة، والأمثال المضروبة، الدالة على حكمة الله سبحانه وتوحيده، وبيان الحلال والحرام، وإيضاح القضايا والأحكام، والإخبار بالغيب بما كان وما يكون؛ ولذلك كانت الجاهلية تقول لمن اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ودخل الإسلام: قد صار فلان إلى دين محمد وقد عمل فيه سحره.
فهذا هو السحر الحلال، وهو الدعاء إلى الله سبحانه بالحق وقول الصدق. والباطل منه ما كان بالضد؛ من مثل ما يعمل به أضداد الأنبياء وأعداء الحكماء، من تنميق الباطل وإظهاره، ودفعهم الحق وإنكاره بالباطل من القول، وإدخال الشكوك والشبه على المستضعفين من الرجال والنساء ليصدوهم عن سبيل الله وطريق الآخرة، وليسحروا عقولهم بالباطل وليحولوا بينهم وبين الفوز والنجاة. وهم شياطين المشركين ورؤساء المنافقين في الجاهلية والإسلام، وهم في كل عصر وزمان يصدون عن دين الله سبحانه ما قدروا عليه، ويزيلون من سنة الناموس بسحرهم ما وصلوا إليه؛ فهذا هو السحر الحرام الباطل الذي لا ثبات له ولا دوام، والذي لا برهان عليه ولا دليل صادق مرشد إليه، والعامل به ملعون، والمصدق مفتون، والطالب له مشئوم.
(2) فصل في أن السحر المذكور في القرآن ...
وأما السحر المذكور في القرآن المنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت فإن العامة قد قالت فيه أقوالا مسترذلة لا صحة لها.
ولهذا القول معنى دقيق قد ذكرته العلماء الذين عندهم علم من الكتاب لمن وثقوا به من خواصهم وأودعوه عند أولادهم النجباء وإخوانهم الفضلاء.
ونريد أن نضرب في ذلك مثلا قد حكي وخبرا قد روي، يقرب به عليك فهم ما تريد الوقوف عليه والوصول من ذلك إليه، وبالله التوفيق.
(3) فصل حكي أن ملكا من ملوك الفرس كانت له نعمة ظاهرة ...
حكي أن ملكا من ملوك الفرس كانت له نعمة ظاهرة وهيبة قاهرة، وسلطان عظيم وملك عقيم، وكان له وزير له رأي وعزيمة، قد رأى السعادة في تدبيره والكفاءة في توزيره، قد كفاه أمر التدبير مما يحتاج إليه، فهو مشغول بلذته وتناول نهمته، في لذة من عيشه وأمان من مصائب الزمان وحوادث الأيام.
والوزير يورد ويصدر بحميد رأيه وجميل نيته وحسن طويته، فأقام الملك على ذلك مدة من دهره وبرهة من عمره.
فلما كان في بعض الأوقات عرضت للملك علة كدرت عليه عيشه ونغصت حياته، فتغير لونه، وهزل جسمه، وضعفت قوته، واشتغل من تلك العلة، واستدعى وزيره وقال له: قد ترى ما نزل بي من هذه العلة التي قد حالت بيني وبين اللذات حتى قد تمنيت الموت ومللت الحياة.
فرق له الوزير وبكى عليه، ثم خرج فجمع الأطباء والتمس الدواء، ولم يدع مستطبا ولا معزما ولا صاحب نجامة وكهانة إلا أحضره، وأعلمهم علة الملك وما يجده من الألم والوجع، وأنه يشكو ضربان جسده والتهاب حرارة في قلبه وكبده، فكل قال وما أصاب، وعمل وما أفلح، وعالج فما أنجح.
واشتدت تلك العلة بالملك، واشتغل الوزير بذلك عن تدبير المملكة وسياسة الخاصة والعامة من خدم المملكة ورعيتها، واضطربت الأعمال وعصت العمال، وكثرت الخوارج في أطراف المملكة وأقاصي الدولة؛ فعظم ذلك على الوزير وتحير، وخاف على الملك الهلاك، فعاد إلى جمع الحكماء وإحضار العلماء ومن قدر عليهم من الشيوخ القدماء، وأعاد عليهم القول واستدعى منهم الجواب، وكان فيهم شيخ كبير قد عرف وجرب، فقال:
أيها الوزير، إن العلة التي بالملك معروفة بظاهرها، خفية بباطنها، ومثل هذه العلة لا يكون إلا عن حالين: إحداهما في النفس والأخرى في الجسد.
فالذي في النفس ينقسم قسمين: فأحدهما يختص بالنفس الناطقة والقوة العاقلة والآخر يختص بالنفس الحيوانية والقوة الشهوانية.
والذي يختص بالجسم أيضا ينقسم قسمين: بالحر واليبس، والآخر بضده وهو البرد والرطوبة.
وأما ما يختص بالنفس الناطقة فهو الفكر في المبدع، جل جلاله، وما أبدع، والحيرة فيما خلق وبرأ وأنشأ، وإعمال الروية وإجالة الفكر في كيفية الابتداء والانتهاء، وما شاكل ذلك من الأمور الإلهية.
فإن النفس إذا غرقت في هذا الأمر وانغلقت عليها أبوابه وتعذرت أسبابه ضاقت وحرجت فأحرقت طبيعة الجسد، فضعفت القوى الطبيعية عن تناول الغذاء وحدث بالجسم ما ترى من الضعف والتغير والهزال والضنى.
ولا يزال ذلك كذلك يتزايد ما دامت تلك العلة مستدامة والخاطر مشغولا بها والأبواب عليه مغلقة والأسباب متعذرة، ولا يجد من يفتح عليه ما انغلق من أبوابه ويسهل ما صعب من أسبابه.
وأما القسم المختص بالنفس الحيوانية والقوة الشهوانية فكالعشق للصورة البهيمية من النساء والصبيان والأحداث والمردان؛ مثل ما يعرض للعاشق إذا غاب عنه معشوقه وحيل بينه وبين محبوبه، فيظهر به من الضعف والتغيير ما يكون به تلف الجسد وانحراف المزاج وفساد البنية، وربما دخل عليه زيادة أدته إلى الماليخوليا واحترق ووصل المرض إلى شغاف قلبه فهلك وباد.
وأما ما يكون في الجسد من العلل العارضة من جهة الطبائع الأربع فإن لكل علة تحدث من فساد المزاج غلبة الطبائع بعضها على بعض، فله علامات يستدل بها على تلك العلة ومواضع يقصد بالأدوية إليها، ولا يجب للطبيب الحاذق أن يبدأ بدواء العليل إلا بعد السؤال له عن السبب في تلك العلة ما هو؟ وكيف كان؟ وعما كان؟ وما أصله؟ أهو شيء من المأكولات أسرف في أكله؟ أم مشروب أترف في شربه؟ أو غم عرض له؟ أو هم دخل عليه؟ أو حال اشتغل به قلبه وفكره؟ أو صورة حسنة رآها فوقعت في قلبه، ثم حيل بينه وبينها ومنع من تناول لذاته منها؟ وأي موضع يجد الوجع من جسمه؟ وبماذا يختص من أعضائه؟ وأي شيء يشتهيه؟ وأي حديث يلهيه ويرضيه؟ وأي سماع يطربه؟ فإذا أخبر العليل طبيبه بشيء مما ذكرناه إذا سأله، وكان العليل صحيح العقل، ازداد الطبيب الماهر علما به، واستشهد على ما أخبره لفظا بما يدل من البرهان عليه بالحس، وما تبين له من صحة النبض مما يستدل به على صحة ما أورده المريض.
ويسترشد الطبيب على قول المريض وشهادة النبض بشاهد آخر وهو الماء، فإذا اتفق النبض والماء مع شكوى المريض فقد عرف حينئذ الطبيب العلة وما يختص بها من الأعضاء، فإن تغلبت إحدى الطبائع وضعفت الأخرى أرسل إلى ذلك العضو ما يوافق طبيعته ويلائم قوته؛ لينقمع به ضده الذي يضايقه في مكانه بالملاطفة والتدريج، ولا يحمل عليه بالدواء الحاد في أول دفعة؛ فإنه ربما أحدث له ذلك فسادا لا يرجى صلاحه، والمثال في ذلك النار المشتعلة في الحطب أول ما وصلت إليه؛ فإنها إذا قويت وألقي عليها الماء ازدادت حرارتها وقويت بخاراتها، فأتلفت ما وصلت إليه واحتوت عليه. فاسأل أيها الوزير عن بدء هذه العلة كيف كانت؟ وما السبب فيها والحال الموجب لها؟ فلعلنا إذا عرفنا ذلك نتداركه بالملاطفة وحسن التدبير إن شاء الله. قال الوزير: أيها الحكيم، إن في أدب وزراء الملوك، ومن الواجب على من صحب الملوك ألا يبدأهم بالسؤال لهم عما لا يجب له السؤال عنه، ولا يهجم عليهم بذلك إلا أن يبدءوا به، ولا يطلب الدليل على ما يقولونه، بل يستمع ويصدق ويسلم إليهم في جميع أمورهم، ولا يعترض عليهم في أفعالهم وأعمالهم، وأنا أهاب الملك وأخاف منه أن أسأله عن شيء لم يبده وحال يخفيها ولم يطلعني عليها، لا سيما في أمر نفسه وجسمه. قال الحكيم: أيها الوزير، إنه لا سبيل إلى شفائه ومعرفة دوائه إلا بعد الإبانة عما ذكرته لك، وأنا أرى أن سؤالك له عن أمره وما أخفاه من سره يكون سببا لحياته ونجاته إن شاء الله، فإذا أعلمك ذلك فأعلمني به واحفظه عنه؛ لئلا تنسى مما يحكيه شيئا.
ثم انصرف ذلك الشيخ ومن حضر المجلس من الأطباء، ونهض الوزير فدخل على الملك، فلما رآه أنس به وأدناه بقربه وسأله: هل وجد له دواء واتجه له عنده شفاء؟ فأكثر الوزير من الدعاء له، ثم أقبل عليه فسأله عن بدء العلة كيف كان؟ وما الذي كان السبب في حدوثها به؟ فلما سمع الملك من وزيره هذه المسألة التي لم يكن سأله عنها قبل ذلك أمر من كان بين يديه من خدمه أن يقعدوه ويسندوه ففعلوا ذلك، ثم أمرهم بالبعد عنه، فلما رأى الوزير ذلك خاف على نفسه وفزع واستوى الملك جالسا على فراشه وقال له: ادن مني وأعد هذه المسألة علي، واصدقني، فإني أرجو الشفاء بصدقك إياي، وإنك قدرت على الدواء في إزالة الداء إن شاء الله؛ فإني لم أسمع منك هذا السؤال قبل هذا، والواجب على الملوك في أدب المملكة ألا يبدءوا من يلم بهم من عبيدهم وخواصهم بكشف أسرارهم وبما يحدث منهم في خلواتهم وما يجيلونه في أفكارهم، لا سيما إذا لم يجدوا له أهلا يكشفونه لهم ويودعونه عندهم، ويرجون بهم فتح ما انغلق عليهم بابه وتعذرت أسبابه.
وقد كنت في طول هذه المدة التي حدثت بي فيها هذه العلة أريد من يسألني عن ذلك فأبديه له فلم أجد سائلا يسألني عن ذلك، وكلما عدمت من أبث إليه الشكوى وأخرج إليه بما أجد من البلوى صعبت العلة علي، وتزايدت المحنة لدي.
فلما سمع الوزير ذلك من الملك تحقق قول الشيخ الحكيم المجرب وعلم أنه صدق وأصاب.
وقال له الوزير: أرجو أن أكون موضعا لهذا الأمر وكشف هذا السر.
فقال الملك: إن شاء الله. ثم ابتدأ الملك فقال: إني كنت في بعض الأيام قد ظهرت نعمة الله تعالى علي، وأحضرت أجلها لدي، وأمرت بإخراج ما في خزائني من الجواهر النفيسة والآلات الثمينة مما جمعته أنا في أيامي وما ورثته عن آبائي، فأحضر بين يدي في خلوة من حشمي وعبيدي وخزاني الذين كانوا نقلوه إلي بين يدي، فرأيت منظرا أطربني غاية الطرب، وفرحت بها وطربت لها وأخذت منها بالنصيب الأوفر والحظ الأجزل من الغبطة والسرور، والجذل والحبور، فكبرت نفسي وعظم قدري وظننت أني قد وصلت إلى ما لم يصل إليه أحد غيري، وأني من أسعد السعداء، ثم إني نمت فرأيت في منامي كأني في تلك الحال على أحسن ما يكون وأتمه وأكمله، وكان رجال دولتي وعبيد مملكتي كلهم قيام بين يدي، خاضعون لي ساجدون، سامعون لقولي مطيعون لأمري، وأنا على سرير مملكتي في محل كرامتي.
فبينما أنا كذلك إذ رأيت رجلا شابا مليح الصورة حسن الأثواب لم أره قبل ذلك الوقت ولا عرفته، وكأنه بالقرب مني ينظر إلي نظر المستهزئ بي، غير هائب ولا خاضع بين يدي ولا مسلم علي، مستقل بجميع ما أنا فيه وكأنه يملك ما لا أملكه، ويقدر على ما لا أقدر عليه، ويصل إلى ما لا أصل إليه، فغاظني ذلك منه، وكأني قد هممت بالإيقاع به وأمرت به من كان بين يدي من خدمي وأصحابي من جميع أهل مملكتي ورجال دولتي أن يقعوا به، وهو قائم في مكانه يضحك بي! وكأنهم لم يصلوا إليه ولا قدروا عليه، وكأنه قد زاد استهزاؤه بي واستزراؤه ولم يهله شيء مما رآه.
فلما رأيت منه ذلك هالني وأفزعني، فقمت من مكاني وتنحيت عن سريري ودنوت منه، وقلت له: من أنت؟ ومن أين أنت؟ وكيف وصلت إلي؟ ومن أين دخلت علي؟ فقال لي: يا مسكين، يا مغرور بسلطان الأرض والملك الجزئي، أي ملك أنت! إنما أنت مملوك ولست بمالك! فلم تدعي المحال وترضى لنفسك بالكذب وجميع ما أنت فيه زائل مضمحل؟! فإنه عما قليل يفارقك وتفارقه، وإنما الملك الملك السماوي والسلطان الإلهي، فإن بادرت وعملت ما يقرب إلى ربك وصلت إليه وكنت ملكا بالحقيقة، ونلت ملكا لا يبلى ولذة لا تفنى، فتكون ملكا بالحقيقة، تفعل نفسك إذا زكت، وروحك إذا صفت، ما أنا فاعل، وتصل إلى مثل ما أنا إليه واصل.
ثم إنه ارتفع من الأرض وأقبل يمشي في الهواء ويجول في الفضاء إلى أن رأيته وصل إلى السماء وغاب عني فلم ير وسمعت هاتفا يقول: «لمثل هذا فليعمل العاملون.»
فلما رأيت ذلك منه أيقنت أني لست بمالك وأني مملوك كما قال، وأني لست بعالم وأني جاهل، وأني لست بإنسان وأني حيوان. ثم انتبهت وأجلت الفكرة وأعملت الروية، وكثر تخيلي لذلك الشخص وما قال لي ورأيت من مملكتي، وسعة قدرته والمكان الذي رقى إليه، واشتهيت المعرفة بالعمل الذي هو وصل إليه، فاشتغلت بهذا الشأن عن جميع ما كنت بسبيله من تلك اللذات، وانقطعت عن جميع الشهوات، وزهدت في المأكول والمشروب، وأقبلت أجيل فكري وأقلب نظري في أهل المملكة ورجال الدولة فلم أر فيهم من يصلح أن أكشف له هذا السر، ورأيتهم كلهم مشاغل بالحال التي أزرى بها علي ذلك الشخص، وأني وإياهم مماليك، وأن الأسماء التي استعرناها لا تصلح لنا ولا تليق بنا، وإنها ذاهبة زائلة عنا، وخشيت أن أبدي أمري إلى من ليس هو من أهله فأنسب إلى الجنون وقلة العقل، فصمت عن الكلام وزادني الفكر الغم والهم والأسف، فحدث بي من ذلك ما ترى من التحول والتغير والصفات.
فهذا هو سبب وجعي ومبدأ علتي، وأظن أني خارج من هذه الدنيا بهذه الحسرة إن لم أصل إلى العمل الذي يوصلني إلى ما وصل إليه ذلك الشخص الذي رأيته. وقد خرجت إليك بأمري، وكشفت لك ما أخفيت من سري، فإن كان لي عندك فرج فمن به علي، وإن عدمت ذلك فاكتم سري ولا تخرج إلى أحد بشيء منه كما خرجت به إليك من أمري؛ لئلا أنسب إلى الجنون وزوال العقل فيذهب الملك مني ومنك، ويطمع فينا الأعداء؛ لأن علة زوال العقل أصعب العلل، متعذر دواؤها معدوم شفاؤها.
ولكن قد طمعت أن لي عندك فرجا لما رأيتك قد سألتني عن هذا السؤال ولم يكن هذا من عادتك معي، ولمعرفتي أن فيك من الأدب الذي يصلح للملوك ما لا يحملك على مثل ما أقدمت به علي من ابتدائك لي بالسؤال عن سري الذي لم أبده فاصدقني كما صدقتك.
قال الوزير: فأعدت عليه ما كان وما جرى من الشيخ الذي أشار علي بذلك وأمرني به.
فقال: علي بالشيخ فقد وضع يده على الداء، وأرجو أن يكون عنده الدواء، فخرجت من عنده وأحضرت ذلك الشيخ وقصصت عليه الحال من أولها إلى آخرها فبكا وقال: انكشفت العلة وعرفنا دواءها وقدرنا على شفائها إن شاء الله، ثم نهض معي حتى دخلنا على الملك، فلما رأى الشيخ فرح به ورفعه وأقبل عليه وأنس به، وأقبل يعيد الحديث عليه من أوله إلى آخره، فأقبل الشيخ على الملك وقال له: إن العمل الذي يوصل إلى مثل ما رأيت لا يكون إلا بعد العلم بتوحيد الخالق، جل جلاله، ومعرفته حق معرفته، فإذا صح لك ذلك وعلمته ابتدأت تشرع في تعلم العلم المؤدي بك إلى عبادته الموصل لك إلى جنته ودار كرامته، فإذا أحكمت العمل بتلك العبادة وصلت إلى مرادك ونلت عرضك، ولا يكون ذلك إلا بعد ترك جميع ما ملكته وقدرت عليه من أمور الدنيا.
قال الملك: قد رضيت بذلك وطابت نفسي به، وقد تعجلت بترك جميع ما كنت فيه، وتمنيت الموت والراحة من هذا العالم.
فقال الشيخ: إن هذا العلم غير موجود عند أحد في بلدنا هذا، وإنما هو موجود بحقيقته عند رجل من الحكماء مقامه في إقليم الهند بجبال سرنديب تحت خط الاستواء، فإن عنده مفاتيح ما انغلق من هذا الأمر وصعب من هذا السر.
قال الملك: فأنى لي بالوصول إليه والقدوم عليه وأنا على ما ترى من نحول الجسم وضعف القوة وكثرة الأعداء وما تراه من اضطراب الحال وفساد الأعمال والعمال، وكثرة الخوارج علينا والأعداء لنا، وتمنيهم الوصول بالأذية إلي وانتزاع ما في يدي من هذه المملكة الفانية والقنية المضمحلة، وإن كنت غير متأسف على فقدها ولا حزين على زوالها بعد ما سمعت ورأيت، وإنما أخشى أن أدرك إذا خرجت منه وبعدت عنها فأقتل وأموت في الطريق ولا أصل إلى ما تكون به السعادة بعد الموت، وأكون قد تعجلت الذل والهوان في الدنيا وسرعة القدوم عليه في الآخرة.
قال الشيخ: صدق الملك فيما ذكر ولنا في ذلك تدبير آخر.
قال: وما هو؟
قال: أنا أكتب إلى الحكيم أعلمه بالحال وننظر ما يكون من جوابه فنعمل به إن شاء الله.
قال الملك: افعل ذلك، وخف على الملك ما كان يجده وسكنت نفسه إلى قول الشيخ.
وقال للوزير: اعلم أني قد وجدت العافية، وقد سكنت تلك الحركة الفكرية، وبردت الحرارة التي كنت أجدها في قلبي، وأستدعي من الطعام والشراب ما أمسك به القوة ودعت إليه الحاجة، وفشا في أهل المملكة من أعمال الدولة أن الملك قد أفاق من علته وزال عنه ما كان يجده.
ففرح الناس بذلك وسكنت الفتنة فتسارعت الخوارج إلى الطاعة وعمت البركة وشملت النعمة، وعاد الأمر إلى أحسن ما كان في مدة يسيرة، وقويت نفس الملك ووثق بما وعده الشيخ الموفق الرشيد، فكتب الشيخ إلى رب بيت الحكمة في ذلك الزمان يعلمه بما جرى ويسأله أن ينفذ إليه من يراه ليفتح عليه من العلم ما يصلح له ويعلمه ما ينبغي له في جسده.
فلما وصل الكتاب إلى الحكيم ووقف عليه استدعى تلامذته، وكان له اثني عشر تلميذا حاضرين معه، فأعلمهم بما وصل إليه وقرأ عليهم الكتاب فقالوا: مرنا بما تريد لنمتثله ونأتي فيه بما تؤمله، فأفرد رجلين منهم وقال لهما: اذهبا إلى الملك، فإذا دخلتما عليه فليبدأ به أحدكما فيلزمه حتى يبلغ في العلم الرياضي إلى حد يجب له إذا وصل إليه ووقف عليه الارتقاء إلى العلم الإلهي، ثم ينفصل عنه ويلزمه الآخر حتى يوقفه منه عند الحد الذي ينبغي له، فإذا رأيتماه قد حسنت أفعاله وزكت أعماله فانصرفا عنه ولا تطلبا عليه جزاء ولا شكورا.
ثم ابتدأ بوصيتهما وبتحذيرهما من الوقوع في حبائل الدنيا وشبكة إبليس، وقال لهما: إنكما في مكان بعيد عن محاسن الدنيا وزخارفها ونضارتها وبهجتها وما يجده أهلها من فتنتها، وستردان على الملك على مملكة واسعة ونعمة ظاهرة ولذات متواترة، وإياكما الميل إلى شيء منها والمحبة لها فإنكما إن فعلتما ذلك وملتما إلى شيء مما تريانه انفسدتما وأفسدتما وخرجتما من الصورة الإنسانية إلى الصورة الحيوانية والرتبة الشيطانية بالفعل، وخرجتما من فسحة الجنان وروضة الروح والريحان، وجاورتما الشيطان في دار الهوان، وخرجتما من سعة الكل إلى سجن الجزء.
قالا: سمعنا وأطعنا وتوجهنا من حيث هما إلى إقليم الملك، وكتب الحكيم إلى الشيخ يعلمه بذلك، وجعله عينا عليهما ينقل إليه أخبارهما وما يعملانه ويعاملان به الملك.
ثم قدما على الشيخ بالذي هما عليه من الشعث وقلة الجمال ما يليق بالنساك من الفقر وسوء الحال.
فأخبر الملك بقدوم الرجلين من عند الحكيم ففرح بهما الملك واستبشر، ثم أمر بإيصالهما إليه فدخلا عليه فقام لهما قائما على قدميه، وأمرهما بالجلوس فجلسا مجالس العلماء المفيدين، وجلس الملك والوزير مجالس المتعلمين المستفيدين.
ثم تقدم المبتدئ بالعلم الرياضي فعلم الملك والوزير حتى أحكماه وتعلماه - الملك ووزيره - وقاما بموجباته وأحكامه.
ثم انفصل الأول وتقدم الثاني فتلا عليهما الحكمة الإلهية إلى أن بلغا من ذلك غاية ما كان عنده واستفادا ما كان في وسعه.
فلما فرغا مما أمرا به وأرادا الانصراف أقبل الملك عليهما وقال: إني لا أجد لكما مكافأة على ما فعلتماه بي وتوليتماه من أمري إلا أن أسلم إليكما ملكي فتتدبرانه وتحكمان فيه بما أردتما، وقد أبحتكما جميعه وهو عندي قليل لكما.
فلما سمعا ذلك منه ردا عليه ردا جميلا، وانصرفا إلى مكان كان الملك قد أعده لهما فتشاورا فيما عرضه الملك عليهما وأهداه إليهما من ملكه، وقد مالت أنفسهما إلى ما رأياه من حسن الدنيا وبهجتها، وما عايناه من حسن قنيتهما وطيب لذتها فقالا: لا بأس أن تجتمع لنا المنزلتان وننال السعادتين: الملك في الدنيا والآخرة، وعزما على قبول ما أهدى الملك إليهما من ملكه والجلوس فيه والقيام به، ثم خلا الملك بوزيره فقال له: اعلم يا أخي أن هذه الدنيا فانية ولسنا مخلدين، وقد نلنا من لذاتها ونعيمها ما قد نلناه، ووصلنا منها إلى ما وصلنا إليه وقدرنا عليه، فهلم بنا نتخلى منها ونلزم مداومة النظر في هذا العلم الشريف والعمل اللطيف الذي نصل به إلى الفوز والنجاة من بعد الموت، فإننا لا نشك في وصول الموت إلينا ونزوله علينا، فلعلي وإياك نجتمع في الملك السماوي كاجتماعي وإياك في الملك الأرضي، فقال: افعل، وقويت نيتهما وطابت أنفسهما بذلك.
فلما دخل الرجلان في وقت دخولهما على الملك أعاد القول عليهما وما يريده ومن تسليم الملك إليهما، ورجا بذلك سعادة المملكة وأهلها بتدبيرهما وحكمتهما، ورجا لأهل بلده ومن يكرم عليه من أهله أن يصلوا إلى مثل ما وصل إليه من ذلك العلم والعمل، فتعم البركة وتشمل النعمة وتكمل السعادة؛ فقبلا ما أهداه إليهما وتقلدا ما اعتمد فيه عليهما، وجعل أحدهما وهو المعلم له العلم الإلهي في مقام المملكة وصاحبه في مقام الوزارة.
واشتغل هو ووزيره في مداومة النظر في العلم والقيام بالعمل والاجتهاد في العبادة والزهادة في الدنيا والتهاون بها واطراح شهواتها وترك لذاتها.
فكتب الشيخ إلى الحكيم بذلك فأيس من عودتهما إليه، وعلم أنهما قد افتتنا بما رأياه ومالت أنفسهما إليه، وتمنيا الخلود فيه، وأقاما على ذلك في تدبير الملك وسياسة المملكة إلى أن مات الملك ولحق به وزيره بعد مدة يسيرة، وصار إلى رحمة الله سبحانه ودار كرامته، ونالا الملك السماوي ووصلا إليه، وافتتن الرجلان بالدنيا وتخليا عن العلم والعمل، وانهمكا في اللذات الدنيوية، واسترجع الحكيم ما كان أودعهما إليه من حكمته فنسيا ما كانا له ذاكرين، وغاب عنهما ما كانا له حاضرين، وفارقا ملك السماء وأخلدا إلى ملك الأرض، فأهبطا من الجنة وبعدا من الرحمة، وانقلبا على عقبيهما خاسرين فأهارا[5] وأمارا من حضرهما بما فعلا، وافتتن الناس بهما «وتعلموا منهما ما يضرهم ولا ينفعهم» وبدت سوءاتهما، وقالوا: هذان العالمان اللذان كانا يأمران بترك الدنيا والزهد فيها قد عادا إلى ما كانا ينهيان عنه ويحذران منه، ولو لم يعلما أن العاجلة هي النعمة الحاصلة لما اختاراها، ولا رجعا إليها بعد ما علما، وزاد بهما جموح الطغيان، واستحوذ عليهما الشيطان فأنساهما ذكر الرحمن، فصارا أعداء للحكماء وأضدادا للعلماء.
وكتب الحكيم إلى الشيخ يأمره بالتنحي عنهما والبعد منهما خوفا عليه من شرهما ففعل ذلك.
وأقبلا على تناول أمور الدنيا وشهواتها، وفارقا السحر الحلال الذي أنزل عليهما وأمرا بفعله وعمله وكان به نجاة من نجا ورجعا إلى السحر الحرام فضلا وأضلا.
وهذا حديث يدل على حالة الملكين: هاروت وماروت، وما كان من أمرهما وهبوطهما من السماء إلى الأرض، ومفارقتهما جوار ربهما والملائكة الذين كانوا معهما كمفارقة إبليس للملائكة باستكباره وعصيانه، ومفارقة آدم للجنة التي كان فيها بما كان من خطئه ونسيانه؛ فهذا بيان ماهية السحر والسحرة والعمل به وكمية أقسامه وما الحق منه وما الباطل بحسب ما احتمله البيان، واتسع له الإمكان.
(4) فصل في أن مداواة العلل الحالة بالأجسام والعلم بها من أجل المعلومات
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن مداواة العلل الحالة بالأجسام والعلم بذلك من أجل المعلومات الطبيعية والمعارف الجسمانية كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وسلم: العلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان، وهو أيضا ضرب من السحر الحلال؛ لأنه قلب العادة من حال الفساد إلى الصلاح، ومن النقصان إلى التمام، والسحر الحرام منه ما كان الضد من ذلك كإدخال الفساد على الأجسام وما يكون تافها، وفساد أمزجتها وانحلال طبائعها مثل ما يعمل بالسموم القاتلة وما يتخذ لذلك من الأدوية والعقاقير الفاعلة بخصائصها وما تفعله في الأجسام من العلل والأسقام، فكل من فعل ذلك وأقدم عليه بالعمد والقصد إلى فساد الصورة الإنسانية بسبب دنيا ينالها أو شيء من قنيتها فهو ساحر مفسد في الأرض ممن حل قتله ونفيه من الأرض، وهو ممن حارب الله عز وجل ورسوله وسعى بالفساد، وممن استحق قطع الأعضاء وفساد الصورة مثل ما فعل فرعون بالسحرة لما رآهم وقد أفسدوا عليه ما كان يعمله، وأسقطوا هيبته عند أصحابه والملأ من قومه.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن كثيرا من الأطباء المبتدئين وغير المجربين يقتلون العليل ويزيدون المرض بالمرضى فيخطئون من حيث ظنوا أنهم قد أصابوا، فكم من عليل قتلوه ومن صحيح أسقموه ومن ذي سلامة أعطبوه؟! والتفقد لهذا الباب والتحرز منه والتنبيه عليه والإرشاد إليه فيه فائدة جليلة.
ونريد أن نبين لك ما يكون تعلمه من ذلك؛ فإنه لا بد لك من استعماله إذ كانت الأجسام مرتهنة بحدوث الآلام والأوجاع والأسقام والداء والدواء؛ لأن من شأن إخواننا، أيدهم الله وإيانا بروح منه، المعرفة بجميع العلوم والاطلاع عليها ومعرفة أهلها.
فاعلم أيها الأخ، أنه يجب على من أراد العلم بصناعة الطب أن يبدأ أولا بدرس الكتب على الحكماء وقراءتها على العلماء، ومعرفة مقدمات العلل والأسباب التي تكون منها وتحدث عنها، ومعرفة جميع الأدوية لأخلاطها على النسبة الفاضلة والقسمة المعتدلة، ومعرفة الطبائع الأربع واختلافها، وكيف تكون صحة المزاج في وقت الصحة؟ وكيف يكون فساده في وقت الفساد؟ وكيف يعرف وزن بنية الجسد في جانبيه معرفة هندسية؟ فإذا صح ذلك له وأحكمه وعرف العلامات الدالة على العلة في النبض والماء وما ينفصل عن الجسد ويخرج من الفضول الحادثة عن العلل العارضة، وبعد ذلك ابتدأ بتعلم الصناعة النجومية والأحكام الفلكية؛ لأنها هي الأصل والعمدة في جميع الأعمال الأرضية وما يعرض في الأجسام الطبيعية.
فإذا عرف من ذلك بحسب ما وفق له وأحكمه وعرفه، فحينئذ وجب له التقدم إلى العليل، فإذا رآه وعرف علته وسأله عن بدايتها وسمع كلامه إن كان ذا سلامة في عقله، وإن عدم ذلك نظر في شواهد أدلته وما يبدأ منه من علته، فإذا صح له ذلك نظر في مولد العليل، فإن أعدم ذلك نظر في الطالع الذي دخل عليه فإذا رآه يوجب السلامة نظر في بيت الحياة وصح له ذلك أقدم على دوائه بنفس واثقة بسلامته، وأخذ في تلطفه في دوائه الذي يصلح لتلك العلة غير شاك لزوالها وغير يائس من برئها فيقوى على العمل بالعلم، ويكون في فعله ذلك تابعا لأعمال الحكماء وأفعال الأنبياء؛ لأنهم لم يدعوا إلى الله عز وجل، ولم يظهروا ما علموه حتى عرفوا الأصول وموجباتها والقراءات وأحكامها.
فلما تحققوا ذلك علموا مراد الله سبحانه من خلقه معرفته، وتوحيده وعبادته وأنه، عز اسمه، لذلك خلقهم وبسببه أوجدهم.
وأي نفس عدمت ذلك كانت ناقصة غير كاملة، ومريضة لا سالمة، فوجب عليهم التقدم إلى أصحاب العلل النفسانية في الأوقات التي أوجبت لهم التقدم إليهم والتحنن عليهم، وعلموا أن دواءهم ينفع وعلاجهم ينجع مثل ما فعل الطبيب الحاذق بأهل المدينة التي دخلها المذكورة قصته في رسالة اعتقاد إخوان الصفا.
فعند ذلك دعوا إلى الله سبحانه بالتذكر والموعظة الحسنة من إقامة الدين وسنة الناموس وما أوجبه ذلك الزمان وحكم بذلك تأثير القرآن، وكانت أدويتهم وعقاقيرهم التي تفعل في أمراض النفوس مثل ما تفعل الأدوية والعقاقير في الأجسام بما أظهروه من الآيات وعملوه من المعجزات إعذارا وإنذارا وتخويفا، ومنعوا من أشياء كان الناس يعملونها، وحذروا منها وحرموها على فاعلها كما يفعل الطبيب بالعليل من منعه من المآكل الرديئة والأشربة وما يكون به قوة الداء وضعف الدواء، كما قال، عز اسمه: @QUR05 وما نرسل بالآيات إلا تخويفا والأنبياء، صلوات الله عليهم، ضمنت لأهل الطاعة الجنة ولأهل المعصية النار، كذلك الطبيب يعد العليل إن قبل وصيته وصبر على استعمال ما يأمره وترك المخالفة له بطيب العيش والعافية والحياة؛ فإنه متى عدل عن ذلك إلى ضده مات وهلك.
ومعجزات الأنبياء وآيات الحكماء تنقسم على أقسام كثيرة مختلفة متباينة قد خص كل شيء في كل زمان بموجب كل قران بشيء منها، كذلك أدوية الأطباء تختلف بحسب اختلاف العلل.
ومن المعجزات ما يكون رحمة ونعمة ومنها ما يكون سخطا ونقمة عند الخروج من الطاعة وارتكاب المعصية، فالنعمة والرحمة من ذلك ما ظهر من فضل الني في ذلك الزمان الموجب لظهوره وما جاء به من الخيرات والبركات والمواد المتصلة به ونزول النصر عليه من عند الله، وقوة من استجاب إليه واتساع دوره وعلو ذكره ورفيع قدره، ومنفعة أهل ذلك الزمان به واجتماعهم على دينه وإزالة الشك منهم في نفسه.
وأما ما يكون من المعجزات به والسخط والبلية على من أنكره وكذبه واستكبر عليه وأنف من الانقياد إليه مثل ما حل بقوم نوح من الطوفان العظيم، ومثل ما نزل بقوم هود من الريح العقيم، وبفرعون وزملائه من الغرق، وبقوم صالح لما عقروا الناقة، وهذا مذكور في القرآن من القصص عن أخبار الأنبياء المتقدمين والأمم المخالفين.
واعلم يا أخي أن العلم والعمل المختص بالأنبياء، صلوات الله عليهم، وما أظهروه من المعجزات والآيات فهو علم إلهي وتعليم رباني يتصل بهم من الملائكة وحيا وإلهاما، وليس هو تعليما أرضيا ولا علما جزئيا، وإنما هو تأييد كلي وفيض عقلي، وإنما يخرجون منه إلى العالم بحسب ما يحتملونه، ومن المعجزات ما يكون به الإعذار والإنذار، ولو أرادوا هلاك الأمم الذين كذبوهم والفرق الذين أنكروا عليهم في أول مرة لفعلوا، وإن فعلوا لكانوا بخلاف ما أرسلوا له؛ لأنهم إنما أرسلوا لإصلاح الفاسد، وأيدوا بوسع الطاقة في الاحتمال والصبر على الأذى وترك الكبر والغضب والحمية، واستعمال الرفق والتأني في الأمور لما يرجى بذلك من الصلاح العام للعالم ونجاة الذين أرسلوا إليهم وخلاصهم من الجهل والعمى، فإذا لجت الأمم الطاغية والأحزاب الباغية في العصيان واستحوذ عليهم الشيطان بعد أن وجبت عليهم الحجة واتضحت لهم المحجة أتت الأنبياء بالآيات، وأظهرت المعجزات وخرقت العادات وأحاطت بالدين كذبوهم البلايا وحلت بهم الرزايا، وهلك منهم من هلك عن بينة وحي من حي عن بينة، فضعفت قوة إبليس، وانطفت نيرانه وتفرقت عنه شياطينه وهلكت أعوانه وخرست ألسنتهم واندحضت حجتهم، كذلك الطبيب إذا خالفه العليل أول مرة صبر عليه ورفق به وداواه بالملاطفة وسهل عليه الأمر، فإذا تمادى في الخلاف والخروج عن طاعته ومخالفته فيما يأمر به واستعمال ما ينهاه عنه خلاه ومراده لنفسه فيهلك.
وبهذا الشأن يكمل لك يا أخي معرفة مداواة الأنفس والأجسام فتكون قد أحكمت السياستين وعرفت المنزلتين.
وإنما أردنا بما ذكرناه تنبيه إخواننا، أيدهم الله بروح منه، والحث لهم على الاجتهاد في معرفة العلوم كلها بحسب ما يتفق لهم، ووقفوا عليه ووجدوا السبيل إليه، وجعلنا ما أوردناه في هذه الرسالة مقدمات ومداخل وطرقا ومنازل إلى نهايات العلوم وغايات الحكم، لعلهم إذا نظروا فيها ووقفوا عليها تشوقت نفوسهم إلى علم ما غاب عنهم منها، فيجدون في الطلب ويسألون أهل العلم عما لا يعلمون، كما قال، عز اسمه: @QUR07 فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «استعينوا على كل صناعة بأهلها.» فعند ذلك يصيرون هداة مهذبين قد وقفوا على الصراط المستقيم.
(5) فصل في العلماء العالمين بعلم النجوم والهيئة ...
اعلم أيها الأخ، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن العلماء العالمين بعلم النجوم والهيئة وحوادث الجو وأصحاب الفأل والكهانة والزجر وحدوث الروحانيات وأصحاب عمل الطلسمات والعلامات والآيات والخبايا وما شاكلها؛ فإنهم لا يتهيأ لهم ذلك إلا بعد معرفتهم بالأصول وما يبدو منها من الفروع.
فإذا صح لهم ذلك عملوا بحسب ما ينبغي لهم أن يعملوه من هذه الأشياء ويخبروا به بالدلالة على ما يكون منه ويحدث عنه، وهم في ذلك متباينون في الدرجات متفاوتون في الطبقات بحسب اجتهادهم في التعليم ومداومة العلم ومجالسة العلماء ومرافقة الحكماء، والاشتغال بالدروس في الكتب الموضوعة فيها، والتبحر فيها بصفاء الذهن وأعمال الروية واستقراء ما كان ليحكم به على ما يكون، ومعرفة مواليد السنين وموافقتها في الحساب والنسب ومعرفة التواريخ والبدايات، وما يكون في ابتداء الأعمال من الطوالع، وما يوجب دوام ذلك، وما يوجب الكواكب الثابتة وزواله وتغييره بانتقالها من مثلثة إلى مثلثة، واجتماعات الكواكب ونظر بعضها إلى بعض، وارتفاعها في أوجاتها وترقيها في درجاتها وهبوطها في حضيضها، فإذا نظروا نظر التأمل والاستقراء لواحد واحد منها كان من له ذلك قريبا من الإصابة في أحكامه.
فإذا وقعت له الإصابة وذاق حلاوتها فما أقل ما يخطئ؛ فإنه بالإصابة تقوى بصيرته ويزيد في سعيه واجتهاده ويستحلي الظفر بالصدق، ويحرص في أن تكون أقواله صادقة وأحكامه صحيحة، فعند ذلك يبرع في العلم على أقرانه ويصير رئيس أهل زمانه فتكشف له الأسرار، وتصير ما بين يديه جلية لا يغيب عنه شيء منها، ويصير بنفسه الزكية ورويته الفكرية وتخيله الصادق كالفلك المحيط المطلع على ما دونه؛ فهو يخبر بما يكون قبل أن يكون في أقرب نظر وأيسر ملاحظة، ثم كذلك من دونه كما وفق له ورزق الظفر به.
وهذا الفن من هذا العلم يسمى نجامة، وكانت الجاهلية تسميه زجرا وكهانة، وهو ضرب من السحر أيضا، وبه ينصب الطلسمات ويعمل الأعمال، ونريد أن نذكر فنا من العلم بذلك وكيفية الحكم والاطلاع عليه شبه المقدمة والمدخل؛ ليكون دليلا على ما ذكرناه وبيانا لما وصفناه، وبرهانا لما قدمناه إن شاء الله.
(6) فصل في أن العلم الذي به المعرفة بالأشياء الحادثة ...
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن العلم الذي به المعرفة بالأشياء الحادثة والأمور الكائنة التي تقوم وتدوم وتكون عواقبها بحسب موجبات ما يكون من الحركات السريعة والبطيئة هو ما يجب على الناظر في ذلك الراغب في علمه أن يعرف الأوقات والأحايين التي يكون فيها الابتداء بالأعمال والأفعال بأدق النظر وأصح التأمل حتى يعرف ما هو كائن من ذلك الابتداء وما تصير عاقبته إليه، وهو أن يعرف مواضع البروج الاثني عشر والكواكب المضيئة والنجوم السيارة والثوابت والطوالع في الفلك والعلم بمواضع السهام وما إلى آخر الاثني عشر برجا والأوتاد وولاة الزمان وأرباب الساعات والأديان والمدبري أرباع السنة، الناظرين على الأيام والساعات وتقويم الحساب السبعة في طولها وعرضها، وأن ينظر في ذلك نظرا صحيحا وحسابا مصححا، ويقوم الطوالع إقامة مستوية مصيبة، ويقوم حساب البروج والأوتاد بدرجاتها ودقائقها وموضع الرأس والذنب وموضع السهم الذي كان به ذلك العمل والاجتماع والامتلاء والأجزاء والاثني عشر برجا والطالع وصاحبه، وصاحب اليوم والساعات، وأين موضع القمر الذي هو أنفع الأشياء في النظر وأصدقها في الخبر، وأحسنها دلالة على ما يحدث في عالم الكون والفساد؛ إذ كان هو أكثرها اختصاصا بتدبيره وكيف سلامته من النحوس، وبعده من الطريقة المحترقة.
فإن جميع ما كانت بداية العمل به في وقت سلامته وحسن استقامته كانت عاقبته محمودة ونتيجته سالمة ومنفعته كاملة، ويكون دوامه وقوامه بحسب إبطاء الحركة وسرعتها وما دلت عليه أدلتها، وإن كان متصلا بالنحوس هابطا في ناحية الجنوب، أو يكون في آخر البروج أو في أول درجة منها ثم لم يتمها فإن ذلك رديء، أو يكون في هبوطه أو خاليا عن صاحب بيته لا ينظر إليه، أو ساقطا عن الوتد أو يكون مع الجوزهر، فإن ذلك الابتداء لا قوام له. وأعرف الكوكب الذي انصرف عنه القمر، والكوكب الذي يتصل به القمر في وتد هو أو ما يلي الوتد أو ساقط؛ لأن القمر إذا كان ساقطا لم يكن فيه خير، إلا أنه يكون في الموضع الثالث من الطالع، وإن كان صاحب بيته ساقطا؛ لأنك إن وجدت صاحب بيت القمر في الوتد الطالع أو وسط السماء أو الحادي عشر أو الخامس فكان شرقيا مستقيم السير، كان بذلك موافقا للأمر الذي تبتدئ به، كالزهرة لأمور النساء والسرور، وكموافقة المشتري للملل والأديان والذكور، وموافقة عطارد للكتابة، والشمس للسلطان والرياسة، والقمر للتعليم والرسل.
وينبغي أن تنظر في كل علم تبتدئ به إلى الشمس والقمر وأصحاب شرفيهما أو حدودهما، ثم تنظر إلى وسط السماء؛ لأنك متى وجدت هذين الموضعين نقيين من النحوس ويكون أصحابهما - أعني شرفيهما - أو صاحب الطالع في موضع حسن، فإن الابتداء يكون محمودا تاما ذا فضل، ولا سيما إن سامتت السعود المضيئة، وكان صاحب الطالع شرقيا؛ لأن تشريق الكواكب يدل على المغالبة والظفر والتمام والسرعة في درك الحاجة وغربي الكواكب، وإن كانت في وتد يدل على الإبطاء والثقل والتطويل، وإن وجدت القمر في موضع حسن وصاحبه ساقط فإن الابتداء بالعمل وحسن عاقبته رديئة ، وإن وجدت القمر وصاحبه ساقطين فاقض برداءة أول العمل وآخره، وإن كان القمر وصاحبه بموضع حسن فإن العمل تام على ما طلب صاحبه بتمامه وقوامه، ولا سيما إن كان صاحب الطالع في وتد، وهو سعد، وإن كان نحسا وموضعه صالح فأنفع الأشياء أن يكون المشتري أو الزهرة في الطالع، فإن ذلك يدل على تمام العمل وحسن العاقبة واستعجال منفعة وعموم بركة، لا سيما إذا كان القمر متصلا بالسعود، وذلك السعد ليس بناقص ولا راجع، فهو موافق لكل عمل إلا لعبد أراد الإباق من سيده وأخذ ما ليس له.
فصل
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن القمر أول الكواكب بتدبير ما تحته من عالم الكون والفساد وهو الواسطة؛ ولذلك يحتاج أن تنظر أولا في ذلك إلى ما يكون من سعادته ونحسه، ثم تعرف زيادته في بدايته، وإنه من وقت انصرافه عن الشمس يبتدئ بالقوة ثم يتغير عند تسديسه إياها وتربيعه وتثليثه ومقابلته لها، وتكون قوته على قدر الكوكب الذي يتصل به عند ذلك وجوزهره والحد الذي فيه ذلك التربيع والتثليث والتسديس والمقابلة، فإن وجدت القمر زائدا في نوره فإن ذلك أفضل في الأعمال التي يستحب فيها الزيادة، وإذا نقص من ضوئه فإن ذلك أفضل في الأمور التي يستحب فيها الانتقاص.
وكذلك إذا انفصل القمر من الشمس إلى أن ينتهي إلى تربيعها الأيسر فإنه صالح لطلب الحق.
وإذا انفصل من تربيعها الأيسر إلى أن ينتهي إلى مقابلة الشمس فذلك جيد للمبتدئ بالخصومات والجدل والمناظرات في الأشياء.
وأما ما بين المقابلة والتربيع الأيمن فموافق للمظلومين بالخصومة والدين، ثم إلى أن يصل إلى مجاسدة موافق لأصحاب العمل بالعلم وطلب الحق.
(7) فصل في سعادة الطالع وقوة الساعة
أفضل سعود الطالع والكواكب إذا كان سعدا في البرج الذي هو فيه ويكون سعدا في البرج الثاني منه.
والبروج المنقلبة تصلح لكل أمر فيه مغالبة وفخر، لا سيما الجدي والحمل وذوات الجسدين لأصحاب العمل بالسحر والحيل، والثابتة لأصحاب العقد والربط ونصب الطلسمات وما يريد به صاحب الثبات.
فإن أردت عملا يدوم ويقوم من علاج ذهب أو فضة أو عمل شيء يربطه روحانية، فليكن القمر والطالع ببرج ثابت وذي جسدين.
وإن أردت الابتداء بعمل تريد معاودته في كل يوم فليكن الطالع برجا ذا جسدين والقمر في برج منقلب ينظر إلى الطالع.
فإن أردت العمل بدوام ثباته وقوته فليكن ذلك، والطالع برج ثابت ذو جسدين، والقمر في برج ثابت متصل بصاحب بيته من تثليث أو تسديس، وصاحب بيته بريء من النحوس والاحتراقات والرجوع.
فإن لم يمكنك ذلك فليكن القمر متصلا بالسعود، وليكن ذلك السعد ينظر إلى صاحب الطالع من تثليث أو تسديس، واحذر المقابلة والتربيع؛ فإن أقوى ما يكون نظر السعود من التثليث والتسديس.
ثم أضعف ما يكون نظر السعود من التربيع والمقابلة، وأضعف ما يكون نظر النحوس من التثليث والتسديس، وأقواها من التربيع والمقابلة، فافهم ذلك واعرفه.
فإذا اتصل القمر بصاحب بيته من صداقة وكان نحسا كان أيضا صالحا في الحوائج وجميع ما يعمل، وإذا كان سعدا وهو ينظر إلى الطالع كان أجود وأحسن، واحذر من جميع الأعمال كلها من موضع القمر مع الذنب، ونظره إلى النحوس من التربيع والمقابلة والمقارنة، واحذر في جميع الأمور والأعمال من فساد القمر؛ فإنه يدل على العسر والعناء والتطويل في العمل والمشقة فيه بنقصانه، ولا سيما إن كان نقصانه من الأنواع الثلاثة التي هي الضوء والحساب والسير، وأفضل ذلك أن يكون زائدا فيها جميعا ولا ينظر إليه المريخ بشيء من النظر؛ لأن نظر المريخ إلى القمر في زيادة منحسة عظيمة.
وكذلك نظر زحل إلى القمر إذا كان القمر ناقصا، وأقوى ما يكون القمر بالليل إذا كان فوق الأرض، وأقوى ما يكون الطالع بالنهار وأن يكون القمر تحت الأرض.
ومن أفضل الأشياء أن يكون القمر والطالع في بروج مستقيمة المطالع، فإذا كان كذلك دل على السرعة في الحاجة والنجاح، ولا سيما إذا كان في بروج ثابتة وذوات جسدين.
واعلم أن الحمل أسرع البروج المنقلبة تقليبا، والسرطان أكثرها تقليبا، والجدي أكثرها سعيا ، والميزان أقواها وأعدلها.
واعلم أن الأوتاد أسرع في تمام العمل والفراغ من غيرها، ويلي الأوتاد إبطاء، والساقطة بطيئة وهيئة فشلة.
وأسرع ما يكون العمل أن يكون سعد في الطالع أو مع القمر ويكون مستقيم السير.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن العلم بعواقب الأعمال إنما يعرف من صاحب تثليث بيت القمر، وصاحب الطالع وبقدر مواضعهما وحالهما ونظر الكواكب إليهما، فقل في مثل ذلك واحكم على عاقبة الأمر بما لاح لك فيه إن شاء الله.
(8) فصل في أن ذوات الجسدين من البروج أكثرها وجوها وصورا
واعلم يا أخي أن ذوات الجسدين من البروج أكثرها وجوها وصورا، وهي تصلح للشركة والمؤاخاة وما عمل فيها من شيء فإنه يعود مرارا.
وإذا كان القمر والطالع في برج ذي جسدين ونظر إلى السعود فإن ذلك جيد؛ لأنها زائدة صالحة موافقة لكل عمل، والجوزاء أكثرها وجوها وأوفقها للصناعة والحساب والمنطق والتجارة والترويج أيضا، والسنبلة تصلح للأخذ والإعطاء والكتابة والأدب، والقوس يصلح لأمر السلطان والرياسة ولأصحاب الجراءة والبأس والنجدة، والحوت يصلح للغاصة في البحر ومن يعمل فيه ونحو ذلك. والبروج الثابتة موافقة لكل عمل يحب صاحبه ثباته وطوله؛ لأن القمر والطالع أقوى دلالة إذا كانا فيها، وإذا ابتدأ بالعمل في برج ثابت دل على ثبات ذلك العمل بطوله وتمامه في آخره، فإن كان ذلك نحسا أتاه الشر منه.
والعقرب أخف الثابتة، والأسد أثبت، والدلو والثور أرطب، ولا تدع النظر في سهم السعادة وصاحبه؛ لأنهما إذا كانا في ابتداء العمل بمواضع حسنة دلا على صلاح ذلك العمل وحسن عاقبته، وأفضل ذلك أن يكون صاحب السهم مشرفا في مكان معروف.
فاعرف الصور والأشياء على مناظرة القمر لرب ذلك البرج والطالع، واجعل القمر يناظر ربه أبدا؛ فإنه أسرع لما تريد من الأعمال وأنجح لها بتوفيق الله تعالى.
(9) فصل قال بطليموس: إن مثل الكوكب إذا لم ينظر إلى بيته ...
قال بطليموس: إن مثل الكوكب إذا لم ينظر إلى بيته كالرجل الغائب عن منزله وداره فلا يستطيع أن يدفع عنها ولا يمنع منها، وإذا كان رب الطالع ينظر إلى بيته فهو بمنزلة رب الدار الذي يحفظها ويمنع منها وهو بعيد عنها، فاجعل القمر في جميع الابتداء في موضع حسن جيد ولا تتوان فيه، أو اجعله مع السعد أو يتصل بسعد، واجعل البرج الذي تريد منه الحاجة يكون مسعودا.
واعلم أن سهم السعادة في الابتداء والمسائل يحتاج إليه فلا تسقطه عن مناظرة القمر أبدا ومقارنته؛ فإن للقمر شركة في سهم السعادة، ولا تلتفت إلى الدرجة التي يطلع فيها؛ لأن كل صورة ودرجة تطلع من تلك الصورة موافقة لأمر واحد وأمرين وأكثر من ذلك. واعلم أن البروج المنقلبة تصلح لما يكون فيه المغالبة والاجتهاد.
(10) فصل في أن جميع ما يجرى في عالم الكون والفساد ...
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن جميع ما يجرى في عالم الكون والفساد المرتب تحت فلك القمر من جميع ما فيه من كبيرة وصغيرة وحية وميتة وناطقة وصامتة، ومن ذي نمو وزيادة، وكل ذي نور ومحاق، فبتدبر فلكي وأمر سماوي، لا يخرج عن النظام الذي ركبه بارئه، عز اسمه، عليه وجعله فيه، لا يعدوه وكل مستقر في مكانه اللائق به.
وأفعال الكواكب روحانياتها تسري في عالم الكون والفساد كسريان القوى النفسانية في الأجساد؛ فلكل كوكب في الفلك وجوه وحدود، ولحدودها درج، ولها صورة تنحط من كل صورة إلى عالم الكون والفساد، روحانية متصلة بمثلها مرتبطة بشكلها؛ وهي موكلة بها المدة المقدرة لها، وهم ملائكة الله سبحانه الذين لا يحصي عددهم إلا هو، ولا تنزل إلا بأمره وحكمته.
ولما كان العلم بذلك يوجب لمن علمه الفضيلة الإنسانية، وهي التصور بعد الموت بالصور الملكية؛ أوردنا منه في رسائلنا ما صلح أن نورده إلى إخواننا الكرام، أيدهم الله وإيانا بروح منه؛ ليقفوا عليه فيكونوا قد اطلعوا على مقدمات العلوم ومباديها فيكون معينا لهم على التمهر فيها ومشوقا لهم على الاطلاع عليها؛ ولئلا يجهلوا علما من العلوم ويتعدوا رسما من الرسوم، حتى لا يبغضوا العلم فيعادوا حامله ويصدوا عنه طالبه. وإنما وضعنا هذه الرسالة في معنى ما ذكرناه وماهية ما وصفناه من السحر والعزائم والكهانة والرقي والفأل والزجر، بما بينا ذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى؛ تنبيها للنفس اللاهية والأرواح الساهية الذين لا معرفة لهم بكيفية الموجودات ولا دراية بسريان الروحانية ولا بما تظهره في عالم الكون والفساد، فأردنا إعلامهم وإيقافهم على معنى ما خفي عنهم وصعب عليهم.
واعلم يا أخي أن جميع الأعمال والصنائع والحرف والمهن، وما يجري بين الناس من الأخذ والإعطاء، والبيع والشرى، والجدل والكلام، والاحتجاج في الأديان، وإقامة الدليل والبرهان، وما يكون من خرق العادات، وقلب الأعيان، وتحويل الأشياء بعضها إلى بعض، ومزج بعضها ببعض، فكل ذلك سحر وعزيمة، والعالم كلهم قائمون بعلمه وعمله، ولكن كل عمل يعمل بحسب استطاعته وبلوغ سعيه، وما يجد السبيل إليه بقدرته وطاقته، وكل ذلك بتدبير فلكي موجب لكل عاقل ما هو عامل وقائم بسبيله لا يفوته ولا يتعداه، ما دام ذلك الحكم مستمرا في مجراه حتى ينتقل منه إلى سواه.
وقد ظن كثير من الناس ممن لا علم لهم ولا معرفة عندهم أن ما يجري في العالم الأرضي والمركز السفلي لا يكون إلا منه ولا يظهر إلا عنه، وقد عدموا معرفة الأصل في ذلك، ولو علموا وتحققوا أن الحركة هي سبب النشوء؛ لبان لهم أن أصل الحركة الدورية هو الفلك المحيط والمحرك له هو النفس الكلية بأمر الباري جل جلاله؛ ولذلك أهملوا النظر في علم النجوم ودعاهم جهلهم بمعرفتها إلى الرد على أصحاب العلم، وعادوهم وانحازوا عنهم فانفردوا منهم، ونسبوا جميع ما يجري في العالم من الخير والشر، والعرف والنكر، والمحمود والمذموم، إلى فعل الباري سبحانه وأنه هو مريده، والأمر في حكمة الباري، عز اسمه، بخلاف ما ظنوه وغير ما تخيلوه؛ إذ كان أصل الخلقة خيرا كله جودا كله، لا تفاوت في خلقه النوراني وفيضه الروحاني. وقد بينا هذا المعنى في الرسالة الجامعة.
واعلم يا أخي أن معرفة خلق الكواكب على ما وصفتها الحكماء وأخبرت بها العلماء مما ينبغي لك أن تعلمه ولا يسعك أن تجهله.
واعلم أنه العلم الذي كانت الكهنة يقدرون به على ما يعلمونه من الأعمال المستحسنة، وكذلك أصحاب الزجر والفأل.
ونريد أن نذكر في هذا الفصل شيئا من ذلك لتعرفه فتعمل به إذا احتجت إلى العمل به إن شاء الله.
(11) فصل في معرفة خلقة الكواكب والبروج على ما ذكرته الحكماء
«الحمل»: ذو جثة مجوفة، عظيم الوسط، براق يتلألأ، صلب فيه اعوجاج. «الثور»: مجوف، عظيم الجثة كبير، متصل به شيء صغير، إلى البياض مائل، يابس المغمز خشن اللمس. «الجوزاء»: دقيق الوسط، عريض الطرفين، طويل، فيه اعوجاج، مصمت. «السرطان»: كثير العدد، خشن اللمس، يتفتت. «الأسد»: براق يتلألأ، صلب شديد الصلابة، عريضه أكثر من طويله، له انحراف. «السنبلة»: كثيرة العدد، مجتمعة لها أصل واحد، لها جثة، حسنة اللمس، ضعيفة الجسد، أعلاها غليظ وأسفلها دقيق. «الميزان»: طويل مشيخ، يدخل بعضه في بعض، ملتو بعضه على بعض، مختلف الجوهر، ينتشر وينطوي. «العقرب»: طويل، محوز، مجوف. «القوس»: مصمت النصف الأول والنصف الأخير، مجوف، أصهب يابس، إلى الحمرة مائل. «الجدي»: كحلي، مجوف، مستقيم، مثل القصب والبردي. «الدلو»: أخضر، مصمت كله إلا خمس درجات من آخره فإنه مجوف. «الحوت»: أبيض إلى الخضرة النصف الأول منه، والثاني أبيض إلى آخره.
(12) فصل في خلقة الكواكب
* **الشمس: **مدورة براقة، ينتشر لها ضياء وحسن وصف، تنقي الإنسان وتجلي الغم.
(13) فصل في الإخبار عن الأشياء الكائنة الغائبة
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الإخبار عن الأشياء الكائنة الغائبة عن نظر العين بالخير والشر، وبما في الضمير من الأمور المكتمة في نفس الإنسان السائل فهو أيضا سحر وكهانة، وهو مما ينبغي لك أن تعرفه ليتبين لك صحة ما ذكرته الحكماء من ذلك.
ونريد أن نبين لك شيئا منه؛ ليكون معينا لك على ما تريد أن تقف عليه مما رغبت فيه وسألت عنه.
(14) فصل في أن علماء الهند هم العارفون بصناعة النجوم
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن علماء الهند هم العارفون بصناعة النجوم المخصوصون باسم الكهانة، ويلحق بهم في العلم بذلك حكماء الفرس ومن بعدهما اليونانيون.
وأما الزجر فمختص به العرب في الجاهلية، وبعد ذلك الفأل في الإسلام، وقد وضعت في هذا العلم كتب مستحسنة، بينوا فيها من هذا البيان ما يكون في الوصول إلى بلوغ الغرض منه، فإذا أردت ذلك وسألك سائل عن خبر وضمير أو خبي يريد منك الإخبار به والقول عليه، فاحكم على ذلك من أرباب الساعات.
مثال ذلك: إذا سألك رجل عما في يده في أول ساعة الزهرة، فاعلم أنه شيء أبيض حسن اللون طيب الرائحة مما يدخل النار ويخرج كالفضة.
وإن جاءك في وسط الساعة فإنه شيء حسن طيب الرائحة من العطر.
وإن جاءك في آخر الساعة فإنه شيء ضعيف لين مما ينسب إلى الماء.
وإن جاءك في أول ساعة الشمس فهو صغير من نبات الأرض، وإن جاءك في وسط الساعة فإنه ذهب أو نقرة أو حلي من ذهب مدور أو دينار، وإن جاءك في آخر الساعة فإنه شيء رقيق ناري شبه القوارير.
القمر: إن جاءك في أول ساعاته فإنه فضة قليلة فيها رداءة أو خاتم فيه فص أسود أو نقرة أو فضة ناقصة للعيار، فإن جاءك في وسط الساعة فإنه شيء مدور فيه صدع أو كسر كالدرهم المكسور أو ورد أو شيء من الكافور، وإن جاءك في آخر الساعة فهو زرنيخ أحمر أو أصفر.
المريخ: إن جاءك في أول ساعته فإنه شيء طويل أحمر، النحاس أشبه بذلك، وإن جاءك في وسط الساعة فهو شيء أحمر عريض، إما حلقة أو امرأة، وإن جاءك في آخر الساعة فهو شيء حاد طويل مثل السنان أو الخنجر.
عطارد: إن جاءك في أول ساعته فاعلم أنه كتاب أو ديوان حساب، وإن جاءك في وسط الساعة فاعلم أنه نبات الأرض إلى السواد وما هو عريض يابس.
وإن جاءك في آخر الساعة فهو حجر مثقوب أو حب لؤلؤ أو دراهم أو شيء منقوش أو فيه صورة.
المشتري: إن جاءك في أول ساعته فهو جوهر ياقوت أو لؤلؤ، وإن جاءك في وسط الساعة فإنه خرز أو بلور، وإن جاءك في آخر الساعة فإنه شيء مثل خاتم ساذج فصه، أو فصه فيروزج.
زحل: إن جاءك في أول ساعة فاعلم أنه حديد أو رصاص، وإن جاءك في وسط الساعة فإنه من نبات الأرض ثقيل، وإن جاءك في آخر الساعة فهو لا محالة شيء مثل عناب أو نبق أو شبه ذلك.
(15) فصل في معرفة أرباب الساعات
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه إذا صح لك معرفة هذا العلم من هذا الباب قدرت على الإخبار بما شرحناه في الفصل الذي قبل هذا؛ وهو أن تعلم أن الكواكب السبعة التي هي أرباب الأيام السبعة.
فرب يوم الأحد الشمس، ورب يوم الإثنين القمر، ورب يوم الثلاثاء المريخ، ورب يوم الأربعاء عطارد، ورب يوم الخميس المشتري، ورب يوم الجمعة الزهرة، والسبت زحل.
فإذا كان رب اليوم كوكبا من الكواكب فهو مدبر الساعة الأولى من ذلك اليوم، ثم رب الساعة الثانية الذي دونه، والذي بعد رب الساعة الثالثة، وكلما انتهى إلى رب اليوم ابتدأ بالعدد إلى تمام أربع وعشرين ساعة، كيوم الأحد مثلا فإنه للشمس، وهو رب الساعة الأولى، والزهرة رب الساعة الثانية، وعطارد رب الساعة الثالثة، وكذلك ساعات أرباب كل يوم.
(16) فصل في معرفة ما تدل عليه الكواكب من أعضاء الحيوان
(17) فصل في معرفة الخبيء
إذا كان حيوانا فاستدل على خلقة رأسه بخلقة رأس الطالع، وعلى خلقة صدره بخلقة صدر وسط السماء، وعلى خلقة بطنه بخلقة وسط السابع، وعلى عدد أرجله وخلقته بخلقة أرجل الرابع وعددها، وعلى حسنه وقبحه بمشاهدة السعود والنحوس؛ إن كان القمر منحوسا فإن الذي سألت عنه من أعضاء الجسد قبيح، وإن كان مسعودا فإنه أحسن.
(18) فصل في معرفة الخبيء من الثاني عشر وصاحبه
إن كان الثاني عشر برجا هوائيا فهو من الهواء، وإن كان أرضيا فمن الأرض، وإن كان مائيا فمن الماء، وإن كان ناريا فمن النار.
ثم انظر إلى صاحب الموضع كذلك وامزجهما، فإن كان أحدهما أرضيا وصاحبه مائيا فهو نبات، وإن كان أحدهما مائيا وصاحبه أيضا فهو جوهر جسدي، مثل الأجساد والكباريت، وإن كان أحدهما أرضيا والآخر هوائيا فهو من الحيوان الذي ينحل من الأرض، وإن كانا أرضيين فهو أرضي، وكذلك في جميع الأشياء.
(19) فصل في معرفة ما تدل عليه الحدود من كلام حكماء الفرس
* **الحمل: **حد المشتري وهو الأول ست درجات، يدل على جوهر أبيض وأصفر يعمل بالنار. الثاني: الزهرة ثمان درجات، يدل على شيء شديد يابس يضرب إلى السواد وإلى الصفرة تذيبه النار، وكل ذلك مدحرج أو مدور إلى العرض ما هو. الثالث: عطارد سبع درجات، يدل على نقش سواد أو على شيء كتابة أو نبات أسود. الرابع: المريخ خمس درج، يدل على شيء طويل أحمر يشبه النحاس. الخامس: زحل، أربع درجات، يدل على حديد أو رصاص أو شيء أسود أصله رديء أو ميت، أو شيء لا قيمة له.
(20) فصل في معرفة النوبهرات من كلام حكماء الهند
الحمل أول نوبهر فيه ذهب، الثاني نبات، الثالث نبات أخضر، الرابع ذو أربع قوائم، الخامس ذهب أو ياقوت أحمر، السادس حيوان ذو رجلين، السابع نبات، الثامن صقر أبيض، التاسع ذو رجلين. «الثور» أول نوبهر منه نبات، الثاني حجر، الثالث ذو روح وقوائم، الرابع ذهب، الخامس نبات، السادس إنسان، الثامن صقر أبيض، التاسع روح ذو رجلين. «الجوزاء» أول نوبهر منه نبات، الثاني شبهه، الثالث إنسان، الرابع نبات، الخامس رصاص أو قلعي أو أسرب، السادس من دواب الماء، السابع ذو أربع قوائم، الثامن نبات من الأرض، التاسع ذو رجلين. «السرطان» أول نوبهر منه نبات، الثاني جوهر أو صدف، الثالث حب، الرابع نبات، الخامس حديد، السادس برذون أو بغل، السابع نبات، الثامن جوهر أو حجارة، التاسع دواب الماء. «الأسد» أول نوبهر منه ذهب، الثاني ذو أربع قوائم، الثالث إنسان، الرابع حية، الخامس أسد أو نمر، السادس ذو أربع قوائم، السابع امرأة، الثامن عقرب أو حية، التاسع برذون أو بغل. «السنبلة» أول نوبهر منه صوف، الثاني حرف، الثالث إنسان، الرابع شاة، الخامس جاموس، السادس طير، السابع العلق الذي يكون في الماء، الثامن كلب، التاسع امرأة. «الميزان» أول نوبهر منه نبات، الثاني سهم، الثالث ذو أربع قوائم، الرابع مثله أو غراب أو ضبع، الخامس طير يأكل اللحم، السادس امرأة، السابع ملح، الثامن دواب، التاسع نبات. «العقرب» أول نوبهر منه زنبور أو عقرب، الثاني دب أو قرد، الثالث فراخ حدأة أو رخمة، الرابع سيف، الخامس عقرب أو حية، السادس فيل، السابع سلحفاة، الثامن إنسان، التاسع نعامة. «القوس» أول نوبهر منه ذهب، الثاني نبات، الثالث إنسان، الرابع نبات، الخامس أسد، السادس جارية، السابع نبات أخضر، التاسع برذون أو إنسان. «الجدي» أول نوبهر منه ضب، الثاني صدف، الثالث إنسان، الرابع دجاجة أو ديك، الخامس فيل، السادس ريح، السابع سيف، الثامن نبل، التاسع إنسان. «الدلو» أول نوبهر منه حرف، الثاني إنسان، الثالث طير أو عنز، الرابع جمل أو حمار، الخامس حيوان غريب، السادس جوهر الماء، السابع خنزير، الثامن نبات، التاسع إنسان. «الحوت» أول نوبهر منه طير الماء ودواب الماء، الثاني طير الماء، الثالث فضة أو لؤلؤ أو صدف أو زبد البحر، الرابع قوائم أبلق، الخامس حيوان يأكل اللحم، السادس برذون أو رجل، السابع إنسان، الثامن ثمر أو بير، التاسع سمكة.
(21) فصل في أن لأصحاب هذه الصناعة والحكم على هذه المسائل دلائل كثيرة
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن لأصحاب هذه الصناعة والحكم على هذه المسائل دلائل كثيرة، تركنا ذكرها والاستقصاء فيها؛ إذ كنا إنما نذكر من كل علم شبه المقدمة والمدخل إلى باقيه؛ ليكون تحريضا لإخواننا على التمهر فيه والشوق إليه؛ لأن بالشوق إلى الشيء يكون الحرص على الاطلاع عليه والمعرفة به. ومثل هذا العلم يجب لإخواننا، أيدهم الله وإيانا بروح منه، أن يعرفوه ويتعلموه ولا يزهدوا في شيء منه؛ لأنه علم جليل نفيس شريف، وجوهر سماوي وبدؤه إلهي، وجميع ما في العالم السفلي والمركز الأرضي فتدبيره يكون في حال نشوئه وبلائه ونقصانه وتمامه.
ونريد أن نذكر أول ما ابتدأ به أصحاب هذه الصناعة وجعلوه مقدمة للمبتدئين ليعرفوا به ما يتفرع من المسائل، ومعرفة الضمير الذي يسأل عنه السائل ما هو؟ وماذا يكون منه؟ وما الذي يصدر عنه؟ وهو الأصل المعتمد عليه في صناعة الكهانة والنجامة.
والذي يختص منه بالكهانة هو ما لا يستعين عليه صاحبه بآلة ولا بإظهار حساب ولا نظر في كتاب ، بل بجودة الحفظ، وذكاء النفس، وصحة العقل، وجودة التمييز، وحدة الخاطر، مع مساعدة ما اتفق له في مولده الموجب له ذلك.
فإذا عرف موضع القمر وتقويم الطالع وأرباب الساعات والأيام، وجاءه السائل أخبره عما سئل عنه وما يكون من أمره، وعن ابتداء عمله وكيف تكون عاقبته، وأما ما يختص بالزجر فهو أن يجعل أول ما تقع عينه عليه في وقت المسألة جوهر ما يسأل عنه، فإذا رأى ذلك نظر إلى جوهر الطالع في ذلك وموضع وقت القمر، فإذا وافقه حكم به وأخبره بما يكون منه، فإن عدم النظر رجع إلى حسن السمع فجعل أول صوت يسمع مثل ما قدمنا ذكره في النظر، وله علم يختص به يطول ذكره.
(22) فصل في استخراج الضمير للسائل
واعلم يا أخي أن المسائل على ثلاثة أوجه: فأول ذلك أن تعلم في أي شيء جاءك السائل وعما سأل عنه؟ والوجه الثاني من أين هذه المسألة؟ وأي شيء كان سببها أولا؟ والوجه الثالث أن تعلم هل تقضى أو لا؟ وإلى ماذا تصير عاقبتها؟ قال: أو قس إذا أردت أن تعرف ذلك ابتدئ بمعرفة الدليل على ما أصف لك.
ومعرفة ذلك أن تنظر إلى الطالع وصاحبه، وإلى القمر وإلى رب بيته، وإلى الشمس وإلى رب بيتها، وإلى صاحب الساعة وإلى سهم السعادة. واعمل بأجودهم موضعا وأكثرهم شهادة، فإن لم تجد شيئا مما ذكرنا فانظر إلى صاحب الطالع وإلى صاحب الشرف وصاحب الحد وصاحب المثلثة وصاحب الوجه، ثم اعرف أيها المستولي على الطالع، وهو أن تنظر أيها أكثر حظا في الطالع فاتخذه دليلا.
واعلم أنه إذا كان جيد الموضع - وجودة موضعه أن يكون في بيته أو في شرفه أو في جده أو في مثلثه أو وجهه ويكون نقيا من النحوس - فإنه الدليل.
واعلم أن لصاحب البيت خمسة حظوظ، ولصاحب الشرف أربعة حظوظ، ولصاحب الحد ثلاثة حظوظ، ولصاحب المثلثة حظين، ولصاحب الوجه حظا واحدا، فاعمل بأكثرهم شهادة وأجودهم موضعا.
واعلم أنه إذا كان صاحب الطالع في الطالع فهو أولى به من غيره، فإن لم يكن في الطالع وكان صاحب الشرف في الطالع فهو المستولي له كله، فإن كانا جميعا في الطالع فهما شريكان، وإن كان لأحدهما شهادة أخرى فهو أقوى موضعا، وهو الدليل بفضل شاهد أن يكون له كوكب له في الطالع شهادة ويتصل بأحدهما، أو يكون القمر في بيت أحدهما أو يتصل بأحدهما، فإذا كان كذلك فهو الدليل بفضل شهادة، فإن لم يكونا في الطالع فعليك بالدليل.
واعلم أن أقوى ما يكون من الأدلة وأولاها بالمسألة أقواها موضعا وأكثرها نصيبا.
واعلم أن لكل طالع ربا، وقد يبقى الطالع ساعتين حتى يخرج، وقد يجوز أن يسأل في تلك الساعتين عن مسائل كثيرة، فإن كان صاحب الطالع هو دليل تلك المسائل كلها كانت تكون على أحد أمرين: إما مصلحة كلها وإما رديئة كلها، وليس الأمر كذلك.
وقد يكون القمر متصلا يومه كله أو ساعات من النهار بكوكب ما، والمسائل تختلف؛ منها ما يكون ومنها ما لا يكون بجودة النظر في الأصول.
(23) فصل في ذكر أوتاد الفلك وأرباعه والبيوت الاثني عشر
واعلم أيها الأخ، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الفلك الأعلى يدير فلك البروج وسائر الأفلاك من المشرق إلى المغرب في اليوم والليلة دورة واحدة، وفي كل وقت من الأوقات يكون بعض درج فلك البروج في أفق المشرق، وبعضها في حقيقة درجة وسط السماء، وبعضها في أفق درجة الغارب، وبعضها في درجة الرابع، ومن كل موضع من هذه المواضع إلى الآخر يكون ربع الفلك، وكل ربع منه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: منها ما يسمى بيتا فيكون الفلك في كل وقت أربعة أرباع على قدر فصول السنة، ويكون اثني عشر بيتا على عدد البروج، والربعان اللذان من الطالع إلى وسط السماء، ومن الغارب إلى الرابع يسميان منقلبين ذكرين شرقيين متيامنين، والربعان اللذان من العاشر إلى الغارب ومن الرابع إلى الطالع يسميان ثابتين مؤنثين غربيين متياسرين.
وقد يقال أيضا: إن فوق الأرض يمنة وأسفل الأرض يسرة، وفي قسمة أخرى بالربع الذي هو من الطالع إلى وسط السماء شرقي مقبل، والربع الذي من وسط السماء إلى درجة الغارب جنوبي زائل، والربع الذي هو من الغارب إلى درجة الربع غربي مقبل ذكر، والربع الذي من درجة الرابع إلى الطالع شمالي مؤنث زائل.
ويسمى الربعان المؤنثان والنصف الذي من وسط السماء إلى آخر الدرجة الثالثة الأخيرة منه يقال له الصاعد، والنصف المقابل يقال له الهابط.
وهذه الأربعة تنقسم على اثني عشر قسما على عدد البروج، ويقال لكل قسم منها بيت.
(24) فصل في معرفة البيوت
فأول بيوت الفلك هو البيت الذي يطلع أوله من أفق المشرق، والذي بعده هو الثاني، ثم الثالث، ثم الرابع، ثم كذلك سائر البيوت يسمى كل بيت منها باسم العدد الذي يليه إلى الثاني عشر، وكل بيت من هذه البيوت الاثني عشر يسمى باسم مخصوص وينسب إلى أشياء موجودة فيه.
(25) فصل في البيت الأول
* **البيت الأول: **يقال له الطالع، وهو يدل على الأبدان والحياة وعلى حالات كل ابتداء، وحركة المثلثة الأولى تدل على الحياة والعمر وطوله وقصره، والثانية تدل على القوة في الجسم، والثالثة تدل على الصورة.
والأحلام القليلة المثلثة الأولى تدل على الإخوة والأخوات، الثانية تدل على القرابات، الثالثة تدل على الرعية.
* **البيت الرابع: **من الطالع يقال له بيت الآباء، وهو يدل على حالات الآباء الأصل والجنس والأرضين والقرى والمدائن والبناء، وعلى كل شيء مستور مما كان تحت الأرض، وعلى الكنوز، وعلى العاقبة والموت وما بعده مما تصير إليه حالات الإنسان الميت من الدفن والنبش، أو الصلب والحرق، أو الرمي به في بعض المواضع، أو أكل لحم الحيوان أو غير ذلك من حالاته، وما يختص بالنفس من الثواب والعقاب في المعاد، ولا يتهيأ لأحد النظر في هذا القسم المختص بالنفس إلا للعلماء من إخواننا الفضلاء، وقد ذكرنا كيفية ذلك في رسالتنا الجامعة عند ذكر شرح رسالة كيفية اللذات والآلام، والموت وما بعد الموت.
المثلثة الأولى تدل على الآباء والأمهات، الثانية تدل على العاقبة في الأمور، الثالثة تدل على الأرضين وبناء المدائن.
* **البيت الخامس: **من الطالع يقال له بيت الولد، وهو يدل على الولد، والرسل والهدايا، والرجاء وطلب النساء، والمصادقة والأصدقاء، والمدن وحالات أهلها، وعلى غلات الضياع وكثرتها وقلتها.
والمثلثة الأولى تدل على الولد واللذة، والأكل والشرب، والثانية تدل على الأخبار والرسل، والثالثة تدل على المخاطبة والمصادقة.
* **البيت السادس: **يقال له بيت المرض، وهو يدل على الأمراض وأسبابها والزمانة، والعبيد والإماء، والوضيعة والظلم والنقلة من مكان إلى مكان.
المثلثة الأولى تدل على المرض، والثانية تدل على العبيد، والثالثة تدل على الهمة والفكر.
* **البيت السابع: **منه يقال له بيت النساء، وهو يدل على النساء والتزويج وأسبابه، والخصومات والأضداد، والسفر والسلف وأسبابه، والشركة. المثلثة الأولى تدل على النكاح، الثانية تدل على الأضداد، الثالثة على الشركة.
المثلثة الأولى تدل على السفر وموافقته. الثانية تدل على الدين والعبادة والكتب والعلم والفلسفة. الثالثة تدل على الرؤيا والأحلام.
* **البيت العاشر: **يقال له بيت السلطان، وهو يدل على الرفعة والملك والسلطان والوالي والقاضي والشرف والذكر والصناعات والأمهات.
والأعمال المثلثة الأولى تدل على السلطان والعز والولايات، الثانية تدل على المسألة الغامضة وعلى الملائكة والوحي ويقال: إنها السلطان والعز، والولايات الثلاثة تدل على الأمهات.
* ** البيت الحادي عشر: **يقال له بيت السعادة ، وهو يدل على السعادة والرجاء، والأصدقاء والمحبة والثناء، والمواعيد والآمال، والولد والأعوان.
المثلثة الأولى تدل على الرجاء في الأمور، والثانية تدل على السعادة، الثالثة تدل على الأصدقاء والسخاء والكرم.
* **البيت الثاني عشر: **يقال له بيت الأعداء وهو يدل على الأعداء والشقاء والحزن والغموم والحسد والنميمة والمكر والحيل والعناء والدءوب، ويدل على الجيوش. المثلثة الأولى تدل على الأعداء. الثانية على الشقاء والنميمة والغموم. الثالثة على الدءوب.
(26) فصل في الاستدلال على المسائل والإخبار بها
إذا سئلت عن مسألة فانظر إذا أقمت الطالع بدرجاته ودقائقه وعرفت الدليل فانظر إلى القمر في أي البروج هو؟ وفي أي الحدود هو؟ وعمن ينصرف من الحدود؟ وبمن يتصل؟ وبأي الموضعين كان أقوى؟ فاقض عليه.
بيان ذلك أنا نظرنا فوجدنا الطالع الحمل حد بهرام، وكان بهرام ساقطا، وكان زحل ساقطا، وكان القمر في الثالث من الطالع في بيت عطارد، وكان عطارد في السابع من الطالع، وكانت الزهرة في الدلو، فإذا الدليل هو القمر؛ لأن بهرام كان ساقطا، وكان زحل ساقطا أيضا، وكان القمر في الثالث من الطالع في بيت عطارد؛ فلهذا قلنا: إن الدليل القمر؛ وذلك أنا لم نجد أقوى من القمر، وكان في الثالث من الطالع في بيت فرحه، وكان يتصل بعطارد من التثليث، وكان عطارد في السابع بيت الزهرة، وكان نظرها إليه من تثليث، وعطارد أيضا صاحب بيت المريض، يدل على أن السائل يسأل عن كتاب ورد عليه من أخ له يذكر فيه حال مرض امرأة من بعض أزواجه يئول حالها إلى البرء.
(27) فصل إذا سألك سائل عن نفسه وحاله ...
إذا سألك سائل عن نفسه وحاله وما يصيبه فانظر إلى الطالع وصاحبه، ومن ينظر إلى الطالع وإلى القمر أمسعودة أم منحوسة؟ فإن كانت مسعودة فحاله حسنة له، وإن كانت منحوسة فحاله سيئة، وإن كانت ممتزجة فحاله متوسطة.
وإن سألك عن دوام ما هو فيه؟ فانظر إلى صاحب الطالع والقمر، فإن كانا في برج ثابتة أو في الأوتاد فإنه يدل على دوام ما هو فيه ، وإن كانا فيما يلي وتدا فإنه يدل على زوال ما هو فيه، وإن كان النحس قبل الوتد فقل له: قد كنت في شر، وإن كان في وتد فقل له: أنت فيه اليوم، وإذا كان النحس بعد الوتد فقل: الخوف عليك فيما بعد، ولا سيما إذا كان في الثاني عشر، فإن كان صاحب الطالع منصرفا من سعد إلى سعد فقل: من خير إلى خير، وإن كان من نحس إلى نحس فقل: من شر إلى شر، فإن نظر صاحب الطالع إلى صاحب بيت القمر فقل: تصيب سرورا، وإن نظر إلى صاحب بيته وشرفه فإنه يرتفع من منزلة إلى منزلة، والكوكب الذي ينصرف عنه صاحب بيت القمر هو الأمر الذي يصير إليه فيما يستأنف، وإن سألك عن مال فانظر فإن كان صاحب الطالع يتصل بصاحب الثاني فإنه يصيب الذي طلب، وإن كان يدفع بينهما كوكب فإنه يحول بينهما في ذلك إنسان من جنس ذلك الكوكب، ومعرفة ذلك أن تعرف صاحب أي بيت هو من بيوت الفلك فتنسبه إليه إذا نظر إلى بيته، فإن كان صاحب الثاني في الثاني فإنه يصيب من عمل يديه، وإن كان صاحب الثاني في الثالث فإنه يصيب من إخوانه وأخواته، وإن كان في الرابع فمن الآباء والأرضين، وإن كان في الخامس فمن الولد والتجارة، وإن كان في السادس فمن العبيد أو المرضى، وإن كان في السابع فمن النساء والخصومات والشركة، وإن كان في الثامن فمن المواريث، وإن كان في التاسع فمن الدين والأسفار، وإن كان في العاشر فمن السلاطين والآباء، وإن كان في الحادي عشر فمن الأصدقاء والإخوان والتجارات، وإن كان في الثاني عشر فمن الدواء وأمر فاسد، وإن كان في بيته فهو وسط وإن كان في هبوطه فهو رديء قليل.
وكذلك إن كان منحوسا أو راجعا فهو فاسد رديء، وإن كان مسعودا فهو صالح، وإن اتصل صاحب الثاني بالمريخ فمن السرقة واللصوصية والآثام والخصومات، فإن اتصل بزحل فهو شيء من عسر وكد لا يوصل إليه إلا بعد تعب وشدة، فإن اتصل بالمشتري فمن الورع والدين والنسك والفقه، فإن اتصل بعطارد فمن الكتابة والحساب والتجارات والكلام، وإن اتصل بالزهرة فمن قبل النساء، وإن اتصل بالشمس فمن قبل الملوك والسلاطين، وإن اتصل بالقمر فمن قبل الكلام والرسالة.
(28) فصل في كلام حكماء الهند وغيرهم في الضمير
وإن كان الدليل الأول رب الطالع أو الكوكب القابل تدبيره فإن الضمير عن موضع رب الطالع من الفلك أو عن موضع قابل تدبيره من الفلك، وقد يخرج الضمير من درجة الطالع نفسها، وذلك أن تنظر أي كوكب يتصل به درجة الطالع، فإن الضمير من قبل موضع ذلك الكوكب من الطالع، ولا تغفل عن الكوكب الذي يكون في الطالع إذا لم يسقط عن درجة الطالع، فإن الضمير جوهر ذلك الكوكب.
وإن نظر إلى صاحب أي بيت هو فيه من الطالع فإن المسألة عن جوهر ذلك البيت الذي ينظر إليه.
والدليل الثاني: قول ويرونس وأنطليقوس وبطليوس وواليس ورانبوس؛ وذلك أن تنظر صاحب أي بيت هو، وأن تنظر إلى البرج الذي فيه سهم السعادة، فإن المسألة عن جوهر ذلك البيت من الطالع، فإن كان في الطالع فإن المسألة عن نفسه، وإن كان في الثاني فمن المال، وكذلك بقية البروج الاثني عشر.
والدليل الثالث: قول علماء الهند، فإنهم قالوا إذا سئلت عن شيء قد أخفي عنك فانظر إلى رب حظ الدرجة، والطالع، ورب الحد، ورب الدرجة، أيها أقوى؟ وبماذا يتصل؟ فرب ذلك الموضع هو الدليل على الشيء الذي أخفي عنك، وأقواها أن تنظر إلى درجة الطالع في أي برج هو؟ وفي أي برج يقع؟ فإن كان صاحب ذلك البرج هناك فإن وجدت هنالك كوكبا فإن الضمير عن مثل ذلك البيت عن الفلك، فإن لم يكن هناك كوكب فانظر أين تجد حظ صاحب ذلك البيت، فإن الضمير على مثل موضع صاحب الحظ من الطالع وموضع صاحبه.
والمثال في ذلك أن الطالع كان اثنتي عشرة درجة من الحمل، فألقيت لكل برج درجتين ونصفا، وبدأت بالطرح من الحمل الذي هو الطالع، فبهذا الحساب يكون في الأسد الذي هو بيت الولد، فلم يكن الشمس هناك ولا كوكب غريب، ونظرت إلى الشمس فوجدتها في السابع فقلت: إن المسألة عن ولد يريد أن يخطب امرأة، ولو كانت الشمس في السادس فقلت من مرض ولد، وكذلك بقية البروج الاثني عشر إن شاء الله.
(29) فصل في استخراج الدليل من النوبهرات
وذلك أن تأخذ من الحمل إلى درجة نوبهرات الطالع لكل برج تسع، ولكل ثلث درج وثلث نوبهرا واحدا، فما اجتمع معك من النوبهرات فألقها من اثني عشر.
فإن لم يتم اثنا عشر فألقها من الحمل وابدأ بحيث انتهى؛ ففي ذلك البرج نوبهر الطالع. فإذا عرفت ذلك أين وقع؟ فانظر ما يسمى ذلك البرج من الطالع بيت مال أو بيت أخوة أو غير ذلك، فإن الضمير عن مثل جوهر ذلك البرج من الطالع.
مثال ذلك: إن سئلت عن مسألة وكان الطالع من عشر درجات من الحمل، فكان ذلك ثلاث نوبهرات، وألقيت ذلك من الطالع فانتهى العدد إلى الثالث من الطالع، وفيه زحل وهو راجع، فقل المسألة عن غائب متى يرجع، وكان عطارد هو صاحب نوبهر الطالع في وسط السماء، والطالع مع الشمس، فقل هذا الغائب له سلطان عظيم وشرف كبير، ومعه جماعة جند وأجلاء من الناس كبراء؛ لأن الشمس هي صاحبة الشرف الطالع في الدلو، ونور العالم في الدلو مع عطارد في وسط السماء، وزحل صاحب بينهما في الجوزاء - بيت عطارد - يدل على أن هذا الغائب أمير المؤمنين، فإن استشهدت على ذلك أن زحل يكون صاحب سنة العالم وهو صاحب بيت الشمس وعطارد جميعا وكانت المسألة هل يرجع من سفره أم لا؟ فنظرت فعلمت أنه راجع إن شاء الله، وكذلك الحال في السائل بمثل ذلك الدليل يستدل على الحكم عليها والإخبار بها.
(30) فصل فيما اجتمعت عليه الحكماء القدماء من العلماء الأوائل من الأدلة
فيما اجتمعت عليه الحكماء القدماء من العلماء الأوائل من الأدلة؛ وذلك أن في الطالع تسعة أدلة وفي غيره ثلاثة أدلة، فالذي في الطالع صاحب الطالع وبيت شرفه ومثلثه وحده ووجهه ونوبهره واثنا عشريته، والكوكب الذي يسير إلى درجة الطالع، ومن في الطالع وفي غير الطالع، وسهم السعادة وصاحبه، وصاحب بيت الشمس بالنهار والقمر بالليل.
فانظر إلى أكثرها شهادة وولاية فهو الدليل، فإذا أنت عرفت الدليل فانظر بمن يتصل أو من يتصل به من بعد تسوية البيوت الاثني عشر، فإن البيوت قد تنقسم من برجين فيكون بعضه من وتد الأرض وبعضه من وسط السماء، فإذا كان ذلك كذلك فخذ بأكثر درجات الطالع ودع الأقل وانسب الضمير إلى ذلك الذي في وسط الطالع، فإن كان لا يتصل بشيء ولا يتصل به شيء فالمسألة عن نفسه.
فإن كان الدليل قد زال عن الطالع إلى الثاني منه وخرج منه جزء فالمسألة عن شيء قد خرج من يد من سأله، وكذلك إلى تمام البروج الاثني عشر إلى جوهر البيت الذي فيه الدليل، وكذلك إذا لم يكن اتصال.
وإذا كان اتصال فالاتصال أولى بالدليل، فاعرف عند ذلك الدليل ومن يتصل به الدليل، واعمل بالبيت الذي ينظر إليه الدليل ودع الآخر، وانسب الضمير إلى ذلك البيت، فإن كان الدليل في هبوط فالمسألة عن سرقة أو شيء قد هبط أو اتضع أو المحبوس، وإن كان لم يتصل من برج إلى برج فمن نقلة أو سفر، وإن كان الدليل لصاحب الثامن أو الثاني عشر وهما بيت النحس فالمسألة عن موت أو خوف، وإن كان الدليل قد وقف للرجوع فإنه يسأل عن مسافر متى يرجع؟ وإن كان واقفا يريد الاستقامة فإنه يسأل عن مسافر متى يستقيم؟ وإن كان الدليل متحيرا فإنه يسأل عن تحيره، وإن كان الدليل مع الرأس في شرفه أو في وسط السماء فإنه يسأل عن ملك أو رئيس أو أمر الدين له، وإن كان مع الزهرة والمريخ ينظر إليها أو مع المريخ والزهرة تنظر إليه فإنه يسأل عن تهمة النساء، وإن كان مع الذنب فإنه يسأل عن كلام وخصومة، وكذلك إذا كان القمر في الطالع فإنه يسأل عن خصومة أو عن خبر ، وإن كان الدليل في الرابع أو مع الرأس في السابع، والرابع أن المسألة عن مال مدفون مثل كنز أو مخبأة، وكذلك إذا كان صاحب الثاني في الرابع وصاحب الرابع في الطالع والبرج ناري، فالمسألة عن كيمياء هل يصح له أم لا؟ وإن كان البرج من برج النار فالمسألة عن حرب، وإن كان الدليل مع الذنب فإنه يسأل عن سحر هل يصح أم لا؟
فإن شهد عطارد حقق ذلك، وكذلك إذا كان الدليل زحل وهو مع عطارد وعطارد ينظر إليه فإن المسألة عن سجن، وإذا كان الدليل تحت الشعاع فالمسألة عن محبوس، وإذا كان الطالع بيت عطارد أو شرفه وكانت الأدلة في مواضع عطارد وله بها اتصال فإن المسألة عن كتاب.
(31) فصل في معرفة المسائل وأجوبتها «البيوت وما يتفرع منها»
* **بيت الحياة: **إذا سئلت عن عمر إنسان فانظر إلى رب الطالع والقمر، فإن كان بيت الحياة قد انصرف عنه كوكب فإن الكوكب الذي يتصل به القمر يدل على ما بقي من عمره، وإن كان صاحب الطالع تحت الشعاع يدخل في الاحتراق والقمر منحوس أو ساقط من الطالع أو بعض النحوس في الطالع أو السابع فإنه يدل على موت السائل، ووقت ذلك يعرف من رب الطالع.
فإن كان ساقطا أو ينظر ما بينه وبين درجة الاحتراق مما وجد بينهما من الدرجة فذلك ما بقي من عمره، وإن كان في برج منقلب فأيام.
وإن كان في برج ذي جسدين فشهور، وإن كان في برج ثابت فسنون، وأشد ذلك أن يكون النحس في الطالع أو ينظر إلى الطالع أو إلى الرابع أو الثامن.
فأما إن كانت السعود تسعد الطالع والقمر يرى من النحوس وصاحب الطالع كذلك، فإن ذلك يدل على طول العمر والبقاء، ثم عد ما بين القمر والنحس وما بين رب الطالع إلى أن يحترق، فما خرج من حساب القمر فهو وما خرج من الطالع عدد العمر.
* **بيت المال: ** إذا سألت عما يرجى أو سأل سائل: هل أصيب مالا أو لا؟ فانظر إلى رب الطالع والقمر، فإن اتصل برب بيت المال ووجد القمر ينقل من رب بيت ذلك المال إلى رب بيت الطالع فقل: نعم. تصيب المال، وكذلك إن كانت السعود في بيت المال أو يتصل القمر بها، أو رب الطالع أصاب مالا كثيرا ومنزلة رفيعة، فإن كان ذلك السعد متحيرا ساقطا فإنه لا يصيب من المال إلا قوت يوم بيوم، ولا يكون له منزلة ولا جاه، فإن اتصل القمر أو رب الطالع بنحس وكان النحس في الثاني من الطالع فإنه يدل على إدبار حال صاحبه، وإن كان القمر خالي السير فإن السائل لا يزال على تلك الحال التي هو عليها حتى يموت. وخير السعود في بيت المال المشتري؛ لأنه يدل على الدنانير والدراهم.
(32) فصل إذا أردت أن تعرف كم مقدار ما تصيب من المال
إذا أردت أن تعرف كم مقدار ما تصيب من المال في الأمر الذي ترجوه أنت أو من سألك عن مثل ذلك فانظر إلى صاحب بيت المال، فإن كان الدليل عطارد وكان في هبوطه أو في موضع رديء فإنه يدل على أن يكون المال عشرين درهما، وإن كان في مثلثه كان مائتي درهم، وإن كان في بيته كان ألفي درهم، وإن كان في شرفه كان عشرين ألفا، وكذلك جميع الكواكب على قدر سنيها الصغرى عشر مرات.
وإن كان الكوكب في هبوطه أو في موضع رديء أعطاه بعدد سنيه الصغرى، وإن كان في مثلثه أعطاه بقدر سنيه الصغرى عشر مرات، وإن كان في بيته أعطاه بعددها مائة مرة، وإن كان في شرفه أعطاه عددها ألف مرة، وإن كان الكوكب محترقا فانقص على قدر احتراقه وبعده من الشمس، وإن كان مع الشمس درجة واحدة لم ينل شيئا، وإن نظر إليه نحس نقص مما دل على قدر وعليه على قدر قوته في موضعه، على ما ثبت لك من الشرف والبيت والمثلثة والهبوط.
فإن نظر إلى الدليل المشتري من شرفه زاده اثني ألف درهم، وإن نظر من بيته زاده ألفا ومائتي درهم، وإن نظر من مثلثه زاده مائة وعشرين درهما.
ومن موضع رديء غريب زاد اثني عشر درهما، وفي الاحتراق ينقص المشتري مما يعطي على قدر بعده من الشمس.
فإن كان في درجة الشمس لم يزد شيئا، وكذلك ينقص النحس ويزيد السعد مثل ما تثبت لك من هذه المنازل، ومتى وجدت الدليل الذي منه استدللت على عدد الشيء الذي ينقص أو يزيد في برج ذي جسدين فأضعف ذلك العدد، وربما كانت النحوس هي التي تعطي المال وهي الدليل على عدد الشيء.
(33) فصل في معرفة سني الكواكب «وهي ثلاث مراتب: الكبرى والوسطى والصغرى»
فأما سنوها الكبرى فللشمس مائة وعشرون سنة، وهو العمر الطبيعي، ولا يكاد الإنسان يجاوزه إلا أن يشاء الله تعالى.
وللزهرة اثنتان وثمانون سنة، ولعطارد ست وتسعون سنة، وللقمر مائة وثمان سنين، ولزحل سبع وخمسون سنة، وللمشتري تسع وسبعون سنة، وللمريخ ست وستون سنة.
وأما سنوها الوسطى فللشمس تسعة وثلاثون سنة ونصف، وللزهرة خمس وأربعون سنة، ولعطارد اثنتان وأربعون سنة ونصف، وللقمر تسع وثلاثون سنة، ولزحل ثلاث وأربعون سنة ونصف، وللمريخ أربعون سنة.
وأما سنوها الصغرى فللشمس تسع عشرة سنة، وللزهرة ثمان سنين، ولعطارد عشرون سنة، وللقمر خمس وعشرون سنة، ولزحل ثلاثون سنة، وللمشتري اثنتا عشرة سنة، وللمريخ خمس عشرة سنة؛ فهذه معرفة أنواع سنيها.
(34) فصل فيما نورده من العلوم في كتبنا ورسائلنا
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أننا نورد من العلوم في كتبنا ورسائلنا ما يكون تزكية للعقول وتنبيها للنفوس، فأخذنا من كل علم بقدر ما اتسع له الإمكان وأوجبه الزمان، وقد اجتهدنا أن يكون ذلك من أحسن ما قدرنا عليه ووصلنا إليه.
ولذلك وصفناه وأثبتناه وأوردناه لإخواننا، أيدهم الله، ورضينا لهم كما رضينا لأنفسنا؛ إذ كنا كلنا روحا واحدة وترابا واحدا، وبني أب واحد، ولنا رب واحد، وهو الذي خلقنا من نفس واحدة.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله: «لا يكمل للمؤمن إيمانه حتى يرضى لأخيه المؤمن ما يرضاه لنفسه.»
وقال الله تعالى: @QUR016 فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.
ولما كان علم الحساب علما واسعا عظيم الدائرة محيطا بالأشياء غير محاط به ألقينا إليك منه مدخلا ومقدمة؛ ليكون محرضا لك على الدخول إليه والمعرفة بما يوفق له منه.
وكذلك علم النجوم أيضا علم واسع، وهو علم العالم الأعلى السماوي الحاكم العالم الأرضي؛ وذلك عالم علوي كبير، وهذا عالم صغير سفلي.
ولذلك قلنا في رسالة أفعال الروحانيين: إن أفعال العالم الكبير تظهر في العالم الصغير، والعالم الصغير ليس له فعل يظهر في العالم الكبير، وإنما له البيان عما يودعه فيه ويرسله إليه.
وقد ألقينا إليك في هذه الرسالة من سر علم النجوم ومستحسنات مسائله وصادق براهينه ودلائله ما إن وقفت عليه تشوقت إلى تعلمه والتمهير فيه.
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه بمعرفة علم النجوم يكون لك التهدي للطلوع إلى السماء والجواز إلى المحل الأعلى، فإن لم تعرف ذلك تعذر عليك السلوك في هذه الطريق.
ويوشك أن من سلك في طريق لا يعرفها ضل فيها، كما قيل في المثل السائر والقول الغابر: «قتل أرضا عالمها»؛ يعني خبرا ومعرفة، و«قتلت أرض جاهلها» يعني حيرة وهلكة.
والدليل على ما ذكرناه وبيان ما وصفناه معرفة هذه المسألة.
(35) فصل إذا أردت أن تشير إلى رجل في حاجة من أمور الدنيا
إذا أردت أن تشير إلى رجل في حاجة من أمور الدنيا والدين فالذي يجب عليك أن تعلم هل تجده في الموضع الذي هو معروف به أم لا؟ فانظر إلى صاحب الطالع فإن كان في الأوتاد فإن الرجل في موضعه، وإن كان فيما يلي الوتد فهو قريب من موضعه، وإن كان ساقطا فليس هو في موضعه.
وإن كان الإنسان يعلم بهذا الدليل يسهل عليه ما يقصد إليه في حياة الدنيا، فإنه متى عدم هذه المعرفة كان جاهلا بما يقصد إليه ويقدم عليه هل يجد أم لا؟ فإن وجد ما يريده فبالاتفاق لا بالعلم، وقلما يتفق للجاهل الإصابة .
والعالم في راحة من نفسه؛ لأنه لا يقدم على العمل ولا يتوجه في الطلب إلا في الوقت الذي ينبغي والزمان الذي يستوي.
فلذلك أردنا لإخواننا، أيدهم الله وإيانا بروح منه، معرفة جميع العلوم وحثثناهم عليها وأرشدناهم إليها.
وإذا كان ذلك كذلك في المقاصد الدنيوية والمآرب الجسمانية لا يجب للمرء أن يتخلف عن معرفته، فكيف يجب له التخلف عن الأدلة الربانية وما يكون له به المعرفة بالطريق إلى الآخرة والقدوم على ربه ليجازيه بما كسبت يداه؟!
(36) فصل في أن من أحسن ما وصل إليه الناس بعد هذه الصناعة ...
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن من أحسن ما وصل الناس إليه من هذه الصناعة وأجل معارفها، أن يعلموا كيفية أحوال الملوك والسلاطين وولاة الأمور والعهود والأمراء والقواد وولاة الحروب والوزراء والكتاب والعمال والقهارمة، وابتداءات الدول وعواقبها، ومدة أعمال المواليد ومواليدها، وما يظهر منهم في الأزمنة ويعلمونه في الأمكنة، فإن ذلك من العلوم المخزونة والأسرار المكنونة والأخبار المدفونة مما استخرجتها الحكماء وعلمها العلماء بما قد وقفوا عليه ووصلوا إليه من أخبار السماء بالوحي والإلهام وصدق التخيل والرؤيا.
وقد رأينا، وبالله التوفيق، أن نذكر في هذه الرسالة طرفا من ذلك نرويه عن العلماء، ونخبر به عن الحكماء، من غير زيادة ولا نقصان، والله المستعان.
(37) فصل في أول ما يجب أن يعرف من ذلك
فأول ما يجب أن يعرف من ذلك وأن يعمل به عقد التاج وبيعة الملك وابتداء الولاية العظيمة والملك الكبير المتقرر في ذلك الملك النبوي، وهي بمنزلة الخلافة.
فأفضل ما يكون العمل بذلك والعلم به أن يكون القمر من الذي يطلب صحيحا نقيا من النحوس، وقبل ذلك معرفة الجوهر والجنس والبلدة والإقليم والمدينة، والمكان الذي فيه ذلك الابتداء، والولاية ومعرفة الزمان والأرباب والشهادات الدرجيات، وهي للخاص والكداخده[6] وصاحب القمر ومدبري التدبير، فتحمل ذلك وتجمع بعضه إلى بعض وتقيس الأول بالآخر، ثم تنظر إلى القمر خاصة أين هو في الابتداء؟ وكيف هو في صحته، وما يقارنه بجسده ومتصل به، ومسيره ومنزله والناظرين إليه، أمن حظه هم أم من غير حظه؟ ويكون عمل الابتداء للخلفاء في أحد البيعة أكثر حظا من الشمس، ولولاة العهود من المشتري، ولأصحاب الثغور من المريخ، وللقهارمة[7] من زحل، وللوزراء والكتاب من عطارد، وللعمال من القمر، وللقواد من الزهرة، والمريخ. وأفضل ما يكون عقد التاج وبيعة الملك وابتداء الولاية والظهور والرياسة والجلوس على سرير المملكة والنطق بالأمر والنهي أن يكون الطالع برجا ثابتا والقمر في موضع جيد.
فإن الملك يكون طويلا، ولا تكون الرياسة ذات مدة، ولا سيما الأسد؛ لأن البروج الموافقة لأمر الملوك: الحمل والأسد والقوس. فمتى كان كذلك ووجدت في الطالع سعدا فإنه يدل على حسن الخلق وصلاح جميع ذلك الابتداء والملك، وإن وجدت في الطالع نحسا كان غير ذلك من الفساد والرداءة، وإن كان المريخ في الطالع فإن المولى يكون فظا غليظا خفيفا شتاما لا حياء له ولا دين، بذيئا ضعيفا فاحشا في المنطق، يستقبل خدمه وأهل مملكته بالبذاءة والشتيمة، مبغضا لأقرانه، محبا لسفك الدماء وخراب البلاد، قليل الثبات على ما يأمر به، سريع السقوط بمنزلته، مفتضحا معيبا كثير الأعداء، يكثر شكيته.
وإن كان زحل في الطالع فإنه يكون حقودا لواما عسيرا قليل النفاذ لما هو فيه، حسودا بخيلا جماعا خداعا حريصا مذموما، وإن كانت الشمس في الطالع يكون كثير الجماعات كثير الجنود والعدد منيع الغير، ويكون له سعادة عظيمة وعز.
وإن كان المشتري في الطالع فإنه يكون صدوقا وفيا محبا للخير، عالما محبا لأهل الدين، كثير الأصدقاء والنصيحة، ذا عفة وزهادة في الدنيا.
وإن كان عطارد في الطالع فإنه يكون مفكرا داهية أديبا، محكما لأعماله بالحيل والعقل والخداع والمكر، فإن كانت الزهرة في الطالع فإنه يكون كثير الأموال والمواريث من جهة النساء والخدم، وضعيف البدن قليل الثبات على الأمور، سهل الوطأة، محبا للهو واللعب والفرح والنزه وجودة اللباس والعطر وطيب المأكول والمشروب والخلوة مع النساء والحرم والتزيي بزيهم.
وإن كان القمر في الطالع فإنه يكون جريئا مشهورا بالقوة والمشي بالليل، وإن كان الرأس مع السعود في الطالع فإنه يكون قاهرا لملوك الزمان ظاهرا على أعدائه.
وأفضل ما يكون عن الملك وقهره وقوته وضبطه إذا أشرف المشتري على الشمس أو على القمر أو على الطالع، وهو من بعض بروج الملوك، وهو أيضا في برج من بروج الملوك، وأعظم لذكره وأعلى أن يكون البرج الذي فيه المشتري متقلبا؛ لأن المنقلبة أبدا هي أشهر أمرأ وأعلى وأنصح، وذوات الجسدين فيها أكثر أجناسا وتخليطا، والثابتة أطول أمرا وأثبت.
ومتى وجدت المشتري في ابتداء المملكة خالي النظر عن الشمس والقمر والطالع فاعلم أنه لا محمدة لذلك الملك ولا مذمة ولا صلاح، فإن وجدت المريخ في موضع حسن أو يكون المشتري في بيت المريخ والمريخ في بيت المشتري فإن الملك يكون جائرا، نافذ الأمر، مظفرا في القتال، قاهرا لأعدائه، فتاحا للبلاد وضابطا للملك، بعيد الغور في أمر عدوه، ضعيف الأعداء، لا سيما إن كانت الشمس مع ذلك في الأسد الذي هو برج نهاري وصاحب بيت المال ينظر إليها من وتد أو من بعض الأماكن القوية ميمنة أو ميسرة.
وينبغي لك أيضا أن تنظر إلى البيت العاشر من الطالع الذي هو بيت الملك، وتنظر أيضا إلى العاشر من بيت الشمس الذي هو فيه، الذي هو بيت ملكها في ساعة المسألة أو حين النظر والابتداء؛ لأن هذين المكانين متى ما وجدت فيهما السعود وكان أصحاب ذلك البرجين في بروج ثابتة جيدة الموضع فإن الملك ذو سعادة وخير وفضل.
وإن كانت الكواكب التي في ذلك المكان في شرفهما أو شرقيه، أو في حظ الابتداء، أو لها نصيب في ذلك الابتداء من الاجتماع والامتلاء وسهم السعادة أو نحو ذلك، فهو أفضل وأجود؛ وذلك أن تكون الكواكب في مواضعها مستقيمة في سيرها وسعودها في العرض والشمال، زائدة في جريها، ملائمة الابتداء إلى النهار بالنهار، والليل بالليل، فتكون أيضا تنظر إلى أصحاب حظوظها وليست بالناقصة ولا بالبطيئة ولا في هبوطها ولا في ضدها، ولا في الدرجات التي هي آثار، ولا في الأماكن المظلمة، ولا تحت شعاع الشمس ، فإن ذلك كله يدل على الكذب والغش والتخليط على قدر الموضع والمكان والمنحسة.
ولتكن أيضا تنظر إلى برج وسط السماء فإنه موضع لا بد منه؛ لأنه برج الملك والسلطان، واعرف درجة الطالع والبيت والحد والوجه والشرف من الكواكب ومن فيها ومن ينظر إليها، وهل فيها من الكواكب المضيئة شيء؟ وأين صاحب شرفه؟ إلا أن أجود ذلك يكون صاحب شرفه سعدا أو يكون صاحب وسط السماء شرقيا مستقيم السير.
وأجود ذلك أن يكون في شرفه وموضع له فيه حظ، ويكون صاحب ذلك الشرف في شرف الشمس أو القمر أو المشتري، ويكون صاحب ذلك الشرف في أي مكان موضع جيد؛ فإنه يأتي بدلالته حيثما وقع بقدر قوته والكواكب المعينة له.
واعرف المكان الحادي عشر الذي يسمى المكان المعين وما فيه من الكواكب، فإن وجدت فيه الشمس أو القمر أو المشتري أو الزهرة أو عطارد أو الرأس وينظر إليه السعود، فإن ذلك الابتداء يكون من حسن المستقبل والثبات والقوة والبهاء والزيادة؛ لأن مثل ذلك يكون ملكه وأصلا إلى ولده أو يبلغ فيه بهمته، ولا سيما إذا كان ذلك المكان من بروج السعود، ويكون فيه المشتري أو عطارد أيهما كان في ذلك الموضع ينظر إلى السعود، دل على وصول الملك إلى ولده. وإن وجدت زحل بالنهار في شرفه أو ينظر إلى المشتري، وكان المريخ في شرفه بالليل أو في بيته، أو في بيت المشتري، أو ينظر إليه المريخ من عداوته، فإن الملك الذي كان الابتداء له يكون مخربا للبلدان غاصبا قاهرا، وكذلك يكون عزيزا جريئا لا يهاب أحدا، يحب سفك الدماء، راغبا في الذكر، شجاعا، ولا سيما إن كان مع المريخ سهم السعادة وسهم الجرأة؛ فإنه يكون منهمكا في إراقة الدماء وقتال الأقران، محبا للفرسان والسلاح والأسفار، ويكون له أفعال تختص به لا يبديها لأحد حتى يفعلها فجأة.
واحفظ سهم السعادة وسهم الشرف وسهم الملك، وتحسب له من درجة الشمس التي هو فيها بالنهار إلى تسع عشرة درجة من الحمل، ثم تلقي ذلك من الدرجة الطالعة، فحيث ينقد الحساب ففي تلك الدرجة سهم السعادة بالنهار، وبالليل تعد من الدرجة الثالثة من الثور، وتلقي ذلك من الطالع أيضا كما صنعت بالشمس، واحفظ سهم الملك الذي يعد من الشمس إلى القمر بالنهار، وبالليل تعد منه إليها ويلقى من درجة وسط السماء؛ فإنك إذا وجدت هذه السهام في مواضع جيدة مع السعود فإنه أشهر للسعادة وأشهر للملكة.
واعرف الثاني عشر من الطالع الذي يسمى بيت الشقاء، ومن في كل بيت منها من السعود ومن النحوس؟ وأيها كان فيه نحس؟ فاعلم أن بليته وعداوته من تلك الناحية التي يكون ذلك النحس، وكذلك ما يهيج عليه من النواحي التي يكون فيها النحوس وقت الابتداء، فإن وجدت النحوس ساقطة ولا سيما تحت الأرض، فاعلم أن أعداءه إلى الضعف والوهن وقلة القدرة على ما أرادوا، وأفضل ذلك أن يكون الطالع وسط السماء في وتد.
واعرف الهيلاج ومن ترى منه، وانظر المضيئين والشعاع ورب الطالع ورب وسط السماء وسهم السعادة؛ لأنك متى وجدت النحوس في أحد هذه الأماكن بالشعاع كانت المضرة والشر فيها كائنة، فإذا كان إلقاؤها لذلك الشعاع على الهيلاج تخوفت على نفسه، وإن كان إلقاؤها الشعاع على وسط السماء تخوفت على ملكه، وإن كان إلقاؤها الشعاع على الطالع تخوفت عليه في جميع أموره، فإن كانت السعود هي التي تلقي الشعاع على هذه المواضع التي ذكرت فاقض عليه بالفرح والسرور والاستقامة والخير، وليكن نظرك لبقاء الملك والسلطان من الشمس والطالع ولا سيما بالنهار فإنه متى وقع عليه الشعاع من النحوس دل ذلك على الخوف، والله أعلم.
وإذا عرفت أمر الهيلاج فاطلب الكدخدا من بعد ما وصفت لك في المواليد؛ فإنه إن كان الكدخدا في الوتد أو مكان الشعاع أو في الخامس فإنه يدل على السنين، وإن كان فيما يلي وتدا فإنه يدل على الشهور، وإن كان ساقطا فإنه يدل على الأيام بعدد درجه، وكذلك فانظر إلى ما ينظر إليه النيران من السعود والنحوس، فإنها إن نظرت من التثليث أو التسديس من موضع حسن دل على الزيادة في السنين والشهور، وإن يكن نظر عداوة دل على النقصان والاجتماع والامتلاء، إذا وقع في وتد أو فيما يلي وتدا أو صاحبه في موضع حسن دل، بإذن الله، على الزيادة والقوة والنجح.
(38) فصل في أنه لما كان بهذا العمل ...
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه لما كان بهذا العمل ومعرفة هذا العلم وأحكام هذه الصناعة وتقويم الحساب يكون تمام العمل للملك الأرضي وسياسة العلم الفلسفي، وإن كان المتولي لذلك الأمر يحتاج إلى من يدبر له هذا العمل ويقوم هذا الحساب، وإذا كان ذلك كذلك فليس بملك ولا إمام، وإنما الخليفة من استخلفه الله تعالى بأمره وأيده بملائكته وكان هو المدبر له بالتدبير الذي يجمع له به السعادات الفلكية كلها، وإليه تصرف روحانياتها، كما أيد الله سبحانه سليمان بن داود بالملكية وسخر له الجن والإنس والطير والوحش، وكما أيد موسى عليه السلام، بكلامه وأمره حتى قهر فرعون وأهل مملكته ورجال دولته، واستجاب له سحرته وهم أصحاب النجامة والكهانة في زمانه، وهم الذين كانوا يدبرون له ملكه بما وقفوا عليه ووصلوا بعلمهم إليه، فلما رأوا من موسى، عليه السلام، ما بهرهم نوره، ولم يروا في علمهم أن عمله يبطل، ولا أن ما يأتي به يتعطل، وأن جميع ما هم فيه من أمر فرعون زائل مضمحل، ورأوا أن السعادات قد انصرفت مسخرة بأجمعها لموسى وهارون، عليهما السلام: @QUR08 قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون، وأن التأييد الكلي والأمر الإلهي هو مصرف تلك السعادات إلى موسى وأخيه، استجابوا له وخضعوا عنده.
وكذلك حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لما صرف الله تعالى التأييد إليه وأنزل الوحي عليه خضعت له الملوك، واستجابت له الكهنة والمنجمون وهم الذين عندهم علم من الكتاب، وآمنوا به وصدقوا بمبعثه، وكان هو المدبر لهم والحاكم عليهم، ولم يحتج إلى تدبيرهم، وكان يأتيهم بما ليس عندهم وبما يخرج عن وسع طاقتهم، وآتاهم من علم الفلك وأخبار السماء بما لم يصلوا إليه ولا قدروا عليه.
فلما رأوا ذلك علموا وتحققوا أن تأييده إلهي وحكمته ربانية، وأن الأمر الذي ألقي إليه من فوق الأفلاك ومن أعلى السموات فإنه يلقى العرش المحيط والكرسي الواسع.
فهذه صفة الولاية العظيمة والخلافة الكبيرة التي هي خلافة الله تعالى، والمستخلف بها هو النبي صلى الله عليه وسلم في زمانه، وبهذا العقد يكون من استخلفه النبي عليه السلام، من بعده إذا مضى إلى ربه عز اسمه.
وهذه الولاية المخصوصة لأهل بيت الرسالة عليهم السلام، لا يحتاجون فيها إلى مدبرين غيرهم وإلى علماء سواهم، ولا يطلع الناس على أسرارهم ولا يعرفون أخبارهم، ولا يطلعون على مواليدهم، ولا يعرفون سنيهم في موتاهم، ولهم علوم يتميزون بها وينفصلون عن العالم بمعرفتها، وأعمال يعملونها لا يشركون فيها غيرهم.
ولذلك استحقوا الرياسة ووسموا بالخلافة، وإنهم لا يبدون عملا من الأعمال ولا يظهرون فعلا من الأفعال إلا بمشيئة إلهية وإرادة ربانية، في الوقت الذي ينبغي به إظهار ذلك العلم فيه، وهم أطباء النفوس ومداوو الأرواح.
وإنما أردنا بما بيناه لك من العلم والعمل والتدبير الذي يذكره أهل هذه الصناعة، ويصنعون في وقت ابتداء الخلافة ونصب سرير المملكة، واجتماعهم لذلك وادعائهم بما يعلمونه، وترؤسهم بما يصنعونه وطلب الجوائز والأموال والخلع؛ ليعلم أن الملك والخليفة الذي يستخلف بهذا التدبير هو مملوك وليس بمالك، وإنما أيد بتأييد أرضي وهو محبوس محجور عليه، وقد سحر بسحر لا ينفك منه ولا يستخرج عنه إلا بالموت.
وقبل ما يتفق في أول تلك المملكة من يكون عنده من هذه المعرفة وصحة الصناعة ما يتدبر به على الصلاح، وإن اتفق ذلك فإن الزمان لا يتهيأ له على ما يريده من العمل، وإن تهيأ له ذلك خالفه حكم المولد، وإن اتفق ذلك وقع الخلاف والمنازعة من أهل الصناعة، وإذا وقع الاختلاف فسد المختلف فيه.
فقد بان لك بما ذكرنا كيف تكون خلافة الله عز وجل وخلافة خلقه.
فإن قال قائل: ذلك لا يكون إلا بأمر الله سبحانه، فقد صدق إذا اتبع فيه المستخلف الأمر الذي يرضي الله عز اسمه، وهو الذي من أطاعه فقد أطاع الله تعالى، كما قال الله تعالى: @QUR06 من يطع الرسول فقد أطاع الله.
وإن عدل عنه إلى ضده فقد خرج من أمر الله تعالى وارتكب نهيه، ونريد أن نبين هذا القول ونوضح هذا المعنى.
واعلم يا أخي، أيدك الله، أن أول خليفة استخلفه الله تعالى في أرضه هو آدم، عليه السلام، فلما أمره الله تعالى بمخالفة إبليس الذي هو عدوه وضده ألا يقرب الشجرة التي نهاه عنها كان في الجنة بأمر الله.
فلما أطاع إبليس فقبل منه وأكل من الشجرة، خرج من أمر الله تعالى وصار في أمر إبليس، لعنه الله، ووقع في الخطيئة؛ لأن الله تعالى أمره فخالفه وأمره إبليس فأطاعه.
فلما علم ذلك بمناداة الله له في تذكاره بما استوجبه من نسيان وصيته استرجع وتاب وأناب ولم يستكبر كما استكبر إبليس.
وكذلك إبليس أمره الله تعالى أن يسجد لآدم، فلما سولت له نفسه أنه خير منه وامتنع من السجود، خرج من أمر الله سبحانه وصار في أمر نفسه.
وهكذا يجري أمر المستخلفين من ذرية آدم في الأرض من كان منهم مستخلفا فيها بأمر الله تعالى الذي استخلف به آدم بعد التوبة، وهو الأمر الثاني والوصية الثانية التي لم يتعدها ولم ينسها وجعلها كلمة باقية في عقبه، وهي خلافة النبوة ومملكة الرسالة والإمامة.
فمن تعدى هذا الأمر وخالف هذه الوصية وطلب أن يكون خليفة الله تعالى ليدبر خلقه بسعيه وحرصه فإنه لا يتم له، وإن تم وقدر عليه فإنما هو خليفة إبليس؛ لأنها حيلة ومكيدة وخديعة وتعد وغصب وظلم وعدوان وخذلان وطغيان وعصيان.
فإذا فعل ذلك ربطت به روحانية كوكب، فلا يزال محبوسا فيها محصورا في أحكامها حتى يموت.
وعلى هذا تجري أحوال الملوك والسلاطين والمتغلبين في الدنيا؛ ولذلك صاروا محتاجين إلى المنجمين وأصحاب المعارف، حتى إن بعضهم إذا وصل إلى حكيم عالم من أهل هذه الصناعة وبلغه ما يريده، وعلم أنه عارف بما يبدو منه ويظهر عنه ومن عاقبة أمره قتله أو حبسه أو منعه من الكلام، والأحب إليه قتله.
فلذلك صارت العلماء لا يظهرون علومهم للملوك بأسرهم ويكتمونها عنهم ولا يرغبون فيما يرغبونهم فيه من أمور الدنيا وأحوالها.
واعلم يا أخي أن هذه الصناعة حق ويقين، والعارف بها على حقيقة المعرفة قد وقف على الصراط المستقيم @QUR05 وإنه لقسم لو تعلمون عظيم وإنما ألقي إلى العالم من علمها كالنقطة من البحر أو كالقطرة من القطر؛ إذ كانت الدنيا بأسرها والأرض بما عليها وفيها ببطنها وظهرها تشبه حبة خردل في أرض فلاة، لم يدرك العقل سعة أقطارها بالقياس إلى فلك القمر الذي هو أصغر الأفلاك كلها.
وإذا كان ذلك كذلك فقد صح أن خلافة الله تعالى هي أمر خارج عن تدبير السياسة البشرية أن يعرفوه وعلم خفي عنهم أن يعلموه.
واعلم يا أخي أن البيت الذي فيه سر الخلافة وعلم النبوة هو البيت الذي وسموا أهله بالسحر العظيم في الجاهلية والإسلام؛ لما يظهر منهم من الآيات ويعلمونه من المعجزات، فلم يجد أعداؤهم حالا يضعون بها من منازلهم - لما عجزوا عن العمل بمثل ما يعملونه وجهلوا العلم الذي يعلمونه - إلا أن قالوا إنهم سحرة وإن لهم أعوانا من الجن يمدونهم بذلك.
وهيهات، حيل بينهم وبين ما يشتهون! وإن هو إلا علم إلهي وتأييد رباني، تنزل به ملائكة كرام كاتبون وحفظة حاسبون، يلقونه بأمر الله عز اسمه، على من اصطفاه من خلقه وارتضاه بخلافته في أرضه.
واعلم يا أخي أن حجة الله تعالى في خلقه وأمينه في أرضه من عالم الحيوان هو صورة الإنسان، وخليفته في أرضه على النبات والحيوان، وكذلك في المعادن، كما قلنا في رسالة أفعال الروحانيين: إن الدائرة الواسعة تظهر أبدا أفعالها وتبين أفعالها فيما تحتها.
واعلم أن في الدائرة المعدنية جواهر فاضلة شريفة، وكذلك في النبات والأشجار وما يبدو عنها أو يتكون منها، وكذلك في الحيوان ملوكا ورؤساء، كما ذكرنا في رسالتنا الجامعة.
واعلم أن في الحيوان ملوكا ورؤساء، بعضهم جائر معتد يأخذ أموره بالقهر والغصب والظلم، كأنواع السباع والوحش؛ فهي في غاية الذم وقلة الانتفاع في القرب منها، بل الأولى الهرب منها والبعد عنها، ومنها ملوك ورؤساء يأخذون أمورهم بحسن الخلق وطيب النفس، مثل الفرس الكريم والبقر والغنم، وكذلك في الطير، وهذا موجود في الخليقة بأسرها والدائرة الأرضية بأجمعها.
وإذا كان كذلك في المعادن والحيوان والنبات فكيف لا يكون منه في عالم الإنسان الذي هذا كله له ومن أجله؟ وبهذا البرهان أن كل جبار وسلطان ظهر فيه الجهل ولم يوجد فيه العلم فهو مثل السباع والوحوش، يأخذ من زمانه ما قدر عليه ومن وقته ما وصل إليه، والمجاورون له في تعب ونصب وخوف منه ومشقة مما يحملهم من مؤنته وفي مذلته من مملكته.
والذين هم الخلفاء بغير هذه الصفة مثل الأنبياء والأئمة والتابعين لهم بإحسان، رضي الله عنهم ورضوا عنه، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، هم خلفاء الله تعالى التابعون لأمره، وبهم صلاح العالم، وربما كانوا ظاهرين بالعيان، موجودين في المكان، في دور الكشف، وبالضد من ذلك في دور الستر، غير أنهم في دور الستر لا يكونون مفقودي الوجه جملة من أعدائهم.
فأما أولياؤهم فيعرفون مواضعهم، ومن أراد منهم قصدهم تمكن منه، ولو كان غير ذلك كان منه خلو الزمان من الإمام الذي هو حجة الله على خلقه، وهو تعالى لا يرفع حجة ولا يقطع الحبل الممدود بينه وبين عباده؛ فهم أوتاد الأرض، وهم الخلفاء بالحقيقة في الدورين جميعا؛ ففي دور الكشف يظهر ملكهم في الأجسام والأرواح، وفي دور الستر يجري أمرهم في الأنفس والعقول، وأصحاب المملكة الأرضية والخلافة الجسمانية.
وإنما تظهر في الأجسام أفعالهم دون الأنفس لم يملكوا الملك الروحاني ولا أيدوا بالتأييد السماوي؛ ولذلك صاروا مشاغيل بمثل ما يشتغل به البهائم، ليس لهم همة إلا البطن والفرج، وكذلك ليس لهم همة إلا جمع ذخائر الدنيا وجواهرها واغتنام لذاتها والحرص على نيل شهواتها، كما قال تعالى: @QUR09 زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة إلى قوله جل جلاله: @QUR04 والله عنده حسن المآب وهؤلاء الناس هم المغرورون بالملك الأرضي، كما قال الله مخاطبا للإنسان: @QUR07 يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم.
واعلم يا أخي أن المغرور المفتون بالدنيا هو الذي يقول لنفسه إذا رأت العذاب: @QUR08 يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله ويقول: يا ليت لي رجعة، يا ليت لي كرة. هيهات حق القول @QUR06 لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين، @QUR09 وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا. فقد بان لك يا أخي بهذا البرهان الفرق بين خليفة الله وخليفة الشيطان، والملك الأرضي والملك السماوي.
واعلم يا أخي أنه بهذه الصناعة يكون لك معرفة الملوك والرؤساء والسلاطين والمديرين وأتباعهم، وما يكون من أمورهم وأحوالهم، وحال من يعاديهم ويخرج عليهم في زمانهم ويضايقهم في مكانهم، وإذا عرفت ذلك واطلعت عليه طابت نفسك بذلك وسكنت إلى ما علمته، وملت نحو الخليفة الذي عنده الحق واليقين، واستخلفته على نفسك الزكية وروحك المضيئة، وإن قدرت عليه ووصلت إليه فقد نجوت ووقفت على الطريق الواضحة والمحجة اللائحة، وإن عدمت ذلك فاجعل الخليفة على نفسك عقلك، واقبل منه أوامره ونواهيه، واجتنب الهوى فإنه خليفة إبليس فيك، وإياك أن يجتمع عليك الخليفة والمستخلف أعني إبليس بالقوة وخليفته فيك بالفعل، وذلك إذا استولت نفسك الحيوانية وقوتك الشهوانية على النفس الناطقة والقوة العاقلة فتهلك.
(39) فصل في أن أقوى ما يكون فعل إبليس في دور الستر
واعلم يا أخي أن أقوى ما يكون فعل إبليس في دور الستر؛ وذلك لأن حجة الله عز اسمه، في أرضه وخليفته في عباده يكون مختفيا مستورا، وإن كانت أنواره تضيء في نفوس العارفين به والراجعين إليه الذين لا يغرهم ما يرونه من قوة ملوك الدنيا وخلفاء الشياطين؛ فإنها أمور زائلة مضمحلة فانية لا بقاء لها ولا دوام، ولا ينظروا من أمامهم إلى ملكه وسلطانه في دور ستره، ولا يشككهم فيه دور الخفاء والاستتار، بل يكون الإمام عندهم في حال ستره وخفائه؛ لأن جميع ما يجوزونه على النبي المرسل فقد يجوزون مثله على الوصي وعلى الإمام؛ إذ كان النبي أشرفهم وأعلاهم رتبة، فهم يجوزون على النبي الموت والقتل والهرب من الأعداء إذا لم يجد أنصارا، والأكل والشرب والنكاح والفرح والغم، وإن الأمور الفلكية تطرأ على أجسامهم كما تطرأ على أجسامنا، غير أن نفوسهم الروحانية الشريفة النورانية هي من خارج الأفلاك، فلا يحكم الفلك على أنفسهم بل على أجسادهم، وإنهم بالأجساد مثلنا، غير أن بالأنفس فرقا بيننا وبينهم، مثل ما بين الحيوان الغير الناطق وبيننا.
وهذا ميدان يطول، إن أردنا شرحه خرجنا عن غرض هذه الرسالة، فنعود إلى ما كنا فيه فنقول: وإذ قد ذكرنا كيفية ابتداء المملكة وعقد التاج ونصب سرير الملك، فلنذكر من علم هذه الصناعة والعمل بها كيفية نصب لواء العز والولاية، وعقد التاج وعلامة الحروب؛ فهو أحسن أعمال هذه الصناعة بعد ما ذكرناه.
(40) فصل قال بطليموس: انظر إلى القمر في عقد الولاية ...
قال بطليموس: انظر إلى القمر في عقد الولاية عند ذلك العمل وما يلي الجبايات له فلا تسقطه من المشتري، واجعل زحل متصلا به القمر في بيت زحل من التثليث أو التسديس في أول الشهر، واجعل القمر في بيت زحل والقمر في التثليث أو التسديس، كما وصفت لك في أول الشهر، واجعل السعود تنظر إلى القمر بعض النظر، فإذا كان ذلك كذلك فإن تلك الولاية وذلك العقد تدوم ويطول على قدر ما يرى من قوة المريخ سنين ثم أشهرا ثم أياما، فإن كان المريخ في الموضع الذي وصفت والقمر والسعود معه في أول الشهر فإن ذلك الوالي يفسد عليه أهل عمله ويشنعون عليه، ويخاف عليه الجيش ونهب ملكه في عمله ذلك، ويكون آخر أمره إلى السلامة لمكان السعود والقمر، وإن كان المريخ في آخر الشهر فإنه موافق جيد، وإن كان المريخ وزحل جميعا ينظران إلى وسط السماء نظر عداوة فإن ذلك اللواء يخاف عليه الهلاك ويقتل صاحبه أو يحبس في حبس يموت فيه أو يؤتى من بعض أهل عمله، وإن كان زحل في آخر الشهر فإنه مذموم إن كانت له حصة قوته، إلا أن يكون ضعيفا لا حصة له ويكون السعود عليه قويا، وإذا كان القمر في زحل والعقد في نظير الطالع كان صاحبه هيوبا ويخاف الناس منه.
وانظر عند ذلك إلى القمر فإن كان مقبولا فهو يدل على أن رعيته يحمدونه، وإن لم يكن مقبولا كان مذموما عندهم إلى أن يخرج عنهم، وإن كان منحوسا زاد شرا ولقوا منه شدة.
وعلى هذا القياس يكون العمل بما يتفرع لك من ذلك به.
(41) فصل في أن اللواء الذي يعقد للنبي والإمام ...
واعلم أيها الأخ، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن اللواء الذي يعقد للنبي والإمام، صلوات الله عليهم، هو يكون بعلم هو أعلى من هذا وأوضح؛ وذلك أنه عقد بقصد التأييد وموافقة التسديد، ولا يعقده النبي والإمام إلا لمن يكونون بالمنزلة التي يستحق بها ميراث ذلك العلم، مثل عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية، قال لأصحابه: «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، كرار غير فرار، لا يرجع حتى يكون الفتح على يديه.» وكان ذلك كذلك.
ومثل الوقت الذي أخرجه فيه إلى شيطان الأحزاب وما أتبعه به من الدعاء المستجاب في الوقت الذي ينبغي ذلك فيه، وبمثل هذا العلم يكون لك المعرفة بأفعال الأنبياء والأئمة وما يعلمون من أعمالهم لأصحابهم ومن يتبعهم؛ فإنهم يعطون لكل واحد منهم من ذلك ما يستحقه من منزلته، ويصدر عنه من فضيلته عندهم وكرامته لديهم، ويزيد ذلك وينقص بحسب ما يرون له من الصلاح في ذلك.
ولما ذكرنا أنا نورد من مستحسن هذه الصناعة وغرائب عجائبها ولطائف أسحارها، ذاكرناك بهذا الفصل، وهو علم غريب وسحر عجيب، إذا أردت المضي أنت أو من يتفق له ذلك من إخوانك أو من سألك عن حال دعوة أو وليمة قد دعي إليها ويريد المضي إليها كيف يكون حاله، وصفة المجلس ومن يحضر وما يحضر فيه من الطعام والشراب والندماء؟ وكيف صاحب الدعوة؟ وما صفة جميع ما هم فيه؟ فابدأ بالقول عليه والحكم بما نبين لك في هذا الفصل .
(42) فصل إذا أردت ذلك فانظر إلى الطالع
إذا أردت ذلك فانظر إلى الطالع؛ فإنه يدل على ما يؤكل في المنزل:
ومن البرج الثاني من الطالع يعرف ماهية ما يؤكل.
ومن البرج الثالث يعرف صفة الجلساء ونعت الندماء.
ومن البرج الرابع يعرف الموضع الذي يجلس فيه أهو غربي أم شرقي، قبلي أو شمالي، أجيد أم رديء؟
واعلم أن من البرج الخامس يعرف الشراب ما هو؟ ومن البرج السادس يعرف خدمهم، ومن البرج السابع يعرف الموضع الذي يذهب إليه بكرم فيه أم لا؟
ومن البرج الثامن يعرف هذا الخبز والطبخ، ومن البرج التاسع يعرف قرينك في الموضع الذي تجلس إلى جانبه.
ومن البرج العاشر تعرف صاحب البيت الذي دعاك، ومن الحادي عشر يعرف حال المغنين، ومن الثاني عشر يعرف نساء البيت ورجالهم.
فإن كان القمر في الطالع فطعامهم يكون الغالب عليه الرطوبة وقلة الطعم الطيب وكثرة المرقة والمائية عليه غالبة.
وإن كان القمر مع المريخ في الطالع فإنه يقع في الدعوة شيء كثير.
وإن كان القمر والمريخ في وسط السماء يكون في الدعوة سفك الدماء بجرح أو قتل.
وإن كان القمر مع عطارد فإنه يحدث في المجلس شراء أو بيع.
وإن كان القمر مع الزهرة كان في الدعوة طرب ولهو.
وإن كان واحدا مما سميناه في الطالع فهو بمنزلة القمر في ذلك.
وإن كان القمر ينظر إلى زحل من التثليث والقمر في برج من بروج الماء، فإن الذي يؤكل في الدعوة سمك أو مما يكون في الماء من الحيوان.
وإن كان القمر في الميزان فالمأكول حبوب.
وإن كان القمر في الجوزاء والدلو فالمأكول في الدعوة لحم طير.
وإن كان القمر ينظر إلى زحل من تربيع أو مقابلة فالمأكول في الدعوة لحم بارد.
وإن كان القمر مع المريخ أو ينظر إليه فالمأكول لحم حار.
وإن كان زحل في الخامس من الطالع فإن شرابهم مر.
وإن كان المريخ في الخامس فشرابهم حامض.
وإن كان المشتري وعطارد في الخامس فشرابهم شديد الحلاوة.
وإن كانت الزهرة في الخامس فشرابهم بين الحلاوة والمرارة: عطر الرائحة طيب الطعم مليح اللون.
وإن كان القمر في العقرب مع ذنب فاحذر أن تسقى السم في مجلسك.
وإن كان القمر في الأسد فاحذر اللحم، وإن كان في القوس فاحذر أن تأكل لحم الصيد.
وإن كان القمر في الميزان فاحذر أن تأكل الفجل والحبوب، وإن أكلت ضرك، والله أعلم بالصواب.
فانظر يا أخي إلى هذا العلم العجيب والصناعة المتقنة، الحاوية لجميع ما يجري في الموجودات ويحدث من الكائنات، ما أحسنه وأحسن العمل به والحكم عليه! وبهذا العلم يكون الإخبار لمن صح له العمل بما يكون قبل أن يكون، وهو ضرب من علم الغيب الأرضي، وكذلك ما يكون بالزجر والفأل.
(43) فصل في مستحسنات هذه الصناعة وعجائب أسرارها
ومن مستحسنات هذه الصناعة وعجائب أسرارها معرفة حال من يريد زيادة قوم، والمبين عندهم، وما يكون من أمره في ذلك الموضع، وما ينتهي إليه حاله.
إذا أردت ذلك فانظر إلى الزهرة؛ فإنها الدليل على حال النساء، وإن كانت في بيت المريخ أو زحل فإنه يأتي تلك الليلة امرأة غير امرأته، وإن كانت الزهرة في بيت عطارد أو الدلو أو الجدي أو السرطان والقمر معها فإنه يبيت في بيت مضيء مشرق عند امرأة عزباء، وإن نظر الزهرة والقمر جميعا في بيت المريخ فإنه يأتي امرأة عاتقا، وكذلك إن نظرت من السابع إلى بيت المريخ على أي حال كان ونظر إليه ربه كان مثال ذلك.
وإن كان المريخ في السابع ونظر إلى درجات الطالع فإنه يأتي الرجال والنساء في أدبارهن، وإن نظر عطارد من السابع كان مثل ذلك، وإن نظر المشتري إلى الزهرة فإنه يأتي امرأته.
وإذا كان الطالع برجا ذا جسدين وتنظر الزهرة من السابع فإنه يقضي حاجته ويبيت وحده، وإذا نظر القمر من السابع إلى برج ذي أربع قوائم وكان بين زحل أو درجاته فإنه يأتي الدواب، وإذا نظر زحل من بيته من السابع إلى الطالع فإنه يأتي نساء أصحاب حرث ويبيت من الأرض في موضع مظلم قذر.
وإذا كان المشتري كذلك فإنه يبيت مع امرأة جميلة حسناء، وإن كان المريخ والزهرة جميعا فإنه يأتي نساء في هول وخوف وهو من ذلك على خطر.
وباقي هذا الباب مذكور في كتب أحكام النجوم، وإنما أوردنا من ذلك المقدمات، فإذا وقفت عليها صح لك ما قلنا، إن جميع ما يحدث في العالم البشري والخلق الأرضي بتدبير فلكي وأمر سماوي إذا كان العالم السفلي مربوطا بالعالم العلوي في جميع أموره وأحواله، وإنما أردنا بما ذكرنا من هذا العلم ليعلم إخواننا، أيدهم الله، أن فضيلة العلم هي الموجبة للإنسان اسم الإنسانية، التي يتهيأ له بها الوصول إلى الصورة الملكية والرتبة السماوية، والعلم بالأمور الغائبة عن العيان والمتقدمة بالزمان والمستقبلة الكيان هي من أشرف العلوم وأجلها، ومعرفة ذلك تكون بعد الحذق بالصنائع كلها والتمهر فيها، وطيبة النفوس وسلامة القلب والتسليم لما يكون، وقلة الجزع والخوف مما لا بد منه ومن كونه، استدفاعا بالدعاء والتضرع إلى الله تعالى والخوف منه وحده لا شريك له.
ولعل كثيرا ممن يقف على رسائلنا هذه يظن أن مرادنا في وضعها هو تعليم علم النجوم، ولعمري إن ذلك من أحد أغراضنا فيها؛ لأننا نحب لإخواننا، أيدهم الله، أن يقفوا على جميع العلوم ويتعلموها ولا يجهلوها؛ إذ كان مذهبهم هو النظر في جميع العلوم واستقراؤها كلها والإحاطة بمعرفة ظواهرها وبواطنها، وأكثر أغراضنا فيما وضعنا من رسائلنا كلها توحيد الله عز اسمه، وتنزيهه عما نسبه إليه الجاهلون عن معرفته، الحائدون عن محجته والمعرفة بما خلق من خليقته وأبدع من صنعته، فإن الأشياء كلها مربوطة بعضها ببعض محتاجة بعضها إلى بعض. وقد ظن كثير من الناس ممن سمع ذكر السحر والسحرة، وأن من السحرة قوما يحيلون الصور عما هي عليه مصورة إلى صورة أخرى؛ وذلك لما رأوا صور درجات الكواكب ونوبهراتها في البيوت القديمة الباقية من عهد الحكماء الأولين المتقدمين من القرون الخالية والأمم الماضية.
فلما رأوا ذلك ظنوا بفساد ظنونهم أن تلك الصور المصورة والخطوط المسطورة هي مما كانوا يعملون به من السحر، وأنهم كانوا ينزلون به الطير من الهواء، ويستخرجون به السمك من قعر المياه بالكلام والرقي والعزائم، وأنهم كانوا يسحرون الإنسان حتى يصير حيوانا، ولهم أوهام كثيرة في مثل ذلك فاسدة. وليس الأمر كما ظنوا ولا الحال كما توهموا، لكنها بالحيل التي عملوها والفخاخ التي نصبوها والصنائع التي أحكموها، وهي السحر الموجود في العالم، ما دام العالم موجودا إنما هو موجود به، وقد ذكرنا في صدر هذه الرسالة ماهية السحر وأقسامه وما يختص بكل قوم من الناس وأصحاب كل صناعة، ولولا خوف الإطالة لأتينا بذكر ما أسره أصحاب علم النجوم، والذي به قدروا على ما قدروا من الإخبار بما كان ويكون، وقد أتينا على شيء منه، ونريد أن نزيد في الاستدلال على ما يعلم به حال المولود من وقت مسقط النطفة، ونذكر في هذا الموضع العلم الذي يعرف به الجنين في بطن أمه أذكر أم أنثى؟ وهل الحمل واحد أو اثنان؟ وعن الحمل متى كان؟ وغير ذلك.
(44) فصل إذا أردت أن تعرف هل الحمل واحد أو اثنان
إذا أردت أن تعرف هل الحمل واحد أو اثنان، فانظر إلى الطالع، فإن كان برجا ذا جسدين وكان فيه كوكب، ووجدت في بيت الولد مثل ذلك، فإنها حامل بتوأم، وإن لم يكن الطالع ولا بيت الولد برجا ذا جسدين ولا فيه من النحوس شيء مما ذكرت ولا النيران في بروج ذوات الأجساد فإنها حبلى بواحد، وإذا أردت أن تعرف الحمل أذكر أم أنثى؟ فانظر إلى رب الطالع ورب بيت الولد، فإن كان في بروج إناث فهو أنثى، وإن كان في بروج ذكران فهو ذكر، وإن اختلفتا فاستشهد بالقمر فأيهما يشهد فاقض عليه به.
وأيضا إذا أردت ذلك فخذ من بيت القمر وهو السرطان إلى القمر بدرج السواء، وزد عليه درجات الطالع ثم ألق من الطالع، فإن وقع في برج ذكر فهو ذكر، وإن وقع في برج أنثى فهو أنثى.
(45) فصل في معرفة متى كان الحمل
إذا أردت ذلك فخذ من درجة صاحب السابع إلى درجة وتد السابع وألقه ثلثين ثلثين، فكل ثلثين بلغ فهو شهر، فإن كان أكثر من تسعة أشهر فألق منه تسعة، وما بقي بعد ذلك فهو وقت الحمل، ووجه آخر: انظر ما طلع مع الطالع فهو نوبهره، وليكن لكل نوبهر شهر، ولكل درجة وسبع دقائق وثلثين ثانية، فبذلك يعرف وقت الحمل.
(46) فصل وإذا أردت أن تعرف متى تلد الحامل
وإذا أردت أن تعرف متى تلد الحامل ليلا أم نهارا فانظر إلى الطالع وصاحبه، فإن كان في بروج النهار ولدت بالنهار، وإن كان في بروج الليل ولدت بالليل، فإن اختلفا فاعمل بأكثرهما شهادة.
(47) فصل في اختيار وقت الحمل
اعلم أن خير ذلك أن يكون القمر من الطالع في برج ذكر في مثلثة الشمس، واحذر أن يكون في الطريقة المحترقة، وليكن سليما من النحوس والاحتراقات، وكذلك الزهرة؛ لأنها إن فسدت الزهرة فسدت الأرض، وإن فسد طريق القمر فسد البدن ولم ينتفع به.
(48) فصل في موت الجنين في بطن أمه
إذا مات الجنين في بطن أمه وخشي عليها في إخراجه الموت وأرادوا إخراجه، فليخرجوه والقمر ناقص في الضوء، هابط في الجنوب، وينظر المريخ والزهرة من التربيع والتثليث إلى الطالع أو إلى القمر. وأفضل ذلك أنه إذا كان القمر في برج مؤنث، ويكون الطالع وصاحبه ينظر إلى الزهرة والمشتري ناظرا إليهما، وخير البروج التي يكون فيها القمر أو الطالع البروج الإناث المستوية الطلوع.
(49) فصل في حال المولود في بطن أمه
إذا وقعت النطفة في الرحم دبرها زحل في الشهر الأول بالبرد، ودبرها المشتري في الشهر الثاني ببعض الاعتدال، ودبرها المريخ في الشهر الثالث فصيرها دما، وفي الشهر الرابع تنفخ الشمس فيها الحياة بإذن الله عز اسمه، وفي الشهر الخامس تركب فيه الزهرة التذكير والتأنيث، وفي الشهر السادس عطارد يصير فيها اللسان والأسنان، وفي الشهر السابع القمر يتم فيها الصورة، وإن ولد في تدبير القمر عاش، وإن تأخر رجع في الشهر الثامن إلى تدبير زحل، فإن ولد في الشهر الثامن - وهو لزحل - مات ، وإن ولد في التاسع حين يعود التدبير إلى المشتري نجا بإذن الله، وكان منه ما قدر له أن يكون في مدة حياته وبحسب ما تولى مولده.
والوقوف على هذه الأسرار والإخبار بها والحكم عليها هو السحر للعقول؛ لما يكون فيه من البيان الذي به يتميز الإنسان من الحيوان ويستخرج بالزجر والكهانة مثل ذلك.
(50) فصل إذا أردت أن تعرف ما يكون من رسول يرسل في حاجة ...
إذا أردت أن تعرف ما يكون من رسول يرسل في حاجة يأتي بها أم لا؟ فانظر إلى القمر وإلى صاحب بيت الخامس، فإن انصرف القمر أو صاحب بيت الخامس عن كوكب يشبه طبع الحاجة التي بعث بها، فانظر إن كان مثل ذلك ثم اتصل بدرجة الطالع دل على أنه يأتي بقضاء الحاجة وإلا فلا.
(51) فصل في قدوم الرسول
إذا أردت أن تعلم هذا الرسول يسرع الرجوع أم لا، وما يكون منه في غيبته؟ فانظر إلى الشمس ورب الطالع: فإن كان في بيت السابع وواحد منهما قد اتصل الرسول، وإن كانا في الرابع فهو مريض أو محبوس، وإن كانا في الثامن فهو ميت، وإن كانا في التاسع فقد فصل، وإن كانا في العاشر ونظر إليه المريخ فهو في يد السلطان الظالم، وإن كانا في الحادي عشر فهو عند صديق، وإن كان القمر في رأس الجوزاء وكان في موضع حسن السعود، فيبشر عن خبر الغائب بكل خير.
(52) فصل في معرفة ما في الكتاب قبل أن تفض ختامه
إذا أردت ذلك فأقم الطالع وانظر أين عطارد؟ فإن كان هو في الطالع فإن في الكتاب ما يبين عن خبر صاحبه وحاله في أمره في نفسه، وإن كان في الثاني فالكتاب فيه ذكر المال وأشباه ذلك، وإن كان في الثالث فالكتاب عن الإخوة الأقرباء.
وإن كان في الرابع ففيه ذكر الأملاك والأرضين والعقارات، وإن كان في الخامس فالكتاب فيه ذكر الأولاد والملبوس والأفراح، وإن كان في السادس فالكتاب فيه ذكر المماليك والدواب والمريض، وإن كان في السابع ففيه ذكر النساء والتزويج وأشباه ذلك، وإن كان في الثامن فالكتاب فيه ذكر الممات والمواريث وإن كان في التاسع فالكتاب فيه ذكر الحج أو سفر في وجوه البر والدين، وإن كان في العاشر فالكتاب فيه ذكر السلطان أو عن سلطان، وإن كان في الحادي عشر فالكتاب فيه ذكر الأصدقاء والإخوان، وإن كان في الثاني عشر فالكتاب فيه ذكر الأعداء.
(53) فصل في ختم الكتاب
إذا أردت أن تعرف كتابا هل ختم أو عليه خاتمه أم لا؟ فانظر في ذلك إلى عطارد والقمر، فإن اتصل القمر بعطارد فاعلم أنه لم يختم بعد، وإن وجدت القمر منصرفا عن عطارد بقدر حد الكوكب فاعلم أنه قد ختم الكتاب، واجعل الكتاب لعطارد والطين للقمر.
(54) فصل في إنما أخبرناك بهذا لكي تستدل به على غيره
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا، أنا إنما أخبرناك بهذا لكي تستدل به على غيره، ولتعلم أن جميع الأمور في عالم الكون والفساد صغيرها وكبيرها ودقيقها وجليلها بتقدير فلكي وأمر سماوي، وكلها مسطور في كتاب مبين، فمن أحسن قراءته أحاط بمعرفتها كلها، وتشوقت نفسه الصعود إلى عالم الأفلاك وسعة السموات ودار الحيوان وفسحة الرضوان وروضة الجنان دار الروح والريحان.
(55) فصل في صدق الأخبار وكذبها
فإن أردت معرفة ذلك فانظر إلى الدليل وهو القمر، فإن اتصل بكوكب في وتد فالخبر حق، وإن اتصل بكوكب ساقط فهو باطل وبالضد من ذلك.
(56) فصل في أنك وجميع إخواننا محتاجون إلى المعرفة بهذه الأمور
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنك وجميع إخواننا محتاجون إلى المعرفة بهذه الأمور لتكونوا أغنياء بما في أنفسكم من المعارف والعلوم عن الحاجة إلى من لا يعرف قدركم، فيكون له الفضل عليكم إذ قد جهلتم ما قد علمه واحتجتم فيه إليه، وليس هذا صفة إخواننا الفضلاء؛ لأنهم لا يرضون لأنفسهم الجهل، ولم يستقروا أو يطمئنوا إلا بعد الاجتهاد والسعي في الإحاطة بكلية العلوم بحسب الطاقة.
فلما بلغوا إلى ما احتاجوا إليه وإلى معرفته منها، حازوا الفضيلة الإنسانية؛ ولذلك سميناهم إخواننا الفضلاء، وأرجو أن تكون منهم لسعيك واجتهادك في المعارف.
(57) فصل في أنا نحب لإخواننا، أيدهم الله، ما يكون به صلاح شأنهم
اعلم يا أخي، أيدك الله تعالى، أنا نحب لإخواننا، أيدهم الله، ما يكون به صلاح شأنهم واستقامة أمورهم في دينهم ودنياهم.
ولما كان ذلك أكثر أغراضنا منهم بسطنا لهم هذا الكتاب، وأوردنا فيه معرفة مبادئ الأعمال والصنائع العلمية والعملية بحسب ما قدرنا عليه بتوفيق الله تعالى، والذي حملنا على ذلك هو أننا لم نقتصر على علم واحد وصناعة واحدة؛ لأنا علمنا اختلاف طبائع الناس وجواهرهم وما يشتاق كل واحد منهم إليه، بما يوافق طبيعته ويناسب جوهره من الصنائع وما أوجبه مولده له.
وذلك مثل اختلاف شهواتهم ومآكلهم ومشاربهم وجميع أحوالهم، فجعلنا في رسائلنا هذه من مبادئ الصنائع والمعارف والعلوم ما يكون معينا للمبتدئ ورياضة للمتعلم، ولم ندع فيما قلناه، ولا تعدينا فيما وضعناه؛ لأن الواجب علينا والعلماء أن نمحض النصيحة لإخواننا في المقدار الذي وصل إلينا من العلوم واستنباطها، ولا أنا قد أحطنا بكليات العلوم والصنائع بأسرها، ولأن هذه المقدمات التي أوردناها والعلوم التي ذكرناها - نحن والمستخرجين لها من ذواتنا - إنما أخذناها من كتب الحكماء والمتقدمين، ما كان منهم من الصنائع العلمية وما كان من العلوم الحقيقية والأسرار الناموسية، فمن خلفاء الأنبياء، صلوات الله عليهم، وأصحابهم والتابعين لهم بإحسان. وكثير من الصنائع لم نذكرها، وكثير من العلوم لم ننبه إليها ولم نصل إليها، ولا خطر بأوهامنا معرفة كنهها، وأن فوق كل ذي علم عليم، لكنا أرشدنا إليها وأمرنا لإخواننا بالاجتهاد في الطلب والسعي في الاكتساب، لما به يكون فيه الصلاح في معيشة الدنيا والآخرة.
واعلم أن المراد من جميع الصنائع العلمية والمعارف العلمية ينقسم قسمين لا ثالث لهما: أحدهما ما يكون به صلاح الجسم وقوامه على الحالة الصالحة، والآخر ما يكون به صلاح النفس بعد مفارقتها الجسم والموت، وكونها في معادها على الحالة الصالحة لها، وإذا كان ذلك كذلك فالواجب عليك، أيها الأخ، أن تحرص وتجتهد فيما تكمل به السعادتين وتنال به المنزلتين ، والسبب في اختلاف الصنائع وكثرة أنواعها هو لأجل عمارة الدنيا وما هي مبنية عليه من التضاد والاختلاف في الأفعال والأعمال، وبهذا الاختلاف والتضاد يصير أمرها إلى الهلاك والاضمحلال.
واعلم يا أخي أنه من وفق له أن ينال ما به قوام نفسه وجسمه من علم واحد ومعرفة واحدة فقد نال السعادة الكاملة والنعمة الشاملة، وهو أن يكون منزها عن الأفعال الدنية والصنائع المتعبة والأعمال الشاقة، وتكون صناعته منطقية لا يحتاج إلى آلة صناعية، ولا يستعين عليها بشيء من أعضاء جسده إلا باللسان والقوة المحركة لليد بالكتابة لما يحتاج أن يكتبه، واستعمال الفكر والروية وجودة الخاطر وذكاء النفس وجودة الحس. فلما طلبنا هذه المعرفة الجامعة لما ذكرنا لم نجد إلا المعرفة بحوادث الفلك وأحكامه بعد معرفة علم الحساب وعلم العدد الذي به يقدر على ذلك من أراد، وبحسب معرفته بالحساب وعلم العدد يكون علمه ومعرفته بأمر النجوم، وإن كان علم الحساب والعدد هو المدخل إلى جميع العلوم.
واعلم يا أخي أن الصنائع كلها ظواهرها موضوعة لصلاح الأجسام وبواطنها لصلاح الأرواح مما كان منها معمولا به على ما وصفته الحكماء وأخبرت به الأنبياء.
فأما ما وقع فيه التبديل والتغيير فقد خرج عن هذه الصفة وصار فتنة في الدين والدنيا، فنظرنا إلى الصنائع الحكمية فرأينا أقسامها معتدلة ونسبتها مستوية؛ لأنها متقنة ونتائجها حسنة، وظواهرها مطابقة لبواطنها لا تخالفها، وظواهرها دالة على إتقان صنع الصانع الحكيم سبحانه وإحداثه الأشياء، وبواطنها تدل على تنزيهه، وتدعو إلى عبادته، وتدل على طاعته.
واعلم يا أخي بأن صناعة الحساب ومعرفته، وعلم الفلك وحكمته، كالملك ووزيره في الصنائع والأعمال، وما بعد ذلك حتى تنتهي إلى صنائع العامة والرعاع وأصحاب المهن الخسيسة والصنائع القبيحة المسترذلة؛ فعلم الحساب هو كالملك إذا كان هو المحتوي على سائر العلوم والصنائع، وبه يعرف مقاديرها وكمياتها وبداياتها ونهاياتها، وبعلم الفلك - الذي هو كالوزير للملك - تعرف أبنياتها وكيفياتها، وما يدوم فيها وما لا يدوم، والمسعود فيها والمنحوس فيها، والأسباب في كونها والأحكام الجارية عليها والأمور الواصلة إليها .
وبالمثال الروحاني والنسبة النفسانية قالوا: إن علم العدد كالعقل الأول الحاوي لجميع صور الموجودات العاقل لها.
والعلم بحوادث الفلك كالنفس الحادثة عن العقل، ولأن النفس الكلية مربوطة بالفلك المحيط وهي المحركة له، وإذا كان ذلك كذلك فليس في العالم صناعة كاملة معينة لصاحبها على بلوغ المنزلة والدرجة السامية في الدين والدنيا إلا المعرفة بعلم العدد وصناعة النجوم، والمعرفة بأحكام الفلك وحوادثه، وهذه طريقة الحكماء؛ لأنهم لم يبدءوا بعلم من العلوم ولا بصنعة من الصنائع حتى أحكموا المعرفة بهذين الأصلين، فلما عرفوهما أبدوا ما أبدوه من الصنائع والأعمال، وكذلك الأنبياء، صلوات الله عليهم، لما أيدوا بمواد النفس والعقل دعوا إلى الله جلت عظمته، على بصيرة، وكان من استجاب إليهم موفقا للنجاة في دينه ودنياه والله أعلم.
(58) فصل كان لنا صديق من فضلاء الناس ...
كان لنا صديق من فضلاء الناس وخيارهم من إخواننا، وكان يستعين في معيشته بصناعة النجوم فحضرته يوما وقد جاءه رجل فجلس عنده وقال له: قد جئتك لتخبرني عما في نفسي، فأخذ الطالع وقومه وجود الحساب وأحسن العمل وصدق العلم وأصاب الحكم، فقال له: تسأل عن شيء سرق؟ قال: نعم. ما هو؟ فأخبره عن جنسه، فقال كم هو؟ فأخبره عن كميته، قال: فمن أخذه؟ وهل الآخذ له ذكر أم أنثى؟ حر أم عبد؟ فذكره، فقال: كم سنه؟ فذكره، فقال أين ذهب؟ فأخبره، فقال: كيف هو؟ فأعلمه، فمضى في طلبه ثم عاد وقد أصاب، فدفع إليه شيئا صالحا، فاستحسنت هذا منه، رأيته سحرا مليحا، ورأيت منفعة عاجلة، والظفر به مليحا، والحكم به مستحسنا، فسألته أن يفيدني بذلك ففعل، فكان بهذا محرضا على طلب هذا العلم والحرص في بلوغ غايته والوصول إلى نهايته، فبلغت من ذلك بحسب التوفيق.
وأريد أن أذكر لك هذا الباب؛ فإنه لا غنى لك ولا لأحد من إخواننا، أيدهم الله، عنه، وهو مذكور في كتب أحكام النجوم وجميع ما ذكرناه آنفا. وكل ذلك فمن الحكماء أخذناه وعنهم رويناه، وكل منهم كذلك حتى يكون الأصل فيه المريدون بالوحي السماوي والتنزيل الرباني والأمر العلوي.
(59) فصل في الحكم على السرقة والسارق
ذكر أصحاب هذه الصناعة أن في ذلك أربعة أوجه: أولها معرفة الشيء، والثاني معرفة وجود السرقة، والثالث ألا يوجد، والرابع اللص وموضعه.
أما معرفة الشيء الذي سرق فمن الحد الذي فيه القمر، ومن جوهر ذلك البرج، وامتزاج بعضها ببعض، ثم اجعل الطالع وصاحبه والكوكب المنصرف عنه القمر للص، والثاني وصاحبه والكوكب المتصل به لما يلي السائل، والثامن وصاحبه لما يلي اللص، والعاشر وصاحبه للمتاع، فإن كان العاشر برجا من بروج الحيوان فاعلم أنه حيوان، وإن كان على صورة إنسان فاعلم أنه إنسان، وإن كان من بروج العبيد فهو عبد، والله أعلم.
فصل في معرفة السارق
انظر إلى البرج السابع، فإن كان أنثى فهو أنثى، وإن كان ذكرا فهو ذكر، وإن كان ذا جسدين فالسارق نفسان مشتركان، وإن كان سعدا فهو حر، وإن كان نحسا فهو عبد.
فصل في معرفة سن السارق
انظر إلى الدليل فهو على سنه، والكواكب الشرقية تدل على الحداثة والشاب، والغربية تدل على المشايخ والكهول، وإن كان في وسط السماء فهو شاب، وفي وتد الأرض فهو شيخ، وإن كان تحت الشعاع فكهل لا شيخ ولا شاب، وإن كان في الطالع نجم غريب فهو دليل السارق، وإن كان زحل فهو آدم أسود صغير العينين غليظ الأنف طويل الأسنان غليظ الأظفار طويلها عراض مشقوق الرجلين، وإن كان المشتري فهو أسمر تعلوه حمرة، سمين، سبط الشعر، حسن العقل، وإن كان المريخ فهو ذو جراءة وإقدام في سعيه، شاب أزرق أحمر اللون، خفيف الشعر، أشقر أشهب، ربع غليظ، وإن كان الشمس فهو أشهل، حسن الجسم، وإن كانت الزهرة فهو أشم جعد أسود حسن الحال والشباب، كثير الجماع، قبيح الصوت، كثير الأهل والولد، في جسده حرق نار، وإن كان عطارد فهو حسن الجسم، نظيف، بطال، وإن كان القمر فكبير آدم، سخي الأصدقاء.
فإن قيل لك: أمعروف أم غير معروف؟ فانظر إلى الشمس والقمر، فإن نظرا إلى الطالع فإن اللص من أهل البيت، وإن كان أحدها فهو مختلط بهم في الدخول والخروج، وإن كان الشمس والقمر ساقطين عن الطالع كان اللص غريبا، إلا أن يكون صاحب الطالع في الطالع، أو يكون معه صاحب بيت القمر والشمس تنظر إلى صاحبه.
واعلم أنه إذا كان صاحب السابع في الطالع مع صاحب الطالع كان السائل هو اللص، وكذلك إذا كان الأوتاد، فإن كان صاحب السابع عن صاحب الطالع ساقطا كان اللص غريبا.
فصل في إصابة ما سرق
اعلم يا أخي أن في ذلك وجوها ودلالات؛ أولها: أن يكون صاحب السابع يتصل بصاحب الطالع، فإن ذلك يدل على أن الذي سرق المسروق يرده سريعا. والثاني: أن يكون صاحب السابع تحت شعاع الشمس ويتصل بصاحب الطالع؛ فإنه يدل على أن الذي سرق يظفر به من قبل السلطان. وقس على ذلك الثالث والرابع، والخامس أن ينظر ما يكون في السلطان الذي ظفر به معه، انظر إلى وسط السماء، فإن ذلك يدل على السلطان والسارق. والسادس والسابع والثامن وباقي الباب على هذا المثال. وكذلك يخرج الحادي عشر إذا اتصل القمر بصاحب الطالع، وإذا اتصل القمر بالشمس فإن ذلك يدل على أنه يظفر بما سرق.
فصل في معرفة اللص
فإذا علمت أن اللص من أهل البيت فانظر إلى ذلك الكوكب الذي دل عليه، إن كان المريخ فهو أخوه، وإن كانت الشمس فهو أبوه، فإن كانت الزهرة فهو امرأته، وإن كان القمر فهو أمه، وإن كان زحل فهو عبده، وإن كان المشتري فهو ولده، وكذلك جواهر الكواكب، وإن كان الثاني في الطالع كانت السرقة في البيت مع السائل.
فصل في معرفة هل السارق مقيم في البلد أم سافر؟
إذا كان صاحب الثاني متصلا بصاحب الثالث أو التاسع دل على هرب السارق.
وإن اتصل بصاحب العاشر دل أن المتاع عند السلطان.
وصاحب السابع إذا كان في التاسع أو متصلا بكوكب في التاسع أو الثالث أو بأصحابهما دل على أن السارق خرج وسافر.
وصاحب السابع إذا كان في التاسع من السابع دل على أن السارق ليس من أهل البلد.
وصاحب السابع إذا كان في شرفه دل على أن اللص غريب شريف.
وإن كان المريخ في السابع أو صاحبه كان السارق أعجميا والسرقة عمله، وكذلك فقل في جواهر الكواكب السبعة.
وإن كان صاحب السابع في موضع جيد دل على قوة السارق.
وإن كان صاحب السابع زحل كان اللص أخذ الشيء بحيلة.
فصل في معرفة الموضع الذي فيه السرقة
إذا أردت أن تعلم أين المتاع؟ فانظر إلى البرج الرابع، فإن كان ذا أربع قوائم فإنه بحيث يكون شيء من الحيوان.
وإن كان برجا على صورة الناس وفيه المريخ كان في موضع فيه حديد أو يستعمل فيه حديد ومخلوط به.
وإن كان المريخ ينظر إليه فهو في آلة النار التي تشتعل فيها أو في مكانها.
وإن كان فيه عطارد كان عند إنسان صناعته الكتابة أو عند كتب موضوعة.
وإن كان فيه الزهرة فهو عند امرأة أو شيء من آلة النساء.
وإن كان ذلك البرج مائيا كان عند ماء أو في ماء.
وإن كان فيه زحل كان في موضع قذر كالكنيف وما شاكله. ثم انظر إلى القمر في أي الأوتاد هو، شرقي أم غربي؟ قبلي أو شمالي؟ فهو يدلك أن الموضع في تلك الناحية، إن شاء الله. وانظر أيضا فإن كان الطالع الحمل والأسد ففي الجبال.
وإن كان في آخر القوس أو الثور فإنه في موضع الدواب والبقر.
وإن كان في آخر الجوزاء فإنه في بستان أو كرم أو موضع شجرة.
وإن كان في السرطان أو العقرب أو الحوت ففي الماء أو قريب من الماء.
وإن كان في السنبلة والميزان والدلو ففي بيوت الناس.
وإن كان في الجدي ففي الأرض أو تحت حجر أو تحت حائط.
وإن كان الطالع الجوزاء والشمس في الطالع أو تنظر إليه، فإن السارق في بيوت الملك والسلاطين أو حكيم أو تاجر.
وإن كان القمر في الحوت فإن السرقة في نهر أو ساقية أو عين.
وإن كان المريخ في الطالع كان في مواضع السلاح ودكاكين الحدادين أو مواضع النيران.
واعلم أنه إذا اتصل القمر بنجم نحس من التثليث أو التسديس فإنه يدل على أنه يؤخذ سريعا؛ أعني السارق.
وإن كان من التربيع كان فيه مشقة.
فصل في معرفة جنس المسروق
انظر إلى القمر فإن كان في الحمل ومثلثه فإنه جوهر ناري مما يخرج من المعادن والجبال.
وإن كان عند ذلك في حد المريخ فإنه ذهب أو فضة.
وإن كان القمر في الثور ومثلثه فهو من جواهر الأرض ونباتها.
وإن كان القمر في الجوزاء ومثلثاتها فهو جوهر حيواني، فإن نظر إليه صاحبها فهو حيوان.
وإن كان القمر في السرطان ومثلثاته فهو حيوان الماء، فانظر إلى صاحب بيت القمر، فإن كان في الحمل ومثلثاته فإنه نبات يريد الكسر في نباته.
وإن كان في الجوزاء ومثلثاتها فإنه حيوان الماء، وعلى هذا القياس يكون معرفة كيفيته وكميته.
واعلم يا أخي أن هذا الحكم والعلم بما ذكرناه ووصفناه وبينا شيئا منه هو من الأبواب الغامضة من علم النجوم التي لا سبيل إلى معرفتها إلا بجودة الحساب ودقة النظر واستخراجها، وقد يكل كثير من أهل زماننا ممن يتعاطى معرفة علم النجوم عن استخراج ذلك والعمل به والحكم عليه، والذي نريد لإخواننا، أيدهم الله، ألا يدعوا أنهم يعرفون شيئا من العلوم إلا بعد الإحكام له والمعرفة به والتمهر فيه والتجربة له؛ لما نتخوف عليهم من الخطأ والكذب الذي هو مجانب لصفاتهم؛ لأن كثيرا من الجهال يدعون ما ليس لهم أن يدعوه، فإذا وقع به الامتحان افتضحوا وتزيفوا ونسبوا إلى الكذب وسقطوا في أعين الممتحنين لهم، حتى إنه ربما يكون معهم حق ولا يقبل منهم ولا يؤخذ عنهم، ويكون ذلك كسرا لهم وحسرة في قلوبهم وقاطعا لهم عن العلم والعمل، والذي وجب علينا من النصيحة لإخواننا ما فعلناه وأبلغنا لديهم النصيحة وأدينا إليهم الأمانة، وأردنا لهم ما أردنا لأنفسنا، وأردنا بذلك أن تكمل لنا درجة الإيمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يكمل[8] للمؤمن إيمانه حتى يرضى لأخيه ما يرضاه لنفسه.
وقد وشحنا رسائلنا هذه بلمع من العلوم والمعارف وما يجري مجرى السحر للمعقول من الإخبار بما يكون وكان؛ لأنه من أشرف المعارف وأحكم العلوم التي يختص الإنسان بها، وأوائلها مأخوذة عن الملائكة بالوحي والإلهام.
واعلم يا أخي أنه لا سبيل لأحد من البشر إلى الإحاطة بها جميعها بأسرها، وإنما من الله على خلقه بشيء منها على لسان أقربهم إليه وأحبهم لديه وأكرمهم عليه، بوساطة الملائكة بينهم وبينه، كما قال، عز اسمه: @QUR022 وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم، ومما يجب لإخواننا، أيدهم الله، أن يعلموه ويقفوا عليه من هذا العلم، ما يكون من الحروب في المواضع وبين الملوك وفي أي وقت تكون؛ ليحترزوا فيها ويبعدوا عن مواضعها؛ إذ ليسوا هم أصحاب الشرور والفتنة، وإنما هم أصحاب خير وسلامة وعبادة وزهادة وعلم وحكمة.
(60) فصل في معرفة الحروب وأوقاتها
إذا أردت أن تعلم هل في السنة التي أنت فيها أو المستقبلة إن كنت في آخر الماضية حرب؟ فانظر إلى المريخ في تلك السنة، فإن كان في الأوتاد فإنه يكون، وإن كان ساقطا فلا يكون.
فصل في معرفة متى الحرب تكون؟
إذا أردت ذلك فخذ من درجة المريخ إلى درجة المشتري، ثم ألقه من الطالع، فحيث نفد الحساب ففي ذلك الحد تكون الحرب، ووجه آخر إذا أردت أن تعلم هل يكون ذلك أم لا أو متى يكون؟ فانظر إلى الأوتاد الأربعة فإن كان بهرام في أحد الأوتاد فإنه لا بد أن يكون قتال.
فإن نظر رب البيت إلى بهرام في أحد الأوتاد فإنه يكون عاجلا قريبا من وقت نظرك.
وإن كان بهرام في الطالع فإنه يكون بناحية المشرق وبخراسان.
وإن كان في وسط السماء فإنه يكون بناحية اليمن ونحو القبلة.
وإن كان في الغارب فإنه يكون نحو المغرب.
وإن كان في وتد الأرض فإنه يكون بناحية الشمال.
وإن كان بهرام في الوتد فإنه يكون قتال.
وإن أردت أن تعلم متى يكون هذا القتال فانظر إلى بهرام كم من درجة في برجه؟ فإن كان في العشرة الأول فإنه يكون في أول السنة.
وإن كان في وسط البرج فإنه يكون في وسط السنة.
وإن كان في آخر البرج فإنه يكون في آخر السنة، والله أعلم.
ومما يحتاج إليه إخواننا، أيدهم الله، إذا غاب بعضهم عن بعض وأراد أحدهم أن يعرف حال صاحبه إذا غاب عنه هل هو حي أم ميت؟ لأنهم قد يبتلون بفرقة الأحباب، ومصائب الأيام ونكبات الزمان، واستتار الرؤساء وغيبة الفضلاء، في وقت من الأوقات التي يخافون فيها على نفوسهم من الأعداء المتغلبين والرؤساء والظالمين.
(61) فصل في معرفة حياة الغائب ومرضه وموته
إذا أردت أن تعرف ذلك فاجعل نفسك السائل، واجعل الطالع لك أو لمن سألك عنه والسابع للغائب، ثم استدل على موت الغائب إذا كان صاحب الطالع ساقطا عن الأوتاد، أو محترفا، أو متصلا بصاحب الثامن من الطالع في موضع رديء، ويكون القمر مع المنحوس في الهبوط في وقت المسألة أو يكون في الثاني أو الثامن عشر أو السادس، فإن ذلك يدل على أن الغائب ميت.
فصل في معرفة حياة قوة رب الطالع
وسقوطه عن رب الثامن واتصاله بكوكب سعد من تثليث أو تسديس، وسلامة القمر في وقت المسألة فوق الأرض.
وكذلك رب الطالع، ويكون القمر سالما خارجا من السادس والثاني عشر والثاني والثامن في السابع، فهو حي بسلامة في نفسه.
فصل في معرفة مرضه
فإذا أردت أن تعرف أمريض هو أم صحيح؟ فانظر إلى رب الطالع والقمر، فإن كانا مع صاحب السادس أو في بيته فهو مريض.
وكذلك إن كانا في هبوطهما أو محترقين فهو مريض، وإن لم يكن القمر ولا صاحب الطالع معهما فليس بمريض.
فصل في معرفة كيفية الموت
المشتري إذا كان في الطالع وهو متصل بكوكب في الطالع مات ميتة سوء.
وإن كان في العقرب مات غريقا، وإن اتصل ببهرام قتل أو غرق.
وإن كانا مع ذلك في برج الأسد أكلته السباع أو نكبته نكبة من قبل السباع فيموت.
وإن كان زحل: يسقى من السموم القاتلة التي لا يطلع عليها أحد.
(62) فصل في معرفة إذا كان أحد من إخواننا في مدينة وحل بها حصار ...
إذا كان أحد من إخواننا في مدينة وحل بها حصار من عدوه، وأراد أن يعرف كيف فتحها؟ فلينظر حال الطالع والقمر وحال رئيس المدينة وبرجها وجواهرها معها، ويستعين بشهادات النجوم المعينة لها فيقومها بمواضعها ومزاجها وجواهرها.
وإن كانت النجوم فيها وهي في أوائلها فهي تفتح من قبلها.
وإن كان في أحد الأوتاد المريخ فهي تفتح بالسيف.
وإن كان زحل فهي تفتح بالخديعة والمكر، ويعرف الأوتاد الأربعة فإنها تدل على الحصون، فإن كانت فيها النحوس فتحت.
وإن كانت فيها السعود والنحوس معا لم تفتح إلا على صلح.
وإن كانت تلك النحوس أربابها كان الفتح من أهلها عن صلح.
فصل
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن العلوم كثيرة، لا يحيط بجميعها إحاطة إلا من له الخلق والأمر؛ ولهذا قال بعض العلماء بصناعة أحكام الفلك: إني وجدت فيما يستدل به على هذه الأمور ستة وثلاثون بابا على عدد وجوه البروج، وهي ستة وثلاثون وجها إذا وضعت مع قوى الكواكب وذكر فيها كواكبها يخرج عن حد رسائلنا هذه، ولو قدرنا على وصف كل دقيقة والإحاطة بمواضعها لكنا مقصرين عن كثرة ما يوجد في هذا العلم من الصفات المتشابهة والدلالات المختلفة، فإذا كان التقصير والعجز يلزمنا فيما يحدث في هذا العالم الأرضي والمركز السفلي فكيف لا يلزمنا التقصير والعجز في معرفة ما يحدث في العالم السماوي والمكان العالي بل أضعاف ما يلزمنا فيما دونه؟
والبرهان على ذلك أنا لا نجد الاتفاق في أكثر الأشياء، بل الاختلاف والتضاد أكثر من الاتفاق في الفروع، فأما الأصول فمتفقة غير مختلفة، ولكن القوى التي تصدر عنها والأجناس التي تظهر فيها وما يتركب من الأجناس من الأنواع، وما يتفرع من الأنواع إلى الأشخاص، وما يختص بالأشخاص من الصفات المتباينة والألوان المختلفة والهيئات المتفاوتة في الصغير والكبير، والطويل والقصير، والكون والفساد وغير ذلك مما هو موجود في الأجساد والأجسام.
وإذ قد ذكرنا من السحر ما يعمل به بواسطة العقل، وهو البيان والكشف عن حقائق الأشياء، وهو ما نطقت به الأنبياء بعلمه، وأتت به الحكماء من الكتب المنزلة والآيات المفصلة، وما يظهر من السحر بواسطة النفس، وهو الاطلاع على ما كان وعلى ما يكون في ابتداء الأعمال، والمعرفة بما يحدث في العالم من الأحوال والأفعال والقول بها والحكم عليها وبما يكون فيها، ويختص بهذا العلم أصحاب الحكمة الفلكية والعلوم النجومية.
وقد ذكرنا في ذلك نبذا ولمعا؛ لتكون تنبيها للغافلين وموقظا للساهين عن النظر في آيات الآفاق والأنفس؛ لأن أكثر أغراضنا في جميع ما ذكرناه وكل ما وصفناه: الحض على تعليم العلوم، والاطلاع على ما خفي من أسرار الخليقة؛ ليكون ذلك قائدا لإخواننا، أيدهم الله، إلى أجل السعادات وأرفع الدرجات، ويصير لهم بذلك رتبة في محل السموات وفضاء الأفلاك الواسعات؛ لأنه لا يتهيأ له الصعود إلى هناك إلا أن يكون من العلماء العارفين والموقنين المستبصرين، ومحل الجنان ودار الحيوان أولى بالأرواح الزكية والنفوس المضيئة من محل الهوان، ودار الأحزان والمصائب والأسقام أولى بالأرواح النجسة والنفوس الرجسة.
(63) فصل في أن كل علم صدر وكل فعل ظهر ...
اعلم يا أخي، أيدك الله تعالى، أن كل علم صدر وكل فعل ظهر عن الأنبياء والمرسلين ومن خلفهم من بعدهم، ومن خلفائهم الراشدين وأهل بيوتهم الطاهرين ومن صحبهم من المؤمنين فهو سحر عقلي وأمر إلهي، يسحرون به عقول المؤمنين الذين صبوا لهم وسلموا لأمرهم فيما أتوا به، وتحققوا صدقهم، واثقين به مطمئنين لحقهم؛ فهو السحر الحلال المبين، والقول الصادق اليقين، وهي القوة الناموسية المؤيدة بقوى النفس الكلية، بما أوحي إليها من القوة العقلية بالمشيئة الإلهية والعناية الربانية، وكل ما ظهر من الحكماء أو الفلاسفة والعلماء، من الأعمال والصنائع والحرف والمهن، والعلوم الرياضية، والإخبار بأمر النجوم والحكم بها على ما كان ويكون؛ فهو سحر نفساني بواسطة الطبيعة؛ لأن ما يظهر من فعل النفس العقلية بواسطة الطبيعة، يكون لتركيبه في الهيولى بما يظهر للنظر، ويدرك بحاسة البصر، من الأصباغ والألوان والمقادير والأبعاد والأجناس والأنواع والأشخاص؛ لأن الباري، سبحانه، جعل العقل سابقا والنفس لاحقة، والطبيعة سائقة والهيولى لاحقة.
فالعقل هو الخلق الأول والنور الأطول الذي قصرت الأنوار كلها عن أن تطاوله؛ إذ هو مستمد لأنواره الفاضلة وخيراته الكاملة من باريه، جل جلاله وتقدست أسماؤه؛ فهو يستكمل الفضائل والخيرات مبرءا من الشوائب والتغييرات، من جهات النقص الواقع بمن دونه من المخلوقات الروحانيات والجسمانيات؛ إذ كان هو التام المعطي لمن دونه صورة التمام، وهو المرتب لكل موجود منه وصادر عنه مرتبة الدوام وموفيه حظه اللائق به في لزوم النظام واعتدال الأقسام.
وكذلك جعلت له القوة الحافظة على جميع الموجودات ذواتها، والقوة بموجود ذاتها، وبخاصته المختص بها، يعطي الموجودات خواصها الخاصة بواحد واحد منها، بحسب ما يستحقها ويليق بها، وهو الساحر الأعظم الذي سحر الأشياء كلها؛ إذ كان هو المبين لها، وبه تكون المعرفة بها والاطلاع عليها، وبه انسحرت النفس الكلية؛ إذ هو المظهر لها والمبين لها وما يخفى عليها، والجاعل فيها ما ظهر منها وصدر عنها.
فلذلك صار العقل الخاص به يظهر بوساطتها، وبه يكون سكونها ووصولها إلى حد طمأنينتها التي بلغت إلى خيراته الدائمة، ووصلت إلى فيوضاته الشريفة وأنواره اللطيفة وأفعاله المختصة به، التي إذا ظهرت بوساطة النفس الكلية للنفوس الجزوية وانطبعت فيها أوصلتها إليه وقدمت بها عليه، فبه يكون خلاصها ونجاتها من أسر الطبيعة وموت الخطية، وفساد الهيولى وذل العبودية.
وأما أفعال النفس الظاهرة بوساطة الطبيعة فهو ما يظهر من أفعال البشر من الصنائع والمهن، ونريد أن نذكر طرفا منها إذا كان ما يعمل منها هو السحر الطبيعي، وبه يكون التلون والتشكل والصبغ والتصور، وقلب الأعيان وتتميم الكيان الطبيعي والامتزاج المعدني، وبه سحر العالم الناطق بعضه بعضا، كل بحسب ما قدر عليه، ووصل بقوته المجعولة فيه إليه.
واعلم يا أخي، أيدك الله تعالى، أنه لما كان أعلى الصنائع العلمية، وما يعمل بالقوة العقلية والفكرة النفسانية خالصة، لا تشركه القوى الطبيعية، ولا تحتاج فيه إلى مثل ما تحتاج لغيره من الموضوعات الهيولانية، وهو علم صناعة العدد؛ لأنه صورة عقلية تنزل في قوة نفسانية؛ وعلم صناعة النجوم إنما هو مدرك بقوة فكرية، موجودة بمادة نفسانية، موجودة من حركة دورية؛ وبقوة النفس يعلم ما يكون منها ويصدر عنها حتى تكون موجودة بالحس، والأصل في ذلك هو معرفة الزمان الذي هو عدد حركات الفلك المحيط، المحرك لما دونه، المرتب في أفق النفس الكلية.
وقد قلنا فيما تقدم أن علم العدد كالملك لسائر العلوم، وعلم صناعة النجوم كالوزير التابع لذلك، وكالعقل الذي هو سابق الموجودات بالبداية والموجود بعدها في النهاية، والنفس تالية له ومقبلة عليه وراجعة إليه.
وكذلك علم العدد هو السابق لجميع العلوم، وهو الموجود إذا عدمت، ولا ترتفع بارتفاعها إذا ارتفعت ذاته ومراتبه في نظامها، موافقة له في تمثيلاته، ويتبعه علم النجوم وما يعرف بموجبات دلالاته وخفاء إشاراته وما ينحط إلى العالم السفلي والمركز الأرضي من قوى روحانياته وهي الملائكة الموكلة بحفظ البرية والقسمة فيهم بالسوية في الأصول الأولية، بالنشوء في البداية والفساد عند النهاية.
واعلم يا أخي، أيدك الله، أن القسمة جارية في جميع الموجودات، مستوية لا تفاوت فيها؛ ذلك أن وجودها كلها بالنشوء والنماء، وإنهاؤها بالفساد والفناء. فسبحان خالق الوجود والبقاء، وجاعل الظلمة والضياء، على كل شيء كان بالنشوء في الابتداء، وكل فاسد فبالعدم عند الانتهاء. سبحان من لا بداية له بنشوء يعرف ولا نهاية له بفناء يوصف، جل عن الإشارة إليه بشيء جلالا يفوت وصف الواصفين، من الروحانيين ومن الجسمانيين، إلا بما وصف به نفسه @QUR05 كل شيء هالك إلا وجهه. ولما كان هذان العلمان هما الأصل للعلوم اللطيفة والمعارف الشريفة، وهي أجل العلوم قدرا وأكثرها فخرا، وقد أشرنا إليها ونبهنا عليها إذ كانت هي القائدة إلى العلوم الإلهية، فنريد أن نذكر أشرف الصنائع الطبيعية والتركيبات الجسمانية، وأجل ما ينتهي إليه من ذلك الإنسان، وبه يفضل على من دونه من جنسه ويصير إليه - مثل الحيوان - بالحاجة إليه والخضوع بين يديه؛ وهذا القسم أيضا ضرب من السحر إذ كان العالم بأسره مربوطا بمحبته وحريصا على طاعته، وهو معرفة قلب الأعيان من كيان إلى كيان، وتحويل خاصة الشيء من مكان إلى مكان في الأوقات التي تنبغي له من الزمان، ثم ما دون ذلك من الصنائع فعليه نصبت ومن أجله عملت؛ لينال منه كل بحسب القدرة والاستطاعة.
وإنما سمينا رسالتنا هذه: «رسالة السحر والعزائم» وبينا القول فيها: ماهيته وكمية أقسامه وكيفية أفعاله؛ ليستدل إخواننا الأبرار على الأسرار الخفية، إذا نظروا فيها بالنفس المضيئة والقرائح الزكية، وأدمنوا النظر في استقرائها بالفكر والروية، وليكونوا إذا بلغوا إلى معالي العلوم وشرائف الصنائع ذوي غنى عن الحاجة إلى من سواهم في جميع ما يحتاجون إليه من أمر معيشة الدنيا، فإذا وصلوا إلى هذه المرتبة وحصلوا هذه المنزلة صح لنا أن نسميهم بإخوان الصفاء.
واعلم يا أخي أن حقيقة هذا الاسم هي الخاصة الموجودة في المستحقين له بالحقيقة لأعلى طريق المجاز.
واعلم يا أخي، أيدك الله تعالى، أنه لا سبيل إلى صفاء النفس إلا بعد بلوغها إلى حد الطمأنينة في الدين والدنيا جميعا، وهي أن يعرف الإنسان - بحسب قدرته وبلوغ استطاعته - توحيد الله جل جلاله، والمعرفة بحقائق الموجودات وغرائب المكونات بإذن الله تعالى باريه، الذي خلقه وأبدعه وبرأه، وعبادته وتنزيهه وتمجيده عما يجده في مخلوقاته ويشاهده في مصنوعاته، وبعد ذلك ما يكون به صلاح معيشة الدنيا والغناء عن الحاجة فيها إلى من عدم هذه الصناعة، ومن لا يكون كذلك فليس هو من أهل الصفاء؛ لأنه لو كان من أهل الصفاء لكان له بصفاته عمن دونه الغني.
واعلم يا أخي أن حقيقة الصفاء أيضا هو ألا يغيب عن النفس الصافية الزكية شيء من الأشياء التي بها الحاجة إليها؛ لما قد بليت به من مداواة هذا الجسم من مقاساته، وبالصفاء تتهيأ لها الراحة منه والبعد عنه، بحيث لا تكون نازلة عليه ولا مشتاقة إليه.
وقد ذكرنا أن بمعرفة العلوم اللطيفة والمعارف الشريفة يتهيأ للإنسان ما يكون به صلاح أمر جسمه في دنياه وصلاح أمر نفسه في عقباه في دار الآخرة، ولكن ليس كل واحد يتهيأ له ذلك في أمر جسمه؛ إذ كانت الأجسام مربوطة بالأمور الفلكية؛ وذلك أن كثيرا من الناس ينالون من معرفة علم الحساب والعمل به ما لا يقدر عليه غيرهم، فلا ينالون ما يكون به صلاح أجسامهم في أمور دنياهم ولا صلاح أنفسهم في أمر أديانهم، ولا يحتاج إليهم فيه، فينال من هو دونهم في المعرفة بذلك الحظ في الدنيا، ويغيب عنه ما يكون به صلاح نفسه. وآخرون نالوا به السعادة في أديانهم، وكان مؤديا بهم إلى النجاة، ولم ينالوا به الحظ في الدنيا، وآخرون رزقوا به النجاة في الدارين والحظ في المنزلتين، وآخرون رزقوا الحظ في الدنيا بغير ذلك من العلوم الأدبية والمعارف الطبية، بصرفهم قواهم المختصة بهم من ذلك إلى النظر في الأفعال الطبيعية والصنائع التركيبية، ثم استدلوا بما قدروا عليه ووصلوا إليه، ومنهم من استعان به على ما يعود بصلاح جسمه بحسب الحاجة، وصرف باقي ذلك فيما يكون به نجاة نفسه في الآخرة، وآخرون حرموا ذلك ولم يوفقوا له.
واعلم يا أخي أن الناس في العلوم العقلية والمعارف الربانية والحكم النفسانية أعلاهم طبقة هم الأنبياء عليهم السلام، وأعلى الناس في الصنائع والمعارف الجسمية هم الحكماء، وغاية ما نال العالم بعلوم الأنبياء صلاح النفس في دار المعاد، وغاية ما نال العالم بعلوم الحكمة صلاح الأجسام في دار الأجساد وعالم الكون والفساد. ونريد أن نبين في هذه الرسالة من قسم الصنائع الطبيعية ما إن وصلت إليه وقدرت عليه نلت أعلى الحظوظ منها ورقيت أعلى درجاتها وأجل طبقاتها. وقد أكثرت الحكماء من القول فيه والإشارة إليه والدلالة عليه في جميع اللغات، والناس جميعهم طالبون له وفيه راغبون، وليس بأحد من العالم غنى عنه ولا إياس منه، وهو الطلسم المنصوب لعمارة الدنيا والجوهر المحبوب والمعدن المطلوب، وهو المغناطيس الأكبر والكبريت الأحمر، وبه يتفاخر أهل الدنيا وعليه يتحاربون، وعلى جمعه وادخاره يتكالبون، وعلمه مما دونه من المعادن يستخرجون، ويطلبون الوقوف على كيفية استخراجه من الأجسام المنطرقة وانفصام عنها وتخليصه منها، وتحويل كيانه إلى كيان غيره، وانتزاع لونه من لونه وإقلاب الأعيان في كونه، حتى يكون ما هو دونه في منزلته ولاحقا بالتدبير الواقع به إلى درجته وواصلا إلى مرتبته ومشاركا له في فضيلته، إذا حصلت له صورته المضيئة ورؤيته البهية، إذا نقي وصفا صفا من شوائب التغيير بما ينبغي له من التدبير.
ونريد أن نأتي بفصل نذكر فيه شيئا من ذلك مما رمزت به الحكماء وأشارت إليه العلماء، تتدبره بنفسك الطاهرة وأنوارك الظاهرة، وروحك المضيئة الصافية من نجاسة المعصية، لعلك تفوز بمعرفة سر الطبيعة فتزهد فيها بعد القدرة عليها والوصول إليها، فإن الزهادة فيها عند القدرة والاستطاعة والتمكن منها، هو أحسن وأزين من الزهادة فيها، والمرء محال بينه وبينها. وعند ذلك تكمل تلك الصورة الصافية فتصير كالمرآة الصقيلة التي تتراءى في جوهرها الصور المسامتة لها بما هي به، لا مضادة ولا متباينة ولا مختلفة، فيتحير الناظر فيها بما يراها منها غير شاك في صدقه ولا مرتاب بحقه. بلغك الله تعالى وإيانا إلى غاية الصفاء، وأنار نفوسنا بوضوح الهدى، وجعلنا وإياك من أهل الوفاء في الدين والدنيا بمنه وكرمه، وهو الفاعل لما يشاء.
(64) فصل قال فاردموس الحكيم: إن السماء مدورة ...
قال فاردموس الحكيم: إن السماء مدورة، ذات أرجاء متفرقة، وإن الأرض مثل حبة خردل في وسطها، وعلى كل ناحية منها قوم يعيشون من رزق الله عز اسمه، وإن الشمس تعطي العالم حركة الحياة، وفوق الأرض تصعد وتحتها تنزل، وإن السماء تربي ما في وسطها، وإن الأرض كالجنين في بطن أمه، وإنها تربو فيها كما يربو الولد في الرحم ويعيش في البطن، وإن زحل والمريخ والمشتري والزهرة وعطارد والقمر فاعلة ومدبرة، ذات قوى وطبائع ومزاج، وإنها تنحط في الأرض وتظهر بقواها المنبثة منها، الصادرة عنها بامتزاجها وأخلاطها ما يبدو من هذه الأجساد، ويتكون في عالم الكون والفساد، بما ينزل من المطر، وما يتكون به من النبت والشجر ، وما يستقر في معدته ويتكون في مسكنه.
وقال جالينوس: كل شيء في الدنيا يتحرك في تدويره بالزيادة والنقصان كالحر والبرد، والصيف والشتاء بحوادث الجو، وكالمد والحزر، وبنقصان القمر ينقص وبزيادته يزيد، والكواكب السبعة بها تدور المواليد، وفي العالم الصغير المرتان[9] والبلغم والدم يزيد وينقص في تدبير الطبائع والقوى السبعة، وكل شيء تطلع عليه الشمس فهو يدور بدورانها، وكل ما في العالم فينشأ بتدبير السبعة والاثني عشر، وهي الأصل في جمع ذلك وتفريقه.
قال فيثاغورس: إن السبعة في الاثني عشر عملها، كذلك القوى في الجسد، والشمس هي النفس، والقمر هو الروح.
فالنفس حارة يابسة، والروح باردة رطبة، فامتزجت اليبوسة بالرطوبة، واعتدلت الحرارة بالبرودة، وقوة العقل في المخ المجعول في الدماغ مثل الملك في رأس العلية.
وقال جالينوس: إن الشمس لها أربعة أنصاب في الجسد لمواضعها ومجاريها فيه، تجري وتقوم وتدور، وهي الحافظة للجسد بأمر الله، فإن أصاب هذه الأنصاب شيء يؤذيها ويوجعها وخلص ذلك الوجع إلى شيء منهن؛ فسد بعض أبوابها، وعطل مجاريها، وفسد الجسد، وكان به تعجيل الموت.
وأما الأولى فمكانها الذي في الوجه فينفتح عن خمسة أبواب تجري فيها قواها، وهي السمع والبصر والشم والذوق واللمس، ومن هذه الأبواب يتصل بالنفس علم ما غاب عنها وبعد منها، والقوى فيها داخلة وخارجة، وصاعدة ونازلة، وعلى كل باب قوة موكلة تفتحه وتغلقه بأمر النفس، والثانية مكانها في الفؤاد، وينفتح منها خمسة أبواب يخرج منها خمسة رسل؛ وهي: التمييز والنطق والتوسم في السر والتوهم والتفكر، والثالثة موضعها الكبد، وينفتح فيها خمسة أبواب يخرج منها الدم إلى سائر أطراف الجسد فيسقيه ويربيه، وبه تكون له القوة والجلد والنشاط، والرابعة مكانها الكليتان، ومنها ينفتح الباب الذي تكون منه النطفة جارية وخارجة، وبها يكون نبات السن، فهذه أمكنة الشمس في الجسد.
وأما القمر في الجسد فله فيه مكانان؛ وهما: الجلد والرأس، وللمشتري العظم الذي في الفقار، ولعطارد العروق والعصب، وللمريخ الدم والصفراء، ولزحل الشعر والظفر والسوداء، وللمشتري اعتدال المزاج وسلامة الحسد، وللزهرة النقش والصورة.
والبروج الاثنا عشر أيضا فيها مواضع وطبائع، فللحمل شعر الرأس، وللثور الجبهة، وللجوزاء العينان، وللسرطان المنخران، وللأسد الفم واللسان، وللسنبلة اللحية، وللميزان المنكبان واليدان والذراعان، وللعقرب الصدر، وللقوس فقار الظهر كله، وللجدي البطن، وللدلو الخصيتان والذكر والكليتان، وللحوت الساقان والرجلان، وبهذه القسمة قيام الجسد وعليها بني.
فإذا عرفت هذه الأصول عرفت ما يتفرع منها، فعند ذلك تعرف صناعة طب الأجسام الحيوانية وبها تكون لك المعرفة بطبائع الأجساد المعدنية.
فإن كنت جاهلا بمعرفة الطبائع الحية الناطقة فأنت بمعرفة الطبائع المائية الصافية أجهل ومن تدبيرها أبعد؛ لأن منها ما ينبغي أن يفرق حتى يزول عن عينه الأولى ويخرج عن الطبيعة غير المعتدلة وينشأ نشوءا آخر ويحيا بحياة أخرى.
ومنها ما يحول طبيعته من الملوحة إلى الحلاوة، ومن الصلابة إلى الرخاوة.
ومنها ما يعمل به ضد ذلك، وينزل فيه عن الرطوبة إلى اليبوسة، ومن الحموضة والعفوصة[10] إلى الاعتدال.
ومنها ما لا يمازج بعضه بعضا إلا بعد المصالحة بينهما وذهاب ما يفسد حالهما، فإن فصل أحدهما عن صاحبه أفسده وعن حد الاعتدال أخرجه.
فإذا عرفت مداواة السوداء التي طبيعتها البرد واليبس حتى تردها إلى طبيعة البلغم وهي البرودة والرطوبة، فقد أصبت بعض ما يحتاج إليه.
وإذا عرفت أن تحيل طبيعة الصفراء - التي هي الحرارة واليبس - إلى طبيعة الدم - وهي الحرارة والاعتدال - فقد أصبت أجل منازل طب الأجساد.
وهاتان المنزلتان في التدبير المعدني أجل منازل الواصلين إليها، وهما الأصلان الأولان والفرعان التابعان؛ أعني الحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة.
(65) فصل قال أرسطاطاليس: إن الدائرة الأولى ...
قال أرسطاطاليس: إن الدائرة الأولى التي دون السماء دائرة النار، والثانية دائرة الهواء، والثالثة دائرة الماء، والرابعة دائرة الأرض.
ويخرج من دائرة الأرض لونان من الدخان: أحدهما لطيف خفيف يتصاعد إلى العلو، وإذا قرب من دائرة الهواء غلظ وارتفع فيها، إلى أن يقرب من دائرة النار فيحمى، ولا يجد السبيل إلى النفوذ فينحط راجعا إلى معدنه فيكون منه المطر، واللون الآخر من الدخان يثور من قرارها ويدور إلى سطحها، وهو كثيف ثقيل فتكون منه الجبال، فإذا رجع الدخان الصاعد إلى البخار الثابت شربته الجبال، فصار فيها كالروح منه في الماء، فإذا نضب الماء ظهرت الجبال ورجع الدخان وانعقد منه في باطنها وخللها، ومنافذها أجناس المعادن، فإذا كملت له القوة واجتمعت طبائعه وقوى جسده وما حلت فيها ظهر منها بحسب بعدها من الاعتدال فيه، والأربعة تدور إلى الاثني عشر؛ لأن الأربع الدوائر بإزاء ما في الأرض من الجزائر، فتكون أفعالها فيها موجودة كوجود أفعال الكواكب السبعة في الاثني عشر برجا كدوران الشمس فيها.
وللحكماء في هذا القول إشارات خفية وأسرار دقيقة لا يطلع عليها ولا يعرف العمل بها إلا إخوان الصفاء الذين صفت أذهانهم حتى بلغوا إلى تصفية ما احتاجوا إليه من هذه الطبائع، ومزجوا بعضها ببعض، فحصل التشبه بالإله، بحسب الطاقة الإنسانية؛ فنالوا سعادة البقاء في الدنيا بالطمأنينة، وجعلت لهم في الآخرة خيرات الدار الحيوانية التي هي الحياة الحقيقية.
واعلم يا أخي أنه بمعرفة البخارين الخارجين من التراب: أحدهما لطيف والآخر كثيف، وثبات السفلي ورجوع العلوي إليه وقراراه فيه وثباته معه، يكون تمام العمل وإحكامه.
وقال الحكيم: جسد الشمس رأس كل جسد، وسمي رأسا لأنه رئيس الأجساد، ولا تستطيع الكواكب التي تحته أن تدنو منه ولا تبعد عنه، وهو يضيء بنوره الكواكب إذا نزل فيها وقرب منها، فمنه نبات ومنه جوهر، ومنه سهل ومنه جبل، ومنه ما يخرج من خلطين: أحمر وأصفر، وأرضه تبرق، وإن حفرت الأرض التي يكون فيها الذهب حتى تبالغ في حفرها رأيت أرضها مذهبة كأنها تشبه الزرنيخ الأصفر والكبريت الأحمر، وتكون ريح سخنة، وهي أرض واسعة، وطبيعتها حارة رطبة، والمياه التي تجري فيها حلوة، فهذه طبيعة أرض الذهب وقوته، وكونه في معدنه، وكونه في مكانه، وكونه في نباته في أوانه، وشكله في كيانه.
فلذلك قال فيثاغورث: إن الشمس ملك كل جوهر وطبيعته أعدل الطبائع، وإنه لا تفسده الأرض ولا تحرقه الأشياء المحرقة للأجساد؛ لأن مزاجه في الحرارة واليبوسة والبرودة والنداوة أجزاء متساوية، وليس في طبيعته شيء زائد على شيء ولا ناقص ولا فاسد؛ ولهذا عظموه وكرموه وسموه شمسا، وصاغت منه الملوك تيجانا وأكاليل، ورصعوه بالجواهر، وحملوه على رءوسهم؛ إعظاما لقدره وتشريفا لذكره ولفضله على الأجساد؛ ولأنه أجل معدن موجود في عالم الكون والفساد وكرامة للشمس التي بها صلاح البلاد وحياة العباد.
وقال أفلاطون: إنا دخلنا في جبال، حيث يكون الشمال، وكانت جبالا طوالا لا نرى الشمس فيها، فلم نستطع المكث بها من شدة البرد، ولم نر هناك نباتا إلا شيئا قليلا في زمان الصيف، وكان الصيف هناك كالشتاء في غير ذلك الموضع وأعظم ما يكون منه؛ فلذلك قلنا: إنه ليس للعالم أفضل من تدبير الشمس، ولا عمل أفضل من العمل الذي أخرجت، والجوهر الذي صنعت، والصبغ الذي صبغت، والسحر الذي سحرت به العقول، وجعلته طلسم الطلسمات ومغناطيس النفوس الجزئيات، والشهوات الجسمانيات، وجعلته أرفع المنازل في الطبائع المعدنية، وصيرت صناعته أكبر الصنائع المهنية الأرضية.
وقال أفلاطون: إني أرسلت نفرا من أصحابي نحو الهند فذكروا أنهم سقطوا في بلاد خفيفة طيبة فأعجبهم ذلك، وذكروا أن أهل هذه الأرض طوال الأعمار، قليلو الأمراض، صحيحو الأجسام، وليس فيها حر شديد ولا برد شديد، معتدلة أقسامها، مستو نظامها، وإن المزاج لا يفسد فيها سريعا، فعلمنا أن ذلك المكان خط الاستواء ومعدن الذهب.
ومن هذا القول قال الحكماء لما ذكروا جنة الفردوس، وذكروا أنها مرتفعة من الأرض طول ثلث السماء، وأنه ليس بها حر ولا برد، ولا رطب ولا يبوسة، ولا ما يختلف ولا ما يختلط: إنها مستقيمة في كل شيء مقدرة لمسكن من أكرمه الله تعالى؛ ولذلك قال جالينوس وأصحابه: إن الجسم ما دام معتدل المزاج مستقيم الطالع يكون ذا مكث في الدنيا واستقرار فيها، والنفس الساكنة إذا كانت عارفة بباريها مقرة بتوحيده عادلة في حكوماتها، فهي ساكنة في جنة الفردوس بالقوة، فإذا فارقت الجسد وصلت إليها.
ولذلك استعمل هو وأصحابه صناعة الطب واستعجلوا صلاح أجسامهم، وقالوا: ما دام الإنسان مستقيم المزاج لا يزيد بعضه على بعض فهو صحيح لا يدخل السقم عليه، ولا يصل الألم إليه، وصلح أن يكون من ساكني الفردوس، وذو المرض والألم لا يكون ساكنها.
ونعود إلى ما كنا فيه ونقول: لا تشبه جنة الفردوس بالشمس؛ لأنها ليس لها من فعلها موت ولا مرض ولا فساد، وأنها حياة العالم؛ فهي الماسكة لكل جسد، ولونها إلى الحمرة، وطعمها إلى الحلاوة.
وقال: إنا تعلمنا منها عمل حمرة ثم حللنا منها لونين؛ يعني من الحجر المختص بها، وكتبنا به كتابا وصنعنا منه خاتما للملوك وتاجا لهم.
(66) فصل في إن القمر هو يشاكلها ويريد التشبه بها
قال: إن القمر هو يشاكلها ويريد التشبه بها والمحاكاة لها، وهو في ذاته أسود، ومنها يأخذ لون البياض وما يتبع البياض من الصفرة إذا طلع ليلة بدره في وقت مغيبها، فيعلو وجهه من شفقها صفرة، ثم تسلبها إياه وتنحط منه قوة، فيعمل في الأرض عملا يحاكي لونه، وهي الفضة، وهي تفسد في الأرض وفي النداوة، طعمها الحموضة لأنه يزنجر كما يزنجر النحاس، والقمر إذا حصل تحت شعاع الشمس غاب فيها حتى لا يرى، وكذلك الفضة إذا مازجت الذهب خفيت في لونه ومازجته، ومع النحاس كذلك. وتقبل الصبغة وسلطان القمر في الجسد على المخ والدم والمرتين، وعلى عيون الماء، وعلى المد والجزر، وعلى كل شيء تكون فيه زيادة ونقصان.
وقال: إنا صنعنا من الذهب إكسيرا وطرحنا منه على الفضة فصارت ذهبا، وما أسرعه إليها؛ لأنه جزوع رقيق، ليس له صبر على ما يؤذيه، والأرواح الصاعدة كلها عدو له، وكل جسد فيه روحانية صاعدة يؤذيه ولا يوافقه.
والماس جوهر حار يابس، أنثى، حامض، وهو قريب من الفضة، يختلط بالفضة والذهب إذا نقي وصفي.
والرصاص والحديد يكون منهما ما يصبغ ويختلط بالأرواح ويحبسها ولا يتركها، ولكن إذا صبغ هو نفسه يفر صبغه منه ولا يثبت فيه، وينبغي أن ينقى ويلين وهو يمسك لون الصبغة في غيره فيكونان يقبلان الصبغة، ويعلو منه العلو، ويعقر منه الكلب. وإذا قبل الصبغة لم تفارقه ويثبت على التصفية ويخرج منه فضة.
ولزحل في الأرض أسرب أسود ، وهو كيوان رصاص أسود، يقبل الصبغة ويعلق به مثل العلق، ويعض مثل الكلب العقور، وإذا قبل الصبغة لم يفارقه من الحرارة إذا كانت فيه روحانية حارة صاعدة من بطن الشمس، وهو ذكر قليل الحلاوة، ويقبل الصبغة ويكون منه شمس، وشمسه كريم مرتفع، ويصبغ منه ضروب المياه، ويحبس عطارد وجميع الروحانيات، ويحول بينها وبين الحروب، وهو عدو الفضة من أجل كبريته، ويصبغ الحجارة.
والزئبق بارد، وهو فضة غلبت عليها النداوة فأفسدتها وحللتها، ومن عرف دواءه قدر أن يرده إلى كيانه، ويصير فضة، ويجمع به بين الأرواح ويزاوج بينها، وما أقل صبره على النار! ومن قدر على إصلاح ما بينه وبينها وصل إلى ما يريد، وبه تكون حياة الموتى.
(67) فصل في أن الحجارة ثلاثة ألوان ...
وقال: إن الحجارة ثلاثة ألوان: منها ما يذوب، ومنها ما لا يذوب، ومنها ما يكون كلسا[11] ومنها ما لا يكون كلسا، فالذي لا يذوب ولا يكون كلسا فهو حجر كريم، وهو أشرف الجواهر، وهو الياقوت، له ضد يعاديه ومقدر عليه وهو حجر الألماس، والألماس حجر عظيم، وله ضد يعاديه وهو الأسرب.[12] ومن الحجارة ما يزداد في الأرض، ومنها ما ينقص ويتفتت، ومنها ما يقبل الصبغة من المطر والشمس، مثل الجزع والعقيق وغيره، ومنها ما يتحول من لون إلى لون مثل الياقوت، يبتدئ في البياض ثم إلى الزرقة ثم الصفرة ثم الحمرة ويثبت عليها.
واعلم يا أخي أن الحمرة هي أجل الأصباغ، وهي الأصل لها كلها إذا كانت الشمس حمراء وروحانياتها كلها حمر وصفر، والبياض أول الألوان، وهو يحول إلى السواد، كالأرض التي إليها مالت الطبائع، وهو لون زحل، وهو الموت، ولا خير فيما غلب عليه.
والأرقشيثا: جسد، وهو كبريت مختلط بالفضة، وهي باردة قريبة من الحر من أجل الكبريت الذي فيها، فإذا غسلت ونقيت وأحرقت صارت باردة يابسة، ولها أعمال تدخل فيما يحتاج إليه أهل الصنعة.
والمغنيسا: وهو حجر كريم، كرمته الحكماء ومدحته الفلاسفة القدماء؛ لأنهم كانوا يعملون منه أعمالا كبيرة، ويحلون به كل طبيعة من الأجساد المعدنية، وهو يلين الحديد والزجاج، ومنه ذكر وأنثى.
وسموه ذا اليبس، فالذكر منه يابس، والأنثى هشة سوداء شديدة السواد، وزاوجوها مع الكبريت المسمى أفيرون، ثم طرحوه على القلعي[13] فحوله فضة، والشاذنة باردة يابسة لينة، يخرج منها المس، وصنعت منها الحكماء ما احتاجت إليه في التدبير، وهي تزاوج جميع الأجساد والحجارة الخضرة، ويكرمها الحكماء ويعظمها العظماء، وهي طلسمات جليلة، ويعمل بها أسحار عجيبة، ومنها الفيروزوج، ويخرج منه جسد، ومنها الدهنج واللازورد.
وإن من الحجارة حجارة فيها طبيعة الكبريت والزئبق والطلق واللؤلؤ والصدف.
وقشر البيض كله بارد يابس، والخل يحله كله حتى يجعله في المنظر كالماء، قال جالينوس: إنهن يابسات، والرطوبة تحلل؛ فإنهم يحبسون الزئبق، ويصنعون المياه ويصيرونها أجساد الطلسمات، ويقبلون بها الأعيان، ويعملون صورة السحر. وقشر البيض قد أكرمته الحكماء، وله أسماء كثيرة مكتوبة، والعظم بارد يابس، واللبن ندي من أجل دسمه، فإذا فارقه دهنه فهو بارد يابس.
واعلم يا أخي أن الحكماء ذكروا أن في النبات من قوى هذه الروحانيات مثل ما في أجساد هذه المعادن الجامدات، وأنها تعمل في أجساد المعادن الذائبة مثل ما تعمل أرواحها المفارقة لها إذا رجعت إليه وأقيمت نشأة ثانية، وهي كثيرة لا يحصر عددها، ولا يعلم الإحاطة بكلية معرفتها إلا الله عز اسمه، ولكن نذكر منها طرفا ليكون دليلا على الباقي إن شاء الله.
(68) فصل شجرة ورقها مثل ورق الفول ...
شجرة ورقها مثل ورق الفول، مدملج مستطيل، ينبت صاعدا مثل القضبان، لا يموت صيفا ولا شتاء، تنبت في جبال الشام.
قيل: إنه إذا استخرج ماؤها وألقي على الزئبق وطبخ به مرارا عقده فضة بيضاء، وقيل: إن أول شجرة طلعت على وجه الأرض شجرة أصلها كهيئة الإنسان، وهي مقدمة الكون الإنساني في الطلسم المشاكل لصورة الإنسان في النبات، ويكون من ذكر وأنثى، وإذ كسر عودها وجد داخلها كالصليب! ولها أسماء كثيرة، وهي شجرة معروفة، وهي تنفع من داء الصرع إذا علقت على من به الصرع، ومن المرة السوداء، وما دامت عليه معلقة لا يصرع. وهي حارة، وهي تطرد الأرواح الفاسدة، ويتخذ منها طلسم وينصب على البيوت المسكونة فلا يبقى بها روح فاسدة ولا دابة مؤذية إلا هربت، وقد صنف رجل من الحكماء في هذه الشجرة كتابا ذكر منافعها.
والكسيينج[14] والسقمونيا[15] واللبان[16] والزئبق والسندروس والأفيون تلين الأجساد وتحسن الأرواح وتنفي الخبث، وتمسك بعض قوى الروحانيات الصاعدة، ويحرق بعضها الكباريت الفاسدة.
وذوات الصموغ والألبان من الأشجار تفعل أفعالا كثيرة وتعمل أعمالا جليلة، وفيها قوى فاضلة.
وقيل: إن شجرة يقال لها بالفارسية: «خوس»، واسمها بالرومية «حور سمون»، إذا أخذ من ورقها مما يلي الأرض من أصلها مقشرة، ومن زبد البحر، وزرنيخ أحمر، أجزاء ودقت جميعا، ثم اطل به ما شئت من الأجزاء الربية وأحم بالنار؛ فإنه يخرج ذهبا أحمر، ثم لا تصير إذا سبك بالنار، وأوراق هذه الشجرة مدورة إذا طلعت عليها الشمس رأيت لورقها لمعا وبصيصا، ويكون عليها دود أصفر مثل الذهب، يتكون منها ويدب عليها! روحانيات ما ينحط إليها مما وكل بها. وقيل: إن الدفلي[17] إذا أخذ نوره الشديد الحمرة ومن ورقه وعوده ولحائه وعروقه، ودق دقا جيدا وطلي به النحاس وهو ذائب، يخرج منه شبه الذهب، لكنه لا يصبر على النار مرة ثانية.
والخل المتخذ من العنب وهو خل الخمر له فضل كثير، ويلين الطبائع كلها في الأجسام والأجساد، ويحلل ويلين، وهو يبيض الأسود ويسود الأبيض. وأكثر هذه الصفات وأسمائها لم نذكرها من النبات، فذلك في كتاب الحشائش وكتاب الخواص، وكذلك في كتاب الأحجار وما يشاكل ذلك من بدن الإنسان وأعضاء الحيوان، وإنما أردنا بما ذكرنا ليعلم الناظر في كتابنا أن جميع ما في العالم، قليله وكثيره، وكبيره وصغيره، ومعادنه ونباته، وحيوانه ومواته، لم يخلق إلا بالحكمة، وأنه مربوط بعضه لبعض، لا يخلو من منفعة، وفي كونه حكمة تدل على الصانع الحكيم، جل اسمه وتعالى ذكره.
وإن الأشياء كلها محفوظة في أماكنها، وإنه جل اسمه، حافظها وموكل بها ملائكة تنشئها وتنميها وتمسكها وتربيها، ولكل منها مستقر ومستودع، وكلها مبنية في كتاب كريم ولوح عظيم، منه بدت وإليه تعود، وإنها مثالات وعلامات لما كانت منه وبدت عنه.
واعلم يا أخي أن الجن والشياطين والمردة موجودون في الأمكنة اللائقة بهم التي ينبغي لهم أن يكونوا فيها، وكذلك الملائكة، ولكل منهم مقام معلوم. وإن من بعض أمكنة الجن والشياطين صدور المنافقين من الإنس، وإنها حالة فيهم للوسوسة والغواية، ولهم قرناء من الجن يوحي بعضهم إلى بعض. وإن أمكنة الملائكة صدور المؤمنين ومن فوقهم من الأنبياء والمرسلين، كما قال، جل جلاله: @QUR014 نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين، وقد ذكرنا في رسالتنا الجامعة أن من النبات والحيوان والمعادن أجسادا وأجساما وقوى تختص بكل نوع من أنواعها وشكل من أشكالها من الأرواح.
فنريد أن نذكر في هذا الفصل كيفية استعمال الحكماء هذه القوى والأرواح في السحر الذي كانوا يعملونه ويعلمونه لتلامذتهم، وهو معرفة الخلط والمزاوجة في الوقت الذي ينبغي فيه ذلك، ومعرفة النسبة واستواء الأنصبة وإجراء الروحانيات في الجسمانيات، وتركيب الأجسام على الأجساد وإمكان الأرواح فيها بعد الممات.
واعلم يا أخي أنه من قدر على أن يحيي الجسم بعد موته مثل ما عمله المسيح فقد أتى بسحر عظيم، لا تكاد النفوس أن تصدقه ولا العقول أن تحققه، وهو حق يقين وسحر مبين، ولكنها أجساد غير ناطقة، وأرواح منها خرجت ثم عادت إليها، وهي أصباغ مشرقة، وألوان مونقة.
واعلم يا أخي أن هذا الصنف من السحر يفسد العقول ويتلف النفوس إذا عطفت إليه وأقبلت عليه، وينبغي لإخواننا، أيدهم الله، ألا يلتفتوا إلى هذا الفن من جهة القياس وقراءة الكتب والتجربة والاعتماد على من قال ووصف وقال رأيت، وإنما المراد من ذلك اتباع المعلم الواصل والحكيم الفاضل المان على من يجب أن يمن عليه بذلك، إذا كان ممن ينبغي أن يعلم له السحر الحلال ويعرف كيف يحيي الله الموتى، كما قال إبراهيم: @QUR08 رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن - يعني بالصفة - @QUR05 قال بلى ولكن ليطمئن قلبي - بالنظر - @QUR05 قال فخذ أربعة من الطير - يعني أربعة أزواج طائرة - @QUR07 ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا - يعني أجسادا ثابتة جزءا كما ينبغي أن يجعل عليه - @QUR02 ثم ادعهن - بالماء المحلل - @QUR02 يأتينك سعيا واعلم أن الله على كل شيء قدير. وهذا مقتضى هذه الآيات على ما تأوله أصحاب هذه الصناعة.
وبهذا السحر عمل قارون وصرفه في غير حله، وخالف موسى في فعله، وتعدى ما رسمه له فحيل بينه وبينه، وخسف به وبداره، وابتلعته الأرض وما كان معه، وقل من يستحق تعليم هذا السحر في العالم، وإنما أردنا بما ذكرناه ونذكره تنقيح عقول إخواننا، أيدهم الله، بالمعارف، وتحريضهم على النظر في كل العلوم، والمعرفة بمبادئ الصنائع وكيفياتها؛ ليكونوا علماء حكماء ويفارقوا عالم الجهل وصفاته، ويتخلصوا من أهله وآفاته، ويرتقوا إلى عالم العقل وخيراته، وينالوا درجة العلم وبركاته @QUR06 وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين. والموفق لذلك قليل، وقليل ما هم.
واعلم يا أخي، أيدك الله تعالى أنه لا ينبغي لأحد من إخواننا، أيدهم الله، ولا لأحد من أي الناس كان أن يبتدئ بتدبير شيء من الأشياء، ولا صنعة من الصنائع، ولا عمل من الأعمال، يريد به الصلاح في أمر نفسه ومعيشته، إلا بعد معرفة أحوال القمر؛ لأنه اختص بتدبير عالم البشر.
واعلم يا أخي أن الإنسان هو الفرد، وجميع ما تحته فهو منسوب إليه، وهو ملك سماء الدنيا وخليفة الشمس على عالم الأرض، والشمس خليفة الله تعالى في السموات والأرض، وكل كوكب في فلكه فإنما هو ملك ذلك الفلك ومدبره وخليفة الشمس فيه، والشمس ملك الكواكب، وفلكها سيد الأفلاك، وبها تتصل الحياة من معدن الحياة، ومنها تتصل بكل حي ناطق وحساس متحرك، ولها صفات بها تختص وتفضل على سائر الكواكب بما فضلها الله تعالى وجعل لها القوة الحافظة على جميع الموجودات.
واعلم أن القمر في جميع أموره كالإنسان؛ وذلك أنه يبتدئ بالنشور كما ينشأ الإنسان وله زمان يكون فيه، كالصبي وحاله من بعد الولادة، وله زمان الحداثة والشبيبة، وله زمان قوة واستكمال، وله زمان كهولة ونقص، ثم لا يزال كذلك حتى يعدم وجوده ويغيب حتى لا يرى ويستأنف نشأة أخرى، وكذلك حال مسيره في دقائقه ومنازله في البروج يشاكل مسير الإنسان في أمر معيشته وجميع متصرفاته.
فإذا كان ذلك كذلك فيجب على من يريد الابتداء بمثل ما ذكرناه أولا من عمل السحر الحلال الزجر والفأل والرقى والعزائم وعمل الخواتيم، وربط الروحانيات، ونصب الطلسمات، ووضع العلامات، ودفن الذخائر واستخراجها، وجميع ما أحب عمله من حل وعقد وأعمال نيرنجات[18] وقلب الأعيان، وتحويل الكيان من كيان إلى كيان، فليبدأ بمعرفة مسير القمر ومعرفة طبائع منازله، ويعرفها منزلة منزلة، ويصحح مسير الشمس والكواكب من التقويم، فإن ذلك معين على ما يريد الابتداء به، وليكن نظره لذلك من التقويم السماوي والحظ الإلهي، وينظر إلى القمر كل ليلة ويستدل به وبنزوله في البروج الاثني عشر، ونريد أن نبين ذلك، وهو مذكور في كتب الحكماء العلماء بصناعة النجوم، فإن عدم الناظر في ذلك معرفة المسير في الفلك بالنظر في الآفاق، فلينظر ذلك في التقويم الأرضي والخط الإنساني الوضعي والكتاب الجزئي، فإنه سيبلغ بذلك بعض ما يريد إن شاء الله.
(69) فصل قال الحكيم: إن القمر ينزل كل يوم في منزلة ...
قال الحكيم: إن القمر ينزل كل يوم في منزلة، ومقدار مقامه في كل منزلة ساعة غير سدس؛ لأن المنزلة لا تطلع حتى تمضي خمسة أسداس ساعة، ثم يطلع منزلة أخرى، والقمر إذا طلع أول ليلة من الشهر يقيم ستة أسباع ساعة ثم يطلع منزلة، ويزداد كل ليلة ستة أسباع ساعة، ثم يطلع في الليلة السابعة من الشهر فيقيم إلى نصف الليل ثم يغيب، ثم يزداد كل يوم ستة أسباع ساعة على هذا القياس.
فإذا كانت ليلة أربع عشرة يطلع فيقيم إلى وقت طلوع الشمس، ثم يغيب ويطلع حين تغرب، ويغرب حين تطلع، فيكون له بهذه الخلافة خلافة كاملة؛ لأنه يتسلم تدبير العالم عند غروبها، ويغيب عند طلوعها، محاكيا لها في الاستدارة والتمام.
وإذا كانت ليلة خمس عشرة يتأخر طلوعه ستة أسباع ساعة مثل ما طلع في أول ليلة من استهلاله، ثم كذلك حتى يطلع ليلة سبع وعشرين مع غداة الفجر، ثم يستتر تحت شعاع الشمس يومين، وهي قيامته ورجوعه إلى مالكه فيوفيه حسابه، ثم ينشئه نشأة أخرى @QUR04 ذلك تقدير العزيز العليم، ثم يظهر فيطلع مثل ما قدمنا ذكره.
فإذا نزل القمر بأول الحمل وهو «السرطان» إلى اثنتي عشرة درجة منه وستة أسباع درجة، وهو ناري نحس يصلح فيه من الأعمال ما يختص بأمور النساء، ويجتنب فيه لبس الثياب الجدد وترك الأعمال كلها بالجملة. وفي هذا الحد تتحرك روحانية تتصل بأنفس الملوك والسلاطين، ويظهر فيهم الغضب والبطش بالقتل وسفك الدم والجور والظلم، ثم يعم ذلك العالم كله، فيظهر من ذلك في كل واحد بحسب قوته وما جعل له من قدرته، ولا يصلح إلا لما كان من أحوال النساء. ومن تزوج في هذا اليوم حظيت المرأة عنده وحظي هو عندها. واشتر فيه الرقيق والدواب والشاء والبقر، واغرس فيه وازرع وابن البناء؛ فإن عاقبة كل ذلك محمودة. ولا تؤاخ في هذا اليوم أخا؛ فإن مودة المتحابين لا تلبث، ولا تشتر فيه شيئا للتجارة؛ فإن عاقبته غير محمودة، ولا تعالج فيه طلسما ولا دعوة بحال.
ومن ولد في هذا اليوم إن كان ذكرا كان فاجرا شريرا، لا تلبث الأموال معه، ولا يحمل في شيء من أموره، وإن كانت أنثى كانت فاجرة مشهورة الفجور، محببة حظية عند الرجال حريصة عليهم.
* **البطين: **سعد، حار يابس، وهو ألين جوهرا.
فإذا نزل القمر بالحد الثاني من الحمل، وهو اثنتي عشرة درجة وستة أسباع، فعند ذلك ينحط إلى العالم روحانيات معتدلة تصلح ما تقدم من الفساد في الأرض، وتصلح ما كان بإفساد المقدم بها، وتزيل غضب الملوك من نفوسهم، وهو يصلح لجميع الأعمال والأفعال. وما يختص به الرجال دون النساء، فاعمل فيه نيرنجات العطف والمحبة بالملوك والسوقة والإخوان، ومن أحببت من الرجال دون النساء خاصة، واعمل فيه الطلسمات والنيرنجات الأربعة الموضوعة في كتاب أرسطماخس، ودبر فيه الصنعة، وعالج فيه الروحانيات، وادخل فيه على الملوك، واسع في حوائجهم، واتصل فيه بهم ، واستفتح المودة بينك وبينهم، ولا تتزوج فيه، ولا تشتر فيه رقيقا ولا شيئا من الحيوان الذي تريده للقنية، ولا تشتر فيه شيئا للتجارة، ولا تلبس فيه ثوبا جديدا؛ فإنه من لبس فيه ثوبا جديدا يخشى عليه من السل! وازرع فيه، ولا تكتل غلتك؛ فإنه من اكتال في هذا اليوم غلة لم يبارك له فيها.
ومن ولد هذا اليوم إن كان ذكرا كان صالحا ناسكا، كتوما للأسرار، محمود السيرة، حسن المعيشة، كثير الأعداء، وإن كانت أنثى كانت فاجرة متهتكة، سيئة السيرة، مبغضة في الناس.
* **الثريا: **ممتزجة الحرارة والبرودة، سعدة، متوسطة، وهي من خمس وعشرين درجة وخمسة أسباع درجة من الحمل إلى ثمان درجات وأربعة أسباع من الثور.
وإذا نزل القمر الثريا فاعمل فيه نيرنجات المحبة وأفعالا تختص بالنساء، وإطلاق المأخوذ عن النساء، واحلل عقد السموم، ودخن فيه بدخن المحبة، واعمل الطلسمات، ودبر فيه الصنعة، وسافر فيه للدعوات، وادخل فيه على الملوك، واتصل بالأشراف، وتزوج، واشتر فيه ما أحببت، وابن الأبنية، واختلط فيه بالإخوان، وازرع فيه واحصد زرعك، واكتل غلاتك، والبس فيه ما أحببت من جدد ثيابك؛ فإن ذلك كله محمود العاقبة نافذ الروحانيات حسن الخاتمة.
ومن ولد في هذا اليوم - ذكرا كان أو أنثى - كان صالحا سعيدا، محمود السيرة، مستور الدخلة.
* **الدبران: **نحس أرضي يابس، وهو من ثماني درجات وأربعة أسباع درجة من الثور إلى تمام إحدى وثلاثة أسباع منه. فإذا نزل القمر الدبران فاعمل فيه نيرنجات العداوة والبغضاء خاصة، ولا تدخل فيه على الملوك، ولا تسع في حوائجهم، ولا تتصل بهم، ولا تستفتح عملا في تدبير الصنعة ولا في تدبير طلسم ولا دعوة ولا زرع ولا غرس، ولا تكتل غلة، ولا تعالج فيه أحدا، ولا تتزوج فيه ولا تسافر؛ فإن ذلك كله غير محمود العاقبة.
ومن ولد في هذا اليوم، إن كان ذكرا كان محذورا، خبيث الدخيلة والسيرة، شريرا قتالا، وإن كانت أنثى كانت فاجرة متهتكة، لا يحبها أحد ولا تحظى عنده.
* **الهقعة: **نحسة يابسة، ممتزجة بسعادة، تنحط فيه إلى العالم روحانية، ممزوجة، وهي من إحدى وعشرين درجة وثلاثة أسباع درجة إلى أربع درجات وسبعي درجة من الجوزاء، فإذا نزل القمر بها فاعمل فيه نيرنجات السموم وأخلاطها، واعمل فيه الطلسم كله، وعالج فيه من الأرواح.
ولا تستفتح دعوة ولا تدبر فيه صنعة ولا زرعا ولا غرسا ولا تزويجا؛ فإن ذلك كله غير محمود العاقبة، وادخل على الملوك واسع في حوائجهم، واتصل بالأشراف والإخوان، واشتر فيه الرقيق، والبس فيه ما أحببت من جدد ثيابك، وسافر فيه؛ فإن ذلك كله محمود العاقبة نافذ الروحانية حسن الخاتمة.
ومن ولد فيه إن كان ذكرا كان مذموما في الناس كثير الأذى لهم غير محمود، وخبيث الدخيلة والسيرة شريرا قتالا، وإن كانت أنثى كانت صالحة قليلة الكلام، حظية عند الرجال مستورة الحال.
* **الهنعة: **لينة، رياحية، سعدة، وهي من أربع درجات وسبعين من الجوزاء إلى تمام سبع عشرة درجة وسبع من الجوزاء. فإذا نزل القمر بها فاعمل فيه نيرنجات العطف والمحبة والمودة، ودخن فيه الدخن، واحلل السموم، واعمل الطلسمات، ودبر فيه الصنعة، وادع فيه الدعوة، وادخل فيه على الملوك، واسع في حوائجهم، واتصل بالإخوان، واستفتح فيه بالأعمال، وتزوج، واشتر فيه الرقيق، وازرع واحصد واغرس، واكتل غلتك، وسافر؛ فإن ذلك محمود العاقبة، نافذ الروحانية، باقي الزكاء والبركة. قال: ومن ولد في هذا اليوم، إن كان ذكرا كان حسن السيرة محمودا في الناس، وإن كانت أنثى كانت حظية عند الناس، حريصة عليهم، فاجرة، مستورا عليها ذلك.
فإذا نزل به القمر فاعمل فيه نيرنجات القطيعة والعداوة وعقد الشهوة خاصة، ولا تعمل فيه الطلسم، ولا تدبر فيه الصنعة، ولا تدع بدعوات روحانية، ولا تعالج فيه أحدا البتة بشيء من العلاج، ومن يلبس فيه ثوبا جديدا خشي عليه من جراحة تصيبه فيه، ولا تدخل فيه على الملوك، ولا تتصل بالأشراف والإخوان، ولا تتزوج، ولا تشتر رقيقا، ولا دابة؛ فإنه من فعل ذلك لم تحمد عاقبة أمره وأعقبته حسرة وندامة، ولا تزرع فيه، ولا تحصد غلتك ولا تكتلها؛ فإنه من زرع واكتال غلة في هذا اليوم انتهبته الأعداء، ولا تسافر فيه، وحارب في هذا اليوم؛ فإن من ابتدأ بمحاربة عدوه فيه وخالطه ظفر به، ومن ولد فيه - ذكرا كان أو أنثى - كان منحوسا شريرا متهتكا، غير محمود السيرة، مذموما في الناس.
* **الجبهة: **مائية، ممتزجة بالحرارة، سعيدة مضروبة بنحس، وهي من خمس وعشرين درجة وخمسة أسباع درجة من السرطان إلى ثمان درجات وأربعة أسباع درجة من الأسد.
فإذا نزل القمر بها فاعمل فيه نيرنجات الإطلاق وحل عقد الشهوة والسموم خاصة، واعمل فيه الطلسمات، ولا تدبر فيه الصنعة، ولا تدع فيه بالروحانية، ولا تعالج من الأرواح وغيرها، وادخل فيه على الملوك واسع في حوائجهم، واتصل فيه بالأشراف والإخوان، واحصد فيه وازرع ولا تكتل غلتك؛ فإن من اكتال فيه غلة سرقها منه اللصوص أو سرقوا ثمنها، وتزوج في هذا اليوم؛ فإنه يوم محمود العاقبة، واشتر فيه الرقيق والدواب، وسافر فيه، وافتتح فيه الحرب؛ فإن فيه الظفر والسلامة. قال: ومن ولد في هذا اليوم، إن كان ذكرا كان داهية مكارا ذا حيل وخدائع، وإن كانت أنثى كانت حظية عند الرجال، غالبة الشهوة، شديدة الحرص عليهم، مستورة الحال.
* **الزبرة: **نارية، يابسة، سعدة، هي ثمان درجات وأربعة أسباع درجة من الأسد إلى إحدى وعشرين درجة وثلاثة أسباع درجة منه. فإذا نزل بها القمر فاعمل فيه نيرنجات عطف قلوب الملوك والأشراف والإخوان خاصة، واعمل فيه الطلسمات، ودبر الصنعة، وادع فيه بالدعوات، وعالج فيه من الأرواح، وادخل فيه على الملوك، واسع في أعمالهم، واتصل بالإخوان والأشراف، وازرع واحصد واكتل غلتك، وتزوج، واشتر الرقيق والدواب، والبس ما أحببت من جديد الثياب، وسافر ودبر تدبير الحرب، واستفتح الأعمال كلها؛ فإن ذلك كله محمود العاقبة، نافذ الروحانية، حسن الخاتمة، تام الزكاء والبركة، ومن ولد فيه - ذكرا كان أو أنثى - كان سعيد الجد، مستورا، صالحا، ميمونا على والديه وأهل بيته، محمودا في الناس.
فإذا نزل القمر بها فاعمل فيه نيرنجات المحبة والمودة بالنساء، والق الأشراف والإخوان وغيرهم، واعمل فيه الطلسمات، وادع فيه الدعوة، وعالج من الروحانية، وازرع واحصد ولا تكتل غلتك؛ فإنه من اكتال فيه غلته بغته السلطان بغرم، ولا تدبر فيه الصنعة، ولا تحارب ولا تخالط الأعداء، وادخل فيه على الملوك واسع في أعمالهم، والبس فيه الثياب واشتر الرقيق وسافر.
ومن ولد في هذا اليوم، إن كان ذكرا كان مشئوما على أهله ووالديه، محدودا مجارفا، مبغضا في الناس، وإن كانت أنثى كانت محظية محببة عند الرجال، ذات عفة وحسن حال.
* **السماك: **أرضي يابس، نحس، وهو من سبع عشرة درجة وسبع درجة من السنبلة إلى آخرها، وينحط فيه إلى العالم، روحاني، نحس. فإذا نزل القمر به فاعمل نيرنجات العداوة والتفريق بين الاثنين والسموم القاتلة، وكل شيء يؤدي إلى مضرة وأذى.
ولا تعمل فيه الطلسمات، ولا تدبر الصنعة، ولا تستفتح فيه الأعمال، ولا تزرع ولا تحصد ولا تبن فيه الأبنية، ولا تكتل غلتك، ولا تدخل فيه على الملوك، ولا تخالط فيه الإخوان والأشراف، ولا تدبر فيه الحروب، ولا تتزوج، ولا تشتر فيه الرقيق والدواب، واجتنب جميع الأعمال إلا الحلق والحمام وأخذ الشعر فقط، ولا تسافر فيه.
ومن ولد فيه - ذكرا كان أو أنثى - كان مشئوما محدودا متهتكا، سيئ السيرة، مذموم العمل.
* **الغفر: **وهو من أول الميزان إلى اثنتي عشرة درجة وستة أسباع درجة، وهو رياحي، سعد، وإذا نزل القمر به فاعمل فيه نيرنجات المحبة والمودة والعطف، وأطلق فيه الأخيذ، واحلل فيه عقود السموم القاتلة، واعمل فيه، وادع فيه بالدعوة، وعالج فيه الروحانية، وسافر، وادخل على الملوك، واتصل بهم وبالإخوان والأشراف، وتزوج، واشتر الرقيق، والدواب، وازرع فيه واحصد واكتل غلتك، والبس ما أحببت من جديد ثيابك، واستفتح فيه جميع أعمالك.
ومن ولد في هذا اليوم - ذكرا كان أو أنثى - كان سعيدا ميمونا على والديه، محببا مستورا صالحا.
* **الزباني: **رياحي، سعد مضروب بنحس، وهو من اثنتي عشرة درجة وستة أسباع درجة من الميزان إلى خمس وعشرين درجة وخمسة أسباع درجة منه. فإذا نزل به القمر فاعمل فيه نيرنجات عقد الشهوة وحلها وحل السموم القاتلة، واعمل فيه الطلسمات، وادع فيه بالدعوات، ولا تعالج فيه من الروحانية، ولا تدبر الصنعة، وازرع واحصد، ولا تكتل غلتك، فإن من اكتال غلته فيه تمحقت وذهبت في مدة، ولا تسافر فيه، وادخل على الملوك واتصل، ولا تلبس فيه ثوبا جديدا؛ فمن لبسه أصابه فيه صرعة من دابة أو سقطة من سطح أو ضجرة، وتزوج، واشتر الرقيق والدواب، ودبر فيه تدبير الحروب، وخالط فيه الأعداء، وإن ولد فيه ذكر كان سعيدا محببا ناسكا ميمونا، وإن كانت أنثى كانت مشئومة على والديها متهتكة فاجرة سيئة السيرة.
ومن ولد فيه - ذكرا كان أو أنثى - كان مستورا محارفا مبغضا، لا يولد له ولد، ويكون محروما.
* **القلب : **مائي، سعد ، وهو من ثمان درجات وأربعة أسباع درجة من العقرب إلى إحدى وعشرين درجة وثلاثة أسباع درجة.
فإذا نزل به القمر فاعمل فيه نيرنجات المحبة وتأليف القلوب بالمودة، وأطلق فيه الأخيذ،[20] واحلل فيه عقد السموم القاتلة، ودبر الصنعة، واعمل الطلسمات، وادع بالدعوة، وازرع واحصد واكتل غلتك، واستفتح فيه أعمالك كلها، وتزوج، واشتر الرقيق والدواب، والبس فيه الثياب الجدد؛ فإن ذلك كله محمود العاقبة، نافذ الروحانية، حسن الخاتمة، تام البركة والزكاة.
ومن ولد فيه - ذكرا كان أو أنثى - كان سعيدا مباركا ميمونا محببا، حسن التدبير والسيرة، مستور الحال.
* **الشولة: **مائي، ممتزج بالنار، سعد مضروب بنحس، وهو من إحدى وعشرين درجة من أربعة أسباع درجة من العقرب إلى أربع درجات وسبع درجة من القوس.
فإذا نزل القمر بها فاعمل فيه نيرنجات عقدة الشهوة والسموم القاتلة، واعمل فيه الطلسمات، ولا تدبر فيه الصنعة، وادع فيه الدعوة، ولا تعالج من الروحانية، ولا تسافر، وازرع ولا تكتل غلتك؛ فمن اكتالها انتهبها الأعداء واللصوص، ولا تدخل فيه على الملوك ولا تسع في حوائجهم، وادخل على الإخوان والأشراف، ولا تتزوج، ولا تشتر الرقيق، ولا تلبس ثوبا جديدا؛ فمن لبسه أصابته الحمى المنهكة، ولا تستفتح شيئا من الأعمال.
ومن ولد فيه - ذكرا كان أو أنثى - كان مشئوما على والديه وأهله، مبغوضا إليهم، مذموما في الناس، متهتكا، سيئ السيرة.
* **النعائم: **سعدة، نارية، وهي من أربع درجات وسبعي درجة من القوس إلى سبع عشرة درجة وسبع درجة منه.
وإذا نزلها القمر فاعمل فيها نيرنجات المحبة وتأليفات المودة، وأطلق فيه الأخيذة، واحلل عقد السموم القاتلة، واعمل الطلسمات، ودبر الصنعة، وادع فيه بالدعوة، وعالج فيه الروحانية، واستفتح فيه جميع أعمالك كلها، وخالط الملوك والأشراف، وسافر، وازرع، واكتل، وتزوج، واشتر الرقيق والدواب، وحارب فيه؛ فإن فيه الظفر والسلامة، والبس ثيابك الجدد؛ فإن ذلك محمود العاقبة، نافذ الروحانية، حسن الخاتمة، تام الزكاء والبركة.
ومن ولد في هذا اليوم - ذكرا كان أم أنثى - كان سعيدا ميمونا محببا، حسن السيرة، مستور الحال.
* **البلدة: **نحسة، نارية ، وهي من سبع عشرة درجة وسبعي درجة من القوس.
فإذا نزل بها القمر فاعمل فيه نيرنجات القطيعة والعداوة والتفريق بين الاثنين والسموم القاتلة، وكل شيء يؤدي إلى مضرة وفساد، ولا تعمل فيه سوى ذلك من عمل طلسم، ولا تدبر فيه صنعة ولا دعوة، ولا تعالج فيه روحانية ولا زرعا ولا غرسا ولا كيلا ولا سفرا ولا اختلاطا بالملوك والأشراف والإخوان، ولا تتزوج، ولا تشتر رقيقا ولا دابة، ولا تلبس ثوبا جديدا؛ فمن لبسه بط[21] عن قرحة دامية تخرج عليه، ومن ولد فيه - ذكرا كان أو أنثى - كان منحوسا مشئوما، يموت أحد والديه، وتكون تربيته بأسوأ حال، ويكون متهتكا سيئ السيرة.
* **سعد الذابح: **أرضي، نحس مضروب بسعادة، وهو من أول الجدي إلى اثنتي عشرة درجة وستة أسباع درجة منه. وإذا نزل به القمر فاعمل فيه الطلسمات ونيرنجات عقد الشهوة والسموم القاتلة، وكل علاج يؤدي إلى مضرة، ولا تدبر فيه الصنعة، ولا تدع فيه الدعوة، ولا تعالج فيه الروحانية، ولا تختلط فيه بالملوك والأشراف، وخالط فيه الإخوان، وازرع فيه ولا تكتل غلتك؛ فمن اكتال غلته فيه تمحقت من يده، ولا تسافر فيه، ولا تلبس ثوبا جديدا؛ فإن لبسه لابس أصابته جراحة من عدوه، ومن ولد فيه - ذكرا كان أو أنثى - كان الذكر ميمونا محدثا حسن السيرة محمود العمل، وإن كانت أنثى كانت حظية عند الرجال، حريصة عليهم، مؤثرة لشهواتهم، متهتكة غير مستورة.
ومن ولد فيه - ذكرا كان أو أنثى - كان مشئوما منحوسا، يموت عنه والده، ويكون متهتكا، ويربيه الأبعدون، ويكون فاجرا خبيثا سيئ السيرة.
* **مقدم الدلو: **وهو من إحدى وعشرين درجة وثلاثة أسباع درجة من برج الدلو إلى أربع درجات وسبعي درجة من برج الحوت، وهو سعد، رياحي. قال: فإذا نزل به القمر فاعمل فيه نيرنجات العداوة والقطيعة وعقد الشهوة والسموم القاتلة والطلسم، ولا تدبر الصنعة، ولا تدع، واحلل فيه عقدة الشهوة، وعالج بالروحانية، وادخل على الملوك والأشراف، وعالج الروحانية، والبس ما أحببت من الثياب الجدد، وازرع ولا تكتل غلتك؛ فمن اكتالها عاقبه السلطان بغرم فتذهب غلته أو ثمنها.
ومن ولد فيه، إن كان ذكرا كان مشئوما محدودا مجارفا متهتكا، خبيث الدخيلة، سيئ السيرة، مذموما عند الناس، وإن كانت أنثى كانت ميمونة سعيدة محببة مستورة، حظية عند الرجال.
* **مؤخر الدلو: **مائي، سعد، مضروب بنحس، وهو من أربع درجات وسبعي درجة من الحوت إلى سبع عشرة درجة وسبع درجة منه. قال: فإذا نزل بمؤخر الدلو وهو الفرع الآخر فاعمل فيه نيرنجات العداوة والقطيعة وعقد الشهوة والسموم القاتلة، واعمل فيه الطلسم، ولا تدبر فيه الصنعة، ولا تدع فيه الدعوة، وعالج فيه من الروحانيات، وادخل فيه على الملوك والأشراف، وحارب فيه، وسافر، وازرع فيه، ولا تكتل غلتك فيه؛ فإن من اكتال غلته في هذا اليوم يعقبه من السلطان غرم ويذهب ثمنها.
قال: ومن ولد في هذا، إن كان ذكرا كان مشئوما محدودا مجارفا متهتكا، خبيث الدخيلة، سيئ السيرة، مذموما عند الناس، وإن كانت أنثى كانت ميمونة سعيدة محببة، حظية عند الرجال.
* **بطن الحوت: **وهو من سبع عشرة درجة وسبع درجة من الحوت إلى آخره، وهو مائي، سعد.
فإذا نزل القمر فاعمل فيه نيرنجات المحبة وعطف القلوب بالمودة وإطلاق الأخيذ، وحل عقد السموم القاتلة، واعمل فيه الطلسمات، ودبر فيه الصنعة، وادع فيه بالدعوة، وعالج فيه من الروحانية، وازرع واحصد واكتل غلتك، وسافر، واختلط بالملوك والإخوان، وتزوج، واشتر الرقيق والدواب، واستفتح فيه الأعمال؛ فإن ذلك محمود العاقبة، نامي البركة، نافذ الروحانية، ومن ولد فيه - ذكرا كان أو أنثى - كان سعيدا ميمونا زكيا محمودا حسن السيرة.
فاعقد، أيها الأخ، هذه الأسرار الفلكية، والتدابير الهرمية، والأنباء الإدريسية، واعمل بها لنفسك ولإخوانك في مصالح دينك ودنياك، وامنح بها الصفوة من أصحابك، وتدبرها بلطيف فهمك ونافذ بصيرتك، تصل منها إلى منازل الأخيار.
قال هرمس: هذه الأوقات التي تدور عليها روحانيات القمر بهذه الأعمال التي وصفها الحكيم في الكتاب المخزون.
وسئل أيضا أي ساعات الليل والنهار أحب أن تعمل فيها النيرنج والطلسم؟ فقال: أحب الساعات إلي في عمل النيرنج من ساعات الليل بعد مغيب الشفق إلى طلوع الشمس؛ وذلك أن هذه الساعات هي ساعات ساكنة، تنبسط الروحانية في هذه؛ لأن الروحانية مستجنة كامنة خفية بالنهار لشروق الشمس وضوئها وانبثاث الروحانيات الأرضية وحركاتها. فإذا غربت الشمس وغاب ضوءها وشروقها انبسطت الروحانيات بحركتها ونفذت في تدبيرها.
قال هرمس: وجدت في الكتاب المخزون في أسرار النيرنجات أن خير ما يعمل به العامل ما يخفيه عن عيون الناس ورؤيتهم وشروق الشمس وضوئها؛ وذلك أن عيون الناس جاذبة روحانياتها تمنع أرواح النيرنجات في نفاذها، وشروق الشمس يبطل النيرنج ويدفع روحانية نفاذه وتمامه.
وقال: اعلم أن نيرنجات المحبة والمودة والقطيعة وعقد الشهوة وحلها كلها اعمل ليلا من تلك الليالي والأيام المقسومة من منازل القمر، واعمل الطلسم والصنعة والدعوة وعلاج الروحانية، وخلط السموم وعقدها وحلها وعلاج الأزواج الروحانية ليلا إن شئت أو نهارا، واحترس في ذلك كله من العيون اللامعة والهموم المؤذية؛ فإنهما يفسدان روحانية العالم الأصغر والأكبر ويزيلانها عن حدودها ويغيران أعراضها.
قال: وجدت في الكتاب المخزون أنه ليس شيء من الأعمال الموصوفة في الأصغر والأكبر إلا والعيون إليه بأسرع بالفساد من هذه الثلاثة الأشياء: النيرنج، والصنعة، ودعوة الروحانية.
ولذلك أمر الحكماء بإخفاء هذه الثلاثة وأسرارها واكتنانها عن جميع الناس، إلا عن تلميذ مؤتلف الروحانية، صحيح العزم، تام الطبيعة، مأمون الصحبة، معين على الازدياد من العلوم.
وقد أتينا على دائرة منازل القمر والبروج الاثني عشر في هذا الموضع من الصفحة؛ لتقف عليها وتقع تحت الحس السحري، وهذا موضع صورة الأشكال الثمانية وعشرين منزلة، وشهور الروم والقبط في كل منزلة، ودخول الشمس، وطول الليل والنهار، وقصر الليل في دخول الشمس.
وأعيذك أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله تعالى وإيانا بروح منه، من العمل بما لا يوجبه ولا يقتضيه الشرع، إلا ما كان من دفن مال، أو حفر بئر أو نهر، أو بناء سفينة أو دار، أو تزويج، أو دخول على سلطان، أو سفر، أو زرع، أو غرس، أو شراء عقار، وما ينتهي بهذه الأمور.
فأما ما عداها فإن إخواننا، أيدهم الله، قد عصمهم الله عن أفعالها: أعني العطوف والشد والربط وما شاكل هذه الأشياء، وإنما شرحنا ذلك لإخواننا لتعرف كيفية عمل من يعمل ذلك؛ ليكون علمهم محيطا به ، وأيضا لنعلمهم أن الحكماء لم يفتهم شيء مما يحتاج الناس إليه من أمر الدين والدنيا إلا وقد تكلموا وعملوا عملا، وأظهروا خواص الأشياء التي يتعجب منها عوام الناس، وليعلموا أن الله تعالى لم يوجد شيئا باطلا، كما قال سبحانه: @QUR012 وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين * ما خلقناهما إلا بالحق.
فإذا تأملت هذه الحكمة، وتدبرت هذه الصنعة، وعرفت هذا السر، واطلعت على حقيقة هذا السحر الذي يسحر العقول، وبانت لك الأشياء بحقائقها، وتعلمت كيف تسحر من هو من الناس، وتبين لك ما خفي عن غيرك من الغافلين من الأمور الإلهية.
فانتبه، أيها الأخ، من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، وأيقظ من قدرت عليه من الغافلين؛ ليحصل لك النفع العاجل والخير الواصل في الدين والدنيا، بلغك الله تعالى، أيها الأخ البار الرحيم، منازل الأخيار المصطفين، ورقاك إلى منازل الملائكة المقربين، وأيدك الله وإيانا بروح منه وجميع المؤمنين، برحمته آمين.
هذه الدائرة، وعدتها ثمانية وعشرون منزلة، التي ذكرها صاحب الإسطيطاس، ذكرناها في هذه الرسالة التي هي من جنسها.
ونريد أيضا أن نذكر طرفا من النيرنجات المعينة على ما يراد منها، فما وجدناها في كتاب هرمس المثلث بالحكمة؛ فإنه قال - بعد تقسيم القمر وسيره: إن النجوم السبع قد تقسمت للتدابير بروحانيتها ومسيرها في الطوالع الاثني عشر، وذكر أن القسمة الأولى لم تبطل ولم تنتقص، وأنه الأصل في القسمة الأولى، غير أن هذه الروحانيات اللاتي هي السبع قد ضربت الاثني عشر بقسمتها، وغلبت عليها روحانيتها، وقسمتها بالدقائق والثواني، والتسديس والتربيع والتثليث، والمقابلة والمقارنة، وألحقتها بتدبيرها في المواليد خاصة وثمار الأعمار، مما ينقص من هذه القسمة في منازل القمر ومسيره؛ وذلك أن القمر هو السعد الثاني، ومسيره أسرع النجوم مسيرا في منازله، وأقدر أن يبلغ بروحانية جميع النجوم بسرعة حركته.
وذكر أيضا في كتابه أنه ليس من حكيم إلا وهو محتاج إلى معرفة هذه القسمة؛ لأنها الأساس بتدابير الأعمال والصنعة.
قال: ووجدت أيضا من أسرار العلوم الخفية في أخذ هذه الأعضاء الروحانية، من العالم الأصغر والحيوان المتحرك، أنه قال: يؤخذ الدم من العالم الأصغر في حجامته وفصده وجراحته وهو يجري، وسعد رأسا وحاسة، وأما دم الحيوان المتحرك فلا يجوز، إلا دم الأوداج في الذبح؛ وذلك أن العالم الأصغر كامل الطباع في تركيب الجوهر، تام الروحانية في الأعضاء السبعة في الأجزاء الاثني عشر. وأما سائر الحيوان المتحرك فناقصة التركيب في الجوهر، فلا يجوز إلا دم الأوداج في مجاري النفس وعلاقة الحياة وروحانياتها. قال: وإذا أخذت الدم من العالم الأصغر فإن أردت استعمالها رطبا فاجعلها في قارورة وعلقها في شمس حارة أو بيت توقد فيه النار في حائط بوتد، واشدد رأس القارورة بقطنة، ثم دعها يوما حتى يسكن جوهره ويرتفع ماؤه، ولينبت طبيعته فوقه بوهج الشمس أو مادة الحرارة في البيت الذي توقد فيه، فإذا تم ذلك يوما أو ليلة لتمام اثنتي عشرة ساعة فارفعه، وصب الماء المرتفع على رأسه، وخذ ما سكن منه. فإذا أردت استعماله رطبا استعملته، وإن أردت تجفيفه صبه على جام[23] وضعه في الشمس ومكنه بغطاء من غبار الهواء، واجعله بالليل في مكان لين سخن، ودبره أبدا كذلك حتى يبرد وينعقد، وجففه وارفعه عند ذلك في قارورة لطيفة حتى يحتاج إليه.
فأما دم الحيوانات المتحركة فإنك لا تحتاج إلى تدبيره كذلك؛ وذلك أن طبيعة الحيوان المتحركة ليست بتامة ولا كاملة، ولا يحتاج إلى تدبيره في الشمس وتصفية مائه المرتفع من فساد جوهر الطبيعة، فإن أردت استعماله رطبا فخذه في قدح وضعه ساعة حتى يسكن وجففه واستعمله، وإن أحببت استعماله يابسا فجففه في الشمس على الصفة الأولى، ثم ارفعه في قوارير واستعمله، وليكن ما تأخذ من الدم - دم الأوداج - من أول قطرة تسيل منه إلى أن تأخذ حاجتك منه، وخذ ذلك في قارورة وطشت، ولا يصيبن الأرض شيء منه.
* **الدماغ: **قال: وخذ الدماغ من العالم الأصغر والحيوان المتحرك وارم بسنطته، وهي الجلدة الرقيقة التي هي محيطة بالدماغ، وارم مضربه والعروق المتعلقة به، وارم بعضيضته، وهي الدودة المتخيلة فيه؛ فأذى نفسه من ذلك كله ، وإن أردت استعماله رطبا فاستعمله، وإن أردت تجفيفه فابسطه في جام، وضعه في الظل في مكان بارد مغطى حتى يجف، وارفعه في قارورة نظيفة حتى يحتاج إليه.
قال في كتابه: إذا أردت أن تطعم شيئا من هذه الأخلاط أحدا في طعام فاعمل من الطعام ما يأكله الإنسان الواحد، واخلط ذلك به وامزجه فيه، وليكن ذلك الطعام حلواء تعمل أو لحما تشويه بيدك أو أقراصا محشوة، ثم اطل ذلك الخلط عليه حتى تذيبه بالنار سخنا ذائبا قبل أن يبرد إن كان لحما أو أقراصا؛ فإن كانت حلوا فاخلط بها قبل فراغك من صنعتها إذا قاربت الإدراك قبل أن ترفعها عن النار، ولا يأكلن أحد منه سوى من عملت له هذا في نيرنج المحبة والعداوة والسموم وعقد الشهوة والإطلاق وحل السموم وسائر العلاجات الموصوفة، دبر كذلك كله.
وقال في كتابه: إن عامل النيرنج وصانعه ينبغي له أن يجمع وهمه ويصحح عزمه ونيته فيما يعمله تصحيحا لا يشوبه شيء؛ وذلك أن هذه الروحانية تنفذ وتقوى بصحة نيته وهمته، وإذا دخل في بابها شك أو ريب ضعفت الروحانيات فلم تعمل ولم تنفذ. وإذا أردت أن تخلط نيرنج المحبة والعطف والمودة فقل - وأنت تعالج ذلك بصحة من عزمك ووهمك: هذا تأليف المحبة في طبيعة فلان ابن فلان، بالمودة والعطف والمحبة، وقد حركت روحانيته الساكنة في قلب المحبة في طبيعة روحانية هذه الأخلاط وقوتها على فلان ابن فلانة، وهيجته بالمحبة والمودة تهيجا قويا مثبتا شديدا كحركة النار وقوتها، وتهيج الريح وهبوبها، ولا تزال تقول ذلك حتى تفرغ منه. فإذا فرغت منه فأخفه عن العيون الناظرة وشروق الشمس وشعاعها ومس أيدي البشر وشمهم، فإن أمكنك أن تطعمه من يدك فافعل؛ فإنه أنفذ وأقوى، وإن لم يمكنك فادفعه إلى كتوم أمين، وتقدم إليه ألا يشمه ولا ينظر إليه ولا يضعه في الشمس حتى يطعمه إياه، وإن أردت أن تعمل لنفسك فسم نفسك فيما تريد أن تطعم أو تدخر، وإن أردت أن تتمسح بخلط من الأخلاط لتحظى عند الناس جميعا أو تدخره بدخنه فتقول - حين ترفعه على كفك، أو حين تطرح الدخنة في النار: جذبت الروحانية المعقودة في أعين البشر المتصلة بقلوبهم إلى نفسي، بالهيبة لي بقوة هذه الروحانية التي يمسك بها كجذب شعاع الشمس نور العالم الأكبر وقواه، وجعلت نفسي وروحانيتي مرتفعة على أنفسهم وروحانيتهم بالهيبة والإعظام، كارتفاع نور الشمس على نور العالم وقواه. وإذا أردت أن تعمله للعداوة والتفريق فقل: قطعت بين فلان ابن فلانة وفلانة بنت فلانة بقوة الأرواح الروحانية، وفرقت بينهما كافتراق النور والظلمة، وألقيت بينهما العداوة والبغضاء كعداوة الماء والنار. وإذا أردت أن تحل العقد فقل: حللت وأطلقت القطيعة البائنة القائمة الروحانية بين فلان ابن فلانة وفلانة بنت فلانة بقوة هذه الأرواح الروحانية وقمعتها قمع النور للظلمة والحياة للموت.
وإذا أردت أن تعقد الشهوة وحركاتها فقل: عقدت روحانية شهوة فلان ابن فلانة عن فلان ابن فلانة بقوة هذه الأرواح الروحانية كعقد الجبال المعقودة وصخورها.
وإذا أردت أن تحل هذا العقد فقل: أطلقت عن فلان ابن فلانة عقد روحانية شهوة فلان ابن فلانة المعقودة بقوة هذه الأرواح الروحانية، كإطلاق الشمس النيرة ظلمة العالم وأرواحها وأذيبها كذوبان الموم[24] بالنار والثلج من الشمس.
وإذا أردت أن تعمل شيئا من هذه النيرنجات في صلاح الأرواح فقل: نفيت وقمعت الروحانية الكامنة في جسم فلان ابن فلانة بقوة هذه الأرواح الروحانية، كقمع الشمس الظلمة والماء النار.
وإذا أردت أن تعمل شيئا للهوام والسباع دخنة أو غيرها فقل: دفعت فطردت روحانية الهوام والذباب والسباع القاتلة بقوة هذه الأرواح الروحانية، كدفع النور للظلمة وطرد السنانير للفار.
وكلما أردت أن تعالج شيئا من هذه النيرنجات فصحح وهمك فيه، واستعمل في ذلك التحفظ والتحرز وحسن العمل والتثبت والرفق، ولا تعملن شيئا بخرق ولا عجلة؛ فإن الخرق والعجلة ضد الرفق والتثبت، فتكلم في ذلك كله بكلام في معنى ما يعمل به؛ فإن الكلام في النيرنج يقوي الروحانية الكامنة وينفذها.
وذكر في كتابه أن النيرنج أربعة أجزاء: جزء منه الأخلاط الصحيحة التي تؤخذ على الموازين المقدرة، وجزء منه صحة الهمة والعزم والنية، وجزء منه الكلام المقوي لروحانيته، وجزء منه حرزه وحفظه من العيون والأيدي اللامسة وإشراق الشمس وضوئها.
قال: وإذا أردت شيئا تقطع ألسنة الناس عنك أو غيرك فقل: سترت على فلان ابن فلانة، أو على نفسي، بستر النور المضيء، وقطعت ألسنة الناس جميعا عنه، أو عني، وأسبلت على أعينهم سترا روحانيا دافعا لمناظرهم الخبيثة، قاطعا لألسنتهم المؤذية، قامعا لهمتهم المؤذية.
وإذا أردت أن تهتك ستر إنسان أو تفضحه فقل: هتكت ستر فلان ابن فلانة بقوة هذا الروحاني، كهتك شعاع الشمس غلظ الضباب، وفضحته وجعلته غرضا لروحانية الألسنة بالروح المذموم، كغرض السهام الذي يتعاوره الرماة.
وذكر في كتابه: أنه سأله فقال له: هل أن هذه الوحوش والسباع والطير والهوام كيف تشاء يصاد ذلك؟ والطير هل إليه وصول بحيلة ليست كحيلة العوام وصيدهم؟
قال: نعم. وجدت في الكتاب المخزون من أسرار العلوم الخفية.
فقال له: أنت أيضا مجاذب بروحانيتك العامة المستعملة جميع أسرار العلوم الخفية ولطائفها، كجذب شعاع الشمس نور العالم وقواه، ولست تعقل عن شيء من العلوم الخفية والأسرار اللطيفة إلا جذبتها بروحانيتك. قال: وأنا مبينك عما سألت، ومبين لك الحق، ومفسر ذلك في الأسرار في أخذ هذه الوحوش والسباع والطيور بحيلة الحكمة، فاستر أمرك وسل عما بدا لك أجبك، وأطل الفكر والنظر في الأمور الغامضة المغلقة عليك، فإن بيدي مفاتيح الأعمال، وأسرار الأسرار، وعلل الأسرار، ولست أكتمك منها شيئا. فإذا أردت أن تأخذ هذه السباع والوحوش والطيور، وتذل لك روحانياتها، وتشتاق إلى طبائعها، من غير أن يصيبك أذى أو يتناولك مكروه، أو يستصعب عليك أخذها، فاعمل أربعة أخلاط تأخذ بها جميع الحيوان المستوحشة في قسمة النجوم السبعية: الخلط الأول يسمى «بادميا»، تعمله لجميع السباع كلها. والثاني يقال له «سمومديا»، تعمله لجميع الوحوش كلها. والثالث يقال له «عموديا» لجميع الطيور الوحشية. والرابع يقال له «رعوديا» لجميع الهوام الدبابة كلها.
صفة بادميا للسباع كلها: تأخذ من دم الفرس أربع أواق، ومن شحم الضبعة أوقية، ومن دماغ الضبعة أربع مثاقيل، ومن مرارة الطير مثقالين، ومن مرارة السنور الأسود مثقالا، ومن شحم الخنازير ثلاثة مثاقيل، ومن دماغ الحمار أربعة مثاقيل، ومن مرارة الغراب ومرارة النسر ومرارة العقاب ومرارة الديك من كل واحد مثقالا، ومن دم الثعلب أوقية، ومن شحم الأرنب ودماغه من كل واحد أربعة مثاقيل، ثم تجمع الدهنين في طنجير وترفعه على النار حتى يسخن. فإذا سخن طرحت عليه الدماغ حتى يذوب، ثم طرحت عليه الشحم حتى يذوب، ثم اطرح عليه المرارات كلها رطبة حتى تختلط به. فإذا اختلطوا جميعا أخذت من البروج المسحوق أربعة مثاقيل، ومن سد قوس المرضوض عشرة مثاقيل وهو البلار، ومن سلخ الحية المدقوق مثقالين، ومن الكبريت الأصفر والزرنيخ الأحمر من كل واحد خمسة مثاقيل. فإذا اختلط ذلك في النار جميعا فارفعه عندك ودعه حتى يبرد.
فإذا برد فاجعله في زجاجة محرزة وارفعها. فإذا أردت أخذ سبع من السباع كالكراسي والفيلة والرئبال والأسد والعربيان والرمان والعرمان وما دون ذلك من السباع القاتلة المقسومة في قسمة النجوم السبعية فخذ رطلا من شحم كلب أي الألوان كان فاطله من هذا الخلط الذي عملت وهو البادميالون أربعة مثاقيل، فتجعله في مسقط وترفعه على النار حتى يذوب، ثم اطله عليه ثم تأخذ من البادميا مثقالا ومجمرة فيها جمر وتمضي إلى مكان هذه السباع فتدخن بالمثقال والشحم في يدك فتقول: أخذت روحانية كذا أيتها السباع أردت باسمه بقوة هذه الأرواح الروحانية، وسقت بها إلى نفسي سوق الريح السحاب، أدعوك أيتها الروحانية الكامنة في جسم كذا وكذا تسميه بعينه بقوة هذه الأرواح الروحانية فأجيبيني طائعة ووافي ذليلة.
فإنك إذا دخلت بذلك وتكلمت بهذا الكلام لم يلبث ذلك السبع الذي تريد؛ فإنه لا يملك نفسه حتى يتكالب عليه فيأكله. فإذا أكله ذل وخضع وصار مثل الرجل السكران وانقمعت روحانيته.
فإن أحببت شده بحبل فافعل وسقه صحيحا حيث شئت.
فإن أحببت فاذبحه في المكان وخذ من أعضائه الذي تريد.
(70) صفة السموديا[25] للوحوش
تأخذ من دم الكلب الأسود خمس أواق، ومن دماغ الخنزير أربعة مثاقيل، ومن شحم الأرنب أوقية، ومن مرارة الأيل وشحمه من كل واحد مثقالين، ومن دماغ الغداف أربعة مثاقيل، يجعل الدم في طنجير ثم يطرح عليه الشحم حتى يذوب، ثم الدماغ ثم المرارة، فإذا ذاب واختلط فخذ من قرن الأيل المسحوق وزن عشرة مثاقيل، ومن حافر حمار الوحش المسحوق مثقالا، ومن حب السروج خمسة مثاقيل، ومن الكرفس الجبلي - وهو الفطر أساليون والسيساليون - من كل واحد أربعة مثاقيل، يسحق ويطرح فيه ويخلط ثم يرفع في إناء زجاج.
فإذا أردت أخذ وحش من الوحوش فخذ قدر أوقية من دم الإنسان، اجعله في طنجير وسخنه على نار لينة، ثم اطرح عليه من هذه الخلط أربعة مثاقيل حتى يذوب، فإذا ذاب فخذ حزمة كرفس جبلي رطب، فانقعه في ذلك الدم العذاف فيه السويداء، ثم ارفعه على شيء نظيف حتى يشرب ذلك، ثم خذه وخذ مثقالا من السموديا ومجمرة فيها نار، واذهب إلى مكان تلك الوحوش فاطرح الدخنة على النار، ثم تكلم بالكلام الأول الذي وصفت لك في باب السباع والوحش الذي تريده بعينه ؛ فإنه لا يلبث أن يأتي إليك فألق إليه الكرفس الذي معك حتى يعتلفه، فإذا اعتلفه تعبدت روحانيته وذلت لك طائعة خاضعة، فاذبحها إن شئت أو سقها بالحبل كيف شئت.
(71) صفة العموديا لطيور الطيارة
تأخذ من دم عقاب أوقية، ومن دماغ نسر ومن دماغ صقر ومن دماغ شاهين من كل واحد مثقالا، ومن شحم الكركي وشحم البط من كل واحد خمسة مثاقيل، ومن مرارة البومة والهامة ومرارة الغداف من كل واحد مثقالا. يسخن الدم في طنجير ويطرح عليه الشحم، ثم الدماغ، ثم المرارة، حتى يختلط ذلك كله فيه، فإذا اختلط فخذ من حب النيروج المسحوق وحب الصنوبر المسحوق من كل واحد خمسة مثاقيل.
ومن السمسم والحنطة وحب الفرصاد من كل واحد مثقالا، تسحق ذلك جميعا وتطرحه على ذلك الدواء، واخلطه، فإذا خلطته به معا فادفعه في زجاجة نظيفة.
فإذا أردت أخذ طير فخذ كليحة سمسم، ومن العموديا أربعة مثاقيل، فأذبه في ماء الهندباء قدر رطل، واطرح السمسم فيه حتى يختلط ثم ارفعه حتى يجف، فإذا جف فخذه، وخذ من العموديا مثقالا، ومجمرة نار، واذهب إلى مكان الطير الذي تريد فبخر به، وتكلم بالكلام الأول، وتسمي الطير فإنه يأتيك، فإذا أتى فاطرح له السمسم، حتى إذا اعتلفه ذلت لك روحانيته، وإن كان من الطيور أولي النهش فخذ عصفورا واذبحه وانتف الريشة، وخذ مثقالا من العموديا فأذبه في مسقة، واطل به ذلك العصفور، واحمله معك واطرحه إليه، فإذا أكله ذلت لك روحانيته وخضع، فاصنع به ما بدا لك.
(72) صفة العموديا للهوام
تأخذ من دم الأيل أواقي، ومن دماغه وشحمه من كل واحد مثقالا، ومن دماغ الأرنب مثقالين، ومن أنفحة الظباء وأنفحة الأعير الأهلية من كل واحد نصف مثقال، ومن قرن الأيل المسحوق وقرن العيريان مثقالا، ومن شحم الأفعى مثقالا. يجعل ذلك الدم في طنجير ويسخن ويطرح عليه الشحم والأدمغة والأنفحة والقرون حتى يختلط ذلك عليه جميعا، فإذا اختلط فارفعه في زجاجة نظيفة، فإذا أردت أخذ شيء من الهوام الدبابة فخذ شيئا من لبن امرأة في مشربة نحاس، وأذب فيه مثقالين من هذا الخلط، ثم خذ مثقالا منه ومجمرة، فاذهب إلى مكان تلك الهوام من الأفاعي والقنفذ والورم وغير ذلك فدخن بذلك المثقال وتكلم بذلك الكلام الأول، وسم ذلك الضرب باسمه؛ فإنه لا يلبث أن يخرج إليك، فتضع المشربة بين يديه حتى يشربه، فإذا شربه ذلت لك روحانيته، فإن لم يكن من الهوام التي تشرب اللبن مثل العقارب والعظايات فخذها حتى تخرج إليك؛ فإن روحانيتها مقموعة لا تمتنع عليك.
فإن عارض معارض وقال: لا خلاف بين العلماء بخواص الأشياء أن الحيات تنفر من قرن الأيل أبعد نفار، وأحدنا إذا أحس في داره بحية دخن بقرن الأيل حتى تهرب الحية إلى دور كثيرة، فكيف جعلته أنت في الأدوية التي تصاد بها الهوام؟! فقال: ألست تعلم أننا ننفر من رائحة البصل والثوم أبعد نفار، وإذا وقع مع التوابل في القدور استطبناه، وكذلك الخردل والفلفل، نكرهه على الانفراد، ونلتذ به إذا وقع في الطبخ.
قال: فسألت الحكيم، فقلت له: أنت ذكرت أن في بعض هذه السباع وأدوائها وأعضائها سموما مؤذية تقتل بالرائحة؟ قال: بلى. قلت: كيف يحترس الرجل من ذلك وقت أخذ هذه السباع؟ قال: حرزه في الأخلاط التي وصفت لك. قلت: كيف يصنع؟ قال: يأخذ من الخلط الذي يستعمل في أي الأنواع أراد، فيبدأ قبل كل شيء فيذيب شيئا منه قدر نصف مثقال بقدر نصف أوقية دهن السمسم، ويمسح به يديه ومنخريه وفمه ووجهه ساعة وقدميه مسحا رقيقا، ثم يعمل ما وصفت لك؛ فإن ذلك يكون حزرا له من كل شيء يتخوفه من عادية السموم.
قال التلميذ: قلت للحكيم: وجدت في ذلك الكتاب مع قوة روحانية هذا الكلام الذي يتكلم به على الدخنة للبهيمة التي لا تعقل، وما معنى الكلام بحيوان لا عقل له ولا فهم؟ وإن الحكيم الأول قطع الكلام على نيرنجات العالم الأصغر لتركب عقله وفهمه، فما باله وضع ذلك الحيوان الذي لا عقل له؟ فأجابه الحكيم: هذا الكلام لم يوضع لشيء مما ذكرت ، ولم يقسم على العقل والفهم، وقد وجدت في الكتاب المخزون أن جواهر الكواكب التي وصفت لك مأخوذة من الروحانية الأولى المؤلفة في تركيبك الذي هو الإنسان؛ لأنه لا يتم إلا بتحريك منك، فاجعل ذلك الكلام لك لا للغير، هذا من أسرار العلماء، فاحفظه ولا تخرجه إلى الغير، فإنه يكون فسادا عظيما وتحت ما أخبرت لك كنز عظيم، وإن وفقت لفهمه، وإنما هو لك لا للحيوان ولا للعالم الأصغر؛ لأنه لا يتم إلا بتحريك منك، فاجعل ذلك الكلام لك لا للغير، وهذا من أسرار العلماء.
واعلم أيضا أن جواهر الكلام وروحانيته أمران جمعا جميعا فانقادت لهما الروحانية المستجنة في الأجسام من العالم الأصغر، وتلك الروحانية في ذاته سامعة عاقلة. ومما يدلك على أن هذا الكلام لم يوضع في معنى ما قلت أن النيرنجات التي تعلمها للعالم الأصغر إنما يتكلم عليها من حيث لا يسمع الإنسان ولا يبصره، ومن لم يسمع شيئا ولم يبصره ولم يفهمه فإنما تصل إلى روحانيته الكامنة في جسمه أرواح تلك الأخلاط والكلام من حيث لا يعقله ولا يفهمه ولا يراه، ثم يتحرك ذلك في باطنه بالمعنى الذي عمل له من الحب والبغض والعقد والحل ونحو ذلك، وكذلك الحيوان المتحرك أيضا إنما تصل تلك الأرواح إلى روحانيتها المستجنة فيها من حيث لا تفهم ولا تعقل ولا ترى، هذا إن صدقت روحانيتك ولم ترتب فيما تفعله فتسوقها إلى ذلك المكان دعت إليه طائعة لروحانيتها الخبيثة، وليس هذه النيرنجات المعمولة على الحيوان المتحركة بأعجب من النيرنجات المعمولة على العالم الأصغر، بل سائر العالم الأصغر في ذلك أعجب بما فيه من تركيب العقل والفهم وقوتهما، ولو أن العالم الأصغر أبطل هذه النيرنجات المعمولة وقطعها في فهمه لكان حريا بذلك لتمام تركيبه وكمال خلقه، كما أنه لو عملت نيرنج العالم الأصغر وأحس منك بذلك ولم يستشعر أنه عامل بطل فعلك، فاعرف هذا.
فقلت له: هل بقي في هذا الباب ما لم يأت عليه الشرح في هذا المعنى؟ فقال: وليس قدر ما ذكرنا إلا كقدر قطرة من بحر، وإن في علم روحانيات الكواكب ومعانيها ومعرفة أوقات العمل لها ولباسها ودخنها والكلام الذي يحتاج لكل واحد منها وما يظهر من أفعالها لمن وقف بمعرفة علمها عجبا عجيبا؛ فأقل ما في ذلك العلم أنه من التمكن أن يؤدي العالم الأصغر في منامه ما تدوم من جهته فينقاد إليه خاضعا، طالبا أن يرى إقبالك عليه وقبولك ما يبذله لك سعادة عظيمة، وغير ذلك مما شاهدت من عجب هذا العالم أني كنت بجزيرة أوال.[26]
وكان بها رجل من المتصلين بحبل الله، عالما بهذا العلم، فقصدته زائرا، فرأيت قوما من أهل البلد قد دخلوا عليه، وشكوا إليه غمهم بمحبوس لهم قد حبسه أمير البلد في جناية جناها، قالوا: قد اطرحنا أنفسنا على الوزير والحاجب وخواص الأمير فلم ينفعنا ذلك، وقد بذلنا له من الرشوة بحسب طاقتنا فلم يقبل، وقد ذكر لنا عنه أنه قال: لا بد لي من قتله. فأطرق ذلك الفاضل إطراقة ثم رفع رأسه وقال: الليلة في آخرها صاحبكم عندكم، فامضوا ولا تشعروا أحدا بما ألقيته إليكم، فخرج القوم من عنده.
فقلت له - على طريق الملاعبة: قد أوحي إليك أن الأمير الليلة يطلق هذا المحبوس! قال لي: سوف ترى! فقلت: ولا يجوز أن يطلقه غدا! فقال: إن تأخر إطلاقه الليل لم يصح إطلاقه إلى ستة أشهر وكسر، وإنما قد اتفق سعادة لهذا المحبوس أن جاءني هؤلاء القوم في هذا اليوم.
واشتغل بحديث آخر، وخرجت من عنده، فلما كان من الغد أتيته مسلما فوجدت القوم الذين جاءوه بالأمس قد سبقوني إلى عنده وهم شاكرون له بما بشرهم به من تخلية المحبوس، ويسألونه عن علمه بذلك؟ فقال لهم: الطالع الذي دخلتم به شهد أن محبوسكم في هذه الليلة يطلق. ولم يكشف لهم عن حقيقة الأمر.
ورأيت غلاما شابا مصفر اللون قد أنهكه الحبس والقيد، فأقبل الشيخ على الشاب فقال له: حدث هذا الرجل كيف خلاك الأمير البارحة! فالتفت إلي الشاب الذي كان محبوسا فقال: إني كنت محبوسا في المطمورة مطروحا ، وأنا مكبل بالحديد، وقد هددني السجان في آخر يوم أمس، وقال بأن الأمير قد أنفذ بأن يحمل إليه قوم قطعوا في البحر الطريق، وأنه ينظر أولئك، وأنه يصلبك في جملتهم. ذكر لي هذا عند اصفرار الشمس فبكيت طول ليلي ولم يحملني النوم أصلا.
فبينا أنا كذلك وقد عبر من الليل النصف الأول، إذ سمعت حركة شديدة وباب المطمورة يفتح، ففزعت وشلت رأسي إلى السماء مستعينا بالله تعالى، وإذا الجماعة من الخدم قد نزلوا وحملني أحدهم بحديدي، فأدخلت على الأمير، فإذا به قائم، فلما رآني قال: حطوه برفق. واستدعى من فك الحديد عني، وسألني أن أجعله في حل بما فعل بي، وأمر بأن أجعل في جملة خدمه، وأثبت لي رزقا جاريا مع خاصته، وأفرج عني. وهذا حالي.
وقاموا فخرجوا من عنده، فجددت السؤال للشيخ ورغبت إليه أن يعلمني السبب في تخليته إذا لم يقل لهم إنه سيخلى الليلة عن فائدة؟ فقال: لا يمكنني أن أخبرك في هذا اليوم، فإن صبرت ثمانية وعشرين يوما أعلمتك. فقلت له: إني من الصابرين.
فلما انقضت الأيام جددت السؤال فقال: هؤلاء القوم الذين جاءوا حدثوني بحديث المحبوس، قوم أخيار يلتزمني أمرهم، ورأيتهم مغمومين بهذا المحبوس فقلت لهم ما قلت، ولما كان في تلك الليلة على ساعتين من الليل تجردت وعملت نيرنج المريخ، وقصدت بالنيرنج الأمير والمحبوس، فأطلقه كما رأيت.
فقلت للشيخ: أحب أن تعلمني سبب إطلاقه له؟ فقال: سبب ذلك أن الأمير رأى فيما يرى النائم كأن قد دخل عليه رجل أشقر أزرق على رأسه شعر وهو مكشوف الرأس وبيده سيف مجرد يقول: إن لم تخل في هذه الساعة فلان ابن فلان المحبوس عندك وجاءت الليلة قطعت رأسك بهذا السيف! فكان هذا سبب التخلية له، فاستطرفت ذلك واستعظمته.
فقال لي: إياك أن يسمع منك هذا في هذه المدينة أحد ما دمت أنت بها، فضمنت له ذلك، وقلت: وللمريخ نيرنج يعمل؟ فقال: لزحل لباس سواد، وللمشتري بياض، وللمريخ حمرة، وللشمس أصفر، وللزهرة أخضر، ولعطارد ملون ، وللقمر سمكون ، ولهم مع ذلك دخن وبخورات وأشياء أخر يعرفها العلماء الواقفون على أسرار الخليقة؛ مثل أكاليل يحتاج في عمل بعضها، فإن لبسه يضعها العامل على رأسه ومخانق سلعة يتقلد بها، فإن كان العمل لزحل احتاج أن يكون الإكليل من شكوك والمخانق من عظام، وآلات أخر لكل واحد منها لو شرحتها لك لكثر تعجبك منهم، ولكل واحد آلة لا تصلح للآخر يعرفها العلماء الواقفون على أسرار الخليقة وروحانيات الكواكب. فقلت له: قد عارضني في هذا الموضع سؤال، ولست سائلا عنه لشك عرض بل لاستفهام حسب، فقال لي ذلك العالم الفاضل: هلم سؤالك! فقلت له: الأنبياء عليهم السلام، ما وقفوا على هذا العلم؟ فتبسم وقال لي: يا مسكين، ثقالة عكس علم الأنبياء، عليهم السلام. فقلت له: ما سمعنا أنهم تعسفوا في دعاء الخلق أو تعبوا التعب العظيم وطلبوا وهربوا من أيدي أعدائهم سرا، ومنهم من تأدى أمره مع أعدائه إلى أن قتل، فيا ليت شعري مع قدرتهم على هذا العلم الشريف لم لا يعلمون لأعدائهم من هذه النيرنجات ما كان يضطرونهم معها إلى إجابتهم؟
فقال لي: ما أحسن ما سألت! إلا أن الأنبياء عليهم السلام، أرسلهم الله تعالى لنجاة الخلق؛ ولأن يطبوا أنفسهم المريضة بالعلوم الإلهية التي تكون شفاءها وتستدعيهم إلى العلم الاختياري كما قال الله تعالى: @QUR04 لا إكراه في الدين، ولعل كثيرا من الناس لا يفرق بين الدين والشريعة.
فأما الدين فلا إكراه فيه، فإن أكره عليه لم ينفع الذي أكرهوا على قبوله؛ لأنه أمر إلهي، وأما شريعة الدين فهو الذي يقع الإكراه فيها؛ لأنها أمر وضعي سني دنيوي، به يكون ثبات الدين ودوامه؛ فلهذا أكره الناس عليه، وهو ظاهر الإسلام، وأما الدين الذي هو الإيمان فلم يكرههم عليه؛ ولذلك قال الله تعالى: @QUR06 أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين فلهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا قالوها حقنوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله. فقيل : يا رسول الله، من قال لا إله إلا الله دخل الجنة؟ فقال: نعم، من قال مخلصا دخل الجنة. قيل له: وما إخلاصها؟ قال: معرفة حدودها وأداء حقوقها. فقيل: يا رسول الله، ما معرفة حدودها وأداء حقوقها؟ فقال: نعم، أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد ما في المدينة فليأت الباب.» فأرشدهم إلى من يشرح لهم ذلك الذي يؤدي إلى الدين الاختياري إلى محبي الثواب؛ لأن الإكراه عن الإسلام صورة معروفة في الشريعة، قال الله تعالى: @QUR09 قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا فلم يستعمل الأنبياء عليهم السلام هذا العلم لأحوال: أحدها أنه ضرب من الحيلة والمكر فلم يبعثوا بذلك، وثانيها أنهم لو فعلوا ذلك لكان إجابة الناس إلى الخديعة لا إلى العلم الذي به نجاة أنفسهم، وكان يفوتهم الغرض الذي جاءوا فيه الذي هو نجاة الأنفس؛ لأن الأنفس ما كانت تصفو بما يكون فيه خديعة ومكر إذا كانت تتخلص من عالم الكون والفساد؛ ولأن هذا العلم فوائده مختصة بالعلم الأرضي، والأنبياء عليهم السلام فهم دعاة إلى العالم العلوي الذي هو أعلى من عالم الأفلاك؛ فلذلك لم يستعملوه أيضا.
وأيضا فلم يجز لهم إلى أن يضيفوا إلى تأييد الله ووحيه بوساطة الملائكة المقربين حيلة بشرية ولا نيرنجية فلكية، ويجوز لأمثالنا نحن استعمالها في مصالح دنيانا، ولا يجوز لهم؛ لأنهم في شرفهم وعلو منازلهم مستغنون عما نحن مفتقرون إليه، ولشدة تحرزهم وتنزيههم أنفسهم عن أفعال البشر قد شهدوا أحوالهم الدنيوية مضيقة عليهم مع معرفتهم وعلمهم بصناعة الكيمياء، وهذه الخصلة يقال: حلالها حساب وحرامها عذاب، كذلك جماعة أصحاب الشرائع جرى أمرهم فلزموا التزهد والتقشف والجشب من العيش، وألزموا أنفسهم ذلك وحرموا عليها الطيبات، كذلك ليفعل الناس كفعلهم ويقتدوا بهم.
قال الله تعالى: @QUR012 كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه فلهذا لم يفعلوا؛ لأن هذه المحرمات كلها إنما تجري مجرى الحمية التي أمرنا الطبيب الحاذق المشفق باستعمالها لصحة أجسامنا؛ لتبقى في الدنيا المدة المقدرة لها ؛ والأنبياء، عليهم السلام، هم أطباء النفوس المريضة بجهلها، التي لا تصلح للعالم العلوي إلا بعد تصفيتها من أدناس الطبيعة، فحموها من هذه الأشياء التي حرموها؛ ليكون شفاؤها من جهلها وصحة لها لصورتها الباقية شفقة علينا ورحمة بنا، فاقتدى بهم في سنتهم في ذلك خلفاؤهم وذريتهم التي هي الحبل الممدود مع الكتاب الذي لا انفراد لهم عنه إلى الحوض، كما أخبر النبي، فلم يفعلوا أيضا مع علمهم ومعرفتهم اقتداء بالرسل واتباعا لهم، فهذا جواب مختصر.
فقال له السائل: لم لا أفصحت بهذا العلم الشريف لينتفع به الخلق؟
فقال: لو فعلنا ذلك لعظم ضرره وبطل أيضا؛ فإنا إنما نفصح بعمل روحانيات العالم الأصغر في رسالتنا هذه، بل أشرنا إليه إشارة فحسب لا غير؛ حذرا أن تقع الرسالة في يد غير مستحق فيهلك الحرث والنسل ويفسد النساء ويهتك الحرم؛ فلذلك ألغزناه وأعجمناه.
وأنت أيها الأخ، إذا صفا جوهرك وأمنت خبيئتك انفتح عليك من هذا العلم ما يسرك؛ فلا تبعه إلا كما اشتريت، وابخل به على الولد والوالد، إلا أن يأخذا له كما أخذت أنت، ويصفو جوهرهما كما صفا جوهرك أنت، فيبلغا ما بلغت من غير أن تعطيهما أنت شيئا.
واعلم يا أخي، أن الحكماء إنما وضعوا الحكم لإحكام أعمالهم وإتقانهم لها، وأنهم لم يضعوا شيئا من أعمالهم في غير موضعه، ولا فعلوا فعلا لا معنى له، ولا أحدثوا من ذواتهم شيئا يكون الضرر فيه أعم من النفع، ولو فعلوا ذلك لم يكونوا حكماء؛ فكيف أحكم الحاكمين وأحسن الخالقين، خالقهم وموجدهم ومؤيدهم أن يفعل ما يؤدي إلى الضرر والفساد، ولغير معنى، وما قصد فسادا، وما خلقه لإضرارنا، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا؟ وهو يقول عز من قائل: @QUR012 وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين * ما خلقناهما إلا بالحق.
وإذا تأملت هذه الحكمة وتدبرت هذه الصنعة وعرفت هذا السر ورأيت حقيقة هذا السحر الذي يسحر العقول، بانت لك الأشياء بحقائقها، وتعلمت كيف تسحر الناس وكيف تصير القلوب إليك وتبين لك ما خفي عنها لما عميت الأنباء عن الضالين الغافلين.
فانتبه يا أخي من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، وأيقظ من قدرت عليه من الغافلين؛ ليحصل لك النفع العاجل والخير المتواصل في الدنيا والدين، بلغك الله منازل الأخيار المصطفين، ورقاك إلى منازل الملائكة المقربين، وفقك الله وإيانا وجمع إخواننا المؤمنين برحمته إنه أرحم الراحمين.
ناپیژندل شوی مخ